نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

شطرنج


أحمد عيسى

شطرنج
جلس يلعب الشطرنج مع ابن خالته، على صفحة الطاولة جيش أبيض في مواجهة جيش أسود، كلٌّ منهما يخطط ويفكر، والهدف: الإبادة، أو الوصول إلى الملك وقتله.
الوقت يمر ببطء، الفكر مشغول.. قام صاحبي بحركة جريئة، وانتظر ردي، لكني سرحت بخيالي هناك إلى المعارك الحقيقية الدائرة.. تلك المعارك التي يختلط فيها أحياناً الجندي الأبيض مع الأسود لهدف واحد.
"يا أحمد.. العب.. هه.. العب.. فيم تفكر"؟
نعم يا حسام، كنت أظن أن فرسك جاسوس لملكي أو متعاون مع جيشي، فأفهم حركته جيداً، إنه قد يمهد لي الطريق"!
ضحكا معاً.. وواصلا اللعب.
طرقٌ على الباب.. وانتظار.. عاد حسام بعدها بوجه غير الذي ذهب به.
جاء وقت الجد يا أحمد.
ماذا؟
علينا أن نكمل المعركة في مكانها الحقيقي.
ماذا تقصد؟
تم استدعاؤنا للخدمة الوطنية.
"إيه يا بطل" قالها أحمد.. وضرب برقة على ظهر حسام.
رد حسام: أتظن أنها نزهة أو دور جديد للشطرنج؟ إنها حياة أو موت.. وجلس واضعاً كفيه على جبهته:
متى سنغادر؟
سكون عميق على دقات القلب السريع، ثم قام وهو يحمل رقعة الشطرنج، وخرجت من محجريه دموع بطيئة تتراءى عليها صورة طفلته الجميلة ذات الربيع الواحد، وأمه وهي تودعه، وزوجته وهي تصافحه، والبيت والشارع والمدينة...
فجأة التفت بعصبية وضرب رقعة الشطرنج بقبضته، ووضع ذراعيه على كتفي صاحبه، وقال في تحدٍّ: لن أذهب! وترك الحجرة ومضى سريعاً، وصاحبه تدور الأرض من تحت قدميه ومن حوله.
مكان واسع مهول، يشبه المربعات الضخمة لأرضية قطعة الشطرنج، تتعالى فيه الأصوات والهمهمات، ويجلس مئات الشباب القرفصاء، يلبسون الملابس الداخلية فقط، في صفوف منتظمة، على رأس كل صف حارس، وبعيداً هناك مناضد يجلس حولها الأطباء، ويقف الجالسون الواحد تلو الآخر ليجري هؤلاء الأطباء الكشف عليهم، ثم يجتمع الجالسون مرة أخرى لإعادة الكشف وتسريح غير القادرين.
كان أحمد بين هؤلاء الأصحاء ينتظر.. يشعر بالزهو أن كل هؤلاء الشباب قد استعدوا للحرب والدفاع عن مجد الدين وشرف الوطن.
البشرة السمراء الأصيلة، والعضلات المفتولة، وبساطة الحديث تجعله يحب هؤلاء الجنود ويشعر بالأنس معهم.
وبينما هو ماضٍ في تفكيره يرقب الزملاء وقعت عيناه على صاحبه، أخذ يحاول جاهداً بين الأمواج البشرية أن يصل إليه.. حتى اقترب منه.. بادره بالمصافحة والكلام.. لكن صاحبه نظر إليه بطرفي عينيه، ولم ينبس ببنت شفة.
أمسك أحمد بذراع صاحبه يحركها ويقول: "مالك يا حسام؟ ماذا بك؟" وحسام ينظر في الفراغ بعينين تبرقان بمسحة خفيفة من الدموع.. ثم تركه ومضى!
اتصل أحمد بخالته يسألها: "ماذا حدث لحسام"؟ لم تتمالك إلا أن تبكي وتقول كلاماً لم يفهمه أحمد.. حاول مرة أخرى حتى هدأت، وعرف منها أن حسام يحاول الهروب من الجندية بأي شكل، وعن طريق أحد العملاء ذهب إلى طبيب ليمزق له تحت التخدير طبلة الأذن، حتى يعفى من الخدمة!
استمع أحمد مذهولاً إلى حديث خالته، وقرر أن يبحث عن حسام ويواجهه: "أنا الذي سأدافع عن ابنتك، أنا الذي سأصون كرامتك، اذهب أيها الذي أصابه الصمم واقعد مع القاعدين".
كان أحمد يحدث نفسه بهذه الكلمات ليواجه بها حسام، لقد اختلطت الأوراق على البعض، كما اختلطت الأحجار على رقعة الشطرنج. ليس حسام وحده الذي يحتال ليهرب من الخدمة.
بحث عنه فلم يجده.. حان وقت الرحيل.. وقف أحمد مع مجموعته .. بنيان من الشباب مرصوص.. بأيديهم السلاح وفي قلوبهم الذخيرة الحية.. ذخيرة الإيمان والثبات والثقة بوعد الله..
كان أحمد يود أن يشاركه حسام تلك اللحظات الرائعة.. كما شاركه لحظات القتال على رقعة الشطرنج.
اعتلى الجميع المركبات التي أخذت تزحف في طريق على جانبيه أشجار البرتقال المثمرة.. وجداول المياه الصافية.. وبيوت على مد البصر ترقد هادئة بين خضرة الأرض وزرقة السماء، وبين البيوت تعلو القباب ومآذن المساجد تودع الراحلين.