من أنت : قارئ جيد أم قارئ سيىء ..؟!

جريدةالقدس العربي

نحن نقرأ .. كلنا يقرأ .. وهنا الحديث خاصبالقراء مهما تباينت طرق ووسائل وأنواع قراءاتهم سواء أكانت من كتب أو صحف ومجلات ورقيةأم من قراءات الكترونية ومواقعها المختلفة .. هناك قراء .. جيدون وسيئون .. هل سبقوصنفّت نفسك أو موقفك من القراءة ..؟! بتّ على مستوى الشخصي كثيرا ما أهوّجس نفسي: هل أنا قارئة جيدة أم سيئة ..؟!
وتطور هذاالأمر حتى غدا هاجسا حقيقيا وموقفا تجاه كل ما يقع تحت يدي أو عيني من قراءات ،بدأت الفكرة بشكل فعلي حينما نبهتني صديقة كاتبة وقارئة في آن ، إلى غلطة لا اعرفكيف أصنفها ، لكنها بالنسبة لي كانت أقرب ما تكون " لفظ عقلي " ، وكانتتلك الغلطة دائرة حول اسم الكاتب الجزائري " ياسمينة خضرا " وقد تخفىهذا الكاتب خلف اسم زوجته لظروف سياسية بالدرجة الأولى ، وتناولت مبعث ذاك التخفي فيحوار من أجرته معي إحدى الصحف الجزائرية ولفظتها وقتئذ " ياسمينة صالح "ولقد تكرر الخطأ اللفظي نفسه في مقالة حول الموضوع شبيه وتصادف نشر الحواروالمقالة في برهة زمنية قريبة من الأسبوع نفسه ، صديقتي القارئة " الجيدة" نبهتني إلى الخطأ وأشارت إلى تصحيح الاسم فالمعني هو " ياسمينة خضرا" وليست " ياسمينة صالح " وكان مبعث الخطأ هو تعوّد اللسان على اسمياسمينة صالح رغم أن التي أجرت الحوار معي كانت صحفية جزائرية ولكن انتباهها سقط علىما بدا ..!
كم أغبطني هذاالتصحيح ، فهناك قراء جيدون يقرؤون ما تكتبه بعين وعي ويضيئون مصابيح انتباههم علىكل لفظة تقولها أو تكتبها .. وهذا يضعنا أمام : " القارئ جيّد " ..
من هو القارئالجيّد ..؟!
" القارئالجيّد " هو قارئ يقرؤنا بقلبه وعقله ويحفّز كافة حواسه إلى مادتنا القرائية، هو قارئ يستشعر أنه كاتب النص ؛ فيربض أمام الحروف بمسؤولية حقيقية .. هو قارئ يعيجيدا أنه يقرأ نصا أو قصة أو مسرحية أو رواية لكاتب هو " إنسان " فيالنهاية يخطيء ويصيب والأخطاء أنواع كما الأفكار أشكال .. الخطأ إما إملائي أوأسلوبي وهي أخطاء واضحة وثمة أخطاء ضمنية لا يقتنصها سوى القارئ المطلع والماهروالحاذق كخطأ تاريخي أو سياسي أو ديني ؛ هذه الأخطاء شاملة ذات تأثير جمّ علىالقراء ..
" القارئالجيّد " يخلق كُتابا حريصين على كل لفظة تخرج من معين وجدانهم أو كل عبارةتمخضها بنات أفكارهم ؛ فثمة قارئ جيّد سوف يحاسبني على إهمالي أو على أي خطأ وارد ،وأعني هنا بالأخطاء الشائعة أم الأساليب الكتابية ومطروح الأفكار وتفاصيل الحكاياتفهي أمور قابلة للتباين والتحاور والنقاش والقيل والقال والصمت .. قابلة لكل شيء ؛فلولا اختلاف الأذواق لبارت السلع ، والقارئ الجيّد يؤمن أن كل نص إبداعي هو آلةمولدة للتأويلات ..
" القارئالجيّد " يترك مسافة بينه والنص ؛ فضوله من نوع الآخر ينصب على خياله الخلاق، الذي يبغض التفاصيل الكاملة .. هو قارئ دائما يرمّم الناقص ما تحت السطور وبينهابطريقته كخبير يجسدّ ملابسات قضية ما من معين أدواته ، يكتفي ما يطرحه الكاتب منتفاصيل قليلة ويجد متعة كبيرة في التفاصيل المغيبة التي تعمّد الكاتب في تواريهامؤمنا بوجود قارئ جيد يتلصص على أفكاره ومرايا روحه فاسحا له حرية تناول مطروحه منجهات شتى ؛ فالنص المطبوع والمنشور يضع كاتبه في موقع " المتفرج " علىقارئ يجس نبض كتابته ويغدو في محل " المتفرج عليه " من قبل هذا القارئالذي أصبح كاتبه مادة تلصصه ..
" القارئالجيّد " يجد نفسه في كل كتاب جيّد .. ينتقي انفعاله الخاص من إحدى تلك السطورالتي قد تمثله شخصية مهمشة أو بطل الحكاية في موقف بعينه ، لكن لا يعتمد على نعاتالكاتب ومواصفاته عنها بل يسكب حدسه الفعّال لتبدي الشخصية أقرب ما تكون إلى نفسه أوذات صلّة بواقعه أو جانب من خياله ..
" القارئالجيّد " حين يغرم بكتاب يروّجه بين رفاقه .. يضعّه على مقربة منه في مكانأنيق أو على رفٍّ مكشوف فتبدو وكأنها دعوة سرية لانتشاله من قبل قارئ مثله متأهبلكل جميل ؛ يتعشم مشاطرته متعة الحكاية التي انغمس فيها بطلاقة ..
" القارئالجيّد " حين ينوي قراءة كتاب يسقط اسم الكاتب وينغمس في النص ؛ فلا يهمهمطلقا إن كان ما يقرؤه لكاتب معروف أم مغمور بل جُلّ همّه ينصب على المادةالمكتوبة .. على ما فوق وتحت السطور .. على فكرة ملهمة أو عاطفة جيّاشة .. علىالكتاب بكل ما فيه وعنه وإليه من الغلاف إلى الغلاف ..
كل هذا وأكثرفلا شك لا يمكننا الإحاطة بكل نعات " القارئ الجيّد " الذي يغّذي النصوصاحبه فكلما قرأ الإنسان أكثر كلما راكمت خبرات شاملة ونعات متباينة عن عوالمالكتب والكتابة وآداب التلقي والاكتساب والنقد .. أما " القارئ السيىء "فقط تناوله بالتفصيل الروائي " عاموس عوز " صاحبة رواية " قصة عنالحب والظلام " فعوز في روايته الضخمة هذه توسعت رؤاه عن موقفه من القراءةوالقراء ومدى ارتباطه بالكتب في وقت قريب من حياته الأولية ..
ويبدو أنالقراء السيئون أنواع كثيرة وأصناف متعددة .. أما تحديدها فسأضعها على عاتق الكاتب" عاموس عوز " عبر سطور روايته : " القارئ السيىّء يأتيويطالبني بأن أقشر من أجله الكتاب الذي كتبته ، يجئ إلي كي يطالبني بأن ألقي أنابيدي ، من أجله ، إلى برميل النفايات عنبي وأن أقدم له النوى " ..
و" القارئالسيىّء " هو نموذج فضولي ككلب بوليسي يشمّم عن التفاصيل الدقيقة والواضحةوالشاملة ولن يهدأ له بال قط حتى يعرف البيضة من باضها وهذا ما يؤكده قول "عوز " : " القارئ السيىء هو مثل العاشق المعتوه الذي يهجم على المرأةالتي وقعت بين يديه ويمزق ملابسها وعندما تصبح عارية تماما يتابع سلخ جلدها ،وبهدوء وروية يضع جانبا جلدها ويبدأ في تفكيك هيكلها العظمي وفي النهاية وعندما" يجرم " عظمها وينهش لحمها يصل إلى ذورة متعته : هذه هي ، الآن أنافعلا في الداخل ، لقد وصلت " ..
وفي قاع كل "قارئ سيىّء " متعة تخريبية .. فالنص مادة للتشريح والتشويه والغمز واللمزوالثرثرة ما وراء الأبواب المغلقة مع الحرص على أن تكون النوافذ الكبيرة مفتوحةعلى مصراعيها لتصل الهمهمات الوقحة إلى أصداء الريح : " القارئ السيىءمثله مثل الصحفي اللاهث ، يتعامل دائما بنوع من الريبة العدائية ، بنوع منالكراهية المتزمتة دينيا – القويمة أخلاقيا ، مع الإبداع ، الاختلاق ، التحايلوالمبالغة ، وإلى ألعاب اللف والدوران ، إلى الكلمات ذات وجهين وإلى الموسيقى وإلىالإيحائي وإلى الخيال نفسه : قد يتكرم وينظر أحيانا في عمل أدبي مركب ولكن شريطةأن نضمن له مسبقا المتعة " التخريبية " الكامنة في ذبح بقرات مقدسة ، أوالمتعة المحمضة – التي تنطوي على التقوى التي أدمن عليها كل مستهلكي الفضائحو" الاكتشافات " على مختلف أنواعها بحسب قائمة الطعام التي تقدمها لهمالجرائد الصفراء " ..
" القارئالسيىّء " لديه اعتقاد مفرط أنه كائن جبار وأن الكاتب المسكين لولا قراءتهلكتابه لكان في مكّب الإهمال ..! وفوق هذا هو متشكك ؛ فكل رداءة في الأخلاق وتجاوزفي القيم وكل الأفعال المشينة فهي مرتبطة بالكاتب نفسه بل مرتكبها وهاهو يكفّر عنذنبه في هيئة كتاب أشبه باعتراف : " متعة القارئ السيىّء تنطوي على أنيكون دوستويفسكي المبجل والمشهور ، هو نفسه متهما بشكل غامض ، بميل دنس لسرقة وقتلالعجائز ، وليام فوكنر بكل تأكيد كان على هذا النحو أو ذاك ، متورطا قليلا بغشيانالمحارم ، ونبوكوف بمضاجعة القاصرات ، وكافكا لا شك أنه متهم في الشرطة " إذلا دخان بلا نار " ، وأ.ب . يهوشواع بحرق أحراش الكيرن كيمت " يوجد دخانوتوجد نار " ناهيك عما فعله سوفوكليس لوالده وعما فعله هو لأمه ، إذ لولا ذلككيف نجح في وصف كل ذلك بشكل حي ، لا ليس حيا فحسب بل حيا أكثر مما يحدث في الحياةالواقعية " ..
" القارئالسيىّء " إذن هو القارئ الذي يغيّب عقله ويقضي على خياله وعلى حق حواسه فيالحدس والتحليل .. يطفو ولا يحبّذ فكرة الغوص في قاع الأفكار المطروحة في النصوالودّ كل الودّ أن ينخر عقل الكاتب ليجس عين الحقيقة في داخلها ليس مبعث اندفاعهذاك رغبة في خبرة وفيرة عن الحياة أو انتقاء تجربة ينطلق منها بل لرغبة معرفة ماذاحدث في الحقيقة ..؟! فهو قارئ يحب لغة المكاشفة .. أما الطلاسم والشيفرات وقيعانالمعنى ترّبك ضآلة فهمه وتضعه أمام اختبارات يهزم أمامها وتكسر عزيمته الفارغة منالصبر ..!

" القارئالسيىّء " ينبذ مبدأ " حريتي وحرية الآخر " بمعنى أدق كالفارق مابين " ديمقراطية شللية " و" ديمقراطية أصيلة " وهنا البونالشاسع ما بينه و" القارئ الجيّد " ..!


ليلى البلوشي
Lailal222@hotmail.com

__._,_.___