السعدانة








كتبها : ألفونس دوديه

عرّبها :فيصل الملوحيّ







وأخيراً..جاء الفرج ، بعد العمل المضني و الصبر المرّ والانتظارالطويل، جاء يوم السبت، يوم دفع الأجور، يوم الراحة، راحة ختام الأسبوع، يوم البشرى بإطلالة يوم الأحد.
لقد تغيركل شيء، ففي كل صوب من الضاحية صخب و صراخ وضوضاء تنبعث من بوابات الملاهي حين يلجها مرتادوها .
ها هو خيال امرأة بخُطا سريعة تخترق جمع عمال يحتشدون على الرصيف ثم يعبرون الشارع المنحدر، وتتوجّه إلى الطرف الآخر من الضاحية، عاصبة الرأس بشال رقيق، محاطةالوجه بغطاء كبير، ينمّ منظرها عن خجل مخز وبؤس مضن وقلق شديد. تُرى، أين وجهتها، و ماضالتها؟ في خطاها السريعة، ونظرتها المسدّدة ما يوحي بأنها تندفع إلى مزيد من السرعة.
و تتساءل بقلق: هل أستطيع أن أصل في الموعد؟!
في الطريق تمرّ بعمال يعرفونها، فيلتفتون إليها ساخرين, ويقابلون منظرها القميء بلقب شنيع: السعدانةَ...انظروا ها هي سعدانةَ ڤالنتان تشمشم خلف مولاها، ويستثيرونها صائحين: ها ها..لا ردّك الله، سواء عليك أوجدته أم لم تجديه. لكنها لا تلتفت إليهم، وتتابع سيرها ضيّقة الصدر لاهثة، فالمشكلة أنّ هذه الطريق التي تؤدّي إلى بغيتها صعبة الصعود.
وأخيراً... تصل أعلى الضاحية، حيث تتفرع دروب إلى خارجها،وفي طرفها مصنع كبير. كانت بوابات المصنع تُغلق، وبخار الآلات المتّجه إلى مجاري المياه ينطلق ويصفر كأنه قاطرة تتوقف، ومازال بعضٌ من بخار يتصاعد من فُُُُوََّهات المداخن، وحرارةالجو التي تزيدها الأبنية الصحراوية، تبدو في الأنفاس وفي لهاث العمل نفسه الذي توقف منذ قليل.
توقف كل شيء اللهم إلا بصيص نور كان ينبعث من صندوق المحاسب خلف السور في الطابق الأرضي،ثم ينطفئ لحظة وصول المرأة، فتسمع من يقول: انصرفي يا امرأة، تأخر الوقت، أوقفنا دفع الأجور. فتحتار وتردّد في نفسها :ويلي، ماذا أفعل الآن، كيف أؤمّن مصروف الأسبوع القادم، ما أكثرالمحتاجين في البيت إلى المال! الأطفال: لا جورب في أرجلهم، والخبّاز: ينتظر ثمن الخبز.. خارت قواها،فحطّّت بجسدها على نصب من حجر، وعيناها تائهتان في هذاالليل البهيم.
وقر في نفوس الناس في كل مكان أن العمل توقّّف، أما الملاهي فقد ازدادت صخباً وضوضاء، ويُلمح عبر واجهاتها العكرة ألوان مختلطة زائفة تنبعث من الزجاجات المصفوفة: أخضرخمرة الأبسانت ووردي خمرة البيتر ، ويختلط بريق ماء الحياة – دانتزيك- الذهبيّ بالصياح والغناء ، وقرقعة الكؤوس بالكؤوس التي يسمعها كلّ مَنْ في الشارع ، تصاحبها أصوات النقود حين تصطدم بطاولة الشراب بعد أن ترميَها الأيدي السوداء التي تربح وتربح. السواعد المرهقة تستند إلى الطاولات وقد جمّدها التعب المضني; لم يفطن هؤلاء البائسون أن حرارة المكان قد هبطت هبوطاً يؤذي الصحة وألا نار في بيوتهم توقد حيث النساء و الأطفال يرتعدون بردا.
ماكان من شيء يهتزّ في الشوارع المقفرة أمام النوافذالواطئة سوى خيال السعدانةَ الهيّن يغدو و يروح على وَجََل..تدور البائسة، وتدور ، تتنقل من ملهى إلى آخر، تنحني و تمسح زاوية الواجهة بشالها، تتطلع ثم تذهب مهمومة مضطربة بلا انقطاع . وفجأة تنتفض فرحاً ، فها هو صاحبها ڤالنتان تلتقي به وجهاً لوجه. بشق مثير!! في قميصه الأبيض، و اعتزاز بشعره المجعد، نعم هو في ملابس عامل هيّن ولكنه الفتى المميز، الجميع يدورون حوله يصغون إليه لعذوبة كلامه، و أفضل مافي الأمر أنه هو الذي يعطي!... وفي أثناء كل هذا كانت السعدانةَ البائسة هنا في الخارح ترتجف, تلصق وجهها بالزجاج، وهناك في الداخل خط من الغاز يطفو على الطاولة التي يجلس عليها السكارى، تملؤها الزجاجات والكؤوس، وتحيط به وجوه تبدو عليها أمارات الحبور.
من يراها من خلال الزجاج يظنّها جالسة بينهم مذنبة نادمة بصدق،غير أنّ ڤالنتان لم يلمحها فهو مشغول تائه في غمرة ثرثرات الملاهي التي لا تتوقّف ،تتجدّد مع كلّ كأس، وتحمل في طيّاتها شيئاً من خبث تضارع ما في الكأس من خمرة مغشوشة، لم ير هذه الهيّنة في قلقها وشحوبها وهي تلوّح له من خلف الزجاج، لم يرعينيها البائستين اللتين ترقبان عينيه. ما كانت لتجرؤ على الدخول، فمن الإهانة له أن تسأل عنه وسط أصحابه. لو كانت جميلة لهان الأمر، بيد أنّها - للأسف- قبيحة، بل مقرفة.
آه! ما كان أنعمها وأرقّّّها يوم التقيا قبل عشر سنين! كانا كلّ صباح يتقابلان وهما ذاهبان كلٌّ إلى عمله، فقيرةً كانت ولكنّها ما كانت تخجل من بؤسها، مغناجاً كأنها شريطة أوزهرة من بدائع باريس يغنّجها بائعوها فيحفظونها في خزائن سوداء أُحكم إغلاقها. و كان الحبّ من أول نظرّة لأحدهما إلى الآخر، ولكن كان عليهما أن ينتظرا طويلاً ليتمكّنا من الزواج، فتكاليفه بعيدة عن متناولهما.
وأخيراً جاءهما الفرج من أمّيهما حين أعطت كلٌّ منهما فراش سريرها،ولمّا كانت الصغيرة محبوبة كثيراً فقد اكتمل أثاثهما بما في الورشة من متاع. أمّا ثوب الزفاف فقد أعارته صديقة، والنقاب كراه حلاق.
كان عليهما أن يسيرا في الشوارع على أقدامهما ليتزوّجا، وأن يقفا في الكنيسة حتى الفراغ من قدّاس الدفن، وأن ينتظرا كذلك في دار البلديّة حتى يتزوّج آخر الأغنياء فزيجاتهم تُقدّم على سواها.
ثم صحبها من دار البلديّة إلى أعلى الضاحية، وأنزلها في غرفة مبلّطة كئيبة تقع أسفل ممر طويل مليء بغرف أخرى صاخبة، قذرة، لا ينسجم بعضها مع بعض.
هذه بدايتها: قرف في البيت، فرحة بحبيب لم تُعمَّر طويلا- فقد أدمن الشرب مجاراة لأصحابه السكارى - وحسرة على نساء باكيات يندبن سوء أحوالهنّ، كلّ ذلك أفقدها همّتها وحيويّتها. كان- هو- يُمضي وقته في الملهى يعربد، أمّا هي فكانت تُمضي كلّ ذلك الوقت عند جاراتها بليدة مهانة تهزّ بين ذراعيها طفلاً لايكفّ عن الأنين. كانت تلك حياتها وهي أصل بلواها فيما وصلت إليه من القبح المريع ولقب السعدانةَ الشنيع الذي رماها به عمّال المشاغل.
نحن مازلنا مع السعدانةَ في مكانها،حيث تغدو أمام الواجهات بظلّها الهيّن و تروح. يُسمع وقع خطوات أقدامها المتباطئة على حافّة الرصيف، وسعالها القاسي الخارج من قصيبات الرئتين، فالليلة ممطرة باردة. إلام ستبقى على هذه الحال تنتظر؟ خطر في بالها مرّتين أو ثلاثاً أن تضع يدها على قبضة الباب،بيد أنّها ماكانت لتجرؤ على فتحه. وأخيراً.. تشجّعت حين غلبتها صورة الأطفال الذين يتضوّرون جوعاً، فدخلت.
ما إن عبرت العتبة حتّى انفجرت ضحكة مجلجلة وكلمات ساخرة تقول: (ڤالنتان! هاك السعدانةَ)، فتوقفت هنيهة،. حقّاٌ! إنّها لقبيحةَ! و بخاصّة في أسمالها البالية الغرقانة بالمطر، والإعياء البادي على وجنتيها، وشحوب وجهها بعد الانتظار الطويل.
( ڤالنتان! هاك السعدانةَ ) هذه العبارة أرجفت المرأة المسكينة و شلّت حركتها. أمّا هو فقد نهض في مكانه حانقاٌ، أتتجرّأ على الحضور تسأل عنه، فتخزيه بين رفاقه؟! انتظري..انتظري..فسوف تتلقَّيْن وعدك..وبقبضته المحكمة وجّه إليها لكمة فظيعة، فهربت الشقيّة، وأخذت تجري تتبعها صيحات السخرية . فطرق الباب خلفها، وقفز قفزتين، وأمسك بها في منعطف الطريق...الظلام دامس، والطريق خاوية من المارّة. آخ! ما أتعسك أيّتهاالسعدانةَ!
لا بأس، فعاملنا الباريسيّ ليس شرّيراً حين تغيب عيون أصحابه عنه، وحين وقف أمامها انقلب على نفسه فصارت قوّته ضعفاً وجبروته تخاذلاً، وتحوّل من جبّارمغرور يتباهى بنفسه إلى ذليل مُهان يعتذرعمّا فرّط في حقّها.
سارا وكلٌّ منهما يتأبّط ذراع صاحبه. كان صوت المرأة يتعالى مُنبئاً بحنقها ونواحها وأنّها تجهش بالبكاء، وهما يبتعدان في بهيم الليل.

لقد ثأرت السعدانةَ لكرامتها!