كتاب ـ قصة الإليزيه ـ الحلقة (3)
كيسنجر يشترط على ديستان التزام السرية بشأن تعاونهما النووي
تأليف :فرانسوا دورسيفال



يتناول المؤلف في هذه الحلقة فترة رئاسة فاليري جيسكار ديستان وعلاقة الصداقة الحميمة التي ربطته بالمستشار الألماني هلموت شميت، وكذلك علاقته بشيراك الذي عينه في منصب رئيس الوزراء والخلافات التي نشبت بينهما بسبب ملف التجارب النووية الفرنسية.




ثم يكشف المؤلف عن تفاصيل لقاء جمع بين ديستان وهنري كيسنجر في الإليزيه وتناول التعاون النووي بين البلدين وضرورة إبقائه سراً خاصة وأن أميركا لا تريد المجازفة بمواجهة تبعات الكشف عن وجود مثل هذه العلاقة بينهما في ظل تنامي المعارضة الدولية لإجراء التجارب النووية الفرنسية. وتتحدث الحلقة كذلك عن الأزمات التي واجهت ديستان في الإليزيه والإنجازات التي حققها خلال فترة رئاسته.عندما توفي جورج بومبيدو في 2 أبريل 1974 أصبح رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي «آلان بوهير» رئيسا للجمهورية بالنيابة، كما ينص الدستور في بنده السابع. وللمفارقة يكون «بوهير» بذلك قد خلف جورج بومبيدو بعد أن كان قد سبقه للرئاسة، أيضا كرئيس بالنيابة عندما تنحّى الجنرال شارل ديغول عن السلطة.


وصل «آلان بوهير» إلى قصر الاليزيه بعد ثمانية أيام من وفاة جورج بومبيدو. وقد استقبله ادوار بالادور، الأمين العام للرئاسة، بالقول: «أنا تحت تصرفكم سيادة الرئيس وإننا سوف نجهد من أجل تأمين استمرارية عمل الدولة والمصالح العامة». بعدها جرى تسليمه مفاتيح الخزائن والأرقام السرية الخاصة بالقوة النووية الفرنسية.


مارس رئيس الجمهورية الفرنسية بالنيابة «آلان بوهير» مهام منصبه إلى جانب الحكومة ودون أي طموح بالترشيح للانتخابات الرئاسية على عكس ما كان عليه الأمر عام 1969 عندما استقال الجنرال ديغول.


كان وزير الداخلية في ظل الرئاسة الثانية ب«النيابة» لآلان بوهير هو جاك شيراك وكان حضوره دائما في كل صغيرة وكبيرة. لقد عرفت تلك الفترة الانتقالية توقيع قرارين هامين يقضي أحدهما بالانطلاق في برنامج تصنيع طائرات «إيرباص» وينص الثاني على البدء ببناء غواصة نووية فرنسية خامسة.


لعب «آلان بوهير» آنذاك دور المسؤول عن احترام قواعد اللعبة الانتخابية. وكان يراقب معسكر اليسار «الموحّد» وراء فرانسوا متيران، المرشح باسم البرنامج المشترك مع الشيوعيين ومعسكر اليمين «المنقسم على نفسه» بوجود عدة مرشحين على رأسهم جاك شابان دالماس وفاليري جيسكار ديستان.


أما بيير ميسمير، رئيس الحكومة فقد أعلن عن استعداده لخوض المعركة الانتخابية ك«مرشّح وحيد» إذا انسحب الآخرون. لكن شابان دالماس رفض الانسحاب بينما صمت جيسكار ديستان. رأى جاك شيراك أن شابان دالماس ليس مؤهلا لمواجهة فرانسوا متيران فأعلن دعمه لفاليري جيسكار ديستان.


ويعتبر المؤلف أن «المناظرة التلفزيونية» التي شاهدها ملايين الفرنسيين قبل الدورة الانتخابية الرئاسية الثانية التي تواجه فيها فاليري جيسكار ديستان مع فرانسوا متيران حاسمة بالنسبة لاختيار الناخبين. وينقل من تلك المناظرة اللحظة «القوية» التالية:


«متيران: - إن التغيير الذي تتحدث عنه لن يجر بالطبع مخاطر بالنسبة لأناس مثلك.


جيسكار: - ماذا تقصد سيد متيران بتعبير «أناس مثلك»؟


متيران: - أناس ينتمون إلى شريحة اجتماعية ما لم يواجهوا المصاعب مثل أغلبية النساء والرجال الذين صوتوا لي.


جيسكار: سيد متيران لا يحق لك قول أشياء كهذه (...). ولا تمتلك احتكار القلب. فأنا لي قلب مثلك، لا تمتلك احتكار القلب وعليك أن لا تتحدث للفرنسيين بهذه الطريقة الجارحة للآخرين».


فاز فاليري جيسكار في الانتخابات وأصبح الرئيس الثالث للجمهورية الفرنسية الخامسة. وصل الرئيس الشاب ذو ال48 عاما إلى قصر الاليزيه يوم 27 مايو 1974. وبعد تنصيبه رسميا قاد على الفور رئيس الأركان الخاص بالرئاسة إلى مكان تواجد خزانة تحتوي شاشات وكاميرات وأزرار للسيطرة. وهذه كلها مربوطة مباشرة مع مركز للقيادة موجود في منطقة «فال دواز» القريبة من باريس حيث يوجد مقر قيادة القوى النووية.


ينقل المؤلف عن الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان قوله: «لقد قاموا بتشغيل الجهاز فظهر ضابط على الشاشة وقدّم اسمه وهو بحالة الاستعداد العسكري. بقيت مسألة التأكد من هوية المتحدث. هنا تبرز أهمية الأرقام السرية (الكود).


ففي حالة انقطاع التواصل البصري المباشر أو عبر شاشة فإنه لا تبقى وسيلة للتعرف على الهوية سوى بواسطة الصوت أو بواسطة رسالة. هاتان الطريقتان ليستا مضمونتين بشكل كامل. من هنا تأتي أهمية اللجوء إلى كود التعرّف على الهوية».


تلك هي آلية عمل السلاح النووي الموضوعة في ظرف يشبه الميدالية ويحمله رئيس الجمهورية بشكل دائم أو يكون على مقربة منه. وبواسطة هذا الظرف-الميدالية يمكن تحديد الشخص الوحيد الموجود على قمة سلسلة القيادة الذي يتمتع بصلاحية «إعطاء الأوامر باستخدام الأسلحة النووية».


الصديق الحميم


كان الشخص الأجنبي الأول الذي دعاه فاليري جيسكار ديستان لزيارته «دون إضاعة لحظة واحدة» هو هلموت شميت، المستشار الألماني آنذاك، وصديقه شبه الحميم وذلك الذي كان يحس بالثقة معه والذي كان جرى انتخابه مستشارا قبل فترة وجيزة فقط مثله.


كان شميت اشتراكيا- ديمقراطيا ولكنه كان قبل كل شيء رجلا عمليا «براغماتيا» يهمّه العمل والفعل. تولّى شميت وزارة الدفاع في ألمانيا لمدة ثلاث سنوات ثم أصبح وزيرا للمالية وحينذاك تعرّف على زميله وزير المالية الفرنسي فاليري جيسكار ديستان وارتبطا بعلاقة صداقة وثيقة.


وقد اكتشف الرجلان وجود تقارب كبير في وجهات النظر بينهما على صعيدي السياسة الاقتصادية والدبلوماسية في إطار نوع من نزعة العولمة «المبكّرة» حيث تلعب المبادلات التجارية الدور الأول في سبيل استقرار العلاقات الدولية.


كما التقيا أيضا في إطار العمل من أجل تحقيق «الدول الأوروبية المتحدة» وواجها معا نتائج الصدمة البترولية لعام 1973 والتقهقر الأميركي في فيتنام وفقدان الثقة بالولايات المتحدة مقابل بروز قوة الاتحاد السوفييتي. كانا يتحدثان غالبا بالهاتف، وباللغة الانجليزية بعيدا عن «رقابة» المترجمين.


لم يرد فاليري جيسكار ديستان أن يجعل مكتبه في «الصالون الذهبي» والجلوس على نفس «الأريكة» التي كان يجلس عليها الجنرال شارل ديغول، وإنما اختار مكتبا «متواضعا» يطل على الحديقة وتدخله أشعة الشمس طوال الجزء الأعظم من اليوم.


وفي اللحظة التي بدأت فيها محادثات المستشار الألماني شميت مع مضيفه جيسكار ديستان في الاليزيه كان الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون «يترنّح» قبل السقوط النهائي بسبب فضيحة ووترجيت، وفي الوقت نفسه كان الاتحاد السوفييتي يتهيأ لنشر صاروخ إستراتيجي جديد يصل مداه إلى أربعة آلاف كيلومتر، أي يطال القسم الأكبر من أوروبا، باسم «اس. اس- 20» ويحمل ثلاثة رؤوس نووية.


وينقل المؤلف عن جيسكار ديستان أن المستشار هلموت شميت قال له في نهاية الحديث إنه سوف يطلعه على أمر يؤرقه وقال: «لقد ترددت في الحديث عن ذلك معك ولكن أعتقد أنه من الأفضل أن أفعل ذلك. إن الأمر يتعلق بالقوات الفرنسية المتواجدة في ألمانيا. لقد كنت وزيرا للدفاع وأعرف جيدا حقيقة الأوضاع التي يعيشونها.


وقد ينبغي عليكم عدم القبول بذلك. إن جنودكم جيدون، لكن أوضاعهم المادية ليست جيدة ولا تليق بكم، بل إنها صادمة بالنسبة للمواطنين الألمان المحيطين بهم. فثكناتهم سيئة الصيانة. ومن الواضح أنه ينقصهم المال ويستخدمون أعتدة قديمة وبالية لا تصلح للخدمة. ولا يمكنكم القبول بذلك».


ثم أضاف: «إنكم تحتفظون بنفوذ عالمي أعلى من قوتكم الحقيقية وتعرفون كيف تستخدمونه ببراعة عندما تكون هناك صفقات ينبغي الحصول عليها. وحظوظكم كبيرة في أن تكونوا القوة الأولى في أوروبا. وربما كان ينبغي أن تكونوا كذلك. لكنكم لا تفعلون ما هو مطلوب من أجل بلوغ مثل هذا الهدف».


هكذا إذن ذكّر ألماني فرنسيا ب«واجباته العسكرية، لقد فهم جيسكار ديستان الرسالة جيدا، لكنه لم يعلّق بكلمة واحدة على ما قاله المستشار الألماني. وفي عالم يمكن لأوروبا أن تعزز قوتها وتحتل فيها فرنسا المرتبة الأولى ها هي تتراجع وينحسر نفوذها. واعتبر جيسكار نفسه مسؤولا جزئيا عن ذلك إذ كان وزيرا للاقتصاد وساهم في تطويرالترسانة النووية ولكن على حساب الباقي.


كان انتخاب فاليري جيسكار ديستان رئيسا يعود الفضل فيه جزئيا لجاك شيراك الذي ناصره ضد جاك شابان دالماس. كان جيسكار وشيراك يشتركان بأنهما طويلا القامة - 981 سنتمترا لكل منهما- وخريجا المدرسة الوطنية الفرنسية العليا للإدارة التي تخرّج منها العديد من القادة السياسيين الفرنسيين.


عند هذا الحد يقف التشابه بين الرجلين بينما كانا يتمايزان من حيث اهتماماتهما الفكرية والسياسية وأسلوبهما في الحياة والتصرف. مع ذلك أعلن جيسكار لجاك شيراك أنه سوف يعينه رئيسا للوزراء فأجابه قائلا: «يمكنك أن تعتمد علي».


ثم أضاف «لكنك سوف تأسف على ذلك» كما ينقل المؤلف عن أحد حضور الحديث. ومنذ البداية بدا أن هناك غيوم في الأجواء، ذلك أن جيسكار و«ذراعه الأيمن» ميشيل بونياتوفسكي، شرعا بإعداد التشكيلة الحكومية دون استشارة شيراك تقريبا.


كان فاليري جيسكار ديستان قد أعلن مسبقا أنه ليس من مؤيدي الشروع في تعزيز السلاح النووي وذلك على اعتبار أن التحدّي الحقيقي أمام العالم الحديث لم يعد ذو طبيعة عسكرية، وإنما هو ذو طبيعة اقتصادية واجتماعية وإنسانية.


ولكن جاك شيراك أمر، من موقعه كرئيس للوزراء، باستئناف التجارب النووية، مما أثار اعتراض أحد وزرائه وهو «جان جاك سرفان شرايبر» ممثل الحزب الراديكالي في الحكومة.


وقد عرف هذا الوزير عبر خبر وزّعته وكالة الصحافة الفرنسية أنه أقيل من منصبه الوزاري، الأمر الذي برره جيسكار له عندما التقاه في اليوم التالي بالقول: «كان علي أن أتخذ مثل هذا القرار حيالك بناء على طلب من رئيس الوزراء -شيراك- أو أنه كان سيستقيل وبالتالي تستقيل الحكومة».


خلاف ديستان وشيراك


لكن الأزمة انفجرت بين جيسكار ديستان وجاك شيراك حول التجارب النووية. فعندما قدم رئيس الوزراء وبصحبته وزير الدفاع إلى قصر الاليزيه من أجل توقيع مرسوم من الرئيس ينص على منع الملاحة حول جزيرة موروروا


حيث تجري التجارب النووية في هذه المنطقة من المقاطعات الفرنسية فيما وراء البحار قال لهما الرئيس: «لقد قررت تعليق التجارب النووية في المحيط الهادئ، فالعالم كله ينتقدنا، ثم إن فرنسا بتوقيفها التجارب هذه السنة تقوم بحركة باتجاه السلام».


فأردف شيراك غاضبا: «لك الحق تماما في اتخاذ مثل هذا القرار سيادة الرئيس. لكنني لا أستطيع القبول بذلك إنه بنظري يتعارض مع المصالح الوطنية، وإذا تمسّكت به فإنني سوف لن أستطيع تطبيقه. وسيكون عليك البحث عن رئيس وزراء آخر».


هكذا قام الرئيس بتوقيع المرسوم الذي اقترحه رئيس الوزراء وجرى الإعلان عن استئناف التجارب النووية ووجد الوزير «المقال» نفسه أمام الأمر الواقع. وعلى عكس ما كان قد ردده الرئيس سابقا حول فترة من «الصمت النووي» استؤنفت مسيرة تعزيز الترسانة النووية الفرنسية أمام أسماع العالم وناظريه.


وفي مجال آخر، بعد ستة أسابيع فقط من وصول فاليري جيسكار ديستان إلى قصر الاليزيه أعلنوا له أن «أحد نجوم السياسة الدبلوماسية الدولية» موجود في باريس بطريقه إلى الشرق الأوسط. والمقصود هنا هو هنري كيسنجر الذي دعاه الرئيس الفرنسي لتناول إفطار الصباح معه في حديقة قصر الاليزيه وعلّق قائلا: «هذه الزيارة تثيرني كثيرا».


وكان مصدر «الإثارة» كما يقول المؤلف هو شخصية الزائر وموضوع البحث أيضا. كان كيسنجر خريج جامعة هارفارد وأحد أساتذة الإستراتيجية الكبار. بدأ مسيرته السياسية بالقرب من أسرة كيندي ثم انتقل إلى خدمة خصمها ريتشارد نيكسون. إنه رجل الأسرار والمناورات في خدمة فكرته عن المصالح الأميركية.


وكان محاطا دائما بالصحافيين والنساء الجميلات ويجيد استخدام التعابير الجميلة مثلما يجيد الحسابات الإستراتيجية. وكان كيسنجر قد ساهم في إعادة الصين إلى جوقة الأمم وفاوض على السلام في فيتنام وساهم في ترتيب الأمور في الشرق الأوسط. لكنه كان منذ سنة على صدام مع الفرنسي ميشيل جوبير حول العلاقات الأطلسية.


كان البيت الأبيض في واشنطن قد رأى بانتخاب فاليري جيسكار ديستان رئيسا لفرنسا مؤشرا إيجابيا على أمل الوصول إلى تطبيع لعلاقات كانت قد وصلت إلى نقطة «المواجهة الوشيكة».


وينقل المؤلف عن كيسنجر قوله: «إن جيسكار الذي لم يشارك في كوارث سنوات الثلاثينات والأربعينات ولا في مثالب الحرب الجزائرية، كان أقل حرصا من الذين سبقوه بتسجيل النقاط لصالح مكانته. وكان أول رئيس فرنسي يتحدث اللغة الانجليزية بطلاقة. وكان قد تلقى تعليمه في مدرسة البوليتكنيك...».


وقال جيسكار عن كيسنجر: «يظل هنري كيسنجر شابا وسعيدا بالمسؤولية الكبرى التي يمارسها». في ذلك الإفطار الصباحي وبعد تبادل بعض الجمل قال كيسنجر لجيسكار: «أريد أن أتحدث معك عن علاقاتنا الخاصة». ثم دقق القول أكثر: «علاقاتنا الخاصة في الميدان النووي.


أنت على اطلاع بالموضوع حتما وأريد أن أعرف عمّا إذا كنتم ترغبون الاستمرار بهذه العلاقات»؟ هنا اكتشف جيسكار نقطة بعد نقطة تفاصيل التعاون القائم بين الفرنسيين والأميركيين، رغم المجابهات الشفهية العلنية، في الميدان الأكثر حساسية والأكثر حرصا على حمايته أي ميدان الأسلحة النووية.


كان ذلك التعاون «النووي» طي الكتمان المطلق لا لأنه كان يخالف التشريعات الأميركية الخاصة بمنع تصدير مثل ذلك النوع من التقنيات فحسب وإنما أيضا لأنه كان «يحمل مخاطر كبيرة» من وجهة النظر السياسية بالنسبة لهذا الطرف وذاك.


وكان ذلك التعاون يقوم على أساس مفهوم «المعلومات السلبية»، وذلك بمعنى أن الباحثين الأميركيين لم يكونوا يعطون نظراءهم الفرنسيين أية معلومة ولكنهم كانوا بالمقابل يجعلونهم «يكسبون الوقت» عبر إرشادهم إلى سبل البحث التي لا تؤدي إلى طريق مسدود.


وكانت الصلات تقوم على الأرض الأميركية نفسها ولكن بسرية تامة بحيث أنه لم يكن يعرف بها سوى رئيس أركان الجيش ورئيس الدولة نفسه. وينقل المؤلف عن هنري كيسنجر قوله للرئيس الفرنسي: «إذا كنتم ترغبون استمرار هذا التعاون فإننا مستعدون لذلك.


لكن ينبغي المحافظة على نفس القواعد». فأجاب جيسكار: «لم أكن أعرف أنك سوف تحدثني اليوم عن هذه المسألة. ولم أتمعّن إلى حد كاف بهذا الملف. وأنا مستعد للخوض به ثانية بعد فترة. وحتى آنذاك أنا موافق على المحافظة على القواعد المطبقة بحذافيرها الآن». كرر كيسنجر: «أنا ألحّ على مسألة الاحترام التام للسرية إذ لا يمكننا المخاطرة أبدا».


ما يؤكده المؤلف هو أنه قد تمّت المحافظة على السر إلى أن انتهى مفعوله. وقد سمح ذلك التعاون لمهندسي إدارة التطبيقات العسكرية في مفوضية الطاقة الذرية بالتقدم سريعا في ميدان تصنيع الأسلحة النووية وفي التوصل إلى التزود بأسلحة ذات رؤوس متعددة.


لم يكن فاليري جيسكار ديستان يفهم الكثير عن آلية عمل «جوبيتر»، أي المقر النووي الموجود في الاليزيه، هكذا دعا جنرالين معروفين بانتمائهما إلى مدرستين «فكريتين» متعارضتين حول المسائل الإستراتيجية لتناول طعام الغداء معه في قصر الاليزيه، وكان يرافقه رئيس أركانه الخاص. وقد قال لهم: «لقد جمعتكم كي أحسّن معارفي حول ميدان تعرفونه جيدا».


كانت هناك أسئلة كثيرة تطرح عليه حول «العقيدة» التي ينبغي تبنيها فيما يخص الأسلحة النووية. وخاصة كان هناك سؤالان جوهريان: هل تنبغي المحافظة على نفس القدر من الميزانية بالنسبة للأسلحة النووية ومتابعة تصنيع غواصة نووية خامسة، كان الرئيس «بالنيابة» آلان بوهير قد وقّع قرار إنشائها؟


على أي مسرح يمكن نشر القوات المزودة بالصواريخ النووية التكتيكية التي يبلغ مداها 120 كيلومترا مما يعني أنها سوف تسقط على أراضي الحلفاء الألمان في حالة قيام أي نزاع مع السوفييت؟ كان جيسكار ديستان رجلا «متمدنا»، كما يصفه المؤلف ومحاميا يدافع عن حالة الوفاق مع الاتحاد السوفييتي، لكنه كان يجيد الحساب أيضا ويتعلم بسرعة.


وقد عرف سريعا أن رؤساء الدول لا يتحدثون فيما بينهم سوى عن الطائرات والصواريخ والغواصات. وينقل المؤلف أن ليونيد بريجنيف قد سأل جيسكار أثناء لقائه به في فرنسا عام 1974: «إلى من توجهون الأسلحة النووية الفرنسية»؟ وكانت إجابة جيسكار محسوبة وسريعة: «إن دفاعنا يبقى وطنيا».


قام فاليري جيسكار ديستان أثناء فترة رئاسته بتحويل قبو أرضي في قصر الاليزيه لم يكن قد دخله أحد قبل سنوات طويلة تقارب الأربعة عقود إلى «مقر القيادة النووية» اعتبارا من عام 1977. وكان الرئيس قد طلب من مجموعة من المهندسين تحويل ذلك المكان الرطب إلى مقر حقيقي للقيادة؟


وذات صباح من مايو 1978 عقد فاليري جيسكار اجتماعا سريا في قبو الاليزيه بحضور ستة من كبار الشخصيات الفرنسية بينهما جنرالان أحدهما قائد أركان الجيوش والآخر هو رئيس أركان الرئاسة. كان موضوع الاجتماع هو قضية «كولويزي» في الكونغو (البلجيكي)، زائير حاليا.


وكان عدة آلاف من المتمردين قد سيطروا على مدينة «كولويزي» حيث كان يعمل حوالي ثلاثة آلاف أوروبي نصفهم على الأقل من الفرنسيين العاملين في مناجم النحاس واليورانيوم. وكان شبح المذابح يلوح في الأفق.


الضوء الأخضر


ينقل المؤلف عن جيسكار ديستان قوله حول تلك القضية في نهاية اجتماع له مع وزراء حكومته: «هذه قضية خطيرة وبلادنا متورطة بها وكذلك مختلف العالم الناطق باللغة الفرنسية. إن مواطنينا المتواجدين هناك في خطر».


وكان التدخل العسكري الفرنسي يلوح في الأفق القريب. لكن رئيس أركان الجيش حذر قائلا: «إنها عملية دقيقة جدا من وجهة النظر التقنية. إذ لا توجد قاعدة للتراجع إليها في المناطق القريبة».


مع ذلك أشار رئيس أجهزة الاستخبارات الخارجية الفرنسية أن المعلومات المتوفرة لديه تدل على أن «كل شيء يشير إلى أن الأوروبيين قد يتعرضون لمجزرة». ثم جاء قرار فاليري جيسكار ديستان، أعطيكم الضوء الأخضر للقيام بالعملية».


لم يتسرّب أي شيء مما كان يدور داخل جدران قصر الاليزيه إلى الخارج. ولم يكن أحد يعرف ما يتم تحضيره في فرنسا. فقط كانت هناك بعض الإشاعات عن إمكانية التحضير للقيام بعملية. وفي نفس مساء انطلاق عملية التدخل العسكري الفرنسي في «كولويزي» جرى تنظيم حفلة استقبال في قصر الاليزيه تكريما للرئيس السنغالي الراحل ليوبولد سنجور.


وقد حاول الرئيس الفرنسي أن يبدو بأفضل حالة نفسية كي لا يتنبّه أحد للأمر الذي كان يشغل باله. أحد الجنرالات أعطاه في تلك السهرة ورقة صغيرة أخبره فيها أن الطائرة الفرنسية الأولى قد حطت في «كنشاسا» وعلى متنها جنود من المظليين.


أمضى الرئيس الليلة كلها إلى جانب جهاز الهاتف. وقد أخبره السفير الفرنسي في زائير أن مذابح الأوروبيين قد بدأت في «كولويزي». وعندما وصل الجنود الفرنسيون إلى المدينة كان أكثر من مئة أوروبي قد لقوا حتفهم بينما قاموا بتخليص الباقي وقُتل ستة من الجنود الفرنسيين.


وقضية إستراتيجية أخرى عرفتها فترة رئاسة فاليري جيسكار ديستان، وهي تخص الصواريخ التكتيكية التي يبلغ مداها 120 كيلومترا والمعروفة باسم «بلوتون». وكان جيسكار قد أمر أن تشارك محمولة على دبابات في العرض العسكري المكرّس للاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي بتاريخ 14 يوليو 1975. كان يريد أن يقول للرأي العام أن هذه الصواريخ موجودة وأنها «عملياتية» أيضا.


أزمة الصواريخ النووية


لكن هذه الصواريخ أثارت أزمة حقيقية بين فرنسا وألمانيا ذلك أن وجودها على حدود فرنسا الشرقية يعني أنها لا تطال سوى الأرض الألمانية بينما كان يريد الفرنسيون وضعها، كما قالوا، على الحدود الشرقية للحليف الألماني كي تكون جاهزة لمواجهة العدو «السوفييتي» بأقصى سرعة ممكنة.


لكن المستشار الألماني آنذاك هلموت شميت قال للرئيس الفرنسي جيسكار ديستان، كما ينقل المؤلف، أثناء لقاء معه في قصر الاليزيه: «لكن في نفس اللحظة التي سيضرب فيها صاروخ نووي الأرض الألمانية سوف ترفع قواتنا الرايات البيضاء. أعرف أن توقيف هذا البرنامج التسليحي صعب عليكم، ولكن بصراحة لا معنى له أبدا».


وكان جيسكار نفسه في حيرة من أمره بشأن الدور الذي يمكن لصواريخ «بلوتون» أن تلعبه في أي سيناريو حربي. وينقل عنه المؤلف قوله: «كنت مدركا دائما أنه في حالة نشوب نزاع نووي سيتم تدمير فرنسا». لكن بعيدا عن القناعات والنقاشات المجرّدة كان يبحث عن حل لمسألة تلك الصواريخ على أرض الواقع الملموس.


وضمن هذا السياق قام رئيس أركان الجيوش الفرنسية بتنظيم «مناورات كبرى» خلال شهر مايو من عام 1980. وكان الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان يلتقي في تلك اللحظة مع نظيره السوفييتي ليونيد بريجنيف في وارسو عاصمة بولندا بعد دخول القوات السوفييتية إلى أفغانستان. وقد بدت تلك الزيارة آنذاك بمثابة «محاباة» للسوفييت.


كان الموضوع الذي قامت حوله «المناورات المعنية» هو غزو سوفييتي مفترض لأوروبا بحيث أن الجيش الأحمر يخترق دفاعات الحلفاء ويجتاز السهول الألمانية باتجاه فرانكفورت. وقد قال رئيس الأركان الفرنسي للرئيس جيسكار: «سوف أطلب منكم سيادة الرئيس ـ أثناء المناورات ـ إعطاء الأوامر التي تسمح لقادة الجيش الأول الذي ستكون تحت أمرته كتيبتان مسلّحتان بصواريخ بلوتون باتخاذ قرار استخدام السلاح النووي».


فقال له جيسكار: «لماذا تقول لي أنك تطلب مني السماح؟ أنت تطرح علي السؤال وسوف أعطيك الجواب. ولكن لن يعرف أحد هذا الجواب بشكل مسبق». بدأت «المناورات» ونزل جيسكار في ساعة متفق عليها إلى قبو الاليزيه حيث يوجد مقر قيادة الأسلحة النووية.


كانت جدران المقر مغطاة بالخرائط التي تبيّن مواقع الجيوش في المعركة ـ كما جرى تخيّلها ـ وكان كبار الضباط يتحلقون في «الميدان» حول رئيس الأركان الذي قال للرئيس على الطرف الآخر: «سيادة الرئيس، إن قائد الجيش الأول يطلب منكم السماح له أن يستخدم، إذا دعت الضرورة، أسلحته النووية التكتيكية، أي صواريخ بلوتون».


أجاب جيسكار: «ينبغي أن لا ننسى أبدا أن هناك دائما احتمال أن يرد الخصم». وكان يرى أن إعطاءه الضوء الأخضر لاستخدام مثل تلك الأسلحة في بداية المناورة سوف يرد عليه الخصم وقد يدمّر قواته المسلحة، وبذلك قرر إذن عدم السماح. وقال لقائد أركان جيوشه: «عندما تستأنف القوات السوفييتية الهجوم وتلتحم مع وحداتنا ستطرح علي السؤال من جديد».


بعد يومين جلس رئيس الدولة في مقر القيادة بقبو الاليزيه للتعرف على سير العمليات. كانت القوات السوفييتية( المفترضة) تتقدم وتقترب من الأراضي الفرنسية. تذكر جيسكار: «كان يُفترض أن يطرحوا علي من جديد السؤال حول السماح باللجوء إلى السلاح النووي،


لكنهم لم يطرحوه لأن قيادة الجيش رأت أنه لا ينبغي اتخاذ مثل تلك المخاطرة». فهل كان ذلك يعني الاختيار بين الاستسلام أو الموت؟ وما فائدة صواريخ بلوتون إذن؟ سؤالان فرضا نفسيهما على ذهن الرئيس في ذلك الوقت ولم يجدا إجابة.


كان20 مايو 1981 آخر يوم لفاليري جيسكار ديستان في الاليزيه. ها هو الرجل الذي دخل القصر «مبتدئا» بالشؤون العسكرية يغادره وقد ترك لخليفته فرانسوا متيران جيشا معافى بميزانية محترمة واعتمادات دفاعية زادت بنسبة 30 بالمئة تقريبا أثناء رئاسته.


عرض ومناقشة: محمد مخلوف