نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



‎ added 4 new photos.
( مقالتنا مفهوم "الصعلكة" و صيرورته بين مقاربات المناهج الحديثة )
سنتحدث عن مفهوم الصعلكة، انطلاقا من أربع دراسات توسلت بثلاث مناهج متباينة هي :
ـ المنهج التاريخاني/ الشعراء الصعاليك في الشعر الجاهلي، ليوسف خليف.
ـ المنهج التاريخاني/المنهج الاجتماعي النفسي: الشعراء الصعاليك في العصر الأموي، لحسين عطوان .
ـ المنهج البنيوي : الرؤى المقنعة ، كمال أبو ديب .
ـ استراتيجية التفكيك،نظرية التلقي،فلسفة الأديان،التأويلية : فتنة المتخيل ، محمد لطفي اليوسفي، بالإضافة إلى الاستئناس بكتب من قبيل الفتوة والصعلكة.
احتفت الدراسات الحديثة و المعاصرة بشعر الصعاليك لما يحمله هذا الشعر من رؤية مضادة للنسق الفني و الجمالي و الوجودي للقصيدة القديمة ؛ أي للثقافة المركزية ، فكانت أولى هذه الدراسات دراسة"أحمد أمين" الموسومة بـ"الفتوة و الصعلكة" مرورا بالدراسة الرائدة لـ"يوسف خليف" المعنونة"الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي" و دراسة تلميذه"حسين عطوان" الشعراء الصعاليك في العصر الأموي" وصولا إلى "كمال أبو ديب" في كتابه الممتع"الرؤى المقنعة" و نهاية بدراسة التونسي اللامع"محمد لطفي اليوسفي"المسماة"فتنة المتخيل/الكتابة و نداء الأقاصي" ؛ فما التصور الذي اِنطلقت منه كل دراسة ؟ وهل يمكننا الحديث عن النص أم عن المنهج أم عن التاريخ في اِستنطاق تلك النصوص المهمشة ؟
شعر الصعاليك أو "الفتاك و اللصوص و الشطار" شعرٌ غنيٌّ أيما غنى بالمادة التاريخية و الاِجتماعية و السياسية و الاقتصادية و الفكرانية[1] و الفنية/الأسلوبية و الجمالية و النقدية للعصور التي قيل فيها، و اِنعكاس أمين و واضح لهول الشرخ بين الشاعر و القبيلة/النظام،بين الهامش و المركز،الواقع المرير و القيم المتطلع إليها،فلا غرو أن نرى نغمة الشجن واضحة :
أقيمــوا بني أمي صدور مطيكم [..] فإني إلى قــوم سواكم لأميــَلُ
ولــي دونكم أهـلون سيد عملس [..] و أرقط زهلول و عرفاء جيْأل
هم الأهل لا مستودعَ السر ذائع [..] لديهم ولا الجاني بمَا جرّ يُخذَل[2]
أبيات "الشنفرى" طافحة بالمرارة، وإذا طوينا الزمن تناصًّا نجد نفس المرارة عند الأحيمر السعدي [أموي] :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب ....
أبيات تمعن في الهرب من الإنسان/المركز، إلى هامش متخلى عنه،ليكون الإمعان في الهرب نبذا لفكرة الجماعة و التقيد بمقرراتها عبر الاِنفراد بالذات و الحيوان الذي يحمل الذات في أسطرتها لعالم الحيوان.
حاول الناقد التونسي "محمد لطفي اليوسفي" ملامسة مفهوم "الهامش و المركز" متأثرا بـ"استراتيجية التفكيك"[3] في دارسته الممتعة "فتنة المتخيل الجزء الأول الكتابة و نداء الأقاصي" حيث ركز في الفصل الذي وسمه بـ"المدينة و مطاردة جند إبليس"/63 صفحة ، على الأخبار و الأشعار و الحكايات ليقف عبر"الهيرمينوطيقا" على ما لم تقله النصوص إيمانا منه أن النص حمال أوجه[4].
بدا اليوسفي دراسته معللا "سقطة الشعر" و تماهى مع نصوص عند"عبد العزيز الجرجاني" و "ابن خلدون"و"حازم القرطاجني" تشكو من سقوط الشعر و ضعة أهله ، ليلج بعد ذلك "شعر اللصوص" أو ما كان يسمى قديما بـ"شعر الصعاليك"، ولم يكتف "اليوسفي" بأشعار اللصوص بل تعدى ذلك إلى الإتيان بأخبارهم و حكاياتهم من مجموعة من المظان الأساسية في الثقافية العربية و على رأسها كتاب"الاغاني"،لدرجة أنه ياتي بالحدث الواحد ويفرد له حكايات كثيرة من مختلف المسارد القديمة لترسم له نفس الطريق،وهو أن خبر الصعلوك الذي حفلت به كتب"الأغاني" أو "معجم الأدباء" و "تاريخ الطبري" لم يكن بمجرد الإخبار ؛ بل كانت له خلفية ماكرة تعصف بالمتلقي عصفا و تأسره إم لم يتفطن لما تحويه من مكائد و كمائن،ولا أدل على ذلك من قصة "الحجاج الثقفي" و الشاعر "جحدر العكلي" المعروفة،فاليوسفي يرى أن السارد/الأخباري تعمد إحاطة "الحجاج" و أعوانه بصفات الخسة و اِنعدام المروءة .
يرى "اليوسفي" يرى أن السارد/الأخباري تعمد إحاطة "الحجاج" و أعوانه بصفات الخسة و اِنعدام المروءة، في نفس الآن أحاط الصعلوك السجين بهالة نورانية خفية من الشجاعة و الجرأة و البأس، و النتيجة أن اِنتصرت قيم الزمن المنقطع و انهارت ـ مؤقتا ـ عوالم السلطة و النظام و ما تحمله من ظلم و جبروت و غدر، فاليوسفي يرى أن النص جيء به للتشفي من عصر أمعنَ في الخروج عن مقررات الدين الحنيف و العقل و أيام الراشدين.
من هذا المثال ، يمكن أن نعرف شيئا عن مفهومية الباحث التونسي إزاء شعر الصعاليك ، فهو اِنطلق من فكرة مُفادها أن الأخبار و المسرود العجائبي في المتون القديمة رسم طريق الرجوع عهد قيم الفروسية حيث كان الشعر ذا منزلة لا تضاهى،فعندي أن هذا الفصل و الفصل الذي يليه و عنوانه"دروب الاِنشقاق" لم يأت بهما اليوسفي إلا ليوضح أن الشعر استرجع هيبته بعد "دروب الهوان"،فالفكرة الأهم عند البـــاحث التونسي ـ و إن لم يصرح بها،بل أشار إليها في بداية الفصل وهو يتحدث عن اِختيارات الشاعر في عصر بني أميةـ،هي أن الشعرَ في كنف النظام أعلى من الجور و كبا بالشعر إلى الحضيض،تلميحا منه إلى الثالوث الأموي و كل المنتظمين في سلك السلطة و مريديها،لكن الشعراء اللصوص كانوا واعين بما يحمله تمردهم من إعلاء لكلمة الشعر،تباعا للقيم التربوية و العدالة الاِجتماعية و التحقق الحقيقي للقيم الإسلامية،فأورد صاحب"الفتنة" أخبار المتمرد "عبد الله بن الحر" المتمرد الثائر سياسيا و الذي قال عبارته الشهيرة"كل ملك أموي قوي الدنيا ضعيف الآخرة"،وكذلك يفعل بـ"القتال الكلابي" المخلوع اِجتماعيا طريد السلطة و إلى قريب من ذلك "مالك بن الريب" ، فقيمة شعر لصوص العصر الاموي ليست في شعرهم و مايقولونه من ملفوظ فقط ؛ بل في أفعالهم و تعاليمهم التي مجدتهم و اعلت من قيمة قريضهم ، هاهنا لا يخفي الباحث التونسي اِنتصاره لهم ،و أفرد صفحات للدفاع عنهم عبر تفكيك مصطلحات عيابة لصقت بهم كـ"الشعراء اللصوص" و "قطاع الطرق"،فيرى تسمية الصعلوك بالصعلوك قبل الإسلام كانت ذا حمولة إيجابية لكن الأمويين مكروا عبر مكائد التسمية ، فاستبدلوا مصطلح الصعلوك باللص لدرجة أن السكري ألف كتابا سماه"كتاب اللصوص"،كل هذا لكي لا يذيع شعرهم كما ذاع شعر السليك و الشنفرى و عروة..، اليوسفي هنا يعلن أن اِستبدال الوصف هو اِستبدال للحق بالباطل و إشهار و مسخ و تحويل لمبادئ الصعلكة كما تتبدى لنا اليوم مع "روبن هود" و "أرسين لوبين" ليكرهها العامة و الخاصة،لكن العكس هو الذي حصلفالمتون القديمة لم تحفل إلا بما ينافي تنبؤ الأمويين،وحكاية القتال الكلابي مع أمة عمه رغم فظاعتها و قسوتها إلا أنها مجدت الفروسية و الغيرة في شخص هذا الفاتك .
و عندي أن اليوسفي بإيراده هذا الفصل وجميع فصول الجزء الأول من رائعته"فتنة المتخيل" لم يهتم بالشعر من حيث هو قيمة جمالية إبلاغية،بل اِهتم بالثقافة العربية في تمظهرها شعرا تربويا قيميا،فبإعادة إنتاجه للأخبار و الأشعار ومساءلتهما كان ذلك طرقا للمسكوت عنه في الثقافة العربية الإسلامية،ولا أدل على ذلك توسله بفلسفة الأديان بوصفها ضرورة معرفية لفهم كيف أن الشعراء الصعاليك طردوا من مدينة العقل و الدين.
وحينما ناقش مفهوم"خلع اليمين" أورد رمزية اليمين في الدين الإسلامي،وكيف أن الدين الرسمي و السلطة تعاونا للإطاحة بالشعر،إن التاريخ يكتبه المنتصرون،و رغم ذلك وشتْ المتون القديمة بانتصار الهامش،ولم تقدر على التصريح لخوف المعرفة من السلطة المادية .
اليوسفي تعرض للهامش و المركز كما نفهمه مع التفكيكيين الفرنسيين،فهل فعل ذلك اِنتصارا للمهمشين أم أن هذه المفاهيم التفكيكية فرضت نفسها عليه فرضا من أجل قلب نظام الأشياء ؟
وحتى لا نسطح من فكر "اليوسفي"دعونا نقول إنه تمرد على ما لهجت به الدراسات التي عُنيت بتتبع آخر مستجدات الموضة النقدية و المنهجية الغربية لتسقطها تمحلا و تعسفا على شعر الصعاليك،ورغم أن الناقد التونسي يتوسل باِستراتيجية التفكيك لكنه يتماهى مع النصوص القديمة ، كل ذلك لخدمة التصور العام الذي ينطلق منه،خصوصا أنه اِستنجد ببعض الوسائط النقدية الرائجة بالإضافة الى التفكيك،مثل الأنثروبولوجيا و نظرية التلقي و علم مقارنة الاديان .
اليوسفي وهو يحاور النصوص القديمة ويناوشها بمقاربة هادمة كان يعلم أنها ذات جذور همها الأول تهميش المركز و مركزة الهامش و الضفاف،و دون الولوج إلى تفاصيل الاستراتيجية أشير إلى ان التفكيك بدأ مع "نيتشه" و "فرويد" اللذين حاولا قلب مفهوم "العلية" و "نظام الكامل" تَباعا،لنصل إلى عراب التفكيك "جاك دريدا" الذي لخص مقاربته في عباررة شهيرة "كل قراءة هي إساءة قراءة"،فالتفكيك ليس نظرية جاهزة بقدر ما هو تماه مع النصوص وممارسة السؤال الهدمي و نسف إحالات الحضور فيها ، وهذا ما نلاحظه عند الناقد التونسي الألمعي،حيث لم ينطلق من مسلمات جاهزة،بل جمع نصوصا تنتمي إلى حقل دلالي واحد ونظر في حدائقها الخلفية،و نطـّـق المسكوت عنه بوصفه آلياتٍ خفية ً ماكرة ً لإنتاج الخطاب،لينتصر للشاذ و الوحشي عبر المكر بالمألوف و العادي و السلطوي و المركزي ، ولعل تعرضه لمفهوم الدين إزاء شعر الفتاك اللصوص في مسألة "خلع اليمين" يكفينا كي نفهم أن الدين "الرسمي" عمل على ظلم الرعية و أحال نفسه على "اللاكمال" و كيف أن شعر الصعاليك الذي هو "لا كمال" أصبح كمالا يُنشد ؛ هذا غير بعيد عن قتل الإله الميتافيزيقي بمعناه النيتشوي ، والجليل هاهنا أن اليوسفي عمل على زعزعة القيم من أجل عودة القيم كأننا نتحدث عن عود أبدي لا نهائي للدلالة ، كما كان اليوسفي صارما في التوسل بقانون"التنادي بين النصوص" فخبر "عبد الله بن الحر" مثلا أورده بطرائق شتى ومن وسائط نصوصية مختلفة نثرا و شعرا ، وذلك من أجل بناء نسق منهجي يهرب من النسقية نفسها .
ننتقل الآن إلى دراسة الناقد "يوسف خليف" الرائدة الموسومة بـ"الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي" ففي انطباع أول اتجاه العنوان يلوح لنا أن الرجل لا يعنى بالشعر بقدر ما يُعنى بالزمن، فلفظة "عصر" كان أولى أن تكون عوضها لفظة" شعر"، ولا يتراجع عجبنا إلا إذا اكتهنا الخلفية المنهجية التي ينطلق منها "خليف" .
يرى خليف أن الشعراء الصعاليك نتاجٌ اجتماعي ااقتصادي جغرافي؛ وشعرهم يوحي على وجوده مما لا نخوض فيه، والذي سنخوض فيه هو أن خليفا في دراسته كان مؤسسا و انطلق من فكرة مُفادها أنه للوصول إلى شعر الصعاليك و اكتناهه علينا الإحاطة بما جعل من الصعاليك صعاليك، بمعنى أن أخبار الفُتاك و سيرهم في مقابل أخبار القبائل و نظامها الاِجتماعي تشكل بؤرة مركزية لفهم الإبداع الصعلكي،ويأتي بهذه الأخبار من "الأغاني" و "معجم البلدان" و "أمالي القالي" و "خزانة الأدب" ..إلخ،ليصل إلى النتيجة التي أراد الوصول إليها مسبقا، وهي أن عوامل ظهور الصعلكة هي نفسها التي أسست للبنية الفنية لشعر الصعاليك،فهو شعر واقعي ممعنٌ في الإنسانية و الإنفراد و التوحش و الخيبة و المراراة ، يقول الشنفرى في لامية العرب [الطويل ]:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى [..] و فيها لمن خاف القلى متعزلُ
وتبدو آليات هذه الدراسة الرائدة حين لا يسائل خليف الأخبار العجيبة و الأساطير المتواشجة مع أخبار الصعاليك و أشعار الفتاك، صحيح أنه عمد إلى خرافات العَدْو عند هؤلاء الفتاك، و طرائق موتهم [الشنفرى مثالا ] وقد رآها عجيبة غريبة،لكنه لم يحفر ولم يحفل بما جعلها كذلك، و إنما أوردها ليثق بها المتلقي، فكثرة الأخبار جعلت من دراسة خليف دراسة مؤسسة موثقة أكاديمية علمية،فقد توسل بـ 68 مصدرا قديما ليوهمنا بمصداقية الأحكام، كما أن تصوره العام لشعر الصعاليك لم يأت به من عندياته، بل من آراء المستشرقين، خصوصا "أدم ميتز" و نحن نعذر خليفا على وضع حافره على حافر المستشرقين في بعض الأحكام لكون مجال الصعلكة أنذاك لم يكن قد دخل مرحلة النضج منهجيا و مفهوميا .
منهج خليف منهج واضح يؤمن بحتمية التاريخ في وقت غزت فيه الماركسية العالم،حيث ألف الكتابُ 1959 ؛ أي في أوج المد الفكري التاريخاني الذي يرجع كل ظاهرة إلى ظروف اِجتماعية و عوامل اقتصادية و سياسية، فالتاريخ صراع، وهذا الصراع يفضي إلى منتصر/مركز، و منهزم/هامش، هذا غير بعيد عن أطروحات العروي و الجابري و غيرهما فيما بعد في أن تاريخ العرب تاريخ البحث عن عيش أفضل .
خليف كان همه الأول تأسيس معرفة بما أوجد شعر الصعاليك، و نصف الكتاب يحتفل بهذا،وحتى عمدما يستغور خليف شعر الصعاليك [7 مختارات شعرية و 4 دواوين]، نراه يرجع كل شيء فيه إلى الأصل الذي اوجده : الصراع الطبقي،ودليله على ذلك ان مفهوم الصعلكة اِختفى عندما جاءت العدالة الاِجتماعية المتمثلة في القيم الإسلامية إبان دولة الراشدين،ولعله فعل ذلك لذليل العقبة امام تلميذه "حسين عطوان" في دراسته اللامعة "الشعراء الصعاليك في العصر الأموي" ، فالعنوان نفسه يحمل مكرا و كيدا ، وبيان ذلك أن "حسين عطوان" يسلم ضمنا أن أستاذه"قال كل شيء" في مجال الصعاليك في العصر الجاهلي،فلم يبق إذن إلا الاِنطلاق لمعالجة الصعلكة في عصر بني أمية،وحينما نلقي نظارة شاملة فاحصة على دراسة "حسين عطوان" نلفيها فيها يضع حافره على حافر أستاذه خليف،فقد بدأ بالعوامل الاقتصادية و الاجتامعية و السياسية التي أفرزت ظاهرة الصعلكة في العصر الأموي ومنتهيا بنماذج لـ"عبيد الله بن الحر" و غيره ، وهو نفس التقسيم الذي قسمه "يوسف خليف" بالضبط.
توسل حسين عطوان بـ 52 مصدرا قديما و على 5 كتب استشراق و تقريبا لديه نفس تصور خليف، إلا أن الجدة في دراسته أنه تعرض لاستغوار عصر محفوف بالمزالق و المخاطر، لكنه تكيف مع متغيراته و تطوراته و استطاع أن يحلل عوامل الظهور الصعلكي في عصر الطغيان في ظل اختلافها عن عوامل العصر الجاهلي، حيث أفرد مثلا للجانب السياسي حيزا كبيرا وهذا ما لم يفعله أستاذه.
تمنهجت الدراسة بالمنهج التاريخي الاجتماعي و أغفلت علم النفس الاجتماعي الذي توسل به خليف، وهذا المنهج لا يولي أهمية للحوادث ذاتها بقدر ما يولي أهمية لنمطية/ملحاحية وجودها و خلقها : الصراع من أجل العيش الكريم فيخلف ذلك طبقتين: طبقة حاكمة ثرية، وطبقة محكومة ممحوقة مظلومة ومنها خرج الشعراء اللصوص .
ولا بد ها هنا ان نعرج على دراسة "كمال أبو ديب" الموسومة بـ"الرؤى المقنعة" حيث عقد فصلا ممتعا للحديث عن صعاليك العصر الجاهلي فسماه "نص الصعلكة "،إذ أفرد 18 صفحة للكلام عن الجانب البنيوي الفني في شعر الصعاليك الجاهليين، فهو عنده قيمة فنية تمردت على البنية المعهودة،وهو أيضا خلق لثقافة بديلة متفردة منفردة عن الثقافة الأصلية الطاغية النظامية،وحين تعرض للمكان في شعر الصعاليك رأى انهم يرسمونه في اِتجاه المستقبل المأمول لا في اِتجاه الماضي كما كان كل شعراء البنية النظامية مثل إمرئ القيس و الأعشى و زهير ..، حيث يرتد بهم المكان إلى الزمن الماضي بحزنه و انمحائه ، إذ هو زمن المحبوبة و زمن الأحلام الضائعة.
إن "كمال أبا ديب" ينطلق من النص ليصل إلى النص،مع ذلك يتحدث عن حلم الصعاليك ـ من خلال شعرهم ـ بإققامة ثقافة اللامكز،اللاقبيلة،اللانظام عن طريق الفعل : التوحش و النهب وعن طريق القول : هدم بنية القصيدة العربية، إن شعر الصعاليك بهذا التصور أول محاولة لقلب نظام الحكم و الشعر في التاريخ العربي .
ـ هذه الدراسات :
بالإضافة إلى الاختلاف المنهجي الذي تنطلق منه كل دراسة[تاريخية،تفكيكية،بنيوية] إلا أنه هناك مشتركا ظاهرا بينها،وهو اِعتمادها على الأصول مباشرة : دواوين،مختارات،مصادر و معاجم نثرية قديمة، وبما أن دراسة اليوسفي عندي هي الأساس فسأحاول تقييمها بالموازنة مع غيرها.
تبدو محاولة اليوسفي رائدة في تتبع الأخبار و جس نبضها عجائبيا و أسطوريا ومساءلتها بل تأويلها تأويلا يكشف ما خبأته عن المتلقي للمكر به،بينما نرى دراستي خليف و عطوان أشبه بالتتبع التاريخي الذي يتلمس النظرية في المتن لمجرد تقوية دعوى معينة،أما "ص الصعلكة" عن كمال أبي ديب،فهو نص يستشهد بالنصوص الشعرية بنيويا مما أفقده الكونية و جعله حبيس الشعر و البنية اللغوية .
منهج اليوسفي فتح أمامه الحدود ليمكر بمكر الأخبار و يتأول الأشعر،ولا ادل على ذلك من تأويل قصيدة "مالك بن الريب" الشهيرة التي يعتذر فيها و يتوب إلى الله عن صعلكته،حيث رآها قمة الخضوع لمدينة "العقل"،بينما رآها عطوان قصيدة توبة و ندم ليس إلا .
عيب دراسة اليوسفي أنها تحاملت على دراسيتي خليف و عطوان،فلم تر إليهما،رغم انه ينطلق من مكتسباتهما مثل ان النظام الاجتماعي المتمثل في "الخـَلع" كان علة من علل ظهور الصعلكة.
شروط الصعلوك عند اليوسفي هي نفسها عند عطوان : الخلع،الفقر،الشعر ،ومما يميز دراسة اليوسفي انه توسط بالمسرود العجائبي و بجميع الوسائط الفكرية الممكنة .
هوامش :
[1] نفضل مصطلح "الفكرانية" عوض مصطلح "الإيديولوجيا" لعلل عرض لها "طه عبد الرحمان" تأثيلا و تأصيلا بالتفصيل ، في دراسته "تجديد المنهج في تقويم التراث" .
[2] أنظر اللامية و شروحها من خلال المظان الآتية "أعجب العجب في شرح لامية العرب" للعلامة جاد الله محمود الزمخشري المعتزلي، إتحاف ذوي الأرب بمقاصد لامية العرب،أبو جمعة الماغوسي المراكشي،تحقيق و تقديم محمد أمين المؤدب،توزيع مكتبة الرشاد ط 1 سنة 1997 .
[3] مع التفكيكيين يصبح الهامش مركزا و المركز هامشا ، لكن مع اِختلاف واضح بين "فوكو" و "دريدا"،وهذا الاِختلاف سيؤسس للقطيعة بينهما على وصف أن "فوكو" آمن بالمعيار في دراسته"تاريخ الجنون"حيث ناقش الجنون عن طريق العقل ؛ بينما "دريدا" أمعن في نسف الإحالة و المواضَعة و كل البدهيات و المسلمات عن طريق هدم demoletion نيتشوي للعقل الأوروبي المتمركز حول ذاته و كل الآلهة الميتافيزيقية .
[4] النص حمال أوجه عند التفكيكيين الفينومينولوجيين على وصف وجود مفهوم"العائق الأنطولوجي" الذي هو عبارة عن علاقة جدلية بين الذات و النص،ويسمي "ابن سينا" هذا المفهوم في كتابه"التعليقات" بـ"الإضافة الوجودية" حيث إذا عقل معقول الماهية فإن عقله ليس هو .









Like