"الهوية الأردنية" ومثلها "الهوية الفلسطينية"، ليس بالضرورة أن تكونا شرا على نحوٍ دائمٍ ومتواصل بالنسبة للشعبين الأردني والفلسطيني، كما أنهما ليس بالضرورة أن تكونا خيرا بالنسبة لهما، وعلى نحو دائم ومتواصل أيضا. وإن كانتا – من حيث المبدإ – شرا مارسه صانعو الهويتين والمتآمرون مع صانعيهما – اتفاقية سايكس بيكو، وإعلان بلفور، وصكا الانتدابين البريطاني والفرنسي على إقليم سوريا الكبرى، والوظيفية الناتجة عن هؤلاء الصانعين والمتآمرين، والانقلابيون الهاشميون الذين مهدوا الطريق لكلِّ ذلك – ليصبح الواقع محكوما بتداعيات ظهورهما، أي بتداعيات ظهور هاتين الهويتين.فهل يكمن الصواب – بسبب عنصر الشر المتجسِّد في تأسيس هاتين الهويتين وظهورهما – في رفض هذين الوجودين وهاتين الهويتين – "الأردن" و"فلسطين" و"الهوية الأردنية" و"الهوية الفلسطينية" – كي نعيد الأمورَ إلى نصابها والعدالة إلى مجاريها، أم نستند إلى الأمر الواقع القائم، لجعله واقعا خادما للعدالة والحرية والوحدة والنهضة؟!
لقد قرأت أعظم نص في العالم يضع الرؤية العلمية والإنسانية والتاريخية الأخلاقية لمعضلة الهويات، وحاولت أن "أتفيهق" و"أنظِّر" و"أتفلسف" و"أضيف" و"أتذاكى" على هذا النص، فوجدتني حيثما شطحت، فأنا كائن في داخل فضاءاته.
هذا النص هو قول الله عز وجل في سورة الحجرات من القرآن الكريم.. "إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
هل تعرفون أين تكمن مظاهر عظمة هذا النص الجامع الشامل؟!
إنها تكمن في التالي..
* التفريق بين الخلق و"الجَعل".. فبينما الإنسان مخلوق، فالهويات بمختلف أنواعها وأشكالها غير الاختيارية "مجعولة"، و"الجُعْلِيَّة" هي سيرورة تطورية خارج نطاق الفعل الإلهي التكويني المسبق والمباشر، أي أنه يحيلنا في فهم الظاهرة إلى التاريخ والتطور، وإلى حيثيات الواقع الموضوعي، ولا يطلب منا معاداتها، لأن ما كان نتاجا للتطور، حتى لو كان بُنِيَ على شر في الماضي، فبحكم كونه نتاجَ سيروره، فتعديله وإعادة إنتاجه ليتحول إلى خير، أمرٌ ممكن بل مطلوب.
* أهم مظهر من مظاهر عدم معاداة هذه الظاهرة التاريخية الصانعة لجانب مهم من جوانب "أنانا" وهوياتنا اللاإختارية، هو "التعارف" وليس "التنافر" والتنابز"، والتعارف قيمةٌ أساس تستدعي كلَّ قيم السلام والأمان والمحبة وحسن الجوار وعدم الاقتتال.. إلخ.
* وفي نهاية الأمر فإن هناك معيارا مهما وأساسيا للحكم على العلاقات الناتجة عن هذه الظاهرة "الجُعلية" التي هي مُكَوِّن الهوية في سياقها المجتمعي التاريخي، ألا وهو معيار"التقوى" في سياقها الإنساني العام. فالنص لم يطلب من أحد أن يكون مسلما أو على دين معين، كي يكون ممن تنطبق عليه صفة "أتقاكم"، فهو تحدَّث عن البشر الذين خلقهم من "ذكر وأنثى"، وتحدث عنهم حين قال أنه جعلهم "شعوبا وقبائل"، ولم يكن يعني أحدا غيرهم عندما قال "لتعارفوا"، وبالتالي فهو يتحدث عنهم حتما، حين جعل معيار التفريق بينهم هو "التقوي"، أي أن التقوى لها مقياسا إنسانيا بعيدا عن القضايا الدينية الضيقة والخاصة، هو قطعا المقياس الذي يقرأ القيم في سياقها الإنساني العام.
فهل نستطيع التعامل مع هوياتنا ومُكَوِّنات أنانا الموروثة واللاإختيارية بهذه الروح الإنسانية؟!
في ظل جدل الهوية في الأردن وما يفترض فعلُه لحسمه على نحوٍ منتجٍ وفعالٍ، نجد أنفسَنا مدفوعين بادئَ ذي بدء، إلى التأكيد على أن "الهوية" مفهومٌ لا يقوم بذاته، ولا يتكوَّن بمعزلٍ عن محيطه الثقافي والسياسي والقانوني، ولا عن سياقه التاريخي، ولا عن مضامينه التنموية والنهضوية والتحررية، بل هو مرتبط بكلِّ ذلك ارتباطَ تشَكُّلٍ وتكوُّن وسيرورةٍ وتطورٍ ونماء. فلا توجد "هوية أردنية" معزولة عن واقعة أن "فلسطين شأن أردني وطني"، ولا وجود لـ "هوية فلسطينية" منفصلة عن حقيقة أن التغيير الحقيقي في الأردن نحو اللاوظيفية، هو الطريق نحو تجسيد تلك الهوية على أرض الواقع، وبالتالي فهذا التغيير "شأن فلسطيني وطني" أيضا.
فلا المواطن الأردني على الأرض الأردنية، يُعتبر متدخلا في الشأن الفلسطيني بأيٍّ من مُكَوِّناته وعناصره، عندما يتعامل مع هذا الشأن باعتباره شأنا أردنيا خالصا، كما هو شأن الدعوة إلى تقليص صلاحيات الملك، أو محاربة الفساد، أو إعادة هيكلة دائرة المخابرات العامة، أو تعديل قانون الانتخاب وقبله الدستور. ولا المواطن الفلسطيني في الأرض المحتلة، يُعتبر متدخلا في الشأن الأردني بأيٍّ من مًكَوِّناته وعناصره، عندما يتعامل مع هذا الشأن باعتباره شأنا فلسطينيا خالصا، كما هن شأن مقاومة الاحتلال، والدعوة إلى اتتفاضة جديدة.. إلخ.
ومن هنا فإننا عندما نتحدث عن "الهوية الأردنية" أو عن "الهوية الفلسطينية"، لا يحق لنا الانطلاق من واقع أنهما هويتان مقدستان، ومن أن تجسيدَهما أو أيٍّ منهما يكتسي الأولوية على غيره، ويتَّسِم بالدلالة الوطنية دائما، أو أن ذلك التجسيد مسألة معلقة في الفراغ يمكنها أن تتم بذاتها ولذاتها بعيدا عن دلالات التغيير والتحرير فيه – أي في ذلك التجسيد – لأنهما بالفعل ليستا كذلك. فلا توجد "هوية أردنية" تعتبر أساسا ومرجعا يُبْنى عليه فيما يتعلق بقضايا الأردنيين، كما لا توجد "هوية فلسطينية" بالاعتبار نفسه فيما يتعلق بقضايا الفلسطينيين.
لم يتقن النظام الوظيفي الأردني عبر تاريخه منذ تأسيسه وحتى الآن، ممارسةَ فعلٍ وظيفِيِّ المضمون، كما أتقن التلاعب بالهويتين "الأردنية" و"الفلسطينية"، في إطار ما يمكننا أن نطلقَ عليه "لعبة لوغو الهويات"، وذلك تشبيها منا لتلك اللعبة بلعبة "اللوغو" الشهيرة، القائمة على تبديل مواقع قطع اللعبة أثناء التركيب، كلما شئنا أن ننتج من عملية التركيب لعبة تختلف عن سابقاتها. وهو إذ اعتمد على لعبة "لوغو الهويات" لتمرير وظيفيته على مدى كامل عمره، فلأن هذه اللعبة ومُخرجاتها الثقافية ومن ثم السياسية والثقافية، كانت وما تزال وستبقى – إن نجح في الحفاظ عليها أداةً يمارس بها السياسة – هي الحاضنة لكل مُكَوِّنات وظيفيته.
فعندما لا يتمكن النظام من أداء دوره الوظيفي المنوط به إلا بتركيب الهويات بالشكل "أ" فوق و"ب" تحت، فإنه كان يركبها بالشكل "أ" فوق و"ب" تحت، وعندما كان يضطر لتغيير نمط تركيب الهويات ليمارس دورَه الوظيفي إذا أصبح التركيب السابق غير منتج ولا فعال على صعيد الوظيفية، فإنه كان يلجأ بلا أدنى تحفظ إلى إعادة إنتاج الواقع ومُكوناته وثقافته وحراكه، بما يساعد على تمرير التركيب الجديد، حتى لو كان هذا التركيب هو "ب" فوق و"أ" تحت.
إن "الهوية الفلسطينية" التي كان تغييبها مؤامرةً في عام 1948، أصبح إظهارها لتقسيم الهوية الأردنية الموَحِدة والثائرة والمتناقضة مع النظام الوظيفي، هو المؤامرة، مادام هذا الإظهار قد جاء وتحقَّق في ظروفٍ خدمت المشروع القُطْري الوظيفي، وحمت النظام المجسِّد له، وخلقت كلَّ أسباب التنابز والتناقض العصبي بين أبناء الهوية الواحدة التي وَحَّدَت الجميع في مواجهة النظام والمشروع الصهيوني، دونما أيِّ قلق لا من الشرق أردنيين ولا من الفلسطينيين بشأن الهويات منذ عام 1948 ولغاية نهاية عام 1968.
لقد أصبحت الفترة من نهاية 1968 وحتى نهاية 1970، هي المرحلة التي تمكَّن النظام بالتآمر المذكور، وقادة المقاومة بالوقوع في فخ ذلك التآمر ابتداءً – بعد أن ابتلعوا الطعم الموقِعَ في شراكه، ليصبحوا جزءا من المؤامرة لاحقا بعد أن تحولوا إلى أشد المدافعين عن عناصر المؤامرة – من أن يُعِدوا الساحة لتهدم في أقل من سنتين، كل ما تم بناؤه في الفترة 1948 – 1968، أي في عشرين عاما.
وإذن فإن "الهوية الفلسطينية" التي كانت مقدسة ووطنية الدلالة عام 1948، لأن عدم تجسَّدها آنذاك بسبب التآمر عليها، حال بينها وبين تحقيقها لمشروع وطني حقيقي بإمكانه أن ينجزَ مشروع "التغيير" و"التحرير" في ظروف تلك الفترة، أصبحت بعد عام 1968 هوية غير مقدسة ولا تختلف في وظيفيتها عن وظيفية الهوية الأردنية عام 1948 عندما تآمر ممثل هذه الأخيرة عليها.
وبالمثل فإن "الهوية الأردنية" التي كانت وظيفية في العام 1948، والتي ما تمَّ تغييب "الهوية الفلسطينية" تحت عنوانها إلا لتغرقها معها في الوظيفية، أصبحت بعد ذلك العام وحتى عام 1968 هوية غير وظيفية ومقدسة ووطنية المضمون، لأنها اضطلعت بالمهمة نفسها التي حرمت من الاضطلاع بها الهوية الفلسطينية عام 1948، وكانت هوية قد بدأت بالفعل في إنجاز مشروع "التغيير والتحرير".
وبنجاح مؤامرة النظام المتفاعلة مع أجندة المقاومة، عندما بدأت هذه الأخيرة تنحرف عن بوصلة "التغيير" و"التحرير" بعد عام 1968، وهي الأجندة المنحرِفة القائمة على تقديم الهوية على التحرير، عادت الأمور لا إلى وضعها الطبيعي الذي كانت عليه عام 1948، بوظيفية أردنية ولاوظيفية فلسطينية، بل هي قد عادت إلى ما هو أسوأ من ذلك، بأن أنتجت تلك اللعبة في تلك المرحلة من لعبة لوغو الهويات، هويتين وظيفيتين، ونظامين وظيفيين، هما "الهوية الأردنية" و"الهوية الفلسطينية"، و"النظام الأردني" و"النظام الفلسطيني" الذي مثلته الثورة منذ أن أصبحت فلسطينية وتخلت عن أردنيتها.
ولكن لماذا لا يمكننا اعتبار أن الثورة بعد أن أصبحت فلسطينية وتتحدث باسم هوية فلسطينية وتحديدا بعد أيلول.. لماذا لا يمكن اعتبارها مشروعَ تحريٍر حقيقي، واعتبارها مجرد مشروعِ تأسيس لنظام وظيفي عربي جديد هو النظام الفلسطيني؟!
إن الإجابة واضحة..
فالثورة كانت تمثل مقدمة لمشروع تحرير حقيقي عندما كانت تملك "الديمغرافيا الثائرة" و"الجغرافيا الآمنة للثورة"، وهو ما كان متحققا في الفترة التي كانت فيها تلك الثورة "أردنية الهوية" ديمغرافيا وجغرافيا. ولكن عندما أصبحت "فلسطينية الهوية"، فإن هذه الفلسطينية ارتبطت بخسران الديمغرافيا والجغرافيا. أي بفقدان عنصري التحرير الفاعلين والأساسيين، فكيف يمكن اعتبارها مشروعَ تحرير؟!
فأيُّ مشروع تحريرٍ هذا الذي يقوم بدون ديمغرافيا متجسِّدة على جغرافيا؟!
وأيضا، وبما أن ذلك الخسران الفظيع للجغرافيا والديمغرافيا حدث من خلال أيديولوجية ضحت بالديمغرافيا والجغرافيا الأردنيتين للثورة كمشروع تحرير، لحساب مشروع "هوية قطرية" جديدة فاقدة لكل عناصر التجَسُّد، فما كان بالإمكان اعتبارها أمرا آخر غير كونها نظاما عربيا وظيفيا جديدا هو النظام الفلسطيني، الذي تتجلى أبشع عناصر وظيفيته في افتقاره إلى أيِّ عنصر من عناصر السيادة الحقيقية التي تمكنه من أن يدعى أيِّ قدرة على التمرُّد على وظيفيته هذه!!
النظام الوظيفي الأردني الذي كان همُّه من لعبة لوغو الهويات، أن يُفقِدَ مشروع التحرير الذي جسَّدته الثورة حتى نهاية عام 1968 كلَّ عناصر قوته وديمومته، عبر تفريغه ابتداءً من كلِّ مضامين التغيير المنطواة فيه بالضرورة بصفته مشروعَ تحرير، ما أن نجح في استعادة "الهوية الفلسطينية" من برزخها الذي سكنته منذ عام 1948، ومنحَها الثورة التي حرَّر منها "الهوية الأردنية" فاستعاد شرعية حمايتها وتمثيلها – أي شرعية حماية وتمثيل "الهوية الأردنية" – بعد أن كانت هذه الهوية ذاتها هي التي تكاد تلفظه، لأنه لم يعد يمثلها بثوريتها وبمشروع تحريرها الجديد في الفترة 1965 – 1968..
نقول.. إن هذا النظام الوظيفي وما أن نجح في تمرير مؤامرته تلك، وضَمِنَ أن الجغرافيا والديمغرافيا الأردنيتين أصبحتا بمنأى عن الثورة، حتى عاد إلى لعبة اللوغو إياها.
فقبل أن ينقضي عام على أحداث جرش عام 1971، طرح النظام مشروعَ "المملكة العربية المتحدة" الذي كان يهدف من جديد إلى ابتلاع "الهوية الفلسطينية"، التي كان هو من دفع باتجاه استعادتها وتجسيدها في خضِمِّ المعركة بين "ثورة الأردنيين" وبينه، رغم أنها لم تتجسَّد إلا في الوهم، كي يبتلعَ ثورتها التي تم تشريدها إلى لبنان، وذلك بغرض إقحامهما، أي "الهوية" و"الثورة" في متاهات التسويات منذ وقت مبكر، ويفقدهما بالتالي كل إمكانات إعادة إنتاج الفعل الثوري سواء خارج الأردن أو داخله.
ومع أن مؤتمر الرباط أقرَّ بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين، في أخطر كارثة ألمت بالفعل الثوري في تصورنا، عندما تمَّ التأكيد على أن هذا الفعلَ هو مجرد فعل فلسطيني لا شأن للعرب به خارج نطاق الدعم والمساندة عن بعد، وعلى أنه فعل يجسِّد نظاما عربيا جديدا لا يختلف عن الأنظمة العربية التي أنتجته وأقرت بشرعيته، فتم تقييد كل فعله وحراكه في عنق زجاجة متطلبات هذه الشرعية الجديدة..
نقول.. رغم ما حدث في مؤتمر الرباط، إلا أن النظام الوظيفي الأردني لم يعترف بذلك ورفض التجاوب معه، لأنه لم يكن في واقع الأمر معنيا باستقلالية الهوية الفلسطينية إلا في سياق جعل هذه الاستقلالية المدَّعاة والموهومة تساعده على استعادة نفسه وشرعية تمثيله للأردنيين، بعد أن كاد يفقد هذه الشرعية بثورة الأردنيين في الفترة 1965 – 1968.
وبالتالي فبعد أن تحقق له ذلك، فسوف لن يجد أيَّ غضاضة في الاستمرار في محاولاته استرجاع الفلسطينيين إلى حضنه بأيِّ طريقة إن استطاع، كي يضمن سيادته على الديمغرافيا وتلجيم الفعل الثوري نفسه، فضلا عن الإبقاء على شرعية سيادته على الجغرافيا المحتلة عام 1967، انطلاقا من وهمٍ مفاده أن "الكيان الإسرائيلي" قد ينسحب من الأراضي التي احتلها، بفعل الضغوطات الدولية والنضال الدبلوماسي.
وقد تجلت محاولات النظام في هذا الاتجاه مرة أخرى في مشروع الكونفدرالية عام 1984 بعد أن فشل مشروع المملكة المتحدة عام 1972. ولما فشل مشروع الكونفدرالية نفسه كآخر محاولة للنظام الوظيفي في محاصرة الثورة واستعادة تمثيل الفلسطينيين، كان لابد من التفكير على نحو مختلف تجلى هذه المرة في اللجوء إلى "الخيار الإسرائيلي". فما هو الخيار الإسرائيلي؟!
وظيفية "النظام الأردني" تلتقي بشكل كامل مع وظيفية "المشروع الصهيوني" في ضرورة عدم السماح لمشروع النظام الوظيفي الفلسطيني الجديد بأن يتحرر من وظيفيته ويعيد إنتاج ثوريته، خاصة وأنه رغم وظيفيته، ورغم تكبيل نفسه بمقررات مؤتمر الرباط، ورغم.. ورغم.. كان ما يزال يملك بعض عناصر استعادة المبادرة على الصعيد الجماهيري العربي، لو فكرت قيادات الثورة على نحو غير وظيفي، ولو أنها تحررت ولو للحظة من الانطلاق في أيديولوجيتها ما بعد أيلول من أولوية الهوية على التحرير.
هذه الأولوية المقلوبة التي جعلتها تعتبر البندقية أداة للاعتراف بالهوية وليس أداة للحصول على الأرض، دون أن تعي أن الهوية بلا أرض وهم، وإن اعترف بها كل العالم، وهذا هو مع الأسف حال "الهوية الفلسطينية". بينما الأرض حتى لو لم يعترف لك بها أحد، فهي حقيقة ملموسة تُصنع بها الهويات وتُرسم بها الخرائط، كما هو مع الأسف أيضا حال "الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية".
إن التقاء الوظيفيتين الأردنية والصهيونية على هذا الهدف جعلهما تتقاسمان أو تتبادلان الأدوار في أداء ما من شأنهما تحقيقه. فمنذ أن خرجت الثورة من الأردن بردائها الفلسطيني نازعة عنها رداء أردنيتها، مُحْيِيَةً الوظيفية الأردنية من جديد إلى جانب وظيفية فلسطينية ممعنة في وظيفيتها وممعنة في قدرتها على شرعنة كلِّ الوظيفيات العربية، كان التوافق الضمني بين الوظيفيتين الأردنية والصهيونية، على أن يبذل الملك حسين كل ما في وسعه لتحقيق ذلك الهدف سياسيا وفي الأردن، فيما تقوم إسرائيل بالواجب في لبنان بمساعدة ضمنيه من باقي أضلع الوظيفية العربية التي تجسَّد دورها في التدخل السوري في لبنان عام 1976.
وعندما استنزف النظام الأردني كلَّ إمكاناته وفشل في مهمته، وبعد أن أصبحت المقاومة تعاني من تشرد جديد بعد خروجها من لبنان عام 1982، ما جعلها تفقد كلَّ البوصلات الفاعلة في مسيرتها منذ تلك الفترة، فقد بدا واضحا أن المهمة في مرحلة ما بعد عام 1984 أصبحت تقع على كاهل إسرائيل لتحقيق ما عجز عن تحقيقه النظام في عمان منذ عام 1970، أي أن مصير ومستقبل الثورة، أو بتعبير أدق مصير "النظام الوظيفي الفلسطيني" الذي كانت تُعَبِّر عنه الثورة، يجب أن يُرَحَّل التعامل معه من الخيار الأردني إلى الخيار الإسرائيلي.
ومع أن إسرائيل ومعها باقي الوظيفيات العربية كانت تدفع بهدوء وروية إلى هذا الخيار الإسرائيلي بهدف الزج بما تبقى من جسمٍ هشٍّ للنظام الفلسطيني إلى داخل الأرض المحتلة ليلقى حتفه ومصيره هناك بين أنياب الكيان الصهيوني وشرايين مستوطناته، إلا أن الانتفاضة الأولى وما أحدثته من انقلاب في الأحداث، أصبح يهدد بإمكانية استعادة النظام الفلسطيني الوظيفي الرابض خارج الأرض المحتلة لعناصر إعادة إنتاج انطلاقته الثورية الجديدة بموجب تطورات وتداعيات الانتفاضة، لو أن قادة الثورة غيروا إستراتيجياتهم وقرروا العودة إلى إعطاء الأولوية لمشروعي التغيير والتحرير على حساب أولوية مشروع الهوية.. نقول.. إن ما أحدثته الانتفاضة الأولى من إرهاصات تغييرية خطيرة مرتقبة، هي أمورٌ دفعت إلى الاستعجال في تنفيذ الخيار الإسرائيلي.
وإذا كان الوهم الرابض في خيالات قادة النظام الفلسطيني بإمكانية تحرير الضفة الغربية وإقامة الدولة الفلسطينية فيها، عبر الرهان على إمكانية تحقيق مشروع هوية تتبرع بها إسرائيل تحت ضغط الانتفاضة، ساعد على إنجاح كل الوظيفيات في تنفيذ "الخيار الإسرائيلي"، فإن الانتفاضة ذاتها جعلت إسرائيل نفسها تتجاوب مع عنصر العجلة، بهدف القضاء عليها قبل أن تنجح في إحداث المحظور والمحذور.
في هذا السياق الجديد من سياقات لعبة لوغو الهويات والقائم على "تآمر وظيفي أردني"، وعلى "وهم قُطْري فلسطيني"، جاء قرار فك الارتباط الذي هندسه "عدنان أبو عودة" باعترافه الصريح. وبالتالي ففي هذا السياق ولأجل الأسباب إياها، جاءت كلُّ المرجعيات التي بنيت عليه، بدءا من مدريد ومرورا بأوسلو وانتهاء بوادي عربة، وقبلها برنامج التصحيح وكل سياسات الخصخصة الكارثية، وبعدها تفاهمات واشنطون والنكوص حتى عن هوامش الإصلاح الهزيلة التي كانت قد بدأت نهاية عام 1989.
أي أن آخر حلقة من حلقات لعبة لوغو الهويات كانت هي تنازل النظام الوظيفي الأردني الكامل عن الضفة الغربية لنحر معالم وبوادر "مشروع التغيير والتحرير الثاني" الذي أشَّرت عليه الانتفاضة الأولى، بعد القضاء على "مشروع التغيير والتحرير الأول" الذي جسَّدته المقاومة في الفترة 1965 – 1968.
والخلاصة هي أن الهويتين الأردنية والفلسطينية، لا قيمة لهما في ذاتهما لا على صعيد دلالاتهما على الواقع، ولا عند صانعيهما إلا بقدر ما يخدمان المشروع الوظيفي ويحققان أهدافه. في حين نجح هؤلاء الصانعون والوظيفيون في جعل الهويتين لدى الشعبين ونخبهما مقدسات تهون دونها ذُرى الجبال.
والتلاعب بالهوية الفلسطينية، تغييبا أو تجسيدا، ثم محاولاتِ تغييبٍ ثم إيهاما بتجسيد، ما هو إلا تجسيد ماكر للعبة لوغو الهويات، الهدف منه هو الحيلولة دون إنجاح "مشروع التحرير" على صعيد الأرض المحتلة، عبر إفشال "مشروع التغيير" على الصعيد الأردني.
إن هذين المشروعين – "التغيير" و"التحرير" – في قيام الثاني على الأول قيام وجود، وفي انطواء الأول على الثاني انطواء حتمية وضرورة، يعتبران بوصلة الحقيقة في أيِّ فعل وطني أردني أو فلسطيني. منهما تبدأ كل المشاريع الإصلاحية، وبهما تتكامل وتتجسَّد، وبهما ومنهما تنطلق كل مشاريع الهوية وتتكامل وتتجسَد. وأيُّما مشروع للإصلاح أو للتغيير أو لحسم جدل الهويات سواء في الأردن أو في فلسطين، لا يقوم عليهما ولا ينطلق منهما، هو مشروع فاشل ومنقوص، يقوم على سياسة تعميق الأزمات عبر ترحيلها الأبدي.
ومن هنا فإن علينا أن ندرك حقيقةً غاية في الأهمية تُعتبر بمثابة القاعدة الأساس في التعامل مع المشاريع والبرامج المطروحة للتعاطي مع الشأنين الأردني والفلسطيني، وهي أن التغيير والتحرير هما الطريق الوحيد لتجسيد الهوية الفلسطينية وليس العكس، فأيما وضع للهويات يخدم هذه الحقيقة الإستراتيجية فهو الأصل، وبه نأخذ ولا نبالي.
ولأن قرار فك الارتباط قام على مؤامرة تشبه شكلا ومضمونا كلَّ المؤامرات التاريخية التي هدفت إلى تغييب "مشروع التحرير" و"مشروع التغيير"، بصرف النظر عن واقع الهويات الذي يساعد على تغييبهما، فما لا شك فيه أن العودة عن هذا القرار بكل التداعيات المطلوبة لهذه العودة، يعتبر بداية الطريق نحو حلِّ أزمة الهوية في الأردن، وبالتالي نحو إنجاز مشروعي التغيير والتحرير المترابطين. إن أي واقع للهويات يعرقل مشروع التغيير في الأردن هو قطعا واقع يعرقل مشروع التحرير، وبالتالي يعرقل مشروع تجسيد الهوية الفلسطينية، وهو من هنا واقع هويات لا قيمة له.
من كلِّ ما سبق وبالبناء عليه، فإننا نطرح في مشروعنا هذا، البرنامج التالي بوصفه من وجهة نظرنا، الحل الحقيقي لمعضلة الهوية المختَلَقَة في الأردن، والنهج المفترض لإحداث التغيير المطلوب في النهج السياسي فيه، بوصف ذلك مقدمة ضرورية للتأسيس لمشروع التحرير الذي يجب أن يكون جزءا من مُكونات مشروع التغيير ومنطوى في الإستراتيجيات التي يقوم عليها هذا المشروع أصلا، وإلا فإن التغيير لن يحدث، ووظيفية النظام ستستفحل، وتبعية الدولة ستتفاقم، وفكرة الوطن الأردني ستتراجع، والفقر سيزداد، والبطالة ستعم، والكارثة ستحاصرنا من كل جانب، لنصحو ذات يوم والصهيونية تنتهكنا في عقر دارنا، في الشارع والحارة والزقاق، في المدرسة والمعمل والمزرعة، بل وحتى في كنائسنا ومساجدنا.
1 – الهويات بكل أنواعها بما في ذلك الوطنية منها، لا تتشكل بموقف عاطفي، ولا بكبسة زر، ولا هي تنتج بقرار قانوني أو سياسي. ومن يعتقد ذلك فهو معني بالتعمق أكثر في قراءة التاريخ والأنثربولوجيا وعلوم الاجتماع، كي يتحرر من هذا الوهم الذي أوجدته في ذهنه سنين من الحثِّ الهوياتي في كل مؤسسات التنشئة المجتمعية على المستويين الأردني والفلسطيني. الهويات هي نتاج سيرورة تاريخية تتداخل فيها عناصر كثيرة، "الديمغرافيا، الجغرافيا، الثقافة، التكامل التاريخي، المصالح، بُنية المجتمع الذي نتحدث عن هويته، الوضع السياسي، المكونات الإقليمية، الدين، الطبقات الاجتماعية، علاقات ووسائل وأنماط الإنتاج.. إلخ". ومن أراد أن يقنعنا بأن "الهوية الأردنية" أو "الهوية الفلسطينية" هي هويات حقيقية لشعبين حقيقيين هما "الشعب الأردني" والشعب الفلسطيني" بالمقومات القومية لهذه المفاهيم، فعليه أن يثبت لنا ذلك بقراءة التاريخ الذي نشأت وتأسست في ضوء حيثياته هذه الهويات، لا أن يعييَ نفسه في الحديث عن أشياء تقع خارج إطار القراءة التاريخية للمسألة. فليس في التباكي على نضالات الشعب الفلسطيني من أجل هويته ما من شأنه أن يقيم دليلا على أن هناك "هوية فلسطينية" بالمفهوم التاريخي للهويات، إذا استطعنا أن نثبت أن هذا النضال أُدْخِلَ في متاهات لعبة خطيرة وكارثية هي ما نسميه لعبة "لوغو الهويات". وهذا بند منهجي، يَخرج الحديث في موضوعنا عن أطره إذا لم يُلتزم به، ليغدوَ حديثا في موضوع آخر مختلف.
2 – الهويتان الأردنية والفلسطينية اللتان يتم الدفاع عنهما بشكل شوفيني من قبل فئات من أنصارهما الإقليميين، هما في ذاتهما بعيدا عن القضايا التي تثيرانها أو اللتان تتعلقان بها، سواء على الصعيد الجغرافي أو الديمغرافي، لم تتكونا بالشكل المشار إليه في البند "1" لا من قريب ولا من بعيد. بل هما نشأتا وتكونتا بقرارات سياسية فرضتها موازين قوي عسكرية لا يجادل فيها أحد. فالأردنيون لم يستشعروا ما يسميه أنصار "الهوية الأردنية"، "هويتَهم الأردنية" التي يتم الحديث عنها اليوم، في سياق تاريخي موضوعي يبرر نشأتها وتطورها، بل نظروا إلى خريطة فرضت عليهم، وأُخْبِروا بأن هذه الخريطة هي خريطة هوية اسمها "الهوية الأردنية"، وراح النظام يمارس بدعم استعماري كامل كلَّ ما من شأنه ترسيخ هذا الظاهرة المصطنعة على الأرض لاستخدامها في أداء دور وظيفي محدد، فكانت هذه الهوية المختلقة، هوية وظيفية بوظيفية النظام الذي استخدمها، محاولا خلق ما يسميه ثقافة أردنية، وتاريخ أردني، وخصوصية أردنية.. إلخ..
والأمر نفسه حدث للهوية الفلسطينية ولا فرق. ففلسطين "البلفورية" أو "السايكسبيكوية"، وهي مع الأسف فلسطين التي يتم الدفاع عن هويتها بشوفينية غير مسبوقة وبقداسة غير مفهومة، هي فلسطين بمفهومها التوراتي المشكوك في تاريخيته أصلا، ومصطلح فلسطين هو في الأساس مصطلح توراتي، اعتنقناه بتبنينا للرؤية التوراتية، مع أن هذا المصطلح لا يمكن قراءته بأيِّ شكل يتطابق مع الصيغة السايكسبيكوية. ولا أحد في الألفي سنة الأخيرة تحدث عن أو أشار إلى فلسطين الحالية بهذا الفهم وهذا المصطلح وبهذه الجغرافيا، ما ينفي وجود أرضية لهوية فلسطينية أصلا بهذا المعنى الضيق. ومن يراجع الماضي القريب متمثلا في التنظيمات الإدارية إبان الحكم العثماني حتى في آخر أيامه، سيكتشف أن أرض فلسطين والأردن كانتا شيئا آخر غير هذا الوهم الذي يدافع عنه أنصار الهويتين بطريقة مريبة وخطيرة. بل لعله كان الأجدى بتلك التقسيمات الإدارية أن تنتج لنا – إن قبلناها منبعا تاريخيا لإنتاج الهويات – فلسطينا وأردنا غير اللذين نعرفهما حاليا متجاورين وفق بعدي "الشرق والغرب"، ليكونا متجاورين وفق بعدي "الشمال والجنوب". "من يريد المزيد من التفاصيل بهذا الشأن، فليراجع لهذا الغرض وقائع التقسيمات الإدارية لإقليم سوريا الطبيعية إبان الحكم العثماني، ليعرف أن الكرك كانت جزءا من مسميي فلسطين والأردن الحاليين، وأن شمال فلسطين لم يكن ضمن هذا المسمى، بل كان ضمن مسميات أخرى لا علاقة لها لا بمسمى فلسطين ولا بمسمى الأردن لا جغرافيا ولا ديمغرافيا".
3 – وإذن، فلن نكون موضوعيين إذا لم نتعامل مع هذين المفهومين وهما "الهوية الأردنية" و"الهوية الفلسطينية" بشكلهما الراهن، منطلقين من هذه الحقائق الدامغة، محاولين جعل هذا التعامل يقوم على قواعد استخدامهما بالشكل الصحيح سياسيا وأيديولوجيا وقانونيا، لتفريغهما من الوظيفية التي استخدمتهما ولعبت بهما لتمرير المشاريع الاستعمارية والصهيونية في المنطقة. فإذا كانتا هويتين قد نشأتا في الأساس، وتم التلاعب بهما هنا أو هناك، من قبل هذا أو ذاك بما يكرِّس هذه الوظيفية، ويخدم هذه التبعية للمشروع الصهيوني الإمبريالي، فإن قيمتهما ليست ذاتية، ولا هي منطواة فيهما كنماذج معلقة في فراغ الوهم، بل هي نابعة من مدى قدرتنا على جعلهما تخيبان ظن مستخدميهما وظيفيا، بأن نعيد إنتاجَهما على الدوام بما يتناقض مع تلك الوظيفية، حتى لو تطلب الأمر صياغتهما بشكل مختلف عما خنقتنا به على مدى قرابة القرن كلُّ مؤسسات التنشئة الاجتماعية، لا لتخدم هويات وطنية على وجه الحقيقة، بقدر ما هو لخدمة أجندات وظيفية.
ولا يجوز لنا – بأي حال – أن نتباكي على ضحايا سقطوا في طريق رُسِمت بعض معالمه خطئا، لمجرد أنهم سقطوا وضحوا، ونقبل بالخطأ لمجرد أن دماء سقطت على الطريق إبان الوقوع فيه، إذا اكتشفنا أنه خطأ؟! هذا نهج في التعاطي عارٍ عن الأيديولوجيا، وعن السياسة، وعن المنطق، فما هكذا تُؤَصَّل الأمور وما هكذا يُؤَسَس لها فكريا!!!
وإلا فماذا نقول عن الضحايا الذين سقطوا في فلسطين خلال الانتداب البريطاني في ثورات كانت تروِّس لبياناتها بعنوان يتجاهله الجميع وهو "ثورة جنوب سوريا" دون أيِّ ذكر لفلسطين المتباكى على هويتها؟! ولماذا لا نعود بالتالي إلى تكريس وترسيخ الواقع الهوياتي الذي جسَّدته تلك الثورات والذي سقط لأجله هؤلاء الشهداء؟! "تراجع لهذا الغرض كتابات كثيرة، أهمها كتاب إيميل الغوري القيِّم بأجزائه الثلاثة "فلسطين عبر ستين عاما"..
4 – نذكِّر هنا بحديثٍ كررناه كثيرا، وهو أن التعامل مع الأمر الواقع الناشئ عن مؤامرة، ليس بالضرورة أن يكون منطويا على الشر نفسه الذي انطوت عليه المؤامرة ذاتها في حينها، إذا كنا مدركين لكيفية إعادة إنتاجه ثقافيا وسياسيا وقانونيا بالشكل الذي يُفَرِّغ المؤامرة من مضمونها، ويؤسِّس لمشروع وطني قد يعيد الأمور إلى نصابها، وإذا كان العمل على إسقاط المؤامرة برفض نتيجتها المباشرة والدعوة إلى تدميرها، يبدو كارثي النتائج.
مثلا.. نشأة الأردن كإمارة ثم كدولة، كانت نتيجة مؤامرة هي "سايكس بيكو" وتداعياتها المختلفة، التي ليس أقلها سوءا تحالف الانقلابيين الهاشميين مع صانعي تلك المؤامرة. ولقد كانت هذه المؤامرة ذات بعدين..
* بعد انفصالي عن الدولة الأم، وهي الدولة العثمانية، لأسباب أقل مدعاة للانفصال مما يعتبره الكثيرون اليوم جريمة لو فكر أحد بالدعوة إلى الانفصال لأجله. وهنا نتجاوز الحديث عن الكذبة الكبرى التي تريد إقناعنا بأن العرب اضطُهِدوا من قبل الأتراك بشكل كان يبرر توجههم نحو الانفصال القومي. "ولمزيد من التفاصيل بهذا الشأن يراجع كتاب "القومية والغزو الفكري لمؤلفه محمد جلال كشك"، لمعرفة أن فكرة الانفصال عن الدولة العثمانية كانت آنذاك مجرد واجهة عاطفية أصَّل لها الكثيرون أيديولوجيا لتبرير الوقوف إلى جانب المشروع البريطاني في مواجهة العثمانيين، بعد أن تم إفشال دعوة "جمال الدين الأفغاني" و"محمد عبده" و"محمد رشيد رضا" وغيرهم، إلى "الجامعة الإسلامية" التي كانت تؤسس لمواجهة حاسمة ونهائية مع الاستعمارين البريطاني والفرنسي، وكانت ستغير وجه العالم".
* بعد تفتيتي، وهو البعد الذي لم يقتصر على إنجاز هذا الانفصال الفاجع، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين فتَّت المنفصل وشظاَّه إلى كتل بشرية رسم لها حدودا وأسبغ عليها صفات "هويات قطرية"، كان "الأردن" واحدا منها وكانت "فلسطين" واحدة منها أيضا.
إن نشأة "الهوية الأردنية" بوظيفيتها النابعة من وظيفية النظام الذي استخدمها، كانت جراء مؤامرة. كما أن نشأة "الهوية الفلسطينية"، بالتبعية لظهور مفهوم فلسطين الذي قرره بلفور في إعلانه وسايكس وبيكو في اتفاقيتهما، نشأت جراء مؤامرة. فهل نرفضهما ونرفض التعاطي معهما، ونعاديهما دائما وأبدا وباستمرار من هذا المنطلق التآمري، ونطالب من ثم بتدميرهما وتدمير الأطر القانونية والسياسية التي نشأت عنهما، أم نؤَسِّس من خلال الاستناد إليهما كواقع موضوعي مفروض، لإعادة إنتاج دورهما التاريخي في سيرورة استعادة الوحدة القومية التي تمَّ تغييبها بمؤامرة إنشائهما وغيرهما من الهويات القطرية؟!
واستمرارا لتوضيح أبعاد هذه الفكرة، فإننا نؤكد على أن مؤتمر أريحا الذي وحَّد الضفتين، وقرار الحكومة المصرية بتولي شؤون قطاع غزة إداريا وتغييب حكومة عموم فلسطين التي قامت عليه بعد الاحتلال الصهيوني لفلسطين، هي مؤامرة لأنها غيبت ما كان من شأنه أن يؤسس من خلال الأمر الواقع لمشروع تحرير يعيد إنتاج المنطقة على أساس مواجهة المشروع الإمبريالي – الصهيوني مستعليا على فضاءات الهويات الضيقة كما خطط لها بلفور وسايكس وبيكو، أي أنه كان سيؤسس لهوية فلسطينية مقاومة وثائرة تمثل في حينها مقدمة التغيير والمواجهة والتحرير، لكنها في كل الأحوال لم تكن مؤامرة بحجم "سايكس بيكو" و"إعلان بلفور" و"تحالف الانقلابيين الهاشميين مع الاستعمار البريطاني".
ومع ذلك نجد البعض يقبل بمبدأ التعامل لإنجاز الهدف القومي المغيَّب من واقع التفتيت القطري، وهو الأمر الواقع الذي لم يعد يتجاوزه أحد أو يدعو للقفز عليه حتى وهو يدعو إلى الأممية وليس إلى القومية فقط. ويرعد ويزبد، وتثور ثائرته، ويستنهض كل الأكاذيب والادعاءات والبكائيات على وهم "الهوية الفلسطينية" أو "الهوية الأردنية"، عندما نطالبه بالتعامل بالمبدإ ذاته مع واقعة أن "هوية قطرية" لم تكن متجسدة بعد – هي الهوية الفلسطينية – قد غابت تحت عنوان هوية قطرية أخرى – هي الهوية الأردنية – كلاهما من حيث المبدأ باطل.
ولكن، وكما أن تلك المؤامرة الضخمة – سايكس بيكو وبلفور والانتداب – أنتجت واقعا جسَّد مردودا تآمريا، نجد أنفسَنا مضطرين إلى الاستناد إليه والانطلاق منه هو ذاته للعمل على إفشاله، عبر إعادة إنتاجه من جديد أيديولوجيا وسياسيا وثقافيا وقانونيا، بما يتناسب مع تصوراتنا وطموحاتنا القومية، انطلاقا من حقيقة أن إفشال أيِّ مؤامرة سياسية، إنما يتمثَّل في مردود سياسي على الأرض، ينطوي على تفريغ تلك المؤامرة من مردودها التآمري، دون الدعوة وبشكلٍ مباشر خلال عملية إعادة الإنتاج والتفريغ هاتين إلى تدمير الدول التي جسَّدت الهويات القطرية الضيقة التي تمثل ذلك المردود التآمري، بما يؤسس من ثمَّ لمشروع التحرير ومواجهة الوظيفية، بعيدا عن رؤية ذلك وكأنه كارثة أو خطأ أو اعترافا تاريخيا بنتائج المؤامرة متمثلة بالهويات القطرية الوظيفية التي أنتجتها على الأرض ومنحها الشرعية، رغم أنها هويات حطمت المشروع القومي..
نقول.. إننا ننظر إلى مؤامرة تغييب "الهوية الفلسطينية" تحت عنوان الهوية الأردنية التي كان يقودها النظام الوظيفي الأردني، بالطريقة نفسها التي نظرنا فيها إلى مؤامرة سايكسبيكو وتداعياتها، مع أنها مؤامرة لم تحطِّم مشروعا قوميا، بل غيبت هوية قطرية في خطوة وحدوية في شكلها، ما يجعلها أقل خطورة وأقل إضرارا بالطموح القومي الوحدوي، وبالمشروع النهضوي التحرري ككل، من نتائج المؤامرة الأولى.
ولعل هذا هو ما تحقق فعلا على أرض الواقع، مُحَوِّلا الهوية الأردنية الجديدة التي هي هوية "المملكة الأردنية الهاشمية"، بعد التلاقح الناتج عن تغييب "الهوية الفلسطينية" فيها، من هوية كانت تخضع لوظيفية النظام، إلى هوية ثائرة وتقدمية أصبحت تخضع في قيادتها وفي توجهاتها، للقوى الوطنية التقدمية في الفترة "1952 – 1957"، وللثورة والمقاومة في الفترة "1965 – 1968".
5 – ولأننا لا نرى في القفز على الهويتين الأردنية والفلسطينية فعلا مؤسَّسا سياسيا وأيديولوجيا، فإننا – من وجهة نظرنا – نعتبر أننا معنيون بالاستناد إلى الأمر الواقع الذي تعبران عنه لإعادة إنتاج دورهما التاريخي في سياق مواجهة المشروع الإمبريالي – الصهيوني في المنطقة، بل ربما على الصعيد العالمي كله، بعد أن تسبب انهيار الاتحاد السوفياتي في إزاحةِ جغرافيا وديمغرافيا المعركة التي ستحدد مصير العالم خلال هذا القرن، في المواجهة بين المشروع النهضوي التحرري العربي، والمشروع الصهيوني الإمبريالي، دون أن يتم التغيير في مضمون المعركة التي هي دائما وأبدا معركة بين مستغلين "بكسر الغين"، ومستغلين "بفتح الغين".
وبالتالي فإن إعادة إنتاج هذا الدور الذي ستضطلع به الهويتان، يقتضي قطعا التأكيد على أننا لا نرى لأيٍّ من الهويتين قداسة في ذاتها أو دلالة وطنية في أيِّ وقت بصورة ثابتة لا تتغير، وأنهما ليستا أكثر من أداتين، قد تستخدمان اليوم لأغراض وطنية وقد تستخدمان غدا لأغراض غير وطنية، عندما تقاس الوطنية بمدى ملامستها من عدمه لمشروع التحرير والتغيير والوحدة القومية. وعلينا بالتالي أن نتعامل معهما من هذا المنطلق.
فلا الهوية الأردنية ولا الهوية الفلسطينية يمكنهما أن يكتسبا صفة الأولوية على مشاريع التحرير والتغيير والنهضة والوحدة.. إلخ. وعلينا أن نقبل بواقع إعادة إنتاج مكانتهما بما يخدم تلك المشاريع صاحبة الأولوية في كل إستراتيجياتنا. وعلينا من ثمَّ أن نتناقش لا في وجود أو عدم وجود، في شرعية أو في عدم شرعية هاتين الهويتين، ولا في الخوف أو في عدم الخوف على واقعهما ومستقبلهما. بل في المُنْتَج "الهوياتي" الأردني والفلسطيني الذي يمكنه أن يرفد مشروعي التغيير والتحرير أيا كانت طبيعة هذا المُنْتَج.
فلا قيمة لأيِّ مشروع هوية لا يخدم هذين المشروعين، وعلى من يتصور أن الوهم المسمى "هوية فلسطينية" كما هو موجود في القرارات والأوراق والأدراج والاعترافات، يُعتبر إنجازا يستحق تغييب مشروع التحرير والتغيير لأجله بوصف مشروع الهوية هذا مقدمة له وليس العكس، وأن اقتناع الفلسطينيين بأن تجسد هويتهم ولو على الورق وفي الأذهان والخيالات وبمجرد اعتراف الآخرين لحقهم في تجسيدها، هو في حد ذاته إنجاز عظيم ومكسب تهون لأجله كلُّ مشاريع التحرير، حتى لو ثبت أنها لا تقوم إلا على أنقاضه، أي على أنقاض هذا الوهم، وعلى حطام تبنيهم لهذه الأسطورة.. نقول.. على هؤلاء أن ينتبهوا إلى أن هذا الوهم كان هو الحاضنة التاريخية أيديولوجيا وسياسيا وقانونيا لضياع المشروعين معا، "التحرير" و"التغيير" على حد سواء. كما عليهم أن ينتبهوا أيضا – وهذا أهم ما في المسألة – إلى حقيقة أن مشاريع التحرير والتغيير الحقيقية لم تكن قيد الإنجاز الحقيقي وأقرب إليه، من اللحظات التاريخية التي لم تكن فيها الهوية الفلسطينية قد تجسدت بعد. وكي لا نضيع أوقاتنا في جدل عقيم ومجتزأ، فلنعد إلى التاريخ وللمراجع التي وثقته لنكتشف هذه الحقائق