كمَثَل الكلب -سورة الأعراف
سورة الأعراف
(مثله كمثل الكلب...)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ 175 وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 176(الأعراف)
تطلب الآية الأولى من النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين نبأ شخص آتاه الله آياته المبصرات ( سواء كانت نصوصاً مكتوبة أو مقروءة أو كرامات معجزة وغير ذلك من آيات كونية.. )، وأغلب المفسرين أنه من علماء بني إسرائيل يدعى بلعام بن باعوراء ، وبعد بلوغه مرحلة من العلم، نكص بالتزامه وخلد إلى الدنيا وشهواته الدنية .
هذا ويصح المثل على كل إنسان مثله ، فالآيات الربانية تملأ الكون وتحيط بنا إحاطة الجلد بالجسم، سواء آيات كونية كالشمس والقمر والنجوم... أو حيوية كالعين والسمع والقلب والتنفس والجلد نفسه فهي آيات محيطة بكل إنسان وتأتيه من كل مكان حوله، لكن هذا الإنسان إن غلبته شهواته الدنيوية وترك ما آتاه الله تعالى وانسلخ منها متنكراً لها، ولحق بالدنيا وركن إليها وكأنها حاجة أساسية ملحة له ولازمة لحياة جسمه. بل إذا كان يركض وراءها لاهثاً في كل أحواله ، فإن الشيطان سيلحقه ويغويه أكثر فأكثر ويضله ضلالا مبيناً .
مثل هذا الإنسان يبحث عن إشباع غرائز فيزيولوجية يمكنه أن يروضها ويتحكم بها في طاعة الله، كتناول الطعام والشراب وشهوة الفرج والتلذذ بالحواس (السمعية والبصرية واللمسية والذوقية والشمية).. لكنه لم يعبأ بتعاليم الآيات الإلهية وراح في الإسراف من الشهوات.
فشابه في هذه الحالة تماماً حالة الكلب الذي يلهث في كل أحواله سواء كان في حالة الراحة أو الجهد لحاجة ملحة في طبيعة جسمه – حالة فيزيولوجية بالنسبة للكلب (سواء لتلطيف حرارة جسمه المرتفعه أو تعديل الأيونات أو غاز ثنائي أكسيد الكربون المتولد بكثرة عنده..).
وينطبق هذا المثل على كل مكذب بآيات الله تعالى يعيش في الظلام ولا يرى الحقائق ، إذ لا يكذب بهذه الآيات الواضحات إلا من أعمته شهوات الدنيا وركض وراء لذاتها الزائلة .
وفي هذا المثل دعوة صريحة للتفكر بآيات الله تعالى وأمثاله. فمن يفتقد البصيرة السليمة لن يرى النور الإلهي الحقيقي الذي ينير الدروب المظلمة ويتجنب الوقوع في العثرات والوديان السحيقة.
ويشير المثل إلى سبب من أسباب العمى والابتعاد عن آيات الله تعالى وهو الطلب الداخلي للشهوات والركض وراءها دون تفكير أو تعقل أو تدبر.
ولذلك ذكر الحل للخروج من هذه الحالة في نهاية المثل وهو التفكر بآيات الله تعالى وتدبرها. فمن ينظر في آية العين يتوصل لاسم الله البصير ، ومن يتفكر بآية السمع يتوصل إلى اسم الله السميع ومن يتفكر في حكمة توزيع أعضاء جسمه من بصر وشم وسمع وحس معمم يتعرف إلى ربه الحكيم .. وهكذا..
فإذا عرفه لن يستبدله بترهات زائلة وسيبقى على الإيمان بربه وبآياته والالتزام بها. ومن هنا نفهم قوله سبحانه وتعالى ، ولو شئنا لرفعناه بها أي لو تفكر بها والتزمها لارتقى بدرجاته قرباً من خالقه لكنه لاذ بالأرض ولذاتها فأنى له الارتقاء في عالم الفكر والعقل ثم عالم الملكوت والطهارة ؟
والله أعلم
=========================================
تدبر الآيات وعدم الانسلاخ منها
أشكرك أخي كارم على تكرمك بالمشاركة
تنفيذاً لطلب الآية الكريمة في نهايتها بالتفكر (... فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) أود أن أبين هذه الومضة التي جالت بخاطري عند تدبر هذه الآية الكريمة:
لو رجعنا إلى المعاجم كلسان العرب نجد فيه تحت كلمة سلخ :
السَّلْخُ: كُشْطُ الإِهابِ عنِ ذيهِ. سَلَخَ الإِهابَ يَسْلُخه ويَسْلَخه سَلْخاً: كَشَطه.
والسَّلْخُ ما سُلِخَ عنه.
وسَلَخَت المرأَة عنها دِرْعَها: نزعته؛ قال الفرزدق: إِذا سَلَخَتْ عنها أُمامةُ دِرْعَها.
فنلاحظ أن حرف الجر (عن) الذي يفيد معنى البعد يستعمل عندما يستعمل السلخ لرداء أو جلد أو درع أو أي شيء سطحي يحيط بالجسم كالجلد مثلاً.
ولو كان للجلد ألياف تمتد إلى أعماق الجسم لما صح استعمال حرف الجر (عن)، بل يجب استعمال حرف الجر (من) في مثل هذه الحالة للدلالة على الانسحاب من ضمن الجسم.
ولما كانت آيات الله تعالى تحيط بالإنسان من خارجه ومحيطه ، بل تمتد إلى جميع مكوناته الداخلية من قلب ورئة ودماغ ودم وخلايا، فلا يمكن لأي مخلوق أن ينسلخ عن آيات الله، فهي تلفه وتكونه ، وحاله كمن يتساءل هل يمكن لإنسان أن ينسلخ عن الهواء الذي يحيط به ويدخل إلى داخله ؟... هذا مستحيل.
ويكون الانسلاخ منها يعني عدم الولوج فيها تفكراً وتدبراً لاكتشاف حكمتها وأحكامها ، ومعرفة الله تعالى من خلالها ، أو تركها ونسيانها أو الانسحاب من ضمنها إن ولج يتفكر فيها ذات مرة... والانصراف إلى الدنيا وشهواتها ومباهجها راكضاً لاهثاً وراءها.
وكمثل هذا الاستعمال في القرآن الكريم قوله : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ، ولم يقل نسلخ عنه النهار ، فالآيتان (الليل والنهار) متداخلتان تكوينياً وليست إحداهما قشرة للأخرى ليتم فصلهما عن بعضهما، وإنما هي عملية تداول الإنارة وولوجها بين جهتين متقابلتين لا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى.
ولعل في هذا المعنى يتضح قول الله تعالى : وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ.
أي لو ولج في آياتنا متفكراً متدبراً لرفعناه بها ، ولكنه انسل منها (تناساها وانسلخ منها) راغباً بملذات الدنيا الأرضية ... وأجمل ختام في الآية قوله تعالى فاقصص القصص لعلهم يتفكرون.
فالحكمة النهائية ضرورة ولوج الآيات وطلب التفكر الصحيح فيها وعدم الانسلاخ منها.
والله أعلم