د لا يعرف الكثيرون ما هو “النموذج السنغافوري”، ولا يفهمون من واقعة
“سنغافورة” سوى هذا النمر الاقتصادي الآسيوي المبهر الذي يتمنى الكثيرون
اللحاق به وانتهاج نهجه في القوة الاقتصادية، في حين أن أهم مُكَوِّن من
مُكَوِّنات هذا النموذج هو مكوِّن “الهوية” الذي يحاول أصحاب المصلحة ممن
يعرفونه ويفهمونه جيدا، التغطية عليه بإبراز وتضخيم المُكوِّن الاقتصادي
فيه. فما هو هذا النموذج؟!

سنغافورة لمن لا يعرف كانت – قبل أن تصبح دولة مستقلة – جزءا لا يتجزأ من
دولة “ماليزيا” بكل مُكَوِّنات الهوية الماليزية القائمة على تآلفٍ بين
“الهنود” و”الصينيين” بصفتهما أقليتين إثنيتين تُجَسِّدان الديانتين
“الهندوسية” و”البوذية”، وبين “المالاوية” بصفتها عرقَ الإثنية التي تمثل
الأغلبية “المسلمة”. ولأسباب ما – ليس هنا مجال الحديث فيها لأنها لا
تعنينا كثيرا – راحت مدينة سنغافورة تتضخم اقتصاديا جالبة إليها أعدادا
كبيرة من الهنود والصينيين تحت غطاء الاقتصاد والاستثمار والانفتاح.. إلخ،
إلى أن انقلب الميزان الديمغرافي في إقليم “سنغافورة”، وأصبحت الإثنية
الغالبة هي الإثنية “الهندوصينية” غير المُوَطَّنَة، فيما غدت إثنية
“الملاويين” المواطنين هي الأقلية.

واستنادا إلى القوانين الدولية المعمول بها، يحق لأيِّ أغلبية عرقية
“إثنية” في دولة معينة أو في إقليم دولة معينة تنطبق عليه مواصفات التواصل
الجغرافي، إذا لم تكن – هذه الأقلية – قد حصلت على حقوق المواطنة الكاملة
عبر حيثياتِ سياسةِ التوطين المتعارف عليها عالميا، والتي تحوِّلُها من فئة
وافدة أجنبية مجتزأة الحقوق الوطنية، إلى فئة مواطنين كاملي المواطنة من
خل الذوبان في هوية الوطن الذي حصلوا على حقوق المواطنة فيه..

نقول.. يحق لأغلبية من هذا النوع، إذا رأت أنها تنطوي على مُكونات قومية
خاصة بها تختلف عن مُكَوِّنات الأقلية، أن تطالب استنادا إلى هذا الواقع
بالاستمتاع إما بالاستقلال القانوني والسياسي عن دولة قائمة بذاتها، وإما –
وهذا هو الأخطر في حال انعدام التواصل الجغرافي المشار إليه – بأن تصبح
الدولة التي يمثلون فيها الأغلبية دولة تتحدَّد معالمها القانونية بناء على
واقعة أنهم أصبحوا يشكلون الأغلبية، بصرف النظر عن الوضع القانوني والمدني
والاقتصادي الراهن، بل وبصرف النظر أيضا عن الطريقة التي تمّ بواسطتها
تكَوُّن تلك الأكثرية، حتى لو بالتهجير أو بالترحيل أو بإعادة الانتشار
السكاني، أو بالإقامة الحرة.. إلخ،

مع توضيح أن القانون إذ أعطى هذا الحق لمثل تلك الأغلبيات الطارئة، فإنه
أوضح، بل واشترط، ألا يكون هؤلاء متمتعين بالمواطنة الكاملة حقوقا وواجبات،
وهو ما يعني أن التمتع بالمواطنة المتحققة عبر مبدأ التوطين الكامل لمن
ليسوا مواطنين حتى لو كانوا أعلبية عارمة، هي الحصانة التي تقف في وجه
تحقُّق وتجسُّد النموذج السنغافوري الذي تؤسِّس له حالة اللاتوطين أو
اللامواطنة لمن يحق لهم أن يستفيدوا من هذا القانون الدولي.

تمثل الولايات المتحدة الأميركية الحالة العالمية الأكثر وضوحا في الانتصار
على مخاطر النموذج السنغافوري الذي لم يكن موجودا عند نشأة الدولة
الأميركية، والحدِّ من مخاطره على الهوية الأم والأساس لتلك الدولة، عبر
اتنهاج مبدإ التوطين والمواطنة تحت مظلة “الهوية الأميركية” التي أنشأها
الاستقلال عن بريطانيا أواخر القرن الثامن عشر، خاصة وأن التنوع العرقي
والإثني في هذه الدولة التي توسعت بشكل أخطبوطي بعد الاستقلال – الذي لم
يُنْشِئ الدولة الأميركية سوى بـ “13″ ولاية فقط هي تلك التي كانت تمثل
آنذاك ما يطلق عليه إقليم “نيوإنغلاند” بولايات شمال شرق القارة – كان يمثل
أكبر خطر قد يهدد فكرة “الهوية الأميركية” و”الوطن الأميركي”، إذا تم
الاستعلاء على مُكوناته بتغييب فكرة التوطين.

فمع أن اللغة الإنجليزية ومُكونات الهوية الأساس للأميركيين هي ذاتها
مُكونات “الأقلية الإيرليندية” التي تشكل حاليا ما لا يزيد عن 40% من
إجمالي تعداد الشعب الأميركي، رغم أنها كانت تمثل عند الاستقلال عام 1789
كل الشعب الأميركي تقريبا، وعلى الرغم من أن مختلف الأقليات الاثنية الأخرى
المنحدرة من كل أصقاع الأرض تمثل الـ “60% المتبقين من تعداد الأميركيين،
فإن أحدا لا يخاف على الهوية الأميركية ولا يقلق بشأنها، وتبقى الهجرة
المستقدمة من الخارج هي بوابة استكمال المشروع الحضاري الأميركي القائم على
التنوع والتمدد في قلب “الهوية الأميركية”، لسبب بسيط هو أن كل تلك
الاثنيات المتراكمة والتي تزداد تراكما وذوبانا في قلب الأمْرَكَة
الأيرلندية الطابع والجوهر، لا تجد لها أيَّ مبرر لاستحضار الأنا القانونية
والسياسية لها خارج الثقافة الأميركية وخارج الهوية الأميركية – دون أن
يغني ذلك المساس بأناها الخاصة المعترف لها بها اعترافا كاملا في داخل وفي
قلب ماكينة الهرس الثقافي الكبرى القائمة على الأمْرَكَة – مادامت تذوب في
مبدأ المواطنة الكاملة.

فالثقافة الأميركية والهوية الأميركية لا تتعرضان لأيِّ مخاطر بسبب الطوفان
الإثني المنصب عليهما من كل مكان، والاثنيات الذائبة في الثقافة وفي
الهوية الأميركيتين لا تقلق بشأن انتماءاتها الثقافية الأساس، لأن الثقافة
الأميركية والهوية الأميركية لا تمنع تلك الاثتيات من استحضار ذاتها، بل هي
ترى في ذلك الاستحضار مصدر إثراء للهوية الأميركية. خلاصة القول إذن أن
مبدا التوطين هو الذي يحمي الهويات من الأوطان البديلة ومن ذوبانها في
هويات وافدة.

إذن هكذا نشأت دولة “سنغافورة” فوق أرض مدينةٍ وإقليمٍ كان بالأمس القريب
“ماليزياً” قلبا وقالبا، ليغدوَ دولة مستقلة قائمة بذاتها، تحوَّل فيها
أصحابها الأصليون “المالاويون” إلى أقلية في دولة أخرى غير دولتهم الأم،
يحميها القانون وترعاها الشرعية الدولية بقوة السلاح إن لزم الأمر، فقط
بسبب الاستعلاء على فكرة التوطين، أي توطين الوافدين الذين أصبجوا مرتبطين
بالدولة الجديدة ارتباطا يقتضي إعادة إنتاج علاقاتهم بها على نحوٍ حقوقي
مختلف.

النموذج “السنغافوري” الذي يتكون بهدوء ومن خلال معابر الاقتصاد في العادة،
ليفرضَ نفسَه تلقائيا بموجب طبيعة التداخل البشري والتكامل الاقتصادي بين
المجتمعات البشرية التي تصرُّ “المجتمعات المُسْتَوْفِدَة منها” على عدم
توطين الوافدين وإبقائهم مجرد أجانب تختلف حقوقهم عن حقوق أهل البلاد
الأصليين من النواحي السياسية بالدرجة الأولى والاقتصادية بالدرجة الثانية،
حتى لو أصبحوا أكثرياتٍ يهددون الميزان الديموغرافي في تلك المجتمعات،
أصبح نموذجا خطيرا يمثل شبحا مرعبا للدول والمجتمعات القائمة على بُنى
مجتمعية هزيلة وهشَّة ديمغرافيا، مثلما هو حال “الزوائد الدودية” التي
سمِّيَت دولا في الخليج العربي، وهي “الإمارات” و”قطر” و”البحرين” وإلى
حدِّ ما “الكويت”. فأمام واقع ديمغرافي لدول مثل “البحرين” و”الإمارات”
و”قطر” تحديدا، يمثل فيه أصحاب البلاد الأصليون أقلياتٍ تكاد تكون غير
موجودة بالمقارنة بالأغلبية التي يمثلها الوافدون من مختلف البلدان، وخاصة
من الدول الآسيوية، فإن هناك مخاوف حقيقية من أن يتكرر النموذج السنغافوري
إذا تكاملت مُقَوِّماته.

وأمام واقعة أن الخروجَ من هذا المأزق يتطلب نوعا من أنواع دمج الوافدين في
الحياة المجتمعية والسياسية لتلك البلدان، وتوطينهم بكل ما لكلمة توطين من
معنى، حماية لهوية الدولة الأم من هوياتهم الخاصة بهم، ليغدوَ الجميع
مواطنين تحكمهم محددات الهوية الأم “المُسْتَوفِدَة”، فإن نتائج مثل هذا
الخيار على البنية الاقتصادية الطبقية لتلك المجتعات يحول دون أصحاب البلاد
الأصليين ودون قبولهم بسياسة الدمج حفاظا على البُنيَة الطبقية النشاز في
بلدانهم، لتبقى بلدانهم تلك تحت رحمة شبح النموذج السنغافوري المحتمل بشكل
جدي في أيِّ وقت، خاصة إذا رأت بعض الدول الكبرى الفاعلة في الإقليم مثل
الولايات المتحدة أو إيران الدفع بهذا الاتجاه.

سنكتفي بهذه التفاصيل حول النموذج السنغافوري، لاستحضارها في المكان
المناسب من هذا التحليل، منتقلين إلى الخطوة التالية كي نستكشف معا كيف يتم
التمهيد في الأردن لنموذج سنغافوري فريد من نوعه، بتأمين كلِّ المقومات
اللازمة لتحقيقه.

هناك فكرة تقول: “حفاظا على حق الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم، وحرصا على
عدم توطينهم في الأردن تحت دعاوى الوطن البديل.. إلخ، فإن الأفضل ألا
يتورطوا في أيِّ نشاط يطالب بحقوقٍ سياسية لهم في الأردن تدمجهم في المجتمع
الأردني بموجب متطلبات المواطنة والهوية الأردنيتين، ما يعني تجنب
اعتبارهم أردنيين كاملي المواطنة، كي لا يتم إلهاؤهم عن فلسطين وعن النضال
لأجل العودة إليها. ولذلك فإن الأصوب في المرحلة القادمة أن يُصار إلى
إعادة إنتاج واقعهم في الأردن بدون أيِّ امتيازات وحقوق سياسية تساوي بينهم
وبين من يُطْلَق عليهم “الشرق أردنيين”، وأن من حقهم فقط أن يحصلوا على
حقوق مدنية تفرضها واقعة أنهم يعيشون في هذا البلد”. ما معنى هذا؟!

لن نقف طويلا عند الأبعاد الأيديولوجية في مناقشة هذه الفكرة وتحليلها
وتبيان مبررات سقوطها السياسي والفكري، وسنكتفي بعرض ذلك من خلال تبيان
كيفية تأسيسها للنموذج السنغافوري في الأردن بأسوأ وأخطر أشكاله التي
عرضناها وتحدثنا عنها، فلنتابع.

إن الكثيرين يتحدثون عن “التوطين” وعن “الوطن البديل” دون أن يعرفوا عن
هذين المفهومين غير معانيهما اللغوية التي يفترضون أن لها دلالات سياسية في
ذاتها، دون إدراك أن المصطلح اللغوي يُطلق للتعبير عن مفهوم سياسي تتحدد
مُكَوِّناته وعناصره من خلال الواقع السياسي والسيرورة السياسية ذاتهما.
فلا يكفي أن أخوِّف من التوطين ليكون للتخويف معنى، ما لم أثبت كيف يمكن
لهذا “التوطين” أن يتم ليصبح مخيفا. كما أنه لا يكفي أن أُرْعِبَ السامعين
باستخدام مصطلح “الوطن البديل”، كي يكون لهذا الإرعاب معنى حقيقيا على
الواقع، ما لم أسُقْ ما يكفي من الأدلة والإثباتات الملموسة على أن الحدث
الفلاني إن تمَّ فسيؤدي إلى واقعة “الوطن البديل”.

بدايةً هناك فرق كبير بين مفهومي “التوطين” و”الوطن البديل”. فالتوطين
مفهوم يمكنه أن ينطبق على أقلية أو حتى على أغلبية يُراد دمجها في الحياة
السياسية والمجتمعية عامة في بلد ما، لتتحرَّر من صفة “غير المواطنين” أو
من صفة “أجانب” أو من صفة “وافدين”، ويتحولَ أفرادها إلى مواطنين كاملي
المواطنة حقوقا وواجبات. فالفلسطينيون في لبنان، ومثلهم الفلسطينيون في
سوريا.. إلخ. يعتبر إدماجهم في الحياة السياسية والمدنية الكاملة للدولتين
السورية واللبنانية، توطينا إن حصل. كما أن محاولة دمج الفلسطينيين
المقيمين في فلسطين المحتلة عام 1948 في الحياة الإسرائيلية مدنيا وسياسيا،
هي عملية توطين. هذا هو معنى التوطين من الناحية الإجرائية والقانونية
والإدارية.

ومع ذلك يجب أن ننتبه إلى أن التوطين شيء، وتخلي المُوَطَّنين عن حقوقهم
الشرعية في وطنهم الأم شيءٌ آخر مختلف. فالتوطين لا يخلق حالة حقوقية
مقابلة لتلك التي يتمسك بها الموَطَّنون قبل توطينهم، بحيث أنها تفرض عليهم
أن يتنازلوا عن تلك الحقوق بسبب أنهم حصلوا على بديل لها هو التوطين. هذا
غير صحيح على الإطلاق، واستخدامه كمنطلق لتبرير مواقف أيديولوجية معينة
يراد تبريرها بالإخافة من “التوطين” هو شكل من أشكال التزوير والتزييف.

فملايين الفلسطينيين مُوَطنون في عشرات الدول في أوربا وأميركا الشمالية
وأميركا الجنوبية، ولهم كامل الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية لكل
أبناء تلك الدول، ومع ذلك لا يوجد فلسطيني واحد من هؤلاء الموطنين تنازل عن
حقه في العودة إلى فلسطين، أو عن مطالبه بضرورة تحرير فلسطين من الاحتلال.
وكل أمثلة التوطين في العالم هي امتداد لهذا المعنى. وبالتالي فالتوطين لم
يفعل شيئا سلبيا، بل ربما هو ساعد المُوَطَّنين على ممارسة هوامش نضالية
أوسع للتحرك باتجاه تفعيل حقوقهم المشروعة في العودة إلى أراضيهم وأوطانهم
الأصلية إن كانوا مهجريبن منها بالقوة.

وإذن فالتوطين ليس “غولا” وليس سوى إجراء لتنظيم حقوق وواجبات الموطَّنين
في الدولة التي وُطِّنوا فيها لتجنب الانزلاقات القانونية والسياسية إلى
نماذج شبيهة بالنموذج السنغافوري، دون أن يمسَّ ذلك بحقوقهم التي يرونها
لأنفسهم في سياقات أخرى. الأردنيون من أصل فلسطيني – ونقصد اللاجئين من
الأراضي التي احتلت عام 1948 تحديدا، ولا نقصد أهل الضفة الغربية الأصليون
حتى عندما نزحوا بعد الاحتلال عام 1967 إلى مناطق أخرى من وطنهم الأردني
الذي تم احتلال جزء من أراضيه – كلُّهم مُوَطَّنون وأصبحوا جميعا مواطنين
كاملي المواطنة منذ تأسيس “المملكة الأردنية الهاشمية” مثلهم مثل باقي
رعايا هذه الدولة، ولم نسمع بأن واحدا منهم اعتبر ذلك رشوة تَفرض عليه
التنازل عن حقوقه المشروعة في فلسطين المحتلة عام 1948، ولا هو فعل ذلك ولا
طالبه أحد بذلك، وهذا التاريخ أمامنا فلنراجعه. وإذن فأين المرعب والمخيف
في التوطين، إذا كان لا يخرج عن إطار كونه تنظيما حقوقيا وقانونيا
للمُوَطَّنين قد يساعد على تفعيل النضال من أجل استعادة حقوق الموَطنين في
وطنهم الأساس؟!

أما “الوطن البديل” فمهموم آخر مختلف تماما عن التوطين ومتناقض معه، وهو
يقوم أساسا على اللاتوطين، وعلى التهرُّب من استحقاقاته التي تمثل المخرج
الحقيقي والمهرب الوحيد من فكرة “الوطن البديل”. وإذا كان التوطين الذي
يعتبر أمرا ممكنا، هو في ذاته لا يخيف ولا يرتب أيَّ تنازلات، فمفهوم
“الوطن البديل” أولى بذلك منه، لأنه مفهوم أسطوري لم يقل به أحد حتى الآن،
ولا رأيناه تحقق في الواقع ولا في أيِّ مكان في العالم، إلا في سنغافورة
بسبب الاستعلاء على التوطين.

وهو – أي الوطن البديل – في الأردن بدعة اخترعها لنا بعض ضباط المخابرات
الأردنيين، ونسَّقوا بخصوصها مع الإسرائيليين كي يعطوها بعدا مرعبا ومخيفا
للأردنيين وللفلسطينيين على حدٍّ سواء، من خلال ممارسة أبشع أنواع الخداع
والتضليل والكذب والإرهاب الهوياتي، عملا على إبقاء لعبة “لوغو الهويات”
تتحرك داخل الدوائر المرسومة لها وظيفيا وإمبرياليا وصهيونيا، ليس إلا.

فالوطن البديل يعني أن يقبل أصحاب الحق في وطن معين، بأن يتنازلوا عن وطنهم
ذاك، مقابل قطعة من الأرض تُعطى لهم في مكان ما في العالم يقيمون عليها
وطنهم ودولتهم ويجسِّدون فيها هويتهم، بعد أن تكون قد تهيأت الظروف
الموضوعية التي تتيح تطبيق قانون “الوطن البديل” عليهم!! فهل حصل ذلك في
أيِّ مكان في العالم في غير سنغافورة، وبسبب غياب فكرة التوطين أصلا؟! وهل
أشار الشعب الفلسطيني بأيِّ شكل من الأشكال، ولو بإشارات ضمنية أو عابرة من
مواطنيه أو من قياداته.. إلخ، بأن هذه الفكرة قابلة للنقاش لديه، وبأنه لا
يمانع في أن يكون الأردن مثلا هو هذا الوطن الذي سيتنازل إن هو امتلكه عن
وطنه “فلسطين”؟! بل هل تنطبق على الأردنيين من أصل فلسطيني في الأردن أي
مواصفات يمكنها أن تمهد لفكرة “الوطن البديل؟!

إن الذي يمكنه أن يحدث في الأردن هو “النموذج السنغافوري”، إذا تمكنت فكرة
“نزع الحقوق السياسية ومنح الحقوق المدنية” للأردنيين من أصول فلسطينية في
الأردن من النجاح والرواج. وهو بالمناسبة نموذج يشكل خطرا على الأردن وعلى
الأردنيين وعلى الهوية الأردنية أكثر مما يشكله على الفلسطينيين وعلى
هويتهم. وبالتالي فمن يطرح هذه الفكرة إنما هو يتآمر على الأردن شعبا وهوية
وجغرافيا، من حيث هو يزعم أنه يريد حمايته وحماية الأردنيين من خطر
الذوبان فيما يروج لكونه هيمنة سياسية للفلسطينيين.

إن نجاح أنصار هذه الفكرة التي تقف وراءها بكل تأكيد كل من “السي. آي. إيه”
و”الموساد”، وأبواق الإعلام والثقافة التي تروِّج لهما، يعني أن يصبح سكان
الأردن فئتين، الأولى لها حقوق المواطنة الكاملة بما فيها السياسية، وهي
الفئة التي يطلق عليها “الشرق أردنيين والنازحون من الضفة عام 1967″، وتمثل
قرابة نصف تعداد السكان، والثانية ليست لها أيُّ حقوق سياسية وتقتصر
حقوقها على المدنية، وهي فئة “الأردنيين اللاجئين من فلسطين المحتلة عام
1948″، وتمثل قرابة النصف الآخر من السكان.

ترى، أليس هذا الوضع الديموغرافي الحقوقي المشوَّه والمشبوه الذي يتم
الترويج له من قبل عتاة الإقليمية في الجانبين الأردني والفلسطيني على حدٍّ
سواء، هو ذاته ذلك الذي جعل سنغافورة تتحول من أرض ماليزية إلى دولة
مستقلة انفصلت عن الوطن الأم بحجة حقوق الأكثرية الاثنية التي حُرِمَت من
المواطنة وما يترتب عليها من حقوق مُعترف بها، وبقيت بمثابة فئات وافدة لا
هي قادرة على التخلي عن عمق وجودها وارتباطها بسنغافورة، ولا هي قادرة على
تحصيل المواطنة التي تدمجها دمجا كاملا بتلك البلاد؟! وبالتالي أليست هذه
الفكرة المأساة هي المقدمة الحقيقية لتقسيم الأردن إذا كانت هناك مشاريع
حقيقية لتقسيمه على أرضية “فلسطيني” و”أردني”، أو إلى تحويل هويته إذا كانت
هناك مشاريع حقيقية وغير أسطورية لتحويل هويته من “أردنية” إلى
“فلسطينية”؟!

بل أليس النموذج السنغافوري في حال انطباقه على الأردن، سيكون أكثر خطورة
من شكله الذي طُبِّقَ في ماليزيا، مادامت سنغافورة انفصلت عن ماليزيا
باعتبارها إقليما محددا تحققت فيه معادلة الأكثرية الاثنية التي ينطبق
عليها القانون الدولي المشار إليه، بينما المعادلة ذاتها عندما تتحقق في
الأردن بنجاح ذلك المشروع المريب، ستكون عصية إلى حد ما على التقسيم
الإقليمي الجغرافي، لتكون النتيجة هي تغييب الأردن بالكامل لحساب الأكثرية
الفلسطينية الجديدة المُختلقة، والممثلة للأردنيين من أصول فلسطينية الذين
حرموا من حقوقهم السياسية والذين رُفِضَ توطينهم وحصرت حقوقهم في المجال
المدني فقط، خاصة إذا نجحت هذه المؤامرة الإقليمية الكارثة في إضافة
النازحين من سكان الضفة الغربية إلى هذه الفئة التي ستُحْرَم من حقوق
المواطنة وتبعاتها، بالنجاح في تعميم هذه الأسطورة لتطال حتى الأردنيين من
سكان الضفة الغربية؟! وبالتالي أليست هذه هي المقدمة الحقيقية للوطن
البديل، إن كان هناك من يستطيع أن يُنْزِلَ هذه الأسطورة من عالم الدجل
والتخريف والهرطقة إلى عالم الواقع؟!

دعونا ننتقل الآن في خطوة متقدمة لتتبع الجذور المشبوهة لنشوء فكرة الوطن
البديل، بهدف استشراف غاياتها المريبة على صعيد الشعب الأردني بالدرجة
الأولى..

إذا كان “عدنان أبو عودة” هو صانع “قرار فك الارتباط”، وهذه حقيقة تاريخية
اعترف بها المذكور، فإن إحدى أهم آليات فهم هذا القرار، تكمن في فهم
الشخصية التي صنعته وخلَّقته، من حيث مُكَوِّناتُها الأيديولوجية وطريقةُ
تفكيرها، مادمنا نتحدث عن عقلية واحدة ذات مُكَوِّن أمني مخابراتي تحليلي
واضح، هي التي هندست العلاقة الأردنية – الفلسطينية، عبر الإسهام في إدارة
لعبة “لوغو الهويات” والتحكم في وجهاتها، على مدى الفترة التي بدأت بإعادة

إحياء كلٍّ من “الهوية الأردنية” و”الهوية الفلسطينية” القطريتين
الوظيفيتين قبيل أيلول، وتواصلت باستمرار العزف على أوتار “الهويات”،
والتلاعب بـ “الثقافات” التي رسَّخت تلك الهويات وجذَّرَتها بأكثر أشكالها
الرجعية والشوفينية شدا إلى الفرقة وانكفاءً إلى العصبية خلال عقدي
السبعينيات والثمانينيات، لتنتهي بالوقوع في مستنقع التسويات الآسن في عقد
التسعينيات، بعد أن دشَّنَه قرار فك الارتباط في عام 1988.

إن هناك قصةً سياسية حاول “عدنان أبو عودة” سردها أكثر من مرة، تتخِذُ
طابعا أيديولوجيا يُمثل إطارا للعلاقات الأردنية – الفلسطينية التي تمت
هندستها على مدى زمني طويل. يشير سيناريو هذه القصة إلى أن النظام الأردني
لو كان سقط في عام 1970، فهذا يعني ضياع فلسطين، والسبب في ذلك يرجع إلى أن
إسرائيل كانت تنتظر فرصةً يضيع فيها ذلك النظام ويسقط كي تمتلك المبررات
التي تجعلها تقول “أن الأردن هو فلسطين، وأن على الفلسطينيين بالتالي البحث
عن وطنهم هناك، وليس هنا في “الضفة الغربية”، هذا بطبيعة الحال بعد أن
أصبح الحديث عن فلسطيبن المحتلة عام 1948 ضربا من الهرطقة والتجديف
السياسيين.

إننا أمام البذور الأولى لأسطورة جديدة كان يجب أن تُغرس في قلب التجاذبات
الأردنية – الفلسطينية منذ ذلك الوقت المبكر، كي تستكملَ لعبة “لوغو
الهويات” مهمتها المنوطة بها في تلك الفترة على أتمِّ وجه، وكي تؤصِّلَ
وتؤسِّسَ لآفاقِ مهمتها التي ستناطُ بها على مدى ربع القرن اللاحق. إنها
أسطورة “الوطن البديل”، التي كانت نبتةً شيطانية من نبتات الدور الوظيفي
القطري للنظام الأردني، والتي أريد لها أن تكون واحدة من أهم الفزاعات
المستخدمة للحيلولة دون عودة الأردنيين إلى حيويتهم السياسية التي كانوا
عليها منذ عام 1948 وحتى عام 1968، عندما كانت علاقتهم بالفلسطينيين مستندة
إلى مواطنة واحدة قائمة على مناهضة الوظيفية والقطرية في النظام، ومرتكزة
إلى بندقية موجهة إلى عدو يحتل الأرض ويستلب هويتها ويحطِّم أهلها، بعد أن
أسهموا معا في تأسيس وطن اسمه الأردن، ودولة اسمها المملكة الأردنية
الهاشمية، وجنسية اسمها الجنسية الأردنية، التي كانت لهم جميعا وعلى قدم
المساواة، جنسية تأسيس لا جنسية تجنيس.

لقد كشف “عدنان أبو عودة” عن الوجه القبيح للنظام عندما كان يمثل صمام
أمانه السياسي والإعلامي والأيديولوجي. فنحن هنا أمام أيديولوجيةٍ قائمة
على ضرورة الفصل بين مُكَوِّني الهوية الأردنية الثائرة، لتصبحَ الهوية
الثائرة هي “هوية الفلسطينيين” فقط، ولتصبحَ ثورتُها مصدرَ خطر على نظامٍ
يمثل منفردا “هوية الأردنيين” التي أصبحت مهددة بعد أن كشَّر الفلسطينيون
عن أنيابهم وقرروا إسقاط النظام لتحويل الأردن إلى فلسطين!! وهو بالتالي ما
كانت تنتظره إسرائيل وتتمناه كي تتخلصَّ من تبعات فلسطينية الضفة، بل
وفلسطينية القضية. لكن الملك حسين ومستشاروه المقربون، وعلى رأسهم “عدنان
أبو عودة” هم من تصدوا لهذه المؤامرة كي ينقذوا فلسطين بإنقاذ الأردن منهم
ومن تَغَوُّلِهم.

من هو الساذج الأحمق الذي يمكنه أن ينجرَّ وراء هذا النوعٍ غير المسبوق من
الهرطقة السياسية، القائمة على محاولة إقناعنا بأن إسرائيل كانت تتمنى
وتترقب سقوطَ نظام “الملك حسين” من قِبَلِ الثورة التي تمَّ تحويلها من
أردنية إلى فلسطينية، كي تمتلك مبرراتٍ ليس لها أيِّ سند قانوني أو أخلاقي
أو سياسي، ومرفوضة من قبل جميع البشر، تقول بموجبها “أن الأردن هو فلسطين،
وأن فلسطين لم تعد هي فلسطين”، بينما كلُّ الفلسطينيين والأردنيين وكل
العرب على اختلاف ولاءاتهم، ومن ورائهم كل العالم وكل قرارات الشرعية
الدولية، يتحدثون عن “فلسطين المحتلة” الواقعة غرب النهر وليس شرقَه!!

ومن هو هذا الذي قرَّرَ الانضمام لـ “فيالق النعام”، واضعا رأسَه في الرمل،
غاضا الطَّرْفَ عن أن أيَّ مشروعِ عزفٍ على وتر القُطْرية – بما فيها
القطرية الفلسطينية المتدثرة بعباءةٍ ثوريةٍ جعلت أصحابَها يقتنعون
بقداستها وطوطميتها، كي يجنبوها بهذه القداسة وبتلك الطوطمية المتوهمتين
أيَّ توصيفٍ بأنها جزء من “الوظيفية العربية” – هو مشروعٌ إمبريالي صهيوني
سايكسبيكوي بامتياز؟!

وهل تعتبر شيئا آخر مختلفا عن “البداوة السياسية”، أيُّ فكرة تحاول تصوير
“الهوية الفلسطينية” الوظيفية القطرية المستحضَرَةِ من عالم الأموات بقرار
إمبريالي صهيوني وظيفي، هوية قادرة على العيش بدون الحفاظ على شقيقتها في
الوظيفية والقطرية سليمة من أي سوء، ألا وهي “الهوية الأردنية” بإدارة
النظام الوظيفي الأردني؟!

إن إعادة استنهاض “الهوية الفلسطينية” الوظيفية القُطرية على أنقاض “الهوية
الأردنية” الثائرة بعد عام 1968، كان مخططا “أردنيا – سعوديا – أميركيا –
إسرائيليا”، يهدف إلى استعادة نظام الملك حسين تمثيلَه للأردنيين بعد أن
أصبحت “الثورة الأردنية” هي التي تمثلهم، وبعد أن كاد نظامه يسقط منذرا
بتحول الأردن إلى قاعدة آمنة للثورة وللتحرير، وللتغيير الشامل في الإقليم
من ثمّ.

إن تفريغ الثورة من عباءتها الأردنية والزج بها إلى متاهات العباءة
الفلسطينية كان يهدف إلى حماية نظامٍ مثَّل الحارس الضامن لأمن إسرائيل على
مدى عشرين عاما تقريبا. وبالتالي فسقوط النظام الأردني لو حصل في عام
1970، لكانت إسرائيل قد زالت من الوجود منذ زمن، على ما يمكننا تَخَيُّلُه
من تداعياتٍ إقليميةٍ لهذا السقوط المزلزل.

ولهذا السبب تحديدا فإن حجم الخديعة التي ينطوي عليها قول “عدنان أبو عودة”
عندما قال: “كان يجب أن يبقى النظام الأردني، كي لا تقول إسرائيل أن
الأردن هو فلسطين”، تجاوزَ كل الحدود، لأنه جعل من نظامٍ لا يختلف عاقلان
على أنه مثل رأس حربة المنظومة العربية الوظيفية القطرية المناهضة لكل
مشاريع الوحدة والتحرر، ضحية وبطلا ومنقذا لقضيةٍ قضى عشرين عاما من عمره
يناصبها العداء على كل الصعد!!

ولكن لعبة “لوغو الهويات” التي قامت على أيديولوجيةٍ مفادُها ضرورة إحياء
“الهوية الفلسطينية” الوظيفية القطرية، لمحاصرة “الهوية الأردنية” الثائرة
وتحجيم دورها التاريخي، ما كان لها أن تحققَ الغايةَ منها، إذا لم تظهر
“الهوية الفلسطينية” المستعادَةُ بصفتها مصدرَ خطرٍ حقيقي على “الهوية
الأردنية”، وبالتالي على الأردنيين الذين لن يجدوا عندئذٍ من يمثلهم بعد أن
تكون “الثورة الأردنية” قد فقدت أردنيتها بتجسُّد فلسطينيتها، سوى نظام
“الملك حسين”.. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فإن نظام “الملك حسين” ما كان له أن يضمنَ حصولَه مجددا على
حقه في تمثيل الأردنيين، بمجرد خلقه لديهم لحالةٍ من التَّوَجُّس من
الفلسطينيين على هويتهم الأردنية، مادام الأردنيون أنفسُهم يرون أن تعايشَ
الهويتين أمرٌ ممكن وليس مستحيلا، إذا سُمِحَ للفلسطينيين باستخدام الأراضي
الأردنية منطلقا للكفاح المسلح ضد إسرائيل، وهو ما لم يكن لدى الأردنيين
أيُّ تحفظٍ، ليس على قبوله فقط، بل وعلى المشاركة فيه مشاركة كاملة. فمشروع
التحرير كان مشروعَ الجميع، باستثناء النظام الأردني.

كان من الممكن للأردنيين أن يُسقطوا نظامَهم بمساعدة الفلسطينيين – حتى وهم
يَحْذَرون من الثورة التي أصبحت فلسطينية كما كان يُرَوِّج لذلك النظام
وقيادات الثورة معا ويدفعون باتجاهه – ليقيموا نظاما أردنيا وطنيا غيرَ
وظيفي، يعيد بناءَ علاقتهم بالفلسطينيين على نحوٍ مختلفٍ، ليستمرَ بالتالي
مشروعُ التحرير، لولا أن قادة الثورة هم الذين تخلوا في أحلك الأوقات
وأكثرها حرجا في التاريخ الأردني، عن القوى الوطنية الأردنية التي كانت
تعمل في هذا الاتجاه، بسبب تداعياتِ تجسُّد الهوية الفلسطينية، وتركوها
تواجه النظام الأردني منفردة بعد أن انسحبوا بثورتهم من الأردن.

وإذن فقد كان على النظام الأردني أن يعيد إنتاج الهويتين الأردنية
والفلسطينية أيديولوجيا عبر لعبة “لوغو الهويات”، على أُسُسِ تناقضٍ أمتنَ
وأشدَّ دفعا باتجاه التوجُّسِ من مجرد مظهره السياسي القابل للتعامل معه
بشكلٍ إيجابي يحمي الثورة والهويتين معا، على حساب النظام نفسه إذا قرر
الطرفان ذلك.

كانت أسطورة “الوطن البديل” هي هذا الأساس الأيديولوجي الجديد الذي تقدم
بالتناقض بين الهويتين خطواتٍ مدمرة. وهذه الأسطورة هي ما أشار إليه عدنان
أبو عودة عندما قال فيما أوردناه عنه فيما مضى: “أن ضياع النظام الأردني
كان يعني ضياع فلسطين، وكان يجب أن يبقى النظام الأردني كي لا تقول إسرائيل
أن الأردن هو فلسطين”. أي أنه أصبح محتَّما لدى النظام الأردني ومُنَظِّره
الأكبر “أبو عودة”، نقلُ توَجُّس الأردنيين من الفلسطينيين وثورتهم على
“الهوية الأردنية”، إلى مستوى أكثر تجسيدا لمخاطر الضياع والذوبان، من مجرد
تلك الحالة التي تفرض تجاذبا سياسيا قابلا للتعامل معه، مادامت الشراكة في
الكثير من جوانبه واردة وقائمة بالفعل.

كان يجب أن يشعرَ الأردنيون بالخطر على هويتهم وعلى مستقبلهم، ليس من
الفلسطينيين فقط، فالتفاهم مع هؤلاء على التعايش المنتج والفعال للطرفين
وقضاياهما أمرٌ ممكن، إذا كان الفلسطينيون وحدهم مصدرَ الخطر، ماداموا
يشاركونهم الغاياتِ نفسِها، وهي مقارعة الاحتلال ومقارعة النظام معا.
فالفلسطينيون في حقيقة الأمر، وعلى رأسهم قادة الثورة بعد أن أصبحت
فلسطينية، هم أكثر من غيرهم حرصا على “الهوية الأردنية” بسبب قطريتهم
ووظيفيتهم التي تجسدوا على قواعدها بعد عام 1968، لأنهم يعون جيدا أن
مناجزتَهم للهوية الأردنية بأيِّ شكل من أشكال المناجزة، يُفْقِد هويتَهم
“الفلسطينية” التي راحوا يجسدونها ويتمسكون بها، كلَّ شرعيتها من حيث
المبدأ، لأنها شرعية قائمة في أحد أهم جوانبها على شرعية “الهوية”
المقابلة لهم وهي “الهوية الأردنية”.

الفلسطينيون إذن ليسوا مصدرَ خطرٍ حقيقي على “الهوية الأردنية” من هذا
الوجه كما كان يزعم النظام ويروِّج له في الأوساط “الشرق أردنية” المستهدفة
بالتعبئة والحشد ضد مشروع الثورة، وهذا ما كان يدركه “الملك حسين” و”عدنان
أبو عودة” وغيرهم من الحريصين على بقاء النظام واستمراره، ما دفعهم إلى
تفعيل خطة التوجُّس المراد ترسيخها بتوسيع دائرة مصادر الخطر المنطواة
فيها.

كان يجب أن تدخلَ في دائرة مصادر الخطر إذن عناصرُ وأطرافٌ أخرى، لا يملك
الأردنيون القدرة على التفاهم أو التعايش معها لضمان سلامة هويتهم، التي
سيقتنعون أن هذه الأطراف الجديدة هي مصادر خطرٍ حقيقي يتهددها، خلافا لما
كان عليه الحال من إمكان تعايشهم مع الفلسطينيين في هذا الشأن رغم خطورة
هؤلاء أيضا. عندئذٍ يفقد إمكان التعايش والتفاهم مع الفلسطينيين على إعادة
إنتاج العلاقة بين الهويتين في الدولة الأردنية أهميتَه، ليصبح إسقاط
النظام الأردني كوسيلة لتحقيق هذا التعايش الممكن حلاًّ مستبعدا، بعد أن
كان حلا محتملا يضمن سلامة “الهوية الأردنية” واستمرار “الثورة الفلسطينية”
معا.

ثم بعد ذلك وفي خطوة متقدمة، يغدو إسقاط النظام حلا مرفوضا وليس مستبعدا
فقط، بسبب أنه سيصبح في ذاته – بسبب الأسطورة الجديدة ألا وهي أسطورة الوطن
البديل – حلا يشكل مصدر الخطر الحقيقي على مصير “الهوية الأردنية”، حتى لو
رغب الفلسطينيون في التفاهم مع الأردنيين على إعادة إنتاج العلاقة بين
الطرفين على الساحة الأردنية، بشكل يضمن سلامة هوية الشعب الأول وثورة
الشعب الثاني.

فالنظام الأردني بقيادة الملك حسين، لا يريد التفاهم مع الثورة التي حولها
من “أردنية” إلى “فلسطينية” كي يؤسِّسَ لأيديولوجية عدم التفاهم هذه، ولا
هو يقبل بالتعايش معها لأسباب وظيفية قُطرية، وإلا فإنه سيفقد هويته
“السايكسبيكوية” التي لا وجود له بدونها. وعندما يصبح سقوط النظام هو مصدر
الخطر الحقيقي على الهويتين معا، حتى لو ترتب عليه نوع من التعايش والتفاهم
بين الطرفين، فإن مشروع الثورة الفلسطينية على الساحة الأردنية سيغدو
مشروعا مرفوضا أردنيا في كل الحالات لسبب بسيط، هو أنه مشروع لا يمكنه أن
يبقى ويستمر إلا على أنقاض نظامٍ اقتنع الأردنيون أنه هو وحده الذي سيحافظ
على الهوية الأردنية، مادامت إسرائيل تتربص بهذا النظام كي تتخذ من سقوطه
الذي لن يكون إلا بسطوةِ الفلسطينيين، وبهيمنة الثورة الفلسطينية، ذريعة
لإلغاء الأردن من الخريطة، وإجراء عملية إزاحة بسيطة في خريطة فلسطين،
لتحتل ما كان يسمى قبل سقوط النظام، “المملكة الأردنية الهاشمية”.

وهكذا بكل بساطة ينتهي الموضوع وتزول هويتان ودولتان وقضيتان من الوجود،
إذا تمت إزالة هذا النظام الذي أصبح بقاؤه هو معيار الوطنية والحق، وبوصلة
المحافظة على فلسطين والأردن على حدٍّ سواء، في عقول أولئك الذين أريد لهم
أن يكونوا وقود المعركة التي يخوضها النظام من أجل البقاء والاستمرار.

وهنا يستثيرنا التساؤل التالي: “ما الذي كان سينتج عن سقوط النظام الأردني
لو كان حصل في عام 1970، من حقائق ستفرضُ على الأرض، تجعل لقول إسرائيل إن
قالت “بأن الضفة ليست فلسطين وأن فلسطين هي الأردن”، من القوة والمرجعية
والشرعية ما يجعلنا نستسلم له ونقبل به ونعتبر أن فلسطين قد ضاعت فعلا، وأن
الأردن قد اختفى من الخريطة حقا، أكثر من الحقائق التي أنتجتها حربا عام
1948 وعام 1967، والمتمثلة في احتلال الأرض الفلسطينية بالكامل وجزءٍ من
الأرض الأردنية؟!”.

ومع ذلك، فهل غيرت حقائق هاتين الحربين المفروضة على الأرض في خريطة الحقوق
العربية والفلسطينية المشروعة في فلسطين، بأكثر مما قبل الفلسطينيون
والعرب أنفسهم بأن يتغيَّر بسبب الضعف والتخاذل وسوء إدارة الصراع؟!

وهل أثر خضوع تلك الأراضي للاحتلال منذ عشرات السنين على الفلسطينيين ومن
ورائهم بعض المعنيين من العرب، فحال ذلك دون أن تكون السنوات الخمسون
السابقة مساحة زمنية لم تفتر فيها مقاومة الاحتلال لحظة واحدة، في رفضٍ
تامٍ لكل الحقائق الإسرائيلية التي فرضتها حروبُها على الأرض؟!!

هل تتحدد حقوق الفلسطينيين والعرب في فلسطين بما تقرره إسرائيل، أم بما
يقررونه هم ومن ورائهم الشرعية الدولية، فضلا عن قوتهم على الأرض، وعن
رغبتهم في تجسيد تصورهم لحقوقهم معادلاتٍ ملموسةً واقعيا، وإصرارهم على ذلك
أيا كانت معادلات القوة في مرحلة معينة؟!

لماذا لم يمنع احتلال إسرائيل لمعظم فلسطين عام 1948، ظهورَ المقاومة
ومنظمة التحرير الفلسطينية، وتكريس المطالبة بالحقوق المشروعة للشعب
الفلسطيني استنادا إلى قراراتٍ دولية صدرت حتى والفلسطينيون مغيبون عن ساحة
الفعل والتأثير تماما؟!

لماذا لم يمنع احتلال إسرائيل للضفة الغربية عام 1967، استمرارَ المقاومة
واستمرار العرب والفلسطينيين بالمطالبة بالحقوق العربية في الأرض المحتلة،
ومن ورائهم الشرعية الدولية بقراراتها القديمة والجديدة؟!

بل لماذا لم يمنع احتلال إسرائيل لسيناء من خوض مصر لحرب كبرى لاستعادتها؟!

الإجابة واضحة وبسيطة. حقوقنا نحددها نحن وتحددها الأطر الشرعية التي
قبلناها، ولا تحددها إسرائيل ولا كل من يقف وراءها، حتى لو كنا أضعف من أن
نواجه الإسرائيليين ونفرض عليهم أن يعيدوا لنا هذه الحقوق. ولا فرق في ذلك
بين حقنا في الأراضي المحتلة عام 1948، أو تلك المحتلة عام 1967. ولا بين
أن يكون النظام الحاكم في الأردن نظاما وظيفيا كنظام الملك حسين، أو أن
يكون نظاما وطنيا مستقلا ثوريا، لو كان نظام الملك حسين قد سقط عام 1970.

إن هناك فرقا كبيرا بين تَكَوُّن الحق من الناحية الأخلاقية والشرعية،
وتكوُّنه من الناحية السياسية. فإذا تَكَوَّن الحق على الأسس الأخلاقية
والشرعية، فلا تملك السياسات في ذاتها تغييرَه وإسقاطَه، إلا إذا قبل
أصحابُه وأصحاب السلطة الأخلاقية والشرعية فيه بأن يغيروه ويسقطوه استجابة
لموازين القوى السياسية. أما إذا رفض هؤلاء ذلك، فإن كل سياسات العالم لن
تزحزح الحقوق المشروعة قيد أنملة، حتى لو تأخر تجسيدها على أرض الواقع مئات
السنين.

إن كل ما فعلته فرنسا في الجزائر على مدى 130 عاما من أبشع أنواع الاستعمار
والإبادة الفردية والجماعية، لجعلها قطعة من فرنسا ثقافيا وجغرافيا
وديمغرافيا، لم يحل دون استقلال الجزائر عندما آن أوان ذلك موضوعيا، مادام
الحق الأخلاقي والشرعي للجزائريين في بلادهم لم يُلغَ أبدا رغم كل نتائج
السياسة الفرنسية التي تحركت في ظل الضعف والتراجع والعجز الجزائري على مدى
قرن وثلاثين سنة.

فإذا كنا نريد أن نعتبر سقوط نظام الملك حسين دليلا على ضياع فلسطين
والأردن، فلأننا نريد أن نفعل ذلك، وليس لأن إسرائيل تريد ذلك، فهي لا
تستطيعه مهما كانت قوتها ومهما كان ضعفنا مادمنا نرفضه، ومادامت الشرعية
التي نستند إليها ترفضه. وإذن فإسرائيل لا تستطيع أن تفرض علينا أسطورة
اسمها “الوطن البديل” إذا كنا نرفض هذه الأسطورة. أسطورة الوطن البديل
يمكنها أن تتحول إلى حقيقة إذا أرادها الفلسطينيون والأردنيون أن تصبح
حقيقة، وليس إذا دعا إليها ونادى بها وسعى إليها الإسرائيليون.

ومن هنا فإن الهرطقة السياسية التي ابتدعها “عدنان أبو عودة” لتصبح إنجيل
“الوظيفية” و”القطرية” في الأردن منذ اخْتُلِقَت تلك الأسطورة وحتى الآن،
وهي الخوف على الأردن من فلسطين، والتوجس على مستقبل “الهوية الأردنية” من
أيِّ حراك يدمج الأردنيين من أصل فلسطيني في أيِّ مشروع سياسي وطني تغييري،
يعيد إنتاج الأردن على قواعد الحرية والعدالة ومحاربة الفساد والتحرر من
الارتهان واستعادة الدور القومي للهوية الأردنية، هي نموذج صارخ للإمعان في
لعبة “لوغو الهويات”، كي يبقى الأمر على ما هو عليه، سواء على الصعيد
الأردني الداخلي، أو على صعيد القضية الفلسطينية.

في تلك الظروف الحرجة والملتبسة من عقد الستينيات تخلَّقت أسطورة “الوطن
البديل” كحاضنةٍ لإعادة تفريخ “الهوية الأردنية” القطرية الوظيفية تحت
حماية نظام الملك حسين، لتصبح مع الأيام وحتى الآن، هي الحاضنة التي يتم
اللجوء إليها كلما أُريدَ تمرير مشروع سياسي يتعلق بالقضية الفلسطينية،
يعلم الجميع أنه لن يحظى بالموافقة من قبل الشعوب. أو كلما أريدَ للشعب
الأردني أن يشعرَ بالفزع على هويته ومصيره مما راح يروَّج لكونه مؤامرة
أطلق عليها “الوطن البديل”، مع أيِّ تحرك داخل الأردن يعمل على إعادة إنتاج
الدولة الأردنية على قواعد المواطنة، التي من شأنها وحدها أن تعيد له
حريتَه وكرامتَه وثرواتِه ومواردِه وحقوقه الطبيعية، التي أهدرتها سنواتٌ
عجافٌ من حكم دولة “القبيلة” و”العشيرة” و”الحمولة” و”الشيخ” و”المختار”،
على قواعد ثقافةِ “عصبيةٍ” لم تبق في هذا البلد من الخير والحق والعدل
والحرية ولم تَذَرْ، منذ عام 1970 وحتى الآن.

إنها الأسطورة التي تريد أن تقول للأردنيين، أن مصيرَهم ومستقبلَهم ليس
بأيديهم، بل هو بأيدي إسرائيل التي إذا قررت أن يكون الأردن وطنا بديلا
للفلسطينيين فسيكون، حتى لو رفضوا هم ذلك، ما لم يلتزموا بمتطلبات الحيلوبة
دون أن يصبح “الأردن هو فلسطين وفلسطين ليست هي فلسطين”، مثلما صرح “عدنان
أبو عودة” وهو يؤدلج لواقعة انضمامه إلى القلة القليلة التي حافظت على
النظام الأردني من السقوط قبل أكثر من أربعين عاما.

أما متطلبات الحيلولة هذه فهي الاقتناع بأن مقاومة هذا “المشروع
الإسرائيلي” لا تتأتى إلا بتنازل الأردنيين عن أهم حقوقهم لأولئك المفسدين
والمتجبرين والمتغولين عليها، لأنهم وحدهم من سيحافظ لهم على تلك الهوية.
وكأنهم أمام واحد من خيارين، فإما حريتهم وحقوقهم على حساب هويتهم، وإما
هويتهم بتنازلهم عن حريتهم وحقوقهم. إنها المعادلة التي كرستها دولة
“القبيلة” و”الحمولة” بمَلِكِها الذي راح يتلون بألوان “شيوخ القبائل” حينا
و”مخاتير الحارات والحمائل” حينا آخر، مرسِّخَةً أيديولوجية الهوان والذل
والتخاذل والارتزاق بأبشع معانيها، “حريتكم ومواردكم أيها الأردنيون هي
الجزية التي يجب أن تدفعوها لسدنة القبيلة ثمنا للحفاظ على هويتكم”، إن
كانت لهذه الهوية في سياقها المُحافَظِ عليه هذا أيُّ معاني أو دلالات أو
أهمية أصلا.

قرار فك الارتباط جاء في سياقِ مستوىً جديد من مستويات لعبة “لوغو
الهويات”، وُظِّفَت له أسطورة “الوطن البديل” التي كان النظام قد أسس لها
في الفترة 1968 – 1970، عبْرَ الهرطقات السياسية لعدنان أبو عودة مُخرج
ومهندس الأيديولوجيا التي استعاد بها النظام شرعيته من قلب لحظات احتضاره.