نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


الكرسي الخالي
دكتور أحمد عيسى


كرسي خالي

بحث عن ساعته بين أكوام الكتب وقطع العظام الآدمية المصقولة وعن نظارته فوقها.. لم يجدهما.. استدار وهو يتثاءب وخرج من الغرفة يملأ صدره ببعض الهواء الرطب، متطلعاً إلى طابور فوانيس النور في الشارع الرئيس القريب الخالي من المارة.
أسند يديه إلى الجدار.. تتحرك المصابيح من النسمات فترفرف أجنحة الظل من طائر النور.. أمعن النظر، صار جزء من الجدار خلفه، فرأى عينه تنظر إليه، صعد أصابعه بعفوية.. إنها عدسة النظارة! ضحك من نفسه، لقد أنساه إرهاق المذاكرة أنه لم يخلعها، أدخل يده في جيبه يخرج منديلاً يمسحها، رنت ضحكاته في جنبات الدهشة.. إنها الساعة وهي تشير إلى الثانية صباحاً، هجمت عليه قافلة الصداع المشبعة بغبار التثاؤب فدخل مهزوماً، أغلق باب الغرفة واستلقى على سريره الصغير..

الطريق بين عينيه ومصباح الحجرة مشتعل بحرائق الأشعة، استقرت في عينيه كتلة المصباح، عاد ببصره إلى المكتب، ارتسمت على كل الأشياء مصابيح متداخلة، إنها الفرصة الأخيرة "اختبار التشريح النهائي" الرسوب فيه يعني إعادة السنة! في البداية استجاب للهاتف فأحضر الجمجمة وكتيباً صغيراً، وعلى جنبه على السرير أخذ يسترجع أسماء الثقوب وأماكن مرور الأعصاب، هنا فتحة العين.. تُرى ماذا كانت ساحة نظره؟ المحارم، العورات، أم التفكر والتدبر؟ هنا ثقب الأذن.. أهنا دخلت موجات الكذب والمعازف واللغو، أم الصدق والقرآن والحكمة؟ استراحت كفه على الجمجمة وجذبه النوم.
القبر..الجماجم.. الكتب.. مقاعد الامتحان المرصوصة.. الموت.. مثلثات من الفراغ.. كور من النور المنقط النابض.. بؤر المصابيح الحمراء.. ورق الإجابة الخالي.. أصابع الفشل.. سحابات المرارة.. سأسقط.. سأقع.. طااخ.. يداه كالجناحين تحاولان تحسس حدود الهاوية.. احمرار العين مع لون المصباح نسجت غلالة دم على الأشياء وعلى الجمجمة الساقطة جوار السرير على الأرض! أي الجمجمتين وقعت؟ وضع كفه على رأسه ليطمئن! ثم أمسك الأخرى بتأثر وجمع نبضه القوي مع الطرقات: دكتور أحمد.. أأدخل؟ ولجت الأم حاملة أكواب اللبن والشاي والماء مع الإفطار والتي امتزج بعضها على سطح الطبق الكبير حينما ارتعشت اليد من تقاطيع الجمجمة. قالت وهي تولي وجهها: أما تزال مستيقظاً؟! كان الله في عونك. إيه يا دكتور متى تتعامل مع المرضى بدلاً من الموتى؟ كانت الجمجمة لا تزال في يده، لقد علم من دراسة التشريح أنها لشاب، يحتمل أن تكون لطبيب أو لمهندس، ماذا أخذ مما جمع فأوعى؟ جعلها في مواجهته.. أين مالك؟ أين سلطانك؟ أين جاهك وجمالك؟ مس جبهته بجبهتها، سأكون مثلك!
ودعوه إلى الامتحان، فرشوا رسمه بالأزاهير التي غطت رؤى الجماجم.. غادر المنزل تودعه الدعوات، الطريق مزدحم كخواطره.. المواصلات صعبة كالامتحان. كلها خمسة أعوام أو ستة أو عشرة وتكون عندك سيارة يا دكتور! المنزل بعيد عن الكلية.. سوف يكون لك بيت قريب يا دكتور.. الدنيا حلوة خضرة، الحياة جميلة ورحبة، انس يا أخي موضوع الجمجمة. بأصابع يده مسح الغبار المتوهم عن ملابسه وأخذ شهيقاً عميقاً.. دخل لجنة الامتحان.. صالة ممتدة مرصوصة المقاعد والمناضد.. الجميع جالسون وقد وزعت أوراق الإجابة.. هنا مكان الأحمدين، كنت أظن أني سأدخل آخرهم، ومع ذلك أمامي مقعد خالٍ باسم أحمد علاء الدين.. انهمكت في كتابة اسمي.. انحدرت ورقة إجابة المقعد الخالي وطارت إليّ، أمسكتها وأعدتها. لماذا تأخر؟! المراقب من خلفي مر والتقط ورقة الذي أمامي.. إنه الملحق، الدور الثاني، الفرصة الأخيرة، اليوم بعام، المادة بسنة.. لم أحضر لظروفي في العام الفائت ولا الدور الأول.. من تراه؟ أليست له أسرة تحلم معه بعيادة وعربة، وعروس وعمارة؟! كن في الأسئلة، لكن لماذا لم يأت؟ أي شيء هذا الذي منعه؟
انتابه القلق وخرج إلى شرفة حجرته في جوف الليل يتابع طابور المصابيح وتداخل الظلال.. هناك مصباح قد انطفأ، وانفرط عقد حبات الضوء.. غداً اليوم الثاني.. تغير وضع المقاعد، أدخلت إلى الصالة العمودية ولها باب من الخلف، رحت أتابع أرقام الجلوس حتى عثرت على اسمي فعرفت مقعدي، ولكن أين هو؟ مشيت خطوة للخلف فوجدت مقعده، إنه اليوم خلفي، قد يأتي من الباب الآخر. بين لحظة وأخرى كنت أرهف سمعي أو ألتفت خلفي عساه يأتي، أحسست أن إنساناً يجلس خلفي.. أين أنت يا رجل.. أهكذا يا علاء الدين.. استدرت، قال لي بلهجة قاسية قبل أن أستبين ملامحه: أنظر أمامك، كن في ورقتك. إنه المراقب.
في الدقائق الأخيرة نظرت للذي بجانبي وسألته هل تعرف صاحب المقعد الخالي، هذا الذي ورائي؟ مس جبهته بيده وتنهد، وحملق في وجهي ثم أجاب: لقد مات منذ عامين! وقع القلم من يدي وانتابتني رعدة وأحسست بتيار كهربائي يعبر جسدي الداخلي جيئة وذهاباً، ودوائر صفراء باهتة كالفقاقيع على ورقتي.. جاء المراقب، وأخذ الورقة،.. ظللت جالساً، استعد الباقون لمغادرة المكان، قلت للزميل بصعوبة: أستحلفك بالله أتمزح؟ لا يا رجل الكل يعلمون، خاصة دفعته، ما عدا شؤون الطلبة كلما غاب أعطوا له الفرصة التي تليها، لقد كان شاباً منطلقاً مرحاً رياضياً.. مات غريقاً.
غادر الجميع الصالة، أنا وحدي.. استدرت بالكرسي واضعاً خدي على راحتي فوق المقعد الخالي، تجمعت خيوط الرؤى رويداً رويداً تنسج صورة الجمجمة بين يدي.. تتابعات من نقط الضوء وتدفقات ومضات الظلام.. طيف شاب جميل وتقاطيع الجمجمة يتنازعان فوق سطح المقعد.. أتكون جمجمة أحمد علاء الدين هي التي عندي؟ ولمَ لا! والآن على أفق رؤيتي تمتحن وتحاسب، لكنها ليست في امتحان لها أن تعود أو تعيد.. في امتحان آخر وأخير.. أتكون جمجمته؟ لمَ لا؟ الدور عليك.. ألم تتبدل المقاعد في النهاية وصرت في الأمام؟ ألم ينطفئ المصباح؟!.


المقاومة والإرهاب بين الإسلام والغرب


من القضايا المهمَّة التي طرحت نفسها على الساحتين الفكرية والسياسية، في المجالين الإسلامي والغربي والتي باتت تشكِّل بحق إحدى أهم الإشكاليات المؤسسة، بل والمُرَّسخة للتمايز التاريخي بين هذين العالمين قضية المقاومة لأشكال القهر والتسلط الواقعة على بعض أجزاء العالم الإسلامي، والتصنيف الغربي الظالم لهذا الشكل الإنساني الساعي إلى كرامة وحرية إنسانية لا غبار عليها، وذلك عبر استسهال قراءتها وإحالتها إلى خانة الأفعال الإرهابية المُجردَّة من كل بُعد إنساني ومعيار أخلاقي.