منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 11 إلى 16 من 16
  1. #11
    محاضر ومسؤول دراسات عليا في جامعة القاضي عياض، المغرب
    تاريخ التسجيل
    Jun 2009
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    1,497

    من محاسن موضوعك المفيد أستاذ توحيد
    ما بينه وبين واقع حال أمتنا من التناسب الدقيق
    إذ أن ثقافة السلام التي تمضي العولمة في طريق ترسيخها
    هي ثقافة السلام المشروط
    وهو سلام عالمي يجعل الهيمنة الدائمة للغرب اقتصاديا وسياسيا
    ويجعل العرب والمسلمين دون خيار سياسي أو اقتصادي
    فأنتم ترون - مثلا - مصير قضيتنا الفلسطينية كيف تخطفته ثقافة السلام السائدة
    وجعلت المشترِط يصول ويجول فيقرر ما يشاء ، ويعلن ما يشاء ؛ مما يضمن استمرار نفوذه واستفحاله
    وجعلت المشترَط عليه مستعدا للمسالمة غير المشروطة ( طلب عضوية ) مسلوبة الأرض فضلا عن السلاح
    من أخطر وظائفها - كما هو شأن السلطة اليوم - صيانة ( أمن ) و ( سلام ) إسرائيل الماضية في الاستيطان
    فانظر رعاك الله كيف تقلب المفاهيم ، وتبدل المصطلحات غير المصطلحات
    لا سيما وأن ما تفضلتم به من ( المفاهيم الموضوعية القرآنية ) يجب أن يكون مرجع قادة الأمة وساستها
    ومن تأمل قوله تعالى ( وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ )
    الأنفال : 61 .
    حيث اشترط في هذا الجنوح التوكل على الله ، وأقل مقتضياته اعتبارا اتخاذ كتابه مرجعا ومدارا
    والله أعلم .


    أَسْرِي سَقَى شِعْرِي الْعُلا فَتَحَرَّرَا = وَرَقَى بِتَالِيهِ الْمُنَى فَتَجَاسَرَا

  2. #12
    حضرة الأستاذ الفاضل/ د. عبد الرزاق أبو عامر
    السلام عليكم ورحمة الله

    إن بُعدنا عن القراءة والتفسير الموضوعيَّين للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف قد حرمَنا الكثير الكثير من الفوائد والعلوم، سواء في ديننا وعلاقتنا بخالقنا أم في سلوكنا وعلاقتنا بغيرنا من الناس والمخلوقات الأخرى؛ وإنَّ عودةً واعيةً متبصِّرة لهذه القراءة لجديرة بأن تنقلنا نقلة نوعيَّة تنير لنا سُبل النجاح والفلاح، وأن تهيِّئ من يستهدي بهديها ويلتزم بمقتضياتها لأن يتبوَّأ سدَّة الريادة والقيادة.

    لقد أُلبِست المصطلحات مفاهيم غير التي تحملها، وذلك لأغراض وأهداف تخدم الحكَّام على جميع مستوياتهم، سواء مَن هم مِن بني جلدتنا أم مِن أعدائنا؛ ولا أدلَّ على ذلك من حصر مفهوم السلام في مقابل الحرب، فتراهم يفاوضوننا على الأمن في جانبه العسكري ليسلبونا بعد ذلك أمننا الاقتصادي والفكري والصحي والاجتماعي والغذائي و...؛ وكل هذه الجوانب تُعدُّ عناصر لا يقوم السلام الذي لا يقوم السلام إلا بها جميعاً وبأعلى درجات النوعية في كل جانب كما تبيَّن معنا سابقاً.
    من هنا يتبيَّن معنا أن السلام -بمفهومه الذي تقدَّم- لا يمكن أن يقوم بيننا وبين عدونا الصهيوني وغيره، بل ما يمكن أن يقوم الآن هو حال "السَّلَم" ، لأننا الآن في حالة ضعف وهوان، وهي الحال التي تعادل "الاستسلام" في مفهومها المعاصر، وهذا ما نهانا عنه المولى تبارك وتعالى، ودعانا لأن نعمل على تغيير موازين القوى بالإعداد والتحضير لنكون في حالٍ تمكننا من تحقيق الأمن والأمان لنا ولهم، أي حال "السَّلْم" وصولاً إلى تحقيق "السِّلْم" الذي يحقِّق العدالة ويرفع الظلم عن جميع الجوانب التي تتطلبها الحياة الإنسانيَّة.

    سيأتي مزيد تفصيل في ذلك لاحقاً إن شاء الله.
    أشكرك من القلب د. عبد الرزاق على دعمك وتأييدك، وأرجو الله أن يعلِّمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علَّمنا إنه سميع بصير.
    وطني... محلُّ تكليفي، ومختبر صلاحي

  3. #13
    Moderator
    تاريخ التسجيل
    Feb 2011
    الدولة
    فلسطين - رام الله
    المشاركات
    355
    بوركت جهودك أخي الكريم الأستاذ توحيد مصطفى، فقد أتحفتـنا بالجديد المفيد المُصطفى ؛ فهذه الشروحات الدقيقة أمارة واضحة على مَلَكَةٍ عريقة حباك الله إياها ... فلا تحرمنا من مثل هذه اللفتات الطيّبات ..وقد قدح موضوعك الشيّق في ذهني خواطرَ حول الأمن والأمان سأوافي هذا المنتدى العامر بها قريبا ، والدالّ على الخير كفاعله ..... شكراً أستاذنا المبدع .

  4. #14
    الأستاذالقدير؛ الدكتور عيد دحادحة المحترم

    بارك الله بك سيدي وبارك لك.
    لو تعلم كم أسعدَتني مشاركتك وأدخلت على قلبي السرور؟
    في الكتابة أستاذي عيد رسائل عدَّة ذات أهداف وغاية، فإن خلَت منها فقدَت أثرها.
    يقول المولى تبارك وتعالى في سورة الحجرات، الآية 49:
    {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ...}.
    انطلاقاً من هذه الآية الكريمة وبناءً عليها، فإني أعتبر الكتابة شكلاً من أشكال التعارف، إن لم أقل إنه الشكل الأرقى والأكثر نفعاً؛ والتعارف لا بدَّ أن تكون ثمرته المعرفة، ومعلومٌ أن المعرفة تنتُج بتلاقي الأفكار وتلاقحها؛ والفكرة الأقدر على التوالد هي الفكرة الأكثر خصوبةً بما تحمله من مضامين معلوماتيَّة وتحفيزيَّة، فتراها حين تقع في قلب متلقٍّ خصب الفكر أيضاً فإنها سريعاً ما تلتقي مع مثيلاتها وتُلقَّح ثم تولِّد فكرةً جديدة قد تغطي مساحةً أكبر أو مضموناً أدقّ وأعمق؛ وما قدح الذهن إلا عملية التلقيح للفكرتين الخصبتين!
    من هنا، فإن الهدف هو التلاقي والتلقيح، والغاية هي توالد الأفكار؛ إذ لا تطوُّر ولا تقدُّم إلا بهذه الطريقة، ولا أثر للكلمة إن لم يكن هذا سبيلها!

    أرجو الله تبارك وتعالى أن تكون كلماتنا مولِّدة للخير، محفِّزة عليه... قولاً وعملاً.
    بانتظار خواطرك التي لي فيها كبير أمل ورجاء وثقة أن تكون بمستوى الكلمة المسؤولة المعهودة عنك.

    إلى ذلك الحين أدعوك -تفضُّلاً منك- لمتابعة باقي فصول هذا البحث.
    لك بالغ شكري وصافي موَّدتي، ودمت بأمن وأمان كمالاً وتماماً.
    وطني... محلُّ تكليفي، ومختبر صلاحي

  5. #15


    السَّلام فطرةٌ فطر الله عزَّ وجلَّ جميع خلقه عليه؛ وهو حالٌ لازمةٌ لبناء أي أمَّة تنشد الاستقرار والازدهار والتطوُّر.
    كانت الدراسات –الإسلامية وغيرها- قبل فترة من الزمن حين تتحدث عن السَّلام فإنها تحصر الحديث عن الحرب على أنها مقوِّضة للسَّلام، أي أن الحرب في مقابل السَّلام، وكانت توصي بسلوكيات بسيطة كالتسامح والصبر على الأذى، واستيعاب الآخر تفادياً للحرب ومقدِّماتها.
    أما الدراسات الحديثة فإنها أصبحت تركِّز على جوانب لم تكن مطروحة من قبل، فقد أصبحت تهتم بالأمن الاقتصادي والأمن الفكري والأمن الاجتماعي والأمن الصحي (إضافة للأمن العسكري) على أنها ركائز لا بد منها لتحقيق السَّلام العام، سواء داخل المجتمع الواحد أم في العلاقات الدولية.
    هذه المرتكزات وغيرها، هي عينها ما عَنِيَ بها الإسلام عناية فائقة ودعا لتحقيقها،لكن الدعاة والمفكرين والباحثين لم يُولوا هذه المسألة العناية الكافية التي تمكِّنهم من تغطيتها وتقديمها للناس مؤصَّلةً ومفصَّلةً وممنهَجةً!
    حين عرَّفتُ السَّلام بأنه: كمالُ الأمن والأمان وتمامهما، فهذا ما استنبطته بعدالبحث والتدبُّر في آيات كتاب الله الكريم وسنَّة نبيِّه المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام؛ وهذا ما سيتأكَّد معنا أكثر في الفصول اللاحقة.
    في هذا الفصل سأتعرَّض لبيان أنَّ رسالة الإنسان في هذه الحياة الدنيا هي تحقيق السَّلام، والتي جاء عنوان هذا البحث مشيراً إليها وداعياً.
    لنتأمَّل معاً بدايةً هذه الآيات الكريمات من سورة الفرقان، ولنستذكر مفهوم السَّلام ومعنى الكمال والتمام في الأمن والأمان ونحن نتأمَّل ونتدبَّر:
    {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا* وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا* وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا* إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا* وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا* وَالَّذِينَ لَايَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا* إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِك َيُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا* وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا* وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا* وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا* وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا* أُولَئِك َيُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} [الفرقان: 63-75].

    وقفتُ طويلاً عند هذه الآيات الكريمات، مع ما قيل عنها من أقوال العلماء والمفسِّرين قديمهم ومعاصرهم، ورغم أنَّ ما كُتب عنها فيه الكثير من المنطقيَّة والمعقوليَّة، إلا أنَّ صوتاً في داخلي كان يهمس لي بأنَّ فيها سرَّاً لم يُكشَف بعدُ، ربما لحكمةٍ أرادها الله عز وجل في قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ* وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}.

    (يتبع)









    وطني... محلُّ تكليفي، ومختبر صلاحي

  6. #16
    بعد أن تأمَّلنا معاً الآيات الكريمات التي تقدَّمت في المشاركة السابقة، سأتطرَّق في هذه المشاركة لشرح الآية الأولى منها كما فهمتها:
    {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}.

    سأخصُّ هذه الآية بالشرح لأنها عنوانٌ لما بعدها، وسأختار منها أربعة مصطلحات، هي:
    1- عباد الرحمن.
    2- خاطبهم.
    3- الجاهلون.
    4- قالوا سلاماً.

    1- {عباد الرحمن}: من المعلوم أن مقام "العبديَّة" هو المقام الأعلى في درجات القرب، لأنه المقام الذي وصف به الله تبارك وتعالى نبيّه المصطفى صلَّى الله عليه وسلم حين أكرمه فأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ إلا أن الفرق بين المقام النبوي الشريف وبين مقام عباد الرحمن، أنَّ المقام النبوي الشريف قد أُطلِقت نسبته إلى الله بقوله تعالى: {بِعَبْدِهِ}، واسم الله هو الاسم الجامع للأسماء والصفات، بينما في الآية الأخرى قد خُصِّص وقُيِّد باسمه تعالى {الرحمن}، ولهذا التخصيص معنىً مراداً، هذا على الرغم من أنه قد ورد في آية أخرى من سورة الإسراء أيضاً قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، إلا أنَّ هنالك فرقاً بين النسبة إلى اسم الرحمن وبين النسبة إلى اسم الله، وسيتضح معنا ذلك في بيان اسم الرحمن:

    الرحمن: صفةُ مبالغة من الرحمة؛ والفرق بين الرحمن وبين والرحيم أنَّ الرحمانيَّة (من الرحمن) تشمل الخلق أجمعين، إنسهم وجنِّهم، مؤمنهم وكافرهم، بينما الرحيميَّة (من الرحيم) تخصُّ المؤمنين فقط.
    كما أنَّ اسم الرحمن يحمل صفات الجلال التي تتضمَّن معاني القدرة والعظمة والكبرياء والعزة والجبروت، بينما يحمل اسم الرحيم صفات الجمال التي تتضمَّن معاني اللُّطف والودِّ والأُنس والبِشارة.
    إن المعنى الهامُّ في الرحمانيَّة الذي أود الإشارة له، والذي له علاقة مباشرة بموضوع السَّلام: أن الرحمانيَّة قد تتجلَّى بفعلٍ ظاهره الشدَّة والقسوة، وباطنه الرحمة البالغة؛ بينما الرحيميَّة تتجلَّى دائماً بأفعال تتصف بصفات الجمال كماأشرتُ آنفاً.
    المثال على ذلك جاء في القصة التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ في سورة الكهف بين سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام وذلك العبد الصالح الذي نعرفه باسم الخضر عليه السلام، فكل ما فعله الخضر كان في ظاهره قاسياً، شديداً، وربما يظنُّ من لم يعرف دوافعه ومآلاته أنه فعلٌ ظالمٌ؛ لكنه كان في حقيقته منتهى الرحمة في مآلاته.
    والمثال الآخر تجلَّى في الغزوات التي غزاها الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام، فبالرغم من قسوة الحروب وشدَّتها وكُره المؤمنين لها، وبالرغم مما ينتج عنها من قتلٍ أو جرحٍ أو ضررٍ، إلا أنها قامت لتحقيق العدل والسَّلام، وهذا ما ظهر تحقُّقه بوضوح عند بسط الدولة الإسلامية الأولى سلطتها.
    إذاً، عباد الرحمن هم الذين يستقون من الرحمانيَّة صفاتها ليتحقَّقوا بها ويخضعوا لمقتضياتها؛ وسيظهر هذا المعنى بوضوح أكثر في فصلٍ قادمٍ بعنوان "سُبُل السلام".

    2- {خاطبهم}: الخطاب هو رسالةٌ يُراد إيصالها للآخَر، تصدُر عن شخص أو جماعة أو هيئةٍ اعتبارية (كالمؤسَّسات أو الحكومات، وغيرها)، سواءٌ أكان ذلك بالقول أم الفعل أم الحال، والمثال على رسالة الخطاب بالحال: الصمت، ملامح السرور أو الغضب، مظهر القوَّة أو الضعف كما جاء في المثال الأكثر تعبيراً والذي يرتبط بموضوعنا ارتباطاً مباشراً هو قوله تعالى في سورة الأنفال:
    {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيل ِاللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}؛ فحالُ القوة أبلغ رسالة يُخاطِب بها المؤمن عدوَّه وعدوَّ الله، مَن علِمهم ومَن لم يعلَمهم؛ وهذا دليلٌ على أنَّ رسالة القوة تصل لأبعد مدى، وهي أهم وسيلة لتحقيق السلام، وهذا ما نفتقر إليه ونحتاجه منذ قرون طويلة.
    3- {الجاهلون}: الجاهل: مَن خاض في أمرٍ و هو يفتقر للعلم الخاص به؛ إذ إن لكلِّ أمر علمٌ على المرء أن يَعلمه، كما انَّ لكل سلوك آداب ينبغي التحقُّق بها، والأدب من العلم.
    قد يكون الجهل بمضمون الخطاب أو يكون بشكله؛ أي من الممكن أن يكون المرء على علمٍ بمضمون خطابه لكنه يرسله (يُعبِّر عنه) بشكل خاطئ، وهذا من الجهل أيضاً.
    إنَّ خطاب الجاهلين في هذه الآية قد أُطلِق ولم يخصَّص بقولٍ أو فعلٍ أو حال، وهذا يعني أيَّ خطاب يوجِّهه الجاهلون لعباد الرحمن بأيِّ شكلٍ كان.
    في هذه الحال، لا بدَّ لعباد الرحمن من ردٍّ على هذا الخطاب، ولكن ما الذي يحدِّد شكل هذا الردِّ وطبيعته ومقداره؟
    لا بدَّ من معيارٍ وضابطٍ لذلك؛ هذا المعيار والضابط جاء في قوله تعالى:

    4- {قالوا سلاماً}: السؤال المهمُّ هنا، وهو محلُّ الإشكال: لمن هو موجَّهٌ هذا القول من عباد الرحمن؟ وما القصد منه؟
    لقد بحثت في جميع كتب المفسرين عن قولٍ يرفع الإشكال الذي كان يراود فكري فلم أجد! لكنني بعد الاستعانة بالله عزَّ وجلَّ والتضرُّع إليه راجياً الفهم عنه تبارك وتعالى، اهتديت إلى المعنى المقصود من خلال فهمي لحديثٍ نبويٍّ شريف؛ فقد جاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه قال:
    "....، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُل ْإِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ"

    الصوم: هو الامتناع عن المفطرات المعنويَّة.
    والصيام: هو الامتناع عن المفطرات الماديَّة.
    الرسول عليه الصلاة والسلام يوصينا في هذا الحديث الشريف بأنه عندما يكون أحدنا في حالة صوم فعليه أن يحافظ على صومه، وخاصة عندما يجهل عليه أحد بخطابه، بأي شكل من أشكال الخطاب كما تقدَّم، وقد عدَّد الرسول الأكرم في هذا الحديث الشريف بعض أشكال خطاب الجهل كالسباب أو القتال، وفي أحاديث أخرى ذكر الشتم.
    فكيف يردُّ المسلم الصائم حين يتعرَّض لمثل هذا الخطاب (السباب أو الشتم أو القتال)؟
    الجواب: أن يذكِّر نفسه بالمعيار والضابط، وهو الصوم؛ وذلك بأن يقول لنفسه: "إني امرؤ صائم" مذكِّراً إياها بأنه في حالة صوم وعليه الحفاظ عليه؛ إذاً، عليه الرد بطريقةٍ يحافظ بها على صومه.
    كثيرٌ من الناس يظنُّون أنَّ على المسلم الصائم أن يتوجَّه للآخر -الذي يخاطبه بخطاب الجهل- بقوله: إني صائم!!!
    ما يضير الجاهل أو يهمُه حين يسبُّ أو يشتم أو يقاتل المسلم إن كان صائماً أم مفطراً؟؟
    الصحيح أن يقول الصائم لنفسه: إني صائم؛ والرفث والصخب والشتم والسباب من مفسدات الصوم، كما الطعام والشراب والجماع من مفسدات الصيام. فالصوم هو الضابط والمعيار في ردِّ الصائم.
    الآية الكريمة موضوع البحث تتحدث بنفس الطريقة ونفس النهج؛ فكما أن للصائمين ضابطاً ومعياراً في ردِّهم على خطاب الجاهلين هو الصوم، فإن لعباد الرحمن ضابطاً ومعياراً في ردِّهم على خطاب الجاهلين هو السلام؛ وذلك لأن رسالة الإنسان الأولى في هذه الحياة الدنيا هي: تحقيق السلام؛ تحقيق السلام بينه وبين نفسه، وبينه وبين غيره من البشر، وبينه وبين بيئته الشاملة من حيوان ونبات وأرض وسماء و... و... و...! وما لم يحقِّق السلام في هذه الدار فلن يكون من الذين: {لَهُم ْدَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

    بذلك يكون معنى الآية الكريمة:
    {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}:
    عندما يتعرض عبدٌ من عباد الرحمن لخطابٍ من جاهلٍ، أيَّاً كان شكل هذا الخطاب، فعليه أن لا يتسرَّع بالرد عليه؛ لأنه بتسرعه قد يخطئ في أداء رسالته أو يُفسدها، بل عليه أن يذكِّر نفسه بأنَّ رسالته هي تحقيق السلام؛ إذاً، عليه أن يردَّ بخطابٍ يتوافق مع هذه الرسالة ويؤدي لتحقيقها.
    هنا تأتي حكمة المؤمن وعلمه الذي ينفي عنه الجهل؛ فقد يكون الردُّ بليِّن القول،أو يكون بالتجاهل والإعراض، أو يكون بالتعنيف أو العنف إن اقتضى الأمر، أو يكون بوسيلة أخرى يراها مناسبة؛ وهذا يعود لمعرفته بالمخاطَب (الذي هو الجاهل هنا)، ويعود لمعرفته بمضمون خطابه، ومعرفته بأدوات توصيل الخطاب المناسبة.

    إنَّ كل أشكال الردِّ التي تؤدي لتحقيق السلام -سواءٌ منها الليِّنة أم القاسية، اللطيفة أم العنيفة- تدخل تحت قنطرة "الرحمانيَّة"، ومَن يتحقَّق بصفاتها وينضبط بضوابطها يدخل مقام "العبديَّة" ويكون من عباد الرحمن.

    اللهم إني أسألك وأتوجَّه إليك باسمك الرحمن أن تجعلنا من عبادك، الذين يَعون رسالتهم في الحياة الدنيا، ويسعون لتحقيقها، وينضبطون بضوابطها؛ إنَّك سميعٌ عليم.


    (يتبع)








    وطني... محلُّ تكليفي، ومختبر صلاحي

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

المواضيع المتشابهه

  1. إطلاق حمام السلام في إفتتاح ملتقى الإنسان بقلعة السراغنة بالمغرب
    بواسطة عبد الرحيم محمود في المنتدى تسجيلات الفرسان المسموعة والمرئية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 06-08-2015, 09:54 AM
  2. موسى عليه السلام لما دفن أخاه هارون عليه السلام
    بواسطة رنوة في المنتدى فرسان التجارب الدعوية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 12-11-2013, 02:59 AM
  3. تقتل الإنسان .. في الإنسان :أو العيش مع"القطيع"​مع الشعور بالحرية!!
    بواسطة محمود المختار الشنقيطي في المنتدى فرسان الأبحاث الفكرية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08-21-2013, 09:20 AM
  4. ردوا السلام والا السلام غالي
    بواسطة يسري راغب شراب في المنتدى فرسان الخواطر
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 11-23-2010, 01:51 AM
  5. رسالة الى السماء الى روح الشاعرموريس قبق
    بواسطة نبيل البحر في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 08-11-2009, 10:51 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •