كنيسة السيدة العذراء في مرعش...بقلم آرا سوفاليان
اذا ذهب الارمني بجواز سفر اميركي لزيارة مسقط رأس جده وأحياناً والديه، أو لزيارة البلد التي ينحدر منها في ارمينيا الغربية المحتلة، فإنه يدفع كل ما معه من مبالغ لتصب هذه المبالغ في واردات السياحة التركية، لدرجة انه لا يستطيع دخول كنيسة كانت تصلي فيها عائلته دون ان يدفع، والمحروم من ارض الوطن كالظمآن لا يرتوي، فيشرب ويشرب ويشرب ويدفع وهو بالأساس يدفع لرؤية شيء يملكه وهو صاحبه الشرعي ويفترض ان يكون ارث من أجداده.
ذهب صديق لي في أواسط الثمانينات إلى أرمينيا الغربية المحتلة مصطحباً زوجته وأولاده، وقصد مرعش مسقط رأس والده، وأنفق هناك مبلغاً معتبر للبحث عن كنيسة كان والده يحدثه عنها، وقد أمضى فيها سني طفولته قبل المجزرة الكبرى التي لم تترك من عائلته أحد غيره، واسمها بالتركية "باباكلو كليساسي" ومعناها بالتركية "كنيسة التي تحمل الطفل" وهذا التعبيرمجازي ويشير إلى السيدة العذراء التي تحمل الطفل يسوع، وكانت قد جرت العادة لدى الأرمن انه عند الانتهاء من تشييد أي كنيسة يتم نقش اسمها على الواجهة ويتم تزيين هذه الواجهة بصورة تدل على اسم الكنيسة ويتم ايضاً كتابة سطر يبين تاريخ البدء بالتشييد وتاريخ الانتهاء وان هذا البناء تم في عهد الاسقف او المطران او البطريرك كذا، فإذا كان اسم الكنيسة كنيسة السيدة العذراء فإنه يتم في الغالب وضع تمثال أو نقش للسيدة العذراء وفي حضنها السيد المسيح الطفل، وإذا كان اسم الكنيسة كنيسة الصليب فيتم وضع نقش للصليب على باب مدخلها وهكذا.
ووصل الرجل إلى مرعش، وراجع مفكرته، ولم يعثر على كنيسة السيدة العذراء على الرغم من أنه متأكد من وجودها، والكتيب السياحي الذي في يده لا يعترف بها ولا يرشد إلى مكانها، وهو يدرك أن زرّ في قميص والده يحوي من الصدق ما لا تحتوي عليه كل تركيا خاصة وان له اقرباء في اميركا جاؤوا إلى تركيا في مجموعة سياحية وزاروا هذه الكنيسة، ومن هنا بدأ الصراع مع الذات...لقد وصل إلى تركيا ووصل إلى مرعش ولكن أين الكنيسة التي صلّى فيها والده، أين هي هذه الـ "باباكلو كليساسي" وكيف سيجدها، وهل سيتمكن من مغادرة مرعش وتركيا دون ان يحتفظ في كاميرته لبعض الصور لها...لا بد أنه صلّى في سريرته للسيدة العذراء لترشده وتعينه فيما ذهب اليه، لأنه بالاساس كان القصد من زيارة مرعش الحصول على صور للطرقات وصور لدار أهله وصور لمنهل الماء وصور لكنيسة السيدة العذراء وصور للمقبرة التي تحتوي على رفات جذور عائلته، ومن حيث النتيجة فإن مرعش تغيرت، وأضاع الرجل الشوارع التي حدثه والده عنها، وأضاع دار أهله، وأضاع منهل الماء، ولم يعثر على المقبرة، ولم يعثر على الكنيسة على الرغم من أنه متأكد من وجودها، خاصة وأن أقرباؤه في اميركا، سافروا إلى تركيا وقصدوا مرعش واستطاعوا زيارة هذه الكنيسة بالذات، وكان قد اتصل بهم قبل سفره ونقل بعض الملاحظات والأسماء على مفكرته وتشير تلك الملاحظات الى ان الكنيسة تقع في الجانب الشرقي للمدينة وهناك ساحة تتوقف فيها البولمانات السياحية وتحوي فرن للخبز وباركينغ للسيارات وسوق تجاري وإلى جانبه مطعم ومقهى على الرصيف وللمطعم تيراسات عالية تشرف على طاولات المقهى الذي على الرصيف، ووصل الرجل إلى المكان وسأل عن الكنيسة فلم يعرفها أحد، وتناول طعام الغذاء في المطعم وجلس على التيراسات العالية، وكان يجيد التركية واستطاع التقرب من النادل الدمث وأجزل له في البخشيش، ولكن عندما سأله عن هذه الكنيسة تغير لون الرجل، وقال له لا أعرف، لا أعرف لا توجد هنا كنيسة كهذه، وقبض النادل الحساب واحتفظ بالبخشيش المخصص أصلاً للإجابة عن السؤال المتعلق بتحديد مكان الكنيسة التي أنكرها وأنكر وجودها وتبرأ منها، وذهب النادل بعيداً وعليه علامات الامتعاض.
أدرك الرجل أن في الأمر سرّ، وهو متأكد من وجود هذه الكنيسة ولكن ما هو السبيل للوصول اليها؟ ولماذا ينكرها الجميع، وتتغير ملامحهم عندما يسأل عنها.
ونزل الرجل إلى الساحة وأغراضه في يديه تدل على أنه غريب...ابتعد قليلاً عن مدخل المطعم فوجد كرسي للبلدية يجلس عليه اثنان يلعبون النرد، واثنان آخرون يراقبون اللعب ويجلسون على كراي سفرية صغيرة، ولهف قلب صديقي إلى واحد من المراقبين فأشار له بيده أن...هل تسمح بالمجيء أريد التحدث إليك.
وجاء الرجل ويبدوا انه سائق أو موظف متقاعد، فحدثه صديقي بالتركية ودار الحوار الآتي:
ـ هل تسمح بأن تمنحني القليل من وقتك؟
ـ بكل سرور تفضل
ـ أنا سائح وأصل عائلتي من هنا من مرعش وابحث عن شيء أعتقد انه موجود ولكن الجميع ينكرون وجوده.
ـ هل أنت أرمني؟
ـ نعم أنا أرمني
ـ أهلاً بك يا ابن العم، فأنا أيضاً من أصول ارمنية، جدي كان ارمنياً ومن هنا من مرعش، ولكنه ترك الديانة المسيحية وغير اسمه واسم عائلته، وتزوج من جدتي، وهذا السرّ نعرفه جميعاً أنا وإخوتي ولكننا لا نستطيع البوح به...قل لي عن أي شيء تبحث؟
ـ أبحث عن الـ "باباكلو كليساسي"
ـ وتغيرت سحنة الرجل ولكنه صار في وضع من لا يستطيع التراجع فقال لصديقي الكنيسة موجودة وهي قريبة من هنا ولكنها مقفلة وبوابتها ونوافذها مسدودة بالحجارة والاسمنت والدخول اليها ممنوع ولكن إذهب إلى هذا الولد هناك الذي يجلس خلف بسطة الدخان وحدثه بالامر وعليك ان تضع البخشيش في يده قبل السؤال فسيساعدك.
وذهب صديقي إلى بسطة الدخان ووضع قطعة من النقد الاميركي في يد الولد وأخبره بالمطلوب، فقال الولد، انتظرني هنا لأرى ما يمكنني فعله، وذهب الولد وعاد ومعه شاب مفتول العضلات يخفي معظم وجهه بنظارة ريبان سوداء كبيرة.
نظر الشاب بإتجاه صديقي وقال له:
ـ هل انت أرمني؟
ـ نعم أنا أرمني
ـ سآخذك إلى الكنيسة ولكن هذه المسألة تكلف 100 دولار
ـ سأدفع لك بكل سرور
ـ ومئة أخرى ان كنت تحمل كاميرا
ـ ليست مشكلة
ـ معك 10 دقائق من الوقت لا غير، فأنا أعرّض نفسي للخطر من أجلك، الدفع سلفاً لو سمحت...حسناً تفضل.
وكانت الكنيسة مخبأة ببيوت غير نظامية تم تشيدها في محيطها مع ترك مسافة لا تتجاوز المتر الواحد، وصور صديقي الكنيسة من واجهتها وصور ما بقي من الـ "باباكلو" فلقد تم تحطيم الوجه في تمثال السيدة العذراء بشكل غير كامل...والتقط صديقي بعض الصور للجوانب والنوافذ والباب الرئيسي...وسأل المرشد: كيف سندخل الكنيسة؟ فأشار المرشد بيده ما يفيد بان اتبعني.
وفي الناحية الخلفية أبعد الرجل بقدمية بعض التراب والاعشاب اليابسة فظهر لوح خشبي عليه بقايا لوح من التوتياء وحلقة معدنية ظاهرة، جذبها الرجل وسحب لوح الخشب فظهر درج مظلم، فنزل المرشد وطلب من صديقي وعائلته أن يتبعوه، ووجد الزوار انفسهم في نهاية الكنيسة ولحسن الحظ كان صديقي يحمل بيديه كاميراتين الأولى عادية بفلاش والثانية فيديو ومزودة بضوء، اضطر لإستعماله لإضاءة المكان المظلم ولضرورات التصوير المتحرك، وكان يصور بالكميرتين فلم يترك عمود أو سقف أو نقش أو أرض إلا وصورهم، واتجه من الانسطاس فكان محطماً بالكامل مع بقاء بعض البقايا، فصوره بالكامل وصور النقوش المحطمة على الزوايا وصور الهيكل الذي تم اقتلاع الرخام من جنباته، وحصل على صور كاملة لكنيسة الـ "باباكلو كليساسي" ولكن على العظم، فلقد انتبه إلى ان الجدران الداخلية للكنيسة تم تعريتها وقشطها وازالة طبقة اللبن والكلس من عليها للبحث عن امكانية وجود طمائر من الذهب في الجدران، فتم القشط حتى الوصول إلى الحجارة، وتبين ان هناك حجارة قد سحبت من اماكنها واعيدت بدون الملاط.
نظر الدليل إلى ساعته وقال لصديقى أضعنا عشرون دقيقة عدا الزمن الذي قضيناه في تصوير المدخل والجدران الخارجية...فأجابه صديقي: كن كريماً معي كما كنت كريماً معك بقي لدينا التصوير جهة ميمنة وميسرة الهيكل ونخرج من هنا...قال الدليل يمكنك رؤية ميمنة الهيكل ولكن بدون تصوير اما ميسرة الهيكل فيمكنك رؤيتها وتصويرها كما تشاء...ونظر صديقي إلى جهة ميمنة الهيكل فوجد خزانة مربعة من الحديد المصفح وكأنها صندوق من تلك الصناديق المستعملة في محلات الصاغة، فلم يهتم للأمر، ونظر إلى خلف الصندوق فوجد ما يشبه الخزن ولكن بدون رفوف ولا ابواب، فأدرك ان هذا المكان كان مخصص للملابس الكهنوتية، وترك صديقي المكان واتجه إلى الجهة اليسرى من الهيكل فشاهد جرن العماد وفيه بعض القاذورات والقطن المستعمل وعليه آثار دماء، فطلب الاذن بالتصوير ففرد المرشد يده بما يفيد ان تفضل، وبكى صديقي وهو يصور جرن العماد لأنه لمح والده في عمر الأربعين يوم وهو يجلس فيه والعائلة كلها تتجمع في هذا المكان والكاهن يمنح سر العماد للطفل ...وسمع صديقي بعض الترانيم وشمّ رائحة البخور وكاد أن يغمى عليه.
وفي طريق العودة داس صديقي على شيء تكسر تحت نعل حذائه وعندما وجّه ضوء الكاميرا إلى الأسفل رأى فلاكونات وانبولات من الزجاج وسيرنجات لحقن الأدوية وبقايا علب كرتونية صغيرة...فلم يعلق، وتجاهل المرشد الأمر وغادر الجميع المكان وعادوا إلى حيث كان يجلس بائع الدخان وفي الطريق سأل صديقي المرشد...من أين يمكنني شراء الحلوى...فأجابه المرشد أن اتبعني...ودخل المرشد السوق واشار إلى دكان لبيع الحلوى فدخل صديقي إلى المحل واشترى علبتين من الحلوى أهدى المرشد إحداهن واحتفظ بالثانية...وخرج صديقي مع عائلته إلى المكان الذي كان ينتظر فيه سائق التكسي فودع المرشد وهمّ بركوب السيارة فشاهد التركي من أصل أرمني يقف على مقربة من السيرة يريد وداعه، فذهب وقبله فبادره التركي قائلاً:
ـ هل ادركت الآن لماذا كان الجميع ينكر معرفته بوجود هذه الكنيسة ويرفض أن يدلك على مكانها؟
ـ نعم أدركت
ـ لقد استولت هذه العصابة على الكنيسة ومنعت الناس العاديين من الدخول اليها، وحولتها إلى مخزن لبيع المخدرات وتهريب الخمور واللواطة والبغاء...لقد ادركت يا ابن العم مدى حاجتك لزيارة هذه الكنيسة فأرشدتك لتصل إلى مبتغاك.
ـ ابن العم اريد ان اشكرك...لقد جمعني الله بك فيسّرت أمري...فشد الرجل على يد صديقي وقال له...هذه ضريبة الدمّ فنحن من أصل واحد...وأعطى صديقي للرجل علبة الحلوى الثانية فلقد كان يترفع عن رشوة او بخششة أرمني...وبقي بدون حلوى ولكنه استطاع معرفة السر واستطاع تصوير هذا السر وازاح تلك الصخرة التي كانت تجثم على قلبه وسيعود بعد ذلك إلى بلده الثانية وقد حقق أمنيته...وصعد إلى السيارة وقال للسائق عد بنا إلى الفندق فلقد انتهى الأمر.
قلت لصديقي...سيعترفون بالمجازر وستعود أراضينا وسيعوضون لنا...فنظر باتجاهي وقال: الحق في جهة القوة...المانيا تدفع لإسرائيل مليارات الدولارات كتعويض عن الهولوكوست ونحن ندفع حتى اليوم الذل والمهانة والجحود وعدم الاعتراف بالحقيقة...لن تعود لنا حقوقنا إلا اذا امتلكنا من القوة ما نستطيع به اجبار عدونا على اعادتها كما فعلت اسرائيل بألمانيا.
وطوت السنين هذه المحادثة ونسيتها ونسيت القصة كلها، وتذكرتها اليوم بعد ان سمعت الخبر الآتي من الـ BBC العربية، بعد ان فرغت من سماع كل ما يتعلق بالبلاء الذي نحن فيه هنا في سوريا والخبر هو الآتي: في معرض التعويضات التي تدفعها ألمانيا لإسرائيل عن الجرائم التي ارتكبتها حكومة الرايخ إبان الحرب العالمية الثانية فلقد دفعت ألمانيا 87 فاصلة 6 مليار دولار لإسرائيل كتعويضات عن الهولوكوست منذ العام 1949 ولغاية اليوم، وتم الافراج اليوم الاربعاء 29 05 2013 عن مليار يورو، ويتم صرف هذه المبالغ فى صورة تعويضات لضحايا المحرقة النازية / الهولوكوست/ حيث تم القضاء على أكثر من ستة ملايين يهودى قتلوا فى الهولوكوست (جريمة التطهير الاثني العرقي الجينوسايد) فى معظم البلدان الاوروبية التي اجتاحتها ألمانيا النازية أثناء فترة حكم الرايخ الثالث التى حكم فيها الزعيم النازي أدولف هتلر ألمانيا والتى امتدت بين عامى 1933 و1945 .
وهذه هي شريعة الاقوياء التي يتم بموجبها إخضاع الآخرين الأقل قوة...أكبر تعويض في الدنيا لا يقابل نتائج الابادة، ولا الترويع الذي تعرض له الضحايا، ولا خسارتهم لحياتهم وهي منحة ربانية لا يجوز مصادرتها إلا من الذي منحها جلّ جلاله.
لقد تعرض الأرمن في ظل الحكم العثماني لشيء مماثل لا يقل فداحة عن الذي حدث في الهولوكوست، وخسر الارمن بلدهم وجبالهم وسهولهم ومنابع انهارهم وشواطئهم، وضاعت قراهم ومزارعهم وبيارات البرتقال والمشمش وسهول القمح الذهبية، وكروم العنب، والكنائس والبيوت والمحلات والاسواق والمحاصيل والماشية والابقار والثيران وازهقت ارواح الشباب وتم اغتصاب النساء بعد سرقة مصاغهن وتم ايضاً اغتصاب الاطفال وتم بقر بطون الحوامل من اجل رهانات حقيرة، وتم بقر بطون كل النساء في قوافل التهجير بحثاً عن الذهب، وتم بناء اهرامات من الجماجم ومضى على جريمة الابادة العنصرية 98 سنة وأعداؤنا يقولون ان المسألة لم تتعدى الترحيل واننا واهمون...اما الآخرون وهم الأقوى فلقد جعلوا الألمان واهمون وركبوا ظهورهم في رحلة سعيدة يبدوا انها رحلة طويلة ولا نهاية لها.
آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
الخميس 30 05 2013
arasouvalian@gmail.com