هذا هو التصميم الصناعي في التراث الإسلامي ..

--------------------------------------------------------------------------------


في القرن التاسع الميلادي (حوالي سنة 807 م) أرسل الخليفة العباسي هارون الرشيد هديةً عجيبةً إلى صديقه شارلمان ملك الفرنجة، "وكانت الهديةُ عبارةً عن ساعة ضخمة بارتفاع حائط الغرفة، تتحرك بواسطة قوة مائية، وعند تمام كل ساعة يسقط منها عدد معين من الكرات المعدنية بعضها إثْر بعض، بعددِ الساعات فوق قاعدة نحاسية ضخمة، فيسمع لها رنين موسيقي يُسمَع دويُّه في أنحاء القصر.



وفي نفس الوقت يُفتح بابٌ من الأبواب الإثني عشر المؤدية إلى داخل الساعة، ويَخرج منها فارسٌ يدور حول الساعة، ثم يعود إلى حيث خرج، فإذا حانت الساعة الثانية عشرة يخرج من الأبواب اثنا عشر فارسًا مرةً واحدةً، ويدورون دورةً كاملةً ثم يعودون فيدخلون من الأبواب فتغلق خلفهم، كان هذا هو الوصف الذي جاء في المراجع الأجنبية والعربية عن تلك الساعة التي كانت تُعدُّ وقتئذٍ أعجوبةَ الفن، وأثارت دهشة الملك وحاشيته.. ولكنَّ رهبان القصر اعتقدوا أنَّ في داخل الساعةِ شيطانًا يحرِّكها، فتربصوا به ليلاً، وأحضروا البُلَط وانهالوا عليها تحطيمًا، إلا أنهم لم يجدوا بداخلها شيئًا، وتُوَاصل مراجع التاريخ الرواية فتقول: إنَّ العرب قد وصلوا في تطويرِ هذا النوع من الآلاتِ إلى قياس الزمن؛ بحيث إنه في عهد الخليفة المأمون أهدَى إلى ملك فرنسا ساعةً أكثرَ تطورًا، تُدارُ بالقوة الميكانيكية بواسطة أثقالٍ حديديةٍ معلَّقة بسلاسل؛ وذلك بدلاً من القوة المائية.



وقد تجلَّت مهارة المسلمين الميكانيكية في صناعة الساعات الكبيرة والصغيرة، ويذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) أنَّ أحد أبواب جامع دمشق كان يُسمَّى باب الساعات؛ لأنه عُمل فيها الساعات التي اخترعها فخر الدين الساعاتي، وكان يعمل بها كل ساعة تمضي من النهار، عليها عصافير وحية من نحاس وغراب، فإذا تمَّت الساعة خرجت الحية فصفَّرت العصافير وصاح الغراب، وسقطت حصاة في الطستِ فيعلم الناس أنه قد ذهب من النهار ساعة.



ويقول ابن جبير في وصف هذه الساعة: "إنها كان لها بالليل تدبيرٌ آخر؛ إذ تُجهز بمصباح يدور به إلى خلف زجاجة داخل الجدار، فكلما انقضت ساعة عمَّ الزجاجة ضوءُ المصباح ولاحت للأبصار دائرةٌ محمرةٌ"، وكانت هذه الساعة في غرفة كبيرة، وهناك شخص يقيم بداخلها مسئول عن صيانتها وإدارتها مدرَّب على أعطالها الميكانيكية، فهي أشبه بمحطة من محطات توليد الطاقة في عصرنا الحاضر.



وفي سنة 758 هـ صنع المهندس أبو عنان المريني المغربي ساعةً ضخمةً من النحاس، وُضعت في الساحة العامة بسوق القصر بالمغرب، وكانت في كل ساعة تُسقط صنجةً كبيرةً فوق طاس كبير.. فيَحدُث لها دويٌّ كبيرٌ يسمعه أهل المدينة.



من هذه القصص نرى مدى تطور المسلمين في علوم الميكانيكا أو ما كانوا يسمونه علم الحِيَل الهندسية، في حين كانت أوروبا في عصر الظلمات.



جِمال المسلمين وفيِلَة الفرس في معركة القادسية

في معركة القادسية فوجئ المسلمون في اليوم الأول للمعركة بظهور الفِيَلة في مقدمة جيش الفرس، وكانت الفِيَلة بحجمها وصراخها المرتفع تُخيف خيول المسلمين فتتراجع الخيل أمامها، وبسرعة خاطفة تشاور قادة المسلمين، وأعدوا خطةً للتغلب على الفيلة، فجاءوا في مقدمة جيشهم بجمال ضخمة وربَطوا كل جملين معًا وكسوهما بثوبٍ واحد حتى بدت الجمال كأنها وُحُوشٌ هائلةٌ، وأخذ الرماةُ على الجمال يُصَوِّبون سهامَهم إلى عيون الفيلة، فأصيبت الفِيَلة بالذعر فألقَت بالجنود من فوقها وعادت وهي تدهس كل مَن في طريقها من جنود الفرس، وبهذا انقلبت الهزيمة إلى نصر.



القائد محمد الفاتح ومضيق الدردنيل



من أشهر الخطط العسكرية في التاريخ ما فعله محمد الفاتح في فتح القسطنطينية، فقد وصل بسفنه المحمَّلة بالمدافع الضخمة إلى مضيق الدردنيل، فوجد أنَّ البيزنطيين قد سدُّوا المضيق بمجموعةٍ من السلاسل الضخمة التي تمتد بين الشاطئين تمنع السفن من العبور، ولكن هذا لم يفتَّ في عضد القائد العبقري ولم يوقف تقدمه، فقد قرر أن يقوم بأكبر عملية نقل أسطول بحري في التاريخ، وقام الجيش كله بسحبِ السفن على أعمدةٍ خشبيةٍ وضعها على البر، والتفَّ من خلف السلاسل ونزل الأسطول في البحر مرةً أخرى وفوجئ البيزنطيون بحركة الالتفاف التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ كله، فلأول مرةٍ في التاريخ العسكري يجرؤ قائد على نقلِ سفنه البحرية بما تحمله من مدافع ثقيلة ومؤن وعتاد، ويصعد بها قمة الجبل، ثم يهبط بها إلى البحر ليواجِهَ عدوَّه، وكانت نتيجة المفاجأة أن سقطت المدينة في قبضته بأقل الخسائر.



جابر بن حيان وكتاب الإمام جعفر الصادق

بينما كان الإمام الفقيه جعفر الصادق جالسًا في بيته ومعه عددٌ كبيرٌ من ضيوفه وتلاميذه يحتفلون بانتهاء الأستاذ من تأليف كتاب ضخم جديد اسمه (الضيم) إذ دخل على الجميع شابٌّ يافع طويل، أسمر البشرة، يبدو أنه من أصل يمَني اسمه جابر بن حيان، وكان يحمل بين يديه نسخةً من ذلك الكتاب وقد كتبها بخطِّ يده وصنَع لها غلافًا جميلاً مزيَّنًا بالنقوش الإسلامية، وفاجأ الشاب جميعَ الحاضرين بأن ألقى نسخةَ الكتاب التي يحملها والتي تعب الليالي في إعدادها.. ألقاها في النار، وصدرت من الجميع صرخات الاستنكار والاستهجان على ذلك الفتى، بينما حاول بعضهم إنقاذ الكتاب من النار ولكنهم فوجئوا بالإمام جعفر يبتسم لهم ويطمئنهم، وبعد قليل أخرج ذلك الشاب الكتابَ من النار فإذا به سليمٌ كأنَّ النار لم تمسّه!!



وأخذ الشاب يشرح للحاضرين أن أستاذَه طلب منه أن يصنع له نوعًا من الورق لكتابه الجديد لا تُؤثِّر فيه النارُ.. فظل يُجري التجارب الدقيقة في معمله الكيميائي على أنواعٍ من الورَق ويضع الأوراق في المحاليل الكيميائية ويصب عليها في كل مرةٍ خليطًا من السوائل التي ابتكرها ثمَّ ينشر الأوراق على حبال معلقة حتى تجفَّ، وأخيرًا توصل إلى اختراعِ الورق الذي يُقاوم النار فصنع منه غلاف الكتاب، كما صنع أنواعًا من الحبرِ الملوَّن الذي لا تمحوه النار بل تزيده وضوحًا وبريقًا وثباتًا.



أبو بكر الرازي وتحويل النحاس إلى ذهب

يروَى أنَّ العالم الكيميائي الرازي المتوفَّى سنة 924م كان يَعتقد أنه توصَّل إلى سرِّ الأسرار والحلم الذي راود العلماء السابقين بتحويل النحاس إلى ذهب، وقد باع فعلاً بعض الذهب الذي صنعه إلى جماعةٍ من خبراءِ الذهب الرومان فسافَروا به إلى القسطنطينية، وبينما هم في البحر إذ غرقت المركب بهم، ثم عادوا فاستخرجوا الذهب من قاعِ البحر فوجدوه قد علاه الصدأ، فعادوا إلى الرازي ورفعوا عليه قضيةً، فحكم عليه القاضي بردِّ ثمن الذهب مضافًا إليه ما تكفَّلوه في استخراجه من البحر، ولكنه برَّأه من تهمةِ الغش؛ حيث شهدوا أنه أخبرهم مقدمًا أنه صنع هذا الذهب في معمله الكيميائي وأنه كان يظنُّ مخلصًا أنه معدن جديد له خصائص الذهب، وقد طلب علماء ذلك العصر من الرازي أن يشرح طريقته في صنع هذه السبيكة الذهبية للعلم والتاريخ فألف كتابه المعروف "سرّ الأسرار" الذي شرح فيه كيف توصَّل لأول مرةٍ في تاريخ العلم إلى تحضير حامض يُذيب الذهب وسماه (الماء الملكي)؛ لأنه يُذيب ملك المعادن وهو الذهب، وبهذه الطريقة استطاع أن يحصل على ذهبٍ خالصٍ ثم خلط الذهب بالنحاس وصنع منهما سبيكةً جديدةً لها خصائص الذهب، وبذلك كان أوَّل مَن اكتشف طريقة صناعة السبائك الذهبية.



عبقرية الرازي في اختيار المكان

اختيار مواضع المدن الإسلامية كان يتم بترك مجموعة من الدواب والمواشي ترعى فيها وبعد ذبحها واختبار أكبادها، يتم التأكد من صحة المكان للاستقرار، ومن ثَّم بناء المدينة، وقد اتُّبِع هذا المنهج فيما اختُطَّ من مدن، واختيار مواضع القلاع أو المستشفيات كان يتم بتعليق اللحم في الأماكن المقترحة، والمكان الذي لا يفسد فيه اللحم بعد فترةٍ كبيرةٍ يكون هو المكان المُفضَّل للبناءِ عليه، فقد استدعى الخليفة العباسي في بغداد شيخ الأطباء أبا بكر الرازي وطلب منه أن يعدَّ تصميمًا لمستشفى كبير في ضواحي بغداد يكون أكبر وأحدث ما أُنشئ في زمانه، فاشترى الرازي فخذةَ لحمٍ كبيرة وقطعها إلى قطع صغيرة ووضعها في أماكن مختلفة من ضواحي بغداد، وأخذ كل يوم يمر على اللحم ليرى تأثير الجو والزمن عليها، فالقطعة التي تلفت بسرعة اعتبر أنَّ الهواء في هذه المنطقة فاسدًا ولا يصلح لإقامةِ المستشفى، أما القطعة التي ظلت صالحة اعتبر الهواء في هذه المنطقة صحيًّا أكثر من غيره، وبهذه الفكرة الذكية وضع الرازي أول قاعدة لاختبار البيئة الصالحة للاستشفاء والعلاج.



ولا يخفى على أحدٍ أنَّ المسلمين فطنوا إلى أثرِ الصحةِ وأهميتها في أي مجالٍ من مجالات الحياة، فالذي يتمتع بصحةٍ جيدةٍ أكثر إنتاجًا، حتى قيل إن العقل السليم في الجسم السليم، وتُقاس قيمة المجتمع بقدرِ ما يتمتع به الفرد من صحةٍ تُساعده على العمل، فالفرد العليل لا يستطيع أن ينتج؛ لذلك كان اختيار المواضع الصحية من أهم الاعتبارات المُعتبَرة في تحديد مواضع المدن والمنشآت الإسلامية.



ياقوت الحموي من الصفر حتى قمة الحضارة

وُلد ياقوت الحموي في اليونان من أبٍ وأم إغريقيين، وفي شبابه التحق كجندي بالأسطول البيزنطي في البحر الأبيض، وفي إحدى المعارك البحرية بين المسلمين والرومان سقط أسيرًا في قبضةِ المسلمين، وكان أسرى الحرب أثناء الحروب الصليبية في العالم الإسلامي يُؤْخَذون كعبيدٍ ويُباعون إلى الأُسَرِ المسلمة لترعاهم وتعلمهم.



وكان ياقوت الحموي من نصيبِ أسرةِ مسلمة من الشام، وكان من عادةِ المسلمين أن يطلقوا على العبيد أجمل الأسماء وأكرمها، مثل ياقوت وزمردة ومصباح، فأطلق عليه سيده اسم ياقوت ونسبه إلى أسرته الحموية، فسُمي ياقوت الحموي، وابتدأت الأسرة تعلِّم ياقوت اللغة والدين، وعندما لمحوا فيه ذكاءً اعتمدوا عليه في شئونِ التجارة، واعتنق ياقوت الإسلام طائعًا مختارًا، فحرَّره سيده من العبودية وأشركه معه في التجارة وأصبح ياقوت وكيلاً وشريكًا يسافر إلى أنحاءِ العالم الإسلامي، ومع كثرةِ الأسفار وحب الثقافة والاطلاع تحوَّل ياقوت إلى الكتابة والتأليف بالعربيةِ الفصحى حول مشاهداته في البلاد الإسلامية، فكتب في الجغرافيا موسوعة ضخمة هي (معجم البلدان)، بل تبحَّر في الأدب العربي فألَّف كتاب "إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب" عن تاريخ الأدب والأدباء في العالم الإسلامي، ويقول سارتون عن ياقوت الحموي إنه أصبح واحدًا من أعظم الجغرافيين لا في العالم الإسلامي وحده بل في التاريخ الإنساني كله.



فهذه القصة تدلنا على حقيقة مهمة وخطيرة؛ وهي أن الإسلام بتعاليمه ونظامه قد خلق من الجندي الإغريقي الجاهل واحدًا من أعظم علماء التاريخ، وأنَّ الإسلامَ كدين وتعاليم كان دائمًا صانع الحضارات، ومنشئ العلم والعلماء، ولو كان الأمر بالعكس وسقط ياقوت في أسْرِ الرومان لجعلوه طعامًا للوحوش.



ابن النفيس والحمَّام

بينما كان طبيب القلب ومكتشف الدورة الدموية ابن النفيس مسترخيًا في الحمَّام.. يستمتع ببخارِ الماء الحارّ، والمختص يدلك عضلات جسمه في رفق؛ إذ مدَّ يده يتحسس نبضه، وكان قد قاسه قبل دخول الحمام، فلاحظ أنَّ النبضَ في هذا الجو المُريح للأعصاب تقل سرعته عن الجو المتوتر المليء بالانفعال، وتواردت الأفكار على خاطره بسرعة البرق، فقد كان عالمًا حاضر الذاكرة، يؤلف كُتبه كلها من البديهة دون أن يحتاج إلى المراجع بجانبه.



وفي الحال انطلق ابن النفيس من مكانه وهو شبه عريان ودخل إلى مسلخ الحمَّام، وأمر بدواةٍ وأقلامٍ وورق وأخذ يكتب ويكتب الساعات الطوال وكأنه السيل إذا انحدر، وكان كلما كَلَّ القلم وحفي رمَى به وتناول غيره؛ لئلا يقطع أفكاره أو وقته في برْي القلم.. وأخيرًا انتهى من تأليفِ بحثه الهام: "رسالة في النبض"، وعند ذلك عاد إلى الحمام وأكمل غسيله.



فهذه القصص مع ما فيها من طرافةٍ علميةٍ تُبيِّن لنا مدى ما وصل إليه علماء وقادة المسلمين، من تمكُّنٍ في العلم، ومن قوةِ الملاحظة، ومن اعتمادٍ على التجربةِ والمشاهدة في كتاباتهم العلمية.
__________________


كيف تكون كلمتنا من رأسنا إذا لم تكن لقمتنا من فأسنا





وأعدوا