منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 8 من 8
  1. #1

    فِي مَقَامِ الِاسْتِمَاعِ وَالتَّحَدُّثِ

    فِي مَقَامِ الِاسْتِمَاعِ وَالتَّحَدُّثِ= 1
    للدكتور محمد جمال صقر
    تقدُّم الاستماع على التحدث
    لا ريب في أنه ينبغي أن يُحَدِّثَنا أحد ونستمع إليه، حتى نتعلم منه فنتحدث. وإذا تأملنا تاريخ الإنسان في الثقافة العربية الإسلامية بنص القرآن الكريم: “عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا” – اطلعنا على أن سيدنا آدم -عليه السلام!- استمع في مبتدأ وجوده إلى الحق -سبحانه، وتعالى!- فتعلم منه وتحدث. بل إذا تَنَاسَيْنَا أصولنا الثقافية العربية الإسلامية -وينبغي ألا ننساها أبدا- وجدنا الإنسان قد استمع منذ أوليته إلى أصوات الكائنات من حوله، وفهم لها وُجوهًا من المعاني، فتعلم منها وقَلَّدَها. ثم مِمَّا تعلمه بالتَّلَقِّي أو التَّقْليد وَلَّدَ ما لا حصر له مما تواضع عليه الناس فيما بعد.
    تداخل الاستماع والتحدث
    إن الاستماع إذن أسبق من التحدث، وهو أبو الملكات اللغوية كما نص ابن خلدون؛ فهو منفذ المهارات اللغوية الأكبر الذي يعول فيها عليه قبل غيره. والتحدث وثيق التعلق بالاستماع؛ إذ هو وجهه الآخر من التخاطب، ينبغي أن يراعى تَعَلُّقهما في تطوير مهارتي الاستماع والتحدث جميعا معا، بحيث نذكر في مقام الاستماع مقامَ التحدث؛ فنفكر في المهارة من وجهة تَحَدُّثيَّة، كلما فكرنا فيها من وجهة استماعيَّة.
    معايير الاستماع والتحدث
    ومن ثم نحب أن نتعرض لما يمكن تسميته معايير الاستماع والتحدث، أي مقومات وجود كل منهما، التي ينبغي أن يراعيها المستمع لأن المتحدث يراعيها- تَعَرُّضًا واحدا، بحيث يكون المعيار الواحد لهما معا، على النحو الآتي:
    1 المعيار الاجتماعي (علاقة المستمع بالمتحدث): تُرى ما منزلة المستمع من المتحدث؟ أهي منزلة امرأة من رجل، أم رجل من امرأة، وصغير من كبير، أم كبير من صغير، ومتعلم من معلم، أم معلم من متعلم، ومرؤوس من رئيس، أم رئيس من مرؤوس…؟
    2 المعيار اللغوي (أسلوب التعبير): ترى ما نوع الكلام المتردد؟ أهو قديم أم حديث، ومجهَّز أم مرتجل، ومقنع أم مخادع، وواضح أم غامض، وعلمي أم فني، وشعر أم نثر، وقوي أم ضعيف، وحسن أم قبيح…؟
    3 المعيار القصدي (غاية المراد): ترى ما وراء هذا الكلام؟ أهو التبشير أم التنفير، والتقريب أم التبعيد، والإقناع أم القهر…؟
    فإن لفهم طبيعة علاقة المستمع بالمتحدث، وتمييز أسلوب التعبير، وتحديد غاية المراد من الكلام- لأثرا واضحا في حسن اختيار مجال الاستماع والتحدث.
    مجالات الاستماع والتحدث
    وإذا كانت تلك الثلاثةُ معاييرَ الاستماع والتحدث اللازمة جميعا معا، فإن للكلام مجالاتٍ لا يكاد يخرج عن أيِّها من يستمع إليه أو يتحدث به، ينبغي ألا تغيب عن أيٍّ منهما، على النحو الآتي:
    1 مجال الألفة (التحبب والتلطف): وفيها يتجلى حرص المستمع والمتحدث جميعا معا، على: تأسيس الصداقة، وحسن المعاملة، وتحسين الصورة، وتمكين الحرية، وتيسير الفهم، وكسب الولاء، وبث الثقة، وتقديم الخدمة.
    2 مجال المتعة (الاستمتاع والإمتاع): وفيها يتجلى حرص المستمع والمتحدث جميعا معا، على: إلهاء الوعي، وترويج الشهوة، وقطع العادة، ونسيان الهم، وترفيه النفس، وتجميع النشاط، وتغذية الذوق، وتزكية الوُجدان.
    3 مجال الفائدة (الاستفادة والإفادة): وفيها يتجلى حرص المستمع والمتحدث جميعا معا، على: فضل العلم، وانتهاز الفرصة، وتفاوت التفكير، وإهمال الظن، وحفظ المكانة، وطلب الاستعلاء، وتحديد المراد، ومنع التجاوز، وتحمل المسؤولية.
    4 مجال الحجة (الاقتناع والإقناع): وفيها يتجلى حرص المستمع والمتحدث جميعا معا، على: قوة التأثير، وعدم الإكراه، وتنمية الحوار، وتحصيل الاقتناع، وقبول السلطة، وشمول التأثير، وحسن التربية، وتجنب الإعراض، وحسن التأويل، واستواء الخيارات.
    فإن لتمييز مجالات الاستماع والتحدث بعضها من بعض، ثم تحديد المجال المناسب- لأثرا واضحا في حسن توجيه رسائل الاستماع والتحدث.
    رسالة الاستماع والتحدث
    في مجال الاستماع والتحدث المناسب، تَتَكَوَّن الرسالة المحددة التي يستقبلها المستمع ويرسلها المتحدث، ويدل عليها العنوانُ الذي يستطيع المستمع أن يُعَنْوِنَ به ما استمع إليه، والمتحدث أن يُقَدِّمَهُ بين يدي ما سيتحدث به.
    إن تحديد هذه الرسالة بخلاصة المراد، داخل المجال المعين بضوابط المعايير السابقة- لهو اكتشاف ممتع للمستمع والمتحدث جميعا، ينبغي أن تتبارى في تحصيله العقول ويتنافس المتنافسون. ولا سبيل إلى تحديد هذه الرسالة إلا باستيعاب ظاهر الكلام (لفظه) وباطنه (معناه)، والاستعانة بباطنه على ظاهره وبظاهره على باطنه من غير إهمال ولا كسل، حتى تتحدد الرسالة، ويتأكد الاكتشاف الممتع؛ فإن ظاهره (لفظه) وباطنه (معناه)، يكونان معا، ويتحركان معا، ويصلان معا.
    وأطرف ما في وجود هذه الرسالة التي يدل عليها عنوانها، أنها على عكسه؛ فإن العنوان آخر ما يكتب، ولكنه أول ما يقرأ- وإن الرسالة أول ما يثير الاستماع والتحدث، ولكنها آخر ما يُحَدَّد! يعالج المستمع والمتحدث لفظ الكلام ومعناه علاجا أَوَّلِيًّا، ثم يظلان يُديرانه ويركِّبانه ويُداخِلانه حتى يَعْقِدا عُقْدَتَه، وما عُقْدَتُه إلا رسالته المحددة.

  2. #2
    مَاعِ وَالتَّحَدُّثِينبغي ألا يجوز العبث بين الاستماع والتحدث، إلا على الغَفَلَة الهازلين، فأما العاقلون الجادون فمشغولون بتحديد رسالة الكلام المستمع إليه المتحدث به، داخل مجاله، بضوابط معاييره.وفيما يأتي أتحدث إليكم بكلام جديد عليكم -أو ينبغي أن يكون جديدا عليكم حتى تستقيم التجربة- أحب من خلاله أن أقيس درجة مهارتي بالتحدث، ودرجة مهارتكم بالاستماع، بالأسئلة الآتية التي لا تمنع اقتراح غيرها:نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي أَلِمُعلِّمٍ هَذَا الْكَلَامُ أَمْ متَعَلِّمٍ؟نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي أَوَاضِحٌ أَمْ غَامِضٌ؟نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي أَمُقْنِعٌ أَمْ قَاهِرٌ؟نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي أَمُجَهَّزٌ أَمْ مُرْتَجَلٌ؟نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي أَعِلْمِيٌّ أَمْ فَنِّيٌّ؟نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي أَنَثْرٌ أَمْ شِعْرٌ؟نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي أَقَدِيمٌ أَمْ حَدِيثٌ؟نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي أَلِذَكَرٍ أَمْ أُنْثَى؟نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي أَقَوِيٌّ أَمْ ضَعِيفٌ؟نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي لِمَنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ؟ولا ريب لديَّ في أنه تختلط في أجوبة هذه الأسئلة أساليبُ التفكير (حركة أفكار المتحدث)، والتعبير (حركة عبارات المتحدث)، والتقويم (حركة أحكام المستمع)، ولا عَجَبَ؛ فهي واحدة الأصل (العَقْل). ولكنني مضطر فيما يأتي إلى تمييز بعضها من بعض، تَوْسيعًا لنفسي، وتَيْسيرًا عليكم، بحيث أتحدث إليكم بالكلام نفسه ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لأسألكم بعد المرة الأولى عن أسلوب التفكير، وبعد المرة الثانية عن أسلوب التعبير، وبعد المرة الثالثة الأخيرة عن أسلوب التقويم.فَاسْتَمِعُوا أَوَّلًا، لِتُمَيِّزُوا أُسْلُوبَ التَّفْكِيرِ:"اعْلَمْ أَنَّ الْمُسْتَشَارَ لَيْسَ بِكَفِيلٍ، وَأَنَّ الرَّأْيَ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ. بَلِ الرَّأْيُ كُلُّهُ غَرَرٌ لِأَنَّ أُمُورَ الدُّنْيَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا بِثِقَةٍ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهَا يُدْرِكُهُ الْحَازِمُ إِلَّا وَقَدْ يُدْرِكُهُ الْعَاجِزُ. بَلْ رُبَّمَا أَعْيَا الْحَزَمَةَ مَا أَمْكَنَ الْعَجَزَةَ!فَإِذَا أَشَارَ عَلَيْكَ صَاحِبُكَ بِرَأْيٍ، ثُمَّ لَمْ تَجِدْ عَاْقِبَتَهُ عَلَى مَا كُنْتَ تَأْمُلُ- فَلَا تَجْعَلْ ذَلِكَ عَلَيْهِ دَيْنًا، وَلَاْ تُلْزِمْهُ لَوْمًا وَعَذْلًا بِأَنْ تَقُولَ: أَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِي، وَأَنْتَ أَمَرْتَنِي، وَلَوْلَا أَنْتَ لَمْ أَفْعَلْ، وَلَا جَرَمَ لَا أُطِيعُكَ فِي شَيْءٍ بَعْدَهَا؛ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ ضَجَرٌ وَلُؤْمٌ وَخِفَّةٌ.فَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمُشِيرَ، فَعَمِلَ بِرَأْيِكَ، أَوْ تَرَكَهُ، فَبَدَا صَوَابُكَ- فَلَا تَمُنَّنَّ بِهِ، وَلَا تُكْثِرَنَّ ذِكْرَهُ -إِنْ كَانَ فِيهِ نَجَاحٌ- وَلَا تَلُمْهُ عَلَيْهِ -إِنْ كَانَ قَدِ اسْتَبَانَ فِي تَرْكِهِ ضَرَرٌ- بِأَنْ تَقُولَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ افْعَلْ هَذَا؛ فَإِنَّ هَذَا مُجَانِبٌ لِأَدَبِ الْحُكَمَاءِ".أَلِمُعلِّم هَذَا الْكَلَامُ أَمْ مُتَعَلِّمٍ؟يحرص المستمعون على كل كلام يستفيدون منه ما ينفعهم، ويرضون عما يبذلونه له من أوقاتهم التي لا تُعَوَّضُ. ولا يخفى أن هذا الكلام السابق إنما هو لمعلِّم يفيض على غيره مما علمه الله -سبحانه، وتعالى!- وهو يعلم أن زكاةَ العلم (تطهيرَه وتنميتَه) تعليمُه؛ فأَيُّما عالمٍ لم يُعَلِّم غيره علمه يَنْسَهُ، وإن سئل عنه فكتمه باء بإثم الكتمان في الدنيا والآخرة؛ فَإِنَّه "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[1].وعلى رغم أن الحكمة فضل الله -سبحانه، وتعالى!- يؤتيه من يشاء -"وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا"[2]- نُرَجِّحُ أن الكلام لإنسان كبير السن قد حَنَّكَتْهُ تجارب العمر الطويل، إلى إنسان أصغر منه سنا وأقل تجربة. ومهما يكن الإنسان مجرِّبا فلن يعدم حوله إذا تَأَمَّل، مَنْ لا يستغني عن تجربته، "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ"[3]. أَوَاضِحٌ هَذَا الْكَلَامُ أَمْ غَامِضٌ؟ إذا لم يحظ الكلام بمثل ما بذل فيه من تفكير، لم يخرج المستمعُ منه بفائدته -مهما كان واضحا- فلا وضوح مع غفلة أو كسل أو إعراض أو إهمال.وعلى رغم حكمة ما في أسلوب الكلام السابق من تفكير، لا يغمض على من أصغى إليه، بل يستطيع أن يميز فيه ثلاث فقر بثلاث فكر:1 فقرة أولى في طَبِيعة الرَّأْي على العموم: "اعْلَمْ (...) الْعَجَزَةَ".2 فقرة ثانية في أَدَب الِاسْتِشَارَة على الخصوص: "فَإِذَا أَشَارَ (...) وَخِفَّةٌ".3 فقرة ثالثة في أَدَب الْإِشَارَةِ على الخصوص: "فَإِنْ كُنْتَ (...) الْحُكَمَاءِ".مثلما يستطيع أن يميز أن رسالته في "الأَدَب" (التَّهْذيب الخُلُقِي)، على حسب اصطلاح القدماء بكلمة أَدَب على كل ما أنار بصيرة الإنسان من الكلام- وأنه لا يجوز أن تُحَدَّد رسالته بأنها في طبيعة الرأي على حسب فكرة الفقرة الأولى، ولا في أدب الاستشارة على حسب فكرة الفقرة الثانية، ولا في أدب الإشارة على حسب فكرة الفقرة الثالثة، بل ينبغي أن تُحَدَّد بما يشمل الثلاثة جميعا معا. وليس أَسَدَّ من تحديدها وعنونتها بـ"أَدَب التَّشَاوُر"؛ ففي التشاور تختلط الاستشارة بالإشارة في كلمة واحدة من كلمات التشارك، يجوز أن يكون كل طرف من أطرافها فاعلا ومفعولا، أي مشيرا ومستشيرا (مشارا عليه).أَمُقْنِعٌ هَذَا الْكَلَامُ أَمْ قَاهِرٌ؟ليس حتما إذا تحدث إلينا من يَفْضُلُنا علما وخبرة أن يقهرنا بالأمر -وإن كان بخير- أو النهي -وإن كان عن شر- من غير أن يجادلنا في ذلك، بل مِنْ فضل الفاضل أن يُحْسِنَ التَّأَتِّيَ إلى التفضُّل على غيره بأمره أو نهيه.ومن حسن التأتي إلى تعليم الآخرين وتنبيههم، أن نجادلهم فنستمع إليهم كما استمعوا إلينا، ونبين لهم وجوه الصواب فيما نقول، ووجوه الخطأ فيما يقولون، وهو ما جرى عليه الكلام الذي تحدثتُ به إليكم؛ فقد مَهَّدَ الطريق إلى إقناع المستمعين بضرورة التشاور، بتأليف قلوبهم؛ إذ أرضاهم عن أعمالهم أولا بأنه ليس في الدنيا رأي مضمون، وهو ما يعفيهم من ذنب التقصير. ثم نَقَدَ حالين متضادتين إذا كان أَيٌّ المستمعين في إحداهما لم يكن في الأخرى؛ فأشعرهم بالإنصاف الذي يُوَلِّد الثقة التي تُغْري بالانْتِصَاح (قبول النصيحة).ولا يغيِّر من طبيعة هذا الكلام الإقناعية، ما ذُيِّلَتْ به فِقَرُهُ من أحكام ساخرة؛ فهي محمولة على الأوضاع المحذَّرة المستبعدة من أفعال المستمعين.أَعِلْمِيٌّ هَذَا الْكَلَامُ أَمْ فَنِّيٌّ؟إِنَّ الْعِلْمَ نِظَامُ أَفْكَارٍ مَبْنِيٌّ عَلَى وَفْقِ بَحْثٍ تَجْرِيبِيٍّ، وَإِنَّ الْفَنَّ سِيَاقُ أَفْكَارٍ مَبْنِيٌّ عَلَى وَفْقِ تَدَاعٍ نَفْسِيٍّ. ولقد جرى الكلام الذي تحدثت به إليكم، على خلاصة ما أَدَّتْهُ مُعاشرةُ الناس والخبرةُ بأحوالهم، ثم تنظيمِ دقائق هذه الخلاصة في نظام مُحْكَم ينقل وجهة نظر محددة ويقتضي الأخذ بها؛ فهو مِنْ ثَمَّ كلامٌ علمي، مهما كانت تعبيراته مثقفة تثقيفا كاملا يَتَجَلَّى هنا في أجوبة الأسئلة الأخرى؛ فإن التثقيف طريق ينبغي أن يسلكه الكلامُ كُلُّه ليصل إلى غاية الإتقان، فأما ما نطلع عليه في بعض كتب العلم العربية المعاصرة من رَكَاكَاتٍ تُخَالِفَ عن طريق التَّثْقِيف إلى طريق التَّسْخِيف، فمَظْهَرٌ من ضياع العلم بين أيدي بعض مُدَّعيه، ينبغي ألا يُسْكَتَ عليه.ثُمَّ اسْتَمِعُوا ثَانِيًا، لِتُمَيِّزُوا أُسْلُوبَ التَّعْبِيرِ: ...أَلِذَكَرٍ هَذَا الْكَلَامُ أَمْ أُنْثَى؟"إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الْأَقْوَامِ (الرجال)" كما قال المثل الشعري العربي القديم، أي مُكَمِّلاتهم؛ فلا تقوم حياة ولا تستمر بأيٍّ من الذكور والإناث دون الآخر؛ ومن ثم يتطلع المستمعون كلما بلغهم نَبَأ حوار، إلى معرفة نوع طَرَفَيْه، حتى يضعوه في موضعه من التكامل المطلوب.ولقد ذَكَّرَ الكلام السابق من كَلِمَاته، ما يدل على أن المخاطب به ذَكَر -والذكورة والأنوثة ظاهرتان حَيَويَّتان طبيعيتان، أما التذكير والتأنيث فظاهرتان لغويتان عُرْفيَّتان- على النحو التالي:
    - لقد قال: "اعْلَمْ"، ولو كان لأنثى لقال: اعْلَمِي.
    - وقال: "عَلَيْكَ"، ولو كان لأنثى لقال: عَلَيْكِ.
    - وقال: "صَاحِبُكَ"، ولو كان لأنثى لقال: صَاحِبُكِ.
    - وقال: "لَمْ تَجِدْ"، ولو كان لأنثى لقال: لَمْ تَجِدِي.
    - وقال: "كُنْتَ" مرتين، ولو كان لأنثى لقال: كُنْتِ.
    - وقال: "تَأْمُلُ"، ولو كان لأنثى لقال: تَأْمُلِينَ.
    - وقال: "لَا تَجْعَلْ"، ولو كان لأنثى لقال: لَا تَجْعَلِي.
    - وقال: "لَا تُلْزِمْهُ"، ولو كان لأنثى لقال: لَا تُلْزِمِيهِ.
    - وقال: "بِأَنْ تَقُولَ" مرتين، ولو كان لأنثى لقال: بِأَنْ تَقُولِي.
    - وقال: "أَنْتَ"، ولو كان لأنثى لقال: أَنْتِ.
    - وقال: "الْمُشِيرَ"، ولو كان لأنثى لقال: الْمُشِيرَةَ.
    - وقال: "بِرَأْيِكَ"، ولو كان لأنثى لقال: بِرَأْيِكِ.
    - وقال: "لَا تَمُنَّنَّ"، ولو كان لأنثى لقال: لَا تَمُنِّنَّ.
    - وقال: "لَا تُكْثِرَنَّ"، ولو كان لأنثى لقال: لَا تُكْثِرِنَّ.
    - وقال: "لَا تَلُمْهُ"، ولو كان لأنثى لقال: لَا تَلُومِيهِ.
    فأما المتحدث المختبئ في أسلوب الكلام خلف حكمته، فقد جرت العادة أن يتحدث بكلام نفسه لا كلام غيره حتى يَثْبُتَ للمستمع أنه نَقَلَه عن غيره؛ فإذا لم يكن في أسلوب هذا الكلام ما يمنع حَمْله على مَنْ تَحَدَّثَ به وَجَب حَمْلُه عليه. ولكن إذا حُمِلَ أسلوب الكلام على التَّجْرِيد (تمييز المتكلم لنفسه من نفسه وتوجيه الكلام إليها وكأنها شخصٌ آخر)، اتضح من تَذْكِير كلمات الكلام على النحو السابق، أن طرفي الحوار ذَكَران، بل ما هما إلا ذَكَرٌ واحد!أَقديمٌ هَذَا الْكَلَامُ أَمْ حَدِيثٌ؟تتطور اللغة الحية فأما اللغة الجامدة فلغة ميتة؛ ومن ثم يستطيع المتأمل أن يميز في أساليب الكلام التي يستمع إليها قديمَها أو قَدَامِيّها المتشبِّه بقديمها، من حديثِها أو حَدَاثِيّها المتشبِّه بحديثها- بمقياس الاستعمال غير المنظور فيه إلى أَفْضَلِيَّة قديم أو حديث؛ فما يجده فيما يستعمله فهو حَدِيث أو حَدَاثِيّ -وإن تواترت على استعماله أجيال الناس- وما يفتقده فيما يستعمله فهو قَديم أو قَدَامِيّ، وإن قاله أخوه ابن أمه وأبيه! ثم يظل في الإمكان مكانُ ما لم يُسْتَعْمَلْ قَطُّ، للمُسْتَقْبَلِيّ الذي يطمح به بعض المتكلمين إلى ما يَمَسَّه أحد!وفي أسلوب الكلام السابق قَدَامَةٌ واضحة في اختيار بعض المفردات، على النحو التالي:
    - "غَرَر"، والشائع بمعناها في الكلام الحديث "احْتِمَال".
    - "أَعْيَا"، والشائع بمعناها في الكلام الحديث "أَتْعَب".
    - "دَيْن"، والشائع بمعناها في الكلام الحديث "حَقّ".
    - "العَذْل"، والشائع بمعناها في الكلام الحديث "اللَّوْم".
    - "لَا جَرَمَ"، والشائع بمعناها في الكلام الحديث القَسَم.
    وفي اختيار جمع تكسير "الحَازِم" على صيغة "الحَزَمَة"، والشائع في الكلام الحديث جمع التسليم "الحَازِمُون".وكذلك تتجلى قدامة أسلوب الكلام في اختيار بعض التركيبات، على النحو التالي:نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي "(...) لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ (...)"، فتركيب ضمير شأن (الهاء) الذي يفتقر بعده إلى جملة كاملة تعبر عن المضمر فيه، قليل الاستعمال في الكلام الحديث.نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي "إِنَّ هَذَا كُلَّهُ ضَجَرٌ وَلُؤْمٌ وَخِفَّةٌ (...) إِنَّ هَذَا مُجَانِبٌ لِأَدَبِ الْحُكَمَاءِ"؛ فإن الإشارة بـ"هذَا" إلى التفاصيل الكثيرة السابقة، والتزام تأخير التعليل عنها، نمط من التركيب قليل الاستعمال في الكلام الحديث.نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي "إِنْ كُنْتَ (...) فَعَمِلَ (...) أَوْ تَرَكَهُ (...) فَبَدَا (...) فَلَا تَمُنَّنَّ (...) وَلَا تُكْثِرَنَّ (...) وَلَا تَلُمْهُ (...)"؛ فإن تفريع جمل الشرط والجواب على هذا النحو المُهَنْدَس المُؤَنَّق، قليل الاستعمال في الكلام الحديث.أَمُجَهَّزٌ هَذَا الْكَلَامُ أَمْ مُرْتَجَلٌ؟في الكلام المجهز تأنٍّ وإعادةٌ وتهذيبٌ، وفي الكلام المرتجل تَعَجُّل واكْتفاء وإِغْضاء؛ فإذا كان هذا المُرتجَل أَسْرَعَ حُضورا، فإن ذاك المُجهَّز أشدُّ تأثيرا؛ وما أكثر ما آثَرَ بعض المتحدثين أن يجهزوا ما سيتحدثون به؛ قال البَعِيثُ الخَطيب المِصْقَعُ (البارع الموفَّق): "مَا أُريدُ أَنْ أَخْطُبَ يَوْمَ الْحَفْلِ إِلَّا بِالْبَائِتِ الْمُحَكَّكِ (المجهَّز المهذَّب)"[4]!ولا ريب في أن هذا الكلام الذي تحدثت به إليكم كلام مُجَهَّزٌ؛ إذ لم تُفْلِتْ منه فَلْتةٌ، ولم تَهْفُ هَفْوةٌ، ولم تَخْتَلَّ قِسْمةٌ. بل يدل تنسيقه الواضح على طول تجهيزه؛ فلقد اشتمل على ثلاث طبقات من التنسيق، بعضها فوق بعض، على النحو التالي:نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي تَنْسِيق التَّعْبيرات (والتعبير ما تحت الجملة وفوق الكلمة من مركبات)، كتنسيق قوله: "أَنَّ الرَّأْيَ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ" على وَفْق قوله: "أَنَّ الْمُسْتَشَارَ لَيْسَ بِكَفِيلٍ".نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي تَنْسِيق الجُمَل، كتنسيق قوله: "لَاْ تُلْزِمْهُ لَوْمًا وَعَذْلًا"، على وَفْق قوله: "لَا تَجْعَلْ ذَلِكَ عَلَيْهِ دَيْنًا"، ثم تأخير المتعلقات المشتركة بينهما.نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي تَنْسِيق الفِقَر، كتنسيق قوله: "إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمُشِيرَ (...) فَإِنَّ هَذَا مُجَانِبٌ لِأَدَبِ الْحُكَمَاءِ"، على وَفْق قوله: "إِذَا أَشَارَ عَلَيْكَ صَاحِبُكَ بِرَأْيٍ (...) فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ ضَجَرٌ وَلُؤْمٌ وَخِفَّةٌ".أَنَثْرٌ هَذَا الْكَلَامُ أَمْ شِعْرٌ؟للكلام كله نثره وشعره لفظه الظاهر ومعناه الباطن، ولا يستغنيان جميعا معا عن التَّحْدِيد (اختيار المفردات وتبديلها حتى تَتَحَدَّد)، والتَّرْتِيب (تقديم المفردات وتأخيرها حتى تَتَرَتَّب)، والتَّهْذِيب (إضافة المفردات وحذفها حتى تَتَهَذَّب).ولكن يمتاز الشعر من النثر بوجود العَروض في أصول كل عمل من تلك الأعمال (التَّحْدِيد والتَّرْتِيب والتَّهْذِيب)، وفروعها، بحيث يخرج الكلام في الشعر مطبوعا بطابع العروض، على حين يخرج في النثر غير مطبوع بطابعه.وما العروض إلا الأوزان والقوافي التي نتلقاها في الشعر منذ العصر الجاهلي إلى الآن، التي يستقل بتفصيل أمرها علم العروض، وربما اسْتَحْسَنَّا أن نُلِمَّ ببعض شأنها إذا دعت الحاجة.ولا يخفى أن الكلام السابق نص من النثر لا الشعر؛ فلا أوزان عروضية له ولا قوافي، وإن كان لحُسْن تَنْسِيقه (تَقْطِيعه وتَقْسِيمه ومُزَاوَجَته)، أَثَرٌ من التَّنْغِيم الطَّرُوب غير العروضي.ثُمَّ اسْتَمِعُوا ثَالِثًا، لِتُمَيِّزُوا أُسْلُوبَ التَّقْوِيمِ: ...أَقَوِيٌّ هَذَا الْكَلَامُ أَمْ ضَعِيفٌ؟إن المؤمن القوي "خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ"[5]. والكلام كالمتكلم، قويه خير من ضعيفه، وربما أدى ضعيفه من المراد ولا سيما بين الضعفاء ما لم يُؤَدِّه القويُّ!ولقد ينبغي أن أحرص على أن أسمعكم الكلام القوي دون الضعيف، لتتطبعوا بطبيعته، وتتمكنوا من مجاراته؛ فقد أوشك ما نسمعه دائما أن يُلْبِسَ علينا أمورنا؛ فنُقَوِّيَ الكلامَ الضعيفَ، ونُضَعِّفَ القويَّ!ومقياس قوة الكلام وضعفه اختلال لفظه ومعناه، ولا يخلو منه كلام إلا المعصوم؛ فمن ثم ينبغي أن يُراعَى في الحُكْمِ التَّفَاوُتُ؛ فكلُّ ما زاد فيه الاختلالُ كان من الضعف بمقدار ما فيه، وكلُّ ما نقص فيه الاختلالُ كان من القوة بمقدار ما فيه.ولا يستغني المقام عن المُوازنة بين نصوص الكلام المُتَعَدِّدة المُشْتَبِهَة؛ فتَقْوِيَة الكلام تَمْييزه من غيره بنِسْبته دونه إلى القُوَّة، ولا سبيل إلى تمييز كلام لم يُنَافِسْهُ كلامٌ آخر؛ فإذا تَيَسَّرَ لنا في بعض المقامات، أن نستمع إلى نصوص متعددة مشتبهة، ووازنَّا بعضها ببعض؛ فقَوَّيْنَا، أو ضَعَّفْنَا- فَبِها ونِعْمَتْ. وإذا لم يَتَيَسَّرْ لنا ذاك اعتمدنا على ذَخِيرَتِنا مما استمعنا إليه طَوال حياتنا، وأضفنا إليها ما نستمع إليه الآن، ووازنَّا ما فيها بعضه ببعض. وفي هذا يختلف المستمعون؛ فربما حَظِيَ بعضهم في إِبَّان الطَّلَبِ بالكلام القَوِيِّ، وابتُلِي بعضهم بالكلام الضَّعِيف، واختلف على بعضهم الكَلَامَانِ الضعيفُ والقويُّ؛ فحَكَمَ كلٌّ منهم بما عَلِم! وإذا لم يَتَيَسَّرْ لنا هذا ولا ذاك تَخَيَّلْنا للكلام وجهًا آخر جائزا، ووازنا فيه بين الوجهين!لقد استعمل المتحدث في أول الكلام السابق كلمتي كَفِيل ومَضْمون، وهما متقاربتان بحيث ربما جاز الجمع بين المستشار والرأي للحكم عليهما جميعا حكما واحدا بأنهما غير كَفِيلَيْنِ. ولكن المتحدث خالف بينهما ليميز معنى الفاعل الذي في كَفِيل (صيغة المبالغة في كَافِل) -فإن المستشار لا يَكْفُل لمن استشاره صوابَ ما أشار به عليه- من معنى المفعول الذي في مَضْمُون؛ فإن الرأي لا يُضْمَن صوابُه، ولو جعله غير كَفِيل كما جعل المُستشار، لكان من التَّكَلُّف الذي يَعُوق الفهم.ثم استعمل كلمتي لَوْم وعَذْل، متعاطفتين وهما عند المتعجلين بمنزلة كلمة واحدة. ومثل هذا التطابق المظنون لا يكون إلا بين اللهجات المتفاصلة التي لا يعرف أصحابها أنهم يسمون الشيء الواحد أسماءً مختلفة بينهم، ويُدْهَشُون حين يَعْرِفون، مثلما أُدْهِشَ سيدنا أبو هريرة -رضي الله عنه!- حين سمع من رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- كلمة "سِكِّين"، ولم يكن يعرف إلا "المُدْيَة"[6]. ولو عرف "السِّكِّين" ثم استعملها مع "المُدْيَة" لكان من الاختلال المذكور فيما سبق. ولكن في العَذْل معنى ليس في اللَّوْم؛ إذ لا يتجاوز اللائم الأَخْذ على المَلُوم، فأما العاذل فيَشْوِي المَعْذُول بلسانه، هذا معلم من معالم قوة الكلام السابق لا ضعفه!ومن معالم قوة الكلام كذلك تَدَاخُلُ عناصره تَدَاخُلَ طَاقَات الحبل المَفْتُول، على وجوه مختلفة، منها الاعتراض بين أجزاء العنصر الواحد بما ليس منها، مثلما اعْتُرِضَ في الكلام السابق، بين أجزاء "لَا تُكْثِرَنَّ ذِكْرَهُ (...) وَلَا تَلُمْهُ عَلَيْهِ (...) بِأَنْ تَقُولَ" -وهي عناصرُ متعددة جعلها التعاطفُ بينها في إطار جواب الشرط كالعنصر الواحد- بعبارتَيْ "إِنْ كَانَ فِيهِ نَجَاحٌ"، و"إِنْ كَانَ قَدِ اسْتَبَانَ فِي تَرْكِهِ ضَرَرٌ".لِمَنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ؟قد سبق أن هذا الكلام قديم، ولكنه لا يبلغ في القدم أن يكون من العصر الجاهلي؛ إذ قد اشتمل من تفاصيل مظاهر ظاهرة التشاور، على ما كان الجاهليون يُوجِزُونَه. ويصعب أن يكون من العصر الإسلامي (عصر صدر الإسلام)؛ إذ قد خلا من شواهد القرآن الكريم والحديث الشريف، التي اشتغل بهما المسلمون الأوائل عما عداهما، حتى عن كلام أنفسهم. وكذلك يصعب أن يكون من العصر الأموي الذي راجع أهلُه الأساليب الجاهلية، حتى شُبِّهَ بعضُهم ببعض الجاهليين. ولكنه لا يمتنع أن يكون من العصر العباسي الذي تشعبت فيه شعب الثقافة العربية الإسلامية، واتسعت لكل وافد، وتطورت بكل جديد، حتى استحدث أهله ما تتجلى فيه ثقافتهم الواسعة المتطورة، من أساليب التفكير والتعبير.إنه لعبد الله بن المقفع (المولود سنة 106هـ، المتوفى سنة 142هـ)، أحد كبار الكُتَّاب والمترجمين في تاريخ اللغة العربية، وأئمة الأساليب المُؤَثِّرة[7].وهو باب من كتابه "الْأَدَب الْكَبِير"[8]، المُبَوَّب على أبواب مِثْله غير معنونة، أستحسن فيما يأتي أن أورد منه كذلك، هذين البابين المتكاملين المناسبين:"تَعَلَّمْ حُسْنَ الِاسْتِمَاعِ كَمَا تَتَعَلَّمُ حُسْنَ الْكَلَامِ. وَمِنْ حُسْنِ الِاسْتِمَاعِ إِمْهَالُ الْمُتَكَلِّمِ حَتَّى يَنْقَضِيَ حَدِيثُهُ، وَقِلَّةُ التَّلَفُّتِ إِلَى الْجَوَابِ، وَالْإِقْبَالُ بِالْوَجْهِ وَالنَّظَرِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ، وَالْوَعْيُ لِمَا يَقُولُ"[9]. "وَاعْلَمْ فِيمَا تُكَلِّمُ بِهِ صَاحِبَكَ، أَنَّ مِمَّا يُهَجِّنُ صَوَابَ مَا يَأْتِي بِهِ، وَيَذْهَبُ بِطَعْمِهِ وَبَهْجَتِهِ، وَيُرْزِي بِهِ فِي قَبُولِهِ- عَجَلَتَكَ بِذَلِكَ، وَقَطْعَكَ حَدِيثَ الرَّجُلِ قَبْلَ أَنْ يُفْضِيَ إِلَيْكَ بِذَاتِ نَفْسِهِ"[10].
    [1] سنن أبي داود: 3/260.
    [2] البقرة: 269.
    [3] يوسف: 76.
    [4] الجاحظ "البيان والتبيين"، بتحقيق عبد السلام هارون: 1/178.
    [5] مسلم "المسند الصحيح"، بتحقيق الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي: 4/2052.
    [6] أحمد "المسند"، بإشراف عبد الله التركي: 14/32-33.
    [7] الذهبي "تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام"، بتحقيق بشار عواد معروف: 3/910. وقد ذكر وفاته فيما بين سنتي 141 و150 الهجريتين، قائلا: "أَحَدُ الْمَشْهُورِينَ بِالْكِتَابَةِ وَالْبَلاغَةِ وَالتَّرَسُّلِ وَالْبَرَاعَةِ، وَكَانَ فَارِسِيًّا مَجُوسِيًّا، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدِ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ عَمِّ السَّفَّاحِ وَهُوَ كَهْلٌ، ثُمَّ كَتَبَ لَهُ، وَاخْتَصَّ بِهِ (...) قَالَ الأَصْمَعِيُّ: صَنَّفَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ الدُّرَّةَ الْيَتِيمَةَ الَّتِي لَمْ يُصَنَّفْ مِثْلُهَا فِي فَنِّهَا. وَقَدْ سُئِلَ: مَنْ أَدَّبَكَ؟ قَالَ: نَفْسِي؛ كُنْتُ إِذَا رَأَيْتُ مِنْ غَيْرِي حَسَنًا أَتَيْتُهُ، وَإِذَا رَأَيْتُ قَبِيحًا أَبَيْتُهُ. وَيُقَالُ: كَانَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ عِلْمُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَقْلِهِ، وَهُوَ الَّذِي وَضَعَ كِتَابَ كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ فِيمَا قِيلَ، وَالأَصَحُّ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي عَرَّبَهُ مِنَ الْفَارِسِيَّةِ (...) والمُقَفَّعُ: بِفَتْحِ الْفَاءِ عَلَى الصَّحِيحُ، وَقَالَ ابْنُ مَكِّيٍّ فِي كِتَابِ تَثْقِيفِ اللِّسَانِ: يَقُولُونَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ، وَالصَّوَابُ بِكَسْرِ الْفَاءِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ الْقِفَاعَ وَيَبِيعُهَا، وَهِيَ قِفَافُ الْخُوصِ". قلتُ: والقِفَاع جمع قَفْعة، والقِفَاف جمع قُفّة.
    [8] ابن المقفع "الأدب الكبير"، بتحقيق أحمد زكي باشا: 122-123.
    [9] ابن المقفع "الأدب الكبير": 121.
    [10] ابن المقفع "الأدب الكبير": 123.

  3. #3
    أَسْئِلَةُ الِاسْتِمَاعِ وَالتَّحَدُّثِومن قياس مهارتي الاستماع والتحدث الذي يطورهما، أن أعدد عليكم التجارب وأغيرها، فبمعالجة التجارب الكثيرة المختلفة تتكون الخبرة العميقة، وتتطور المهارة الصادقة التي ينتقل فيها الماهر من مقام عدم الإحساس بالخطأ إلى مقام عدم الإحساس بالصواب، ويا بُعْدَ ما بين المقامين، مثل بعد ما بين العلم والجهل، والصحة والمرض، بل مثل بعد ما بين الحياة والموت!وفيما يأتي أتحدث إليكم بكلام آخر جديد عليكم -أو ينبغي أن يكون جديدا عليكم حتى تستقيم هذه التجربة أيضا- أحب من خلاله أن أقيس درجة مهارتي بالتحدث، ودرجة مهارتكم بالاستماع، بالأسئلة الآتية التي لا تمنع اقتراح غيرها:- لِمَاذَا كَثُرَتْ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْأَعْلَامُ؟
    - مَاذَا حَفِظْتُمْ مِنْ أَعْلَامِ النَّاسِ فِي هَذَا الْكَلَامِ؟
    - مَا جُمْلَةُ الْحَالِ الَّتِي حَوَّلَتْ أَحْدَاثَ هَذَا الْكَلَامِ؟
    - كَيْفَ ائْتَلَفَتْ فِي هَذَا الْكَلَامِ آرَاءُ الصَّحَابَةِ الْمُخْتَلِفَةُ؟
    - مَا الْأُسْلُوبُ الْمُسْتَوْلِي عَلَى بِنَاءِ هَذَا الْكَلَامِ؟
    - مَا أَلْطَفُ مَظَاهِرِ الْقَصِّ فِي هَذَا الْكَلَامِ؟
    - كَيْفَ تَأَسَّسَ عَلَى التَّكْرَارِ هَذَا الْكَلَامِ؟
    - هَلْ تَعَثَّرْتُمْ بِغَرَابَةِ مُفْرَدَاتِ هَذَا الْكَلَامِ؟
    - هَلْ تَعَثَّرْتُمْ بِغَرَابَةِ مُرَكَّبَاتِ هَذَا الْكَلَامِ؟
    - أَيْنَ يُمْكِنُ أَنْ نَجِدَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ؟
    وعلى رغم اختلاط أساليبِ التفكير (حركة أفكار المتحدث)، والتعبير (حركة عبارات المتحدث)، والتقويم (حركة أحكام المستمع)، في أجوبة هذه الأسئلة كذلك، أميز فيما يأتي بعضها من بعض، فأتحدث إليكم بالكلام نفسه ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لأسألكم بعد المرة الأولى عن أسلوب التفكير، وبعد المرة الثانية عن أسلوب التعبير، وبعد المرة الثالثة الأخيرة عن أسلوب التقويم.فَاسْتَمِعُوا أَوَّلًا، لِتُمَيِّزُوا أُسْلُوبَ التَّفْكِيرِ:"قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ قَالَ لِي أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ، آخِذٌ بِأَيْدِيهِمَا يَا عَبْدَ الْإِلَهِ، مَنِ الرَّجُلُ مِنْكُمُ الْمُعْلَمُ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ!قَالَ: قُلْتُ ذَاكَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.قَالَ: ذَاكَ الَّذِي فَعَلَ بِنَا الْأَفَاعِيلَ!قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَوَاللَّهِ إنِّي لَأَقُودُهُمَا، إذْ رَآهُ بِلَالٌ مِعَى، وَكَانَ هُوَ الَّذِي يُعَذِّبُ بِلَالًا بِمَكَّةَ عَلَى تَرْكِ الْإِسْلَامِ، فَيُخْرِجُهُ إلَى رَمْضَاءِ مَكَّةَ إذَا حَمِيَتْ، فَيُضْجِعُهُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَا تَزَالُ هَكَذَا أَوْ تُفَارِقَ دِينَ مُحَمَّدٍ، فَيَقُولُ بِلَالٌ أَحَدٌ أَحَدٌ -قَالَ- فَلَمَّا رَآهُ قَالَ رَأْسُ الْكُفْرِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ، إنْ نَجَا!قَالَ: قُلْتُ أَيْ بِلَالُ، أَبِأَسِيرَيَّ!قَالَ: لَا نَجَوْتُ، إنْ نَجَا!قَالَ: قُلْتُ أَتَسْمَعُ، يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ!قَالَ: لَا نَجَوْتُ، إنْ نَجَا -قَالَ- ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا أَنْصَارَ اللَّهِ، رَأْسُ الْكُفْرِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ، إنْ نَجَا -قَالَ- فَأَحَاطُوا بِنَا حَتَّى جَعَلُونَا فِي مِثْلِ الْمَسَكَةِ، وَأَنَا أَذُبُّ عَنْهُ -قَالَ- فَأَخْلَفَ رَجُلٌ السَّيْفَ، فَضَرَبَ رِجْلَ ابْنِهِ فَوَقَعَ، وَصَاحَ أُمَيَّةُ صَيْحَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ -قَالَ- فَقُلْتُ انْجُ بِنَفْسِكَ وَلَا نَجَاءَ بِكَ؛ فَوَاللَّهِ مَا أُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا -قَالَ- فَهَبَرُوهُمَا بِأَسْيَافِهِمْ، حَتَّى فَرَغُوا مِنْهُمَا -قَالَ- فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَقُولُ يَرْحَمُ اللَّهُ بِلَالًا؛ ذَهَبَتْ أَدْرَاعِي[1]، وَفَجَعَنِي بِأَسِيرَيَّ"!لِمَاذَا كَثُرَتْ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْأَعْلَامُ؟الأعلام جمع عَلَمٍ، وإن العلم هو "الاسم الموضوع لمُعَيَّنٍ لا يتناول غيره، من ذلك أسماء الشخوص والمدن والأنهار والجبال والشهور"[2]، وهو قسم من أقسام الاسم، الذي هو قسم من أقسام الكلمة الثلاثة (الاسم، والفعل، والحرف)، التي أعاد بعض علماء اللغة المعاصرين توزيعها على سبعة أقسام، ثم على ثمانية[3].ولقد ذُكِرَ في هذا الكلام مِنَ الأعلام، ما يُوشِكُ أن يكون خُمُس ما فيه من كلمات على العموم، وهذا مقدار كبير! ولكن إذا انتبهنا إلى أنه حكاية طرف من أحداث غزوة بدر الكبرى، التي احتشد فيها أعلام الإسلام والكفر، وتنازعوا بينهم الغَلَبَة- فهمنا سبب كثرة الأعلام التي تُعَيِّن الأشخاص[4]؛ فلا غنى في وصف المعركة عن تعيين أعلام المتقاتلين، ثم لا غنى في نقل ذلك الوصف للخالفين، عن تعيين أعلام من تناقلوه خالفا عن سالف.ولقد كان للأَخْبَارِيِّينَ المسلمين منهج صارم، يسندون به الرواية إلى رواتها حتى يصلوا بها إلى أصحابها الأوائل، لا نملك له إلا العجب والإجلال! ولا ينخلع من حرصهم القديم على حفظ الأنساب، فكأنهم هنا ينسبون الرواة بعضهم إلى بعض!مَاذَا حَفِظْتُمْ مِنْ أَعْلَامِ النَّاسِ فِي هَذَا الْكَلَامِ؟لا يخفى على أيٍّ من المستمعين أن أهم أحداث الحكاية من هذا الكلام، هو قتل بلال بن رباح وإخوانه -رضي الله عنهم!- لأمية بن خلف -لعنه الله!- ولهذا كان اسماهما أظهر على ما سواهما؛ فتردد اسم بلال خمس مرات، واسم أمية أربع مرات.ثم إن أهم الأعلام بعد ذلك، من شهد الحدث، وشارك فيه، ثم رواه فيما بعد لمن لم يشهده، ولم يشارك فيه- عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه!- الذي تردد اسمه ثلاث مرات، ومرةً رابعة حَرَّفَه إلى "عبد الإله"، أميةُ بن خلف، كفرا بالرحمن الذي تَسَمَّى به، وقد عرفه من قبل في مكة وصادقه بعَبْد عَمْرٍو[5]!ثم إن ها هنا لعَلَمًا من أعلام غزوة بدر، لا يُنْسى -وإن لم يذكر غير مرة واحدة- حمزة بن عبد المطلب أسد الله -رضي الله عنه!- الذي فعل بالكفار الأفاعيل كما اعترف أمية! أما اسم رسول الله (محمد) -صلى الله عليه، وسلم!- فهو نظام أسماء المسلمين كلها (سلك حبات عقدها)، الذي يحميها أن تنفرط، وإن لم يذكر هنا غير مرة واحدة!ولن نعدم بين يدي كل خبر، طائفة من أسماء الأعلام، ربما لم نعرفها نحن، ولكنها عند الأخباريين والمؤرخين والمحدِّثين ومن إليهم، أهم من أسماء أنفسهم- هي أسماء رجال السند، الذين رووا الخبر بعضهم عن بعض، ومنهم هنا ابْنُ إسْحَاقَ، وعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، وسَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ.مَا جُمْلَةُ الْحَالِ الَّتِي حَوَّلَتْ أَحْدَاثَ هَذَا الْكَلَامِ؟تنطلق الأحداث، ثم تتعثر فجأة؛ إذ تطرأ على المشهد حال شديدة، تسيطر على الأحداث، فتحول حالها، وتوجهها غير وجهتها؛ فإذا استقلت بذلك جملةٌ من الكلام كانت مفتاح الفهم، ووجب أن تكون عنوان الرسالة.لقد عرف عبد الرحمن هذه الحال، منذ لقي في أطراف المعركة أمية بن خلف؛ فأراد أن يهرب به من القتل إلى الأسر، وهيهات؛ لقد رآه بلال، فرأى حاله التي دام له عليها زمانا، كأنها وصاحبها شيء واحد (جملة "كَانَ هُوَ الَّذِي... أَحَدٌ أَحَدٌ"، حال من هاء "رَآهُ"، وواو "وَكَانَ" واو الحال):" رَآهُ بِلَالٌ مِعَى، وَكَانَ هُوَ الَّذِي يُعَذِّبُ بِلَالًا بِمَكَّةَ عَلَى تَرْكِ الْإِسْلَامِ، فَيُخْرِجُهُ إلَى رَمْضَاءِ مَكَّةَ إذَا حَمِيَتْ، فَيُضْجِعُهُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَا تَزَالُ هَكَذَا أَوْ تُفَارِقَ دِينَ مُحَمَّدٍ، فَيَقُولُ بِلَالٌ أَحَدٌ أَحَدٌ".إنه "أَثَرُ الصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ" -وبهذه العبارة ينبغي أن يُعَنْوَنَ النص- التي رَزَحَ بلال تحتها (سقط من الإعياء)، حتى إذا حان الحَيْن (الموت)، وحارت العَيْن (غَلَبَها الخَطْب المُدْلَهِمّ)- عَلَا بلالٌ الصبورُ الصخرةَ حتى تمكن منها، فقذفها على أمية الجزوع، ويا بعد ما بين صبر المؤمن وجزع الكافر!كَيْفَ ائْتَلَفَتْ فِي هَذَا الْكَلَامِ آرَاءُ الصَّحَابَةِ الْمُخْتَلِفَةُ؟لقد تَبَيَّنَ من الكلام السابق ولا سيما إذا وضعناه في سياق ما بلغنا عن غزوة بدر الكبرى، اختلافُ صحابة رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- في أسرى بدر من أئمة الضلال والإضلال، على رأيين:- أَسْرهم حِرْصًا من افتدائهم على ما يقيم حياة المسلمين.
    - قَتْلهم إطاحة برؤوس الكفر وإقامة لأركان الإسلام.
    رأى عبد الرحمن بن عوف الرأي الأول كما ورد في الكلام السابق، ورأى بلال بن رباح الرأي الآخر. ولقد أخذ رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- بالرأي الأول، ثم أَيَّدَ الوحي الرأي الآخر، بقول الحق -سبحانه، وتعالى!-: "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"[6]. ولو كان القرآن الكريم من "كلام محمد" كما يزعم غير المسلمين، ما خالف به هنا عن رأيه!وعلى رغم ذلك كان عبد الرحمن بن عوف كُلَّما ذكر ما كان من بلال قال: "يَرْحَمُ اللَّهُ بِلَالًا؛ ذَهَبَتْ أَدْرَاعِي، وَفَجَعَنِي بِأَسِيرَيَّ"! ولا ريب في أنه إنما أراد تعظيم مكانة بلال[7]، الذي اهتدى دونه إلى ما يرضي الحق -سبحانه، وتعالى!- وتأنيب نفسه التي تعلقت بعَرَضِ الدنيا الزائل!ثُمَّ اسْتَمِعُوا ثَانِيًا، لِتُمَيِّزُوا أُسْلُوبَ التَّعْبِيرِ: ...مَا الْأُسْلُوبُ الْمُسْتَوْلِي عَلَى بِنَاءِ هَذَا الْكَلَامِ؟لقد جرى هذا الكلام على الحوار (دوران أطراف الكلام بين المتخاطبين، بحيث يتحدث بعضهم ليستمع بعضهم، ثم تنعكس الحالان؛ فيتحدث المستمع، ويستمع المتحدث، وهكذا دواليك)؛ فإضافة إلى بناء كتب السيرة العربية الإسلامية على إسناد الرواية، بحيث تبدو حوارا بين رجال السند بعضهم وبعض، ثم بين مُـتَأَخِّرِهِمْ وصاحب الكتاب- يختص مقام هذا الكلام بقسمين متفاصلين من الحوار:- أحدهما يديره عبد الرحمن بن عوف.
    - والآخر يديره بلال بن رباح.
    وإنما تفاصلا من أجل اختلاف غايتيهما؛ فأما حوار عبد الرحمن بن عوف فمن أجل حماية الأسير حتى يُفْتَدَى، وأما حوار بلال بن رباح فمن أجل قتل الطاغية المتكبر المتجبر قبل أن يُفْتَدَى!ولقد دل على تفاصل الحوارين غضب عبد الرحمن الذي حمله على سب صاحبه بلال، لما لم يعبأ بسماع كلامه!مَا أَلْطَفُ مَظَاهِرِ الْقَصِّ فِي هَذَا الْكَلَامِ؟ينتهي سند رواية الأحداث إلى راو واحد، هو هنا عبد الرحمن بن عوف، ويبدأ براو واحد مثله، هو ابن إسحاق، ولكن تختلط بينهما الأحداث والأقوال، فيخشى الراوي الأول أن يفلت من المتلقي عنه حبل الرواية الذي في يد الراوي الأخير، فيكرر دائما فعل القول على جهة الاعتراض، تحقيقا للرواية، وتنبيها على الراوي.لقد اعترض بفعل القول "قَالَ"، ست مرات:
    1 بين عبارتَيْ "فَيَقُولُ بِلَالٌ أَحَدٌ أَحَدٌ"، و"فَلَمَّا رَآهُ".
    2 وعبارتَيْ "قَالَ: لَا نَجَوْتُ، إنْ نَجَا"، و"ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ".
    3 وعبارتَيْ "ثُمَّ صَرَخَ (...) لَا نَجَوْتُ، إنْ نَجَا"، و"فَأَحَاطُوا بِنَا".
    4 وعبارتَيْ "فَأَحَاطُوا بِنَا (...) وَأَنَا أَذُبُّ عَنْهُ"، "فَأَخْلَفَ رَجُلٌ السَّيْفَ".
    5 وعبارتَيْ "وَصَاحَ أُمَيَّةُ صَيْحَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ"، و"فَقُلْتُ اُنْجُ بِنَفْسِكَ".
    6 وعبارتَيْ "فَقُلْتُ اُنْجُ بِنَفْسِكَ (...) مَا أُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا"، و"فَهَبَرُوهُمَا بِأَسْيَافِهِمْ".
    ولا يخلو هذا المظهر القصصي من لطافة خفاء فعل القول بين طوايا الكلمات! إنه أسلوب عربي قديم؛ فيه أثر المشافهة التي تحولت عنها الرواية إلى المكاتبة الخالصة.كَيْفَ تَأَسَّسَ عَلَى التَّكْرَارِ هَذَا الْكَلَامِ؟من حكم البلاغيين الدَّوَّارة في كتبهم القَيِّمَة، قولهم: كَثْرَةُ تَرْدِيدِ اللِّسَانِ عَلَامَةُ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ! أي كثرة نطق اسم الشيء أو ما يعبر عنه، دليل اشتغال الناطق به، محبوبا كان هذا الشيء أو مكروها؛ فإنه إذا كان محبوبا اشتغل الناطق برغبته في وجوده، وإذا كان مكروها اشتغل برغبته في زواله!ولقد تردد في الكلام السابق أربعَ مرات، قولُ بلال بعدما رأى أمية: "لَا نَجَوْتُ، إنْ نَجَا"؛ إذ قاله أولا ليَجْمع أَقْطَارَ نفسه، وقاله ثانيا وثالثا ليرفض طلب عبد الرحمن، وقاله رابعا ليحمل أصحابه على قتل أمية.ولقد كانت هذه العبارة المترددة من اللطافة بحيث تلفت انتباه المستمع؛ إذ بدأها بلال بالدعاء على نفسه، وهو ما لا يتوقع من الخصم القوي المنتصر إذا رأى خصمه الضعيف المنهزم- وختمها بشرطِ جملةٍ شَرْطيَّةٍ، يدل على جوابها الدعاءُ المتقدم عليها، فينقلب المعنى إصرارا شديدا على قتل أمية، يدعي فيه بلال أنه يسأل الله ألا يبقيه في هذه الحياة إن أفلت من يديه أمية! لقد رتب بلال ظاهر العبارة على ذلك النحو اللطيف، ليكون باطنها هو: إن أفلت مني أمية قتلت نفسي! ولما لم يكن لمسلم أن يقتل نفسه، وجب على أصحابه أن يعينوه على قتل أمية، وقد كان!لقد كان لهذا المظهر من التكرار، مثل أثر السحر في ذلك المقام، ثم في كل مقام من مقامات روايته، وإن كان في الكلام السابق من التكرار مظاهر أخرى لا تخلو منها الأخبار المروية على الطريقة القديمة:- من ذلك عَنْعَنَة أوائل الأخبار المروية نصا على سند روايتها.
    - ومنه أفعال الأقوال التي حافظت على اتصال حبل الرواية.
    ثُمَّ اسْتَمِعُوا ثَالِثًا، لِتُمَيِّزُوا أُسْلُوبَ التَّقْوِيمِ: ...
    هَلْ تَعَثَّرْتُمْ بِغَرَابَةِ مُفْرَدَاتِ هَذَا الْكَلَامِ؟
    من مظاهر التطور اللغوي المعروفة المقبولة، تَوَارُثُ المُفْرَدَات المُعْجَمِيَّة (الكلمات الدالة التي تشتمل عليها ذخيرتنا اللغوية، وتمدنا بها في مقامات التعبير الكثيرة المختلفة)؛ إذ ترث المفردة غيرها مما كان مستعملا قبلها فيما صارت تستعمل فيه دونها. تؤدي إلى ذلك أسباب كثيرة لا تخفى على من يتأمل كلام الشباب هذه الأيام مثلا، كيف يخرج على كلام الشيوخ، ليصير هو فيما بعد كلام شيوخ المستقبل الذي يخرج عليه كلام شبابه، سنة الله، "وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا"!
    فمن ذلك في الكلام السابق كلمة "رَمْضَاء"، المصوغة بحيث تدل على شيء مؤنث متصف بالرَّمَض (الحر الشديد المفضي إلى السخونة الشديدة)، وسُمِّيَتْ بها قديما الرمال المتعرضة لحر الشمس. وربما وجدنا من المعاصرين من يسميها المِقْلاة أو المِشْواة -وكلا الاسمين على وزن مِفْعَلَة صيغة اسم الآلة- تعبيرا عن معنى قَلْي أرجل الماشين أو شَيِّها.وكذلك كلمة "المَسَكَة"، التي تشبه في استعمال المعاصرين كلمة "الحَلَقَة"، وزنا ومعنى، ولكنها دلت على الإحاطة بما فيها من دلالة على التماسك، فأما "الحَلَقة"، فقد دلت على الإحاطة بدلالتها على الاستدارة؛ وكما يكون الانتصار بالاستدارة بالمهزوم، يكون بالتماسك عليه، هذا هو باطن الانتصار، وتلك الاستدارة هي ظاهره!وكذلك كلمة "أَخْلَفَ"، الدالة على الرَّمْي خَلْفًا، وفيه يرمي المقاتل يده إلى خلفه، ليشهر السيف المُغْمَد من غِمْده، من غير أن يُتْنَبَه إليه. وعلى رغم دقة الكلمة وجواز استعمالها في غير السيوف من الأسلحة، لم تعد تستعمل، لأن المعاصرين لا يعرفونها، ولو عرفها بعضهم لم يجرؤ على استعمالها، لأن المتلقي عنه لن يفهمها، بَلْوَى لغوية عامة، وما أكثر بلايا من لا يدركون قيمة ما بين أيديهم!ثلاث الكلمات تلك هي التي غلب على ظني أنها أغرب ما في الكلام السابق على المعاصرين، وقد تَكَفَّل السياق بتعويض ما أحدثته من خَلَلٍ مُعْجميٍّ، فلم يعد يجوز الإعراض بها عنه أو عن مثله!لقد سبق في زمان قوة البيان العربي، أن استغرب سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه!- كلمة "أَبًّا" في قول الحق -سبحانه، وتعالى!- من سورة عبس: "فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ". ولا يخفى أن سياق الآيات ينبه على متاعين من الطعام:- الفاكهة، وهي من أحب ما تخرج الأرض إلى الإنسان.
    - والأب، وهو للأنعام بمنزلة الفاكهة للإنسان.
    فلما مضى فيها عمر بن الخطاب، وقف على كفاية السياق في تعويض خفاء الأب عليه؛ فرجع عن استغرابه سريعا، وكأنما أساء إلى جناب السياق العالي!
    ذلك ما قدرت من أغرب الكلمات، فأما دلالة "المُعْلَم بِرِيشَةٍ" على المُعَلَّم بِها، و"أَذُبُّ عَنْهُ" على أدفع عنه، و"هَبَرُوهُمَا"، أي قَطَّعُوهما- فقريبة مفهومة مستعملة في كلام بعض المعاصرين، غير أن "هَبَرُوهُمَا" إذا استعملوها، لا تخلو من معنى السخرية، وقد دلت في الكلام السابق على المبالغة!
    هَلْ تَعَثَّرْتُمْ بِغَرَابَةِ مُرَكَّبَاتِ هَذَا الْكَلَامِ؟تتكون من تلك المفردات المعجمية مركبات تشتمل عليها، وتدل على أفكارٍ كبيرة، لا معانٍ صغيرة. وكما اتفقت بيننا وبين غيرنا مفرداتٌ واختلفت مفرداتٌ أخرى، اتفقت مركباتٌ واختلفت مركباتٌ أخرى؛ فاتصل بالاتفاق بيننا وبينهم حبلُ التفاهم، وانفتح بالاختلاف بابُ التشوُّف والتطلُّع والتأمُّل.أما المتفق بيننا وبين أصحاب الكلام السابق فقد أغنانا فهمه عن الاشتغال به هنا، غير قول عبد الرحمن لبلال: "يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ"، الذي تجاهله بلال، ولم نكن نظن أن يكون من عبد الرحمن!لقد غضب عبد الرحمن على بلال أَنْ لم يعبأ بسماع كلامه، فسَبَّه بسواد أمه، وأين سوادها من عدم سماعه! وربما لصقت بالمسبوب المسبة حتى تَعَوَّدَها وسكت عليها؛ فكانت أضغان، وفسدت أنفس، فنُهِيَ عن ذلك، حتى إنه لما سب أبو ذر الغفاري غلامه بأمه قائلا: "يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ"، قال له رسول الله –صلى الله عليه، وسلم!-: "يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ! إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ. إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ (خدمكم)، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْـُه مِمَّـا يَأْكُـُل، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ"[8].وأما المختلف بيننا وبين أصحاب الكلام السابق، فهو الذي يستحق الوقوف عليه.من ذلك قول أمية:- "مَنِ الرَّجُلُ مِنْكُمُ الْمُعْلَمُ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ".الذي اشتمل على شبه الجملة الحرفي "مِنْكُمْ"، حالا من "الرَّجُلُ"، دلت فيه أداة الجر "مِنْ" على كون ما قبلها بعض ما بعدها، وافتضح بها حقد أمية على المسلمين أن كان منهم هم ولم يكن من قومه!ومن ذلك قول عبد الرحمن:
    - "فَوَاللَّهِ إنِّي لَأَقُودُهُمَا، إذْ رَآهُ بِلَالٌ مِعَى".
    الذي اشتمل على "إِذْ"، الكلمة المؤهَّلة على حسب مُرَكَّباتها، للدلالة على معان متعددة، يُسْتَعمل الآن بعضها دون بعض. ربما ظن المستمع أن "إِذْ" ظرف زمان أو أداة تعليل، وأن الجملة القسميَّة -وهي جُزْآن: قَسَمٌ، وجوابٌ يؤكده القسم- مشتملة في جوابها عليها. حتى إذا راعى موضع "إِذْ" من مُرَكَّبها في سياقها، أدرك أنها أداة مفاجأة، تدل في صدر جملتها الجديدة بعد انتهاء الجملة القسمية بجزأيها، على مفاجأة رؤية بلال لأمية مع عبد الرحمن، وأن عبد الرحمن لو قَدَّرَ أن بلالا يراهما لسَلَكَ طريقا آخر حرصا على أَسْرِ أمية دون قتله.ومن ذلك قول عبد الرحمن:
    - "يُعَذِّبُ بِلَالًا بِمَكَّةَ عَلَى تَرْكِ الْإِسْلَامِ".
    الذي اشتمل على حرف الجر "عَلَى"، المشهور في الدلالة على استعلاء ما قبله على ما بعده، كما في قولك: الْكِتَابُ عَلَى الْمَكْتَبِ، أي فوقه. ومعنى الاستعلاء الخالص ممتنع في الكلام السابق؛ إذ دخل فيه حرف الجر "عَلَى" على "تَرْكِ الْإِسْلَامِ"، الذي هو غاية تعذيب أمية لبلال؛ فدل على أن الرغبة فيما بعده هي علة حدوث ما قبله، وأن دلالة حرف الجر في سياق هذا الكلام، مَشُوبة بالتعليل، غير خالصة للاستعلاء.والتعليل مشهور في اللام، كما في قولك: آتيك للعمل؛ فربما خطر لبعض المستمعين أن لو استعمل المتحدث اللام دون "عَلَى" لأبان أحسن مما أبان، ولم يدر أن الحرف ("على" أو غيره)، حين يشتمل في سياقٍ ما على معنَى غيرِه (اللام أو غيره)، لا ينخلع من معنَى نفسِهِ، بل يضم المعنى إلى المعنى، وهذا (جَمْع المعاني) هو شِعار البلاغة.ومن ذلك قول عبد الرحمن على لسان أمية:
    - "لَا تَزَالُ هَكَذَا أَوْ تُفَارِقَ دِينَ مُحَمَّدٍ".
    الذي اشتمل على حرف العطف "أو"، المشهور في التَّخْيِير كما في قولك: اشْرَبِ الْمَاءَ أَوِ الْعَصِيرَ. ومعنى التخيير الخالص ممتنعٌ في الكلام السابق؛ إذ دخل فيه حرف العطف "أَوْ"، على مفارقة دين محمد[9]، التي لا كَفَّ لأمية عن تعذيب بلال إلا بها؛ فدل على استثناء ما بعد "أو"، مما قبله، وأن دلالة حرف العطف "أو" مشوبة بالاستثناء، غير خالصة للتخيير. وفي العبارة من جَمْع المعاني مثلُ ما في غيرها مما سبق ويلحق.ومن ذلك قول عبد الرحمن:
    - "أَبِأَسِيرَيَّ".
    الذي اشتمل على بعض مُكَمِّلات الجملة (متعلِّقاتها، والمراد هنا الجار والمجرور)، وبعض مُلَوِّنَاتها (أدوات المعاني الطارئة عليها، والمراد هنا همزة الاستفهام)، ولم يشتمل على ركنيها اللذين لا تستقيم دونهما جُمْلَة! ولكن بسياق الكلام السابق ما يدل على أن عبد الرحمن يستنكر أن يَفْجَعَه بلال بأسيريه (أن يقتلهما فيصيبه بمصيبة فاجعة)، فلما كان ذلك حَذَفَ ركني الجملة المفهومين ومعهما ضميره المفعول به (تَفْجَعُنِي)، ولا سيما أنه كان أحرص على ذِكْر أسيريه منه على ذِكْر رُكْنَيْ جملته المفهومين، واستغنى عن ضميره المفعول به، بذكره مضافا إليه في مركبه الإضافي "أَسِيريَّ"، المتكون قبل الإضافة من كلمتَيْ [أَسِيرَيْنِ، إِيَّايَ]، المتحولتين إلى المركب بحذف نون الأول، وتحويل صورة انفصال الثاني إلى صورة الاتصال المناسبة.
    حتى إذا ما ذهب ذلك السياق، وبقي عبد الرحمن بعده يروي للناس هوله، اضطُرَّ إلى ذكر ركني الجملة، كما نص الراوي من آخر الخبر: "فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَقُولُ يَرْحَمُ اللَّهُ بِلَالًا؛ ذَهَبَتْ أَدْرَاعِي، وَفَجَعَنِي بِأَسِيرَيَّ"!
    ومن ذلك قول عبد الرحمن:
    - "مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ".
    الذي اشتمل على ظرف الزمان "قَطُّ" المبني على الضم، المستعمل قديما في نفي الزمان الماضي كما في الكلام السابق، المهمل حديثا من الاستعمال اكتفاء بظرف الزمان المنصوب "أَبَدًا"، المستعمل من قديم إلى حديث في إثبات الزمان المستقبل ونفيه؛ تقول: سَأَفْعَلُهُ أَبَدًا، لَنْ أَفْعَلَهُ أَبَدًا، لَمْ أَفْعَلْهُ قَطُّ؛ فكل ذلك صواب. ولا تقول: سَأَفْعَلُهُ قَطُّ، لَنْ أَفْعَلَهُ قَطُّ، لَمْ أَفْعَلْهُ أَبَدًا؛ فكل ذلك خطأ!إن في العربية من المفردات والمركبات، ما يمكننا من التعبير عن أقسام الزمان ودقائقه وأحواله، تعبيرا معجزا لغير العربية من اللغات، فَرِح بضبطه أستاذُنا الدكتور تمام حسان في كتابه "اللغة العربية معناها ومبناها"، العظيم القيمة في ثقافتنا المعاصرة، وأستاذُنا الدكتور فاضل السامرائي في محاضرته لنا خريف العام الجامعي 12/2013م، بجامعة السلطان قابوس، الناهلة من معين كتبه القيمة.لقد وجدت الدكتور السامرائي يشقق المفردات والمركبات، حتى أوفى على عدد كبير جدا، كما أوفى قبله الدكتور تمام حسان، دَرَّجَ به دقائقَ الزمان تدريجا عجيبا، وكان في أثناء ذلك يقول: كما تعرفون...، كما تعرفون...، كما تعرفون...! فقلت له: ولكننا لا نعرف يا أستاذنا! كيف نعرف ما لا نستعمل! إن اللغات تحيا وتموت: تحيا بالوَصْل (الاستعمال) كما يحيا الأحباب، وتموت بالهَجْر (عدم الاستعمال) كما يموتون، وربما بُعِثَ ميِّتُها باستعماله، وأُمِيتَ حَيُّها بعدم استعماله، وهكذا دواليك!أَيْنَ يُمْكِنُ أَنْ نَجِدَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ؟قد سبق التنبيه في شأن الكلام السابق، على أنه أحد روايات الأَخْباريِّين العرب المسلمين، عما كان من أحداث غزوة بدر الكبرى؛ فمن ثم ينبغي أن يقع بـ"كتب التاريخ العربي الإسلامي"، ولا سيما "كتب السيرة" التي تختص من ذلك بما يخص رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- وصحابته وتابعيهم ممن أقاموا دولة الإسلام، وكانوا أئمة الهدى الذين أُمِرْنَا أن نقتدي بهم لنهتدي إلى رب العالمين.لقد ورد الكلام السابق في فصل "مقتل أمية بن خلف"، من باب "غزوة بدر الكبرى"، بكتاب "السيرة النبوية"[10]، لابن هشام، أبي محمد جمال الدين عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، المجهول المولد، المتوفى سنة 213 أو 218 الهجرية، الذي اعتمد فيه اعتمادا كبيرا على ابن إسحاق، أبي بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار المدنيّ القرشيّ، مولى قيس بن مخرمَة، المولود على الأرجح سنة 85 الهجرية، المتوفى بَين سنتي 150 و153الهجريتين. وأستحسن فيما يأتي أن أورد من هذا الكتاب نفسه، خبر مقتل أبي جهل."قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: (...) قَالَ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ: سَمِعْتُ الْقَوْمَ وَأَبُو جَهْلٍ فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ (...) وَهُمْ يَقُولُونَ: أَبُو الْحَكَمِ لَا يُخْلَصُ إلَيْهِ -قَالَ- فَلَمَّا سَمِعْتُهَا جَعَلْتُهُ مِنْ شَأْنِي، فَصَمَدْتُ نَحْوَهُ، فَلَمَّا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ، فَضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً أَطَنَّتْ قَدَمَهُ بِنصْف سَاقه، فوالله مَا شَبَّهْتهَا حِينَ طَاحَتْ إلَّا بِالنَّوَاةِ تَطِيحُ مِنْ تَحْتِ مِرْضَخَةِ النَّوَى حِينَ يُضْرَبُ بِهَا -قَالَ- وَضَرَبَنِي ابْنُهُ عِكْرِمَةُ عَلَى عَاتِقِي، فَطَرَحَ يَدِي، فَتَعَلَّقَتْ بِجِلْدَةٍ مِنْ جَنْبِي، وَأَجْهَضَنِي الْقِتَالُ عَنْهُ، فَلَقَدْ قَاتَلْتُ عَامَّةَ يَوْمِي، وَإِنِّي لَأَسْحَبُهَا خَلْفِي، فَلَمَّا آذَتْنِي وَضَعْتُ عَلَيْهَا قَدَمِي، ثُمَّ تَمَطَّيْتُ بِهَا عَلَيْهَا حَتَّى طَرَحْتُهَا -قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى كَانَ زَمَانُ عُثْمَانَ- ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي جَهْلٍ وَهُوَ عَقِيرٌ، مُعَوِّذُ بْنُ عَفْرَاءَ، فَضَرَبَهُ حَتَّى أَثْبَتَهُ، فَتَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ. وَقَاتَلَ مُعَوِّذٌ حَتَّى قُتِلَ، فَمَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِأَبِي جَهْلٍ، حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- أَنْ يُلْتَمَسَ فِي الْقَتْلَى (...) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: فَوَجَدْتُهُ بِآخِرِ رَمَقٍ، فَعَرَفْتُهُ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي عَلَى عُنُقِهِ (...) وَزَعَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: قَالَ لِي لَقَدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَ الْغَنَمِ-قَالَ- ثمَّ احْتَزَزْتُ رَأْسَهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَأْسُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبِي جَهْلٍ -قَالَ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!-: آللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ -قَالَ- وَكَانَتْ يَمِينَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- قَالَ قُلْتُ: نَعَمْ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ! ثُمَّ أَلْقَيْتُ رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- فَحَمِدَ اللَّهَ"[11].----------------------------------
    [1] أراد أَدْرَاعًا (والدِّرْعُ مفردها، كسوة حديد تقي الجسم من ضربات السيوف)، غَنِمَها قبل أن يرى أمية بن خلف، ثم تركها ليأسره هو وابنه.
    [2] عبادة (الدكتور محمد إبراهيم) "معجم مصطلحات النحو والصرف والعروض والقافية": 186.
    [3] هو الدكتور تمام حسان، الذي قسمها في كتابه "اللغة العربية معناها ومبناها"، على اسم وفعل ووصف وضمير وظرف وأداة وخالفة- وتلميذه فاضل الساقي، الذي زادها قسم المصدر، في رسالته بإشراف الدكتور تمام حسان نفسه الذي قبل زيادته.
    [4] وكلمة أشخاص كافية هنا، فهي جمع شخص، وهو كل ما شَخَصَ (بَرَزَ للعِيَان) شُخُوصًا، إنسانًا كان أو حيوانا أو نباتا أو جمادا.
    [5] ابن هشام "السيرة النبوية"، بتحقيق السقا والأبياري وشلبي: 1/631.
    [6] سورة الأنفال: 67.
    [7] وكان بلال عظيم المكانة في المسلمين على سَبْق رِقِّه، قال فيه عمر بن الخطاب : "أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا".
    [8] البخاري "الصحيح"، نشرة دار إحياء التراث العربي: 1/14.
    [9] دخل "أَوْ" على الفعل المضارع "تُفَارِقَ" المنصوب بـ"أَنْ" مُضْمَرَة، وهي على رغم إضمارها والفعلُ بعدها، يُؤَوَّلان أي يُفَسَّران بمصدر الفعل المضارع، أي اسمِ معناه الذي هو المُفَارَقَة.
    [10] ابن هشام "السيرة": 1/632.
    [11] ابن هشام: 1/634-636.



  4. #4
    فِي مَقَامِ الِاسْتِمَاعِ وَالتَّحَدُّثِ=4
    للدكتور محمد جمال صقر
    أَسْئِلَةُ الِاسْتِمَاعِ وَالتَّحَدُّثِومن كف على الاستماع، وظن أنه قد اكتفى، فقد صَمَّ عن الذِّكْرَى، وآثر الجهل على العلم؛ ومن ثم أتحدث إليكم فيما يأتي بكلام آخر جديد عليكم -أو ينبغي أن يكون جديدا عليكم حتى تستمر التجربة على منهجها- أحب من خلاله أن أقيس درجة مهارتي بالتحدث، ودرجة مهارتكم بالاستماع، بالأسئلة الآتية التي لا تمنع اقتراح غيرها:-كَيْفَ تَخْتَلِفُ الْأَخْلَاقُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ؟-مَا أَفْضَلُ أَحْوَالِ الْأَخْلَاقِ؟-هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى الْأَخْلَاقِ مَنْ لَا يَتَخَلَّقُ بِهَا؟-هَلْ مِنَ الْمُفِيدِ تَعْلِيمُ شُؤُونِ الرَّذَائِلِ؟-مَا سَبِيلُ الْفَضِيلَةِ الْمُقَدَّسُ الْمَعْرُوفُ؟-مَا الْأَخْلَاقُ الَّتِي كَانَتْ قَدِيمًا وَاضِحَةَ التَّضَادِّ؟-مَا الْأَخْلَاقُ الَّتِي صَارَتْ حَدِيثًا وَاضِحَةَ الْخَطَأِ؟-كَيْفَ اخْتَلَفَتْ دَلَالَاتُ أَسْمَاءِ الْأَخْلَاقِ ثَبَاتًا وَزَوَالًا؟-كَيْفَ اضْطَرَبَ أُسْلُوبُ هَذَا الْكَلَامِ بَيْنَ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ؟-لِمَنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ؟وعلى رغم اختلاط أساليبِ التفكير (حركة أفكار المتحدث)، والتعبير (حركة عبارات المتحدث)، والتقويم (حركة أحكام المستمع)، في أجوبة هذه الأسئلة كذلك، أميز فيما يأتي بعضها من بعض، فأتحدث إليكم بالكلام نفسه ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لأسألكم بعد المرة الأولى عن أسلوب التفكير، وبعد المرة الثانية عن أسلوب التعبير، وبعد المرة الثالثة الأخيرة عن أسلوب التقويم.فَاسْتَمِعُوا أَوَّلًا، لِتُمَيِّزُوا أُسْلُوبَ التَّفْكِيرِ:"عِنْدِي أَنَّ الْفَضِيلَةَ وَالرَّذِيلَةَ كَالْجَمَالِ وَالْقُبْحِ، أَمْرَانِ اعْتِبَارِيَّانِ، يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ؛ فَكَمَا أَنَّ الْجَمَالَ فِي أُمَّةٍ قَدْ يَكُونُ قُبْحًا فِي أُمَّةٍ أُخْرَى، كَذَلِكَ الْفَضِيلَةُ فِي عَصْرٍ قَدْ تَكُونُ رَذِيلَةً فِي عَصْرٍ آخَرَ.لَيْسَتِ الْفَضَائِلُ وَالرَّذَائِلُ أَسْمَاءً تَوْقِيفيَّةً[1] كَأَسْمَاءِ اللَّهِ -تَعَالَى!- لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهَا وَلَا تَبْدِيلُهَا! وَلَيْسَتِ الْفَضِيلُةُ فَضِيلَةً إِلَّا لِأَنَّهَا طَرِيقُ السَّعَادَةِ فِي الْحَيَاةِ، وَلَا الرَّذِيلَةُ رَذِيلَةً إِلَّا لِأَنَّهَا طَرِيقُ الشَّقَاءِ فِيهَا؛ فَحَيْثُ تَكُونُ السَّعَادَةُ فِي صِفَةٍ فَهِيَ الْفَضِيلَةُ -وَإِنْ كَانَتْ رَذِيلَةَ اللُّؤْمِ- وَحَيْثُ يَكُونُ الشَّقَاءُ فِي صِفَةٍ فَهِيَ الرَّذِيلَةُ، وَإِنْ كَانَتْ فَضِيلَةَ الْكَرَمِ[2].اعْتَادَ عُلَمَاءُ الْأَخْلَاقِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ مِنْ عَهْدِ آدَمَ إِلَى الْيَوْمِ، أَنْ يَنْشُرُوا لَنَا فِي كِتَابٍ يُؤَلِّفُونَهُ أَوْ رِسَالَةٍ يُدَوِّنُونَهَا، جَدْوَلَيْنِ ثَابِتَيْنِ لَا يَنْتَقِلَانِ وَلَا يَتَحَلْحَلَانِ[3]، يَكْتُبُونَ عَلَى رَأْسِ أَحَدِهِمَا عُنْوَانَ الْفَضَائِلِ وَتَحْتَهُ كَلِمَاتِ الشَّجَاعَةِ وَالْكَرَمِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعِفَّةِ وَالْمُرُوءَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعِدْلِ وَالرَّحْمَةِ- وَعَلَى رَأْسِ ثَانِيهِمَا عُنْوَانَ الرَّذَائِلِ وَتَحْتَهُ كَلِمَاتِ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْخِيَانَةِ وَالْغَدْرِ وَالطَّمَعِ وَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَالْقَسْوَةِ. وَأَرَى أَنَّهُ قَدْ آنَ لَهُمْ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ النَّاسَ الْيَوْمَ غَيْرُهُمْ بِالْأَمْسِ، وَأَنَّ أَسَالِيبَ الْحَيَاةِ الْحَاضِرَةِ غَيْرُ أَسَالِيبِ الْحَيَاةِ الْمَاضِيَةِ، وَأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي عَهْدِ الْبَدَاوَةِ وَالسَّذَاجَةِ رَذَائِلَ يَجْتَوِيهَا[4] النَّاسُ وَيَتَبَرَّمُونَ بِهَا وَيَسْتَثْقِلُونَ مَكَانَهَا[5]، قَدْ أَصْبَحَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَصْرِ الْمَدَنِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ الْمُؤَسَّسَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ، حَالَةً وَاقِعَةً مُقَرَّرَةً فِي نِظَامِ الْمُجْتَمَعِ الْبَشَرِيِّ، وَأُسُسًا ثَابِتَةً تُبْنَى عَلَيْهَا جَمِيعُ أَعْمَالِهِ وَشُؤُونِهِ؛ فَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهَا، وَلَا غِنَى لَهُمْ عَنْهَا، وَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُمْ -إِنْ أَرَادُوا أَنْ يَخُوضُوا مُعْتَرَكَ الْحَيَاةِ مَعَ خَائِضِيهِ- مِنْ أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا تَعَلُّمًا نِظَامِيًّا وَيَدْرُسُوهَا مَعَ مَا يَدْرُسُونَ مِنْ عُلُومِ الْحَيَاةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا نِظَامُ عَيْشِهِمْ وَيَتَأَلَّفُ مِنْهَا شَأْنُ سَعَادَتِهِمْ وَهَنَائِهِمْ.كَانَ الْكَرَمُ فَضِيلَةً يَوْمَ كَانَ النَّاسُ يَحْفَظُونَ الْجَمِيلَ لِصَاحِبِهِ وَيَعْرِفُونَ لَهُ يَدَهُ الَّتِي أَسْدَاهَا إِلَيْهِمْ؛ فَإِذَا هَوَى بِهِ كَرَمُهُ فِي هُوَّةٍ مِنْ هُوَى الْفَقْرِ لَا يَعْدَمُ أَنْ يَجِدَ مِنْ بَيْنِ الَّذِينَ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ أَوْ عَظُمَ فِي نُفُوسِهِمْ شَأْنُ إِحْسَانِهِ، مَنْ يَمُدُّ إِلَيْهِ يَدَ الْمَعُونَةِ لِيَسْتَنْقِذَهُ مِنْ شَقَائِهِ أَوْ يُرَفِّهَ عَلَيْهِ. أَمَّا الْيَوْمَ وَقَدْ أَنْكَرَ النَّاسُ الْجَمِيلَ، وَاسْتَثْقَلُوا حَمْلَهُ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، بَلْ أَصْبَحُوا يَشْمَتُونَ بِصَاحِبِهِ يَوْمَ تَزِلُّ بِهِ قَدَمُهُ، وَيَصُبُّونَ عَلَى رَأْسِهِ جَمِيعَ مَا فِي كُتُبِ الْمُتَرَادِفَاتِ مِنْ أَسْمَاءِ الْجُنُونِ وَأَلْقَابِهِ- فَلَيْسَ الْكَرَمُ فَضِيلَةً، وَلَيْسَ مِنَ الرَّأْيِ الدُّعَاءُ لَهُ وَالْحَضُّ عَلَيْهِ!وَكَانَتِ الرَّحْمَةُ فَضِيلَةً يَوْمَ كَانَ النَّاسُ صَادِقِينَ فِي أَحَادِيثِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ؛ فَلَا يَعْتَرِفُ بِالْبُؤْسِ إِلَّا الْبَائِسُ، وَلَا يَلْبَسُ الْقَدِيمَ إِلَّا مَنْ عَجَزَ عَنْ لُبْسِ الْجَدِيدِ. أَمَّا الْيَوْمَ وَقَدْ ذَلَّتِ النُّفُوسُ، وَسَفُلَتِ الْمُرُوءَاتُ؛ فَلَبِسَ ثَوْبَ الْفَقْرِ غَيْرُ الْفَقِيرِ، وَانْتَحَلَ الْبُؤْسَ غَيْرُ الْبَائِسِ، وَأَصْبَحَ نِصْفُ النَّاسِ كُسَالَى مُتَبَطِّلِينَ لَا عَمَلَ لَهُمْ إِلَّا اللُّجُوءُ إِلَى ظِلَالِ الْقُلُوبِ الرَّحِيمَةِ يَعْتَصِرُونَهَا وَيَحْتَلِبُونَ دِرَّتَهَا حَتَّى تَجِفَّ جَفَافَ الْحَشَفِ[6] الْبَالِي- فَالرَّحْمَةُ هِيَ الْفَقْرُ الْعَاجِلُ وَالْخُسْرَانُ الْمُبِينُ!وَكَانَتِ الشَّجَاعَةُ فَضِيلَةً يَوْمَ كَانَ النَّاسُ يَنْصُرُونَ الشُّجَاعَ وَيُؤَازِرُونَهُ وَيَتَّبِعُونَ خُطُوَاتِهِ فِي طَرِيقِهِ الَّتِي يَذْهَبُ فِيهَا؛ فَلَا يَتَخَلَّوْنَ عَنْهُ، وَلَا يَخْذُلُونَهُ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ الظَّفَرُ الَّذِي يُرِيدُ. أَمَّا الْيَوْمَ وَقَدْ فَتَرَتْ هِمَمُ النَّاسِ، وَوَهَتْ عَزَائِمُهُمْ، وَمَاتَتْ فِي نُفُوسِهِمُ الْحَفَائِظُ وَالْغَيْرَةُ[7]، وَوَكَلَ كُلٌّ أَمْرَهُ إِلَى صَاحِبِهِ؛ فَإِنْ رَأَوْهُ قَائِمًا بِدَعْوَةٍ وَطَنِيَّةٍ أَوِ اجْتِمَاعِيَّةٍ أَغْرَوْهُ بِالْمُضِيِّ فِيهَا، وَوَقَفُوا عَنْ كَثَبٍ يَنْظُرُونَ مَاذَا يَفْعَلُ؛ فَإِنْ ظَفِرَ هَتَفُوا لَهُ وَانْحَدَرُوا إِلَيْهِ يُقَاسِمُونَهُ الْغَنِيمَةَ الَّتِي غَنِمَهَا، وَإِنْ فَشِلَ خَذَلُوهُ وَتَنَكَّرُوا لَهُ- فَالشَّجَاعَةُ لَا يَجِدُ صَاحِبُهَا مِنْ وَرَائِهَا إِلَّا التَّهْلُكَةَ وَالشَّقَاءَ!وَكَانَتِ الْقَنَاعَةُ فَضِيلَةً يَوْمَ كَانَ الْفَضْلُ هُوَ الْمِيزَانَ يَزِنُ بِهِ النَّاسُ أَقْدَارَ النَّاسِ وَقِيَمَهُمْ، وَيَوْمَ كَانَ الْفَقْرُ مَفْخَرَةً لِلشَّرِيفِ إِذَا عَفَّتْ[8] يَدُهُ وَعَزَفَتْ نَفْسُهُ، وَالْغِنَى مَعَرَّةً لِلدَّنِيءِ إِذَا سَفُلَتْ مَسَاعِيهِ وَأَغْرَاضُهُ. أَمَّا الْيَوْمَ وَقَدْ مَاتَ كُلُّ مَجْدٍ فِي الْعَالَمِ إِلَّا الْمَجْدَ الْمَالِيَّ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ يَتَعَارَفُونَ بِأَزْيَائِهِمْ وَمَظَاهِرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَتَعَارَفُوا بِصِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ- فَالْقَنَاعَةُ ذُلُّ[9] الْحَيَاةِ وَعَارُهَا وَبُؤْسُهَا الدَّائِمُ وَشَقَاؤُهَا الطَّوِيلُ!وَكَانَ الْغَضَبُ رَذِيلَةً يَوْمَ كَانَ النَّاسُ يَعْرِفُونَ فَضِيلَةَ الْحِلْمِ، وَيَقْدُرُونَهَا قَدْرَهَا، وَيُطَأْطِئُونَ رُؤُوسَهُمْ إِجْلَالًا لِصَاحِبِهَا- أَمَّا وَقَدَ أَصْبَحَ النَّاسُ أَشْرَارًا يَحْمِلُونَ شُرُورَهُمْ عَلَى كَوَاهِلِهِمْ وَيَدُورُونَ بِهَا فِي كُلِّ مَكَانٍ يَطْلُبُونَ لَهَا رَأْسًا يَصُبُّونَهَا عَلَيْهِ، وَلَا يُعْجِبُهُمْ مِثْلَ الرَّأْسِ الضَّعِيفِ الْمُتَهَالِكِ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الذِّيَادَ عَنْ نَفْسِهِ- فَلَا خَيْرَ فِي الْحِلْمِ، وَالْخَيْرُ كُلُّ الْخَيْرِ فِي الْغَضَبِ!الْحَيَاةُ مُعْتَرَكٌ أَبْطَالُهُ الْأَشْرَارُ، وَأَسْلِحَتُهُمُ الرَّذَائِلُ؛ فَمَنْ لَمْ يُحَارِبْهُمْ بِمِثْلِ سِلَاحِهِمْ هَلَكَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى!يَجِبُ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ جَمِيعًا إِمَّا فُضَلَاءَ لِيَسْعَدُوا بِفَضِيلَتِهِمْ، أَوْ أَدْنِيَاءَ لِيَتَّقِيَ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ. أَمَّا أَنْ يَتَقَلَّدَ سَوَادُهُمْ سِلَاحَ الرَّذِيلَةِ، وَالنَّزْرُ الْقَلِيلُ مِنْهُمْ سِلَاحَ الْفَضِيلَةِ، وَهُوَ أَضْعَفُ السِّلَاحَيْنِ وَأَوْهَاهُمَا- فَلَيْس لِذَلِكَ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ، هُوَ أَنْ يَهْلِكَ أَشْرَافُ النَّاسِ وَفُضَلَاؤُهُمْ فِي سَبِيلِ أَدْنِيَائِهِمْ وَأَنْذَالِهِمْ!إِنَّ الدُّعَاءَ إِلَى الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، إِنَّمَا هُوَ حِبَالَةٌ يَنْصِبُهَا الْأَقْوِيَاءُ الْمَاكِرُونَ لِلضُّعَفَاءِ السَّاذَجِينَ، لِيَخْدَعُوهُمْ بِهَا عَنْ مَائِدَةِ الْحَيَاةِ الَّتِي يَجْلِسُونَ عَلَيْهَا، فَيَسْتَأْثِرُوا بِهَا مِنْ دُونِهِمْ؛ فَلَا يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى الْكَرَمِ إِلَّا لِيَنْقُلَ مَا فِي جُيُوبِ النَّاسِ إِلَى جَيْبِهِ، وَلَا إِلَى الْعَفْوِ إِلَّا لِيُصِيبَ بِشَرِّهِ مَنْ يَشَاءُ دُونَ أَنْ يَنَالَهُ مِنَ الشَّرِّ شَيْءٌ، وَلَا إِلَى الْقَنَاعَةِ إِلَّا لِيُقَلِّلَ مِنْ سَوَادِ الْمُزَاحِمِينَ لَهُ عَلَى أَعْرَاضِ الْحَيَاةِ وَمَطَامِعِهَا، وَلَا إِلَى الصِّدْقِ إِلَّا لِيَتَمَتَّعَ وَحْدَهُ بِثَمَرَاتِ الْكَذِبِ وَمَزَايَاهُ!كُلُّنَا يَكْذِبُ؛ فَلِمَ يَعِيبُ بَعْضُنَا بَعْضًا بِالْكَذِبِ وَالتَّلْفِيقِ! وَكُلُّنَا يَبْتَسِمُ لِعَدُوِّهِ وَصَدِيقِهِ ابْتِسَامَةً وَاحِدَةً؛ فَلِمَ نَسْتَنْكِرُ الرِّيَاءَ وَالْمُصَانَعَةَ! وَكُلُّنَا يَطْمَعُ فِي أَنْ تَكُونَ لَهُ وَحْدَهُ جَمِيعُ خَيْرَاتِ الْأَرْضِ وَثَمَرَاتِهَا؛ فَلِمَ نَسْتَفْظِعُ الطَّمَعَ وَالْجَشَعَ! وَكُلُّنَا يَتَرَبَّصُ بِصَاحِبِهِ الْغَفْلَةَ لِيَخْتِلَهُ عَمَّا فِي يَدِهِ؛ فَلِمَ نَشْكُو مِنَ الظُّلْمِ وَالْإِرْهَاقِ! إِنَّنَا لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّا نُرِيدُ أَنْ نَسْتَخْدِمَ الْفَضِيلَةَ فِي أَغْرَاضِنَا وَمَآرِبِنَا، كَمَا كَانَ يَسْتَخْدِمُ رِجَالُ الدِّينِ الدِّينَ فِي الْأَعْصُرِ الْمَاضِيَةِ!يَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّمَ الطِّفْلُ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ يَجْلِسُ فِيهِ أَمَامَ مَكْتَبِ مَدْرَسَتِهِ، أَنَّ الْمَوْجُودَ فِي الْحَيَاةِ غَيْرُ الْمَوْجُودِ فِي الْكُتُبِ، وَأَنَّ قِصَصَ الْفَضَائِلِ الَّتِي يَقْرَؤُونَهَا وَنَوَادِرَ الْمُرُوءَاتِ وَالْكَرَمِ وَالْإِيثَارِ وَأَحَادِيثَ الشَّهَامَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَعِزَّةِ النَّفْسِ وَإِبَائِهَا- إِنَّمَا هِيَ رِوَايَاتٌ تَارِيخِيَّةٌ قَدْ مَضَتْ وَانْقَضَى عَهْدُهَا، حَتَّى لَا يُصْبِحَ نَاقِمًا عَلَى الْعَالَمِ يَوْمَ يَنْكَشِفُ لَهُ وَجْهُهُ وَيَرَى سَوْءَاتِهِ وَعَوْرَاتِهِ، وَحَتَّى لَا يَضِيعَ عَلَيْهِ عُمْرُهُ بَيْنَ التَّجَارِبِ وَالِاخْتِبَارَاتِ!وَلَيْتَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مِنْ شُؤُونِ الرَّذَائِلِ وَدَخَلِهَا فَوْقَ مَا أَعْلَمُ، يَضَعُونَ لِلنَّاشِئِ كِتَابًا مَدْرَسِيًّا عَلَى نَمَطِ كُتُبِ التَّارِيخِ، يُوَضِّحُونَ لَهُ فِيهِ كَيْفَ يَكْذِبُ التَّاجِرُ، وَيَغُشُّ الصَّانِعُ، وَيُلَفِّقُ الْمُحَامِي، وَيُدَجِّلُ الطَّبِيبُ، وَيَخْتَلِسُ الْمُرَابِي، وَيُرَائِي الْفَقِيهُ، وَيُصَانِعُ السِّيَاسِيُّ، وَيَتَقَلَّبُ الصِّحَافِيُّ- ثُمَّ يَقُولُونَ لَهُ: هَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ، وَهَذَا هُوَ مَا يَجْرِي فِيهَا؛ فَإِنْ أَرَدْتَهَا عَلَى عِلَّاتِهَا فَذَاكَ، أَوْ لَا فَدُونَكَ مَغَارَةً مُوحِشَةً فِي قِمَّةٍ مِنْ قِمَمِ الْجِبَالِ، فَعِشْ فِيهَا وَحِيدًا بَعِيدًا عَنِ الْعَالَمِ وَمَا فِيهِ، وَكُلْ مِمَّا تَأْكُلُ حَشَرَاتُ الْأَرْضِ، وَاشْرَبْ مِمَّا تَشْرَبُ، حَتَّى يُوَافِيَكَ أَجَلُكَ!الشَّرُّ لَا يُقَوَّمُ إِلَّا بِالشَّرِّ، وَالظُّلْمُ لَا يُدْفَعُ إِلَّا بِالظُّلْمِ، وَحَامِلُ السَّيْفِ لَا يُغْمِدُهُ فِي غِمْدِهِ إِلَّا أَمَامَ حَامِلِ سَيْفٍ مِثْلِهِ، وَالسَّيْلُ الْجَارِفُ لَا يَقِفُ عَنْ جَرَيَانِهِ إِلَّا إِذَا وَجَدَ فِي وَجْهِهِ سَدًّا يَعْتَرِضُ طَرِيقَهُ. وَالظَّالِمُ لَا يَظْلِمُ إِلَّا إِذَا وَجَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ ضَعِيفًا، وَالْمُحْتَالُ لَا يَحْتَالُ إِلَّا إِذَا وَجَدَ أَمَامَهُ غَبِيًّا، وَالنَّاسُ لَا يَتَحَامَوْنَ وَلَا يَتَحَاجَزُونَ وَلَا يَأْمَنُ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ إِلَّا إِذَا بَرَزُوا جَمِيعًا فِي مَيْدَانٍ وَاحِدٍ يَتَقَلَّدُونَ سِلَاحًا وَاحِدًا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ!مَنْ أَرَادَ الْفَضِيلَةَ لِلْفَضِيلَةِ فَسَبِيلُهَا الْمُقَدَّسُ الشَّرِيفُ مَعْرُوفٌ لَا رِيبَةَ فِيهِ، فَلْيَسْلُكْهُ كَمَا يَشَاءُ. وَمَنْ أَرَادَهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ وَسِيلَةً مِنْ وَسَائِلِ الْعَيْشِ فِي عَصْرٍ مِثْلِ هَذَا الْعَصْرِ وَنَاسٍ مِثْلِ هَذَا النَّاسِ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ وَأَضَلَّ السَّبِيلَ.مَا أَجْمَلَ الْفَضِيلَةَ، وَمَا أَعْذَبَ مَذَاقَهَا، وَمَا أَجْمَلَ الْعَيْشَ فِي ظِلَالِهَا، لَوْلَا أَنَّ شُرورَ الْأَشْرَارِ وَوَيْلَاتِهِمْ قَدْ حَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا! فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهَا! وَوَا أَسَفَا عَلَى أَيَّامِهَا وَعُهُودِهَا"!كَيْفَ تَخْتَلِفُ الْأَخْلَاقُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ؟على أساس تَحْصِيل السعادة للإنسان، دعا هذا الكلام إلى تمييز الأخلاق بعضها من بعض، ليُعَدَّ ما يُحَصِّلها له من الفضائل (الأخلاق الحسنة المطلوبة المحبوبة)، وما لا يحصلها من الرذائل (الأخلاق القبيحة المتروكة المكروهة). وإذا كانت أساليب حياة الناس قد اختلفت على الأمكنة والأزمنة، فاختلفت أسباب سعادتهم- وجب على أهل كل مكان وزمان مراعاة هذا الاختلاف، وإلا سعد بعضهم وشقي بعضهم. ثم انصرف هذا الكلام بكُلِّه إلى تفصيل وجوه مختلفة من الاحتجاج لهذا الرأي، حتى لَيَجُوزُ -لو لم يكن عُنْوِنَ- أن نُعَنْوِنَه "اخْتِلَاف الْأَخْلَاقِ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ"!ولا بأس بالاحتكام إلى السعادة، ولكن بين من يعرفون حقيقتها، أنها الرضا الوُجداني الذي يملأ على الإنسان أقطار نفسه، ويحفظه في رحلته الشريفة إلى تَعْمير الأرض. فأما الأَثَرَةُ التي تخدع الإنسان عن حقيقة نفسه، وتُمْلِي له في رحلته الوَضِيعة إلى تخريب الأرض، فهي عين الشقاء لا السعادة.إننا إذا احتكمنا إلى السعادة على الفهم الصحيح، احتكمنا إلى معيار ثابت، لا تختلف الأخلاق فيه باختلاف الأمكنة والأزمنة، وإن اختلفت أساليب حياة الناس.مَا أَفْضَلُ أَحْوَالِ الْأَخْلَاقِ؟يرى هذا الكلام أنه "يَجِبُ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ جَمِيعًا إِمَّا فُضَلَاءَ لِيَسْعَدُوا بِفَضِيلَتِهِمْ، أَوْ أَدْنِيَاءَ لِيَتَّقِيَ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ. أَمَّا أَنْ يَتَقَلَّدَ سَوَادُهُمْ سِلَاحَ الرَّذِيلَةِ، وَالنَّزْرُ الْقَلِيلُ مِنْهُمْ سِلَاحَ الْفَضِيلَةِ، وَهُوَ أَضْعَفُ السِّلَاحَيْنِ وَأَوْهَاهُمَا- فَلَيْس لِذَلِكَ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ، هُوَ أَنْ يَهْلِكَ أَشْرَافُ النَّاسِ وَفُضَلَاؤُهُمْ فِي سَبِيلِ أَدْنِيَائِهِمْ وَأَنْذَالِهِمْ"!وينبغي أن يحمل هذا الرأي على أنه مِنْ فَرَطَات غضب الغاضب للأفاضل على الأراذل، أما أن يُتَّخَذَ أصلا يبنى عليه ويحتكم إليه، فلا خير فيه؛ إذ قد اشتمل الإنسان في طبيعته على الاستعداد للخير والشر جميعا معا، ولو انفرد فيه الاستعداد للخير لكان من الملائكة، ولو انفرد فيه الاستعداد للشر لكان من الشياطين! ثم لو لم يختصم في نفسه الاستعدادان لم يكن للحياة الدنيا قيمة، ولا للجهاد الأكبر معنى -وهو جهاد النفس لتغليب الخير على الشر- الذي يرتفع بالإنسان على مرتبة الملائكة أنفسهم، ليستحق رضا الحق -سبحانه، وتعالى!- قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَفْضَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ "[10].هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى الْأَخْلَاقِ مَنْ لَا يَتَخَلَّقُ بِهَا؟حَكَمَ هذا الكلام على الناس جميعا بوقوعهم فيما ينهون غيرهم عنه من الرذائل؛ ومن ثم نهاهم عن نَهْيِ غيرهم عنها، لأنه لن يكون إلا من خداعهم لهم عن أغراض دنيئة باطنة: "إِنَّنَا لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّا نُرِيدُ أَنْ نَسْتَخْدِمَ الْفَضِيلَةَ فِي أَغْرَاضِنَا وَمَآرِبِنَا، كَمَا كَانَ يَسْتَخْدِمُ رِجَالُ الدِّينِ الدِّينَ فِي الْأَعْصُرِ الْمَاضِيَةِ"!وعلى رغم سوء ما في آخر هذا الجزء من إشارة عامة إلى رجال الدين السابقين من غير تحديد، تَشْمَلُ بهم من لا يجري عليه هذا الحكم منهم، وتُقَارِبُ كلامَ الفاسقين من الدين- أُشيرُ إلى أننا مأمورون بمراعاة الظاهر دون الباطن؛ إذ يمكننا قياس الظاهر والحكم عليه، فأما الباطن فمن الصعب علينا -إن لم يكن من المستحيل- قياسه والحكم عليه؛ ومن ثم ينبغي أن نكتفي بخلو ظاهر ناهينا عن الرذائل مما ينهانا عنه، أما أن نذكر فساد الزمان واشتمال كل إنسان من الرذائل على ما يمتنع معه نهيه لغيره عنها، فهذا كذلك مِنْ فَرَطَاتِ غضب الغاضب نفسه!هَلْ مِنَ الْمُفِيدِ تَعْلِيمُ شُؤُونِ الرَّذَائِلِ؟نَبَّهَ هذا الكلام على ضرورة إطلاع أطفال المدارس من أول أيام دراستهم، على زوال الفضائل التاريخية، وأوصى العارفين بالرذائل أن يؤلفوا في تفصيل شؤونها الكتب، حتى يَعُمَّ عِلْمُ الرَّذَائِلِ، فلا يبقى كبير ولا صغير إلا وله بها علمٌ وافٍ شافٍ كافٍ؛ فلا يصطدم الصغير حين يكبر بالحقيقة المرة، ولا يتوهم الكبير الأشياء على غير حقائقها؛ إذ لا خير في كلتا الحالين!ولقد حَدَثَ طَرَفٌ مما أوصى به هذا الكلام في معاهد تربيتنا وتثقيفنا المختلفة؛ فلم نَجْنِ منه غير تَمَكُّنِ الرذائل القديمة وازديادها على ما فيها! وما أكثر ما اشتغل الفنانون بتصوير أراذل الناس على أنهم يعيشون أحسن عيشة ويموتون أقبح ميتة، أو كما قال بعضهم في بعضهم: "عَاشَ خَائِنًا، وَمَاتَ كَافِرًا"؛ فماذا كان؟ اشتغل الناس بمعيشة الأراذل الحسنة، عن مِيتتهم القبيحة، وشعارهم: "أَحْيِنِي الْيَوْمَ، وَأَمِتْنِي غَدًا"!ينبغي أن تُفَصَّل شؤون الفضائل لا الرذائل، وتُمَثَّل الأمثلة الصالحة لا الفاسدة، وتُوجَز شؤون الرذائل لا الفضائل، وتُسْتَر الأمثلة الفاسدة لا الصالحة!مَا سَبِيلُ الْفَضِيلَةِ الْمُقَدَّسُ الْمَعْرُوفُ؟إذا جمعنا من هذا الكلام بين قوله: "إِنْ أَرَدْتَهَا عَلَى عِلَّاتِهَا فَذَاكَ، أَوْ لَا فَدُونَكَ مَغَارَةً مُوحِشَةً فِي قِمَّةٍ مِنْ قِمَمِ الْجِبَالِ، فَعِشْ فِيهَا وَحِيدًا بَعِيدًا عَنِ الْعَالَمِ وَمَا فِيهِ، وَكُلْ مِمَّا تَأْكُلُ حَشَرَاتُ الْأَرْضِ، وَاشْرَبْ مِمَّا تَشْرَبُ، حَتَّى يُوَافِيَكَ أَجَلُكَ"، وقوله: "مَنْ أَرَادَ الْفَضِيلَةَ لِلْفَضِيلَةِ فَسَبِيلُهَا الْمُقَدَّسُ الشَّرِيفُ مَعْرُوفٌ لَا رِيبَةَ فِيهِ، فَلْيَسْلُكْهُ كَمَا يَشَاءُ. وَمَنْ أَرَادَهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ وَسِيلَةً مِنْ وَسَائِلِ الْعَيْشِ فِي عَصْرٍ مِثْلِ هَذَا الْعَصْرِ وَنَاسٍ مِثْلِ هَذَا النَّاسِ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ وَأَضَلَّ السَّبِيلَ"- انتهينا إلى أن سبيل الفضيلة المقدس، أن يعتزل الأفاضل الحياة، حتى يدركهم الموت!ولا ريب لدي في أن هذا الرأي كذلك من فرطات غضب الغاضب نفسه، بل إنه منتهى ما تَدَهْوَرَ به إليه غضبه؛ إذ لا فرق عندئذ في وهمه بين أفاضل الناس وأعاجم البهائم، ولقد كان ينبغي أن ينعكس لديه الرأي، فيكون الأشبهَ بأعاجم البهائم أراذلُ الناس الذين استأسروا في أنفسهم لنزغات الشيطان وشهوات الحيوان، لا أفاضلُهم الذين خالفوا الشيطان والحيوان جميعا معا، واستضاؤوا بنور الإيمان، في رحلة تعمير الأرض!ولقد ينبغي ألا يذهب بنا العجب من مثل هذا الكلام إلى إنكار أن يكون قيل؛ كيف وهو مما يتكرر على مدار الزمان كلما ادْلَهَمَّ ليل الظلم، فيظهر في أثنائه من ينكر الفضيلة، ويدعو إلى الرذيلة؛ "وَمَنْ لَا يَظْلِمِ النَّاسَ يُظْلَمِ"، أو كما قال زهير بن أبي سلمى الشاعر الجاهلي، منذ مئات السنين!ثُمَّ اسْتَمِعُوا ثَانِيًا، لِتُمَيِّزُوا أُسْلُوبَ التَّعْبِيرِ: ...مَا الْأَخْلَاقُ الَّتِي كَانَتْ قَدِيمًا وَاضِحَةَ التَّضَادِّ؟لقد سخر هذا الكلام من جدولين من الأخلاق المتضادة، أُولِعَ الأخلاقيون القدماء، في أحدهما بصَفِّ "الفضائل"، وفي الآخر بصَفِّ "الرذائل"، على النحو الآتي:

    ولقد جرى إيراد الأخلاق بينهما على منهج التضاد المحكم، غير أنه اختل في أثناء ذلك مرة واحدة؛ إذ لم يُورَدْ في الرذائل الخلق المضاد لخلق "المُرُوءَة" الذي أُورِد في الفضائل!إن المُرُوءة في المَرْء هي الرُّجُولة في الرَّجُل، أي كمال الفضائل التي تتم بها حقيقة وجوده، وضدها "الفُسُولة"، أي النقص في "الفَسْل" أي الناقص؛ فإما أن يكون ضِدُّها قد تُرِك عن جهل لغويٍّ به، وإما أن يكون قد تُرِك عن علم بعموم "المُرُوءة" الذي يغني عن مُضَادَّتِه مُضَادَّةُ الفضائل الخاصة التي يشملها. ولكن لم يكن ينبغي للمروءة عندئذ أن تُذْكَرَ في تفصيل الفضائل، لكيلا يلتبس العام بالخاص.مَا الْأَخْلَاقُ الَّتِي صَارَتْ حَدِيثًا وَاضِحَةَ الْخَطَأِ؟ولقد استطرد هذا الكلام في باب السخرية نفسه، إلى أخلاق من الفضائل والرذائل المختلفة التقدير بين القدماء والمحدثين، أجدولها فيما يأتي على مثل الجدول السابق:

    فضائل صارت رذائل

    [TD="width: 45, bgcolor: transparent"]الكرم[/TD]

    [TD="width: 59, bgcolor: transparent"]الرحمة[/TD]

    [TD="width: 67, bgcolor: transparent"]الشجاعة[/TD]

    [TD="width: 56, bgcolor: transparent"]القناعة[/TD]

    [TD="width: 66, bgcolor: transparent"]×[/TD]

    [TD="width: 145, bgcolor: transparent"]رذائل صارت فضائل[/TD]

    [TD="width: 45, bgcolor: transparent"]×[/TD]

    [TD="width: 59, bgcolor: transparent"]×[/TD]

    [TD="width: 67, bgcolor: transparent"]×[/TD]

    [TD="width: 56, bgcolor: transparent"]×[/TD]

    [TD="width: 66, bgcolor: transparent"]الغضب[/TD]

    وعلى رغم أنه اكتفى في الفضائل التي صارت رذائل، بهذه الأربع بعد تلك التسع المجدولة فيما سبق من فضائل الأخلاقيين القدماء، وقعت الثلاثة الأولى في جدولهم نصا، فأما فضيلة "القناعة" الواقعة هنا رابعا، فرديفة فضيلة "العفة" الواقعة هناك خامسا.وعلى رغم أنه اقتصر من الرذائل التي صارت فضائل، على رذيلة "الغضب" التي لم ينص عليها الأخلاقيون القدماء في رذائلهم الثماني المجدولة فيما سبق- يجوز أن تُردف برذيلة "القسوة"، ولا سيما أنها كانت هناك ضد فضيلة "الرحمة" التي وردت هنا في الفضائل التي صارت رذائل.ربما استحسن بعض المتلقين أن تتطابق في هذا الكلام آخرًا الفضائلُ والرذائلُ كُنْهًا وعَدَدًا، على مثل ما ورد أولا في جَدْوَلَيِ الأخلاقيين القدماء، غير أن قَصْدَ هذا الكلام إلى النَّعْي عليهم والسخرية منهم، جعل من حسن البلاغة ألا يكون ذلك؛ فإن من أهم وسائل السخرية أن يَتَناسى الساخر ما قال المسخور منه، وكأنه لم يُلْقِ له عند قوله بالًا، وإن كان قد استوعبه مَعْنًى ومَبْنًى!كَيْفَ اخْتَلَفَتْ دَلَالَاتُ أَسْمَاءِ الْأَخْلَاقِ ثَبَاتًا وَزَوَالًا؟في اللغة العربية ثلاثة أنواع من صيغ أسماء المعاني:1صيغ مهيأة للدلالة على الأعمال الحركية:-وهي مصادر الأفعال الماضية التي على وزن فَعَلَ، كما في فَتْح مصدر فَتَحَ، ونَصْر مصدر نَصَرَ، وضَرْب مصدر ضَرَبَ.2صيغ مهيأة للدلالة على الأحوال المستمرة:-وهي مصادر الأفعال الماضية التي على وزن فَعِلَ، كما في حَوَر مصدر حَوِرَ، وبَطَر مصدر بَطِرَ، ومَرَض مصدر مَرِضَ.3صيغ مهيأة للدلالة على الطبائع الثابتة:-وهي مصادر الأفعال الماضية التي على وزن فَعُلَ، كما في مَنَاعَة مصدر مَنُعَ، ووَضَاءَة مصدر وَضُؤَ، وبَشَاعَة مصدر بَشُعَ.وإذا صنفنا أسماء الأخلاق التسعة عشر المجدولة في الجدولين السابقين، على حسب أنواع صيغ المعاني الثلاثة، تصنفت على النحو الآتي:1تسعة أسماء من النوع الأول: الوفاء، العفة، الصدق، العدل، الخيانة، الغدر، الكذب، الظلم، القسوة.2ستة أسماء من النوع الثاني: الأمانة، الرحمة، البخل، الطمع، القناعة، الغضب.3أربعة أسماء من النوع الثالث: الشجاعة، الكرم، المروء، الجبن.ولا ريب في أننا توقعنا أن تكون أسماء الأخلاق كلها من النوع الثالث، جريا على المعروف من ثبات الأخلاق وعدم تغيرها: "وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ"، أو كما قال أبو الطيب المتنبي الشاعر الحكيم!ولكن لم يكن من النوع الثالث غير الخُمس تقريبا (أربعة من تسعة عشر)؛ وكأنما تُبَشِّرُنا لغتُنا (قلب ثقافتنا)، بإمكان تغيير الأخلاق، مثلما بَشَّرَنا قولُ أبي الدرداء -رضي الله عنه!- الذي رُفِعَ إلى رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!-: "إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ"[11] -أي مَنْ تَحَلَّمَ (طَلَبَ الحِلْم) حَلُمَ، كَمَا أَنَّ مَنْ تَعَلَّمَ (طَلَبَ الْعِلْمَ) عَلِمَ- لتمتزج العروبة والإسلام في إهاب ثقافتنا الواحدة.ثُمَّ اسْتَمِعُوا ثَالِثًا، لِتُمَيِّزُوا أُسْلُوبَ التَّقْوِيمِ: ...كَيْفَ اضْطَرَبَ أُسْلُوبُ هَذَا الْكَلَامِ بَيْنَ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ؟لقد حرص هذا الكلام على تحصيل أسباب القوة، فاعتنى بتنسيق مقاطع الأصوات، وتدقيق صيغ الكلمات، وتقريب معاني المفردات، وتأليف عناصر المركبات. ولكنه توهم القوة في بعض مظاهر تلك الظواهر، حتى إذا ما استعملها كانت مظاهر ضعف، ولم يستطع الرجوع عنها!لقد وصف جدولي الأخلاقيين القدماء بأنهما ثابتان لا ينتقلان، ثم ألح عليه مظهر قديم من التعبير، فقال: "وَلَا يَتَحَلْحَلَانِ"، فكان في توالي الحاءين واللامين على هذا النحو من الثقل على بعض الطابعين، ما حمله على تحريف الكلمة إلى "يَتَلَحْلَحَانِ"!وأراد أن يعبر عن كراهة بعض الصفات، فقال: "يَجْتَوِيهَا النَّاسُ وَيَتَبَرَّمُونَ بِهَا وَيَسْتَثْقِلُونَ مَكَانَهَا"، فكان في "يَجْتَوِيهَا (يكرهها)"، من الغرابة على بعض الطابعين، ما حمله على تصحيفها إلى "يحتويها"!وأراد أن يصور اعتصار الأراذل لقلوب الأفاضل، فقال: "يَعْتَصِرُونَهَا وَيَحْتَلِبُونَ دِرَّتَهَا (لبنها، أي قِوَام حياتها)، حَتَّى تَجِفَّ جَفَافَ الْحَشَفِ الْبَالِي"، فكان في "الحَشَفِ (أردأ التمر ويابسه وفاسده)"، من الغرابة على بعض الطابعين، ما حمله على تصحيفها إلى "الخشف (الظبي)"!وأراد أن يزيد وجوه السرور في قوله: "يَتَأَلَّفُ مِنْهَا شَأْنُ سَعَادَتِهِمْ وَهَنَائِهِمْ"، فعطف على كلمة "سَعَادَة" من "سَعَادَتِهِمْ"، كلمةَ "هَنَاء" من "هَنَائِهِمْ"، والذي في متن اللغة العربية "هَنَاءَة"[12]، وهي -لو انتبه- أحسن مُلَاءَمَةً لكلمة "سَعَادَة" التي قبلها، فكلتاهما مع تلاقيهما على معنى السرور، مِنْ وزن صرفي واحد (فَعَالَة).وأراد النهي عن حض الناس على بعض الأخلاق، فقال: "(...) لَيْسَ مِنَ الرَّأْيِ الدُّعَاءُ لَهُ"، و"إِنَّ الدُّعَاءَ إِلَى (...)"، بدلا من أن يقول: "(...) ليس من الرأي الدَّعْوة إليه"، و"إن الدَّعْوة إلى (...)"؛ فلئن بَدَتِ الدَّعْوةُ مَرَّةَ الدُّعَاءِ، لقد اختص دونها بمعنى التوسل إلى الحق، سبحانه، وتعالى!وأراد أن يشترط وجود السعادة للوصف بالفضيلة ووجود الشقاء للوصف بالرذيلة، فقال: "حَيْثُ تَكُونُ السَّعَادَةُ فِي صِفَةٍ فَهِيَ الْفَضِيلَةُ -وَإِنْ كَانَتْ رَذِيلَةَ اللُّؤْمِ- وَحَيْثُ يَكُونُ الشَّقَاءُ فِي صِفَةٍ فَهِيَ الرَّذِيلَةُ، وَإِنْ كَانَتْ فَضِيلَةَ الْكَرَمِ"، فتوهم "حيث" أداة شرط، ورتب الكلام بعدها ترتيب عناصر الجملة الشرطية، ولو انتبه لقال: "حيث تكون السعادة (...) تكون الفضيلة (...) وحيث يكون الشقاء (...) تكون الرذيلة

    ...

  5. #5
    بحث قيم ومفيد أشكرك يا دكتور محمد جمال , لي عودة لإكمال دراسة الصفحات , تحياتي

  6. #6
    محاضر ومسؤول دراسات عليا في جامعة القاضي عياض، المغرب
    تاريخ التسجيل
    Jun 2009
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    1,497

    جزيتم خيرا أستاذنا الفاضل
    دراستكم هذه كشف تفصيلي لجانب من جوانب التميز المعرفي لدينا
    وخلالها إشارات صريحات إلى موجبات الشهادة المعرفية على الأمم التي كتبها الله عز وجل لأمة الإسلام
    ولقد ضيعناها علما وعملا ، ولن نستردها إلا بقومة حقيقية تبدأ من حيث ذكرتم
    بارك الله في جهدكم


    أَسْرِي سَقَى شِعْرِي الْعُلا فَتَحَرَّرَا = وَرَقَى بِتَالِيهِ الْمُنَى فَتَجَاسَرَا

  7. #7
    تيحاتي لكم جميعا أساتذتنا الكرام وشكرا لانصاتكم ومتابعتكم.

  8. #8
    فِي مَقَامِ الِاسْتِمَاعِ وَالتَّحَدُّثِ=5
    للدكتور محمد جمال صقر
    أَسْئِلَةُ الِاسْتِمَاعِ وَالتَّحَدُّثِ ولو كان ما نَنْتَظِر أن يُتَحَدَّثَ به إلينا نمطا واحدا لكفانا الاستماع منه إلى مثال واحد، ولكنه يتعدد تعدد المتحدثين، ويتنوع تنوعهم، ويتزايد تزايدهم؛ ومن ثم أتحدث إليكم فيما يأتي بكلام آخر جديد عليكم -أو ينبغي أن يكون جديدا عليكم حتى تستمر التجربة على منهجها- أحب من خلاله أن أقيس درجة مهارتي بالتحدث، ودرجة مهارتكم بالاستماع، بالأسئلة الآتية التي لا تمنع اقتراح غيرها:- كَيْفَ تَتَدَرَّجُ فِي أَوْهَامِ النَّاسِ حُظُوظُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا؟- كَيْفَ تَسْتَوِي فِي الْعَدْلِ الرَّبَّانِيِّ حُظُوظُ النَّاسِ مِنَ الدُّنْيَا؟- مَا أَثَرُ الْإِيمَانِ بِالْعَدْلِ الرَّبَّانِيِّ وَالْغَفْلَةِ عَنْهُ؟- كَيْفَ لِأَهْلِ الْحِكْمَةِ وَأَهْلِ اللَّهِ أَنْ يَخْتَلِفُوا؟- كَيْفَ غَلَبَ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ أُسْلُوبَا الطِّبَاقِ وَالْمُقَابَلَةِ؟- مَا الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الدَّخِيلَةِ؟- مَا الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْحَدِيثَةِ؟- مَا الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ مِنَ التَّعْبِيرَاتِ الْحَدِيثَةِ؟- مَا الَّذِي غَفَلَ عَنْهُ هَذَا الْكَلَامُ مِنَ الدَّقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ؟- لِمَنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ؟وعلى رغم اختلاط أساليبِ التفكير (حركة أفكار المتحدث)، والتعبير (حركة عبارات المتحدث)، والتقويم (حركة أحكام المستمع)، في أجوبة هذه الأسئلة كذلك، أميز فيما يأتي بعضها من بعض، فأتحدث إليكم بالكلام نفسه ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لأسألكم بعد المرة الأولى عن أسلوب التفكير، وبعد المرة الثانية عن أسلوب التعبير، وبعد المرة الثالثة الأخيرة عن أسلوب التقويم.فَاسْتَمِعُوا أَوَّلًا، لِتُمَيِّزُوا أُسْلُوبَ التَّفْكِيرِ:"الَّذِي يَسْكُنُ فِي أَعْمَاقِ الصَّحْرَاءِ، يَشْكُو مُرَّ الشَّكْوَى لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ الْمَاءَ الصَّالِحَ لِلشُّرْبِ.وسَاكِنُ الزَّمَالِكِ[1] الَّذِي يَجِدُ الْمَاءَ وَالنُّورَ وَالسَّخَّانَ وَالتَّكْيِيفَ وَالتِّلِيفُونَ وَالتِّلِيفِزْيُونَ، لَوِ اسْتَمَعْتَ إِلَيْهِ لَوَجَدْتَهُ يَشْكُو مُرَّ الشَّكْوَى هُوَ الْآخَرُ مِنْ سُوءِ الْهَضْمِ وَالسُّكَّرِ وَالضَّغْطِ.وَالْمِلْيُونِيرُ سَاكِنُ بَارِيسَ الَّذِي يَجِدُ كُلَّ مَا يَحْلُمُ بِهِ، يَشْكُو الْكَآبَةَ وَالْخَوْفَ مِنَ الْأَمَاكِنِ الْمُغْلَقَةِ وَالْوَسْوَاسِ وَالْأَرَقِ وَالْقَلَقِ. وَالَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ الصِّحَّةَ وَالْمَالَ وَالزَّوْجَةَ الْجَمِيلَةَ، يَشُكُّ فِي زَوْجَتِهِ الْجَمِيلَةِ وَلَا يَعْرِفُ طَعْمَ الرَّاحَةِ. وَالرَّجُلُ النَّاجِحُ الْمَشْهُورُ النَّجْمُ الَّذِي حَالَفَهُ الْحَظُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَانْتَصَرَ فِي كُلِّ مَعْرَكَةٍ، لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَنْتَصِرَ عَلَى ضَعْفِهِ وَخُضُوعِهِ لِلْمُخَدِّرِ فَأَدْمَنَ الْكُوكَايِينَ وَانْتَهَى إِلَى الدَّمَارِ. وَالْمَلِكُ الَّذِي يَمْلِكُ الْأَقْدَارَ وَالْمَصَائِرَ وَالرِّقَابَ تَرَاهُ عَبْدًا لِشَهْوَتِهِ خَادِمًا لِأَطْمَاعِهِ ذَلِيلًا لِنَزَوَاتِهِ.وَبَطَلُ الْمُصَارَعَةِ أَصَابَهُ تَضَخُّمٌ فِي الْقَلْبِ نَتِيجَةَ تَضَخُّمِ الْعَضَلَاتِ. كُلُّنَا نَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا بِحُظُوظٍ مُتَقَارِبَةٍ، بِرَغْمِ مَا يَبْدُو فِي الظَّاهِرِ مِنْ بُعْدِ الْفَوَارِقِ،وَبِرَغْمِ غِنَى الْأَغْنِيَاءِ وَفَقْرِ الْفُقَرَاءِ؛ فَمَحْصُولُهُمُ النِّهَائِيُّ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ الدُّنْيَوِيِّ مُتَقَارِبٌ؛فَاللَّهُ يَأْخُذُ بِقَدْرِ مَا يُعْطِي وَيُعَوِّضُ بِقَدْرِ مَا يَحْرِمُ وَيُيَسِّرُ بِقَدْرِ مَا يُعَسِّرُ. وَلَوْ دَخَلَ كُلٌّ مِنَّا قَلْبَ الْآخَرِ لَأَشْفَقَ عَلَيْهِ، وَلَرَأَى عَدْلَ الْمَوَازِينِ الْبَاطِنِيَّةِ بِرَغْمِ اخْتِلَالِ الْمَوَازِينِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَلَمَا شَعَرَ بِحَسَدٍ وَلَا بِحِقْدٍ وَلَا بِزَهْوٍ وَلَا بِغُرُورٍ. إِنَّمَا هَذِهِ الْقُصُورُ وَالْجَوَاهِرُ وَالْحُلِيُّ وَاللَّآلِئُ مُجَرَّدُ دِيكُورٍ خَارِجِيٍّ مِنْ وَرَقِ اللَّعِبِ، وَفِي دَاخِلِ الْقُلُوبِ الَّتِي تَرْقُدُ فِيهَا تَسْكُنُ الْحَسَرَاتُ وَالْآهَاتُ الْمُلْتَاعَةُ،وَالْحَاسِدُونَ وَالْحَاقِدُونَ وَالْمُغْتَرُّونَ وَالْفَرِحُونَ مَخْدُوعُونَ فِي الظَّوَاهِرِ غَافِلُونَ عَنِ الْحَقَائِقِ. وَلَوْ أَدْرَكَ السَّارِقُ هَذَا الْإِدْرَاكَ لَمَا سَرَقَ، وَلَوْ أَدْرَكَهُ الْقَاتِلُ لَمَا قَتَلَ، وَلَوْ عَرَفَهُ الْكَذَّابُ لَمَا كَذَبَ، وَلَوْ عَلِمْنَاهُ حَقَّ الْعِلْمِ لَطَلَبْنَا الدُّنْيَا بِعِزَّةِ الْأَنْفُسِ وَلَسَعَيْنَا فِي الْعَيْشِ بِالضَّمِيرِ وَلَتَعَاشَرْنَا بِالْفَضِيلَةِ؛ فَلَا غَالِبَ فِي الدُّنْيَا وَلَا مَغْلُوبَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالْحُظُوظُ كَمَا قُلْنَا مُتَقَارِبَةٌ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ، وَمَحْصُولُنَا مِنَ الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ مُتَقَارِبٌ بِرَغْمِ الْفَوَارِقِ الظَّاهِرَةِ بَيْنَ الطَّبَقَاتِ، فَالْعَذَابُ لَيْسَ لَهُ طَبَقَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ قَاسِمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكُلِّ، يَتَجَرَّعُ مِنْهُ كُلُّ وَاحِدٍ كَأْسًا وَافِيَةً، ثُمَّ فِي النِّهَايَةِ تَتَسَاوَى الْكُؤُوسُ بِرَغْمِ اخْتِلَافِ الْمَنَاظِرِ وَتَبَايُنِ الدَّرَجَاتِ وَالْهَيْئَاتِ.وَلَيْسَ اخْتِلَافُ نُفُوسِنَا هُوَ اخْتِلَافَ سَعَادَةٍ وَشَقَاءٍ، وَإِنَّمَا اخْتِلَافُ مَوَاقِفَ؛ فَهُنَاكَ نَفْسٌ تَعْلُو عَلَى شَقَائِهَا وَتَتَجَاوَزُهُ وَتَرَى فِيهِ الْحِكْمَةَ وَالْعِبْرَةَ، وَتِلْكَ نُفُوسٌ مُسْتَنِيرَةٌ تَرَى الْعَدْلَ وَالْجَمَالَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَتُحِبُّ الْخَالِقَ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ- وَهُنَاكَ نُفُوسٌ تَمْضَغُ شَقَاءَهُا وَتَجْتَرُّهُ وَتُحَوِّلُهُ إِلَى حِقْدٍ أَسْوَدَ وَحَسَدٍ أَكَّالٍ، وَتِلْكَ هِيَ النُّفُوسُ الْمُظْلِمَةُ الْمَحْجُوبَةُ الْكَافِرَةُ بِخَالِقِهَا الْمُتَمَرِّدَةُ عَلَى أَفْعَالِهِ.وَكُلُّ نَفْسٍ تُمَهِّدُ بِمَوْقِفِهَا لِمَصِيرِهَا النِّهَائِيِّ فِي الْعَالَمِ الْآخَرِ، حَيْثُ يَكُونُ الشَّقَاءُ الْحَقِيقِيُّ أَوِ السَّعَادَةُ الْحَقِيقِيَّةُ؛ فَأَهْلُ الرِّضَا إِلَى النَّعِيمِ، وَأَهْلُ الْحِقْدِ إِلَى الْجَحِيمِ.أَمَّا الدُّنْيَا فَلَيْسَ فِيهَا نَعِيمٌ وَلَا جَحِيمٌ إِلَّا بِحُكْمِ الظَّاهِرِ فَقَطْ، بَيْنَمَا فِي الْحَقِيقَةِ تَتَسَاوَى الْكُؤُوسُ التَّي يَتَجَرَّعُهَا الْكُلُّ وَالْكُلُّ فِي تَعَبٍ. إِنَّمَا الدُّنْيَا امْتِحَانٌ لِإِبْرَازِ الْمَوَاقِفِ؛ فَمَا اخْتَلَفَتِ النُّفُوسُ إِلَّا بِمَوَاقِفِهَا، وَمَا تَفَاضَلَتْ إِلَّا بِمَوَاقِفِهَا،وَلَيْسَ بِالشَّقَاءِ وَالنَّعِيمِ اخْتَلَفَتْ، وَلَا بِالْحُظُوظِ الْمُتَفَاوِتَةِ تَفَاضَلَتْ، وَلَا بِمَا يَبْدُو عَلَى الْوُجُوهِ مِنْ ضَحِكٍ وَبُكَاءٍ تَنَوَّعَتْ؛فَذَلِكَ هُوَ الْمَسْرَحُ الظَّاهِرُ الْخَادِعُ،وَتِلْكَ هِيَ لِبْسَةُ الدِّيكُورِ وَالثِّيَابُ التَّنَكُّرِيَّةُ الَّتِي يَرْتَدِيهَا الْأَبْطَالُ، حَيْثُ يَبْدُو أَحَدُنَا مَلِكًا وَالْآخَرُ صُعْلُوكًا، وَحَيْثُ يَتَفَاوَتُ أَمَامَنَا الْمُتْخَمُ وَالْمَحْرُومُ.أَمَّا وَرَاءَ الْكَوَالِيسِ، أَمَّا عَلَى مَسْرَحِ الْقُلُوبِ، أَمَّا فِي كَوَامِنِ الْأَسْرَارِ وَعَلَى مَسْرَحِ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ فَلَا يُوجَدُ ظَالِمٌ وَلَا مَظْلُومٌ وَلَا مُتْخَمٌ وَلَا مَحْرُومٌ، وَإِنَّمَا عَدْلٌ مُطْلَقٌ وَاسْتِحْقَاقٌ نَزِيهٌ يَجْرِي عَلَى سُنَنٍ ثَابِتَةٍ لَا تَتَخَلَّفُ، حَيْثُ يَمُدُّ اللَّهُ يَدَ السَّلْوَى الْخَفِيَّةَ، يَحْنُو بِهَا عَلَى الْمَحْرُومِ، وَيُنِيرُ بِهَا ضَمَائِرَ الْعُمْيَانِ، وَيُلَاطِفُ أَهْلَ الْمَسْكَنَةِ، وَيُؤْنِسُ الْأَيْتَامَ وَالْمُتَوَحِّدِينَ فِي الْخَلَوَاتِ، وَيُعَوِّضُ الصَّابِرِينَ حَلَاوَةً فِي قُلُوبِهِمْ- ثُمَّ يَمِيلُ بِيَدِ الْقَبْضِ وَالْخَفْضِ، فَيَطْمِسُ عَلَى بَصَائِرِ الْمُتْرَفِينَ، وَيُوهِنُ قُلُوبَ الْمُتْخَمِينَ، وَيُؤَرِّقُ عُيُونَ الظَّالِمِينَ، وَيُرَهِّلُ أَبْدَانَ الْمُسْرِفِينَ. وَتِلْكَ هِيَ الرِّيَاحُ الْخَفِيَّةُ الْمُنْذِرَةُ الَّتِي تَهُبُّ مِنَ الْجَحِيمِ، وَالنَّسَمَاتُ الْمُبَشِّرَةُ الَّتِي تَأْتِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَالْمُقَدِّمَاتُ الَّتِي تَسْبِقُ الْيَوْمَ الْمَوْعُودَ يَوْمَ تَنْكَشِفُ الْأَسْتَارُ وَتُهْتَكُ الْحُجُبُ وَتَفْتَرِقُ الْمَصَائِرُ إِلَى شَقَاءٍ حَقٍّ وَإِلَى نَعِيمٍ حَقٍّ، يَوْمَ لَا تَنْفَعُ مَعْذِرَةٌ وَلَا تُجْدِي تَذْكِرَةٌ. وَأَهْلُ الْحِكْمَةِ فِي رَاحَةٍ لِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا هَذَا بِعُقُولِهِمْ. وَأَهْلُ اللَّهِ فِي رَاحَةٍ لِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا إِلَى اللَّهِ فِي ثِقَةٍ، وَقَبِلُوا مَا يُجْرِيهِ عَلَيْهِمْ، وَرَأَوْا فِي أَفْعَالِهِ عَدْلًا مُطْلَقًا دُونَ أَنْ يُتْعِبُوا عُقُولَهُمْ، فَأَرَاحُوا عُقُولَهُمْ أَيْضًا، فَجَمَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ بَيْنَ الرَّاحَتَيْنِ رَاحَةِ الْقَلْبِ وَرَاحَةِ الْعَقْلِ، فَأَثْمَرَتِ الرَّاحَتَانِ رَاحَةً ثَالِثَةً هِيَ رَاحَةُ الْبَدَنِ، بَيْنَمَا شَقِىَ أَصْحَابُ الْعُقُولِ بِمُجَادَلَاتِهِمْ.أَمَّا أَهْلُ الْغَفْلَةِ وَهُمُ الْأَغْلَبِيَّةُ الْغَالِبَةُ فَمَا زَالُوا يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ أَجْلِ اللُّقْمَةِ وَالْمَرْأَةِ وَالدّرْهَمِ وَفَدَّانِ الْأَرْضِ، ثُمَّ لَا يَجْمَعُونَ شَيْئًا إِلَّا مَزِيدًا مِنَ الْهُمُومِ، وَأَحْمَالًا مِنَ الْخَطَايَا، وَظَمَأً لَا يَرْتَوِي، وَجُوعًا لَا يَشْبَعُ!فَانْظُرْ مِنْ أَيِّ طَائِفَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْتَ، وَاغْلِقْ عَلَيْكَ بَابَكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ"!كَيْفَ تَتَدَرَّجُ فِي أَوْهَامِ النَّاسِ حُظُوظُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا؟دُرِّجَتْ في الكلام السابق حظوظ سبعة رجال، على النحو الآتي: 1 ساكن أعماق الصحراء (المنقطع من الخدمات).2 ساكن الزمالك (المتمتع بأرقى الخدمات العربية). 3 ساكن باريس (المتمتع بأرقى الخدمات الأجنبية). 4 صاحب الصحة والمال والزوجة الجميلة. 5 الناجح المشهور. 6 الملك المتحكم. 7 البطل المصارع.ولا ريب لديَّ في قصد الكلام السابق إلى دلالة السبعة المجازية على أن حظوظ الناس أقرب إلى السبعمئة تَعَدُّدًا وتَنَوُّعًا منها إلى السبعة، ولا سيما أن تدريج هذه الحظوظ السبعة مختل في نفسه غير مُحْكَم؛ فلا هو تَصَاعُدِيّ، ولا هو تَهَابُطِيّ -فلا وجه في أوهام الناس لمجيء البطل المصارع أخيرا بعد الملك المتحكم- ثم بَعْضُها مشتمل على بعض -فالبطل المصارع داخل في صاحب الصحة، وصاحب المال داخل في ساكن الأحياء الراقية- وكأن المراد إنما هو التنبيه على مبلغ تعدد حظوظ الناس وتنوعها!كَيْفَ تَسْتَوِي فِي الْعَدْلِ الرَّبَّانِيِّ حُظُوظُ النَّاسِ مِنَ الدُّنْيَا؟تتفاوت مشاغل الناس، ولا يتفاوت اشتغالهم بها عما سواها؛ فـ"مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ"[2]؛ فكلهم تستغرقه مَشْغَلَتُهُ الشاغلة، حتى لَتَصْرِفُهُ عما سواها، فلا يلقي له بالًا. وفي غَمْرة ذلك الاشتغال يتطلع إلى من سبقه في مشغلته هذه نفسها إلى درجات أعلى مما وصل إليه فيها، فيحسده، وينعى حظه القليل، وربما كان هو نفسه قد سبقه في غيرها من المواهب أو المكاسب.إن حَظَّ كل إنسان من المواهب والمكاسب، مقدارٌ كاملٌ -وليكن مِئَةً بالمئة مثلا- وإنما يختلف الناس باختلاف أجزاء هذا المقدار بينهم؛ فبعضُهم نَصيبُ صحته من المئة أكبرُ من نصيب ماله، وبعضهم على العكس، وبعضهم نَصيبُ ذُرِّيَّته من المئة أكبرُ من نصيب نجاحاته، وبعضهم على العكس...، وهَلُمَّ جَرًّا!فخالق الناس -سبحانه، وتعالى!- هو رَبُّهم جميعا، مؤمنين به وكافرين، وعربا وعجما، يقسم حظوظهم من الدنيا قِسْمةَ رُبوبيَّةٍ: "مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ"[3]. ولكنه إله المؤمنين به فقط، يقسم حظوظهم من الآخرة قِسْمَةَ أُلُوهيَّةٍ: "سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ"[4]. هذه هي رسالة ذلك الكلام السابق، التي انصرف بكُلِّه إلى تفصيلها، حتى لَيَجُوزُ -لو لم يكن عُنْوِنَ- أن نُعَنْوِنَه "الْعَدْلُ الرَّبَّانِيُّ"! وفيها نظر من حيث إن الدنيا دار ابتلاء، يبتلي فيها الحق -سبحانه، وتعالى!- عباده ولا سيما الصالحون، ليختبرهم ويطهرهم؛ سئل رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!-: أي الناس أشد بلاء؟ فقال: "الْأَنْبِيَاءُ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ- ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ, ثُمَّ يُبْتَلَى النَّاسُ عَلَى حَسَبِ أَدْيَانِهِمْ, فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ حَسَنَ الدِّينِ اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ, وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ شَيْءٌ ابْتُلِيَ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ, فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ عَنِ الْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ"[5]. مَا أَثَرُ الْإِيمَانِ بِالْعَدْلِ الرَّبَّانِيِّ وَالْغَفْلَةِ عَنْهُ؟إذا لم يؤمن الإنسان بالعدل الرباني لم يخلص النية، ولم يتقن العمل، ولم يثبت على ذلك، وسخط على الحق، وسخط عليه الحق، وافتقد حظه الذي بين يديه، وحسد غيره عليه! قال رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!-: "لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ"[6]. وإذا آمن الإنسان بالعدل الرباني أخلص النية، وأتقن العمل، وثبت على ذلك، ورضي عن الحق، ورضي عنه الحق، ولم يفتقد شيئا من حظه ليحسد عليه غيره!كَيْفَ لِأَهْلِ الْحِكْمَةِ وَأَهْلِ اللَّهِ أَنْ يَخْتَلِفُوا؟يعتمد الكلام السابق على اشتغال أهل الله (خاصته) بالتسليم له، كما يُسَلِّمُ الابن الغِرّ لأبيه الصالح المصلح الحافظ البار- تسليما يُبَوِّئُهُمْ مقام الولاية، ليفوزوا في الدنيا والآخرة: "أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"[7]. وأهل الحكمة هم أهل العقل والسداد، الذين يضعون الأمور في مواضعها ويُطَبِّقُون مفاصلها. ولا يمتنع أن يَكُونَهُمْ أهلُ الله (خاصَّتُه)؛ فليس أَرْسَخَ في الحكمة من التسليم للخالق العليم الحكيم السميع البصير. ولكن أهل الحكمة يُقَصِّرون أحيانا عن بلوغ مقام أهل الله (أوليائه)، ويتوقفون، ويعيدون ويبدؤون، ولا يسلمون، فيتعبون حتى يستقروا على مُسْتَقَرّ!وإذا كان الأحرى بالمتعلق بطريقة أهل الله (خاصَّتُه) في التسليم لله -سبحانه، وتعالى!- أن يتمسك بمعنى الابتلاء الدنيوي- فإن الأحرى بمجادل عموم الناس عن حظوظهم الدنيوية، أن يتمسك بمعنى العدل الرباني!ثُمَّ اسْتَمِعُوا ثَانِيًا، لِتُمَيِّزُوا أُسْلُوبَ التَّعْبِيرِ: ...كَيْفَ غَلَبَ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ أُسْلُوبَا الْمُطَابَقَةِ وَالْمُقَابَلَةِ؟من أساليب البيان عن الفكرة الغامضة، أن تُخْتَارَ منها الأوجه المُتَضَادَّة أو التي تبدو متضادة، ويُوضَعَ بعضها أمام بعض؛ "وَبِضِدِّهَا تَتَمَيَّزُ الْأَشْيَاءُ"؛ فإن الموازنة بين هذه المتضادات، كفيلة للمتأمل بفائدتين: تمييز ما فيها كلّها من مناقب ومثالب، وتكوين صورة واحدة مكتملة مما تفرق بين بعضها وبعض من أجزاء! وإن المطابقة والمقابلة أسلوبان من وضع الأشياء المتضادة -أو التي تبدو متضادة- بعضها أمام بعض، ولكن هذه الأشياء مفردة في المطابقة مركبة في المقابلة، أي يوضع في المطابقة ضِدٌّ مُفْرَدٌ أمام ضِدٍّ مُفْرَدٌ، فأما في المقابلة فيوضع ضِدٌّ مُرَكَّبٌ مِنْ أجزاءٍ أمام ضِدٍّ مُرَكَّبٍ مِنْ أجزاءٍ[8]. وفيما يأتي بعض ما وقع بالكلام السابق من مُفَرَدَاتٍ مُتَطَابِقَةٍ:
    أ
    ب
    أ
    ب
    صعلوك
    ملك
    فقراء
    أغنياء
    محروم
    متخم
    جوع
    شبع
    مرض
    صحة
    بكاء
    ضحك
    عسر
    يسر
    حقد
    رضا
    جحيم
    نعيم
    مظلوم
    ظالم
    مغلوب
    غالب
    جهلاء
    عقلاء
    ظاهر
    باطن
    دنيا
    آخرة
    منذرة
    مبشرة
    شقاء
    سعادة
    ولقد اعتمد الكلام السابق في الإقناع بتساوي حظوظ الناس الدنيوية، على حركة مفردات الأضداد المتطابقة، من داخل ثبات مركبات الأضداد المتقابلة؛ فإذا كان الحرمان من نصيب زيد مثلا والإتخام من نصيب عمرو، فالصحة من نصيب زيد والمرض من نصيب عمرو -وَهَلُمَّ جَرًّا- حتى تتساوى الحظوظ على الإجمال.مَا الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الدَّخِيلَةِ؟في عصر المعلومات تتسابق اللغات؛ فأيما لغة نشأت فيها المعلومة سبقت بها، وتركت سائر اللغات تلهث خلفها، فإما أن تترجمها، وإما أن تُحَوِّلها، وإما أن تستعيرها، وفي معاملة أسماء المخترعات الأجنبية مثال ذلك! إننا إذا نظرنا في متن اللغة العربية المعاصر، وجدنا لاختراع أجنبي واحد (جهاز بث الصور والأصوات المعروف)، ثلاث الكلمات الآتية: "تِلِفِيزْيُون"[9]، و"تِلْفَاز"[10]، و"مِرْنَاة"! أما "مِرْنَاة" فكلمة عربية مشتقة من مادة "ر، ن، و"، التي تشتمل على ما يحتمل الناظر والمنظور إليه، على وزن "مِفْعَلَة" أحد أوزان اسم الآلة العربي -ومنه "مِصْفَاة"، و"مِكْوَاة"- تُرْجِمَتْ بها الكلمة الأجنبية. وأما "تِلْفَاز" فكلمة مُعَرَّبَةٌ على أحد أوزان الأسماء العربية -ومنه "تِمْثَال"، و"تِلْقَاء"- صُبَّتْ فيها حروف الكلمة الأجنبية. وأما "تِلِفِيزْيُون" فكلمة أجنبية دخيلة، نقلت إلى العربية على ما هي عليه في لغتها الأجنبية، كما نقلت كلمة "راديو"، و"كمبيوتر".ولقد هجرنا كلمة "مِرْنَاة" قولا واحدا، وأَلْمَمْنا بكلمة "تِلْفَاز" في بعض المواقف الفُصْحَوِيَّة الخاصة، وتَوَسَّعْنا في استعمال كلمة "تِلِفِيزْيُون"! وإنه إذا كان "الدخيل" دليل علاقة طبيعية لازمة بين اللغات المختلفة، فإنه لا يمتنع مع ذلك أن تقاس به غلبة بعضها على بعض. لقد اشتمل الكلام السابق من الكلمات الأجنبية الدخيلة، على مثل: التِّلِيفُون، التِّلِيفِزْيُون، الْمِلْيُونِير، الْكُوكَايِين، الدِّيكُور، الْكَوَالِيس- مما لم يشتمل عليه ما سبقه مما تناولناه؛ فدلنا على طرف من نتائج ذلك التنافس اللغوي المعاصر!مَا الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْحَدِيثَةِ؟ولقد اشتمل الكلام السابق مع ذلك الدخيل، على مثل: السَّخَّان، والتَّكْيِيف، وتَضَخُّم- مما لم يشتمل عليه ما سبقه مما تناولناه كذلك؛ فدلنا على طرف من اجتهاد اللغة العربية المعاصر، في استيعاب المعلومات الحديثة.أما كلمة "السَّخَّان" فمصوغة على وزن "فَعَّال" أحد أوزان المبالغة في اسم الفاعل -ومنه "عَلَّام" مبالغة في "عَالِم"، و"هَدَّام" مبالغة في "هَادِم"- ولكنه تحمل أحيانا الدلالة على اسم الآلة، فتوسع فيه المعاصرون -ومنه عندهم "عَدَّاد"، و"طَرَّاد"- وأقره مجمع اللغة العربية (الجهة المسؤولة حديثا عن تنمية اللغة العربية).وأما كلمة "التَّكْيِيف"، فمصوغة على وزن "تَفْعِيل" أحد أوزان المصادر (أسماء المعاني)، ومنه "تَعْلِيم"، و"تَكْرِيم". ولكنه يتحمل الدلالة على اسم الآلة من باب جواز دلالة المصدر على مشتقاته. وقد اشْتُقَّتْ كلمة "تَكْيِيف" نفسها من كلمة "كَيْف" في قول صانع الآلة عندما يضبطها للمصنوع له: كيف تريدها؟ وهي طريقة من الاشتقاق شبيهة بالاشتقاق من أسماء الأعيان، ومنه "تَبْوِيب" من "بَاب"، و"تحْجِير" من "حَجَر".وأما كلمة "التَّضَخُّم"، فهي كلمة مستقرة في متن اللغة القديم، مصوغة على وزن "تَفَعُّل"، أحد أوزان المصادر (أسماء المعاني)، ومنه "تَعَلُّم"، و"تَكَرُّم". ولكنه نُقِلَتْ دلالته مصطلحا على أحد أمراض القلب. ولم يستغن المعبِّر العربي قطُّ -ولن يستغني أبدا- في استيعاب المعاني الجديدة بالكلمات القديمة، عن توسيع دلالتها أو تضييقها أو نقلها.مَا الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ مِنَ التَّعْبِيرَاتِ الْحَدِيثَةِ؟في التعبير تنضاف الكلمة إلى الكلمة، فتتصل بينهما علاقة، وتتكون فكرة، من بعد أن كانت الكلمة مفردة بمعنى مفرد. ولا ريب في أن التعبير أعلى من الكلمة، لأن الفكرة المتشابكة المعاني أهم من المعنى المفرد؛ ومن ثم ينبغي للمتلقي أن يتأمل طويلا ما في التعبيرات الحديثة، من دلالة على حركة التفكير.ربما كان التعبير الحديث أصيلا خارجا من ثقافة المعبر الذي اتسعت رؤيته فضاقت عنها العبارة القديمة، فتَلَمَّسَ كل ما يعينه عليها، كما فيما يأتي مما وقع في الكلام السابق: 1 "وَفِي دَاخِلِ الْقُلُوبِ الَّتِي تَرْقُدُ فِيهَا تَسْكُنُ الْحَسَرَاتُ وَالْآهَاتُ الْمُلْتَاعَةُ". 2 "وَهُنَاكَ نُفُوسٌ تَمْضَغُ شَقَاءَهُا وَتَجْتَرُّهُ وَتُحَوِّلُهُ إِلَى حِقْدٍ أَسْوَدَ وَحَسَدٍ أَكَّالٍ".3 "وَكُلُّ نَفْسٍ تُمَهِّدُ بِمَوْقِفِهَا لِمَصِيرِهَا النِّهَائِيِّ فِي الْعَالَمِ الْآخَرِ".وربما كان التعبير الحديث دخيلا طارئا على ثقافة المعبر من غيرها من الثقافات، من بعد أن لم تسعفه ثقافته، كما فيما يأتي مما وقع في الكلام السابق:1 "فَالْعَذَابُ لَيْسَ لَهُ طَبَقَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ قَاسِمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكُلِّ".2 ""تِلْكَ هِيَ لِبْسَةُ الدِّيكُورِ وَالثِّيَابُ التَّنَكُّرِيَّةُ الَّتِي يَرْتَدِيهَا الْأَبْطَالُ".3 "أَمَّا وَرَاءَ الْكَوَالِيسِ (...) فَلَا يُوجَدُ ظَالِمٌ وَلَا مَظْلُومٌ".فعلى حين تتحرك بثلاثة التعبيرات الأولى الثقافةُ العربية الإسلامية، يتحرك بثلاثة التعبيرات الآخرة غيرُها من الثقافات، ولا بأس؛ فـ"الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا"[11]، على تَسْتَوْطِنَ الثقافةَ العربية الإسلامية، وتَتَطَبَّعَ بطبيعتها.ثُمَّ اسْتَمِعُوا ثَالِثًا، لِتُمَيِّزُوا أُسْلُوبَ التَّقْوِيمِ: ...مَا الَّذِي غَفَلَ عَنْهُ هَذَا الْكَ...

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •