بما يفكر الشعب المغربي؟

عبدالحق الريكي

سؤال طرحته في مقال سابق ووعدت أن أجيب عنه... لكن بدا لي بعد تفكير عميق أنه يصعب علي رصد ما يفكر فيه ما يزيد عن ثلاثين مليون مغربي، خاصة في غياب إحصائيات واستطلاعات للرأي تقربنا من ذهنية المغاربة... الشائع أننا نعرف ما يفكر فيه الفرنسيون أكثر مما يفكر فيه بنو جلدتنا المغاربة... فمثلا، الجميع يعلم أن "الباݣيت" أو"الكوميرة" تحتل موقعا رمزيا قويا في مخيلة الفرنسي كما هو الشأن بالنسبة لفنجان القهوة...

أظنكم ستقولون أن ذهنية المغربي تتمثل في الخبز وزيت الزيتون وبراد الشاي مع كثير من السكر، دون إغفال كسكس يوم الجمعة... معكم الحق، هناك أشياء تجمعنا كمغاربة زيادة على الوطن الواحد والملكية والمذهب المالكي... وحين ذكر هذه المواد يبادر إلى الذهن مدى أهميتها بالنسبة للغالبية الساحقة من المغاربة وصعوبة المس بأثمانها... فالخبز والزيت والسكر مواد شكلت على مدى عقود قنابل قابلة للاشتعال كلما حاولت حكومة ما الزيادة في أثمنتها... من هنا صعوبة إصلاح صندوق المقاصة...

يصعب التكهن بما يفكر فيه الشعب المغربي ولكن يمكن رصد أهم محطات التحرك الشعبي منذ الاستقلال إلى يومنا هذا لمحاولة فهم ما يحرك الآلاف ويجمعها ويدفعها إلى تقديم تضحيات كبرى، وما دمنا نتحدث عن القوت اليومي للشعب فيجب أن نذكر أن الشعب خرج مرارا للدفاع عن خبزه كما هو الحال مع "شهداء الكوميرا" – كما نعتهم وزير الداخلية الراحل ادريس البصري – ليوم 20 يونيو 1981 حيث خرجت جماهير الشعب المغربي للمطالبة بالتراجع عن قرارات الزيادة في ثمن الخبز... فسقط العديد من الضحايا من أفراد الشعب المغربي دفاعا عن الحرية والعدالة والخبز...

هذه واحدة من ضمن العديد من المرات التي خرج الشعب المغربي فيها للاحتجاج على أوضاعه الاجتماعية والمطالبة بتغيير السياسات العمومية ونظام ديمقراطي وتوزيع عادل للثروة... لقد خرج الشعب لأول مرة، عشر سنوات بعد الاستقلال سنة 1965 في انتفاضة 23 مارس وكانت شرارتها المس بحق ولوج أبناء الشعب إلى التعليم العمومي وكان حينئذ المنفذ الاجتماعي الوحيد أمام أبناء الشعب للتعلم والترقي الاجتماعي... وكان عدد الشهداء كبيرا على صعيد مدينة الدارالبيضاء بعد تدخل الجيش لما تبين أن الشرطة والقوات العمومية أضحت غير قادرة على التحكم في الوضع...

لكن تجدر الإشارة إلى كون الاحتقان الشعبي ظهر سنتان بعد الاستقلال في أول انتفاضة شعبية سنة 1958 بالريف مع صعود أهل المنطقة إلى الجبال بأسلحتهم والمطالبة بحقوقهم وهي الانتفاضة التي قمعت بالنار والحديد واختلط فيها الصراع السياسي الوطني في بعده الحزبي مع المطالب التاريخية لمنطقة عرفت أكبر ملاحم مواجهة الاستعمار الإسباني بقيادة محمد بن عبدالكريم الخطابي...

كانت جماهير الشعب المغربي مع انتفاضة أخرى كان لها صدى كبير في المجتمع وهي الإضرابات الطلابية لسنوات 1971-1972 الذي اختلطت فيها المطالب المادية المحضة للطلبة والمطالب السياسية العامة في نظام ديمقراطي تمثيلي وسياسات اقتصادية واجتماعية لصالح الشعب كله وليس فقط لصالح فئات قليلة عرفت كيف تحافظ على مصالحها وارتباطاتها مع المستعمر الفرنسي الذي خرج من الباب ودخل من النافذة...

الشعب المغربي بمختلف فئاته كان حاضرا في أهم المحطات الوطنية... مستعد دائما لدق ناقوس الخطر وبدون إشعار مسبق... ليس كل مرة ضد النظام السياسي وسياسات الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال، بل الشعب متتبع أيضا لنبضات قلب وطنه ومستعد للتضحية كلما دعت الضرورة... هذا ما سيقع مع "المسيرة الخضراء" لاسترجاع الصحراء من الاحتلال الإسباني... لقد قيل الكثير عن هذه المسيرة كونها كانت فرصة سانحة للنظام لاسترجاع هيبته وتقوية جبهته الداخلية، إلا أن لا أحد يمكن أن ينكر أن خروج جماهير الشعب في تلك المسيرة كان بدافع الشعور الوطني والوحدة الوطنية وهي قضايا يمكن أن تكون نبيلة ويمكن أن تستغل لأغراض شوفينية... الشعب المغربي خرج وفي ذهنه ملاحم الأجيال السابقة ودورها في النهوض بالمغرب وقضاياه العادلة...

هذا الشعب الذي خرج لاسترجاع الصحراء سنة 1975 سوف يركن للصمت حين كان الكثيرون ينتظرون انتفاضته سنة 1979 على غرار الشعب الإيراني، لكنه لم يفعل رغم إضرابات رجال التعليم والصحة تلك السنة، وانتظر حتى سنة 1981 أي ستة سنوات بعد "المسيرة الخضراء" وهو دليل قاطع على أن الشعب الذي خرج يطالب باستكمال الوحدة الترابية لم يفوت الفرصة لما أتيحت له للمطالبة باستكمال البناء الديمقراطي الوطني... وسيعاود الكرة ثلاث سنوات من بعد أي سنة 1984 خاصة بمدن الشمال والريف... وسنوات من بعد مع إضرابات وانتفاضات سنة 1990 حيث كان أهل فاس مع إحدى أكبر الانتفاضات الشعبية... الشعب المغربي دائما موجود وعلى يقظة عالية وتضحيات عظام دفاعا عن وطنه وقضاياه العادلة...

لقد استطاع الشعب في فترة قصيرة من عمره – أي أربعين سنة منذ الاستقلال سنة 1965 إلى سنة 1996 – تنبيه الحاكمين إلى ضرورة الاهتمام بقضاياه المصيرية والأخذ بعين الاعتبار مطالبه السياسية والاجتماعية فكان "المسلسل الديمقراطي" سنة 1976 وأول "تناوب ديمقراطي" سنة 1996 ودستور جديد سنة 2011 وثاني "تناوب ديمقراطي" سنة 2012. الشعب كان دائما حاضرا في حسابات السياسيين حاكمين كانوا أو معارضين وكان يخرج كل مرة للتنبيه ويتحمل تبعات خروجه من شهداء ومعتقلين ومطرودين ويلملم جراحه ويمهل الوقت للحاكمين ويعاود الكرة مرة تلوى الأخرى...

هناك ظاهرة ملفتة للنظر في انتفاضات الشعب المغربي هي كونه لا يذهب إلى حد القطيعة النهائية بل يترك دائما خط الرجعة... سيقول البعض أن ذلك راجع لقوة أجهزة القمع والبعض الآخر لغياب القيادة الشعبية القوية والملتحمة بالشعب وسيقول البعض الآخر لغياب وعي متجدر لدى الشعب الغارق في الأمية والفقر والتفرقة... لقد تمعنت كثيرا في هذه المسألة وخاصة مع حركة 20 فبراير مقارنة مع الربيع العربي وكيف أن شعوبا عربية ذهبت أبعد من مطالب الشعب المغربي... لكني خلصت إلى أن الشعب المغربي عاش هزة نفسية قوية مع موت ملك وجيل وحلول ملك شاب فتح عهدا جديدا لم يستنفذ بعد كل إمكانياته إلى اليوم...

نعم، كانت أكبر المفاجآت هي خروج الشعب، كل الشعب، لتوديع الملك الراحل الحسن الثاني واستقبال الملك الشاب محمد السادس وكله أمل في العهد الجديد... لم يكن أحد ينتظر ذلك الوداع الكبير لملك بصم بصمات قوية فترة ما بعد الاستقلال ومرحلة بناء الإدارة والاقتصاد الوطنيين... أعتقد أن الشعب بحسه فهم أن هناك أشياء تتغير في محيط السلطة ولو ببطء وحذر شديدين... فهم "السكتة القلبية" وشعار "المصالحة" و"التناوب الديمقراطي" وفسح المجال لعهد جديد... يقال أيضا أن الملك الراحل لو علم أن الشعب كان سينزل بذلك الزخم لوداعه لتغيرت أشياء كثيرة وما كان ليترك الأجهزة النافذة تكتب وتخطط ما تريده في حق الشعب حتى تبقى الأجهزة قائمة همها الأساس الدفاع عن وجودها ومصالحها الكبيرة وليس مصالح الوطن والشعب... والله أعلم...

الشعب كما يظهر مما سلف دائم الحضور في كل اللحظات والمنعرجات الوطنية المهمة... انتفض سنوات 1958 و1965 و1979 و1981 و1984 و1990 وخرج في جنازة الملك الراحل بقوة سنة 1999، كما خرج في جنازات قيادات وطنية ودينية كما هو الحال مع الزعيم الاستقلالي علال الفاسي والقيادي التاريخي الاتحادي عبدالرحيم بوعبيد ومؤخرا المرشد الديني لجماعة العدل والإحسان، عبدالسلام ياسين... بطبيعة الحال ليس كل الشعب ولكن جزءا مهما منه يكثر عدده أو ينقص حسب الظروف...

كما كان للشعب المغربي وقفات لا تنسى مع مسيرات تضامنية مع الشعب الفلسطيني والشعب العراقي في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، مسيرات كانت الأكبر من نوعها في العالم، شدت إليها الأنظار بوحدة شعاراتها وتواجد كل أطياف المشهد السياسي داخلها... لكن أمور ستتغير من بعد وسيعرف الشارع المغربي انقساما حادا داخل فئات الشعب الواحد...

بالفعل، لم يعرف الشعب المغربي انقساما في صفوفه منذ الاستقلال إلى يوم الإعلان عن "الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية"... كان الشعب أو جزء من الشعب يخرج من حين لآخر لإثارة قضاياه الكبرى والتعبير عن مطالبه، كان الشعب دائما في مواجهة النظام السياسي والحكومة، حتى يوم انقسم الشارع المغربي وخرج في مسيرتان يوم 12 مارس 2000، الأولى بالدارالبيضاء وهي الأقوى بتوجيه من التيارات الإسلامية المناهضة لخطة وزير حزب التقدم والاشتراكية سعيد السعدي والثانية في الرباط جمعت شعب اليسار والليبراليين والحداثيين... إن هذا الانقسام الذي عاشه المغرب مع بداية العهد الجديد ستكون له انعكاسات تاريخية ما زلنا نعيشها إلى حدود اليوم... ويقال أن مليونية شعب الإسلاميين بالدارالبيضاء كانت حدا فاصلا بين استراتيجيتين، استراتيجية الانفتاح على الشعب وإستراتيجية تقليم الأظافر لمكون أصبح يسيطر على كل مناحي الحياة السياسية...

هكذا عاش الشعب المغربي فترتين في العهد الجديد، عهد الملك محمد السادس، مرحلة الانفتاح والمصالحة وطي صفحة أليمة من تاريخ المغرب إلى صفحة أخرى سماتها الأساسية السيطرة على الشارع ومحاولة إعادة هيكلة الحقل السياسي... إلى أن جاء "البوعزيزي" والربيع العربي وحركة 20 فبراير حيث خرج الشعب مرة أخرى موحدا وألزم كل الفرقاء السياسيين التواجد جنبا لجنب وهو المشهد الذي عشناه ورأينا كيف أصبح مناضل النهج الديمقراطي – الحركة الماركسية اللينية – يردد نفس الشعار مع الإسلامي السلفي والعدلاوي والبيجيدي... لكن هذه الوحدة سرعان ما دابت ورجع القطبان المجتمعيان الإسلامي واليساري إلى عهدهما السابق وهو المشهد البارز اليوم أمام أعيننا خاصة بعد الضربات التي ما فتئت جهات توجهها للتجربة الحكومية الجديدة...

هل هذا الانقسام داخل فئات الشعب الواحد ظاهرة صحية؟ هل هي من ضروريات المرحلة لإعادة التوازنات المجتمعية إلى ما كانت عليه سابقا؟ هل سيعرف الشارع المغربي استقطابا ثنائيا كما هو الحال في مصر اليوم؟ ما دور المؤسسات والأحزاب في التوافق على برنامج مرحلي يجنب البلاد كل انفلات لا يعرف أحد مصيره؟ تساؤلات لا مفر منها تفرض علينا طرحها ومناقشتها وإيجاد حلول لها قبل أن نقع في الصراع والقطيعة...

عبدالحق الريكي

الرباط، السبت 13 يوليوز 2013