منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 20
  1. #1

    النص الكامل لمجموعة «الثعبان المزعوم» ليس الفيل

    النص الكامل لمجموعة «الثعبان المزعوم» ليس الفيل
    ----------------------------------------------------------------

    مقدمة
    .........
    هذه القصص

    بقلم: حسني سيد لبيب
    ..........................

    يس الفيل شاعر مخلص لفنه. لا نغالي إذا قلنا إنه صاحب البصمات الواضحة في حركة الشعر العربي المعاصر. واصل العطاء الشعري في مسيرة امتدت إلى نصف قرن من الزمان. وهو يتميز بفيض الأحاسيس، وصدق التعبير، وعذوبة الكلمات.
    إلا أنه يكتب القصة القصيرة أحيانا. وقصصه تكاد تنافس في صياغتها صوته الشعري، بجملها القصيرة المكثفة، وتصويرها البارع، ومحاورتها الفكرة ومداورتها، فظهرت قصصه ناضجة المضمون محكمة البناء.
    ما يحرك شاعرنا إلى ولوج عالم القصة القصيرة، هو الفكرة الملحة التي تدفعه دفعا إلى القص، فهو صنف من الكتّاب إذا غازلته فكرة ما انتصر لها، وصاغها صياغة تجذب القارئ إليها، وقد تدفعه إلى قراءتها أكثر من مرة.
    أبطال قصصه من هؤلاء الذين تسيّدوا أقوامهم بالخُلق الرفيع والشفافية السامية. إذا ولجت عالمه القصصي، تشدك براعة الاستهلال، والصياغة الفنية. يجيد الخطاب السردي بضمير الغائب غالبا. وللمناجاة الداخلية حظ وافر في لغة السرد. يحرص على انتقاء شخصياته انتقاء الأب عريسا لابنته، مكونًا جماعته المغمورة، حسب تعبير فرانك أوكونور، في كتابه "الصوت المنفرد". وإن كانت جماعة يس الفيل المغمورة، لا تصنّف مع موظفين أو مهنيين أو حرفيين - كما فعل أوكونور - إنما هي جماعة تتصف غالبا بالسلوك النبيل والخُلق الحميد. وكثيرا ما يؤلمه الواقع المعيش، فيشحذ يراعه نصلا حادا يستأصل به العلة. كما تتحدد طباع جماعته – أيضا - في المثالية والشفافية اللتين تواجه بهما سلبيات الواقع، وتدفع إلى محاربتها واستئصال شأفتها.
    ولا ضير أن يكون الأديب صاحب موهبة مزدوجة. وإذا كان يس الفيل قد أقدم على كتابة القصة القصيرة إلى جانب كتاباته الشعرية، فإن الأمثلة عديدة لأدباء آخرين مزدوجي المواهب، أمثال: عباس محمود العقاد في الشعر والنقد، ووليم بليك في الشعر والرسم، وكامل أمين في الشعر والرسم أيضا، وصالح جودت في الشعر والقصة، ويوسف إدريس في القصة القصيرة والمسرحية، والأمثلة في هذا لا تُحصى.
    تحكي قصة "رقص الغوازي" عن الراقصة صفاء التي تذهب إلى المرقص تصاحبها أمها علية. حمادة غير راض عن سلوك بنت خالته وأمها. ما إن يزورهما زيارة عابرة، حتى يرتد عائدا إلى الجبهة. زمان القصة عقب نكسة 67 في إشارة واضحة من الكاتب عن سلبيات المجتمع وتتمثل في السلوك المنحرف، وإيجابياته المتمثلة في حمادة الجُندي، الذي يعود من حيث أتى، وفي نفسه مرارة. وفي نهاية القصة يقول حمادة في مشهد يشبه المشاهد المسرحية: "مستحيل الفجر يطلع من هنا.. مستحيل.. الفجر عمره ما يطلع من هنا.. إلا لما نبطّل الرقص". وتأخذ كلمة "الرقص" معنى الفن الهابط هنا، ومعنى عدم حسم الأمور.
    وفي قصة "مدرسة الحياة" يلتقي المهندس الذي تخرج حديثا أحد الفنيين من ذوي الخبرة والعطاء. في البداية يحقد عليه ويحسده على نجاحه. إلا أنه استمع بوعي لكلماته المخلصة، فأدرك عظمة هذا الفنّي الماهر. وعليه - وهو في بدء حياته العملية - أن يتحلى بالهمة، ويضيف إلى علمه كل ما هو نافع ومفيد.
    وفي قصة "كبوة الجواد"، أثّر إعراض زوجته عن السفر معه إلى البلد الذي يعمل به على أدائه. غفر المدير خطأه في العمل لما عُرف عنه من كفاءة وإخلاص، واعتبر الخطأ غير المقصود كبوة جواد. القصة مليئة بالمواقف الإنسانية.. موقف المدير وتشجيعه له.. تراجع زوجته عن موقفها.. إلا أن هذا المهندس المثالي، كان مثاليا أيضا في أخلاقه، فلم يشأ اتخاذ موقف يغضب زوجته. ولم يشأ تبرير خطئه أمام المدير بالتحدث - ولو كذبا - عن أخطاء غيره. هو صادق القول مثلما هو مخلص في عمله.
    وما أعظم قصة "الوسام"، عن الجندي المقاتل في أشرف معركة، معركة تحرير الأرض المغتصبة. حصل الجندي على الوسام لبطولاته في حرب العبور. لكن الجندي، وهو عائد إلى بلدته، يرى الوسام من حق أبيه، فهو حارب ستة أيام بينما كافح والده ستين عاما. يتنازل عن الوسام لأبيه. لكن الأب يرى أنه لا يستحقه، إنما مصر هي التي تستحق الوسام، فمصر ناضل أبناؤها ستة آلاف سنة.. ويضع الأب الوسام على صدر تمثال يمثل مصر الوطن. قصة رائعة صاغها الشاعر بقلب عامر بالوفاء لضحايا الحرب، والأبطال الشجعان الذين ضحوا بكل غال ونفيس من أجل تحرير الأرض من الغاصبين.
    وقصة "الرجل الطيب"، فكرتها مباشرة، عن محاضر شيوعي يبث أفكاره غير المألوفة على الجالسين، فيستهجنون ما يقول. يتصدى له رجل طيب - كما يصفه الكاتب - فأفحمه وأربكه، بما استند إليه من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية. ودعا له بالهداية، وطرح الأفكار الملحدة، وأن يعمر قلبه الإيمان. وقصة "توبة" كسابقتها، في اتخاذ المنحى الديني وسيلة للنصح والإرشاد. شاب أعلن توبته، والفضل يرجع إلى نصح أبيه ودعائه له.
    والخوف هو محور قصة "الثعبان.. المزعوم".. حيث التحقق من الخطر أو مواجهته أفضل بكثير من سيطرة الخوف على نفوسنا.
    وعن واقع مؤسف عشناه، سطر الكاتب قصته أو لوحته القصصية المسماة "الطوفان.. ينحرف أحيانا".. وهي مستوحاة من غزو العراق للكويت، دون أن يصرح بهذا. سمى الغزو طوفانا، ثم ارتد الطوفان إلى من أشعل الأرض وأفسدها. تميل القصة إلى الرمز الذي يصح أن نطبقه على كثير من الأحداث، وإن نُكب العراق بطوفان أعتى وأفظع.
    في قصة "البطل" يتعرض الكاتب لقضية صدق الفنان مع نفسه، وبمعنى آخر أن يكون المظهر كالمخبر. البطولة الزائفة لا تصنع فنا. تطرح القصة عددا من التساؤلات، في مقدمتها: كيف يصير البلطجي بطلا؟
    وفي قصة "النتيجة" يعتزم الأب الاطمئنان على نتيجة ابنه في ليسانس الحقوق بنفسه، حتى تكون مفاجأة سارة لابنه. لكن التزاحم منعه من الوصول إلى مكان الكشوف المعلقة. استنجد بشاب فعاد معتذرا حيث مزق الطلبة الكشوف، فعاد إلى بلدته منهوك القوى، ويفاجأ بابنه يبشره بالنجاح بتقدير امتياز. المغزى في عناء الأب وتعبه، وأمله في نجاح ابنه.
    وقصة "الميراث" عن وارث لثروة أبيه، لكنه لا يعرف كيف يحافظ عليها، فينتقل الميراث إلى من يستحق، وهذه طبيعة الأشياء، التي حرص الكاتب على التأكيد عليها.
    وقصة "الجائزة" عن عامل بسيط يفسح المجال ليتيح لمديره الصلاة في مقدمة الصفوف، لكن المدير حين لاحظ ما فعل، عاتبه مستطردا: "ربما أتقدم عليك أمام الناس.. لكني.. أمامه سبحانه وتعالى.. قد أتأخر عنك آلاف الأميال". بهذه الكلمات البليغة المشرقة وضع الكاتب المفضال قيمة خُلقية يصح بها البشر. المثالية تعمر قلب المدير وقلب الموظف البسيط.
    تتميز شخصيات قصص يس الفيل في الغالب بالطموح والسلوك المثالي، وتتطلع إلى التفوق والتألق. شخصيات ذات أحاسيس مرهفة وعواطف نبيلة. لديها مخزون مشرف من أخلاق القرية المصرية، تدفعها إلى الصدق في القول وفي العمل.
    لغة الحوار راقية لا تنحرف إلى ألفاظ جارحة. ولغة السرد متأثرة بشعره، تفيض بنبل الأحاسيس وفيض المشاعر.
    ولنا في القاص رستم كيلاني خير مثال في هذا المجال، وغيره من البنّائين العظام لكل المعاني السامية الراقية. الفارق بينهما يتحدد في المكان الأثير لكل منهما. فمجتمع رستم هو المدينة، ومجتمع الفيل هو القرية. ينشغل رستم بتفاصيل الواقع، وينشغل الفيل بالصياغة الشعرية التي تعنيها الكليات.
    في هذه المجموعة القصصية، نجد من الشخصيات الملفتة للنظر، الجندي المدافع عن بلاده، على النحو الذي رأيناه في قصتيْ: "رقص الغوازي" و"الوسام". كما يبرز الكاتب قيمة العمل وأهميته، في قصتيْ: "مدرسة الحياة" و"كبوة الجواد". ويبرز أهمية التمسك بتعاليم الدين، في قصص: "الرجل الطيب" و"توبة" و"الجائزة". وعن عقدة الخوف نقرأ قصة "الثعبان.. المزعوم". وعن الصدق مع النفس، تطالعنا قصة "البطل". وعن الأبوة نقرأ قصة "النتيجة". وعن "الميراث" نقرأ قصة بالعنوان نفسه. هذا هو عالم الكاتب وهذه مضامينه ذات المغزى والهدف.
    وإذا قلنا إن رستم كيلاني أخلص في الكتابة القصصية، وأعطاها عمره وذوب فؤاده. فإن القول نفسه ينطبق على يس الفيل في مجال الشعر، وإن استماله القص فكتب عن حب هذه القصص التي يسعدني تقديمها للقارئ الكريم.

  2. #2
    (1) رقـــص الغــوازي

    قصة قصيرة، بقلم: يس الفيل
    .................................

    لم يكد ينسدل الستار ، والنور يوقظ الصالة ، ويحرك الأبدان والأفواه، حتى هبت "علية" واندفعت إلى غرفة خلع الملابس تستحث ابنتها للخروج بسرعة .
    ولم تكد " صفاء " تتجرد من ملابس التمثيل ، حتى مرق إلى أذنها صوت أمها حاداً ، ملهوفاً ، فارتدت فستانها على عجل ، واندفعت نحو الصوت ، وبقية من عرق تنضح من جسدها الشاب ، وبقايا مكياج ما زالت على صفحة وجهها الطرى ، تحاول أن تمحوها بمنديل يدها الصغير .
    وعلى باب المسرح وقفتا .. عيونهما تنظران إلى بعيد تارة .. وإلى قريب تارة أخرى .. والمتفرجون ينصرفون ، البعض غاضب .. والبعض راضٍ وسعيد. .وأطلتا على الصالة ، لم تجداه .. تلفتتا بقلق ، هنا مرة ، وهناك مرات ، وفى محاولة أخيرة ويائسة ، مسحتا جوانب الصالة بعيونهما .. فلم تريا له ظلا .
    اندفعتا إلى الطريق بسرعة ، مرتا على مجموعة من الشباب المنصرف لتوه من المسرح .. نظرت "صفاء " وهى تعدو خلف أمها ، سمعتهم يهمسون ، لم تعاود النظر ، أصبح همسهم كلاماً .. أسرعوا بدورهم قليلاً ، لكن الأم توشك أن تجرى وهي خلفها .. وارتفعت نبرات شاب جرئ :
    ـ يا ترى من السعيد الليلة؟
    ويعلق آخر:
    ـ أمه داعيه له .. وربنا ..
    ويعقب ثالث:
    ـ على مهلك يا جميل ، لتوصل تعبان .
    وتبتلع الأم هذه الجرعات على مضض وهي تسرع ، وتخف " صفاء " كمن تحتمي بها .. حتى إذا حاذتاه .. نطقت " صفاء":
    ـ سامعه يا ماما؟
    ـ قوي .. وياما نسمع .
    ـ أصلهم معجبين .
    ـ أصلهم سفلة .
    وتتألم " صفاء ".. لكنها تخشى أن يظهر هذا الألم .. فتكبته .. تبتلعه فى صمت ، وتنطلق كأنها مربوطة إلى أمها بخيط حريرى .. لا يُرى .
    وفتحت الحارة ذراعيها .. تشهدتا .. ابتلعت كلُ ريقها ، دقت الأم باب المنزل ، فُتحت الشقة ، فى صوت واحد سألتا :
    ـ حماده وصل ؟
    وترد العجوز فى شئ من الدهشة :
    ـ لا يا بنتي .. تبقى مصيبة لو يكون غضب .. وتنطق " علية " فى ثورة خفية :
    ـ طيب .. طيب .. اقفلى .. دقيقة ونرجع .
    وألقت بهما الجارة إلى الشارع من جديد .. لم تسيرا صامتتين هذه المرة .. انهالت الكلمات من فم الأم بلا حساب .. تسب وتلعن اليوم الأسود ، الذى رق فيه قلبها .. وتلعن الظروف التى جمعت " صفاء " بصديقتها" عزة " لتغريها هذه المعلونة بالانضمام للفرقة كل ليلة وسط الشبان.
    ـ وكلما امتد الطريق أمامهما ، ومسحت عيونهما جوانبه دون أن تقعا له على أثر .. كلما احتدت الأم فى السباب ، والتفنن فيه .. والبنت تصبر وتصبر .. لكن للصبر حدود ، فتصرخ فى أمها :
    ـ يعني كان جاى ينكد علينا ؟
    وترفع الأم يدها وتحاول ان تهوي بها عليها.
    ـ والله ما بينكد علينا إلا أنتٍ يا مصيبة .. لو كان الموت ياخدك .. كنا نرتاح من العار .. اخرسي!
    وخرست .. وتفادت الصدام ، فقد ظهرت مجموعة الشبان مرة أخرى.. ما زالت تتسكع .. وكلما اقتربتا منهم راحت أذناهما تلتقطان شيئا من الحديث .. ويسمعان أحدهم يقول :
    ـ جالكم كلامي .. اتفرجوا .. أمه داعية له وربنا.
    ـ لكن الأم تعدو .. وصفاء ترى وتسمع .. وقطعة من اللهب تنصب فى حلقها مع كل خطوة تقطعانها على الطريق .
    وأخيرًا لاح لهما .. لم تصدقا أنه هو .. صاحت الأم :
    ـ هو .. وعقبت البنت :
    ـ يعني راح يطلع مين غيره ؟
    كان يقف فى الميدان الواسع .. ساهما .. انصبت شحنة الغضب فى أعماقه منذ انطفأت أنوار الصالة .. وبدأ العرض .
    ـ أهذا فن ؟ أبداً .. إنه رقص .. ورقص منحط ..
    وراح يغلى على مهل .. حتى رأي "صفاء " تتلوي على خشبة المسرح .. وإلى جوارها شاب يراقصها ، وكلما تشنجت صيحة من متفرج .. أحس بها تخترق جسده .. غير أنه صابر وصابر وتمردت نفسه مرات عديدة .. لكنه قاوم وقاوم .. فهو الذى رضى الحضور مختارا .. واللوم كل اللوم على نفسه التى راح يؤنبها .. حين استجابت لضراعة أمه .. فلباها .. ولبى دعوة خالته .. واستسلم للندم على الساعات التى اقتطعها من أجازته القصيرة .. والتى سيعود بعدها للجبهة غير أن ختام الحفل .. والحركات الهستيرية التى تركتها " صفاء " قد أثارت المراهقين وجعلتهم يصيحون :
    ـ صفصف .. يا صفصف .. حلوه يا صفصف..
    هذه الحركات وما أحدثتها من رد فعل ، كانت بمثابة الشق الذى أتاح الفرصة للبركان فى أعماقه لينطلق .. وانطلق إلى الخارج يسير .. ويتلفت .. كأن شبحا يطارده..
    أنساه الغضب كل شئ .. أنساه وعده لها بأن يسافر فى قطار الفجر ، لتطلع الشمس عليه فى " بنها " ومنها إلى الاسماعيلية .. فضرب بعهده عرض الحائط .. لكنه لم يدرك القطار .. كان عليه أن ينتظر ساعة ، ليأخذ الذى يليه .. وانتظر على النار ، بجوار السور الحديدي .. وقف شارد الذهن .. حائر الفكر .. يقذفه المسرح بقوة .. فيخيل إليه أنه يدوس فى تربة رملية تعوق تحركه ، وتشده الجبهة .. فيحس بالأرض صلبة تحت قدميه .. ويرفع بصره .. السماء ليس بها نجوم هنا .
    ونسمة باردة تلفح وجهه .. وأصوات من هنا وهناك تصك سمعه .. لكنها لا تطغي على الضجيج فى أعماقه ، غير أن صوتا يميزه اخترق أذنيه كقذيفة طاشت .. فالتفت ورآهما .. خالته .. ومن ورائها صفاء .
    اقتربتا .. سلمتا بعيونهما قبل أيديهما .. ورد هو بنظرة غاضبة قبل أن يمد يده ، التى تعلقت بها خالته .. وتكلمت فى عتاب مشوب بالحزن:
    ـ حرام عليك .. طيب كنت قول إنك مسافر .. كنا ارتحنا .. كنا عرفنا حدها .. تعال .. جذبته .. قاوم .. توسلت ، لم يرق .. حاولت أن تخرجه من صمته ، لم تنجح المحاولة .. صمت .. ويئست الأم فانسحبت .. وبخطي ثقيلة سارت .. ولم تتحرك صفاء .. كانت عودته بالنسبة إليها قارب النجاة فى هذه الليلة .. لم تسر وراء أمها ، ربما تنجح فيما فشلت هي فيه .
    والتقت عيناهما .. حاولت أن تنطقه ، لم تستطع .. أبو الهول يحمل سره دائما .. وللأبد .. السر يعذبه ..فاستجمعت قواها.. وبلعت ريقها .. ونطقت فى ألم :
    ـ يعني خلاص ..
    قالتها .. ودمعة حارة تسقط على يدها دون أن تدرى .
    ورد هو بقرف :
    ـ قولى لنفسك ..
    تنهدت .. لقد تحرك الجبل .. هزها الفرح .. دفعها على أن تمسك بالخيط قبل أن ينقطع :
    ـ مالك ؟ حصل من أمي حاجه ؟
    وتذكرت أمها .. كانت قريبة .. لم تقطع سوي بضع خطوات على الطريق .. وجهها لها ، كأنما تسير بظهرها .. لوحت لأمها .. أقدمت .. الصمت هو الصمت .. ما جدوي الوقوف إذا ؟ الشك يوشك أن يكون يقينا .. والتفتت صفاء إليها ، سألتها :
    ـ أنتٍ جرى بينك وبين حمادة كلام ؟
    وتضرب الأم بيدها على صدرها .. وترد فى لهفة :
    ـ أبداً .. أنا .. يا مصيبتي .. يمكن .. يجوز .. الناس أسرار .. يقول هو ، يرد ، يتكلم ، وتكلم حمادة .. كان كمن يزيح كتل الصخر عن قلبه :
    ـ يا خالة .. أنتم فى واد والناس فى واد آخر .. بقى صفاء تترك مدرستها وكتبها .. وترقص .. هوّ سقوطها فى يونيه الماضى يتنسى يا خالة ؟ الامتحان الشنيع اللى طلعت منه تبكي.. يتنسى ؟! بقى يصح وبلدنا محتاجه لفرق مقاومة وتمريض وإسعاف ودفاع.. نغمض .. ونكوِّن فرق .. ونجمع بنات بالجملة .. ترقص عريانة مرة .. ومرة تانية.. يا عالم !!
    وترد صفاء :
    ـ هو الفن حرام .. ما هو الفن بيخدم المعركة .. واللا يعني ..
    ويرد هو فى حدة :
    ـ تحيا الفلسفة..
    ويلوح بيده .. ويتحرك حركات المستهتر .. يا ليل .. يا عين .. يا سلام على الفن .. ودين محمد ما هو فن .. دا رقص غوازي .. الفن الحقيقى يا هانم .. يبان فى المعركة وسط مستشفى، على طيارة ، فى قلب ديابة . يحرك الرجال فى الميدان .. يا عالم دي جريمة .. والله جريمة .. طيب نشوف غيرنا .. ونتعلم منه .
    وترد الأم فى حسرة :
    ـ طيب يا ابني واحنا ذنبنا إيه ؟! الكلمة كلمة المسئولين والشغلانة شغلانتهم .
    ويظهر الغضب على وجهه .. ويثور فى حدة :
    ـ بلا مدير ، بلا وزير ، خلينا فى المهم .. الحكاية شيلني واشيلك .
    ونظر فى ساعته .. لم تبق سوى دقائق .. همّ ليعتمد التذكرة ، حاولتا منعه .. لكن عبثا حاولتا:
    ـ الليل طويل .. أقطعه فى السفر ، الفجر يطلع علىّ هناك .
    ـ طيب يا ابني ما يطلع عليك هنا ..
    وينسل من بينهما وهو يتمتم :
    ـ الليل طويل ..
    مستحيل الفجر يطلع من هنا .
    مستحيل ..
    الفجر عمره ما يطلع من هنا .
    عمره ما يطلع .. أبدا .. أبدا
    إلاّ لما نبطل الرقص .

    * كتبت أوائل عام 1968م

  3. #3
    (2) مدرسة الحياة

    قصة قصيرة، بقلم: يس الفيل
    ...................................

    ألقى بجسده على الفراش .. بعد يوم حافل بصنوف العمل والإرهاق وهدوء المكان من حوله يغسل أعصابه المنهكة .. وضياء المصباح .. وهو ينعكس على المرايا المثبتة على الجدران هنا وهناك ، يلقى على نفسه المتوترة مزيدا من السكينة .. فتنبسط .. وتتراخي عضلات جسده شيئا فشيئا .. ويدب فى أعماقه خدر لذيذ .زف ينطلق بخياله فى رحلة طويلة .. لكنه ما إن يتذكر موقفا ما ، تعرض له هذا الصباح ، حتى ينقبض من جديد .. ويحدث نفسه :
    ـ آه .. لو لم يكن هذا الإنسان .. لكان لى فى المكان شأنٌ آخر..
    ورغم ذلك فهو لا يتوقف عند هذه النقطة طويلا .. فالنفس مشحونة بشتي الانفعالات .. والمواقف كثيرة على امتداد الرحلة التى - على قصرها - توشك أن تكون عمراً بأكمله .. ويطلق لخياله العنان .. يفكر ، يفكر ..لكن بصوت مسموع :
    ـ ترى ماذا يقولون عني الآن ؟ لقد تركت الأهل بعد أن حصلت على البكالوريوس .. بامتياز .. وتحقق الحلم .. وها أنذا قد أصبحت مهندساً كبيراً .. وأين ؟ فى القطر الشقيق الذى تشرئب إليه أعناق الشباب
    ويستطرد :
    ـ مساكين .. لقد تصوروا كما تصورت .. أننى وصلت للقمة التى ما بعدها قمة .. وأنا .. يالي من تلك السذاجة .. ويالي من غرورى .. ليتهم يعلمون أنني اليوم فقط .. بدأت أول الطريق وعلىّ أن أكافح .. وأنا أطبق العلم على العمل .. حتى أخرج من التطبيق بالنتيجة المطلوبة ، لأصل إلى الهدف الذى سهرت من أجله الليالى .. لكن " حمدي " سرعان ما يعترض على هذا المنطق وتتوتر يده .. وهي تتأرجح فى الفضاء مع همساته المسموعة :
    ـ لا .. لا .. علىّ أن أبدأ من جديد .. حتى لا يحدث ما يقشعر بدني لذكره .. آه لو لم يكن هذا الإنسان .. لكان لى فى هذا المكان شأن آخر
    ثم يواصل حديثه مع نفسه :
    ـ صحيح أني قطعت سنوات الدراسة بجد واجتهاد ، تعلمت الكثير عن تاريخ البترول وأعمال الحفر .. وأستطيع أن أقوم بالدراسات الأولية .. وأعود للتقارير والكتب التى يعتمد عليها فى عملية التنقيب .. وتعلمت أيضا متى تكون الظروف الجيولوجية ملائمة لتجمع الزيت .. وما يستلزم ذلك من فحص الصخور .. نعم عرفت هذا .. وعرفت فوق هذا .. كيف أتتبع أي رشح بترولى أو أسفلتي أو أي غاز منبعث من شقوق القشرة الأرضية عند البحث .. لكن العلم شئ والعمل شئ أخر .. وبون شائع بين النظرية والتطبيق .. وها أنذا .. لم يكد اليوم الأول ينقضى علىّ فى العمل ، حتى شعرت أنى قطرة توشك أن تتلاشى فى خضم هذا البحر الكبير .. ولابد أن تتلاشى إن عاجلاً .. أو آجلاً .
    قال هذه الكلمات فى نبرة عالية .. وانتفض " حمدي " من على الفراش كمن قرصه عقرب ، وأطل من النافذة .. مياه البحر على مرمي البصر .. والأمواج الثائرة كأنها فى سباق مع الزمن ، واستهواه المشهد .. فأدام النظر إليه .. بينما فكره يسبح فى دنيا واسعة .. وخياله يقطع الآفاق العريضة .. والصراع النفسى الحاد يوشك أن يحطم أعصابه .. وأراد أن يحدد موقفه .. أن يخلع ملابسه ويلقى بنفسه للأمواج .. ولوح بيده .. وهو يهمس إلى نفسه :
    ـ لن أتعلم السباحة من كتاب ، ولا حتي من مائة .. الواقع شئ يختلف تماما عما تعلمته .. فلا تقارير ولا دراسات ولا كتب، ولا تعقب رشح أو غاز منبعث من قشرة أرضية يفيدني .. تأكد لى ذلك بالدليل القاطع .. ومنذ اليوم الأول .. إننا فى مدينة تسبح فى بحر من الزيت .. فماذا أصنع ؟ وكيف أبدأ ؟
    قالها بمرارة .. واستند بمرفقه على حافة النافذة وراح يفكر .. فى محاولة لوضع حد لهذا التمزق .. غير أن طرقات على باب الحجرة قطعت عليه حبل التفكير ، فأرهف السمع .. لم يصدق أذنه ، إنّ احدا لا يعرفه هنا .. تقدم نحو الباب .. بخطى متثاقلة .. لكن الدهشة عقدت لسانه حين وجده هو .. هو بعينه ..
    لم يكفه المصنع على اتساعه .. فهل يكفيه الفندق ؟ بل هذه الحجرة الضيقة التى أنزل بها؟ إنه سيقضى علىّ لا محالة .. لقد أطاح بكل غرورى .. شعرت أمامه بالضآلة والضحالة ، وهو يتفقد العمل فى الصباح ، وينهال علىّ بالأسئلة . وأنا أحوم حول المعني ولا أعطي إجابة شافية قاطعة فماذا يريد مني الآن ؟ يا له من رجل سمج .. وانطبع ما فى أعماقه على صفحة وجهه فبدت علامات حيرة وغضب لم يفلح ترحيبه الحار بالقادم فى مداراتها ، وأحس الزائر بما يعتمل فى صدره .. فابتدره :
    ـ كيف حالك يا أخي ؟ أردت أن أطمئن عليك دون سابق وعد .. يشفع لى أننا أصدقاء .. تشفع لى الزمالة .. أنت ضيفنا ..
    قال ذلك وانخرطا فى حديث طويل عن العمل وعن الحياة .. نسي حمدي نفسه خلال هذه المدة ، نسي علمه ، وأنصت .. وأنصت .. والزائر يتدفق كالبحر .. يتحدث في كل شئ .. في الحفر والتنقيب ، في الجاذبية والمغناطيسية .. في الإنتاج ، والتصنيع .. في تسوق البترول ، في آلات الورش ، في إصلاح الآبار ، في رسم الخرائط الدقيقة ، في التقطير والتثبيت والتكسير والتفحيم ، في الصداقة والمال ، في السياسة والحب .. في كل شئ تحدث .. مهارة عجيبة ، خبرة طويلة ، علم واسع ..
    أنصت " حمدي " طويلا ، وحملق كثيرا .. وهو لا يصدق أن كل هذا قد حدث .. ويسائل نفسه : غير معقول أن يكون هذا الرجل قد بدأ من الصفر .. يا إلهي .. كيف يحدث هذا ؟ عامل بسيط ، وبأجر زهيد فى شركة آبار البترول .. تستهويه أسرار الحفر ، فيكافح ليتعلم .. ثم تسنح له الفرصة .. فيسافر إلى أمريكا في بعثة دراسية فيظهر تفوقا غريبا ، يجعل اسمه يحتل الصفحات الأولى من مجلات البترول والحفر العالمية .. غير معقول هذا .. أنا لا أصدق .
    ويلاحظ الزائر دلائل الشرود بادية عليه فيتوقف عن الحديث ، ليعود " حمدي " إلى شروده وهو يهمس : غير معقول . ويسأله الزائر .. ما هذا ؟ فيجيب دون أن يشعر : ما تقوله .. وفجأة ينتبه .. قد أوشك على السقوط .. فيرتبك ، ويعتريه الخجل .. ويتنهد فى التياع .. لكن الزائر يأخذ بيده ، ويخرجه من ارتباكه بقوله :
    ـ يا أخي هون عليك .. ما هناك غير معقول .. أما تعلم أن لكل فعل رد فعل مثله .. لقد حرمت طويلا يا أخى واندفاعي فى هذا الطريق ليس إلاّ نتيجة حتمية لهذا الحرمان .. لقد عدت من بعثتي ، وكلي حرص على أن أوفر لأمتي ما حرمت أنا منه ، وها أنت تراني ، ما زلت أعد البرنامج تلو البرنامج لتدريب الحفارين ، صحيح تخرج على يدي العشرات ، لكن هدفي لم يتحقق بعد .. ولعلك لم تزر للآن مركز التدريب الذي أنشأته للعمال . لقد زودته بمختلف النماذج التى تحتاج إليها هذه الصناعة ، والأيام طويلة وسوف ترى وتسمع .. ثم لعلك لا تصدق أني سعيد بك .. وبأمثالك من الشباب الطموح الذي نال قسطا لا بأس به من التعليم ، فهو يتفهم أسرار هذه المهنة سريعا .. وفرق كبير بين من يبدأ من الصفر .. ومن يبدأ من المائة .. قال هذا .. وتململ .. شأن من يهم بالانصراف .. وهنا تذكر " حمدي " أنه لم يقدم لضيفه تحية .. فراح يعتذر وبدأ جبينه يتفصد عرقا .. لكن الزائر طيب خاطره .. وهو يمد يده مصافحا :
    ـ يا أخي الأيام بيننا .. سوف نلتقى كثيرا .. ونشرب أكثر .
    قال ذلك وانصرف .. ليعود " حمدي " إلى وحدته مرة أخرى .. لكن روحا جديدة بدأت تسري في نفسه .. وبدأت حيرته تتلاشى شيئا فشيئا ، ليحل محلها لون من الاستقرار .. وأخذ يستعيد حديث الرجل .. ويستعيد قصته مع الحياة .. ومع العمل .. ويستلهم كفاحه الطويل طريقا جديداً يسير عليه .
    لقد بدأ هو من الصفر .. لكني لن أبدأ أبدا كما بدأ فأنا حاصل على شهادة عالية بتفوق .. وعليّ أن أنجح في مدرسة الحياة .. مدرسة العباقرة .. التي أستقبل يومي الأول فيها .. عليّ أن أبدأ على أسس جديدة .. أن أقتدي بهذا الرجل .. وأحس أن عواطفه قد استقرت تماما .. وأنه قد نزع من نفسه كل شعور بالحقد على هذا الخبير .. وتمنى لو أنه مثل أمامه .. ليعانقه ، وليقول له :
    ـ بارك الله فيك .. لقد كنت المصباح الذى سطع فجأة في ليل حياتي .. والشراع الذي انتشلني من مخالب الأمواج إلى شاطئ الأمن والسلام .
    ــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * كتبت عام 1969م
    * نشرت بمجلة "قافلة الزيت" السعودية ـ محرم 1394هـ (يناير / فبراير 1974م)
    * قررتها وزارة المعارف السعودية على الصف الثاني الثانوي في كتاب "المطالعة" سنة 1401 هـ (1981م )

  4. #4
    (3) كبوة الجواد

    قصة قصيرة، بقلم: يس الفيل
    ...................................

    كان آخر ما يتصوره ، أن يستدعيه المدير ليؤاخده على إهمال : وكان آخر ما يدور بخلده أن يقع ما وقع ، بعد أن حصل فى عامه السابق على مكافأة التفوق ، وعلى شهادة التقدير، للرقم القياسى الذى ضربه فى كمية الإنتاج وجودته ، وحتى اللحظة التى استدعي فيها لهذا اللقاء ، لم يكن أحمد قد استقر رأيه على عذر مقبول، يبرر به هذا التصرف الذى انحدر به فجأة ، من القمة إلى السفح .
    إنه يعرف الأسباب التى قادته - برغمه - إلى هذا الخطأ، لكنه .. وحتى الآن .. لا يدري كيف وقع في المحظور ، وهو الحريص على أن يظل" العامل المثالي " في هذه الشركة ، التي هيأت له سبل العيش ، وقدرته التقدير الذى افتقده في زحمة البحث عن العمل الشريف الذي يوفر له ولأسرته الحياة الهادئة المستقرة .
    وقطع المسافة من الورشة ومكتب المدير وهو شارد العقل ، مبعثر الفكر ، يحاول أن يقطع برأي في انتحال عذر ، يخفف حدة هذا اللقاء العاصف ، لكنه .. كان كالريشة المعلقة في الهواء ، تحاول أن تستقر .. فلا تستطيع .
    دلف إلى المكتب بعد أن نقر على الباب برفق ، نظراته زائغة وجبينه يتفصد عرقا .. ورغم أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يلتقى فيها بهذا الرجل ، إلا أنه أحس بثقل الدنيا على خطواته ، وبأسى العالم يفترس قلبه ، وبالخجل يعتريه من قمة رأسه ، حتى أصابع قدميه .
    واستقبله المدير هاشا باشا ، على غير ما صور له خياله وأشار إليه بالجلوس على مقعد قبالته ، رثيما ينتهي من بعض أوراق تناثرت على المكتب الفخم .. هنا وهناك ..
    وغاص أحمد في الكرسي .. مسح جوانب الحجرة الكبيرة، بنظرة تنهد بعدها بارتياح حين وجدها خالية إلا منهما ، ثم عاد سريعا إلى الإطراق .. وهو يتمنى ألاّ تفرغ شواغل الرجل قبل أن تهتدي السفينة إلى مرفأ آمن .
    دق جرس الهاتف . وكان الحديث طويلا ، شدّ انتباه أحمد، فتحولت كل ذرة في كيانه إلى أذن تنصت .. خاصة - بعد أن أدرك أن على الطرف الآخر مسئولاً كبيرا ، يناقش المدير فيما حدث في الورشة أمس ، وما نتج من خسارة كبيرة للشركة ، والمدير يعد بأنه سوف يتولى الأمر بنفسه ، لقد برزت أسلاك الهاتف البيضاء ، ساعتئذ ، كحبل المشنقة تحاول أن تلتف حول عنقه شيئا فشيئا ، وهو يتقيها بيديه ، فلا يفلح .
    وعاد المدير إلى أوراقه ، وعاد أحمد إلى إطراقه ، وراح يفكر ، ويهمس لنفسه : أأقول الصدق بما فيه من مرارة ؟ أم أخترع رواية ، علها تصلح ما أفسد الإهمال ؟ أمران أحلاهما مر .. كبريائي وسمعتي تحملاني على الصدق .. وضميري وكرامتي تصوران لي الكذب جهنما .. لكنه وبعد أن غاص في أعماق نفسه ، وبعد أن قلب الأمر على وجهيه ألف مرة .. قرر أن يلوذ بالصدق .. وليكن ما يكون .. لكن .. ماذا يقول عني المدير ؟ أيقول إنني فاقد الرجولة غير حازم في اتخاذ القرار المناسب في اللحظة المناسبة ؟ لا .. لا أظن .. إنه أب .. وسيقدر موقفي بشعور الأب .. وإذا لم يقدر .. فليسترح الضمير .. وليذهب الكبرياء المشبوه إلى الجحيم .
    عند هذا الحد من التفكير ، كان قد تنفس الصعداء .. وكان المدير قد انتهي من أوراقه .. والتفت إلى أحمد بوجه تلقى عليه الإنسانية رداء بالغ الشفافية . وبنظرة تجسدت فيها كل معاني الإشفاق والحنو .. وقال :
    ـ ما رأيك يا أخ أحمد ؟ أنا في صفك .. ماضيك في الشركة يضعني هكذا .. كذلك روابط الألفة بين رئيس يزن الرجال .. ومرءوس يحمل لقب العامل المثالي .. واستطرد:
    إن كنت مريضا تكفلنا بالعلاج ، وإن كنت مدينا أقرضناك وإن كانت لديك مشاكل من أي نوع . فالباحث الاجتماعي تحت أمرك .. أنا لازلت غير مصدق أن ما حدث .. قد حدث وأنت طبيعي .. لأني أعرفك جيدا .. فقط أصدقني القول .. أساعدك .
    وقبل أن ينطق أحمد ، دلف إلى الحجرة رجل مهيب .. هب له المدير واقفا .. وهرول ليلتقي به في منتصف الغرفة .. كانت فرصة يستجمع فيها شتات ذهنه .. بعد أن خرج المدير بصحبة الزائر الكبير .. وسبح بخياله ، اجتاز الآفاق ، قطع المسافات ، اخترق الجدران .. الكلمات ، الحركات ، السكنات ، الهمسات ، النظرات ، التوتر المخيف ، اللحظة الفاصلة بين حياة وحياة .. وتمثلت له حبيبة العمر شيطانة توشك أن تطيح بكل ما بني .. تلك التي اختارها من بين المئات ، لتكون شريكة أطول رحلة في الحياة ، لم يعبأ بالصخور التي كادت تسد عليهما الطريق .. ولا بالقوى التي حاولت أن تفرق بينهما للأبد .. كان حبهما أكبر من العالم .. وأقوى من الموت .. رحل عن بلده في سبيلها ، صارع الغربة والفقر بسلاح الإرادة في الاقتران بها ، حقق لها ما أرادت ، وحتى جمعهما عش الزوجية الجميل .. وكانت عناية الله فى صفهما .. فعوضتهما عن الفقر مالاً وفيراً .. وعن الضياع عملاً شريفا ، وعن الفرقة بيتا آمنا في ظل زوجية يرفرف عليها الحب ، ثم توجت كل هذه السعادة بولد بهي الطلعة ، حسن الصورة .
    لكم حزّ في نفسه أن تستقبل وليدهما وحيدة ، بينما هو هناك يكد ويكدح .. ويعد الأيام بالثواني ، ليعود إليها ولينعم برؤية الملاك ، الذي ما برح يتمثل صورته طوال الشهر الماضي.
    ومر العام بطيئا .. وعاد .. وكانت فرحة لا تقدر ، وهو يحتضن مولوده ، ويقبله ، ثم يعانقها كما لم يعانقها من قبل .. وكانت أروع عطلة قضاها في حياته ، بعد أن تغرب عن وطنه، لقد ذاب كلاهما في الآخر ، وقررا أن لا ينفصلا بعد ذلك . لقد منحته الحب ، كل الحب ومنحها قلبه ، عرقه ، دمه ، عمره ، كل ما يملك ، ليجئ هذا الطفل اليوم .. برباط جديد ، أقوي وأقدس ، من كل رباط سبق .. لكن .. ما أسرع ما تنقضي أيام السعادة ، فلقد مرت الرحلة خاطفة .. وراح يعد العدة ليعودا معا بطفلهما إلى حيث العمل وحياة العمل الحية .
    غير أن الربيع وهو يهب الطبيعة أجمل الحلل ويعطرها بأطيب الشذى .. إذ بالجو ينقلب فجأة .. وإذ بالدنيا تبرق وترعد .. وإذ بالحياة الآمنة تتحول إلى جحيم .. فقد أصرت الزوجة في اللحظة الحرجة على البقاء بطفلها - كما هي ـ بحجة أنها لا تطيق العيش في الصحراء غريبة عن الأهل ، بعيدة عن الوطن .
    حاول أحمد ليلتها أن يثنيها عن عزمها فلم يستطع ، وأن يغريها فلم يفلح ، صور لها اهتمام الدولة بالعاملين هناك ، وما توفره الشركة لأبنائها من وسائل الراحة والمتعة والترفيه .. صور لها النادي والملاعب وأحواض السباحة ، صور لها دار الحضانة والمستشفى الكيبر ، صور لها الحياة الناعمة التي تحياها الزوجات وروابط الحب التي تربط الجميع هناك .. صور لها كل شئ ، وشرح لها كل شئ ، لكنه كان كمن يصرخ في واد .
    وكانت صدمة قاسية حين ركبت الزوجة رأسها .. وخيرته بين البقاء بطفلها على أرض الوطن ، وبين الانفصال وكاد يصعق ، ونظر إليها نظرة أسد جريح وقع في الشباك .. ثم نظر إلى طفله البرئ .. وقد لاحت على وجهه ابتسامة ملائكية ، فعدل عن اقتراف أبغض الحلال عند الله .
    وعاد أحمد بعد ذلك .. بنفسية محطمة ، وبقلب أدماه النكران ، تاركا للزوجة حرية اتخاذ القرار الأخير في مدى شهر على الأكثر .
    وانتقلت حمى الاضطراب الداخلي في أعماقه إلى عمله ، فتتابعت الأخطاء ، وفكر في الانقطاع عن العمل ريثما تستقر سفينته على مرفأ آمن ، لكنه خجل من هذا الخاطر ، بعد عودته من عطلته السنوية ، وكان عزاؤه الوحيد أن ما يقع فيه من أخطاء من البساطة بمكان ، بل إنها صغائر في المهنة يمكن تداركها .. حتى كان الأمس .. آخر يوم في شهر الصراع ، وهو يؤدي عمله بطريقة آلية ، وقد نسى في فترة التمزق، أن معظم النار من مستصغر الشرر. إذ بالمخرطة التي يعمل عليها تصاب بالشلل التام ، بعد أن فسدت بعض الأجزاء الهامة فيها ، نتيجة للإهمال وعدم الصيانة ، وأسقط في يد أحمد .. بعد أن عجز عن العمل تمامًا .
    وانتشلته من الحيرة خطوات تقترب ، فأنصت .. وأنعم النظر، وإذ بعامل البريد يقبل عليه ، ويمد يده برسالة .. يتناولها أحمد .. الغلاف يقطع بأنها منها ـ هي ـ ويفضها على عجل .. ويلتهم سطورها بنهم .. وهو يدعو الله أن لا تكون حداً فاصلاً بين حياة وحياة .. وتنسيه لهفته على معرفة قرار زوجته، كل شئ حوله .. فلم يحس بالمدير إلاّ وهو يهم بالجلوس خلف المكتب الكبير ، ويعتريه خجل شديد ويوشك أن يطوي الرسالة معتذراً .. لولا نظرة الرجل الحانية التي شجعته على الاستمرار في القراءة .
    ويأتي أحمد على السطور المتبقية في لحظات .. ويلتفت .. كان المدير ينتظر جوابًا .. وتتأرجح نظرات أحمد بين الرسالة في يده ، ووجه المدير الذي ينضح شفافية . وينطق :
    ـ سيادة المدير .. رغم أن الأمر شخصي وعائلي .. إلاّ أني - وقد عرفتك أبًا رحيمًا ـ فوق أنك تدير العمل بحزم وعدالة فإني أقدم الرد الذي لا شبهة فيه ، واثقاً من أنك ستقدر ظروفي ، وتصفح عن هذا الخطأ ، وتشفع لي عند المسئول الأعلى .
    ـ لقد طلبت الصدق .. ووعدت بالمساعدة ، وها هو ردي يشهد الله على صدقه ..
    ومدّ يده بالرسالة وقرأ المدير، وقرأ .. ومع القراءة تنفرج أساريره .. ويزداد وجهه إشراقا .. ثم نظر إلى أحمد طويلاً .. وقال :
    ـ صدقني يا أحمد أن هذا كان تقديري لأمرك قبل أن ألمّ به . صحيح أن الخطأ جسيم ، لكنه ما دام يأتي عارضًا في حياتنا فإنه يغتفر .. ليس هذا بالنسبة للأفراد فحسب .. بل وأيضا بالنسبة للهيئات والشركات والمؤسسات ..
    واستطرد :
    ـ ليكن ما حدث لك .. وما انعكس بدوره على الشركة .. كبوة جواد .. نرجو أن لا تتكرر .
    وهمّ أحمد أن يشكر المدير ، على حسن تقديره للموقف وعلى إنصافه الفياض في وقت عزّ فيه المنصف .. لكن الكلمات ماتت في حلقه ، بينما انحدرت دمعة من مآقيه كانت أبلغ من كل كلام .
    ومن خلال دموع الفرحة ـ وهو يعود للورشة ـ كان يحتضن الرسالة حينا ، ويعيد قراءتها حينا آخر .. ويتوقف طويلا عند هذه السطور :
    " زوجي أحمد ، أسفي يجل عن الوصف ، وثقتي من صفحك تخفف ألمي .. انتظرني آخر الأسبوع .. سأحضر إليك ومعي ولدنا المشتاق لأبيه .. ولن يفصلنا زمان أو مكان بعد الآن .. ثم .. أرجو أن لا يكون ما حدث قد انعكس على عملك الذي أعرف مدى غرامك به وتقديرك له . واسلم لنا يا أحب الناس .
    زوجتك ".
    .........................
    * كتبت عام 1970م

  5. #5
    (4) سوء فهم

    قصة قصيرة، بقلم: يس الفيل
    ...................................

    أهى الأقدار .. أم العمل .. أم أنها زحمة الحياة .. هي التى جمعت هذا الخليط من البشر تحت سقف واحد ، ليعاني من المتناقضات ؟
    سؤال عاش فى داخلى واستقر فى أعماقى شهورًا طويلة .. قبل أن يصنع القدر هذه النهاية التى تفوق تصور الإنسان .
    كنا نحن الثلاثة موظفين .. حمدي أصغرنا .. خجول ، هادئ على الدوام ، وتظنه لا يعرف شيئا بالمرة ، لكنه يتفوق علينا جميعا فى إدارة الأمور وفى الطهي .. ومحمود .. أكبرنا .. نشيط ، وثائر، ومرح باستمرار .. تحسبه عالمًا ، لكنه فقط يجيد تزويق الألفاظ واستعارة الكتب واقتناء المجلات ، غير أنه كان كمن يلبس قناعًا يخفى تحته أشياء وأشياء .
    كانت ظروف العمل والسكن تحتم علينا أن نخرج سويا ونعود سويا حتى ذلك اليوم .. فقد وصل إلى محمود خطاب من أبيه يخبره فيه بعزمه على الحضور .. لأسباب أهمها : التعرف على أبناء خالته التى انتقلت إلى هذه المدينة منذ أعوام خلت .. ثم ما لبثت أن رحلت عن الدنيا دون أن نزورها أنا ووالدتك أو نعرف عنوانها . عدت أنا وحمدي إلى السكن لنعده الإعداد الذى يجب ، بينما ذهب محمود لمقابلة والده .
    لم نكد نبدأ حتى سمعنا طرقات عنيفة على الباب ، وما كاد حمدي يفتح ، حتى رأيته يرتعد ، وأنصتُ .. فإذا برجل أجش الصوت يسأل عن محمود عبد السلام ، وحمدي يجيبه فى رعب بأنه غير موجود .. ودفعني الفضول إلى اللحاق به .. لكني تسمرت بدورى فى مكاني . فلم يكد بصرى يقع على السائل ، حتى سرت الرعشة فى بدني .. فقد رأيت جثة قوية فى ثياب رجل ، له شارب ضخم .. ونظرات تقطر حقدا ووعيداً ، وعليه ثياب ملوثة بالدماء ، يرتسم فوقها بوضوح صورة سكين طويلة تحتها .. وما كاد يراني حتى ابتدرني :
    ـ فين محمود عبد السلام ؟
    وبحثت عن صوتي فلم أجده .. جف حلقى .. وتوقف لساني .. فلم يسعفني بجواب .. لكني وبعد جهد .. استجمعت قواي وقلت فى عصبية .. محاولا تمثيل دور المستنكر : هذا يوم المفاجآت .. يلزم خدمة ياأخي ؟ .. ويبدو أن الرجل كان يعرفه جيدًا .. إذ أنه اقتنع سريعا .. غير أن هذا لم يخفف من الحدة التى تملكته ، ولا من العصبية التى ظهرت جلية فى صوته وتوتر أعصابه ، بل راح يهز البيت بصياحه ، ويملؤه بسبابه ولعناته .. ثم ما لبث أن أخرج ورقة صغيرة من طيات ثيابه وألقى بها على الأرض فى حنق .. وهو يلوح بيده متوعدًا .
    ـ نهار أبوه أسود لما أشوفه .
    وانصرف كثور طعنته بسكين دون أن تصيب منه مقتلا .. والتقطت الورقة ، ولساني يلهج بالحمد ، ويطلق " بسم الله الرحمن الرحيم " دون وعي .. وأنا أتصور أنه ألقى بالجواب الشافى على الأرض دفعة واحدة . لكني لم أكد ألتهم الورقة بعيني حتى أصبت بدوار . إذ لم تكن غير إيصال من مكتبة .. به اسم المستعير محمود عبد السلام واسم الكتاب والرمز والتاريخ .. وما إلى ذلك .
    وازداد الأمر غموضًا .. وانتشر ضباب كثيف حجب الرؤية عن عيني . واستنجدت بحمدي .. فلم يجب بأكثر من مطة من شفتيه ، وعلامة استفهام غامضة على وجه دبت الصفرة فيه ، ولم تزدني القراءة المتعاقبة للورقة .. إلا حيرة على حيرة .. وتلاحقت الاستفسارات من كل جارحة فيّ .. وتمنيت أن يحضر محمود الآن .. فقد يكون فى الأمر سرًا أكبر .. وحتى نتهيأ للهلاك المحدق بنا جميعا .. وقبل أن تتسع دائرة المفاجأت .. وكان .. فلم تكد تمر ثوان ، حتى طرق الباب .. إنه هو بصخبه وضجيجه وضحكاته العالية ، وعلى شفتيه بقايا أغنية .. وفي عينيه بريق سعادة .
    ـ نهار أبوك أسود ..
    خرجت مني دون وعي .. لم أسأل عن والده ، من فرط هلعي .. لكنه استمر في غنائه " ختم الصبر بعدنا بالتلاقي " ..
    ـ يا أخي .. أأنت سكران ؟ فتحّ .. نهارك أسود .. شوف المصيبة ..
    ولم يكد يلمح الايصال بيدي .. حتى قطب حاجبيه ، وضيق ما بينهما وكسا وجهه ببعض الزهو المشوب بالارتباك .. وراح يسألني في استعلاء :
    ـ ما هذا يا أستاذ ؟ ولٍمَ تدخل غرفتي وتبعثر أوراقي ؟ ومَنْ سمح لك بالتجسس علىّ؟.. ولم يتم .. فقد طرق الباب طارق .. وتوقعنا الموت .. ماذا نفعل ؟ إنه هلاك لنا جميعا .. ولست أدري كيف واتتني القوة التي دفعت بها محمود إلى أقصى حجرة في الشقة دون إجابة على تساؤله .وفتحنا الباب .. كانت مفاجأة جديدة .. والد محمود يدخل وخلفه صبى يحمل الزوادة .. ويبدو أن الرجل قرأ الدهشة في نظراتنا والحيرة في حركاتنا فقال متندرًا :
    ـ أنتم عندكم ضيوف واللا إيه ؟
    ولم يكن بريئا في تساؤله .. فلقد بدا على وجهه أكثر من سؤال وأكثر من معنى .
    خرج محمود من مخبئه .. لفنا حرج متزايد .. ماذا نصنع لو تمت المفاجأة .. وحضر الموت بسكينه الآن ؟ لكن شيئا من الشجاعة قد لفنا بحضور عمي الشيخ محمود .. فهو على الأقل سيتحمل عنا وزر ما ارتكبه ولده .. وانفتحت في رأسى أكثر من جبهة للتفكير .. بينما كان الرجل يفتح الزوادة .. أرز ، جوافة ، سمك ، سمنة ، جبن ، فطير ، بيض كان كالحاوي يستطيع أن يرضي كافة المتفرجين النهمين .
    ودق الباب من جديد .. لقد أتى .. وانتفض محمود بذعر وارتبكنا وكل منا يستحث زميله بنظرة استغاثة .. كي يفتح الباب .. وعاد الطارق يدق .. يدق بعنف .. وهب حمدي ولست أدري كيف تغلب على هذا الثور الهائج ، فاقتاده إلى غرفته .. بينما صياحه يهز البيت ، ولعناته تصم الآذان وحمدي يضرع إليه أن لا يفضحنا .. فعندنا ضيوف ولا داعي لكل ذلك .. لكن سيل شتائمه لم توقفه ضراعة حمدي :
    ـ عيال فاسدة .. قلة أدب .. والله نهار أبوه أسود بس لما نشوف المعلون ابن الملعون .
    وكشف لنا سبابه عن عدم تأكده من محمود ، يبنما طعن هذا السباب ضيفنا ، فانسحب من بيننا بهدوء .. ولم يكد يراه ذلك الثائر حتى سرى الهدوء في صياحه .. ولم تصل إلينا أسئلته إلاّ كالهمس ، مما جعلنا نسترق السمع .
    ونظر إلى الشيخ محمود وقال :
    ـ شوف يا عم الشيخ .. لما يكون لك بيت .. وأنت عايش في حالك ..وجالك واحد يخطي على بيتك .. تعمل فيه إيه ؟
    ـ أأدبه ..
    ـ طيب ولك عرض بتصونه بعينيك .. وأحب واحد يلطخ عرضك ويدوسه تحت رجليه .. تعمل فيه إيه ؟
    ـ برضه أأدبه .. وأربيه .
    ـ قول للفاسد ابن الفاسد .. والله نهاره أسود ، نهاره ماهو فايت .. السجن كوم .. وذبحه كوم تاني ..
    وأردت أن يهرب محمود .. لكنه أبى .. وبان الغضب في نظراته وانقلب في الحال إنسانا آخر ، تقلصت عضلات وجهه .. واندفع كالمجنون نحو الغرفة ، لكني تصديت له بنظرة .. كلها قسوة ورجاء واستفسار .. لكنه كان كالبركان الذي فتح له الزلزال بابا .. ثار محمود .. وراح يقول في عصبية حينا ، وحينا في ألم :
    ـ اسمع يا سيدي : لست خائفا والله على نفسي .. ولكني خائف عليها ، أخاف أن يقتلها ذلك الجزار .. ولئن قتلها دون أن يقتلني .. فسوف أنتحر .. إني أحبها .. دعني أقول له ذلك ..
    وهب واقفا .. وجذبته بقوة صائحا فيه :
    ـ اهدأ ..من هي ؟ ربما يفرجها الله ..
    هدأ قليلا .. وانطلق فى الحديث بتأوه:
    ـ آه .. حنان يا أخي .. أخت هذا المحسن .. كانت حجرتي في مسكني السابق تطل على بيتهم .. جميلة جدا .. وإنسانة .. وأنا لست أتصور أن هذا السفاح أخوها .. أحببتها .. وقدستها .. كنت كالمجنون في حبها .. وكانت غريبة الأطوار .. في تجاوبها .. فإذا حدث والتقينا .. واطمأنت إلى عدم وجود أحد .. ابتسمت ابتسامة خفيفة ، أما فيما عدا ذلك فلا ابتسامة ، ولا حتى نصف ابتسامة ، وقد دفعني ذلك الغموض إلى التهور في حبها .. طلبت منها كثيرا أن نتقابل .. لكني كنت كمن يطلب الحياة لمن في القبور .. كم ضاعت إشاراتي .. وكم ذهبت همساتي سدى . وكم تألمت دون أن ترحم أنيني .. كل هذا وأنا لا أجرؤ على الاقتراب منها .. حتى أوشكت على الانهيار .. لكن الأمل وقوة حبي كانا أكبر من كل يأس .. إلى أن شاءت الظروف والتقيت بها فجأة في الإسكندرية .. وتكلمت معها بتحفظ شديد .. كنت أخشى أن ينقطع خيط الأمل الواهي الذي أتعلق به . لكني عرفت عنها الكثير .. حتى كدت أنكر أنها بنت الجيران الغامضة ، وكانت مفاجأة أن أعلم أنها تحبني بنفس الدرجة وأكدت لي عيناها البريئتان وشفتاها المحمومتان صدق عواطفها غير أني ما كدت أراها في اليوم التالى وهي تشيح بوجهها عني حتى كدت أسقط من النافذة .
    لقد تصورت أنى وضعت بالأمس أقوى أساس في صرح حبي .. لكني اكتشفت على الفور أني أبني قصورا على الرمال .. غير أني تحاملت على نفسي وعشت في صراع طويل إلى أن فاض بي الكيل .. فسافرت هذه المرة للإسكندرية متعمدًا .. وفي نفس المكان السابق كنت أقسو عليها في العتاب ، لكن دمعة طفرت من مقليتها جعلتني أقف مشدوها ، مضطربا .. وهي تطلق زفرة حارة ، خلت أن صدرها قد انشق وسقط منه قلبها ، وحاولت أن أكفر عما أثرته في نفسها من كوامن ومن أسى دفين .. لكن الدموع كانت أسبق مني .. فسالت على خدها حارة .. بينما هي تقول :
    ـ أنت لا تتصور مدى ألمي .. أنا كالمريضة المحرومة .. حتى من الأنين .. واستطردت في أسى :
    ـ أنتَ لا تعرف أخي ..
    وانزعجتُ .. سألتها بلهفة ..
    ـ وهل عرف ؟
    ـ أبداً .. وهل كنت تراني لو أنه عرف .. مصيبة .. هذه تجربة مرت بها أختي الكبرى .. فلقد أحبت شابًا كان يقطن نفس الغرفة التي تسكنها ، وصرحت لزوجة أخي بذلك الحب ، وكانت تحقد على أختي .. فدست لها عند زوجها .. أخي .. وكانت النتيجة أن رماها من النافذة، بعد أن قيدها أسبوعا ، وادعى أنها هي التي انتحرت .. وأرغمني على تصديقه ، ليفرض القصاص وهكذا تراه .. مجرمًا بطبعه .. وكأنه كان يعرف أنه سيأتي يوم تسكن فيه أنت هذه الحجرة وأحبك .. فأقسم لى مقدمًا أنه سوف يذبحني .. لو حدث .. ومن يومها وأنا أدعو الله أن يجنبني ما أخطأت فيه أختي .. لكن يظهر أني أسير نحو النهاية .. من يدري .. قد يفعل بي ما فعل بها . ويرغم زوجته على تصديقه . وتأوهت في مرارة .. وهنا أوقعتني في حيرة .. فلم أستطع أن أسمع أكثر من ذلك .. وأقسمت عليها أن لا تكمل .. وقررت أن أنساها .. لتحيا . وكان أقسى قرار في حياتي .. أن أترك هذا المسكن .. وها أنذا معكم.. أحاول أن أنسى فأضحك وأغرق نفسي في الضحك .. لكنه ضحك كالبكاء .
    ـ وبعدين ؟
    ـ من ستة شهور لم أرها
    ـ غريبة .. تبقى القصة كذب في كذب .. هذا الإيصال من أسبوع واحد .. اقرأ التاريخ .
    وقرأ الإيصال .. وخبط جبهته براحته .. ثم شرد ببصره وحملق طويلا في فضاء الصالة .. وبرزت عيناه من محجريهما وهو يغيب في رحلة طويلة ، وكأنه يغوص في أعماق المجهول .. فقد تفصد جبينه عرقا ، وبان جليا أثر الصراع على وجهه .. ولم يلبث أن قال :
    ـ تصور .. لقد تذكرت .. إنني نسيت هذا الإيصال داخل الكتاب الذى أعدته للمكتبة منذ أسبوع .. ويبدو أنها استعارته .. الميول متشابهة .. ويخيل إليّ أنها وجدت الإيصال بداخله واحتفظت به .. ربما عثرت عليه زوجة أخيها .. وهنا المأساة التي لن تنجو منها .. آه .. ليتني أموت لتحيا .. فهي مظلومة .. وليت زوجة أخيها ما عرفت اسمي ولا شكلي ..
    واستولى عليه جنون جعله يهذي ..
    ـ ليتني أموت ..ليتني أموت .. دعني أقول له ذلك ..
    واندفع كالمجنون نحو الغرفة والشرر يتطاير من عينيه وأمسكت به وأنا أهمس ..
    ـ انتظر .. انتظر ..
    فقد كان الحديث في الغرفة المجاورة مسموعا .. وأنصتنا :
    ـ والحكاية دي .. يا ابني .. أنا سمعتها من خالتك قبل ما تموت . وطبعا بعدما ماتت والدتك الله يرحمها .. يعني يا محسن أنت ومحمود أولاد خالة .. المهم إننا لابد نتعزم الليلة عند حنان .. كان هذا صوت والد محمود .. ويرد محسن :
    ـ يا سلام يا عمي .. هذا يوم المني .. حنان أخت محمود ، ومحمود أخويا وهي خادمة له ..
    وهنا يندفع محمود ليعانق محسن عناقا حارا ، وهو يهذي ..
    ـ المهم نشوف حنان .. وتعشينا بإيديها .. من يصدق يا ناس إن حنان تبقى بنت خالتي .. صحيح البعد جفا .
    وفي المساء .. رأيت حنان .. وهي تسلم علينا .. كانت تستحق أن يموت في سبيلها محمود .. لكنه لم يمت .. ولم تمت هي .. فلقد كانت أقرب الناس إليه .. وكان هو أحق الناس بها.
    لم نخرج ليلتها إلا بعد أن قدمنا لهما تهانينا على الخطوبة بعد أن تأكدنا أن محسن بإنسانيته سوف يقدمها - جاهزة - هدية لابن خالته محمود .
    ..........................
    *كتبت عام1971م.

  6. #6
    (5) الوســــام

    قصة قصيرة، بقلم: يس الفيل
    ...................................

    من أعز أمانيه ما وصل إليه .. ورغم ذلك .. فقد تسلط عليه إحساس غريب وانتابته مشاعر متباينة .. وطرق به التفكير أبوابًا شتّى قبل أن يصل إلى قرار .
    عشرات المرات يركب نفس القطار .. وعشرات المرات يعود بعد غياب .. لكنه هذه المرة يقع نهبًا لإحساس مبهم ، وتستبد به حيرة طاغية ..
    تحسس الوسام من جديد .. للمرة المائة يفعل ذلك .. وفي كل مرة يتملكه شئ من الزهو ، لا يلبث أن يزول تحت وطأة الصراخ الناشب في أعماقه .
    القطار يسرع الخطى .. عجلاته على القضبان تحدث إيقاعًا منتظمًا .. بينما فكره يتعثر ، يتلكأ ، يقف هنا تارة وهناك تارة .. دون إرادة .. مرة أخرى يتحسس الوسام في محاولة للوصول إلى نهاية ..
    عاد حمدي إلى نقطة البدء .. كان قد ناقش هذه النقطة ، وخرج من المناقشة بين مقتنع ومتشكك .. تلاحقت الأسئلة والأجوبة على شفتيه من جديد .
    هو أحق به مني .. لماذا ؟ .. لأنه يحارب العمر كله .. سيعارض .. لا .. إنه يحبني .. أنا أدرى به .. إنه طيب .. سأحاول .. وسوف يقتنع ..
    صحيح .. أنا الذي حارب وانتصر .. واستحق الوسام ..صحيح أن الحرب كانت قاسية وضارية وعنيفة .. أيام ستة .. كانت الحجر الضخم الذي ألقي في الماء الراكد لتتسع الموجات حتى تعم الدنيا .. أيام .. لم تزل كل ثانية فيها محفورة على الضلوع وفي حبات العيون .. غيرت المفاهيم وقلبت الأوضاع .. لم تكن الحرب خلالها هينة .. ولم تكن نزهة خريفية على رمال الشاطئ .. كل ساعة فيها أشبه بيوم الحشر .. وكل خطوة فيها تمثل خطوة على الصراط .. لكن العبرة بالنتيجة والحمد لله .. الحمد لله عاودته الطمأنينة .. تنهد بعد ارتياح .
    احتكت العجلات بالقضبان إيذانا بتوقف القطار .. أطل من النافذة .. كان محتاجا إلى الوحدة ليواصل الرحلة في هدوء ، عله يصل إلى قرار .
    من جديد .. تحرك القطار .. يقطع المحطة الأخيرة في سرعة ، لم تبق سوى دقائق . يا لها من رحلة ما كان يجب أن أفسدها بهذا الصراع .
    لاحت لعينه بارقة أمل .. أوشك القطار أن يتوقف .. تحسس الوسام .. تنهد هذه المرة بارتياح .. فكر بصوت مسموع .
    يرفض .. طبعاً يرفض !! لماذا ؟ لأنك لست على حق ..
    أنا اعترف أمام الجميع أنني ورفاقي حاربنا حربا فوق طاقة البشر .. كانت الحياة أرخص من أن نفكر فيها .. رأينا الموت في كل ساعة وفي كل ثانية ، لكني لم أمت .. فقط قتلت من أراد قتلي .. ستة أيام من العمر الطويل .. انتصرت بعدها .. واليوم أعود بعد أن نلت من التقدير ما أريد وأكثر .
    لكنه – والدي – يحارب منذ أن بدأ رحلة الحياة .. ستون عاما وهو يحارب أعداء الإنسانية مجتمعين .. القراريط التي ورثها عن أبيه لم تكن تكفي طعامنا .. غير أنه كافح وناضل .. لم يترك عملاً عرض عليه في ليل أو نهار – نظير أجر – إلاّ وعمله .. كان يقول لي دائما :
    ـ العمل شرف .. والأجر على العرق .. حلال .. يبارك فيه ربنا ..
    لم يتملق .. لكنه علمني .. جاع ليطعمني .. تعرى ليوفر لي ثيابا تليق بشاب يتعلم بالجامعة .. هده المرض دون أن يذهب إلى طبيب .. في الوقت الذي كان يحملني على كتفه إلى مستشفى المركز إن ارتفعت درجة حرارتي – ستون عاما مشى فيها على الشوك وتقلب على الحراب .. لم ييأس ، لم يهزمه الفقر ولا الجهل ولا المرض .. حاربهم جميعا وانتصر عليهم في أنا .. حرب هذا العمر لم يقدّره عليها أحد .. لم يُمنح من أجلها وسام .. ولا لقى تكريما .. مجرد تكريم .. وكأنه يعيش خارج الزمن والأشياء .
    أفلا يستحق على كفاحه الطويل وحربه الطاحنة .. هذا الوسام ؟ وإذا جاز لغيري أن ينساه .. فكيف أبرر نسياني له ؟؟ وهو أصل وجودي وصاحب العطاء الدائم .. لا .. لا .. قالها وهو يلوح بيده في الهواء كمن وصل إلى قرار نهائي في قضية طالت .
    بدأت عجلات القطار تحتك بالقضبان معطية إشارة البدء في النزول .. انتصب واقفًا .. ما كاد يلوح في باب العربة .. حتى تخطفته الأيدي .. أذهلته المفاجأة التي لم يكن يتوقعها ، والتي لم يتهيأ لها نفسيا .. لم يقاوم ، القشة جرفها التيار .. امتثلت للإرادة الأقوي .
    حملوه على الأكتاف ، أهل قريته الطيبين يرددون : أهلا يا بطلنا أهلاً .. والأولاد .. يتمايلون على النغم الهادر من أفواه الرجال .. وفي أيديهم المرتفعة .. يتعانق سعف النخيل .. بفروع الصفصاف ..
    أمر واحد أقلقه طوال المسيرة .. والده لم يكن بين من استقبلوه توجس شرًا .. خشي أن يكون المرض القديم قد عاوده وتمكن منه .. همّ أن يسأل .. خاف النتيجة .. طوى أعماقه على الألم واستسلم .
    منذ أن شاع نبأ تسليم الأوسمة على أبطال العبور .. وأهل القرية يتجمعون حول الراديو .. حتى من ذهب منهم إلى الحقل .. حملوا أجهزة الترانزستور مع الأكل والشاي .
    كانوا يعرفون أن قريتهم ستكرم في شخص حمدي سنوسي .. البطل الذي أنجبته .. والذي خاض معارك السادس من أكتوبر .. بشجاعة وكانوا في شوق لأن يقطعوا الشك باليقين ، فقد تباينت في شجاعته الأقوال ، واختلفت في بطولته الروايات .
    فمن قائل .. إنه أحد الرجال الذين دمروا اللواء (190) الإسرائيلي في اليوم الرابع للمعركة .. حينما كمنوا في خنادقهم واللواء المغرور يتقدم في ساعات الفجر الأولى .. لم يتعاملوا معه .. حتى صار بكامل عتاده .. في مرمي النيران المؤثر .. عند ذلك .. فتحوا عليه أبواب الجحيم .. ولم تكد تشرق شمس التاسع من أكتوبر حتى كانت دباباته ومدرعاته قد تحولت إلى حطام واستسلم قائده ومعه المئات من جنوده .. وأنه لولا ستر الله .. وثقة حمدي بنفسه ورباطة جأشه .. لاستشهد بدلا من إصابته التي نقل بسببها إلى المستشفى .
    ومن قائل إنه استطاع أن يتصدى لتشكيل من دبابات العدو .. وأن يدمر عشرًا منه بالآر بي جي .. وأنه خرج من هذه المعركة مصابًا ، بعد أن قصفه العدو بإحدى طائراته التي ألقت عليه حمولة كاملة من القنابل ، وأنه لولا سرعته في الحركة والمناورة لما نجا من الهلاك .
    عشرات القصص والحكايات التي سرت في القرى مسرى النار في الهشيم ، والتي اتفقت في المعنى واختلفت في التفاصيل ، حولت الدار – والنهار لم يكد ينتصف – إلى خلية نحل . الأصدقاء ، المعارف ، الأقارب ، حتى من كانوا أعداء توافدوا عليها .. شخصيات مختلفة المراكز والميول .. من العمدة ونازل حتى الخفير .. الجار .. الحلاق .. المدرس ، الجميع توافدوا يعرضون خدماتهم .. وسنوسي يرد باستمرار : الحمد لله .. مستورة شايلينكم للشدة .. الحمد لله .. الحمد لله .. يا رجاله .
    وما إن بدأ الراديو ينقل الحفل على الهواء .. حتى راح الجميع في شوق ولهفة يتابعون الأسماء .. القلوب تنبض بالحب .. الإحساس المتوتر يوشك أن ينفجر .. الدماء الحارة تغلي في الشرايين ، الأعين على الراديو .. كل الجوارح تحولت إلى آذان تلتقط حروف الكلمات قبل أن ينقلها الجهاز العتيق .
    وتنطلق تكبيرة مدوية تهتز لعنفها حيطان الدار الطينية ، والمذيع يعلن : حمدى سنوسي الجمل .. من أبطال بدر .. وسام الشجاعة العسكرية .
    وترتفع الزغاريد على الفور .. وتتلاحق الجمل متحشرجة ، وتختلط الأصوات حارة .. وتتدافع عشرات الأصوات .. حادة مسنونة :
    ـ الله أكبر ..
    ـ تسلم إيدك يا حمدي
    ـ تعيشي يا مصر
    بينما يشق الزحام " عوضين " ساعي البريد .. والبرقية في يده ، كأنها عصا موسى التي ضرب البحر بها ، وتمتد الأيدي ، تتخطفها .. وصوت يرتفع ، اقرأ يا باشمهندس .. يعقبه صوت أكثر حدة : ناول البرقية للعمدة يا كمال .. وللحظات .. يبسط الهدوء جناحه على الحاضرين .. ويسود المكان صمت حاد .. وتتوقف الأنفاس في الصدور :
    ـ أنا بخير .. سأحضر اليوم .. بعد الحفل .. في قطار الخامسة .. حمدي .
    لم يكد العمدة ينتهي من القراءة حتى أغمي على سنوسي .. ساد هرج : صبوا الماء على وجهه .. لم يلبث أن أفاق .. حاول أن ينهض .. اعترضه الجميع .. حاول أن يذهب إلى المحطة .. أقسم له العمدة برأس أبيه أن لا يخرج .. وسيذهب هو نيابة عنه .. ومعه كل من يرغب من الرجال وسيحملون حمدي على الرؤوس إلى هنا .. واعمل لي خاطر .. ويد تربت على كتف سنوسي .. وفم يقبل رأسه .. وشيخ وقور إلى جانبه يتشبث به ، مؤكدًا أنه سوف يظل معه .. حتى يعود العمدة وباقي الرجال بحمدي .. من المحطة إلى هنا .
    امتزجت دموع الأب والابن في قبلة .. كان العناق حارا ومتصلا .. نسي حمدي بين أحضان أيبه متاعب الحرب .. مسحت اليد النحيلة دخان القنابل .. غسلت مساحات العرق التي امتدت على الجسد النامي .. لَمْ يدرٍ – حمدي – لِمَ أطلت من العالم الآخر صورة أمه في هذه اللحظات .. سالت دمعة أخرى على خده .. هدهدت كلمات الأب مشاعر البطل العائد .. أنصت حمدي إلى أبيه طويلا .. بين الحين والحين كان يهم بأن يتخفف من حمله . كان يود أن يزيح عن كاهله عبئًا ما يزال يجثم على صدره منذ الظهيرة .. لم يدع له الأب فرصة .. استرسل .. واسترسل .. صبر حمدي على مضض .. نشب صراع حاد في أعماقه .. داخله شك فيما يقول . لم يصدق أن القرية التي تركها نهبًا للانقسامات .. ومرتعًا للكسل .. تتحول في هذا المدى القصير إلى النقيض .. لم يصدق أن عليوة يحرث قطعة الأرض .. وسطوحي يحصد الأرز .. وعبد العال – العدو اللدود – يصر على ري البرسيم بالليل نيابة عن أبيه .. لم يصدق أن مدني المرابي يلح في أن يقبل أبيه عشرين جنيها أو حتى عشرة .. سلفة .. يردهم .. متى شاء .. لم يصدق أن العشرات من نساء القرية ، كن يتنافسن على التبرع بالدم ، بقدر تنافس الطالبات على خدمة الجرحى .. في مستشفى المحافظة .. لم يصدق أنه لم تقع سرقة .. ولم تتعرض زراعة للتلف .. ولم تحرق دار واحدة في القرية أثناء المعركة .
    لم يصدق كل هذا .. ولم يصدق أن روحا جديدة .. قد دبت في القرية .. فتغيرت وغيرت الناس فيها منذ بدأ القتال .. ومنذ تواترت الأنباء عن تضحيات المقاتلين وفدائيتهم .. لم يصدق أن دارهم قد تحولت إلى كعبة .. منذ اندلعت الشرارة .. وحتى هذا الصباح .. بعد أن كانت كمًّا مهملا .. وأنها طوال المائة يوم .. لم تكد تخلو من شاب يسأل .. أو موسر يود تقديم مساعدة أو فلاح يعرض خدماته .
    كان ينصت وهو شارد .. همّ أكثر من مرة أن يقاطع أباه .. لم يستطع .. ارتسمت الدهشة على وجهه مرارًا .. ونبرات أبيه ترن في أذنه مؤكدة ما يقول .. كانت صور القرى الفرنسية والروسية التي قرأ عنها أثناء الحرب .. والتي رآها في الأفلام .. تتراءى لعينيه .. كان أباه يصفها .. استكثر على قريته ما فعلت .. لكنه عاد وتذكر .. تذكر لقاء الناس له ، وحفاوتهم به ، وتكريمهم إياه .. تذكر الاستقبال الرائع الذي استقبلوه به ، والذي فاق استقبال المحافظ عندما زار القرية منذ عامين .. فلم يستكثرعلى أهل قريته الطيبين ما فعلوا .. وإنما راح يؤكد لأبيه : أن ما حدث في العاشر من رمضان كان بعثا جديدًا .. بفضله هو .. وبفضل الملايين من أمثاله .. وأنه يستحق تقدير القرية .. وتقدير العالم .. وهمّ أن يعلن عن مكنونات قلبه .. لكن والده استأنف الحديث :
    ـ تصور – يا حمدي – الناس هنا كانت في المعركة .. كل واحد أدى ما عليه حتى المدرسين .. يا سلام يا مصر .. بكره تشوفها .. فوق راس غيطنا .. مصر هناك .. كبيرة .. حلوة .. راسهاعالية .. اليهود تحت رجليها .. يا سلام لما نور الشمس يهل عليها .. الصبح .. تبقى جنان .. ياه ..
    ولم يمهله حمدي أكثر من ذلك .. كان يريد أن يتخلص مما يعاني .. تكلم في نبرة رقيقة .. لا تخلو من توتر :
    ـ البلد بلدنا ، والمصير مصيرنا ، والمستقبل مستقبلنا .. مصر عمرها ستة آلاف سنة .. من ستة آلاف سنة وهي تحارب .. لم تنهزم .. مصر تستحق الكثير .. وأنت تستحق الكثير .. تستحق التكريم .. تستحق .. تستحق .. تستحق هذا الوسام ..
    ومد يده .. كان الوسام الذهبي يلمع فوق راحته .. فغر الأب فاه في دهشة .. ظن بولده الظنون .. أدام النظر إليه .. توقفت عيناه في محجريهما .. أرسلت بريقا مخيفا .. خرجت الكلمات من فم حمدي مرتعدة :
    ـ اتفضل .. تردد الأب .. أصر الابن .. تكرر الرفض .. تكرر العرض والرفض .. حسم حمدي الموقف حينما نهض يرتدي حلته العسكرية إيذانا بالسفر .. لم يطق الأب .. رضخ على أمل .. مد يدا مرتعشة .. تناول الوسام .
    كان الليل قد انتصف .. حمدي سيعود إلى وحدته في الصباح .. انسحب الأب خارجا .. تسلل في هدوء إلى الحجرة المجاورة .. زوجته نائمة .. منذ الفجر وهي تعمل .. مرهقة .. نامت .. لم يشأ أن يوقظها .. أحست به .. همت بالقيام .. منعها .. تمدد إلى جوارها .. غطت في النوم .. لم ينم هو .. سبح في بحر من التفكير .. امتد شريط الأحداث .. تلاحقت الصور .. توقف عند المشهد الأخير .. تحسس الوسام في يده .. راح يكلم نفسه :
    ـ بيقول إنه حارب ستة أيام .. صحيح .. وأنا حاربت ستين سنة .. يعني حربي أطول .. طيب .. إنما اليوم الواحد من أيامه بألف .. لا .. لا ..
    قالها وهو يلوح بيده معترضًا .. أعاد الحسبة من جديد .. لم يصل إلى حل .. امتد شريط الأحداث .. تتابعت المشاهد .. عند المشهد الأخير .. توقف .. تحسس الوسام .. أعاد الحسبة مرة .. مرتين .. ثلاثة .. أوشكت رأسه أن تنفجر .. غرق إلى أذنيه في المشكلة .. استعاذ بالله من الشيطان .. همّ أن يوقظ الزوجة ليستعين بها .. مسكينة .. هدها التعب ..نامت .. استعان بالله ..
    ـ الله أكبر ..
    انتشله صوت المؤذن من حيرته .. انسحب خارجا .. المسجد قريب .. توضأ .. صلى الفجر .. دعا لحمدي بالسلامة .. في الطريق إلى الدار .. نفس المشهد الأخير .. أخرج الوسام .. أعاد الحسبة .. استعاذ بالله .. يا نور النبي .. خرجت من أعماقه .. لاحت بارقة أمل .. حبل النجاة بدأ يظهر .. جرى وراءه .. تعلق به .. تنهد بارتياح عميق .. فكر بصوت مسموع : "حمدي حارب ستة أيام .. وأنا حاربت ستين سنة ومصر بتحارب من ستة آلاف سنة .. تبقى مصر أحق بالوسام" .
    حاشية :
    في الصباح .. كان حمدي بقامته المرتفعة .. وعوده المستقيم .. يقطع الطريق من الدار إلى المحطة .. مارا بأبيه الذى سبقه إلى الحقل .. ما كاد يقترب من مبنى المدرسة الإعدادية ، حتى رأى تمثالا في حجم الفتاة .. شمعي اللون .. يلتف بعلم التحرير .. وقد انعكست على الوجه المستدير أشعة الشروق .. استرعي انتباهه دائرة ذهبية .. نقشها الفنان على الصدر الناهد .. أسرع الخطى .. تتابعت دقات قلبه .. اقترب .. اقترب .. اقترب .. تفرس التمثال .. أدام النظر في الدائرة الذهبية .. لم يصدق عينيه .. يا إلهي .. إنه الوسام .
    التفت إلى الوراء .. كان أبوه على مقربة منه في قطعة الأرض .. أعاد النظر إلى التمثال .. ثم إلى أبيه .. مرة .. مرتين ، ثلاثا .. ثم بعد ذلك لم يعد يرى .. فقد امتلأت عيناه بالدموع .
    .................................................. ..............
    * كتبت عام 1974م.
    * حصلت على جائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة عام 1974م.
    * نشرت بمجلة "الثقافة الجديدة" المصرية في العام نفسه.

  7. #7
    (6) وحتى لا يتساقط لحم الوجه

    قصة قصيرة، بقلم: يس الفيل
    ...................................

    (1)
    في الصف الأول .. على كرسيه جلس .. حرص على أن يكون في بؤرة الضوء. لم يفكر فيمن يجلس عن يمينه أو عن يساره .. لا يعرفه أحد هنا ..ووحيدا ألقت به المصادفة ، ودفعه حلم طمرته السنون .. إلى هذا المكان .. ليتعلق .. بخيط الأمل الواهي .
    أوشك الستار أن ينفرج .. كل ذرة في كيانه تترقب .. الصورة على باب المسرح تقرب الأمل .. الاسم تحتها يبعده ، يلقي به في متاهات من الشك والحيرة .. لكنه .. يحاول الوصول إلى قرار .
    سحب حقيبته .. وضعها على ركبتيه .. فتحها ، عبث بمحتوياتها ، تحسس الكراسة برفق .. عاوده الحلم القديم .. أخرج علبة السجائر .. من ولاعة ذهبية أشعل السيجارة الأولى .. أقبلت فتاة جميلة .. تتأبط ذراع فتى .. يبدو أنهما خطيبان .. جلسا .. الفتاة بينهما .. لم يبال .. كان هناك ما يشغله .
    الدقات التقليدية تعلن بدء العرض .. اهتز داخله .. ارتفع نبضه تيار من هواء ساخن يلفح وجهه .. للمرة الأولى يسمع لقلبه وجيبا .. يتلفت يمنة ويسرة – حركات لا إرادية – فلسفها الفتى في نظرة متعالية ابتلعها صامتا .. لم يكن يقصد!! .. وليس يعينه .
    اهتز الستار أكثر .. توتر كيانه .. احتشد .. ضوء خافت يتهادي .. صوت دافئ ينتشر في المكان ، يطرق سمعه ، يوقظ عمره :
    - أيها الحب .. يا لحن السماء على الأرض .. ضلت الناس طريقك .
    لا إراديا يلتفت – مرة أخرى – يجد من يراقبه .. الصوت لم ينقطع :
    - امنحهم سرك المقدس. افتح لهم أبواب جنتك .
    ارتد بصره .. استشعر الحرج … قرر أن لا يعاود المحاولة .. الصوت الدافئ يقترب ، قسماته تتضح :
    - خذهم إلى رحابك .. طهر قلوبهم .. واصعد بهم إلى سمائك .. أيها الحب..
    دون أن يلتفت هذه المرة .. أحس بألف عين تراقبه ، تعريه ، تكشف سره .. طفا على السطح حلمه القديم .. تصبب عرقا.. بدأ رباط عنقه يضيق حول رقبته ، يخنقه ، انتفض .. قرر أن يترك المكان .. الصالة على الآخر .. استسلم للواقع .. أشعل سيجارة أخرى .. نفث دخانها بعصبية .
    أطفئت أنوار الصالة تماما .. انفرج الستار .. ظهرت على المسرح ، بقايا صوتها الدافئ .. لا تزال :
    - أيها الحب .. أوقد شموعك في ظلمات الأرض .. واملأ النفوس ضياء .
    تألقت البطلة .. ازدهر حلمه .. تتابعت المشاهد .. جذبته بعنف .. الشك واليقين .. دائما يتصارعان .. في أعماقه ألف سؤال يثور .. ركز بصره ، مد رقبته .. من يدري .. ربما كانت هي .. لكن !! هوة سحيقة أسدلت ستارا بين الواقع والرجاء..

    (2)
    - رائعة.
    - أنت أروع .
    - والبطلة ؟
    هزت رأسها .. يشده الحوار بين الفتى والفتاة .. لا يلتفت .. يرى بأذنه .. يحس دبيب الغيرة في صوت جارته .. يلتمس لها عذرا .
    - المسرحية .. نص .. ومخرج .. وإمكانيات لا حدود لها .. ثم بعد ذلك .. بطلة.
    يهز رأسه موافقا .. يصادف حديثهما هوى في نفسه .. دون وعي . يستسلم الفتى .. يقطع الحديث عامل البوفيه .. يقترب ، يقترب بأدب .. ينحني .. يتفرس الوجوه .. يتأهب :
    - الدكتور أمل ؟
    يفاجئه السؤال .. تهرب الكلمات .. يجف الحلق .. لا يستطيع الرد .. يومئ برأسه :
    - تحت أمرك .. شاي .. كازوزة ..
    تزداد علامات الاستفهام .. تتسع .. تتكاثر الدوائر في البحيرة الراكدة . يهم بالسؤال .. يتراجع .. للحظات .. تغمره سكينة .. إحساس عارض بالرضى .. يهدهده .. يمد ساقيه ، يستند على ظهر الكرسى .. ينظر – هذه المرة - للفتى .. متعمدا .. تتلاقى العيون ، تنكسر النظرة المتعالية ، ينسحب من المعركة ، يحتمي بفتاته ، يفتعل حديثا معها .. لا زالت في الاستراحة بقية ، ينظر للفتاة .. لا يرى فيها جمالا يثيره .. تشرئب قامته .. يدرك الآن سر حقدها على البطلة .
    يعود العامل بضوضائه .. يقطع حبل التفكير .. يهم بسؤاله .. بسرعة يستبعد الفكرة .. يتذكر معاناة الليالي ، الأفكار فراشات من حوله تسبح في فراغ .. يطاردها .. يجمعها .. ينسج لها ثوبا من دمه ، يصوغها .. يعيد قراءتها ، يحذف منها .. يضيف إليها .. عذاب ، معاناة .. يستلذها ، يتناول الفنجان من العامل .. لا يسأل .. السؤال يجرح إحساسه .. يبتلع الخاطر العارض ، يئد الحلم الجميل .. يحرق خيوط الرجاء .

    (3)
    مرة ثانية ينفرج الستار .. يركز بصره بحدة .. في عين البطلة .. العين المرآة .. على أديمها يقرأ .. صفحات الماضي لا تزال واضحة .. نفس العين .. الصفاء .. الدفء .. الجاذبية .. يغرق بين تلال الموج ، يهبط للقاع .. على الأرض يقف .. تخرج حديثا .. يحمل البكالويوس .. يفتتح العيادة ، بعيدا عن أهله .. يعيش .. بحلمه العريض ، بآماله الواسعة .. يستقل ، يستقبل الحياة الجديدة ، يحترق طموحًا ، قراءة ، كتابة ، أحلامًا .. يتطلع إلى مستقبل أفضل .. لكن .. الصخور دائماعلى الطريق ، الأشواك تدمي قدميه، يحاول .. يفشل ، يكرر المحاولة ، لا يصل .. يصارع غولا .. في الأدب .. مردة يحرقون خطاه .. في الطب .. وحوش يلتهمون قدرته .. يتمنى ، يتمنى ، والأماني دائما .. سراب .. لا ييأس .. يقرأ كثيرا .. يسود عشرات القصص .. يتمرد ، يمزق ما كتب .. دائما يبحث عن شئ .. لا يمل البحث .. السمك المتوحش له بالمرصاد، يبتلع كل شئ .. حتى بني جنسه .. امتدت السنوات .. طال التجوال .. بالكاد يعيش .. الظمأ يستبد به .. القيظ رهيب .
    تعبر دنياه فجأة .. طالبة الثانوية العامة .. تحتضن حقيبتها .. جيملة .. قوام .. صدر .. عينان .. شعر .. تناسق .. سبحان الله .. تخضر الصحراء من حوله ، تورق الأشجار في وجدانه، تشغله .. يفكر فيها ، يفكر .. مع الأيام تجذبه ، يهيم بها .. يتنفس شعرا .. ونثرا .. ورسوما .. رغم ذلك .. لم يحاول أن يعترف .. ظن الاعتراف هبوطا .. الكرامة .. العمر .. البكالوريوس .. العيادة .. التطلعات .. الثراء .. الاسم المرموق .. التألق .. النجومية .. أرهقه الصراع .. قاوم ، طال سهده ، طال هيامه .. حتى واتت الفرصة التي لا تتكرر بسهولة .
    أصيل يوم قائظ .. كما تعود .. يمد يده إلى الثلاجة .. على الطريق .. بجوار الكشك .. يروي ظمأه .. يرطب حلقه ، يتناول علبة السجائر وباقى الجنيه .. يشيعه البائع بنظرة حانية ، مشفقة في هذه اللحظات .. عبرت على نفس الطريق .. تنضج شبابا وجاذبية .. يتأبى .. يتهيب .. اتسعت المسافة ، قليلا قليلا بدأت تضيق لا يدري الآن .. أأبطأت هي أم أسرع هو؟! .. لا يدري .. حاذاها .. حياها .. تعثرت الكلمات على شفتيها .. ردت دون أن ترفع إليه وجها .. ابتعدا .. أبحر على زورق الأحلام .. كل غنى مواله .. كل أفرغ جعبته المكتظة بالآمال والطموح والخيال .. أكملت الجوارح ما عجزت عنه الألسنة .. حكى لها عن آماله ، في الثراء وفي الأدب .. في الشهرة وفي النجومية .. حكت له عن حلمها الوحيد .. المحدد .. الواضح .. كانت تتكلم بثقة وإصرار .
    - أريد أن أكون ممثلة .. المسرح والسينما في دمي .. لو لم أمثل .. فسوف أموت .. السمكة لا تعيش خارج الماء .. التمثيل وبعده الموت .
    - هذا يتطلب تضحية من نوع معين .
    لذعتها الكلمة .. تأوهت .. استطردت .. بثقة أكبر :
    - سأضحي .
    جزع .. أحس وخزا في صدره .. أدركت ذلك .. استطردت :
    - سأضحي بكل ما أملك .. وقتي .. جهدي .. عرقي .. سهري .. مستقبلي .. المعهد العالي للفنون المسرحية .
    سحابة عبرت الأفق .. ظللتهما .. اقتربا ، امتزجا ، تجاوبا ، ضمهما حلم جميل .. حلم رائع .. أن تكون بطلة لإحدى مسرحياته .

    (4)
    على المسرح ، الصوت الدافئ يعود :
    - أيها الحب .. أبواب القلب تضيق .. الأوتار تتمزق ، مات الأمل .. انعدم الرجاء .. أدركني قبل أن تتلاشى خيوط الضياء .. أيها السراب الجميل .
    صوت الريح يعلو .. يصفر .. الفراغ أمامها رهيب .. الصدى يرد عليها .. الوحشة تغمرها .. ترتعد ، تنهار ، تسقط ، تحترق، تضج الصالة بالتصفيق .
    تتابع المشاهد .. يرحل بعيدًا ، يهرب ، السمك الكبير يطارده ، يرتمي على الشاطئ .. بعيدا عن الزحام .. الضغوط .. يفر من الاغتراب .. من قسوة بني جنسه .. يتوارى الحلم في الأعماق .. تطفو على السطح أحلام جديدة .. العمارة .. السيارة .. الرصيد .. تمتد الرحلة .. يعمل، يعمل ، يعمل ، تهبط للقاع أشواق روحه ، عواطفه ، إحساسات الحب الندية ، عاما ، عامين ، ثلاثة ، أربعة ، يسافر ، يعود ، يودع ، يستقبل ، يترك العيادة ، يهجر المدينة ، ينسى، ينسى ، ينسى .. يظهر على المسرح بطل جديد .. يأخذ بيد البطلة ، تتوكأ عليه .. رويدا .. رويدا.. تنهض ، يبتسم ، تهمس له ، يتعانقان .. يخطوان معا .. واحدة .. واحدة .. تضج الصالة بالتصفيق . يشده المنظر .. يتفرس البطل .. ليس غريبا عليه .. رآه قبل ذلك .. أين ؟! لا يدري .. يحاول أن يتذكر .. لا يستطيع .. الرؤى غائمة .. الأبعاد تائهة المعالم ، الضباب يتجمع أمام عينيه .. لا يرى .. يفركهما .. لا يرى.. يهمس لنفسه :
    - أيكون هو ؟ ؟ ذلك الفتى .. جارك القديم ، زارك في العيادة ذات مساء .. أيام الغربة ؟
    لا .. لا يستطيع أن يحدد ، تألقه فجأة .. شَلّ تفكيره .. أخل بتوازنه ، قلب حساباته .. فكر .. أطال التفكير ، أرهق عقله ، أتعب ذاكرته .. داخله شك جديد.. صراع آخر .. قذف به في محيط الظنون .. وتركه يصارع الأمواج.

    (5)
    - رائع
    - جاء في اللحظة الحاسمة
    - منقذًا .
    - ربما .. وربما قانصا .
    يشده الحوار من جديد .. يحس بنصل حاد يغوص في قلبه ، تفجر الدم ، غطى مساحات من جسده ، تنهد ، تأوه ، كاد يطلب نجدة .. لا أحد هنا .. غريب بين الناس .. لا أحد يعرفه هنا .. لو جاء عامل البوفيه .. الأمل الباقي ، لم يظهر له أثر .. سيسأل .. أيا تكون النتيجة .. أرحم ، السيارة أمام المسرح ، المفتاح في الحقيبة .. امتدت يده إليها .. اصطدمت بالكراسة تحت رزم البنكنوت .. طفا الحلم على السطح .. من جديد .. ارتعد .. اهتزت يده .. طارده الحلم ، هرب منه، نحاه جانبا .. تناول مفكرة صغيرة .. بدأ يتصفح .. الطريق ممتد ، ألف باب وباب ، خلف كل باب بسمة ، أهلاً .. شرفتنا .. مثلجات .. قهوة .. شاي .. طعام .. سهرة .. حديث طويل .. قيام الطائرة .. التأشيرة .. الحجز .. موعد السفر ، أخطاء العام الماضي ، مشروعات العام القادم ، بيع العملة … الربح ، الجمارك ، الطرود ، واحة الظل هنا .. أنهار الظمأ هناك .. الأهل .. ضآلة الهدايا .. غضب الأصدقاء .. لا يعنيه .. سيشتري سعادته بأي ثمن .. فقط يريد أن يصل إلى قرار .. الاستراحة ممتدة .. عيون الفتى والفتاة على الحقيبة .. أغلقها بتضرر .. هم بالانصراف .. الصوت الدافئ .. يرغمه على البقاء .. يأتي من بعيد .. يهتف :
    - أيها الحب .. يا لحن السماء على الأرض .. باسمك جار الإنسان على الإنسان.
    تظهر البطلة .. متألقة .. بهيجة .. تتقدم البطل .. بخطى ثابتة وإصرار .. يقطعان الطريق .. يكرمان .. يهبطان ، يصعدان ، يقتلعان الأشواك .. يطاردان الفشل ، يقتلان الحقد .. يحفران في الصخر مهدا .. يفرشانه أملا وحبا .. ينتصران على كل شئ .. الإحباط ، القهر ، الضياع ، الجوع .
    يغلي دمه .. الجفاف .. يشقق حلقه ، أنياب الغيرة تنهش قلبه ، تتوتر يده .. في عصبية .. يفتح الحقيبة .. للمرة العاشرة يتحسس حلمه المطمور .. تحت رزم البنكنوت .. يجذب الكراسة .. على غلافها يقرأ :
    " الأمل الكاذب "
    مسرحية من واقع الحياة
    تأليف الدكتور / أمل حسين
    بطولة الفنانة / نوال مهدي
    إخراج الأستاذ / ….........
    يغلق الحقيبة .. المسرحية في يده .. تشده اللحظات الأخيرة .. البطل والبطلة .. في مشهد الختام .. يتجهان للجمهور .. يهتفان :
    - ليس بالخبز وحده نحيا .
    تهتز يده .. السهم أصاب منه مقتلا .. ينتفض الطير الذبيح .. يترنح .. يقف .. يقطع الشك باليقين .. يهتز الستار .. ينسدل .. يصل إلى قرار .. يهرول مع المهرولين .. الهواء خانق .. يجرح رئتيه ، لا يلتفت ، يخرج من جلده ، يتلوى من الألم .. قوى لا مرئية تطارده ، بصعوبة يصل إلى السيارة .. المسرحية في يده .. رتل من السيارات أمام سيارته .. يوقفه .. يشل حركته .. يود أن يهرب ، أن تبتلعه القاهرة .. يطفو على السطح حلمه المطمور ، يوشك أن يتحول إلى واقع .. لا .. لا .. يبعد الخاطر .. يقربه .. يبعده ، يقربه ، تلتف الدائرة حوله ، في مركز الصراع ينصهر .. على نار حامية يضع قدمه .. يقرر أن يهرب .. أن يجري .. أن يترك السيارة .. يطلق ساقيه للريح .. لكن !! مصيبة .. تعطيل المرور .. الونش .. الجنحة .. السجن .. لابد من الصبر .. تصطدم سيارتان .. يتوقف الركب تمامًا .. يهبط من السيارة .. لا يدري ماذا يفعل؟ لفته حيرة .. تلفت يمنة ويسرة .. من بعيد رآها .. قمرا يسير على الأرض ، يعرف طريقه .. جواز المرور في يدها .. الشباب .. الجاذبية .. الدفء .. التناسق .. الذكاء .. تصعد متى شاءت .. هذا زمانها ..لا زمان الأدباء .. خلفها يظهر البطل .. جاره القديم .. أحد المرضى الذين استباحوا عرقه أيام تأكيد الذات .. تقدمت .. تقدمت .. حاذته .. أشاح .. توقف .. توقف الركب .. ليس في الطريق موضع لقدم .. قفز إلى السيارة .. جلس إلى عجلة القيادة .. المسرحية في يده .. ترك الباب مفتوحًا .. لم تدخل .. أدار المحرك .. اهتزت السيارة .. لم تدخل .. في عينيه نداء .. لم تحاول أن تستجيب .. تقلصت عضلات وجهه .. توترت قبضته .. رفع ذراعيه .. رفعها ..بكل ما يملك من قوة .. طوح بالمسرحية في الهواء .. وانطلق بسيارته .. يسابق الريح .
    .............................................
    * كتبت عام 1981م
    * جائزة دومرييه الميدالية الذهبية وتسلمتها فىحفل تسليم
    * الجوائز بفندق النيل هيلتون القاهرة مساء 30 يونيه 1981

  8. #8
    (7) الرجل الطيب

    قصة قصيرة، بقلم: يس الفيل
    ...................................

    دخل القاعة في خيلاء .. لم يتصدر المنصة إلا بعد أن ألقى على الحاضرين نظرة متعالية .. قبل أن يبدأ حديثه :
    - لن تعود عليكم هذه المعتقدات إلا بالتخلف ، ولن يفيدكم التعلق بأهداب السلف إلاّ بالخسران .. ولن تفلحوا ما دمتم على هذا القدر من ضيق الأفق .. والإصرار على التقوقع في سراديب الماضى .
    بهذه الكلمات الحادة كالسكين ، المدببة كالحراب .. بدأ الرجل محاضرته عن التكافل والعدل والاقتصاد والإدارة .. وراح يتمايل على إيقاع الصمت الذي بدأ يغلف المكان .. يشرق ويغرب .. مستشهدًا بما راج على الألسنة وما ذاع وانتشر، من خلال الأجهزة التي عبأها للنفاذ بها إلى القلوب .. استقطابا لها .. وامتلاكا لأكبر قاعدة من البشر .
    في حمأة غروره ، لم يشعر بالملل وهو يبسط ظلاله الداكنة على المكان .. ومن ثم راح يسهب في الشرح والتفنيد .
    - الدين – أيها السادة – أفيون الشعوب .. ولابد للخروج من عباءته .. لابد من التوازن بين ما تريدون .. وبين ما تؤمنون به .
    يتململ الشيخ الجالس في الصف الأول .. والذي دلف إلى القاعة مهيبا .. كأنما هو قادم من أعماق المجهول ، يحمل عبق الماضي ، وعطر الزمن الخالي .. بينما همس الحاضرين يمد خطاه على استحياء .. وأيديهم ترتفع في حذر .. لكن الشريط بداخل المحاضر لم ينته .. كان لابد من أن تمتد يدٌ لتوقف هذا الجهاز الآدمي .. ويرتفع صوت من وسط القاعة :
    - ما هذا يا سيدي ؟! وماذا تظن بنا ؟! أكفالة اليتيم تشجيع على البطالة وإهدار لقيمة العمل ؟!
    ران الصمت برهة .. قبل أن يرد المحاضر :
    - نعم .. أن يتعود الطفل على الكفاح .. خير من أن يستمرئ التنطع
    ويبدو أن الرد لم يقنع أحدا ، لما فيه من مغالطة .. وهنا ينطق صوت آخر :
    - ليست الأمور كما ترى يا سيدي .. كفالة اليتيم من دعائم ديننا ، حث عليها كتابنا الخالد ، ورسولنا الكريم .. ألم تقرأ ؟
    وهنا يقاطعه المحاضر في غرور ، حتى قبل أن يشرع في تلاوة الحديث الشريف .
    - بلى، قرأت .
    وتتميز القلوب غيظا ينعكس على الملامح الغاضبة ، وينفلت أحد الحاضرين صارخا :
    - ما قرأت يا سيدي .. ولو كنت قرأت وفهمت ، وأنار الإسلام بصيرتك ، لما وصلت إلى هذا الحد من التسطيح وعدم الفهم وإيراد الشواهد على غير مدلولها .
    ويرد المحاضر في توتر :
    - أي تسطيح تعني وأي شواهد تقصد ؟ وأنت لم تتخط قال الله وقال الرسول . بل ولم تقترب حتى من المداخل الجادة للنظريات الحديثة .
    يتململ الشيخ الجالس في الصف الأول ولا يتكلم .. بينما ينفجر صوت جديد من آخر القاعة :
    - أية نظريات يا عدو الله ؟
    يتكهرب الجو .. يوشك على الانفجار .. يحاول المحاضر أن يدس السم في العسل .. يرقق من نبراته .. ويهدئ من صوته .. حين يقول :
    - ما قصدت أيها السادة .. إلاّ أن نثور على الرتابة المتوارثة ونتعلق بالنظريات الحديثة، حتى نستطيع أن نساهم في إسعاد الجنس البشرى .
    هنا ينفد الصبر ، ويرفع الشيخ يده متسائلا :
    - كيف يا ولدي ؟
    ويرد المحاضر :
    - ما أكثر النظريات الحديثة في التكافل والعدل وفي الاقتصاد والإدارة . أئمة النظريات الحديثة كثيرون .. فلنبحث عنهم ، ولنتتلمذ على أيديهم ، ولنعمل على ضوء ما توصلوا إليه من نتائج ، حصلوا عليها ، بعد دراسة مستفيضة امتدت لسنوات .. وهنا يهب الشيخ كمن لدغته عقرب .. يتقدم نحو المحاضر بخطى ثابتة .. ثم يأخذ مكان الصدارة على المنصة .. وينطلق :
    - النظريات التي تتحدث عنها ، اختلفت وتناقضت فيما بينها .. نظرية تحبذ الملكية الجماعية .. تلغي الفرد أو تجعله ترسا في آلة تدور .. وأخرى تتناقض معها .. ترى أن الفرد هو أساس المجتمع ، وأن الملكية الفردية من أقوى الدعائم لإقامة اقتصاد سليم .. لكن النظرية الإسلامية – وهي الخير حقا وصدقا – تؤكد على أن المال وديعة الله . وأن ملكية الفرد خالصة للفرد ، ورغم ذلك .. فإنها تقيم للملكية الجماعية كيانا .. يتمثل ذلك في بيت المال الذي تتجمع فيه أموال المسلمين .. شريعة سمحة تقر البنود .. وقانون سماوي .. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. يحدد المسار لإدارة عملية عادلة ..
    يحاول المحاضر أن يتصدى .. لكن الشيخ يسترسل :
    - كثيرة هي تلك النظريات البراقة ، كثرة الطبول الجوفاء .. وآه يا ولدي .. لو ارتفع الحس الديني عند الأفراد .. وأيقنوا أنهم محاسبون أمام الله على أموالهم .. من أين جمعوها .. وكيف أنفقوها .. آه لو تراحموا .. ما كان بينهم اليوم جائع ولا محروم.
    حديث الشيخ .. كأنه نسمة رطبة في يوم قائظ .. يأخذ بتلابيب القلوب ، ويستولي على الأفئدة بما فيه من علم المؤمن وتواضع العالم ، مما جعل الحاضرين يتهامسون :
    - من يكون هذا الرجل الطيب ؟ ومن أين أتى ؟ ..
    بينما هو يتدفق علما وحكمة .. في اتجاه أبوي على المحاضر :
    - تقول يا ولدي الأئمة كثيرون .. ونحن نقول الأئمة أربعة أتعرفهم ؟
    لا يرد المحاضر ..
    - ودستورنا.. أتعرفه ؟
    لا يرد .
    - أتعي ما نحن فيه جيدًا .. تهتز رأس المحاضر في حركة بندولية لا تميز بين النفي والإثبات .. وهنا يردد الشيخ أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في خشوع :
    - لقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا ..كتاب الله وسنتي.
    - أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين.. مشيرًا بإبهامه وسبابته وهما ملتصقان.
    - من كان عنده فضل ظهر فليتصدق به على من لا ظهر عنده .
    - لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه .
    ثم تهتز نبرات صوته وهو يرتل قول الله تعالى في ضراعة وتبتل :
    } وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله { (1).
    هنا يحاول المحاضر أن يسترد بعض كبريائه الجريح .. وكأن الشيخ بالآية الكريمة قد فتح له بابا استغلق عليه .. فراح يستجمع شتات فكره .. ويردد في صوت مبحوح :
    - هل تستطيع يا شيخنا أن تتصور العالم بغير حروب ؟!
    - وهل كان رسولنا الكريم لا يحارب ؟
    هنا تخرج الكلمات من فم الشيخ ملتهبة :
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) الحجرات 9
    - لا تخلط الأمور يا ولدي ، ولا تقرن حرب الرسول دفاعًا عن العقيدة بالحرب الظالمة في العراق وفلسطين .. البشرية ما أصابها الهلع ، ولا جاعت إلا حين ابتعدت عن التعاليم الإسلامية .. تصور أنت يا ولدي أن تقوم هيئة عالمية على أساس من الدين الحنيف .. تقتدي بالسلف الصالح ، تحل المنازعات ، تغيث الملهوف ، تقدم الرعاية الصحية ، والخدمات الاجتماعية ، توفر الغذاء والكساء والمأوي للأيتام والمساكين والفقراء والمهاجرين .. تصور أن تقوم بذلك هيئة دولية .. ماذا يكون الحال ؟
    وينفعل الشيخ وهو يتلو قول الله تعالى :
    } خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها { (2).
    ثم وهو يرتل :
    } ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين { (3).
    ثم وهو يقرأ في خشوع :
    } واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة { (4).
    ثم يربت على كتف المحاضر قائلا :
    - يا ولدي .. عد إلى الله .. تجده في قلبك وأنت لا تدري .. عد إلى دينك .. ففيه صلاح أمرك .. أنت فرد .. والمجتمع مجموعة من الأفراد .. ولو صلح البعض صلح الجسد كله .
    ويحاول المحاضر أن يرد .. لكن الشيخ يرفع يده إلى السماء :
    - ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق .. وأنت خير الفاتحين .. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ..
    وينسل خارجًا .. وفي أثره تتدافع الناس ليلحقوا به .. دون جدوى .. كأنما ابتلعته الأرض .. فلا هو .. ولا من يدل عليه ، ولا أحد يعلم من أين جاء .. ولا إلى أين ذهب .
    من يومها لم يجرؤ متعالم على أن يجمع الناس في هذا المكان ليعلمهم كيف يكون التكافل .. ولا كيف تكون الرحمة ، ولا كيف يكون العدل .
    فما زالت كلمات الرجل الطيب حية في القلوب .. وما زالت دعوته تخضر الوادي .. وما زالت كلماته دستورًا .. يهتدي بتعاليمه أهل تلك القرية الآمنة.
    ..........................
    * كتبت عام 1988م

    ـــــــــــــــــــــــــــ
    (2) التوبة 103
    (3) البقرة 190
    (4) الأنفال 25

  9. #9
    (8) الثعبان المزعوم

    قصة قصيرة، بقلم: يس الفيل
    ...................................

    تناهت إلينا من بعيد .. نداءاته المتلهفة : انتظروا .. لا تواصلوا سيركم .. أدار البعض منا رأسه ، وسخر البعض الآخر منه ، بينما الكل يواصل المسير ، بلا أدنى اكتراث ..غير أن صوته المتحشرج ازداد حدة وانفعالاً :
    - قلت لكم قفوا .. لا تتقدموا شبرا ، أحذركم من الخطر . نظر كل إلى الآخر مندهشًا .. ورغم اللامبالاة التي تصاحب أعمارنا الغضة .. وعدم اكتراثنا بتحذيراته .. إلا أننا تسمرنا في أماكننا .. بينما هو يلهث نحونا مندفعا ، حتى إذا ما صار في محاذاتنا ، قال في صوت يقطعه التعب :
    - الشجرة .. سكنها الثعبان .
    انغرست كلماته كالسكين في لحم قلوبنا الطري .. ارتبكت خطواتنا .. علت وجوهنا دهشة مستريبة .. استدرنا والهم الثقيل يجثم على صدورنا .. منذ هذه اللحظة ، ونحن ندور حول أنفسنا .. لا ندري كيف نتجمع .. ولا كيف يمتد بيننا حديث .
    الأشجار كثيرة حول القرية .. هذا الظل يغرينا ، وذاك يجذبنا ، لكنا لا نلبث أن ننفض مسرعين ، وفي قلوبنا حنين جارف لتلك الشجرة ، التي ألفناها وصرنا بعض فروعها .
    ومرت بنا أيام ، تحول الأمس القريب إلى ذكريات ، نستعيدها جالسين في ظل الشجرة تارة ، ومتواثبين بين فروعها تارات.. نجمع ثمر التوت الشهي ، ونقطف الأوراق الطرية غذاء لدود القز الذي تشجعنا المدرسة على تربيته ، في مستطيلات كربونية ، والأمل في الربح من بيع الخيوط الحريرية يهدهد أحلامنا.
    وتوالت الذكريات .. لكل منا حكاية ، ولكل منا موقف ، ونحن نلتف حولها ، نطالع دروسنا ، أو نناقش قصة أدبية قرأناها ، وقطار العمر الجميل يتهادى بنا ، وهي تحنو علينا وتبسط ظلها حولنا ، ويتسع صدرها ، حتى لمن يقذفونها بالطوب .. كل ما مر بنا حولها ، وبين فروعها ، تحول فجإة إلى أمنية غالية ، نتمناها ، ونود تحقيقها ، لكننا لا نستطيع الإقدام على عمل يشفي الغليل ، رغم قيام الشجرة مقام الأم الرءوم ، بكل شموخها واخضرارها ، وإن ابتعد عنها الأبناء ، أو هجرها الأحباب.
    طال بنا الجدل .. وامتد الصراع .. لكننا نشعر بالتمزق والضياع .. والكابوس يجثم على صدورنا ، ويكاد ينسف جسور الأمل التي تربطنا بمهد الذكريات ، وتحكم رباط هذا المهد بنا .. ويكاد اليأس يسلمنا إلى نتيجة محددة هي : أنه ما من أحد على هذه الأرض ، يستطيع أن يخلصنا من الرعب الذي يسكننا ، بعد أن أقسم واحد منا : أنه رأى الثعبان بعينه من خلال الأوراق .. فقد حكى لنا : أنه كان في الطريق إلى الحقل ، يحمل الغذاء لوالده هناك .. ورفع رأسه إلى أعلى ، حين مر من تحت الشجرة ، فاصطدمت نظراته ببريق يتوهج ، حسبه في أول الأمر قطعة من الزجاج قذف بها أحدنا ، ممن لا يستطيعون الصعود ، أملا في إسقاط بعض ثمار التوت . لكنها اشتبكت بالأغصان والأوراق واستقرت هناك ، وعندما تعرضت لضوء الشمس ، كان لها هذا البريق .. لكنه في العودة ، وبعد أن مالت الشمس قليلا .. نظر متعمدًا هذه المرة .. إلى موضع البريق ، فلم ير شيئا ، مما حمله على إطالة النظر، وتحريك العين ، يمينا ويسارا ، فإذا به يراه .. ثعبان يتمدد بين الفروع ..
    .. كنا مجموعة من الشباب .. مختلفي الأعمار ، منا الجبان الذي يدفعه الخوف من حبل ملقى على الأرض .. والجرئ الذي تقعد به جرأته عن اكتشاف هذا المجهول .. ورغم ذلك فلا أحد منا يدري .. كيف واتتنا الشجاعة لنقرر ، وبالإجماع قطع الشك باليقين ، بعد أن تأكد لنا ، أن هذا العدوان طارئ .. وأن هذه الشجرة وأمثالها ، لا تصلح بيئة لاستعمار الثعابين .. وذهبنا .. تضطرب خطواتنا رعبا ، بينما نتظاهر نحن بعدم الاكتراث .
    أدمنا النظر ، من خلال الفروع .. الأوراق كثيفة ومتشابكة . هذا يؤكد أنه يراه ، وذاك ينفي وجوده أصلا .. وفجأة يتقدم أشجعنا ، يتسلق الجذع ، وينتقل إلى الفروع .. لكنه لا يلبث أن يصرخ .. ويكاد يسقط على الأرض .. بينما نحن نسابق الريح فرارا .. ويلحق بنا ، بعد جهد جهيد ، وقد علت وجهه صفرة الموت ، والرعب يكسو ملامحه ، ويدب في أوصاله .. ومن خلال أنفاسه المتقطعة .. يؤكد : أنه رأى الثعبان هناك .. وحين سألناه في لهفة : ألم يتحرك حين رآك ؟ كانت إجابته قاطعة : أبدا .. إنه يتمدد مطمئنا .
    انقبضت صدورنا .. واعترانا الهم الثقيل ، وعدنا بقلوب دامية ، ونفوس تئن من وخز الألم ، وقد ضاقت بنا الأرض .. فنحن – وليس سوانا – الذين يعنينا أمر هذه الشجرة ، لكن الذي يضاعف أحزاننا ، أننا عاجزون ، لا نعرف كيف نفتك بهذا الوحش البغيض ، ونجعله عبرة لمن يفكر في الاعتداء على الآمنين . ولا كيف نرغمه .. حتى على الرحيل .. اجتمعنا طويلا نفكر .. كيف نقوم بمغامرة ؟ نبطش من خلالها به .. أو نجبره على الجلاء عن الشجرة الأم ؟
    قال أحدنا : ننتظر حتى يهبط الظلام ، يحمل كل منا قدر ما يستطيع حطبا .. نكوِّم كل ما حملناه تحت الشجرة، ثم نشعل النار .. عندئذ .. يرحل اللعين .. وإذا لم يرحل فسوف يسقط في النار ليحترق .وهنا ينبري له آخر : وماذا نصنع لو أحس بنا ، وانقض علينا قبل أن نفعل شيئا؟.
    ويعقب ثالث .. وحتى لو نجحت الفكرة .. فسوف نقضي على الشجرة ، بينما نحن نحاول إنقاذها .. وهنا يرتفع صوت جديد : نستدعي الجيش .. كدنا نغرق في الضحك ، لكنه لم يدع لنا فرصة حين قال : سمعت أخي الضابط يقول : إن عندهم غازات يطهرون بها الأوكار والخرائب، بعد الاستيلاء عليها ، ويلوح رابع بيده : هوّ الجيش ناقص .
    قبل أن ينفض جمعنا فاقد الأمل في الخلاص من هذا الكابوس .. تتناهى إلى آذاننا أصوات قادمة من خلف التل ، الذي يفصل القرية عن الشجرة .. أرهفنا السمع ، الأصوات تتداخل ، رويدا ، رويدا ، بدأت تتضح .. ثم بدأت الجمل تتلاحم ، لتصير حديثا ، نميزه بوضوح .
    هذا صوت لم نألفه .. يؤكد لمن حوله ، إنه سوف يأتي به حيا .. ليقتلوه بأيديهم .. بينما يرتفع صوت آخر .. نعرفه جيدا .. يشكك الرجل في مقدرته على الإمساك به ، نقف على أطراف أصابعنا ، ونشرئب بقاماتنا ، نكاد نرى .. قليلا .. قليلا .. يتضح كل شئ تماما .
    كنا حتى هذه اللحظة نتصور أننا فقط أصحاب المصيبة ، وليس فوق الأرض من يتعاطف معنا أو يشاركنا في إزاحة هذا الكابوس .. لكن المشهد الآن .. واضح تماما .
    بعض الرجال من القرية .. آباء .. وأقارب ، يتجاوز عددهم أصابع اليدين بقليل .. يعلو صخبهم ، ويحتد جدلهم وهم منطلقون نحو الشجرة .. نميز بوضوح صوت ) همام ( الذي تقف الشجرة على رأس حقله ، والذي لا يمل الشكوى منا .. ولا يمل اتهامنا بإتلاف زرعه ، وهو يحاول تثبيط الهمم .. متوترا في جدله مع صاحب الصوت الذي لم نألفه ، محذرا إياه من تسلق الشجرة ، حتى لا ينفرد به الثعبان فيقتله .. بينما الرجل الغريب يجيبه واثقا :
    - أنا رفاعي .. والرفاعي لا يخاف الثعابين ، لأن سمها لا يسري في جسد الرفاعي . وننضم إلى الجمع الذي يتزايد .. وتغمرنا الفرحة أننا نقترب من الشجرة دون خوف .. بينما النقاش يزداد حدة .. ويوشك على الانفجار بين الرفاعي وهمام .. الذي أسند ظهره إلى جذع الشجرة . وراح يدفع الرجل بيديه ، في محاولة مستميتة لمنعه من الصعود ، معللا ذلك بالخوف عليه ، وبالشفقة على أولاده من بعده .
    وحين يفشل فيما يريد .. أمام إصرار الرجل .. ومساندة الأهل له ، ثم وقوفهم صفا واحدا معه .. ينسل ) همام ( عائدا من حيث أتى .. في حركة مسرحية .. ويتوارى عن الأنظار .
    تتوقف الأنفاس في الصدور .. وتتجمد النظرات ، على يد الرجل ، تقبض على الثعبان .. بينما تنطلق من الأفواه تكبيرة ، يردد الخلاء صداها ..
    وحين يستقر بينهم ، ويلقي بالثعبان على الأرض .. يتراجعون خوفًا وهلعًا بينما الرجل - - الرفاعي – يهمهم متحسرا :
    - من أي شئ تخافون .. هو ليس شئ بالمرة .
    ويرتفع أكثر من صوت : وماذا يكون إذا ؟
    ويرد الرجل في سخرية مريرة : انظروا .. إنه كما رأيتم ثعبان .. لكنه للأسف .. ثعبان من المطاط .
    ويكاد الدمع يتساقط من عيونهم .. بعد أن تفتحت على الحقيقة المؤلمة .. وهم يرددون في مرارة :
    - الله يخيبك يا همام !!
    ..........................................
    * كتبت عام 1992م
    * نشرت بمجلة "الخفجي" السعودية ـ مايو 1992م.

  10. #10
    (9) توبة

    قصة قصيرة، بقلم: يس الفيل
    ...................................

    (1)
    فجأة .. وجد نفسه محاصرًا .. دار على عقبيه .. حاول الهرب ، وجد الحصار يلتف حوله. أطال الدوران حول نفسه ، عله يجد ثغرة ينفذ منها ، كان السور عاليا وسميكا .. حاول أن يثقب هذا الجدار .
    قال له أبوه :
    - يا ولدي .. الاستقامة خير .
    تمرد الولد .. شباب .. استهوته الدنيا ، مدت له خيطا حريريا ناعما تعلق به ، وراح يحلم .. اللقاء الأول لم يطل ، لكنه فتح الباب للرغبات .. الحياء .. كان القاسم المشترك في اللقاء الثاني .. في اللقاء الثالث .. عيون البشر المتطلعة .. حالت بين الأمل والواقع .. تواعدا .. انصرفا، دارت به زوارق الأحلام .. أغرقته الحسناء في بحر الأماني ، قوامها الملتف ، صدرها المكتنز ، شفتاها القرمزيتان ، خصلة الشعر الساقطة من أعلى الجبهة ، إلى ما بين الحاجبين ، تسكن تارة ، وتتراقص تارات ، مع هبات النسيم ، وعيناها .. وما تقوله عيناها ، مما لا يستطيع ترجمته إلى كلمات ، أبرزت له أحلام اليقظة كل ما خفي .. بدت له .. وكأنها )فينوس ( رمز الجمال .. لهفته عليها ، أفقدته البصر حتى يحين موعد اللقاء .. خرج مبكرًا .. راح يتلكأ هنا وهناك على غير هدى . كان يسير .. فجأة .. ودون مقدمات .. وجد نفسه داخل أحد المنتديات .. جال ببصره ..في إحدى الزوايا ، لمح زميل دراسته ، يناديه .. يقف .. ولا يتقدم الطاولة .. تمتد بين الزميل وإحدى الفتيات .. ظهرها إليه .. لا يراها .. الزميل يناديه .. يستشعر الحرج ، يهم بالرجوع .. الزميل يقسم عليه ، يتقدم ، بطيئا .. يتقدم .. تسمح المسافة المتبقية بتحديد ملامح الفتاة ، يساوره الشك في أن تكون هي فتاته .. لكنها .. في عفوية .. تطلق ضحكة تخترق أذنيه ، وتستدير .. دون أن تدري .. فإذا بعينيها تجتاحانه .. فيولي مرتجفا .. دون أن يفكر في لقاء .. ترقبه طويلاً .. لم يبق عليه سوى دقائق معدودات .. ويتحول إلى واقع جميل..
    (2)
    الحصار ما يزال يمتد .. حاول من جديد .. لم ينجح .
    قال له أبوه :
    - يا ولدي .. الاستقامة خير .
    شباب .. استهوته الرفقة .. في البداية .. صوروا له أن الحياة مغامرات .. انطلاق .. استمتاع ..
    مجموعة من الشباب في أعمار متقاربة .. فيهم جرأة .. وفيهم اندفاع .. ينفقون ببذخ ، ويتصرفون بطيش ، ولا يفرقون بين حلال أو حرام ، روح التمرد فيه ربطته بهم ، دار في فلكهم ، لكنه .. وهم يبحرون .. كان يقف على الشاطئ .. يتأمل ، ويناقش ، ويسأل نفسه :
    "أهذه هي الحياة ؟!"..
    لم يكن يعرف أن للحياة وجهًا آخر .. وأن للإنفاق طريقا غير هذا الطريق .. شيئا فشيئا .. اندمج معهم .. أغروه .. اندفع .. كاشفوه .. روح التمرد فيه .. حببت إليه الموافقة .. الليلة .. تتم صفقة العمر .. هكذا قالوا له .. عليه أن يتواجد في الزمان والمكان المحددين ، دوره فقط .. مراقبة الطريق .. رغم الموافقة .. وقف على الشاطئ .. بعيدًا .. يتأمل .. يناقش يسأل نفسه :
    "الوقت متأخر .. ما تعودت الخروج في مثله من البيت أبدا" ..
    همّ بالتراجع .. تمردت نفسه .. ما عساهم يقولون عني .. طفل .. جبان .. لا .. لا .. امتدت خطواته .. قبل أن يعبر الباب خارجا ، صرخت أمه ثم صرخت .. عاد متلهفًا .. إلى جوار أبيه وقف .. الأم تتلوى .. حملاها إلى الطبيب .. ساعة أو تزيد .. ما لبثت أن عادت .. سكن الألم .. هدأ البيت .. استل نفسه وخرج .. إلى موعد الرفاق هرول .. لكنه فجأة .. قبل أن يصل إليهم .. يجتاحه ذهول مرير .. فقد كانت الشرطة تقتادهم إلى المخفر ، بعد أن نجح الكمين في اصطيادهم .
    (3)
    الحصار يأخذ منحى آخر .. حاول اختراقه .. تفحص جيدا مواقع أقدامه .. على الأرض .. من حوله .. الحصار يضيق .. يحاول في استماتة .
    قال له أبوه :
    - يا ولدي .. الاستقامة خير .
    تمرد الولد .. شباب .. استمرأ التمرد .. على الطريق الملتوي .. التقى به .. في قمة الرجولة .. يرتدي أفخر الثياب .. تحدثا .. استضافة على الغداء .. السمكة الصغيرة التهمت الطعم .. بهرته شخصيته .. مروءته .. رقة تعامله .. حكى له عن رحلاته الكثيرة .. ومعارفه في البلاد التي يزورها .. تعلق به .. حب المغامرة في دمه .. قربه إليه .. وضعه الرجل الأنيق تحت الاختبار .. دون أن يدري .. توالت اللقاءات .. بعدها .. وتكررت الاستضافات .. لم يطلب منه شيئا .. ثم أيام معدودات وعلى حين غرة منه .. يخبره أنه على وشك السفر .. طلب أن يرافقه ، مانع الرجل .. تشبث هو .. بعد أن علم أن السفرية قصيرة .. يعودان منها آخر النهار . في الموعد التقيا .. سارا معا .. ليستقلا عربة من موقف السيارات .. امتد السير قليلا .. امتدت يده إلى الرجل ليحمل عنه الحقيبة .. امتنع الرجل في البداية .. ألح هو .. استجاب الرجل .. امتد السير قليلا .. أراد أن يقضي حاجته .. في أول دورة مياه قابلتهما .. همّ بالدخول .. بلهفة ينتزع الرجل منه الحقيبة .. مشيرًا إلى أنه سوف ينتظره على هذه الناصية .. ريثما يعود .. لكنه في العودة .. وفجأة يبصر عددا من رجال الأمن .. يطبقون على الرجل ليكتشف هو .. أن هذا الأنيق لم يكن إلاّ مهربا .
    (4)
    ضاقت روحه بهذا الحصار .. كلما اجتاز حلقة .. أسلمته إلى حلقه جديدة .. سئم اللعبة ، عافت نفسه ما هو فيه .. تلفت يمينا .. ويسارا .. الحصار يضيق .. ينظر إلى أعلى .. يطيل النظر .. يتجول في الملكوت الرائع .. كأنما يكتشف السماء لأول مرة .. شعاع القمر ينسكب على جوارحه .. طمأنينة وأمنا .. يتأمل .. ويطيل التأمل .. تشف روحه .. ويصفو وجدانه .. يخيل إليه أنه يسبح في بحيرة من النقاء .. وأن الأوزار تتساقط من على قلبه .. كتلا .. وأنه مازال يمتلك بصيرة .. تقوده إلى طريق الخلاص .. يستكين .. يتوقف .. يهتف من أعماقه .. يهتف ضارعا .. ويداه ترتفعان إلى السماء .. يارب .. يا ستار .. توبة .
    ........................................
    * كتبت عام 1992م.
    * نشرت بمجلة "الخيرية" الكويتية العدد 25 ـ ذو الحجة 1412هـ.

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. النص الكامل للتوراة السامرية باللغة العربية
    بواسطة محمد عيد خربوطلي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-10-2015, 04:00 AM
  2. النص الكامل للتوراة السامرية باللغة
    بواسطة محمد عيد خربوطلي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-07-2014, 07:21 PM
  3. النص الكامل للتوراة السامرية باللغة العربية
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى ركن اللغة العبريه
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 09-06-2013, 09:06 PM
  4. النص الكامل لمجموعة «قطعة سكر» لبدر بدير
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى منقولات قصصية
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 04-01-2009, 08:36 AM
  5. النص الكامل لمجموعة «الدار بوضع اليد» لحسين علي محمد
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 05-01-2008, 08:00 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •