-
صور من سير المجاهدين
سلسلة المجاهدون
البراء بن مالك
التعريف به و مولده هو الصحابي الجليل البراء بن مالك بن النضر الأنصاري أخو أنس بن مالك لأبيه وأمه[1] .ولد البراء بن مالك بالمدينة و بها عاش إلى أن خرج مقاتلاً في سبيل الله في اليمامة وفي أرض الفرس حتى لقي الله شهيدًاوقال عنه ابن عبد البر كان البراء بن مالك هذا أحد الفضلاء ومن الأبطال الأشداء قتل من المشركين مائة رجل مبارزة سوى من شارك فيه [2] .
أهم المعارك ودوره فيها: مع مجاهد من المجاهدين الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم ونهلوا من ينابيع حكمته وشاهدوا بطولته صلى الله عليه وسلم ، ليسجل التاريخ بطولة وشجاعة هذا المجاهد الذي كان يطلب الموت في كل مظانه ، وكان قلبه منعقدًا بطلب الشهادة في سبيل الله سائلاً الله بلسانه أن يتقبله الله في قافلة الشهداء وقد كان إنه المقاتل المجاهد الشهيد البراء بن مالك .
معركة اليمامة لما انتهى أصحاب مسيلمة إلى حائط حفير فتحصنوا به وأغلقوا الباب فقال البراء بن مالك ضعوني على برش واحملوني على رؤوس الرماح ثم ألقوني من أعلاها داخل الباب ففعلوا ذلك وألقوه عليهم فوقع وقام وقاتل المشركين وقتل مسيلمة قلت وقد ذكر ذلك مستقصى في أيام الصديق حين بعث خالد بن الوليد لقتال مسيلمة وبني حنيفة و كانوا في قريب من مائة ألف أو يزيدون وكان المسلمون بضعة عشر ألفا فلما التقوا جعل كثير من الأعراب يفرون فقال المهاجرون والأنصار خلصنا يا خالد فميزهم عنهم وكان المهاجرون والأنصار قريبا من ألفين وخمسمائة فصمموا الحملة وجعلوا يتدابرون ويقولون يا أصحاب سورة البقرة بطل السحر اليوم فهزموهم بأذن الله وألجئوهم إلى حديقة هناك وتسمى حديقة الموت فتحصنوا بها فحصروهم فيها ففعل البراء بن مالك أخو أنس بن مالك وكان الأكبر ما ذكر من رفعه على الأسنة فوق الرماح حتى تمكن من أعلى سورها ثم ألقى نفسه عليهم ونهض سريعا إليهم ولم يزل يقاتلهم وحده ويقاتلونه حتى تمكن من فتح الحديقة ودخل المسلمون يكبرون وانتهوا إلى قصر مسيلمة حتى قتل مسيلمة بحربة وحشي وبسيف أبي دجانة[3].
معركة تستر عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال بينما أنس بن مالك وأخوه عند حصن من حصون العدو يعني بالحريق وكانوا يلقون كلاليب في سلاسل محماة فتعلق بالإنسان فيرفعونه إليهم ففعلوا ذلك بأنس فأقبل البراء حتى تراءى في الجدار ثم قبض بيده على السلسلة فما برح حتى قطع الحبل ثم نظر إلى يده فإذا عظامها تلوح قد ذهب ما عليها من اللحم وأنجى الله أنس بن مالك وبذلك وروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رب أشعت أغبر لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك ". فلما كان يوم تستر من بلاد فارس انكشف الناس فقال المسلمون يا براء أقسم على ربك فقال أقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك فحمل وحمل الناس معه فقتله مرزبان الزارة من عظماء الفرس وأخذ سلبه فانهزم الفرس وقتل البراء [4] .
من أقواله
عن أنس أن خالد بن الوليد قال للبراء يوم اليمامة : قم يا براء . قال : فركب فرسه فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يأهل المدينة لا مدينة لكم اليوم ، وإنما هو الله وحده والجنة [5] .
وفاته لقي البراء زحفا من المشركين وقد أوجع المشركون في المسلمين فقالوا له : يا براء إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو أقسمت على الله لأبرك فأقسم على ربك " . قال : أقسمت عليك يا رب منحتنا أكتافهم ثم التقوا على قنطرة السوس فأوجعوا في المسلمين فقالوا له يا براء أقسم على ربك فقال أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقني بنبي الله صلى الله عليه وسلم فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيدًا رضي الله عنه [6] .ولقي البراء بن مالك ربه شهيدًا على يد الهرمزان بعد أن منحى الله المسلمين أكتاف الفرس .وهكذا انتهت حياة الشهيد المجاهد الصحابي البراء بن مالك الذي كان لا يهاب القتل أو الموت الموقن بالشهادة في سبيل الله التي طلبها في كل معاركه ، حتى نالها في تستر .
قالوا عنه
قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ما روى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لاَ يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ " [7] .وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى قائد جيش المسلمين ألا تستعملوا البراء بن مالك على جيش من جيوش المسلمين فإنه مهلكة من المهالك يقدم بهم [8] .
المصادر : [1] الاستيعاب 1/ 47.[2] الاستيعاب 1/47 .[3] البداية و النهاية 6/ 268.[4] الإصابة في تمييز الصحابة 1/281 .[5] الإصابة في تمييز الصحابة 1/ 281.[6] الاستيعاب 1/47 .[7] سنن الترمذي 5/692.[8] الاستيعاب 1/47 .
-
حسن آغا الطوشي
نسبه هو حسن آغا الطوشي .
أهم المعارك ودوره فيها
في الوقت الذي كان يعمل فيه خير الدين بربوسا في الأسطول العثماني في البحر المتوسط ، كان حسن آغا نائب البيلر بيك يعمل على قهر القراصنة الأوربية ، حتى طار اسمه في الجزائر، وصار مثالاً بارزاً في التضحية والبطولة الإسلامية ، مما حدا بهؤلاء القراصنة الاستنجاد بشارل الخامس ، الذي كان يريد إقامة معاهدة مع خير الدين بربوسا إلا أنه فشل في ذلك ، فقد كان يريد إقامة تحالف جزائري إسباني في مواجهة التحالف العثماني الفرنسي ، ويقتطع الجزائر وشمال أفريقيا من دولة الخلافة الإسلامية ، إلا أن هذا الأمر كان بعيد المنال .لقد انهمك حسن آغا الطوشي في توحيد الأمن وإرساء أسس للإدارة المستقلة ومحاولة جمع أطراف البلاد تحت السلطة الجزائرية التي تخضع للخلافة العثمانية ، فأخضع مستغانم ، واستولى على عاصمة الزاب وملحقاتها .و من أهم المعارك التي شارك فها حسن آغا الطوشي تلك المعركة التي كانت في شهر جمادي الأول 946هـ/ سبتمبر 1539م وقد ركب الجيش العثماني البحر، وكان قوامه 1300 رجل، على ظهر ثلاث عشرة سفينة واندفعوا عنها من الأسبان ونزل حسن آغا و جيشه إلى البر فاحتل البلدة وتمكن منها ، واستحوذ على ما فيها من خيرات وأرزاق وغنائم للمسلمين وتوغل في جهات الساحل الإسباني الجنوبي ، وغنم ما وقع تحت يده من أموال ومتاع الأسبان واختار من بينهم جماعات من الأسرى والسبايا ساقهم للبيع في المدن المغربية الشمالية خاصة تطوان ثم يعود للميدان وعندما أراد الرجوع إلى الجزائر اعترضت طريقه عمارة إسبانية كبيرة العدد ، وقامت المعركة بين القوتين وكانت عنيفة قاسية ، أسفرت عن غرق عدد من سفن الجانبين ومع ذلك كانت خسائر الأسبان في هذه المعركة عظيمة . بعد الهزيمة التي مني بها الأسبان عزم شارل الخامس على القيام بحملة عسكرية تستهدف القضاء على حركة الجهاد الإسلامي في الحوض الغربي للبحر المتوسط وقبل أن يشرع في تنفيذها كان هدوءاً نسبياً يسود القارة الأوربية إثر عقد هدنة نيس في محرم 945هـ/ يونيو 1538م مع فرنسا والتي كانت مدتها عشر سنوات . قدم شارل الخامس بجيشه إلى الجزائر في يوم الثامن والعشرون من شهر جمادي الأخيرة سنة 948هـ الموافق الخامس عشر من شهر أكتوبر 1541م وعندما شاهده حسن آغا الطوشي ، اجتمع في ديوانه مع أعيان الجزائر وكبار رجال الدولة ، وحثهم على الجهاد والدفاع عن الإسلام والوطن قائلاً لهم "... لقد وصل العدو عليكم ليسبي أبناءكم وبناتكم، فاستشهدوا في سبيل الدين الحنيف ... هذه الأراضي فتحت بقوة السيف ويجب الحفاظ عليها ، وبعون الله النصر حليفنا، نحن أهل الحق... " ، فدعا له المسلمون وأيدوه في جهاد العدو ، ثم بدأ حسن آغا في إعداد جيوشه والاستعداد للمعركة . أخذ الأسبان في تحضير عدتهم وعتدادهم للهجوم على الجزائر، وألقى الله الرعب في قلب شارل عندما رأى استعداد حسن الطوشي ، واستعداد أهل الجزائر للقتال وقد ظن أنهم يسلمون إليه البلدة دون مقاومة ، إلا أن القلوب التي تعمق فيها الإيمان وتوغل ما تعرف معنى الضعف أو الذلة والخذلان فقرروا الجهاد في سبيل الله مدافعين عن دينهم وبلادهم ، وأراد شارل الخامس الاستهزاء بحسن الطوشي فأرسل إليه رسالة يتوعده ويأمره بتسليم البلدة يقول في رسالته : "... أنت تعرفني أنا سلطان .. كل ملة المسيحيين تحت يدي إذا رغبت في مقابلتي سلمني القلعة مباشرة .. أنقد نفسك من يدي وإلا أمرت بإنزال أحجار القلعة في البحار، ثم لا أبقي عليك ولا سيدك ولا الأتراك، وأخرب كل البلاد... " وصل ذلك الخطاب إلى حسن أغا وأجاب عليه "...أنا خادم السلطان سليمان ... تعالى واستلم القلعة ولكن لهذه البلاد عادة، أنه إذا جاءها العدو ، لا يعطي إلا الموت " ، وفي رواية : ( غزت اسبانيا الجزائر في عهد عروج مرة ، وفي عهد خير الدين مرة ، ولم تحصل على طائل ، بل انتهبت أموالها وفنيت جنودها ، وستحصل المرة الثالثة كذلك إن شاء الله " . و استطاع حسن أن يرد على هذا الجواب ، فأرسل إليه رسولاً يطلب منه إذناً للسماح بحرية المرور لمن أراد من أهل الجزائر وخاصة نساءها وأطفالها مغادرة المدينة عبر ( باب الواد ) فعرف ( شارلمان ) أن حامية الجزائر مصممة على الدفاع المستميت ، وأنه من المحال احتلال الجزائر إلا إذا تم تدميرها تدميراً تاما ً. تيقن شارل أنه لن يستطيع دخول الجزائر إلا بعد أن يدمر هذه الحامية إلا أنه لم يكن قد أنزل مدافعه بعد قلم يتمكن من قذف الجزائر، وفي ذات الوقت كان المجاهدون يوجهون ضرباتهم الموجعة إلى القوات الاسبانية، في كل مكان ، حتى قال أحد فرسان مالطة في تقريره عن المعركة : " لقد أذهلتنا هذه الطريقة في الحرب ، لأننا لم نكن نعرفها من قبل " .ولما سمع الناس بالجهاد تحرك الإيمان في قلوبهم ، فكان دافعاً لأن يشترك الناس في هذه المواجهة بين الإسلام والصليبية ، ولقد استفاد المجاهدون من الناس في معرفة طبيعة الأرض ، واستخدامهم لمميزاتها بشكل رائع ، وسخر الله لجنود الإسلام الأمطار والرياح والأمواج ( وهبت ريح عاصف استمرت عدة أيام واقتلعت خيام جنود الحملة وارتطمت السفن بعضها ببعض مما أدى إلى غرق كثير منها وقذفت الأمواج الصاخبة ببعض السفن إلى الشاطئ وهجم عليها المدافعون المسلمون واستولوا على أدواتها وذخائرها، أما الأمطار فقد أفسدت مفعول البارود . وفي وسط هذه الكوارث حاول الإمبراطور مهاجمة مدينة الجزائر، إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل .. ) وظهرت بطولات رائعة من القائد (الحاج البشير ) الذي استطاع بجنوده أن يحصد رؤوس النصارى بشجاعة فائقة، وبسالة نادرة ، وبطولة رائعة لقد استطاعت القيادة العسكرية الجزائرية أن تستفيد من الوضع المحيط بالنصارى ، ووجهت جنودها بطريقة متميزة في الكر والفر أفنت جزءاً كبيراً من الأعداء واضطر الإمبراطور إلى الانسحاب مع بقية جنوده على ما تبقى لهم من سفن واتجه بأسطوله إلى إيطاليا بدلاً من اسبانيا وكان من العوامل التي ساعدت على إلحاق هذه الهزيمة بالإمبراطور، القيادة الرشيدة والتفاف الشعب الجزائري حولها وتدفق رجال القبائل إلى ساحة الوغى طلباً للشهادة في سبيل الله ، ودفاعاً عن الإسلام والمسلمين ، وقد شبه أهل الجزائر هذه الهزيمة بهزيمة أصحاب الفيل التي ورد ذكرها في القرآن الكريم فقالوا في رسالة وجهوها إلى السلطان سليمان إن الله عاقب شارل الخامس وجنوده " بعقاب أصحاب الفيل ، وجعل كيدهم في تضليل ، وأرسل عليهم ريحاً عاصفاً وموجاً قاصفاً ، فجعلهم بسواحل البحر مابين أسير وقتيل ، و لانجا منهم من الغرق إلا قليل " . وأنعم السلطان سليمان على حسن آغا الطوشي برتبة الباشوية ، لدوره الفعال في النصر . من أقواله عندما قدم العدو إلى الجزائر قال لأهل الجزائر " لقد وصل العدو عليكم ليسبي أبناءكم وبناتكم ، فاستشهدوا في سبيل الدين الحنيف ... هذه الأراضي فتحت بقوة السيف ويجب الحفاظ عليها ، وبعون الله النصر حليفنا ، نحن أهل الحق " . وفاته استمر حسن آغا في القيام بواجبه المقدس حتى وفاته 951هـ / 1544م .
-
دعوة خاصة
تتشرف جمعية المنتدى الثقافي للشباب بدعوتكم لحضور الندوة الثقافية الهامة حول
المعاق الفلسطيني / بمناسبة اليوم العالمي للمعاق
ستتناول الندوة دور مؤسسات المجتمع المدني وخدماتهم للمعاقين وكيفية التعامل معهم.كما ستتناول قانون المعاق الفلسطيني والأبعاد القانونية الخاصة بهم.ضيوف الندوة:أ. هاني أبو زيد
استشاري التأهيل بالمركز الوطني للتأهيل المجتمعي.أ. رامي شقورة
محامي ومدرب من مركز الميزان لحقوق الإنسان.
وذلك يوم الأربعاء 14/12/2011م في تمام الساعة 11 صباحاً
في مقر جمعية المنتدى الكائن بالقرب من الشفا – مقابل مطعم المارنا هاوس – وبجانب مطعم اللاتيرنا.هاتف: 2839158 08/
حضوركم واجب اجتماعي وإنساني
-
الملك أشرف برسباي
التعريف به السلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباي الدقماقي الظاهري سلطان الديار المصرية . والملك الأشرف جراكسي الجنس ، جُلب من هذه البلاد ، فاشتراه الأمير دقماق المحمدي الظاهري نائب ملطية ، وأقام عنده مدة ، ثم قدمه إلى الملك الظاهر برقوق في عدة مماليك أُخر .وجلس على تخت الملك يوم خلع الملك الصالح محمد ابن الملك الظاهر ططر في يوم الأربعاء ثامن شهر ربيع الآخر سنة 825هـ/ 1422م ، و الأشرف هذا هو السلطان الثاني والثلاثون من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصرية ، والثامن من الجراكسة وأولادهم [1] .
أهم المعارك ودوره فيها
في عام 767هـ/ 1365م استولى الفرنجة ومعهم ملك قبرص على الإسكندرية ، وذلك أن الحروب الصليبية لم تنتهِ بطرد الصليبيين من عكا عام 690هـ/ 1291م ، والانتهاء منهم من كل بلاد الشام كان في عهد الأشرف صلاح الدين خليل بن المنصور .لقد تم طردهم من " جزيرة أرواد " عام 702هـ/ 1302م أيام السلطان الناصر محمد بن قلاوون ، واستمرت الحروب الصليبية بعد ذلك؛ لأن كثيرًا من الصليبيين قد لجئوا إلى جزيرة قبرص بعد طردهم من بلاد الشام ، واتخذوا هذه الجزيرة مستقرًّا لهم ، وأخذوا يقومون بالإغارة على بلاد المسلمين كلما وجدوا الفرصة سانحة لهم .وكانت أسرة " لوزجنان " التي حكمت الجزيرة في تلك الآونة تقوم بهذه المهمة ، وقد تولى أمرَ هذه الأسرة وحكم الجزيرة عام 760هـ/ 1358م بطرسُ الأول ، وقد زار غربي أوربا ، ودعا البابا لمساعدته للقيام بحرب ضد المسلمين ، فحصل على بعض التأييد ، وسار مع من جاءه من الصليبيين ووصل إلى شواطئ الإسكندرية عام 767هـ/ 1365م في يوم جمعةٍ والمسلمون في المساجد ، فاستطاع أن يعيث في الإسكندرية فسادًا ولكنه فر لما تحرك المماليك إليه ، وقد أخذ معه قُرابة خمسة آلاف أسير ، وفرحت بذلك أوربا ، وهنّأ ملوكها بعضهم بعضًا، كما هنأهم البابا .
فتح قبرص وفي عام 827هـ/ 1423م أرسل الأشرف برسباي حملة استطلاعية إلى جزيرة قبرص ، وقد اتجهت إلى ميناء " ليماسول " كرد فعلٍ على تلك الحملات التي قام بها ملوك تلك الجزيرة على الإسكندرية ودمياط في أثناء اشتداد حملات " تيمورلنك " على بلاد الشام، فلما تصدعت دولة تيمورلنك بعد وفاته، قام السلطان الأشرف برسباي بهذا الرد . وفي العام التالي 828هـ/ 1424م أرسل حملة ثانية وكانت جهتها في هذه المرة مدينة " فاما غوستا " ، وقد أحرزت النصر، ومكثت أربعة أيام ، ثم اتجهت إلى مدينة " ليماسول "، وتمكنت من فتحها بعد جهد، ثم رجعت الحملة إلى مصر .وبعد عام خرجت حملة جديدة سارت نحو " ليماسول " ففتحها ، ثم اتجهت نحو الداخل فالتقت بجيش كبير يقوده ملك قبرص " جانوس " بنفسه ، فجرت معركة طاحنة بين الفريقين ، انتصر فيها المسلمون انتصارًا كبيرًا ، وأسروا الملك ، وحملوه معهم ، وساروا نحو " نيقوسيا " ، فصلوا الجمعة في كنيستها ، ثم رجعوا إلى مصر والملك معهم أسير . وفي القاهرة فدى الملك نفسه ، ووافق على أن تكون قبرص تابعة لدولة المماليك ، وبقيت بعدها كذلك مدة بقاء الدولة المملوكية ، وبذا انتهى الأثر الصليبي نهائيًّا ، إذ بقي في قبرص بعد طرده من بلاد الشام [2] .
وفاته
توفي سنة 841هـ/ 1437م ، ومدة ولايته ست عشرة سنة و ثمانية أشهر وأيام [3] .
قالوا عنه
كان - رحمه الله - ملكًا جليلاً ، مهابًا ، عارفًا ، سيوسًا ، حازمًا ، شهمًا ، فطنًا ، له خبرة بالأمور، ومعرفة ، وتدبير، محبًّا لجمع المال . و كان يحب الاستكثار من المماليك ، حتى بلغت عدة من اشتراه من المماليك زيادة على ألفي نفر . وكان يقدِّم الجراكسة على غيرهم من الأجناس ، ويشره في جمع الخيول والجمال ، وما أشبه ذلك .وكان يتصدى للأحكام ، ويباشر أحوال المملكة ، غالبها بنفسه ، وكان متواضعًا ، حسن الخلق ، غير سبّاب ، لين الجانب ، طوالاً ، دقيقًا ، ذا شيبة نيرة ، وهيبة حسنة ، متجملاً في حركاته ، حريصًا على ناموس الملك .وكان يميل إلى فعل الخير ، و يكثر من الصوم ، و لا يتعاطى شيئًا من المسكرات . و كانت أيامه في غاية الحسن من الأمين ، و الخير، ورخاء الأسعار ، وعدم الفتن مع طول مكثه في السنة . وفي فتح قبرس (قبرص) يقول الأديب البليغ زين الدين عبد الرحمن بن الخراط ، أحد كُتَّاب الإنشاء بالديار المصرية ، قصيدةً أنشدها بين يدي السلطان بحضور أركان الدولة ، وفرغ عليه بعد فراغها بالحضرة الشريفة ، أوَّلها : بشراك يا ملك المليك الأشرف ... بفتوح قبرص بالحسام المشرفي فتح بشهر الصوم تم له فيا ... لك أشرف في أشرفٍ في أشرف فتح تفتحت السموات العلى ... من أجله بالنصر واللطف الخفي واللهُ حفَّ جنودَه بملائـكٍ ... عاداتها التأييد وهو بها حفـي الأشرف السلطان أشرف مالكٍ ... لولاه أنفس ملكه لم تشرف هو مكتفٍ بالله أحـلم قـادرٍ ... راضٍ لآثار النبوة مقتفـي حامي حمى الحرمين بيت الله وال ... قبر الشريف لزائر ومطوف[4]
المصادر : [1] ابن تغري بردي : النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 4/ 102.[2] انظر: محمود شاكر: التاريخ الإسلامي 7/66، 77-80 ، وعلي عبد الحليم : الغزو الصليبي والعالم الإسلامي ص 214.[3] العصامي : سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 2/301 .[4] ابن تغري بردي : المنهل الصافي و المستوفى بعد الوافي 1/254 ، 255 .
--
-
محمود بن سُبُكْتِكِين
نسبه محمود بن سُبُكْتِكِين أبو القاسم الملقب يمين الدولة وأمين الملة ، وصاحب بلاد غزنة [1] .
جهاده وأهم المعارك ودوره فيها غزا يمين الدولة محمود بن سبكتكين بلاد الهند ، فقصده ملكها جيبال في جيش عظيم ، فاقتتلوا قتالاً شديدًا ، ففتح الله على المسلمين وانهزمت الهنود وأسر ملكهم جيبال وأخذوا من عنقه قلادة قيمتها ثمانون ألف دينار وغنم المسلمون منهم أموالاً عظيمة وفتحوا بلادا كثيرة ثم إن محمودا سلطان المسلمين أطلق ملك الهند احتقارًا له واستهانة به ليراه أهل مملكته والناس في المذلة فحين وصل جيبال إلى بلاده ، ألقى نفسه في النار التي يعبدونها من دون الله ، فاحترق لعنه الله [2] . وافتتح غزنة ثم بلاد ما وراء النهر، ثم استولى على سائر خراسان وعظم ملكه ودانت له الأمم، وفرض على نفسه غزو الهند كل عام ، فافتتح منه بلادًا واسعة [3] .
أهم المعارك فتح سومنات كان للهند صنم يسمونه سومنات ، وهو أعظم أصنامهم في حصن حصين على ساحل البحر بحيث تلتقفه أمواجه ، والصنم مبنى في بيته على ستة وخمسين سارية من الساج المصفح بالرصاص ، وهو من حجر طوله خمسة أذرع ، منها ذراعان غائصان في البناء وليس له صورة مشخصة ، والبيت مظلم يضيء بقناديل الجوهر الفائق ، وعنده سلسلة ذهب بجرس وزنها مائة من تحرك بأدوار معلومة من الليل ، فيقوم عباد البرهميين لعبادتهم بصوت الجرس ، وعنده خزانة فيها عدد كثير من الأصنام ذهبًا وفضة ، عليها ستور معلقة بالجوهر منسوجة بالذهب تزيد قيمتها على عشرين ألف ألف دينار . وكانوا يحجون إلى هذا الصنم ليلة خسوف القمر فتجتمع إليه عوالم لا تحصى ، وتزعم الهنود أن الأرواح بعد المفارقة تجتمع إليه فيبثها فيمن شاء بناء على التناسخ والمد والجزر عندهم هو عبادة البحر، وكانوا يقربون إليه كل نفيس وذخائرهم كلها عنده ويعطون سدنته الأموال الجليلة ، وكان له أوقاف تزيد على عشرة آلاف ضيعة ، وكان نهرهم المسمى كنك الذي يزعمون أن مصبه في الجنة ويلقون فيه عظام الموتى من كبرائهم ، وبينه وبين سومنات مائتا فرسخ ، وكان يحمل من مائه كل يوم لغسل هذا الصنم، وكان يقوم عند الصنم من عباد البرهميين ألف رجل في كل يوم للعبادة وثلاثمائة لحلق رءوس الزوار ولحاهم، وثلاثمائة رجل وخمسمائة امرأة يغنون ويرقصون ، ولهم على ذلك الجرايات الوافرة . وكان كلما فتح محمود بن سبكتكين من الهند فتحًا أو كسر صنمًا ، يقول أهل الهند : إن سومنات ساخط عليهم ولو كان راضيًا عنهم لأهلك محمودًا دونه ، فاعتزم محمود بن سبكتكين إلى غزوه وتكذيب دعاويهم في شأنه فسار من غزنة في شعبان سنة ست عشرة وأربعمائة في ثلاثين ألف فارس سوى المتطوعة ، وقطع القفر إلى الملتان وتزود له من القوت والماء قدر الكفاية وزيادة عشرين ألف حمل ، وخرج من المفازة إلى حصون مشحونة بالرجال قد غوروا آبارهم مخافة الحصار ، فقذف الله الرعب في قلوبهم وفتحها وقتل سكانها كسر أصنامها ، واستقى منها الماء وسار إلى أنهلوارن وأجفل عنها صاحبها بهيم ، وسار إلى بعض حصونه ، وملك السلطان المدينة ومر إلى سومنات ووجد في طريقه حصونًا كثيرة فيها أصنام وضعوها كالنقباء والخدمة لسومنات ، ففتحها وخربها وكسر الأصنام ، ثم سار في قفر معطش واجتمع من سكانه عشرون ألفًا لدفاعه ، فقاتلهم سراياه وغنموا أموالهم وانتهوا إلى دبلواه على مرحلتين من سومنات ، فاستولى عليها وقتل رجالها. ووصل إلى سومنات منتصف ذي القعدة فوجد أهلها مختفين في أسوارهم وأعلنوا بكلمة الإسلام فوقها ، فاشتد القتال حتى حجز بينهم الليل ثم أصبحوا إلى القتال وأثخنوا في الهنود وكانوا يدخلون إلى الصنم فيعنفونه ويبكون ويتضرعون إليه ويرجعون إلى القتال ، ثم انهزموا بعد أن أفناهم القتل وركب فلهم السفن فأدركوا وانقسموا بين النهب والقتل والغرق وقتل منهم نحو من خمسين ألفًا واستولى السلطان على جميع ما في البيت ثم بلغه أن بهيم صاحب أنهلوارن اعتصم بقلعة له تسمى كندهة في جزيرة على أربعين فرسخًا من البر فرام خوض البحر إليها ثم رجع عنها، وقصد المنصورة وكان صاحبها ارتد عن الإسلام ففارقها وتسرب في غياض هناك ، فأحاطت عساكر السلطان بها وتتبعوهم بالقتل فأنهوهم ثم سار إلى بهاطية فدان أهلها بالطاعة ، ورجع إلى غزنة في صفر سنة سبع عشرة وأربعمائة [4] .
وفاته مات في يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر إحدى وعشرين وأربعمائة على ثلاثة وستين سنة ، ملكه منها ثلاث وثلاثون [5] .
قالوا عنه كان على عزم وصدق في الجهاد. قال عبد الغافر الفارسي : كان صادق النية في إعلاء كلمة الله تعالى ، مظفرًا في غزواته ، ما خلت سنة من سني ملكه عن غزوة أو سفرة ، وكان ذكيًّا بعيد الغور، موفق الرأي ، وكان مجلسه مورد العلماء [6] .مدحه بديع الزمان الهمذاني قائلاً :أطلت شمس محمود *** على أنجم ساحـانوأمسـى آل بهـرام *** عبيدًا لابن خاقانإذا ما ركـب الفيـل *** لحرب أو لميدانرأت عيناك سلطانًا *** على منكب شيطان[7].
المصادر : [1] ابن كثير: البداية والنهاية 12/29.[2] المصدر السابق 11/330.[3] الذهبي : العبر 1/191.[4] تاريخ ابن خلدون 4/ 491. [5] ابن كثير: البداية والنهاية 12/31 .[6] الذهبي : العبر 1/191 .[7] موقع إسلام أون لاين، مقال بعنوان (الغزنوي .. فاتح الهند ) .
--
-
أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي
النسب والقبيلة أبو يوسف يعقوب بن عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي ، الملقب بالمنصور الموحدي .
المولد والنشأة ولد سنة 554هـ ، ولاه أبوه الوزارة فاستفاد من ذلك معرفة بأحوال الناس وسياسة الحكم ، ولما مات أبوه اجتمع الموحدون وبنو عبد المؤمن على توليته ، فبايعوه وعقدوا له الولاية ولقبوه بالمنصور [1] .
أهم المعارك ودوره فيها ( موقعة الرق ) غزا أبو يوسف يعقوب بن عبد المؤمن ، صاحب بلاد المغرب والأندلس، بلاد الفرنج بالأندلس ؛ وسبب ذلك أن ألفنش ملك الفرنج بها ، ومقر ملكه مدينة طليطلة، كتب إلى يعقوب كتابًا نسخته : باسمك اللهم فاطر السموات والأرض ؛ أما بعد أيها الأمير ، فإنه لا يخفى على كل ذي عقل لازب ، ولا ذي لب وذكاء ثاقب ، أنك أمير الملة الحنيفية ، كما أنا أمير الملة النصرانية، وأنك من لا يخفى عليه ما هم عليه رؤساء الأندلس من التخاذل والتواكل ، وإهمال الرعية ، واشتمالهم على الراحات ، وأنا أسومهم الخسف وأخلي الديار، وأسبي الذاراري ، وأمثل بالكهول ، وأقتل الشباب ، ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم ، وقد أمكنتك يد القدرة ، وأنتم تعتقدون أن الله فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم ، والآن خفف الله عنكم ، وعلم أن فيكم ضعفًا ، فقد فرض عليكم قتال اثنين منا بواحد منكم ، ونحن الآن نقاتل عددًا منكم بواحد منا ، ولا تقدرون دفاعًا ، ولا تستطيعون امتناعًا .ثم حكي لي عنك أنك أخذت في الاحتفال ، وأشرفت على ربوة القتال ، و تمطل نفسك عامًا بعد عام، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى ، ولا أدري الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما أنزل عليك .ثم حكي لي عنك أنك لا تجد سبيلاً للحرب لعلك ما يسوغ لك التقحم فيها، فها أنا أقول لك ما فيه الراحة ، وأعتذر عنك، ولك أن توافيني بالعهود والمواثيق والأيمان أن تتوجه بجملة من عندك في المراكب و الشواني ، وأجوز إليك بجملتي وأبارزك في أعز الأماكن عندك ، فإن كانت لك فغنيمة عظيمة جاءت إليك ، وهدية مثلت بين يديك ، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك ، واستحققت إمارة الملتين ، والتقدم على الفئتين ، والله يسهل الإرادة ، ويوفق السعادة بمنه لا رب غيره ، ولا خير إلا خيره .فلما وصل كتابه وقرأه يعقوب كتب في أعلاه هذه الآية : { ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } [النمل: 37] ، وأعاده إليه ، وجمع العساكر العظيمة من المسلمين وعبر المجاز إلى الأندلس .وقيل : كان سبب عبوره إلى الأندلس أن يعقوب لما قاتل الفرنج سنة ست وثمانين وصالحهم، بقي طائفة من الفرنج لم ترض الصلح، كما ذكرناه، فلما كان الآن جمعت تلك الطائفة جمعًا من الفرنج ، وخرجوا إلى بلاد الإسلام ، فقتلوا وسبوا وغنموا وأسروا، وعاثوا فيها عيثًا شديدًا ، فانتهي ذلك إلى يعقوب ، فجمع العساكر، وعبر المجاز إلى الأندلس في جيش يضيق عنهن الفضاء ، فسمعت الفرنج بذلك ، فجمعت قاصيهم ودانيهم ، وأقبلوا إليه مجدين على قتاله ، واثقين بالظفر لكثرتهم، فالتقوا، تاسع شعبان ، شمالي قرطبة عند قلعة رياح ، بمكان يعرف بمرج الحديد ، فاقتتلوا قتالاً شديدًا، فكانت الدائرة أولاً على المسلمين ، ثم عادت على الفرنج ، فانهزموا أقبح هزيمة وانتصر المسلمون عليهم ، { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 40] .وكان عدد من قتل من الفرنج مائة ألف وستة وأربعين ألفًا ، وأسر ثلاثة عشر ألفًا ، وغنم المسلمون منهم شيئًا عظيمًا ، فمن الخيام مائة ألف وثلاثة وأربعون ألفًا، ومن الخيل ستة وأربعون ألفًا ، ومن البغال مائة ألف ، ومن الحمير مائة ألف . و كان يعقوب قد نادى في عسكره : من غنم شيئًا فهو له سوى السلاح ؛ وأحصى ما حمل إليه منه ، فكان زيادة على سبعين ألف لبس ، وقتل من المسلمين نحو عشرين ألفًا .ولما انهزم الفرنج اتبعهم أو يوسف ، فرآهم قد أخذوا قلعة رياح ، وساروا عنها من الرعب والخوف ، فملكها ، وجعل فيها واليًا ، وجندًا يحفظونها ، وعاد إلى مدينة اشبيلية .وأما ألفنش ، فإنه لما انهزم حلق رأسه، ونكس صليبه ، وركب حمارًا، وأقسم أن لا يركب فرسًا ولا بغلاً حتى تنصر النصرانية ، فجمع جموعًا عظيمة ، وبلغ الخبر بذلك إلى يعقوب، فأرسل إلى بلاد الغرب مراكش وغيرها يستنفر الناس من غير إكراه ، فأتاه من المتطوعة والمرتزقين جمع عظيم، فالتقوا في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة ، فانهزم الفرنج هزيمة قبيحة ، وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والدواب وغيرها ، وتوجه إلى مدينة طليلطة فحصرها ، وقاتلها قتالاً شديدًا ، وقطع أشجارها ، وشن الغارة على ما حولها من البلاد، وفتح فيها عدة حصون ، فقتل رجالها ، وسبى حريمها، وخرب دورها ، وهدم أسوارها ، فضعفت النصرانية حينئذ ، وعظم أمر الإسلام بالأندلس ، وعاد يعقوب إلى اشبيلية فأقام بها .فلما دخلت سنة ثلاث وتسعين سار عنها إلى بلاد الفرنج ، وذلوا ، واجتمع ملوكها ، وأرسلوا يطلبون الصلح، فأجابهم إليه بعد أن كان عازمًا على الامتناع مريدًا لملازمة الجهاد إلى أن يفرغ منهم ، فأتاه خبر علي بن إسحق الملثم الميورقي أنه فعل بإفريقية ما نذكره من الأفاعيل الشنيعة، فترك عزمه، و صالحهم مدة خمس سنين ، وعاد إلى مراكش آخر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة[2]. ووصفها صاحب كتاب نفح الطيب فقال : و معركة الأرك تضاهي وقعة الزلاقة أو تزيد ، و الأرك موضع نواحي بطليوس وكانت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وغنم فيها المسلمون ما عظم قدره وكان عدة من قتل من الفرنج فيما قيل مائة ألف وستة وأربعين ألفًا، وعدة الأساري ثلاثين ألفًا ، وعدة الخيام مائة ألف وخمسين ألف خيمة ، والخيل ثمانين ألفًا ، والبغال مائة ألف ، والحمير أربعمائة ألف، جاء بها الكفار لحمل أثقالهم ؛ لأنهم لا إبل لهم ، وأما الجواهر والأموال فلا تحصى وبيع الأسير بدرهم والسيف بنصف درهم والفرس بخمسة دراهم والحمار بدرهم ، وقسم يعقوب الغنائم بين المسلمين بمقتضى الشرع [3] . وقال الشاعر أبو العباس الجراوي شاعر البلاط الموحدي في قصيدته واصفًا موقعة الأرك : هو الفتح أعيى وصفه النظم والنثر *** وعمَّت جميع المسلمين به البشرى وأنجـد في الدنيا وغار حديثــه *** فراقت به حسنًا وطابت به نشـرا لقد أورد الأذفونش[4] شيعته الردى *** وساقهمُ جهلاً إلى البطشة الكبرى حكى فعل إبليس بأصحابـه الإلى *** تبرَّأ منهـم حيـن أوردهم بـدرا رأى الموت للأبطال حوليه ينتقـي *** فطار إلى أقصـى مصارعـه ذعرا ألوفٌ غدتْ مأهـولة بهم الفـلا *** وأمسـت خلاء منهمُ دورهم قفرا ودارت رحى الهيجا عليهمْ فأصبحوا *** هشيمًا طحينًا في مهبِّ الصبا مذرى [5]
أخلاقه لما نجا الفنش ملك النصارى إلى طليطلة في أسوأ حال، فحلق رأسه ولحيته ونكس طليبه و إلَى أن لا ينام على فراش ولا يقرب النساء ولا يركب فرسًا ولا دابة حتى يأخذ بالثأر، وصار يجمع من الجزائر والبلاد البعيدة ويستعد ثم لقيه يعقوب وهزمه وساقه خلف بلاده ولم يبق إلا فتحها، فخرجت إليه والدة الأذفونش وبناته ونساؤه وبكين بين يديه وسألنه إبقاء البلد عليهن ، فرقَّ لهن ومنَّ عليهن بها ، ووهب لهن من الأموال والجواهر ما جل ، وردهن مكرمات، وعفا بعد القدرة ، وعاد إلى قرطبة فأقام شهرًا يقسم الغنائم وجاءته رسل الفنش بطلب الصلح فصالحه، وأمن الناس مدته ، وفيه يقول بعض شعراء عصره : أهل بأن يُسْعى إليه ويرتجى *** ويزار من أقصى البلاد على الرجامَنْ قد غدا بالمكرمات مُقَلَّدًا *** وموشَّحًا ومختَّمـًا ومتوَّجــاعمرتْ مقاماتِ الملوكِ بذِكْرِهِ *** وتعطَّرت منه الريـاح تأرّجـا [6]
وفاته توفي المنصور الموحدي في 22 ربيع الأول سنة 595هـ ، وأوصى أن يُدفن على قارعة الطريق ليترحم عليه من يمر به ، فرحمه الله وأحسن مثواه [7] .
قالوا عنه قال عنه علي بن حزمون: حيتك معـطـرة الـنـفـس *** نفحات الفتـح بـأنـدلـسفذر الكفـار ومـأتـمـهـم *** إن الإسـلام لـفـي عـرسأإمـام الـحـقِّ ونـاصـره *** وطهرت الأرض مـن الدنـسوملأت قلوب النـاس هـدى *** فدنا التوفيـق لمـلـتـمـسورفعت منار الـدين عـلـى *** عمد شـمٍّ وعـلـى أسـسوصدعت رداء الكفر كـمـا *** صدع الديجور سنا قـبـس [8] .
المصادر : [1] موقع الشبكة الإسلامية ، الرابط : http://www.islamweb.net/. [2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ .[3] نفح الطيب 1/443، 444 .[4] (ألفونسو الثامن) .[5] الأبيات من الطويل ، منتدى موقع التاريخ ، الرابط: http://www.altareekh.com/vb/archive/index.php/t- 40161.html .[6] الأبيات من الكامل ، انظر: نفح الطيب 1/443، 444 .[7] موقع الشبكة الإسلامية ، الرابط : http://www.islamweb.net/ . [8] عبد الواحد المراكشي : المعجب في تلخيص أخبار المغرب .
-
المنصور محمد بن أبي عامر
النسب والقبيلة هو المنصور أبو عامر محمد بن أبي حفص عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر محمد بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، الداخل إلى الأندلس مع طارق ، وكان له في فتحها أثر جميل ؛ وكان في قومه وسيطا، ونزل الجزيرة الخضراء لأول الفتح ، فساد أهلها ، وكثر عقبه فيها ؛ وتكررت فيهم النباهة والوجاهة.وكان أبوه من أهل الزهد في الدنيا والقعود عن السلطان؛ سمع الحديث ، وأدى الفريضة ، ومات منصرفا من حجه بمدينة طرابلس المغرب، وكانت أمه تميمية ، وأبوه معافرياً .
النشأة و التربية
نشأ "محمد بن أبي عامر"، بين جد دخل الأندلس فاتحاً فساق إليه ذكريات الجهاد وحلاوة الفتح ، وبين والد تاركاً للدنيا زاهداً فيها ، فكان حسن النشأة ، ظاهر النجابة ، تتفرس فيه السيادة ؛ وابن أبي عامر من المدينة المعروفة بـ (الجزيرة الخضراء) من قرية من أعمالها تسمى طرش على نهر يسمى وادي آروا .رحل " محمد بن أبي عامر" إلى (قرطبة) ، وتأدب بها ، فطلب العلم والأدب وسمع الحديث وتميز في ذلك وكانت له همة يحدث بها نفسه بإدراك معالي الأمور، وكان بداية أمره أن اقتعد في دكان عند باب القصر يكتب فيه لمن أراد أن يكتب شيئاً يرفعه إلى السلطان، وظل في هذا الأمر إلى أن طلبت " السيدة صبح " أم " هشام المؤيد " من يكتب عنها، فعرّفها به من كان يأنس إليه بالجلوس من فتيان القصر، فترقّى إلى أن كتب عنها ، فاستحسنته ونبّهت عليه الحكم المستنصر ورغبت في تشريفه بالخدمة ، فولاّه قضاء بعض المواضع ، فظهرت منه نجابة، فترقّى إلى الزكاة والمواريث باشبيلية وتمكّن في قلب السيدة بما استمالها به من التّحف والخدمة ما لم يتمكن لغيره ولم يقصر - مع ذلك - في خدمة " المصحفيّ الحاجب ، إلى أن توفّي " الحكم " وولي ابنه "هشام المؤيد" ، وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، فجاشت الروم ، فجهز " المصحفيّ " " ابن أبي عامر" لدفاعهم ، فنصره الله عليهم ، وتمكّن حبّه من قلوب الناس ، وكان شهماً ، شجاعاً ، قوي النفس ، حسن التدبير، استمال العساكر وأحسن إليهم، فقوي أمره ، وتلقب بـ"المنصور" ، وتابع الغزوات إلى الفرنج وغيرهم ، وسكنت البلاد معه ، فلم يضطرب منها شيء.
جهاده وأهم المعارك ودوره فيها لقد خلد التاريخ ذكر رجال طلبوا معالي الأمور، وكانت لهم همم لا منتهى لكبارها بلغوا بها العلا، من هؤلاء " المنصور بن أبي عامر" الذي اعتبره المؤرخون أعظم من حكم الأندلس ، بدأ حياته طالباً للعلم ثم تدرج حتى أصبح قاضياً ثم آل إليه الحكم بعد ذلك ، وكان يمني نفسه به ومن القصص الطريفة التي رويت عنه ، ما ذكره " المراكشي " في كتابه المعجب عن الفقيه " أبو محمد علي بن أحمد " : أن " ابن أبي عامر" كان يوماً جالساً مع ثلاثة من أصحابه من طلبة العلم فقال: لهم ليختر كل واحد منكم خطة أولية إياها إذا أفضى إلي الأمر! فقال : أحدهم توليني قضاء كورة رية وهي مالقة وأعمالها فإنه يعجبني هذا التين الذي يجيء منها !. وقال : الآخر توليني حسبة السوق فإني أحب هذا الإسفنج !.وقال : الثالث إذا أفضي إليك الأمر فأمر أن يطاف بي قرطبة كلها على حمار ووجهي إلى الذنب وأنا مطلي بالعسل ليجتمع علي الذباب والنحل !.وافترقوا على هذا فلما أفضى الأمر إليه كما تمنى بلغ كل واحد منهم أمنيته على نحو ما طلب !. وكان كثير الغزو لا يمل منه ، وحسبت عزواته فكانت أكثر من خمسين غزوة، لم يهزم في واحدة منها . لقد ملك الجهاد قلب " المنصور بن أبي عامر" ، حتى فقد الاستطاعة على تركه ، وذكر " المراكشي " في كتابه المعجب عن مدى حب " ابن أبي عامر" للغزو والجهاد ، فيقول : " وبلغ من إفراط حبه للغزو أنه ربما خرج للمصلى يوم العيد فحدثت له نية في ذلك فلا يرجع إلى قصره بل يخرج بعد انصرافه من المصلى كما هو من فوره إلى الجهاد فتتبعه عساكره وتلحق به أولاً فأولاً فلا يصل إلى أوائل بلاد الروم إلا وقد لحقه كل من أراده من العساكر" ، ولم يتكاسل عن الجهاد حتى في مرضه، وقد مرض وهو في طريق للغزو فلم يرجع بل رفع يديه طابلاً من الله أن تأتيه منيته وهو في الغزو فكان كما أراد ، لقد خلصت نيته لله فأعطاه الله ما تمنى . استطاع " ابن أبي عامر" أن يصل إلى معاقل في أرض " أسبانياً ما وصل إليها أحد من قبله منذ أن دخل " طارق بن زياد " فاتحاً وحتى عهده فقد وصل إلى أكبر معاقل النصرانية في " أسبانيا "، وملأت بلاده من سبايا الروم وغنائمهم ، حتى نودي على ابنة عظيم من عظماء الروم بقرطبة - و كانت ذات جمال رائع - فلم تساو أكثر من عشرين ديناراً عامرية .و كان يغزو غزوتين في السنة مرة في الشتاء ومرة في الصيف، وبلغت غزواته أكثر من خمسين غزوة لم يهزم فيها ، ولم ينل منه عدوه قط .ومن آثار غزواته أنه افتتح حصن (مولة)، وظهرا فيه على سبي كثير، وغنم المسلمون أوسع غنيمة، وكان ذلك في عام 366 .ودخل على (طليطلة) غرة صفر من سنة 367؛ فاجتمع مع صهره " غالب " ، فنهضا معا ، فافتتحا حصن (المال) وحصن (زنبق) ، ودوخا مدينة (شلمنقة) وأخذا أرباضها . وعاد "ابن أبي عامر" إلى قرطبة بالسبي والغنائم ، وبعدد عظيم من رؤوس المشركين ، وتمت هذه الغزوة في أربع وثلاثين يوماً من خروجه إليها .ومن أهم معارك التي قضى فيها على معقل من معاقل النصرانية في (أسبانيا) معركة (شنت ياقوب) .وقبل أن نخوض غمار المعركة نلقي نظرة على موقع هذه المدينة في قلوب النصارى وأهميتها عندهم ، كانت هذه المدينة أعظم مشاهد النصارى في بلاد " الأندلس " ، وكان النصارى يعظمون كنيستها ، كتعظيمنا للكعبة المشرفة، وإلى هذه الكنيسة كان يحجون قادمين إليها من أقصى البلاد الرومية ، وزعموا أنها بها قبر " يعقوب " من حواري سيدنا "عيسى" ، ولم يتمكن أحد من المسلمين الفاتحين للأندلس" دخولها أو فتحها حتم تم ذلك على يد المجاهد " محمد بن أبي عامر" . وقد خرج "المنصور" إليها من قرطبة غازيا بالصائفة يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة سنة 387، متوجهاً إلى (شنت ياقوب)، ودخل على مدينة (قورية) ، ولما وصل "المنصور" إلى مدينة (غليسية) ، وافاه عدد عظيم من القوامس المتكسطين بالطاعة، في رجالهم ، فصاروا في عسكر المسلمين، وكان "المنصور" قد أمر ببناء أسطولاً بحرياً فبعد أن تم بناءه جهزه برجاله البحريين ، وحمّل فيه المؤن و الذخائر والأطعمة والأسلحة، وخرج " المنصور" إلى موضع على نهر (دويره)؛ فدخل في النهر إلى المكان الذي عمل " المنصور" على العبور منه ؛ فعقد هناك من هذا الأسطول جسرا بقرب الحصن الذي هناك . ووزع المنصور ما كان فيه من الميرة على الجند ؛ فتوسعوا في التزود منه إلى أرض العدو ، ونهض يريد (شنت ياقوب) ، فقطع أرضين متباعدة الأقطار ، وقطع بالعبور عدة أنهار كبار وخلجان، وبعد أن خاض المسلمون غمار المعركة تارة في البحر وأخر في البر، سالكين الجبال والأودية، إلى أن أتم الله عليه فتح (شنت ياقوب) ، ولما وصل إليها المسلمون وجدوها خالية من السكان ، فحاز المسلمون غنائمها ، وهدموا مصانعها وأسوارها وكنيستها ، وعفوا آثارها ، وانكفأ المنصور عن باب شنت ياقوب ، وقد بلغ غاية لم يبلغها مسلم قبله .
قالوا عنه كان " المنصور بن أبي عامر" سياسياً بارعاً وصاحب همة عالية متمنياً أمراً عظيماً ، وبعلو همته وحسن سياسته استطاع أن يصل إلى ما تمنى، فقال عنه "الذهبي" كان من رجال الدهر رأياً وحزماً، ودهاء وشجاعة وإقداماً استطاع استمالة الأمراء والجيش بالأموال ، ودانت لهيبته الرجال ، وكان حازماً ، قوي العزم ، كثير العدل والإحسان، حسن السياسة .وما يذكر عنه من حسن سياسته وتدبيره : أنه دخل بلاد الفرنج غازياً ، فجاز الدرب إليها ، " الدرب : مضيق بين جبلين "، وأوغل في بلاد الفرنج يسبي ، ويغنم ، فلما أراد الخروج رآهم قد سدوا الدرب ، وهم عليه يحفظونه من المسلمين ، فأظهر أنه يريد المقام في بلادهم ، وشرع هو وعسكره في عمارة المساكن وزرع الغلات ، وأحضروا الحطب ، والتبن ، و الميرة ، وما يحتاجون إليه ، فلما رأوا عزمه على المقام مالوا إلى السلم، فراسلوه في ترك الغنائم والجواز إلى بلاده ، فقال : أنا عازم على المقام؛ فتركوا له الغنائم، فلم يجبهم إلى الصلح ، فبذلوا له مالاً ، ودواب تحمل له ما غنمه من بلادهم ، فأجابهم إلى الصلح ، وفتحوا له الدرب ، فجاز إلى بلاده .ويقول " ابن الاثير" : كان" المنصور بن أبي عامر" عالماً ، محباً للعلماء ، يكثر مجالستهم ويناظرهم ، وقد أكثر العلماء ذكر مناقبه ، وصنفوا لها تصانيف كثيرة ، وكان حسن الاعتقاد والسيرة ، عادلاً ، وكانت أيامه أعياداً لنضارتها ، وأمن الناس فيها .وقد مدحه الشاعر قائلاً :آثارُهُ تُنْبِيكَ عَنْ أخْبَارِهِ ... حَتَّى كأنَّكَ بالعُيُونِ ترَاهُتَاللهِ ما مَلَكَ الجَزيرَةَ مِثْلُهُ ... حَقًّا وَلاَ قَادَ الجُيُوشَ سِوَاهُ
أخلاقه دخل " المنصور" (شنت ياقب) أكبر معاقل لنصارى الروم في ذلك الوقت ، إلا أنه لم يجد فيه إلا شيخا من الرَّهبان جالسا على القبر؛ فسأله عن مقامه ؛ فقال : أوانس " يعقوب " . فأمر " المنصور " بالكف عنه .ولا عجب فهذه هي أخلاق الإسلام، فقد كانت وصايا رسول الله للجيش ألا يقتل طفلاً ولا وليداً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ولا يجهزوا على جريح ولا يقطعوا شجرة ولا نخلاً ولا يقتل راهباً في صومعته، وكذلك كانت وصايا الخلفاء من بعده .كانت نشأة المنصور بن أبي عامر لها أثر كبير في تغيير مسار حياته فقد نشأ متعلماً لأحاديث النبي فتربى على هذه الأحاديث حتى استقى أخلاقه من أخلاق النبي .
من أقواله كان " المنصور بن أبي عامراً " شاعراً ومن شعره : رميت بنفسي هول كلّ عظيمة *** وخاطرت والحرّ الكريم يخاطروما صاحبي إلا جنانٌ مشيّعٌ *** وأسمر خطّيٌّ وأبيض باترفسدت بنفسي أهل كلّ سيادة *** وفاخرت حتى لم أجد من أفاخرو ما شدت بنياناً ولكن زيادة *** على ما بنى عبد المليك وعامررفعنا المعالي بالعوالي حديثة *** وأورثناها في القديم معافر
وفاته دامت دولته ستّاً وعشرين سنة ، غزا فيها اثنتين وخمسين غزوة واحدة في الشتاء وأخرى في الصيف ، وكانت وفاته في غزاته للإفرنج بصفر سنة ثلاثمائة واثنتين وتسعين ، وحمل في سريره على أعناق الرجال ، وعسكره يحفّ به وبين يديه ، إلى أن وصل إلى مدينة (سالم) ، وكان في كل غزوة من غزواته ينفض عنه تراب الغزوة ويضعه في كيس وكان يصطحبه معه في غزواته وعند وفاته أوصى أن يذر هذا التراب على كفنه ليكون شاهداً جهاده يوم القيامة ، فرحم الله " أبا منصور" وأسكنه فسيح جناته وغفر له ما أصاب من زلل .
-
أسامة بن منقذ
النسب و القبيلة
أبو المظفر أسامة بن مرشد بن علي مقلد بن نصر بن منقذ الكناني . [1]
المولد و النشأة ولد بقلعة شيزر في 27 جمادى الثانية سنة 488هـ .[2]ولد بشيزر ونشأ بها وأخرجه عمه أبو العساكر سلطان بن علي خوفاً منه على نفسه ، لما رأى من شجاعته وإقدامه ، وقدم حلب مراراً متعددة ، وكان من الأمراء الفضلاء الأدباء الشعراء الشجعان الفرسان ، له مصنفات عديدة ومجاميع مفيدة ، ومواقف مشهورة ، ووقائع مذكورة ، وفضائل مستورة .[3]
البلد التي عاش فيها قال العماد الكاتب في الخريدة بعد الثناء عليه : سكن دمشق ثم نبت به كما تنبو الدار بالكريم ، فانتقل إلى مصر فبقي بها مؤمراً مشاراً إليه بالتعظيم إلى أيام الصالح بن رزيك . ثم عاد إلى الشام وسكن دمشق ، ثم رماه الزمان إلى حصن كيفا ، فأقام به حتى ملك السلطان صلاح الدين - رحمه الله تعالى - دمشق ، فاستدعاه وهو شيخ قد جاوز الثمانين .[4]
جهاده :
حصار قلعة حارم
جمع نور الدين بن محمود بن آقسنقر، صاحب الشام ، العساكر بحلب ، وسار إلى قلعة حارم ، وهي للفرنج غربي حلب ،، فحصرها وجد في قتالها ، فامتنعت عليه بحصانتها ، وكثرة من بها من فرسان الفرنج ورجالتهم وشجعانهم ، فلما علم الفرنج ذلك جمعوا فارسهم وراجلهم من سائر البلاد ، وحشدوا ، واستعدوا ، وساروا نحوها ليرحلوه عنها ، فلما قاربوه طلب منهم المصاف ، فلم يجيبوه إليه ، وراسلوه ، وتلطفوا الحال معه ، فلما رأى أنه لا يمكنه أخذ الحصن ، ولا يجيبونه إلى المصاف ، عاد إلى بلاده وممن كان معه في هذه الغزوة مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن منقذ الكناني ، وكان من الشجاعة في الغاية، فلما عاد إلى حلب دخل إلى مسجد شيزر، وكان قد دخله في العام الماضي سائراً إلى الحج ، فلما دخله الآن كتب على حائطه : لك الحمد يا مولاي كم لك منة *** علي وفضلاً لا يحيط به شكرينزلت بهذا المسجد العام قافلاً *** من الغزو موفور النصيب من الأجرو منه رحلت العيس في عامي الذي *** مضى نحو بيت الله والركن والحجرفأديت مفروضي وأسقطت ثقل ما *** تحملت من وزر الشبيبة عن ظهري[5]
من كلماته يقول الأمير مؤيد الدولة أسامة بن منقذ ، لمّا لقى الفرنج في أرض بصرى و صرخد مع نور الدين ، وقد تقدم ذلك كتب إليه قصيدة يقول فيها :كل يوم فتح مبين ونصر *** واعتلاء على الأعادي وقهرصدق النعت فيك أنت معين *** الدين، إن النعوت قال وزجرأنت سيف الإسلام حقا، فلا كَل *** غراريك أيها السّيفُ دهرلم تَزل تُضمر الجهاد مُسِرَّا *** ثم أعلنت حين أمكن جهر [6]
قالوا عنه قال الذهبي في سير أعلام النبلاء " كان بطلا شجاعا ، جوادا ، فاضلا . [7]قال أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني الإمام : أسامة بن مرشد أمير فاضل غزير الفضل ، وافر العقل ، حسن التدبير، مليح التصانيف ، عارف باللغة والأدب ، مجود في صنعة الشعر، من بيت الإمارة والفروسية واللغة ، سكن دمشق ، لقيته بالفوار بظاهر دمشق بحوران ، واجتمعت معه بدمشق عدة نوب ، وكان مليح المجالسة حسن المحاورة .[8]قال الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن ، قال : أسامة بن مرشد الملقب بمؤيد الدولة ، له يد بيضاء في الأدب والكتابة والشعر، ذكر لي أنه ولد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ، وقدم دمشق سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة ، وخدم بها السلطان ، وقرب منه وكان شجاعاً فارساً ، ثم خرج إلى مصر، فأقام بها مدة ، ثم رجع إلى الشام ، وسكن حماة ، واجتمعت به بدمشق ، وأنشدني قصائد من شعره سنة ثمان وخمسين وخمسمائة .[9]وقال عنه الأصبهاني في كتاب خريدة القصر وجريدة العصر: أسامة كإسمه في قوة نثره ونظمه ، يلوح من كلامه أمارة الإمارة ، ويؤسس بيت قريضة عمارة العبارة ، نشر له علم العلم ، ورقي سلم السلم ، ولزم طريق السلامة وتنكب سبل الملالة والملامة ، واشتغل بنفسه ، ومجاورة أبناء جنسه، حلو المجالسة حالي المساجلة ، ندي الندى بماء الفكاهة ، عالي النجم في سماء النباهة ، معتدل التصاريف ، مطبوع التصانيف .[10]كان في شبيبته شهما شجاعا ، قتل الأسد وحده مواجهة .[11]
وفاته عمر إلى أن توفي ليلة الثلاثاء الثالث والعشرين من رمضان ، ودفن شرقي جبل قاسيون . [12]
المصادر : [1] ابن خلكان : وفيات الأعيان 1/195.[2] معجم المؤلفين 2/225.[3] بغية الطلب في تاريخ حلب 1/478.[4] ابن خلكان : وفيات الأعيان 1/196.[5] الكامل في التاريخ 5/58: 56.[6] الروضتين في أخبار الدولتين النورية و الصلاحية 1/73 .[7] الذهبي : سير أعلام النبلاء 18/ 553.[8] بغية الطلب في تاريخ حلب 1/479.[9] السابق .[10] السابق 1/478.[11] البداية و النهاية 12/405.[12] السابق .
--
-
عبد الله بن رواحة
التعريف به و قبيلته
عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن الخزرج الأنصاري الخزرجي [1] [2] . ، عظيم القدر في قومه ، سيد في الجاهلية ، ليس في طبقته أسود منه، وكان في حروبهم في الجاهلية يناقض قيس بن الخطيم ، وكان في الإسلام عظيم القدر والمكانة عند رسول اللهولد سيدنا عبد الله بن رواحة بالمدينة ، وعاش بها إلى أن وافته المنية في غزوة مؤتة بأرض بلقاء بالشام .
المصادر :
[1] ابن الأثير: أسد الغابة 1/ 606 .[2] ابن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء 1/ 223.
فكره العسكري :
حذره وحيطته
كان سيدنا عبد الله بن رواحة ممن يأخذون بالحذر في حياتهم ويدل على ذلك لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية إلى يسير بن رزام اليهودي وأراد أن يأخذ سيف سيدنا عبد الله بن رواحه ليقتله به ففطن له سيدنا عبد الله بن رواحه فعاجله بقطع قدمه .
رفع معنويات الجند
و ذلك لما رأى المسلمون كثرة الروم أرادوا أن يبعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف فيهم سيدنا عبد الله بن رواحه يبث فيهم الأمل ويرفع معنوياتهم فقال كما ذكر ابن كثير في كتابه البداية والنهاية :"يا قوم ، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة ، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين ، إما ظهور وإما شهادة ".
أهم المعارك ودوره فيها
كان ممن شهد العقبة وكان نقيب بن الحارث بن الخزرج . وشهد بدرًا وأحدًا والخندق والحديبية وخيبر وعمرة القضاء والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الفتح وما بعده ، فإنه كان قد قتل قبله . وهو أحد الأمراء في غزوة مؤتة [1].
سريته إلى يسير بن رزام اليهودي
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة في ثلاثين راكبا فيهم عبد الله بن رواحة إلى يسير بن رزام اليهودي حتى أتوه بخيبر وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يجمع غطفان ليغزوه بهم فأتوه فقالوا : أرسلنا إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعملك عل خيبر فلم يزالوا به حتى تبعهم في ثلاثين رجلا مع كل رجل منهم رديف من المسلمين فلما بلغوا قرقرة نيار وهي من خيبر على ستة أميال ندم يسير ابن رزام فأهوى بيده إلى سيف عبد الله بن رواحة ففطن له عبد الله بن رواحة فزجر بعيره ثم اقتحم يسوق بالقوم حتى استمكن من يسير ضرب رجله فقطعها واقتحم يسير وفي يده مخراش من شوحط فضرب به وجه عبد الله بن رواحة فشجه شجة مأمومة وانكفأ كل رجل من المسلمين على رديفه فقتله غير رجل واحد من اليهود أعجزهم شدا ولم يصب من المسلمين أحد وبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شجة عبد الله بن رواحة فلم تقيح ولم تؤذه حتى مات [2].
غزوة مؤتة
عن عروة بن الزبير قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج وهم ثلاثة آلاف ، فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعه ، ثم قال :فثبت الله ما آتاك من حسن... تثبيت موسى و نصرًا كالذي نصرواإني تفرست فيك الخير نافلـة ... الله يعلـم أنـي ثابت البصـرأنت الرسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به القـدرقال ابن إسحاق : ثم خرج القوم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يشيعهم حتى إذا ودعهم وانصرف ، قال عبد الله بن رواحة :خلف السلام على امرئ ودعته ... في النخل خير مشيع وخليلوتخلف ابن رواحة فجمع مع النبي صلى الله عليه وسلم فرآه فقال ما خلفك فقال اجمع معك قال لغدوة أو روحة خير من الدنيا وما فيها ، ثم مضوا حتى نزلوا معانا من ارض الشام فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم وانضم إليه من لخم وجذام و بلقين وبهراء وبلي مائة ألف منهم عليهم رجل من بلي ثم أحد اراشة يقال له مالك بن رافلة وفي رواية يونس عن ابن إسحاق فبلغهم أن هرقل نزل بمآب في مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم وقالوا نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له قال فشجع الناس عبد الله بن رواحة وقال يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة قال فقال الناس قد والله صدق ابن رواحة فمضى الناس ، ثم مضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة فالتقى الناس عندها فتعبى لهم المسلمون فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بني عذرة يقال له قطبة بن قتادة وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار يقال له عباية بن مالك ، ثم التقى الناس فاقتتلوا فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم ثم أخذها جعفر فقاتل القوم حتى قتل فكان جعفر أول المسلمين عقر في الإسلام ، فلما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ويقول ...أقسمت يا نفس لتنزلنـه ... لتنزلـن أو لتكـرهنـهإن جلب الناس وشدوا الرنة ... ما لي أراك تكرهين الجنةقد طال ما قد كنت مطمئنة ... ها أنت إلا نطفة في شنةوقال أيضًا :يا نفس إن لا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليتوما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديـتيريد صاحبيه زيدًا و جعفرًا ، ثم نزل ، فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم ، فقال : شد بهذا صلبك ، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت . فأخذه من يده فانتهس منه نهسة ، ثم سمه الحطمة في ناحية الناس ، فقال : وأنت في الدنيا . ثم ألقاه من يده ، ثم أخذ سيفه ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه [3].
المصادر :
[1] ابن الأثير: أسد الغابة 1/ 607.[2] ابن كثير: البداية والنهاية 4/221 .[3] ابن كثير: البداية والنهاية 4/242- 245.
من كلماته
قام عبد الله بن رواحة ليشجع الناس على القتال لما رأوا كثرة الروم ، فقال : " يا قوم ، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة ، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ؛ فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين ، إما ظهور وإما شهادة ".
وفاته
لقي سيدنا عبد الله بن رواحة ربه شهيدًا في غزوة مؤتة بأرض بلقاء بالشام في السنة الثامنة من الهجرة ، رضي الله عنه وأرضاه .
قالوا عنه
قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم : " يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ رَوَاحَةَ ، إِنَّهُ يُحِبُّ الْمَجَالِسَ الَّتِي تُبَاهَى بِهَا الْمَلاَئِكَةُ ".وذلك لما قال لرجل : هيا بنا نؤمن ساعة . فذهب الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال له : إن ابن رواحة يرغب عن إيمانك بإيمان ساعة [1] .
المصادر :
[1] ابن كثير: البداية والنهاية 4/243.
-
شيخ الإسلام ابن تيمية
حمل قلمه وسيفه للجهاد في سبيل الله فالقلم جاهد به الفلاسفة الملحدين ، أما السيف فقد جاهد به التتار، ولم يكتف الإمام ابن تيمية على ذلك بل جاهد بلسانه أيضاً ضد الحكام الجائرين ووقف ليقول كلمة حق عند سلطان جائر .
ابن تيمية نسبه وقبيلته تقي الدين أبو العباس أحمد بن شيخنا الإمام العلامة المفتي شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم محمد بن الخضر بن محمد ابن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني ثم الدمشقي .
مولد ابن تيمية والبلد التي عاش فيها كان مولده يوم الاثنين عاشر ربيع الأول بحران سنة إحدى و ستين و ستمائة وقدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير .[1]
جهاد ابن تيمية وأهم المعارك ودوره فيها أخبر غير واحد أن الشيخ كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم واقيتهم وقطب ثباتهم إن رأى من بعضهم هلعا أو رقة أو جبانة شجعه وثبته وبشره ووعده بالنصر والظفر والغنيمة وبين له فضل الجهاد والمجاهدين وإنزال الله عليهم السكينة .وكان إذا ركب الخيل يتحنك ويجول في العدو كأعظم الشجعان ويقوم كأثبت الفرسان ويكبر تكبيرا أنكى في العدو .وحدثوا أنهم رأوا منه في فتح عكة أمورا من الشجاعة يعجز الواصف عن وصفهاقالوا ولقد كان السبب في تملك المسلمين إياها بفعله ومشورته وحسن نظره .[2] وعن شجاعة الشيخ وبأسه عند قتال الكفار يقول أمير من أمراء الشام ذو دين متين وصدق لهجة معروف في الدولة قال قال لي الشيخ يوم اللقاء ونحن بمرج الصفر وقد تراءى الجمعان يا فلان أوقفني موقف الموت ، قال فسقته إلى مقابلة العدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم .ثم قلت له يا سيدي هذا موقف الموت وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة فدونك وما تريد قال فرفع طرفه إلى السماء وأشخص بصره وحرك شفتيه طويلا ثم انبعث وأقدم على القتال وأما أنا فخيل إلي أنه دعا عليهم وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة قال ثم حال القتال بيننا والالتحام وما عدت رأيته حتى فتح الله ونصر وانحاز التتار إلى جبل صغير عصموا نفوسهم به من سيوف المسلمين تلك الساعة وكان آخر النهار قال وإذا أنا بالشيخ وأخيه يصيحان بأعلى صوتيهما تحريضا على القتال وتخويفا للناس من الفرار .فقلت يا سيدي لك البشارة بالنصر فإنه قد فتح الله ونصر وها هم التتار محصورون بهذا السفح وفي غد إن شاء الله تعالى يؤخذون عن آخرهم .قال فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله ودعا لي في ذلك الموطن دعاء وجدت بركته في ذلك الوقت وبعده .[3] معركة شقحب لقد أبلى الإمام ابن تيمية في الجهاد بلاءً حسناً ومن أهم المعارك التي أبل فيها تلك المعركة التي ندبه العسكر الشامي أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق فسار إليه فحثه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر فجاء هو وإياه جميعا فسأله السلطان أن يقف معه في معركة القتال فقال له الشيخ السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم وحرض السلطان على القتال وبشره بالنصر وجعل يحلف بالله الله لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم في هذه المرة فيقول له الأمراء قل إن شاء الله فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضا وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شيء معه في يده ليعلمهم أن إفطارهم ليتقوا وعلى القتال أفضل فيأكل الناس وكان يتأول في الشاميين قوله إنكم ملاقوا العدو غدا والفطر أقوى لكم فعزم عليهم في الفطر عام الفتح كما في حديث أبي سعيد الخدري .[4] قالوا عن ابن تيمية قال صاحب العلام العلية كان من أشجع الناس وأقواهم قلبا ما رأيت أحدا أثبت جأشا منه ولا أعظم عناء في جهاد العدو منه كان يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده ولا يخاف في الله لؤمة لائم .[5]كان من بحور العلم ومن الأذكياء المعدودين والزهاد الأفراد والشجعان الكبار والكرماء الأجواد [6]
وفاة ابن تيمية توفي ابن تيمية في شهر ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة وقد اتفق موته في سحر ليلة الاثنين فذكر ذلك مؤذن القلعة على المنارة بها وتكلم بها الحراس على الأبرجة فما أصبح الناس إلا وقد تسامعوا بهذا الخطب الجسيم فبادر الناس إلى الاجتماع حول القلعة من كل مكان أمكنهم المجيء منه حتى من الغوطة والمرج ولم يطبخ أهل الأسواق شيئا ولا فتحوا كثيرا من الدكاكين التي من شأنها أن تفتح أوائل النهار على العادة وكان نائب السلطة قد ذهب يتصيد في بعض الأمكنة ثم ذكر ابن كثير صفة غسله وحمله والصلاة عليه والناس في بكاء وتهليل في مخافة كل واحد في نفسه وفي ثناء وتأسف والنساء فوق الأسطحة من هناك إلى المقبرة يبكين ويترحمن، وكان يوما مشهودا لم يعهد مثله بدمشق ولا يمكن أحد حصر من حضر الجنازة .[7] وهكذا مضت حياة ابن تيمية بعد أن عاش مجاهدًا بلسانه وبقلمه وبيده ، ليلحق بركب المجاهدين في الجنة ، ويكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
المصادر : [1] ابن كثير: البداية والنهاية 14/135.[2] الأعلام العلية 1/67: 68.[3] العقود الدرية 1/193: 194.[4] البداية والنهاية [ جزء 14 - صفحة 26 ][5] الأعلام العلية : السابق .[6] تذكرة الحفاظ 4/1497 .[7] الشهادة الزكية 1/63 .
-- .
-
الملك نجم الدين إيلغازي
النسب و القبيلة
هو الملك نجم الدين إيلغازي ابن الأمير أرتق بن أكسب التركماني ، كان ذا شجاعة، ورأي ، وهيبة وصيت ، حارب الفرنج غير مرة ، وأخذ حلب بعد أولاد رضوان بن تتش .
جهاده وأهم المعارك ودوره فيها أيقظت الحملات الصليبية أمراء وحكام المسلمين للدفاع عن دينهم وبلادهم ، جاءت الحملات الصليبية والتي تحمل في طياتها الحقد والحسد والبغضاء على الإسلام ، إلا أن هذه الحملات أيقظت المسلمين من سبات عميق ، فوضحت لهم رؤيا النصارى ، وحقدهم الدفين على الإسلام وأهله ، كانت النتيجة الطبيعية للحملات الصليبية أن يظهر من بين المسلمين قادة يحملون راية الجهاد ، من هؤلاء القادة الذين رفعوا راية الجهاد الأمير إيلغازي الذي حارب الفرنج ونكل بهم في وقائع كثيرة . استولى الفرنجة على كثير من المقاطعات الإسلامية ، وخربوا كذلك كثير من البلاد ، من هذه البلاد حلب ولم يكن بحلب من الذخائر ما يكفيها شهراً واحداً ، فخاف أهلها خوفاً شديداً من ملاقاة الفرنجة ، ولما رأى الفرنج حالة أهل حلب راسلوهم على أن يسلموهم حلب إلا أن أهلها رفضوا ذلك ، مستغيثين بأهل بغداد إلا أن النصرة لم تأت ولم يغاثوا .وكان الأمير إيلغازي، صاحب حلب ، ببلدة ماردين يجمع العساكر والمتطوعة للغزاة ، فاجتمع عليه نحو عشرين ألفاً ، وكان معه أسامة بن المبارك بن شبل الكلابي ، والأمير طغان أرسلان بن المكر ، صاحب بدليس وأرزن ، وسار بهم إلى الشام، عازماً على قتال الفرنج .فلما علم الفرنجة قوة عزمهم على لقائهم ، وكانوا ثلاثة آلاف فارس ، وتسعة آلاف راجل ، ساروا فنزلوا قريباً من الأثارب ، بموضع يقال له تل عفرين ، بين جبال ليس لها طريق إلا من ثلاث جهات ، وفي هذا الموضع قتل شرف الدولة مسلم بن قريشوظن الفرنجة أن أحداً لا يسلك إليهم لضيق الطريق ، فأخلدوا إلى المطاولة ، ومن عادة الفرنجة أنهم إذا رأوا قوة المسلمين ، راسلوهم بأنهم قادمين عليهم لبث روح الرعب في قلوب المسلمين، فراسلوا إيلغازي قائلين له : لا تتعب نفسك بالمسير إلينا ، فنحن واصلون إليك، فأعلم أصحابه بما قالوه ، واستشارهم فيما يفعل ، فأشاروا بالركوب من وقته ، وقصدهم ، ففعل ذلك ، وسار إليهم ، ودخل الناس من الطرق الثلاثة ، ولم تعتقد الفرنجة أن أحداً يقدم عليهم ، لصعوبة المسلك إليهم ، فلم يشعروا إلا وأوائل المسلمين قد غشيتهم ، فحمل الفرنجة حملة منكرة، فولوا منهزمين ، فلقوا باقي العسكر متتابعة ، فعادوا معهم ، وجرى بينهم حرب شديدة ، وأحاطوا بالفرنجة من جميع جهاتهم ، وأخذهم السيف من سائر نواحيهم ، فلم يفلت منهم غير نفر يسير ، وقتل الجميع ، وأسروا .وكان من جملة الأسرى نيف وسبعون فارساً من مقدميهم ، وحملوا إلى حلب ، فبذلوا في نفوسهم ثلاثمائة ألف دينار، فلم يقبل منهم ، وغنم المسلمون منهم الغنائم الكثيرة .وأما سيرجال ، صاحب أنطاكية ، فإنه قتل وحمل رأسه، وكانت الوقعة منتصف شهر ربيع الأول ، ثم تجمع من سلم من المعركة مع غيرهم ، فلقيهم إيلغازي أيضاً ، فهزمهم ، وفتح منهم حصن الأثارب ، وزردنا ، وعاد إلى حلب ، و قرر أمرها ، وأصلح حالها ، ثم عبر الفرات إلى ماردين .وكان هذه الواقعة في عام 513 هـ . واستولى إيلغازي كذلك على ميافارقين وغيرها قبل موته بسنة ، ثم سار منجدا لأهل تفليس هو وزوج بنته ملك العرب دبيس الأسدي ، وانضم إليهما طغان صاحب أرزن ، و طغريل أخو السلطان محمود السلجوقي ، وساروا على غير تعبئة ، فانحدر عليهم داود طاغية الكرج ، فكبسهم ، فهزمهم ، ونازل اللعين تفليس وأخذها بالسيف ، ثم جعلهم رعية له ، وعدل ومكنهم من شعار الإسلام ، وأمر أن لا يذبح فيها خنزير، وبقي يجئ ويسمع الخطبة ، ويعطي الخطيب والمؤذنين الذهب ، وعمر ربطا للصوفة ، وكان جوادا محترما للمسلمين .وأما إيلغازي ، فتوفي في رمضان بميافارقين سنة 516هـ، فهذا أول من تملك ماردين ، واستمرت في يد ذريته .
قالوا عنه أثنى عليه العلماء ومدحه الشعراء فقال الذهبي " كان فارساً شجاعاً كثير الغزو كثير العطاء " .
وقيل فيه قل ما تشاء ، فقولك المقبول *** وعليك بعد الخالق التعويل واستبشر القرآن حين نصرته *** وبكى لفقد رجاله الإنجيل
وفاته اتفق أن أكل إيلغازي لحم قديد كثيراً وجوزاً أخضر وبطيخاً وفواكه ، فانتفخ جوفه وضاق نفسه ، واشتد به الأمر، فرحل إلى حلب ، وتزايد به المرض ، فسار طغتكين إلى دمشق وبلك غازي إلى بلاده .ودخل إيلغازي ليتدواى بحلب ، فنزل القصر، ولم يخلص من علته .أقام إيلغازي ، وصلح من مرضه ، وسار إلى ماردين، ثم خرج منها يريد ميافارقين ، فاشتد مرضه في الطريق ، وتوفي بالقرب من ميافارقين بقرية يقال لها : عجولين ، في أول شهر رمضان من سنة 516هـ .
-
خفاجة بن سفيان
خفاجة مجاهدا
خفاجة بن سفيان أمير صقلية الذي كثر جهاده للفرنج ؛ ففي سنة اثنتين وخمسين ومائتين سار خفاجة إلى سرقوسة ، ثم إلى جبل النار، فأتاه رسل أهل طبرمين يطلبون الأمان ، فأرسل إليهم امرأته وولده في ذلك ، فتم الأمر، ثم غدروا ، فأرسل خفاجة محمدًا في جيش إليها ، ففتحها وسبى أهلها .ثم سار خفاجة إلى رغوس ، فطلب أهلها الأمان ليطلق رجل من أهلها بأموالهم ، ودوابهم ، ويغنم الباقي ، ففعل وأخذ جميع ما في الحصن من مال ، ورقيق ، ودواب ، وغير ذلك ، وهادنه أهل الغيران وغيرهم ، وافتتح حصونًا كثيرة ، ثم مرض ، فعاد إلى بلرم .وفي سنة ثلاث وخمسين ومائتين سار خفاجة من بلرم إلى مدينة سرقوسة و قطانية ، وخرب بلادها ، وأهلك زروعها ، وعاد وسارت سراياه إلى أرض صقلية ، فغنموا غنائم كثيرة . وفي سنة أربع وخمسين ومائتين أرسل خفاجة في العشرين من ربيع الأول ، وسير ابنه محمدًا على الحراقات ، وأرسل سرية إلى سرقوسة فغنموا ، وأتاهم الخبر أن بطريقًا قد سار من القسطنطينية في جمع كثير ، وغنم المسلمون منهم غنائم كثيرة ؛ ورحل خفاجة إلى سرقوسة فأفسد زرعها ، وغنم منها ، وعاد إلى بلرم ، وسير ابنه محمدًا في البحر، مستهل رجب ، إلى مدينة غيطة ، فحصرها ، وبث العساكر في نواحيها ، فغنم وشحن مراكبه بالغنائم ، وانصرف إلى بلرم في شوال .وفي سنة خمس وخمسين ومائتين سير خفاجة ابنه محمدًا إلى مدينة طبرمين ، وهي من أحسن مدن صقلية ، فسار في صفر إليها، وكان قد أتاهم من وعدهم أن يدخلهم إليها من طريق يعرفه ، فسيره مع ولده ، فلما قربوا منها تأخر محمد ، وتقدم بعض عساكره رجالة مع الدليل ، فأدخلهم المدينة ، وملكوا بابها وسورها ، وشرعوا في السبي والغنائم ، وتأخر محمد بن خفاجة فيمن معه من العسكر عن الوقت الذي وعدهم أنه يأتيهم فيه ، فلما تأخر ظنوا أن العدو قد أوقع بهم فمنعهم من السبي ، فخرجوا عنها منهزمين ، ووصل محمد إلى باب المدينة ومن معه من العسكر، فرأى المسلمين قد خرجوا منها ، فعاد راجعًا .وفيها في ربيع الأول خرج خفاجة وسار إلى مرسة ، وسير ابنه في جماعة كثيرة إلى سرقوسة ، فلقيه العدو في جمع كثير فاقتتلوا ، فوهن المسلمون، وقتل منهم ، ورجعوا إلى خفاجة ، فسار إلى سرقوسة فحاصره ، وأقام عليها ، وضيق على أهلها ، وأفسد بلادها ، وأهلك زرعهم ، وعاد عنها يريد بلرم ، فنزل بوادي الطين ، وسار منه ليلاً [1] .
وفاته اغتاله رجل من عسكره ، فطعنه طعنة فقتله ، وذلك مستهل رجب سنة 255هـ ، وهرب الذي قتله إلى سرقوسة ، وحمل خفاجة إلى بلرم ، فدفن بها وولى الناس عليهم بعده ابنه محمدًا ، وكتبوا بذلك إلى الأمير محمد بن أحمد ، أمير إفريقية ، فأقره على الولاية ، وسير له العهد والخلع [2] .
قالوا عنه يقول الزركلي : خفاجة بن سفيان أمير صقلية ، من الشجعان الغزاة المدبرين [3] .
المصادر : [1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3/240.[2] المصدر السابق ، الصفحة نفسها .[3] الزركلي : الأعلام 2/309 .
--
-
مسلمة بن عبد الملك - مجاهد على الدوام
روى الإمام البخاري معلقاً في باب الرماح عن ابن عمر: (3/1066) أن رسول الله قال : " جعل رزقي تحت ظل رمحي" [مسند أحمد بن حنبل (2/92)] . والنفس تفهم من هذا الحديث الكريم معنىً - ترجو أن يكون صوابا من الله ، وإلا فالخطأ منها ومن الشيطان - ، أن الحق لا بد له من قوة تحرسه وتصونه، وإلا ضاع تحت جبروت الباطل ، والعامة تقول : " المال السايب يعلم السرقة " وكذلك قيل : " من لم يتذأب أكلته الذئاب " . فرزق المسلم وهو يتمثل في داره وعقاره ، وسكنه ووطنه ، وزرعه وضرعه ، وكل ما يحوزه ويملكه يجب أن يكون محروسا بعدته وعتاده ، مستظلا بسلاحه ورماحه ، ومن هنا قال الله في القرآن الكريم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [سورة الأنفال : 60] وليست الحرب في الإسلام غاية مقصودة لذاتها ، ولكنها خطة يدفع بها بغي الباغين وظلم الظالمين ، ولذلك قال الله - تعالى -في التنزيل المجيد : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [سورة البقرة : 190] وقال أيضا : {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة البقرة الآية: 194] . وصيانة الحق والرزق تستلزم أن يكون أبناء الإسلام دائما على إعداد واستعداد ، وأن تكون طائفة منهم على الدوام في حالة رباط، أو على أرض الميدان ، حتى يظل الجهاد فريضة قائمة باقية ، وصلوات الله وسلامه على رسوله حين مجَّد شأن المؤمن المجاهد الموصول النضال ، فقال : " خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها". [سنن الترمذي فضائل الجهاد (1652) ، سنن النسائي الزكاة (2569) ، موطأ مالك الجهاد (976) ، سنن الدارمي الجهاد (2395) ] .وهذا واحد من أبناء الإسلام ، وأتباع محمد -عليه الصلاة والسلام - يظل أكثر من خمسين عامًا يحمل سلاحه، ويسدد رماحه ، ويذود عن حمى الدين ، ويصون حرمات المسلمين ، ويتقرب بالجهاد إلى الله رب العالمين ، إنه البطل القائد ، الأمير الفاتح أبو سعيد[1] مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم القرشي الأموي الدمشقي ، وإليه تنسب جماعة بني مسلمة التي كانت بلدتهم هي الأشمونين وفيها منازلهم ، وهي بلدة بالصعيد الأعلى في مصر غربي نهر النيل .وكان مسلمة بن عبد الملك من أبطال عصره ، بل من أبطال الإسلام المعدودين ، حتى كانوا يقولون عنه أنه خالد بن الوليد الثاني ؛ لأنه كان يشبه سيف الله المسلول في شجاعته وكثرة معاركه وحروبه ، ويقول عنه المؤرخ يوسف بن تغري: روى صاحب كتاب النجوم الزاهرة هذه العبارة : كان شجاعا صاحب همة وعزيمة ، وله غزوات كثيرة [2] . ويقول عنه ابن كثير: وبالجملة كانت لمسلمة مواقف مشهورة ، ومساعٍ مشكورة ، وغزوات متتالية منثورة ، وقد افتتح حصونا وقلاعا ، و أحيا بعزمه قصورا وبقاعا ، وكان في زمانه في الغزوات نظير خالد بن الوليد في أيامه ، وفي كثرة مغازيه ، وكثرة فتوحه ، وقوة عزمه ، وشدة بأسه ، وجودة تصرفه في نقضه وإبرامه ، وهذا مع الكرم والفصاحة .[3] ، ويقول عنه صاحب العقد الفريد : ولم يكن لعبد الملك ابن أسد رأيا ، ولا أزكي عقلا، ولا أشجع قلبا ، ولا أسمع نفسا ، ولا أسخى كفا من مسلمة [4] . ولذلك أوصى عبد الملك بن مروان أولاده ، وفيهم مسلمة ، فكان مما قاله لهم عنه : يا بني ، أخوكم مسلمة، نابكم الذي تفترون عنه ، و مجنكم الذي تستجنون به ، أصدروا عن رأيه [5]. و مع أن إخوة لمسلمة تولوا الخلافة دونه ، ظل هو بينهم النجم المتألق الثاقب بجهاده وكفاحه ، وقال عنه مؤرخ الإسلام الذهبي : كان مسلمة أولى بالخلافة من إخوته ، وليست العبرة بالمناصب والمراتب ، ولكنها بالإرادة والعزيمة ، والإقدام ، وعمق التفكير، وحسن الخلق .وكانوا يلقبون مسلمة بلقب الجرادة الصفراء ؛ لأنه كان متحليا بالشجاعة والإقدام ، مع الرأي والدهاء، ومع أنه تولى إمارة أذربيجان وأرمينية أكثر من مرة وإمارة العراقين [6] ، ظل يواصل الجهاد ، ويتابع المعارك ، منذ تولى والده الخلافة سنة خمس وستين , تولى عبد المَلك بن مُرْوان الخِلافة في رمضان سنة خَمْس وستين وتوفِّي سنة سِتِّ وثمانين[7] وظل مسلمة على هذه الروح البطولية حتى لحق بربه سنة إحدى وعشرين ومائة . وهذه إشارات سريعة إلى سلسلة المعارك التي خاضها : في سنة ست وثمانين غزا مسلمة أرض الروم ، وفي سنة سبع وثمانين غزا أرض الروم، ومعه يزيد بن جبير، فلقي الروم في عدد كثير بسوسنة من ناحية المصيصة ، ولاقى فيها ميمونا الجرجماني ، ومع مسلمة نحو من ألف مقاتل من أهل أنطاكية عند طوانة، فقتل منهم بشرا كثيرا، وفتح الله على يديه حصونا . وفي سنة ثمان وثمانين فتح مسلمة حصنا من حصون الروم يسمى طوانة ، في شهر جمادى الآخرة ، وشتوا بها ، وكان على الجيش مسلمة والعباس بن الوليد بن عبد الملك ، وهزم المسلمون أعداءهم ، ويروى أن العباس قال لبعض من معه : أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة ، فقال له : نادهم يأتوك . فنادى العباس: يا أهل القرآن ، فأقبلوا جميعا ، فهزم الله أعداءهم .وفي سنة ثمان وثمانين - أيضاً - غزا مسلمة الروم مرة أخرى ، ففتح ثلاثة حصون ، هي حصن قسطنطينية وحصن غزالة ، وحصن الأخرم [8] . وفي سنة تسع وثمانين غزا مسلمة أرض الروم مرة أخرى ، حيث فتح حصن سورية، وقصد عمورية ، فوافق بها للروم جمعا كثيرا ، فهزمهم الله ، وافتتح هرقلة و قمودية .وفي سنة تسع وثمانين - أيضا ً- غزا مسلمة الترك ، حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان ، ففتح حصونا ومدائن هناك .وفي سنة اثنتين وتسعين غزا مسلمة - ومعه عمر بن الوليد - أرض الروم ، ففتح الله على يدي مسلمة ثلاثة حصون ، وجلا أهل سوسنة إلى جوف أرض الروم .وفي سنة ثلاث وتسعين غزا مسلمة أرض الروم ، فافتتح ماسة ، وحصن الحديد ، وغزالة ، و برجمة من ناحية ملطية [9] . * وفي سنة ست وتسعين غزا مسلمة أرض الروم صيفا ، وفتح حصنا يقال له : حصن عوف.وفي سنة سبع وتسعين غزا مسلمة أرض الروم ، وفتح الحصن الذي كان قد فتحه الوضاح صاحب الوضاحية .وفي سنة ثمان وتسعين حاصر مسلمة القسطنطينية ، وطال الحصار ، واحتمل الجنود في ذلك متاعب شديدة .[10]وفي سنة ثمان ومائة غزا مسلمة الروم حتى بلغ قيسارية وفتحها. وفي سنة تسع ومائة غزا الترك والسند ، و ولاه أخوه يزيد بن عبد الملك إمارة العراقين ثم أرمينية .و في سنة عشر ومائة غزا مسلمة الترك، وظل يجاهد شهرا في مطر شديد حتى نصره الله [11] .وفي سنة عشر ومائة – أيضاً - قاتل مسلمة ملك الترك الأعظم خاقان، حيث زحف إلى مسلمة في جموع عظيمة فتوافقوا نحوًا من شهر، ثم هزم الله خاقان زمن الشتاء ، ورجع مسلمة سالماً غانماً، فسلك على مسلك ذي القرنين في رجوعه إلى الشام ، وتسمى هذه الغزوة غزاة الطين ، وذلك أنهم سلكوا على مفارق ومواضع غرق فيها دواب كثيرة ، وتوحل فيها خلق كثير، فما نجوا حتى قاسوا شدائد وأهوالاً صعابًا وشدائد عظامًا [12] .وفي سنة ثلاث عشرة غزا مسلمة بلاد خاقان ، وبث فيها الجيوش ، وفتح مدائن وحصونا ، وقتل منهم وأسر ودان لمسلمة من كان وراء جبال بلنجر [13] .وفي سنة ثلاث عشرة – أيضًا - توغل مسلمة في بلاد الترك، فقتل منهم خلقًا كثيراً ، ودانت له تلك الممالك من ناحية بلنجر وأعمالها . [14]وفي سنة إحدى وعشرين ومائة غزا مسلمة الروم ، ففتح حصن مطامير [15] .
رواية الحديث عن الخليفة الخامس : أرأيت ! إنها سلسلة طويلة من المعارك والغزوات والحروب ، وإنها لسلسلة كثيرة الحلقات ، وكأنما نذر مسلمة نفسه للجهاد والقتال ، واتخذ مسكنه في ساحات الكفاح والنضال ، ومع ذلك كان عالما محدثا ، روى الحديث عن خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز، وروى عنه الأحاديث جماعة منهم : عبد الملك بن أبي عثمان، وعبد الله بن قرعة ، وعيينة والد سفيان بن عيينة ، وابن أبي عمران ، ومعاوية بن خديج ، ويحيي بن يحيي الغساني [16] .ويظهر أن اتصال مسلمة بن عبد الملك بالحاكم العادل، المخلص الأمين خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز كان من أقوى الأسباب في تكوين شخصية مسلمة ، تكوينًا باهرًا رائعًا ؛ لأني أومن بأن عمر بن عبد العزيز كان رجلا تتمثل فيه نفحات إلهية من الخير والبر والتوفيق ، وأن الذين اتصلوا به وأخذوا عنه واقتبسوا منه هداهم الله ، ووهبهم توفيقا ورشاداً .ولعل مسلمة قد عبر عن شيء من هذا القبيل حينما دخل على عمر بن عبد العزيز وهو في ساعاته الأخيرة فقال له في تأثر عميق بليغ : جزاك الله يا أمير المؤمنين عنا خيراً ، فقد ألنت لنا قلوبا كانت قاسية، وجعلت لنا في الصالحين ذكرا [17] .و هذه عبارة تدل على أن ملامح من شخصية مسلمة كان الفضل فيها لخامس الراشدين - رضوان الله تبارك وتعالى عليه -.
على فراش الموت بين مسلمة وعمر بن عبد العزيز: ومن المواقف الخالدة الباقية بين مسلمة وعمر ما رواه ابن عبد ربه، وهو أن مسلمة بن عبد الملك ، دخل على عمر بن عبد العزيز في المرض الذي مات فيه ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، إنك فطمت أفواه ولدك عن هذا المال ، وتركتهم عالة ، ولا بد لهم من شيء يصلحهم ، فلو أوصيت بهم إلي أو إلى نظرائك من أهل بيتك لكفيتك مئونتهم إن شاء الله .فقال عمر: أجلسوني، فأجلسوه ، فقال : الحمد لله ، أبالله تخوفني يا مسلمة ؟ أما ما ذكرت أني فطمت أفواه ولدي عن هذا المال وتركتهم عالة ، فإني لم أمنعهم حقا هو لهم ، ولم أعطهم حقا هو لغيرهم ، وأما ما سألت من الوصاة إليك أو إلى نظرائك من أهل بيتي ، فإن وصيتي بهم إلى الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ، وإنما بنو عمر أحد رجلين : رجل اتقى الله ، فجعل الله له من أمره يسرا ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، ورجل غيَّر وفجر فلا يكون عمر أول من أعانه على ارتكابه ، ادعوا لي بني . فدعوهم ، وهم يومئذ اثنا عشر غلاما ، فجعل يصعد بصره فيهم ويصوبه ، حتى اغرورقت عيناه بالدمع ، ثم قال : بنفسي فتية تركتهم ولا مال لهم ، يا بَني ، إني قد تركتكم من الله بخير، إنكم لا تمرون على مسلم ولا معاهد إلا ولكم عليه حق واجب إن شاء الله ، يا بَني ، ميلت رأيي بين أن تفتقروا في الدنيا ، وبين أن يدخل أبوكم النار، فكان أن تفتقروا إلى آخر الأبد خيرا من دخول أبيكم يوما واحدا النار . قوموا يا بني عصمكم الله ورزقكم . فما احتاج أحد من أولاد عمر ولا افتقر [18] .وكان مسلمة يظهر نعمة الله - تعالى - ، ومن شواهد ذلك أنه دخل على عمر بن عبد العزيز وعليه ريطة من رياط مصر (أي ثوب رقيق ناعم) . فقال له عمر: بكم أخذت هذا يا أبا سعيد ؟أجاب مسلمة : بكذا وكذا .قال عمر: فلو نقصت من ثمنها ما كان ناقصا من شرفك.فأجاب مسلمة : إن أفضل الاقتصاد ما كان بعد الجِدة ، وأفضل العفو ما كان بعد القدرة ، وأفضل اليد ما كان بعد الولاية [19] .و لقد كان مسلمة رجلا معطاء ، ولقد قال يوما لنصيب الشاعر: سلني . قال : لا ، قال : ولم ؟ قال نصيب :لأنَّ كفك بالجزيل أكثر من مسألتي باللسان .وكان مسلمة مع تقواه وحرصه على الصلاة رجلا يحب العفو ويحبب فيه ، ولقد حدث بين الخليفة هشام بن عبد الملك وبين ابن هبيرة ما دعا إلى إهدار دمه، ولكن خادما لمسلمة يحدثنا فيقول: كان مسلمة بن عبد الملك يقوم الليل فيتوضأ و يتنفل حتى يصبح ، فيدخل على أمير المؤمنين ، فإني لأصب الماء على يديه من آخر الليل وهو يتوضأ ، إذ صاح صائح من وراء الرواق : أنا بالله وبالأمير: فقال مسلمة - في دهشة - : صوت ابن هبيرة ، اخرج إليه .فخرجت إليه ورجعت فأخبرته ، فقال : أدخله ، فدخل فإذا رجل يميد نعاسا ، فقال : أنا بالله وبالأمير . قال : أنا بالله ، وأنت بالله .ثم قال : أنا بالله ، وأنا بالأمير .قال مسلمة : أنا بالله ، وأنت بالله .حتى قالها ثلاثا ، ثم قال : أنا بالله . فسكت عنه ، ثم قال لي : انطلق به فوضئه وليصلِّ ، ثم اعرض عليه أحب الطعام إليه فأته به ، وافرش له في تلك الصفة - لصفة بين يدي بيوت النساء - ولا توقظه حتى يقوم متى قام .فانطلقت به فتوضأ وصلى ، وعرضت عليه الطعام فقال : شربة سويق ، فشرب ، وفرشت له فنام ، وجئت إلى مسلمة فأعلمته ، فغدا إلى هشام فجلس عنده ، حتى إذا حان قيامه قال : يا أمير المؤمنين ، لي حاجة .قال هشام : قُضيتْ ، إلا أن تكون في ابن هبيرة .قال مسلمة : رضيت يا أمير المؤمنين .ثم قام مسلمة منصرفا ، حتى إذا كاد أن يخرج من الديوان رجع فقال : يا أمير المؤمنين ، ما عودتني أن تستثني في حاجة من حوائجي ، وإني أكره أن يتحدث الناس أنك أحدثت علي الاستثناء .قال هشام : لا أستثني عليك .قال مسلمة : فهو ابن هبيرة .فعفا عنه هشام [20] . و من ملامح شخصية مسلمة أنه كان يعرف للفصحى مكانتها، وللبيان السليم منزلته ، وكان يقول : اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه[21]. وكان يقول أيضا : مروءتان ظاهرتان : الرياسة والفصاحة [22].و من كلماته قوله : ما أخذت أمرا قط بحزم فلمت نفسي فيه ، وإن كانت العاقبة عليَّ ، ولا أخذت أمرا قط ، وضيعت الحزم فيه ، فحمدت نفسي وإن كانت لي العاقبة [23] .وكان مسلمة يحب أهل الأدب ، وأوصى لهم بثلث ماله ، وقال : إنها صنعة جُحف أهلها [24] . أي سلبهم الناس حقهم .وكذلك كان يعرف للشعراء مكانتهم وحقهم ، ولقد تحدث كثير عزة فقال : شخصت أنا و الأحوص ونصيب إلى عمر بن عبد العزيز وكل واحد منا يَدِلُّ عليه بسابقة وإخاء قديم ، ونحن لا نشك أن سيشركنا في خلافته، فلما رفعت لنا أعلام " خناصرة " [بلدة من أعمال حلب] لقينا مسلمة بن عبد الملك ، وهو يومئذ فتى العرب ، فسلمنا فرد ، ثم قال : أما بلغكم أن إمامكم لا يقبل الشعر ؟ قلنا : ما توضح إلينا خبرا حتى انتهينا إليك ! ، ووجمنا وجمة عرف ذلك فينا .قال: إن يكن ذو دين بني مروان قد ولي وخشيتم حرمانه ، فإن ذا دنيانا قد بقي ، ولكم عندي ما تحبون ، وما ألبث حتى أرجع إليكم ، وأمنحكم ما أنتم أهله .فلما قدم كانت رحالنا عنده بأكرم منزل عليه [25] .وكان مسلمة يعرف للعلماء كذلك أقدارهم ، ويهدي إليهم ، وكان يهدي إلى الحسن البصري ، وأهدى إليه ذات مرة خميصة لها أعلام ، فكان الحسن يصلي فيها [26] .وكان يتقدم بالنصيحة في موطنها ، ولقد لاحظ على أخيه يزيد بن عبد الملك نوعا من اللهو وهو في الخلافة ، فنصحه وذكره بسيرة عمر بن عبد العزيز وقال له فيما قال : إنما مات عمر أمس ، وقد كان من عدله ما قد علمت ، فينبغي أن تظهر للناس العدل ، وترفض هذا اللهو ، فقد اقتدى بك عمالك في سائر أفعالك وسيرتك [27] .ومن أروع المشاهد المأثورة المذكورة في سيرة البطل الفاتح مسلمة بن عبد الملك التي يجب أن نطيل فيها التأمل والاعتبار، إن كنا من أصحاب القلوب والأبصار، أن مسلمة كان يحاصر ذات يوم حصنا، وما أكثر الحصون التي حاصرها ، وما أكثر الحصون التي اقتحمها باسم الإسلام والمسلمين ! و استعصى فتح الحصن على الجنود ، فوقف مسلمة يخطب بينهم ويقول لهم ما معناه : أما فيكم أحد يقدم فيحدث لنا نقبا في هذا الحصن؟.و بعد قليل تقدم جندي ملثم ، وألقى بنفسه على الحصن ، واحتمل ما احتمل من أخطار وآلام ، حتى أحدث في الحصن نقبا كان سببا في فتح المسلمين له ، وعقب ذلك نادى مسلمة في جنوده قائلا : أين صاحب النقب ؟ .فلم يجبه أحد ، فقال مسلمة : عزمت على صاحب النقب أن يأتي للقائي ، وقد أمرت الآذن بإدخاله علي ساعة مجيئه .وبعد حين أقبل نحو الآذن شخص ملثم ، وقال له : استأذن لي على الأمير، فقال له : أأنت صاحب النقب ؟.فأجاب : أنا أخبركم عنه ، وأدلكم عليه، فأدخله الآذن على مسلمة ، فقال الجندي الملثم للقائد : إن صاحب النقب يشترط عليكم أمورا ثلاثة : ألا تبعثوا باسمه في صحيفة إلى الخليفة ، وألا تأمروا له بشيء جزاء ما صنع ، وألا تسألوه من هو ؟ . فقال مسلمة : له ذلك ، فأين هو؟ فأجاب الجندي في تواضع واستحياء أنا صاحب النقب أيها الأمير، ثم سارع بالخروج .فكان مسلمة بعد ذلك لا يصلي صلاة إلا قال في دعائها : اللهم اجعلني مع صاحب النقب يوم القيامة [28] .وبعد ما يزيد عن نصف قرن من الزمان قضاها مسلمة بن عبد الملك في قتال ونضال ، وكفاح وحمل سلاح، مضى إلى ربه سنة إحدى وعشرين ومائة ، لينال ثوابه مع أهل التقوى وأهل المغفرة {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [سورة القمر 54 : 55] وهو الذي سأله أخوه هشام : هل دخلك ذعر قط لحرب أو عدو ؟ فقال : ما سلمت في ذلك من ذعر ينبه على حيلة ، ولم يغشني ذعر سلبني رأيي. فقال هشام : هذه والله البسالة [29] .توفي مسلمة يوم الأربعاء لسبع مضين من المحرم سنة إحدى وعشرين و مائة ، في موضع يقال له : الحانوت ، وقيل : سنة عشرين ومائة ، وقيل : سنة اثنتين وعشرين ومائة .و من العجيب أن صاحب (النجوم الزاهرة) ذكر خبرين عن وفاته فذكر أولا أنه مات سنة عشرين و مائة .ثم عاد بعد قليل فذكر أنه مات سنة اثنتين وعشرين ومائة ، ولكن القول الأول أصح [30] .ولقد رثى الوليد بن يزيد بن عبد الملك عمه البطل مسلمة بن عبد الملك فقال في رثائه هذه الأبيات :أقول وما البعد إلا الردى ** أمسلم ، لا تبعدن ، مسلمةفقد كنت نورا لنا في البلاد ** مضيئا ، فقد أصبحت مظلمةو نكتم موتك نخشى اليقين ** فأبدى اليقين لنا الجمجمة !رضوان الله - تبارك وتعالى - عليه . المصادر : [1] وقيل في كُنْيته أيضا : أبو الإِصْبع ، وقيل أبو شاكِر . ويقال إنَّ هذه كُنْيَةٌ لابن أخيه مَسْلَمة بن هِشام بن عبد المَلِك ( النجوم الزاهرة ج1ص289)[2] المرجع السابق[3] البداية و النهاية ج9ص328و329[4] العقد الفريد ، ج7 ص145[5] مروج الذهب للمسعودي ج3ص161[6] العبر ج1 ص154[7] مُروج الذَّهَب ج3ص91...
-
أحمد باشا كوبريلي
النسب و المولد
أحمد كوبريلي ابن الصدر الأعظم محمد كوبريلي خلف والده في منصبه بعد وفاته ، وكان أصغر من تولى منصب الصدر الأعظم في الدولة العثمانية ، وقد استطاع بحسن إدارته أن يسوس البلاد ، وأعلى راية الجهاد وفتح البلاد حتى لقي ربه بعد أن أعاد للدولة العثمانية مجدها وهيبتها .وكان مولده عام 1045هـ/ 1635م في العاصمة إستانبول . النشأة و التربية نشأ أحمد كوبريلي تحت رعاية والده محمد باشا كوبريلي فأحسن تربيته وتعليمه ، فقد أنشأه على الإسلام ، وعلمه أمور السياسة والقيادة ، فخلف والده في منصب الصدر الأعظم ولم يخيب نظرة والده له، فقد أحسن سياسة الدولة ورعاية أحوال العباد ، واستطاع في وقت قصير أن يعيد أمجاد الدولة العثمانية التي دبَّ في أوصالها الضعف ، ورفع راية الجهاد ، واستطاع أن يفتح أعظم قلاع النمسا ، وكان ذلك من أثر تربية والده له .
جهاده وأهم المعارك ودوره فيها بعد الضعف الذي استشرى في الدولة العثمانية ، بدأت الثورات والفتن تدب في البلاد ، وكانت الدولة الغربية الصليبية ترصد الدولة العثمانية لتنتهز الفرصة لتنقض عليها ، وجرّأها على ذلك ضعف الخلفاء العثمانيين وضعف قادتهم ، إلى أن تولى محمد الرابع الذي أطلق عليه آخر الخلفاء الفاتحين ، وكان آنذاك صغيرًا ، فتولت جدته إدارة البلاد إلى أن ماتت ، ثم تولت أمه حتى بلغ الخامسة عشرة من عمره فتولى إدارة البلاد ، وكانت أمه قد اختارت محمد كوبريلي الماهر بشئون السياسة ليتولى منصب الصدر الأعظم ، إلى أن مات وقد أعاد للدولة العثمانية مجدها وهيبتها ، ثم خلفه ابنه أحمد باشا كوبريلي الذي رفع راية الجهاد وفتح البلاد ، فبلغت الدولة العثمانية في عهده أوج قوتها ، واستطاع أن يفتح أعظم قلاع النمسا وهي قلعة نوهزل .بعد أن تولى الصد الأعظم أحمد كوبريلي شئون البلاد رفع راية الجهاد ، ورفض الصلح مع النمسا والبندقية ، وجهز جيشًا كبيرًا من المسلمين ليعيد إلى الأذهان أمجاد الدولة العثمانية المجاهدة ، وتوجه على رأس الجيش لقتال النمسا ، وقد تمكن عام 1074هـ من فتح أعظم قلاع النمسا قلعة نوهزل شرقي فيينا ، وألقى الله الرعب في قلب الأوربيين بعد فتح هذه القلعة ، فقد كان في اعتبارهم أن الدولة العثمانية دولة ضعيفة لا تستطيع دفع الهجوم عنها من أي دولة أوربية ، فضلاً عن أن تهاجم وتفتح قلاعًا ، ولكن إذا اعتصم المسلمون بحبل الله ووثقوا في نصره وأعدوا العُدَّة فُتحت أمامهم الأبواب المغلقة ، وتنزل النصر على المسلمين في هذه الواقعة . بعد الهزيمة التي أصابت النمسا اضطر ملك النمسا أن يرجو البابا لتدعمه فرنسا في حربها مع الدولة العثمانية، فدعمته فرنسا بستة آلاف جندي ، ووقعت معركة (سان غوتار) من أعنف المعارك التي وقعت بين المسلمين وبين النصارى ، ولم يتمكن كلا الفريقين من إحراز نصر على الآخر ، وبعد أن رأت فرنسا قوة المسلمين حاولت فرنسا التقرب من الدولة العثمانية ، وتجديد الامتيازات ، غير أن الصدر الأعظم رفض ذلك، ثم حاولت فرنسا التهديد حيث أرسل " لويس الرابع عشر" ملك فرنسا السفير الفرنسي مع أسطول حربي ، وهذا ما زاد الصدر الأعظم إلا ثباتًا ، وقال : ( إن الامتيازات كانت منحة ، وليست معاهدة واجبة التنفيذ ) .لقد تراجعت فرنسا أمام تلك الإرادة الحديدية ، واستعملت سياسة اللين والخضوع للدولة العثمانية .
وفاته لقي أحمد كوبريلي ربه بعد حياة حافلة بالجهاد ، وكان سياسيًّا بارعًا وقائدًا فذًّا ، استطاع أن يعيد للدولة العثمانية مجدها وهيبتها بين الدول بعد أن كادت تطيح بها ، ولكن بموت أحمد كوبريلي عام 1087هـ دب الضعف في الدولة العثمانية لتسير إلى القاع بعد أن كانت في مقدمة العالم [1] .
المصادر : [1] كتاب التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر بتصرف ، كتاب الدولة العثمانية للدكتور علي الصلابي بتصرف .
--
-
جعفر بن أبي طالب
نسبه ونشأته
جعفر بن أبي طالب ، يكنى أبا عبد الله بابنه عبد الله ، واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف [1] .وُلد جعفر بن أبي طالب بمكة، ثم هاجر إلى الحبشة بعد إسلامه ، واستقر هناك إلى أن قدم المدينة في فتح خيبر؛ ليذهب إلى مؤتة ليستقر جسده هناك، وتصعد روحه إلى السماء مع النبيين والصديقين والشهداء .وقد كان جعفر أشبه الناس خُلُقًا وخَلْقًا برسول الله صلى الله عليه و سلم .
أهم المعارك ودوره فيها قال الزبير: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمانٍ من الهجرة ، فأصيب بها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وقاتل فيها جعفر حتى قطعت يداه جميعا ، ثم قتل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رَأَيْتُ جَعْفَرَ بن أَبِي طَالِبٍ فِي الْجَنَّةِ ذَا جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ حَيْثُ شَاءَ". فمن هنا قيل له : جعفر ذو الجناحين .وذكر ابن أبي شيبة ، عن يحيى بن آدم ، عن قطبة بن عبد العزيز، عن الأعمش ، عن عدي بن ثابت ، عن سالم بن أبي الجعد ، قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم جعفر بن أبي طالب ذا جناحين مضرجًا بالدم .و روينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : وجدنا ما بين صدر جعفر بن أبي طالب ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة ، ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح . وقد روي أربع وخمسون جراحة، والأول أثبت . ولما أتى النبي صلى الله عليه وسلم نعي جعفر أتى امرأته أسماء بنت عميس ، فعزاها في زوجها جعفر، ودخلت فاطمة رضي الله عنها وهي تبكي وتقول : و اعماه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عَلَى مِثْلِ جَعْفَرٍ فَلْتَبْكِ الْبَوَاكِي " [2] .
الوفاة لقي جعفر بن أبي طالب ربه شهيدًا في غزوة مؤتة ، ليلحق بركب الشهداء حيث يطير في الجنة مع طيرها بجناحين بدلاً من يديه التي قطعت في سبيل الله .
المصادر : [1] ابن عبد البر: الاستيعاب 1/71.[2] ابن عبد البر: الاستيعاب 1/72.
--
-
السلطان يعقوب بن عبد الحق
النسب والقبيلة
هو السلطان المجاهد يعقوب بن عبد الحق أبو يوسف المريني سلطان بلاد المغرب ، وقبيلة مرينة من بين قبائل العرب بالمغرب ويقال لها (حمامة) ، وكان مقامهم بالريف القبلي من إقليم تازة .
النشأة و المولد ولد السلطان يعقوب بن عبد الحق في عام 609هـ، ونشأ ببلاد المغرب في قبيلة مرينة ، من الواضح أنه نشأ على الإسلام ، وكانت نشأته صحيحة وقويمة ، فكما يقول عنه " لسان الخطيب " في الإحاطة أنه كان سليم الصدر، مخفوض الجناح ، وكان ملكًا صالحًا ، فهذه الصفات لا تتأتى إلا من كانت نشأته إسلامية خالصة ، خاصة وقد رفع لواء الجهاد ضد النصارى المتربصين بالإسلام لأخذ الأندلس وتملكها من يد المسلمين ، ولن يتجاوب مع المسلمين في رفع راية الجهاد إلا من تربى ، ونشأ عليه .
جهاده وأهم المعارك ودوره فيها استولى " الفنش " على جميع ما افتتحه المسلمون من معاقل الأندلس و ارتجعها ثم هلك " الفنش " وتولى ابنه ، وفي عهده ارتجع (قرطبة) و(إشبيلية) من أيدي (بني هود) وعلى عهده زحف ملك (أرغون) ، فارتجع شرق (الأندلس) كله (شاطبة) و(دانية) و(بلنسية) و(سرقسطة) ، وسائر الثغور والقواعد الشرقية . ولما رأى المسلمون ما حل بهم ملكوا عليهم " محمد الفقيه بن الأحمر"، واستغاث بـ" يعقوب بن عبد الحق " سلطان بـني مرين لنجدته ضد النصارى ، فأجاب صريخه وأجاز عساكر المسلمين من بني مرين وغيرهم إلى الجهاد مع ابنه ، ثم جاء على أثرهم وأمكنه ابن هشام من الجزيرة الخضراء وكان ثائرًا بها ، فتسلمها منه ونزل بها وجعلها ركابًا لجهاده ، وأنزل بها جيش الغزو ، ولقي الجموع النصرانية بوادلك وعليهم " ذنبة " من أقماط " بني أدفونش " وزعمائهم ، فهزمهم " يعقوب بن عبد الحق " وبقيت فتن متصلة، ولم يلقه " يعقوب " وإنما كان يغزو بلادهم، ويكثر فيها العبث إلى أن ألقوه بالسلم ، وخالف على هراندة ملك قشتالة هذا ابنه سانجة ، فوفد هراندة على يعقوب بن عبد الحق صريخًا وقبّل يده ، فقَبِل وفادته وأمده بالمال والجيش ورهن في المال التاج المعروف من ذخائر سلفهم .وكان أول ما افتتحه وخلصه من أيدي النصارى مدينة (سلا) ، وفتك في بعض غزواته بملك من النصارى يقال له ذوننه ، ويقال : إنه قتل من جيشه أربعين ألفًا ، وهزمهم أشد هزيمة ، ثم تتابعت غزواته بالأندلس وجوازه للجهاد ، وكان له من بلاد الأندلس رندة والجزيرة الخضراء وطريف وجبل طارق وغير ذلك ، وأعز الله تعالى به الدين بعد تمرد الفرنج المعتدين .
وفاته توفي السلطان " يعقوب بن عبد الحق" في الجزيرة الخضراء من الأندلس، وهو بعسكره للجهاد عند الزوال يوم الثلاثاء الثاني والعشرين لمحرم سنة 685هـ ، وله خمس وسبعون سنة .
قالوا عنه أثنى عليه لسان الخطيب فقال : كان ملكًا صالحًا، سليم الصدر، مخفوض الجناح، شارعًا أبواب الدالة عليه منهم ، أشبه بالشيوخ منه بالملوك ، في إخمال اللفظ، والإغضاء عن الجفوة ، والنداء بالكنية [1] .
المصادر : [1]: البداية والنهاية - المختصر في أخبار البشر - الإحاطة في أخبار غرناطة - تاريخ ابن خلدون - النفحة النسرينية و اللمحة المرينية .
--
-
أبو محمد عبد الله بن عياض
نسبه
هو الأمير المجاهد أبو محمد عبد الله بن عياض .
نشأته و تربيته لن يقوم بأمر الجهاد إلا رجل تعمق الإيمان في قلبه ، ولن يتعمق الإيمان إلا عن طريق تنشئة صحيحة على الإيمان ، فلن يعقل أن قلبًا خلا من الإيمان يستطيع أن يحمل سيفًا في المعركة ، ولن يستطيع الصمود في المعركة من لم يصفَّ قدمه لله بالليل . فمن الواضح أنه تربى تربية على منهج الإسلام وقواعده ؛ مما أهله أن يكون مجاهدًا من المجاهدين والمدافعين عن دين الله ، فهذه مكانة لا يصل إليها إلا من تعلق قلبه بالله .
جهاده وأهم المعارك ودوره فيها عمل النصارى على قتال المسلمين في الأندلس وأظهر هذا النصارى الحقد الدفين الذي يكنونه للمسلمين و الإسلام ، فعلى مدار ثمانية قرون هي عمر المسلمين في الأندلس لم تضع الحرب أوزارها ، وأظهرت هذه الحروب أمورًا منها :مدى حقد النصارى على المسلمين ، وأظهرت كثير من مجاهدي الأمة الذين يحملون الغيرة على الإسلام في قلوبهم ، ومن هؤلاء المجاهدين عبد الله بن عياض الذي جاهد الفرنج ، وذلك لما حاصر ابن ردمير مدينة أفراغه من شرق الأندلس، وكان إذ ذاك على قرطبة تاشفين ابن السلطان ، فجهز الزبير اللمتوني بألفي فارس ، وتجهز أمير مرسية و بلنسية - يحيى بن غانية - في خمسمائة وتجهز عبد الله بن عياض صاحب لاردة في مائتين ، فاجتمعوا وحملوا الميرة إلى أفراغه ، وكان ابن ردمير في اثني عشر ألف فارس ، فأدركه العجب ؛ لما رأى قلة المسلمين ، وقال لأصحابه : اخرجوا ، خذوا هذه الميرة .ونفذ قطعة من جيشه ، فهزمهم ابن عياض ، فساق ابن ردمير بنفسه ، والتحم الحرب ، واستحر القتل في الفرنج ، وخرج أهل أفراغه الرجال والنساء ، فنهبوا خيم الروم . وكان الزبير اللمتوني قد أتى بجيشه إلى ابن ردمير، فانهزم الطاغية ، ولم يفلت من جيشه إلا القليل ، ولحق بسرقسطة ، فبقي يسأل عن كبار أصحابه ، فيقال له : قتل فلان ، قتل فلان ، فمات غمًّا بعد عشرين يومًا .و صدق الله تعالى حين قال : {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] .
وفاته آل أمر عبد الله بن عياض إلى أن جاء سهم من نصراني فقتله رحمة الله عليه، وذلك بعد هذه المعركة التي كانت عام خمسمائة وتسعة وعشرين .
قالوا عنه أثنى عليه العلماء فقد كان من أبطال المسلمين ، غازيًا للنصارى ، وكان فارس زمانه [1] .
المصادر : [1]: المغرب في حلى المغرب لابن سعيد المغربي - تاريخ الإسلام للذهبي .
--
-
أحمد المنيسي
لقد سجل طلاب جامعة القاهرة أروع الأمثلة في مقاومة المحتل البريطاني في قناة السويس وسطروا بدمائهم الزكية أروع الأمثلة في البطولة والشجاعة ، وممن ضحوا بأنفسهم في سبيل تحرير الأرض أحمد المنيسي .
مولده و نشأته ولد أحمد فهمي المنيسي بمدينة فاقوس بالشرقية ، وكان طالبًا بالسنة الثانية بكلية الطب جامعة القاهرة ، وكان متفوقًا في دراسته برز في ميدان الجهاد حتى نال الشهادة [1] .
أهم المعارك ودوره فيها في صبيحة يوم 9/11/1951م وبعد أداء صلاة الفجر في كلية العلوم ، اتخذ (30) شابًّا من شباب الجامعة مكانهم في عربة كبيرة ، وانطلقت العربة بهم إلى قرية تقع إلى جوار (فاقوس) ، مملوكة للأخ " إبراهيم نجم " - رئيس (الإخوان) بفاقوس - حيث استمر التدريب تحت قيادة المجاهد " حسن عبد الغني " لمدة أسبوعين ، وبعد استكمال التدريب تم توزيع القوة على عدة مواقع ، أهمها (القرين) و(أبو حماد) و(التل الكبير) .وكان هناك تركيز على معسكرات الإنجليز بالتل الكبير وبالذات طرق المواصلات المؤدية إليها ، وأهمها القطارات ، وجاءت هذه الفرصة في 12 يناير 1952م ، هذا اليوم الذي شهد عمليةً واسعةً ، بدأت عاديةً، ثم تطورت تطورًا لم يكن في الحسبان .في صباح ذلك اليوم 12 يناير 1952م كان هناك بعض الشباب يلبسون الملابس الزرقاء ، التي يلبسها عمال السكك الحديدية ، ويضعون على رؤوسهم قبعات ضخمة ، ويحملون على أكتافهم (مقاطف) من الخوص ، معلقة على أطراف رافعات حديدية من تلك التي يستعملها العمال لإصلاح القضبان ، ثم توقَّفوا عند نقطة على الحدود ، وأخذوا يصلحون القضبان في تلك المنطقة ، وبعد نصف ساعة تفرَّقوا عائدين إلى البلدة .إلا أن أحدهم توقَّف على مقربة من المزارع ، واختار نقطةً كثيرة الحفر وجلس فيها ، وبعد أكثر من ساعتين ظهر قطار قادم على مهَلٍ ، وحين أصبح مُحاذيًا للمنطقة- التي يجلس فيها صاحبنا -حرك هذا يده بقوة ضاغطًا على جهاز تفجير الألغام ، فدوَّى انفجارٌ هائلٌ ، وأخذت عربات القطار تنهار وتسقط على جانبيها، وأطلق حُرَّاس القطار النار في كل الاتجاهات ، ولكن صاحبنا كان قد غادر المنطقة ، وفي اليوم التالي جاءت مجموعةٌ من الجنود الإنجليز لإصلاح القضبان ، وبينما هم منهمكون في العمل ، إذا بالنيران تُطلق عليهم من بنادق الشباب الذي كان يختفي في الزروع المحيطة ، فسقط منهم ثلاثة قتلى على الفور .و لم يبادر الشباب إلى الانسحاب - كما هي العادة - ولكنهم استمروا في إطلاق النار، وما لبثت سيارات المعسكرات الإنجليزية القريبة أن اندفعت إلى ساحة المعركة ، وقامت بعملية تطويق للمنطقة بأكملها لتمنع الشباب من الانسحاب والفرار .ووصلت قوة العدو إلى كتيبة كاملة تؤازرها خمس دبابات وعدد من السيارات المصفَّحة ، وبعد ساعات تمكن الإنجليز من محاصرة البلدة والمزارع المجاورة ، ورغم أن الحصار قد ضاق على الشباب ، واتضح أن لا نجاةَ لهم إلا بالتسليم ، إلا أنهم استمروا في إطلاق النار واصطياد جنود العدو ، حتى نَفِدت ذخيرتُهم تمامًا ، واستُشهِد عددٌ منهم ، ووقع الباقون في الأسر.واستُشهد في المعركة اثنان من شباب (الإخوان) ، وهما الشهيد " أحمد المنيسي " والشهيد " عمر شاهين " ، واستُشهد معهما عدد (6) من الفلاحين والخفراء النظاميين ، وعلقت الصحف البريطانية على المعركة فقالت صحيفة (نيوز كرونيكل) : " إن المعركة إحدى المعارك الكبيرة التي ثبت فيها المصريون ولم يركنوا إلى الفرار، وقالت جريدة (الديلي ميرو) : ظل المصريون يحاربون لواء (الكاميرون) و(الهايلاندرز) باستماتةٍ عجيبة [2] .
استشهاده جاءت معركة التل الكبير، وكان أول شهدائها. يصف أحدُ زملائه تلك اللحظات بقوله : " في هذه اللحظة الحرجة أقبل علينا زميلنا " علي إبراهيم " - وهو يزحف تحت وابلٍ من نيران العدو- وطلب منَّا رباطًا معقَّدًا ؛ لأن " أحمد المنيسي " كان قد أصيب برصاصة ، وتطوَّع زميلنا (إدوارد) بالمجازفة بحياته لإنقاذ " أحمد " ، ولكن بعد فوات الأوان فقد لقي الرجل ربه" ، وجرت الأحداث سريعةً وخاطفةً، ووجدنا أنفسَنا بين يدَي العدو ، ثم دفعونا بشدةٍ إلى مكانٍ بعيدٍ حيث وجدنا الشهيد " أحمد المنيسي " غارقًا في دمائه .وسار أبناء (فاقوس) والشرقية في موكب وداعٍ حزينٍ يودعون الشهيد " أحمد المنيسي " وإخوانه الستة .في نفس الوقت الذي كانت القاهرة تودِّع رفيق جهاده " عمر شاهين " [3] .
قالوا عنه وصفه أحد إخوانه بقوله : " كان ملتزمَ الصمت والهدوء ، وبرزَ كعملاق كبير يقف إلى جوار "عمر" ، وكان لا يقل روعةً عن "عمر" .. كان إنسانًا في كل تصرفاته ، يملأُ الحبُّ قلبَه والرقة والصفاء ، مع رجولة غامرة وشخصية قوية " [4] .
المصادر : [1] موسوعة الشهداء في العصر الحديث جـ1.[2] موقع إخوان أون لاين ، الرابط : http://www.ikhwanonline.com/ .[3] موسوعة الشهداء في العصر الحديث جـ1.[4] المصدر السابق نفسه .
--
-
لالا فاطمة نسومر
النسب و المولد
ولدت لالا فاطمة أبوها بنت محمد بن عيسى بقرية ورجة بالجزائر سنة 1246هـ/1830م ، نسبت إلى قرية نسومر وهي القرية التي عاشت فيها فيما بعد .
النشأة و التربية قالوا التعليم في الصغر كالنقش على الحجر وكذلك التربة في الصغر فمن غرس فيه خلق ، أو تربى فيه فضيلة ، أو نشأ على مكرمة يظل طوال حياته يعيش بها ، فالتربية في الصغر لها كبير الأثر في حياة الإنسان . نشأت لالا فاطمة نسومر في أحضان أسرة تنتمي في سلوكها الاجتماعي و الديني إلى الطريقة الرحمانية ، فأبوها سيدي محمد بن عيسى مقدم زاوية الشيخ سيدي احمد أمزيان شيخ الطريقة الرحمانية . وكان يحظى بالمكانة المرموقة بين أهله ، إذ كثيرا ما كان يقصده العامة و الخاصة لطلب النصح و تلقي الطريقة ، أما أمها فهي لالا خديجة التي تسمى بها جبل جرجرة ، لقد تربت ونشأت دينية خالصة ، إذن فلا عجب من مقاومتها للمحتل رغم أن هناك كثير من الرجال لم يقاوموا المحتل بل ساندوه ويرجع ذلك إلى التربية التي فقدها في صغره ، كان لنشأتها الأثر في إيثار حياة التنسك والانقطاع والتفرغ للعبادة والتفقه في أمور الدين وتولت بعد ذلك شؤون زاوية الرحمانية بورجة . تركت فاطمة نسومر مسقط رأسها متوجهاً إلى بلدة نسومر والتي نسبت إليها وذلك حيث يقطن أخوها سي طاهر، وكان لأخيها كبير الأثر في حياتها وذلك لإلمامه بمختلف العلوم الدينية والدنيوية ، وقاومت الاستعمار الفرنسي مقاومة عنيفة أبدت خلالها شجاعة وبطولة منفردتين . جهادها وأهم المعارك ودورها فيها شارك النساء الرجال في ساحات القتال ولم يقتصر دورهن على تمريض الجرحى ، بل حملن السلاح جنباً إلى جنب مع الرجال ، وذلك منذ عصر النبوة ، وسجل التاريخ جهاد السيدة أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية التي دافعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد وقاتلت يوم اليمامة ، وغيرها من نساء المسلمين ، وشارك النساء في الدفاع عن أوطانهن وقاومن المحتل ومنهن لالة فاطمة نسومر الجزائرية . فقد جاء الاحتلال الفرنسي إلى الجزائر وفي قلبه كل الحقد على الإسلام والمسلمين لقد جاء الاحتلال وكل هدفه القضاء على الإسلام وأهله ، ولكن الله عز وجل الذي تكفل بحفظ هذا الدين قيض له من يدافع ويذب عنه كيد الحاقدين . أثبتت السيدة فاطمة نسومر أن ساحات الجهاد ليست حكراً على الرجال بل شاركن الرجال في حمل السلاح وقاتلن معهم جنباً إلى جنب ، رغم أنها امراة ورغم أنها قد انقطعت للعبادة والتبتل والتنسك ، إلا أن هذه العبادة التي ملئت قلبها تحولت إلى قوة حقيقة تحركها نحو الجهاد في سبيل الله ، ولم تمنعها العبادة من تتبع أخبار المجاهدين وما يحدث في بلاد القبائل من مقاومة زحف الغزاة الفرنسيين و المعارك التي وقعت بالمنطقة لا سيما معركة تادمايت التي قادها المجاهد الجزائري الحاج عمر بن زعموم ضد قوات الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال بيجو سنة 1844، كما أنها لم تكن غافلة على تمركز الغزاة الفرنسيين في تيزي وزو بين 1845-1846، و في دلس 1847 تم محاولة الجنرال روندون من دخول الأربعاء ناث إيراثن عام 1850التي هزم فيها هزيمة منكرة . ولما واتتها الظروف انضمت إلى المقاومة حيث شاركت بجانب بوبغلة في المقاومة و الدفاع عن منطقة جرجرة و في صد هجومات الاستعمار على أربعاء ناث إيراثن فقطعت عليه طريق المواصلات ولهذا انضم إليها عدد من قادة الأعراش وشيوخ الزوايا والقرى . تزعمت لا لا فاطمة نسومر المقاومة في هذه المنطقة عام 1854، أي بعد أن وصلت القوات الفرنسية بقيادة راندون الرى جبل سبت ناث يحيى " عين الحمام " في شهر جوان . ومن أشهر المعارك التي قادتها فاطمة نسومر هي تلك المعركة التي خاضتها إلى جانب الشريف بوبغلة (محمد بن عبد الله) في مواجهة الجيوش الفرنسية الزاحفة بقيادة الجنرالين روندون و ماك ماهون فكانت المواجهة الأولى بربوة تمز قيدة حيث أبديا استاتة منقطعة النظير، إلا أن عدم تكافؤ القواة عدة وعددا اضطر الشريف بوبغلة بنصيحة من فاطمة نسومر على الإنسحاب نحو بني يني، وهناك دعيا إلى الجهاد المقدس فاستجاب لهما شيوخ الزوايا و وكالاء مقامات أولياء الله فجندوا الطلبة والمريدين و اتباعهم واتجهوا نحو ناحية واضية لمواجهة زحف العدو على قراها بقيادة الجنرالين زوندون ويوسف التركي ومعهما الباشا آغة الخائن الجودي ، فاحتدمت المعركة وتلقت قوات العدو هزيمة نكراء ، وتمكنت لالا فاطمة نسومر من قتل الخائن الجودي بيدها كما استطاعت أن تنقذ من موت محقق زميلها في السلاح الشريف بوبغلة حينما سقط جريحا في المعركة . بالرغم من الهزيمة النكراء التي منيت بها قوات روندون يتشكرت ، إلا أن ذلك لم يثنه من مواصلة التغلغل بجبال جرجرة ، فاحتل عزازقة في سنة 1854 فوزع الأراضي الخصبة على المعمّرين الوافدين معه ، وأنشأ معسكرات في كل المناطق التي تمكّن منها ، وواصل هجومه على كل المنطقة . بالرغم من التغلغل والزحف لم يثبّط عزيمة لالا فاطمة نسومر من مواصلة هجوماتها الخاطفة على القواة الغازية فحققت انتصارات أخرى ضد العدو بنواحي يللتن و الأربعاء و تخلجت و عين تاوريغ و توريرت موسى ، مما أدى بالقوات الفرنسية إلى الاستنجاد بقوات جديدة و عتاد حديث ، إضطرت على إثرها فاطمة نسومر إلى إعطاء الأوامر بالانسحاب لقواتها إلى قرية تاخليجت ناث عيسو ، لا سيما بعد إتباع قوات الاحتلال أسلوب التدمير و الإبادة الجماعية ، بقتل كل أفراد العائلات دون تمييز و لا رحمة . ولم يكن انسحاب فاطمة نسومر انهزام أو تقهقر أمام العدو أو تحصنا فقط بل لتكوين فرق سريعة من المجاهدين لضرب مؤخرات العدو الفرنسي و قطع طرق المواصلات و الإمدادات عليه . الشيء الذي أقلق جنرالات الجيش الفرنسي وعلى رأسهم روندون المعزز بدعم قواة الجنرال ماكمهون القادمة من قسنطينة . خشي هذا الجنرال من تحطم معنويات جيوشه أمام هجمات فاطمة نسومر، فجند جيشا قوامه 45 ألف رجل بقيادته شخصيا ، واتجه به صوب قرية آيت تسورغ حيث تتمركز قواة فاطمة نسومر المتكونة من جيش من المتطوعين قوامه 7000رجل و عدد من النساء وعندما احتدمت الحرب بين الطرفين خرجت فاطمة في مقدمة الجميع تلبس لباسا حرير يا أحمر كان له الأثر البالغ في رعب عناصر جيش الاحتلال . على الرغم من المقاومة البطولية للمجاهدين بقيادة فاطمة نسومر فإن الانهزام كان حتميا نظرا للفارق الكبير في العدد و العدة بين قوات الطرفين ، الأمر الذي دفع فاطمة نسومر إلى طرح مسألة المفاوضات و إيقاف الحرب بشروط قبلها الطرفان . إلا أن السلطات الاستعمارية كعادتها نقضت العهود ، إذ غدرت بأعضاء الوفد المفاوض بمجرد خروجهم من المعسكر حيث تمّ اعتقالهم جميعا ، ثم أمر الجنرال روندون بمحاصرة ملجأ لالا فاطمة نسومر وتم أسرها مع عدد من النساء . وخوفا من تجدد الثورة بجبال جرجرة أبعدت لالا فاطمة نسومر مع 30 شخصا من رجال و نساء إلى زاوية بني سليمان بتابلاط وبقيت هناك لمدة سبع سنوات إلى أن وافتها المنية عن عمر يناهز 33 سنة ، على إثر مرض عضال تسبب في شللها . عُرف عن السيدة فاطمة نسومر التدين وحبها الشديد للوطن ، وعرف عنها أنها ساندت أخاها الأكبر سي الطاهر عندما تولى قيادة المقاومة وشرع في تجنيد المسلمين (أي الذين وهبوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله) ، كما ساندت الشريف بوبغلة في توجيه ضربات موجعة لقوات الاحتلال قبل أن تتمكن تلك القوات من إخضاع منطقة القبائل في سنة 1857. وفاتها أُبعدت السيدة فاطمة نسومر بعد أسرها إلى زاوية بني سليمان بتابلاط وذلك خشية من الثورة التي قد تحدثها ضد الاحتلال الفرنسي ، ولم ترق لها الحياة فقد أصابها مرض عضال سبب لها شللاً ، ووافتها المنية في سبتمبر 1863، عن عمر يناهز 33 سنة ، رحمها الله وأسكنها فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
--
-
حافظ صقر
المولد و النشأة
ولد حافظ صقر - رحمه الله - في مدينة اللد من مدن فلسطين المشهورة وفيها مطار مشهور.نشأ هذا المجاهد - رحمه الله - في بلده اللد وترعرع فيها ، وكان من الذين نذروا أنفسهم في سبيل الله لقتال أعداء الله الصليبيين من الإنجليز المحتلين والصهاينة الغاصبين .
أهم المعارك ودوره فيها من الجدير بالذكر لأهل اللد نشاط ملموس في قتال الإنجليز واليهود ، خاصة الإغارة على قطار السكة الحديدة والمحمل بالجنود الإنجليز، ومن أعمالهم الجهادية مهاجمة قاطرة مع ست عربات بين السافرية و اللد مما سبب خسائر فادحة .لقد قام المجاهد القائد حافظ صقر - رحمه الله - بوضع خطة لمهاجمة قطار يحمل جنودًا بريطانيين وإبادتهم ، وتولى هو تنفيذ الخطة التي وضعها واستعان بنفر من المجاهدين لتنفيذ هذه المهمة ؛ ففي 24/7/1936م قام المجاهدون بنزع قضيب من السكة الحديد فوق الجسر الواقع بين محطتي اللد وكفر جفس عند الكيلو متر 107 وقبل أن يمر القطار من فوق الجسر، فاجأه المجاهدون بإطلاق الرصاص بكثرة هائلة ، مما أرغم سائقه على مضاعفة السرعة كما أخذ أفراد الجند المكلفون بالحراسة بإطلاق النار ردًّا على النار، ولما وصلت القاطرة إلى موضع القضيب المنزوع فوق الجسر اختل توازنها ، فارتجت وتدهورت إلى الوادي وجرت وراءها عربتين محملتين بالجنود ؛ مما أدى إلى خسائر فادحة .
الوفاة بقي المجاهد حافظ صقر يشاهد ثمرة عمله الجهادي ، ويحصي ما سقط من القتلى والجرحى ، فشاهده جندي بريطاني فأطلق عليه الرصاص فأصابه إصابة قاتلة ، وقبض عليه البوليس وساقه إلى التحقيق ليحقق معه ، فسألوه عن الذين اشتركوا معه في انتزاع القضبان الحديدية ، فأجاب : لم يشترك معي أحد بل إني قمت وحدي بهذا الواجب الوطني . ثم صعدت روح القائد إلى بارئها [1] .
المصادر : [1] توفيق الواعي : موسوعة شهداء الحركة الإسلامية في العصر الحديث جـ1. من الايميل
-
الأمير المجاهد ترونوجويو
بلغ الحقد ذروته في قلوب الصليبيين على الإسلام وأهله ، وعملوا من اجل القضاء على الإسلام فبدءوا باجتياح عام لكل الدول الإسلامية ؛ فقامت الحملات الفرنسية لتغزو مصر وإفريقيا ، وقام هولندا بغزو إندونيسيا وغيرها من دول آسيا ، ولم تهدأ الحروب في الأندلس حتى سقطت في أيدي نصارى إسبانيا ، وفي كل بلد إسلامي كان الله يهيئ لهذه الأمة من يدافع عنها ويلم شمل المسلمين ؛ ليقفوا صفًّا واحدًا تجاه عدوهم ، ومن هؤلاء الأبطال المجاهدين الأمير ترونوجويو .
جزيرة جاوا ودخول الإسلام : وقبل أن نخوض في سيرة هذا الأمير المجاهد نلقي نظرة سريعة على أهل جاوا في ذلك الوقت، لقد وصل الإسلام إلى جزيرة جاوا وجزر إندونيسيا عن طريق التجار، ودخل أهل هذه الجزر في الإسلام عن قناعة وعن حب ، ومسلمو جاوا صحيحو العقيدة على مذهب أهل السنة والجماعة ، يتبعون الإمام الشافعي في الفقه، في غاية التمسك والاعتزاز بدينهم ، عملوا منذ بداية ظهور عقيدة الأبنجان الضالة على التوحد فيما بينهم ، والتصدي لهذه البدعة الخبيثة ؛ مما أدى لحصرها في دائرة ضيقة جدًّا في متارام لم تستطع الخروج عنها ؛ مما جعل ملوك هذه الإمارة يعملون على فرض هذه العقيدة بالقوة على الناس ، والتعاون مع المحتل الهولندي من أجل تحقيق هذا الهدف الشرير . كان لهذه العقيدة الضالة الأثر الكبير في تحالف هولندا مع حكام منطقة متارام ، والذي أدى بدوره بعد ذلك إلى وقوع الجزر الإندونيسية في الاحتلال ، وكان هدف حكام منطقة متارام هو نشر عقيدتهم الضالة فوجدوا في هولندا تحقيقًا لأهدافهم ، وبدأ هذا التعاون منذ عام 991هـ في عهد سناقي ، ثم بدأ يتطور السلطان أقغ في تعاونه مع هولندا ، وكان هدفه توحيد جاوا تحت سيطرته؛ لينشر العقيدة الضالة التي يدين بها ، وبلغ التعاون ذروته في عهد الطاغية منكورات الأول ، وقد أقدم على نشر عقيدة الأبنجان بين المسلمين ليوافق الهندوس على التوحد معهم ، ولكن علماء المسلمين وقفوا ضد هذه المحاولات الشريرة ؛ فأقدم منكورات على قتل كثير منهم ، وأراد أن يهدم منار الدين ويطفئ شعائره ، وعندها ثار بطلنا العظيم والزعيم الديني لعلماء جاوا (ترونوجويو) وذلك سنة 1083هـ/ 1674م .
نسبه ومولده : هو الأمير ترونوجويو من إحدى البيوت الحاكمة في (متارام) ، وفي نفس الوقت كان عالمًا من علماء الدين ذا إيمان راسخ وبصيرة نافذة و سلامة قصد ، وقد هاله ما جرى للدين وأهله على يد الطاغية (منكورات الأول) من ترويج للكفر والضلال وتقتيل لعلماء الإسلام ، وغار على الدين أن ينتقص وهو حي ، وما أشبه ذلك بموقف أبى بكر الصديق في حرب مانعي الزكاة ، وهكذا ينبغي أن يكون قلب المؤمن وشعوره تجاه مصاب دينه .
نشأته و تربيته : نشأ الأمير ترونوجويو بين أسرة مسلمة وأميرًا من الأسرة الحاكمة ، والواضح أنه تربى على يد أحد علماء الدين كعادة الخلفاء المسلمين ولا يخفى على أحد أهمية العالم المسلم في الدولة الإسلامية فهو الروح لها ، فالعالم آق شمس الدين استطاع أن يربي محمد الفاتح حتى تسنى له فتح القسطنطينية ، ولا يخفى على أحد دور العالم عز الدين بن عبد السلام في محاربة الصليبيين والتتار . لقد استطاع هذا العالم الذي تربى لديه ترونوجويو أن يغرس في قلب الأمير حب الدين والغيرة عليه ، ففي القريب يصبح ملكًا وكما يقال الناس على دين ملوكهم ، ولم يضع الله هذه الثمرة فقد أينعت وصارت شجرة وارفة الظلال أصلها ثابت وفرعها في السماء تستمد غذاؤها من كتاب ربها وسنة نبيها .
جهاده وأهم المعارك ودوره فيها : أعلن الأمير ترونوجويو الجهاد ضد الطاغية الضال منكورات الذي أراد حمل الشعب المسلم على عقيدته فقد كان الموقف متشابهًا بموقف أبي بكر الصديق فقد أراد مسيلمة الكذاب حمل الناس على عقيدته الضالة ووقف له أبو بكر الصديق ، هكذا كان موقف الأمير فقد تصدى لمنكورات بكل قوة ، وما إن تم إعلانه عن الجهاد حتى توافدت إليه كل القبائل تتصدى لهذا الطاغية الضال ، وكان الأمير (جكرا ننقرات الثاني) حاكم منطقة (مدورة) ، وهي إحدى ولايات إقليم متارام ، وهو في نفس الوقت عم الأمير المجاهد (ترونوجويو) ، مواليًا لمنكورات ومقيمًا عنده في متارام بصورة دائمة ، مهملاً لشئون مدورة ؛ مما أحزنه ولكن غلبت العاطفة الدينية على عاطفة القرابة ، فأعلن الجهاد ضد الطغيان ، ومن خلفه وقف جميع أهل جاوا يساندونه ويؤازرونه .أعلن الأمير الجهاد فتوافد عليه المجاهدون من كل نواحي إندونيسيا ليس من جاوا ومدورة وحدها ، بل من سومطرة والملايو، وقد هاجروا من بلدانهم لنصرة الإسلام ، لقد اكتسبت الثورة دعمًا قويًّا عندما انضمت قبيلة (مكاسر) للثورة وهي أكبر قبيلة إندونيسية وأهلها هم من أشجع مسلمي هذه الجزائر وأشدهم تمسكًا بالعقيدة الصحيحة ، وكانت هولندا الصليبية عندما احتلت جزيرة سومطرة قد وجهت كل حربها ضد هذه القبيلة ، حتى أجبروا أهلها على الهجرة من موطنهم الأصلي ، فانتقلت هذه القبيلة إلى جاوا ، وأصبحت عونًا لكل من يقف في وجه المحتل الصليبي ، وقد قام الزعيم الأكبر للقبيلة واسمه (كاريج فاليسون) بنصرة (ترونوجويو) ودعمه ، بل أقنعه أن يخلع عمه (جكرا ننقرات) الموالي للطاغية منكورات ، وبالفعل أصبح الأمير ترونوجويو واليًا على مدورة وأطاعه الناس .بدأ الأمير بتوحيد هذه الجيوش الإسلامية فبعد الإيمان الذي خالط القلوب وتوغل فيها ، بدأ في تفعيل العامل الثاني من عوامل النصر ، هو عامل الوحدة والإخاء .لم يعجب هولندا أمر هذه الثورة التي أُعلنت باسم الإسلام فهذه الثورة تهدم كل ما فعلته هولندا في القرون ، وكانت هذه الثورة معلمًا وإشارة على الوحدة الإسلامية في إندونيسيا ، وجسّمتها في أجمل معانيها (التعاضد و التناصر) . وكانت بدايات الثورة قيام أهل مدورة والتي يحكمها عم الأمير ترونوجويو بخلعه ؛ وذلك لتواطئه مع منكورات الحاكم الطاغية الضال وتولية الأمير ترونوجويو، وقامت قبيلة (مكاسر) بقطع تصدير محصول الأرز للمحتل الهولندي ، الذي كان قد أنشأ له مستعمرة في سومطرة أطلق عليها اسم (بتافيا) ، وهو اسم إحدى القبائل الهولندية ، وهذه المستعمرة قد أصبحت بعد ذلك (جاكرتا) العاصمة .لهذا جهز الهولنديون جيشًا سار مع جيش متارام العميل إلى مدينة (ديموج) مركز قبيلة مكاسر، وكان الأسطول الهولندي في البحر مسايرًا للجيوش البرية مناصرًا لحركاتها وذلك سنة (1085هـ/ 1676م) ، واستعد المكاسريون الذين بايعوا ترونوجويو على الجهاد في سبيل الله ونصرة الإسلام للصدام مع هذا العدوان المزدوج من البر والبحر .وبعد سلسلة معارك حامية وعنيفة بين الطائفة المؤمنة والطائفة الكافرة بفرعيها الأصلي والمنافق ، أنزل الله نصره على المؤمنين وخذل المنافقين والكافرين ، ومزق المسلمون هذه الجيوش البرية والبحرية كل ممزق .بعد ذلك الانتصار الأول الباهر للمؤمنين على الهولنديين والمنافقين من متارام قام زعيم المكاسريين (كاريج فاليسون) بضم جيشه إلى جيش ترونوجويو، وتكونت جبهة واحدة من جيوش أهل السنة والجماعة ضد المحتل الصليبي الهولندي و متارام المساعدة لهم ، والقائمة بخطة نشر عقيدة الأبنجان الضالة بين مسلمي إندونيسيا .بعد الهزيمة الساحقة التي منيت بها القوات الهولندية أرادت هولندا استمالة الأمير ترونوجويو لصالحها فعرضت عليه الإقطاعات والأموال ظنًا منهم أن المجاهد الأمير قام بالثورة من أجل المال والسلطة ، إلا أن هذا الأمير رفض في عزة المؤمن الواثق بالله . لقد ردَّ المجاهد ترونوجويو على هذه المفاوضات بعمل جهادي لكي يلقن الهولنديين درسًا لا ينسوه ، فقام بالزحف إلى مملكة متارام ، وأقبل المجاهدون من كل مكان يناصرون الأمير ، استطاع الأمير دخول مملكة متارام بعد محاولات عدة من جيش منكورات العميل بالتعاون مع هولندا، لكنهم فشلوا واستولى المجاهدون على عدة مدن مثل (دمك) و(سماراج) ، واهتز موقف متارام بشدة .بعد الهزائم التي ألحقها المجاهدون بمنكورات والهولنديين ، عقد منكورات صفقة مع هولندا وتم الاتفاق فيها على بيع جاوا لهولندا مقابل إتيانهم بالأمير ترونوجويو حيًّا، وعلى أن يتكفل منكورات بمصاريف الحملة والتي لا تقل عن 1.7 مليون روبية ؛ وذلك كله من أجل أن يشفي غليل قلبه الأسود المشحون بالكفر والضلال .لقد كبدت تلك الثورة هولندا و منكورات خسائر فادحة ، وأفضل ما في هذه الثورة هي توحيد شمل البلاد والعباد ، واجتماع الناس على الإيمان ، وفي ذلك أبلغ درس لكل المسلمين أن الأرض لن تحرر بعقائد باطلة أو شعارات زائفة ، بل عقيد خالصة وإيمان راسخ في القلب ، وأخوة صادقة يتبعهما استعداد في حد الاستطاعة .
وفاته : جندت هولندا جنودها وجواسيسها لقتل هذا المجاهد الذي استطاع أن يكبدهم خسائر كثيرة ، لقد خسرت هذه القوى الغاشمة أموالاً كثيرة من أجل أسر الأمير ترونوجويو، وبعد جهود مضنية، وتجنيد الجواسيس المندسين في جيش الأمير، استطاعت هولندا أن تأتي به حيًّا ليقتله الخائن الضال منكورات بيده ، وظن أنه يجزع من الموت . ولكن كيف بقلب غمره الإيمان أن يجزع من الموت ، فلقد واجه الموت بقلب ثابت؛ مما أذهل منكورات وأخذ بلبه ، فلم يمهله بعد قتله للأمير فذهب عقله ، وترك ملكه ، وهام مع الوحوش والحيوانات في البراري ، ومات وحيدًا طريدًا بين الوحوش . وأكرم الله الأمير ترونوجويو بيد منكورات فنال الشهادة ، التي من أجلها أقام الجهاد ليستقر هناك في جنة عرضها السموات والأرض مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا [1] . المصادر : [1] موقع مفكرة الإسلام ، الرابط : http://www.islammemo.cc/، بتصرف .
--
-
عبد الله بن ياسين
نسبه ونشأته :
هو عبد الله بن ياسين الجزولي أصله من قرية تماماناوت في طرف صحراء غانة الملقب بالزعيم الديني لدولة المرابطين . نشأ الشيخ عبد الله بن ياسين القائم بأمر دولة المرابطين الملقب بالزعيم الديني لدولة المرابطين في طلب العلم ، فقد كان من طلبة أوكاد بن زلوه اللمطي ، في داره ، التي بناها بالسوس للعلم والخير، وسماها دار المرابطين ، ويتضح أن الشيخ عبد الله بن ياسين كان لديه من الصفات القيادية ، والشخصية ، والأخلاقية التي أهلته لأن يبعثه شيخه مع جوهر بن سكن ليعلم قومه ، إذ كان الدين عندهم قليلاً ، وأكثرهم جاهلية، وليس عند أكثرهم غير الشهادتين ، ولا يُعرف من وظائف الإسلام سواهما .
جهاده وأهم المعارك ودوره فيها : قال الشاعر: بالعلم والمال يبني الناس ملكهم *** لم يبن ملك على جهل وإقلالكان العلماء - وما زالوا - نهضة كل الأمم والدول ، وقد يكون للعالم أثر كبير في تأسيس دولة ، ومن هؤلاء العالم الفقيه عبد الله بن ياسين الذي كان له أثر كبير في تأسيس وبناء دولة المرابطين في المغرب ، وجاهدت النصارى في الأندلس ، وشاع ذكرها بين الناس . بدأ عبد الله بن ياسين رحلته الجهادية بالدعوة إلى الإسلام حتى صار له أنصار وأتباع فبدأ بتوجيههم إلى القبائل لنشر دعوة الإسلام ، ومنهم من أجاب ومنهم من عصى .يقول القاضي عياض : وجه الشيخ أكاد عبد الله بن ياسين مع جوهر بن سكن ، وكان موصوفًا بعلم وخير، فسار معه ، وفهم له سيره ، ولقومه . وأخذ من الشدة في ذات الله تعالى ، وتغيير المناكير و انعزام صاحبه ، من لم يقبل الهدى ، ولم يزل يستقر تلك القبائل حتى علا عليهم ، وأظهروا الإيمان هنالك . بدأ عبد الله بن ياسين دعوته في شرح الإسلام للناس وشرح عقائدهم ، وبيان فضل الإسلام ، واستجاب الناس لدعوة عبد الله بن ياسين إلا أنهم سرعان ما أجهضوها ، وقالوا أما الصلاة والزكاة فقريب ، وأما قولك من قتل يقتل ، ومن سرق يقطع ، ومن زنا يجلد، فلا نلتزمه ، فاذهب إلى غيرنا ، وما كان عبد الله بن ياسين يقبل هذا الأمر الذي يقسم الدين ويؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه فتحول عنهم إلا قبيلة أخرى ، ولم يكن عبد الله بن ياسين متهورًا معهم ليعلن عليهم الحرب بل تحول إلى قبيلة أخرى يدعوا فيها ليوجد له فيه أنصارًا لدعوته ، وظل على ذلك حتى صارت دعوته من الدعوة الفردية القليلة الأنصار إلى جماعة كبيرة بلغ تعدادها في بادئ الأمر ألف رجل فبدأ عبد الله بن ياسين بتوجيه هؤلاء الرجال بالتوجه إلى قبائلهم ودعوتهم للإسلام ، ومن هنا بدأت دعوته في الانتشار .بدأ عبد الله بن ياسين مرحلته الثانية وهي مرحلة الجهاد بالسيف بعد أن جاهد وبلغ بالكلمة ، وتزامنت هذه الدعوة مع بداية ظهور ملامح الدولة . بدأت ملامح الدولة تظهر ؛ فبعد أن نظم ابن ياسين جانب الدعوة وجانب العبادة نلاحظ أنه سرعان ما التفت إلى الجانب الاقتصادي ، حيث أمرهم بالصلاة والزكاة وأداء العشر، واتخذ لذلك بيت مال يجمع فيه ما يرفع إليه من ذلك . كما ركز على الجانب العسكري حيث أخذ في شراء السلاح وإركاب الجيوش التي ألقي على كاهلها حماية خطاب ودعوة المرابطين وتطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد التي سيطروا عليها .وكذلك لم يتجاهل عبد الله بن ياسين الجانب العلمي حيث " بعث بمال دَثْر مما اجتمع لديه من الزكوات والأعشار والأخماس إلى طلبة العلم ببلاد المصامدة ". و تلك عين الحكمة ؛ لأن الوعي شيء ضروري في تقدم الأمم وازدهارها ، فهذا درس عظيم لمن ينفق الأموال في غير حقها .وليُعلم أن المجتمع الذي يغيب فيه العلم ولا يمُوّل ولا تُعطى له قيمة ، هو مجتمع جاهلي منحط، يعتبر من دول العالم الثالث المتخلفة لذلك تجدها تهتم كثيرًا بالفنون الجميلة وتنسى العلوم الجليلة ، التي ساد بها سلفنا فاحتلوا بفضلها - بعد الله - أعلى وأسمى مكانة في تاريخ البشرية ، والكل يعلم أن الحرب اليوم حرب ثقافية علمية .يقول الدكتور حامد خليفة منوهًا بصنيع هذا البطل: " إن هذه الالتفاتة نحو طلبة العلم لهي إحدى روائع ابن ياسين ، حيث لم يشغله عن هذا الجانب مسائل الإمارة الفتية ، ولا المشاركة في الأعمال العسكرية وقيادة الجيوش وإعدادها ، ولهذا كان لها أطيب الأثر في النفوس ، ولاقت الارتياح التام في الأوساط العلمية المتمثلة بالربط والمدارس الفقهية آنذاك " .وبعد أن ظهرت ملامح الدولة فلا بد لها من قيادة تحكمها فأقام الشورى لاختيار قائد يقود هذه الجماعة المرابطة ، ولقد عزموا على اختياره أميرًا إلا أنه رفض فاستقر رأيهم على ولاية أبي بكر بن عمر .وفي سنة خمسين وأربعمائة قحطت بلادهم ، فأمر ابن ياسين ضعفاءهم بالخروج إلى السوس وأخذ الزكاة ، فخرج منهم نحو تسعمائة رجل ، فقدموا سجلماسة ، وطلبوا الزكاة ، فجمعوا لهم شيئًا له قدر وعادوا .وكان عبد الله في ذلك الوقت التي بدأت تظهر فيه هذه الجماعة في صورة دولة يبث فيهم العلم والسنة ، ويقرئهم القرآن ، فنشأ حوله جماعة فقهاء و صلحاء . وكان يعظهم ويخوفهم ، ويذكر سيرة الصحابة وأخلاقهم ، وكثر الدين والخير في أهل الصحراء . ولما قويت شوكتهم خافت منهم القبائل الغير مسلمة فتألبت عليهم أحزاب الصحراء من أهل الشر والفساد ، و جيشوا لحربهم ، فلم ينجزوهم القتال ، بل تلطف عبد الله بن ياسين وأبو بكر واستمالوهم ، وبقي قوم أشرار، فتحيلوا عليهم حتى جمعوا منهم ألفين تحت زرب عظيم وثيق ، وتركوهم فيه أيامًا بغير طعام ، وحصروهم فيه ، ثم أخرجوهم وقد ضعفوا من الجوع وقتلوهم . فدانت لأبي بكر أكثر القبائل وقويت شوكته .واستقامت للمرابطين بلاد الصحراء بجملتها وما وراءها من بلاد المصامدة ، والقبلة ، والسوس ، بعد حروب كثيرة . ثم خرج بالناس لجهاد برغواطة الكفرة . فغزاهم مع أبي بكر بن عمر، في جمع عظيم من المرابطين ، و المصامدة . قيل إنهم كانوا في نحو خمسين ألف راجل ، و راكب .
أهم المعارك التي شارك فيها : اجتمع لعبد الله بن ياسين جيش كثيف من لمتونة و مسوفة و لمطة و مزجة وصار بهم إلى درعة ، فوجد بها عاملاً لمسعود بن و انودين ، فنفاه عنها، ووجه 50 ألف ناقة لمسعود - وكانت ترعى في حمى حماه لها هناك - فاكتسحها عبد الله بن ياسين . ووصل الخبر إلى مسعود بن وانودين ، فجمع جيوشه وخرج نحوه ، فالتقى الجمعان فيما بين درعة و سجلماسة ، فمنح الله النصر للمرابطين بعد حرب فظيعة بينهما ؛ فقُتل أميرهم مسعود ، وأكثر جيشه ، وفرَّ الباقون ، واستولى عبد بن ياسين على دوابهم ، وأسلحتهم ، وأموالهم ، مع الإبل التي كان اكتسحها في درعة .ومن حسن حظ شعب برغواطة ، وسوء حظ آخر أمرائها - أبو حفص عبد الله - أن ملكه تزامن مع قيام الدولة المرابطية بقيادة أبي بكر بن عمر اللمتوني .
غزو برغواطة : وصل الخبر إلى عبد الله بن ياسين ما عليه أهل برغواطة من معتقدات فاسدة ؛ فقد كانوا يبيحون التزوج بأكثر من أربع نسوة ، ويتعاملون بالسحر، وحرموا أكل كل رأس ، وأكل الدجاج وغير ذلك مما كانوا عليه ، فرأى أن الواجب تقديم جهادهم على جهاد غيرهم ، فسار إليهم في جيوش المرابطين ، فكانت بين ابن ياسين وأمير بر غواطة ملاحم عظام ، مات فيها من الفريقين خلق كثير، وأصيب عبد الله بن ياسين ، فقضى بذلك نحبه ، فاستشهد رحمه الله تعالى . وبعد وفاته قام أبو بكر بن عمر لقتال برغواطة حتى أخذ الثأر منهم، " فأثخن فيهم قتلاً وسبيًا حتى تفرقوا في المكامن و الغياض ، واستأصل شأفتهم ، وأسلم الباقون إسلامًا جديدًا ، ومحا أبو بكر بن عمر أثر دعوتهم من المغرب ، وجمع غنائمهم وقسمها بين المرابطين ، وعاد إلى مدينة أغمات " .لقد قام المرابطون بخدمة كبرى للأمة بأجمعها ، حيث أنيرت هذه الزاوية المظلمة بمبادئ الحق ، وأصبحت جزءًا من كيان الأمة ، وثغرًا من ثغورها الصامدة ، فضلاً على أنهم مَهَّدوا الطريق لربط أقاليم المغرب فيما بينها بعد إزالة الكيان الغريب في تركيبه وتفكيره ، ومن ثَمَّ تكوين الدولة الواحدة التي تخضع لقيادة واحدة وقانون واحد .
من كلماته : لعبد الله بن ياسين موقف عظيم سجله التاريخ إلى يومنا هذا ، ويتجلى في الوصية التي قدَّمها لإخوانه المرابطين وهو على فراش الموت ، يقول فيها : " يا معشر المرابطين، إنكم في بلاد أعدائكم ؛ وإني ميت في يومي هذا لا محالة ؛ فإياكم أن تجبنوا أو تنازعوا فتفشلوا فتذهب ريحكم وكونوا ألفة وأعوانًا على الحق ، وإخوانًا في ذات الله تعالى ؛ وإياكم والمخالفة والتحاسد على طلب الرياسة ؛ فإن الله يؤتي ملكه من يشاء من خلقه ويستخلف في أرضه من أحب من عباده ؛ ولقد ذهبت عنكم ؛ فانظروا من تقدمونه منكم يقوم بأمركم ويقود جيوشكم ويغزو عدوكم ، ويقسم بينكم فيئكم ، ويأخذ زكاتكم وأعشاركم " .يقول الدكتور حامد محمد خليفة معلقًا على ذلك : " من خلال هذه الوصية يتبين لنا أن ابن ياسين، كان مخلصًا في كل ما يدعوا إليه إلى حدّ الاستشهاد وبذل الدماء في سبيل مبادئه التي آمن بها ، فلا يشغله عن بذل النصيحة لإخوانه ألم الجراح ولا نزيف الدّماء التي تجري من جسده ولا قعقعة السلاح من حوله ، بل إن حرصه على إتمام رسالته والبذل في سبيلها يشغله حتى عن نفسه .ومن كلماته لما ندب المرابطين إلى جهاد من خالفهم من قبائل صنهاجة وقال لهم : " معشر المرابطين ، إنكم اليوم جمع كثير نحو ألف رجل ! ولن يغلب ألف من قلة ! و أنتم وجوه قبائلكم ورؤساء عشائركم ، وقد أصلحكم الله تعالى ، وهداكم إلى صراطه المستقيم ، فوجب عليكم أن تشكروا نعمته عليكم ، بأن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، وتجاهدوا في الله حق جهاده ! "
وفاته : تجهزت القبائل لمواجهة عبد الله بن ياسين ومن معه من مجاهدين ، وثبت المسلمون في هذه الحرب ، وقد فرت برغواطة أمامه في جبالهم و غياطهم . و تقدمت العساكر في طلبهم ، وانفرد عبد الله في قلة من أصحابه ، فلقيه منهم جمع كثير، فقاتلهم قتالاً شديدًا . فاستشهد رحمه الله ، وذلك سنة خمسين وأربعمائة (450هـ) ، وليلحق بركب المجاهدين المناضلين ، ويكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين [1] .
المصادر : [1]: ترتيب المدارك وتقريب المسالك - تاريخ الإسلام للذهبي - الكامل في التاريخ - مواقف المرابطين في دفع بغي السلاطين .
-
أحمد بن محمد بن عرفان :
النسب و المولد :
ولد السيد أحمد بن محمد عرفان في صفر سنة 1201 هجري الموافق سبتمبر 1786 ميلادي في قرية من قرى " راي بريلي" وتعرف الآن باسم " تكية " .
النشأة و التربية : نشأ احمد عرفان لأبوين مسلمين والتحق وهو في الرابعة من عمره بالكتاب ليتعلم العلوم الابتدائية ، ولكنه لم يكن يهتم بالتعليم ولكنه نشأ كما يقول الأستاذ محمد عبده ولعاً بالفروسية والألعاب الرياضية منذ صباه ، أما في الجانب التعبدي فقد شغف السيد أحمد عرفان بأمور الناس وبالذكر والنوافل حتى صار من النساك المتعبدين ، ولما شب أجمد عرفان كان والده قد التحق بالرفيق الأعلى فاضطر إلى السفر برفقة جماعة من أقربائه إلى لكهنؤ باحثاً عن عمل ليسد حاجات أهله وبيته ليدفع عنهم الأذى ، وفي رحلته وعند مدينة دلهي والتي يقطنها أبناء العالم ولي الله دلهي التقى بالعالم عبد العزيز الدهلوي فتتلمذ على يديه ، وشغف قلبه بحب الجهاد ونيل الشهادة فالتحق بمعسكر الأمير المجاهد نواب ميرخان ، وخاض معه حروبًا دامية ، ولكن وجده يقنع بالمغانم فتركه وعاد إلى دلهي وهناك قام بنشر السنة والطريقة السلفية ، والتف الناس حوله مربياً لهم ومعلماً حتى استطاع أن ينشيء معسكراً للمجاهدين وبايعه الناس على الجهاد ومنذ هذه اللحظة بدأ بالجهاد ضد الإنكليز والسيخ حتى ارتقى إلى العلا شهيداً .
جهاده وأهم المعارك ودوره فيها : عملت بريطانيا على احتلال الهند فقامت بإقامة صداقات مع دولة المغول الإسلامية في الهند ، ولم تكن ببريطانيا قوة لمواجهة دولة المغول فبدأت بإقامة علاقات مع الأقليات الغير المسلمة في الهند كالسيخ وغيرهم وعملت على إضعاف الدولة المغولية حتى أسقطت وبذلك بدأت بريطانيا في احتلال الهند ، وظنت بريطانيا إنها لن تواجه أي مقاومة من مسلمي الهند تدافع عن وطنها المسلوب ، لكن خرج لهم المجاهد أحمد عرفان ليقود المسلمين في مواجهات مسلحة ضد الإنجليز حتى اختاره الله شهيداً في جواره . أرادت الحكمة الإلهية أن ينشأ السيد أحمد الشهيد جنديا محاربا في جبهة الإسلام مجاهداً في سبيل الله ، فهيأ الله له وسائل المران على الجندية والفنون العسكرية لأن الجهاد لا يحتاج إلى عواطف القلب فقط بل وحاجته إلى قوة اليد والمعرفة بفنون الحرب لا تقل عن الأولى ... وكان السيد أحمد يشعر بميل شديد نحو الجهاد وحنين غريب إلى الإسهام فيه بأسرع ما يمكن ، وذات مرة نشب صراع بين المسلمين و الهنادك في قرية مجاورة . فقام يستأذن أمه للجهاد والقتال ... فأذنت له بذلك لكنه ما إن وصل إلى تلك القرية حتى انتهت الحرب .بعد أن تلقى السيد أحمد عرفان علوم الدين على يد السيد عبد العزيز الدهلوي ذاك العالم الجليل قفل راجعاً إلى بلدته ووطنه "راي بريلي" وأقام فيه نحواً من عامين ولكن لم يرق له أن يرى المحتل يغتصب أرضه ويأكل من خيراته دون أن يقاومه فغادر بلدته مهاجراً إلى نواب أمير خان ( حاكم ولاية تونك) وقد قامت بينه وبين الانكليز وبعض القبائل معارك ... فأبدى له استعداده للجهاد وتربية الجيش ... فأقام عنده ستّ سنين يدرب الجيش ويشير على الأمير بتدابير الحرب ومصالح القتال ... ثم وقعت بين الإنجليز والأمير مصالحة بالرغم من تحذير السيد احمد . وفي النهاية تم احتلال الولاية وسيطرتهم على الحكم .عاد أحمد عرفان بعد الاتفاقية بين نواب الأمير خان وبين الإنكليز والتي مكنتهم من احتلال ولاية تونك إلى وطنه متجولا في مدن كثيرة ومتفقدا أحوال الناس وأوضاع المسلمين وقد ترك تأثيرا عميقا في كل مدينة أو قرية أقام فيها ... إذ كان إقبال الناس عليه متزايدا ... وكان السيد أحمد ينتهز هذه الفرص لتوجيه الناس إلى الدين وتنفيرهم من البدع و الوثنية .وكانت قصة اضطهاد مسلمي - البنجاب - من طرف - السّيخ - الذين كانوا ينالونهم بالأذى والظلم وهتك الحرمات ... لها أثرها البالغ والمؤرق للسيد أحمد الشهيد ... وحثه على الإعداد للجهاد .. وإثارة همم الناس لنصرة إخوانهم .. وشحنهم بمواعظ البذل و التضحية والفداء ... منتهزا رحلة الحجّ الشهيرة التي قام بها عام 1238 و التي مكّنته من ملاقاة الكثير من المسلمين في طول الهند وعرضها وتجميع الكثير من الأنصار و المجاهدين .وقد تفطن السيد أحمد الشهيد إلى أن الظروف القاسية والأوضاع السيئة التي يعيشها مسلمو الهند ولا سيما مسلمو " بنجاب " لا ينقشع سحابها بدون أن تكون لهم سيطرة مستقلة وكلمة نافذة - أي سلطة ودولة - لقد رأى أن الإسلام في هذه البلاد يعاني ضعفا ويجتاز فترة اضمحلال شديد ولو لم يقم لإسعافه أولو العزة والإيمان من المسلمين لكان للهند آخر عهد بالإسلام ... و علم حقّا أن دواء هذا الداء ليس في الوعظ والإرشاد فحسب و أن مجالس الدرس والتزكية الباطنية لا تغيّر في الوضع شيئا... وإنما كان يعتقد حقّ الاعتقاد ويؤمن أقوى الإيمان بأن الإسلام والمسلمين بحاجة إلى القوة . ولما رأى السّيخ يستعبدون المسلمين ويصبّون عليهم من الظلم والقسوة والعذاب ما يفتت القلوب ويفلق الأكباد عزم على الخروج في سبيل الله دون أن ينتظر الفرصة الأخرى . وقد عيّن البنجاب مركزا للجهاد .و لما استهلت سنة 1241 هجري ودع السيد أحمد الشهيد أهله ووطنه مهاجرا في سبيل الله بجمع حاشد من المجاهدين ... وقام معه الشيخ إسماعيل الدهلوي بجولات في المدن والقرى للدعوة وبيان السنة وكان لها كبير الأثر في جمع المجاهدين ، وعندما أعلن للناس أنه عازم على ذلك، وشاع حديث الجهاد وحدا بالناس حادي الشوق ، وتسابق الآباء والأبناء ، وكانت خطة الشيخ أن يهاجر في منطقة نفود الإنكليز ، ويستعين بالقبائل الأفغانية وأهل البنجاب التي يتمتع أهلها بالأنفة والفروسية ومن هناك يزحف على الهند التي أصبحت مطية للإنكليز .اتجه موكب الجهاد غربًا باتجاه السند ، ثم بلوشستان فأفغانستان وقد لاقوا في الطريق أهوالاً و مشاقـًا تغلبوا عليها بإيمانهم وصبرهم وفي (قندهار) و (كابل) استقبل الشيخ أحمد بحفاوة بالغة ، وتكلم مع أمراء الأفغان وكان هدفه توحيد الصف الإسلامي لمقاومة الإنكليز ثم توجه الشيخ إلى بشاور ثم إلى (نوشهرة) حيث استقر هناك وأسس أول معسكر للمجاهدين عام 1242هـ 1826م ومن هذا المعسكر أرسل الرسائل لزعماء القبائل يدعوهم فيها إلى الالتزام بأحكام الشرع والمساعدة على إقامة فريضة الجهاد وأرسل إلى حاكم بنجاب السيخي (رنجيت سنغ) يدعوهم للإسلام ولكنه قابل هذه الدعوة بسخرية ، وظن أنه شيخ له أطماع دنيوية .استجاب لدعوة الشيخ أحمد كثير من الناس والأمراء وجاءه المتطوعون في الهند وفيهم كبار العلماء ، وفي يوم الخميس 12 جمادي الآخرة سنة 1242 هـ اجتمع العلماء والأمراء ورؤساء القبائل وبايعوا الشيخ أحمد بن عرفان على السمع والطاعة في المعروف واختاروه أميرًا لهم وذاق الناس حلاوة الحكم الإسلامي، فانتشر الأمن وعم الرخاء وساد الإخاء ، فقد نُصب في كل قرية قاضي ومفتي وصاحب حسبة ، وجباة يجمعون الزكاة ، وأزيلت المنكرات والعادات الجاهلية ، وأرسل الأمير السرايا والجيوش للأماكن القريبة ، وانتصر على السيخ في معركة (أكورة) بالقرب من بشاور ، وبث الدعاة للوعظ والإرشاد والدعوة للجهاد .لقد أهم بريطانيا وأقلقها حركة المجاهد الشهير السيد الإمام أحمد بن عرفان الشهيد ، وكيف استطاع إلهاب شعلة الجهاد والفداء ، وبث روح النخوة الإسلامية والحماسة الدينية فى صدور المسلمين ، وكيف التف حوله وحول دعوته آلاف من المسلمين عانت منهم الحكومة الإنجليزية فى الهند مصاعب عظيمة ، وكانوا موضع اهتمامها . حاول الإنكليز وقف هذه الحركة القوية التي أقضت مضاجعهم ، فاستغلوا الحكام التابعين لهم الذين لا هم لهم إلا البقاء في الحكم وذلك لإيقاف هذه الحركة عن طريق الإغراءات بالمال أو الولايات ، وحاول حاكم بنجاب ملاينة الشيخ أحمد فأرسل الهدايا وأطمعه بإمارة مستقلة ولكن هيهات والشيخ إنما يريد إعلاء كلمة الله ، وكانت العقبة الكبرى التي واجهها الشيخ هي أمراء بشاور الذين لا يهمهم إلا بقاؤهم في الحكم وبقاء صلتهم الودية مع ملك البنجاب ، ومع أن معسكر الجهاد انتصر عليهم وفُتحت بشاور، واستبشر الناس خيرًا ، بإقامة شرع الله ، إلا أن زعماء القبائل لا يروق لهم التنازل عن عاداتهم الجاهلية وإقامة العدالة الإسلامية ، وحكام بشاور من أمراء الأفغان يريدون استمرار ظلمهم وعدوانهم ، فدبروا مؤامرة لقتل القضاة والعلماء والدعاة الذين كلفوا بمهماتهم من قبل الشيخ أحمد بن عرفان كما استطاع الإنكليز التلاعب بعقول بعض المشايخ الذين كتبوا بمحاربة السيد أحمد بن عرفان لأنه (وهابي) بزعمهم، وكان جرح عميق قطع كل أمل في هذه المنطقة ، وقرر أمير الجهاد ترك هذه البلاد واتجه بجيشه وإخوانه إلى كشمير، ولم ينس الشيخ في طريقه تذكير وتعليم أهل القرى التي مَرَّ بها . ومن أهم المعارك التي قام بها المعركة التي كانت بين المجاهدين وبين السيخ وكانت في قرية جبلية اسمها (بلاكوت) وكانت معركة فاصلة مع دولة لاهور التي آذت المسلمين كثيرًا ، وكان الشيخ على أتم استعداد لمواجهة السيخ فنظم جيشه ووزع فرق الجهاد واستعد للمعركة، ولم يكن استعداد الشيخ للجهاد ولهذه المعركة يعتمد على السلاح والقوة بقدر ما كان يعتمد على الله لقد سلك طريق النبي في جهاده فبعد أن جهز الجيش ودربه وفي المعركة كما كان يفعل النبي دعا دعاء طويلاً ، وعمل بوصية سيدنا عمر بن الخطاب والتي كان يدعو الناس فيها إلى ترك الذنوب والمعاصي ، فقد طلب الشيخ أحمد من الناس التوبة و الاستغفار ثم لبس ملابس الحرب وفي صباح يوم 24 ذي القعدة 1246هـ صلى السيد أحمد بالناس ثم نزل إلى الميدان ومعه إخوانه يحيطون به والقنابل تنهمر عليهم، وكانت المعركة في بادئ الأمر لصالح المسلمين ، إلا أن الخيانة كانت لها دور كبير في هزيمة الجيش الإسلامي واستشهاد البطل أحمد عرفان فقد جاء رجل ممن كانوا يحرسون الطريق إلى قائد جيش العدو. وأفضى إليه سرّ الطريق بغاية من التفصيل ... وذلك ما دفع في " شير سنغ " ورجاله روحا جديدة وعزما جديدا على شنّ الحرب على المسلمين ... فاعدوا العدة و العتاد .. وهاجموا حراس الطريق واستولوا على الممر وانتشر جيشه في خبايا الجبل وطرقه كالجراد . ورأى المجاهدون المفاجأة المؤلمة واطلع السيد أحمد على " السرّ " فاستعدوا للقتال و الجهاد ... وهم يرون الموت عيانا والشهادة قريبة .استشهد عدد كبير منهم واستشهد السيد أحمد بن عرفان واستشهد الشيخ إسماعيل الدهلوي . وفي (بلاكوت) انطوت صفحة عظيمة من الجهد والجهاد والدعوة إلى السنة وتطبيق الإسلام ، كانت محاولة صادقة جادةلم تكتمل ، رحم الله تلك النفوس الكبيرة التي دفنت في (بلاكوت) لقد مات الشهيدان العبدان ولكن الأثر الذي خلفه الإمامان لم يمت ، كانت دعوة لإحياء الدين والعودة إلى عزة الإيمان وكانت هذه المعركة هي النهاية ليست نهاية الجهاد وإنما كانت نهاية المجاهد العظيم أحمد عرفان الذي أحيا الإسلام في القلوب .
قالوا عنه : قال عنه العلامة صديق حسن خان (1307هـ) . " كان السيد أحمد الشهيد آية في آيات الله في هداية الخلق ، وقد طهرت مواعظ خلفائه وخطبهم أرض الهند من الشرك والبدع ... "قالوا عن أثر حركته : كان تأثير حركة الإمام أحمد بن عرفان الشهيد عاماً وشاملاً، ظهر في مكافحة الغزو الاستعماري ، ومواجهة الفتن ، ومعالجة التحديات الفكرية ، وتربية الجيل الناشئ .
من كلماته : علم المستعمر البريطاني في الهند أن للحج آثاراً كبيرة في نفوس المسلمين فعمل على إضعاف هذه الروح لكن الإمام المجاهد أحمد بن محمد عرفان فطن لهذا المكر الخبيث فقام برد عملي وهو دعوة الناس إلى الحج وقد تكفل بنفقات من لا يملك نفقة الحج وقام فيهم خطيباً قائلاً : " إخواني إنكم هجرتم أوطانكم ومنازلكم لتسعدوا بالحج والعمرة ابتغاء رضوان الله فيلزمكم : أن تكونوا إخوة متحابين كأنكم أشقاء ، أبوكم واحد ، وأمكم واحدة ، ويحب أحدكم لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه "… " وليشارك كل واحد صاحبه فيما يشتغل به ، ولا يستنكف عن خدمته بل يعتبر ذلك شرفًا وفخرًا " ….." فإذا رأى الناس فيكم هذه الأخلاق حرصوا على صحبتكم ومرافقتكم وقالوا : هؤلاء من طراز خاص ، ونوع فريد ، ففاز هؤلاء القوم وحسن أولئك رفيقًا " . و قال : " إنني لأرجو أن الله يهدي في هذه الرحلة مئات آلاف من الناس ، ويخرج آلاف من الذين غاصوا في مستنقع الشرك والبدع والجهالة إلى أذقانهم وجهلوا شعائر الإسلام جهلاً عميقًا فيعودون بإذن الله موحدين مؤمنين متقين . [1]
وفاته : ارتقى الشهيد أحمد بن محمد عرفان إلى العلا شهيداً بعد حياة حافلة بالجهاد والنضال والدعوة والتربية في موقعة (بلاكوت) بين المسلمين وبين السيخ وذلك يوم 24 من ذي القعدة 1246 للهجرة - 1831 للميلاد .
المراجع : تراجم شهداء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث جـ1 عبد القادر عبار بتصرف .موقع المختار الإسلامي مقال بقلم بعنوان حركة أحمد بن عرفان الشهيد للأستاذ محمد عبده بتصرفموقع عماد الإسلام بتصرف .موقع إسلام أون لاين مقال بعنوان رحلة الحجّ العرفانية .. تجربة عملية في الرد على المستشرقين الشَّهيد الدكتور: ليث سعود القيسي الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا .موقع رابطة أدباء الشام مقال للأستاذ مصطفى محمد الطحان بعنوان الزيارة الرابعة للهند . -------------------------------------------------------------------------------- [1] موقع إسلام أون لاين رحلة الحجّ العرفانية .. تجربة عملية في الرد على المستشرقين الشَّهيد الدكتور: ليث سعود القيسي الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا .
--
-
عز الدين القسام - الشيخ المجاهد
بعد عشرات السنين من استشهاد الشيخ المجاهد عز الدين القسام على أرض فلسطين المباركة نجد أنفسنا نكتشف أن الطرح الصحيح للقضية هو ما طرحه ومارسه عز الدين القسام (الإسلام والكفاح المسلح) ، بل نجد أن تجربة عز الدين القسام " وهو علم الدين - السوري المولد - المكافح ضد الاحتلال الفرنسي في سوريا - الراغب للجهاد ضد احتلال الطليان لليبيا - الرابط بين الكيان الصهيوني والاحتلال الإنجليزي - الذي يحرك الجماهير من خلال الإسلام - المنظم لخلايا الكفاح المسلح ".. نجد أن تلك التجربة تكشف عن فهم كل العوامل الأصيلة والمعاني الصحيحة في القضية الفلسطينية . تري كيف امتلك عز الدين القسام هذه الرؤية الصحيحة ؟ وأين تعلمها ؟ وكيف صاغها فكرًا وممارسة ؟ إنها عبقرية رجل الدين المجاهد ، إنها عبقرية عز الدين القسام .
عز الدين القسام .. مولده و حياته :
ولد عز الدين القسام في قرية الأدهمية التابعة لمدينة اللاذقية بسوريا سنة 1882م ، ووالده هو عبد القادر مصطفى القسام من علماء الأزهر الشريف ، ووالدته هي حليمة قصاب من بيت نور الدين حملة العلم الكرام ، تعلم عز الدين القسام في زاوية الإمام الغزالي بالقرية وحفظ القرآن الكريم والقراءة والكتابة ، ثم الفقه ، وسافر سنة 1896م إلى مصر ليدرس بالأزهر الشريف حيث قضى بالأزهر دارسًا لمختلف العلوم الشرعية حوالي عشر سنوات ، ثم عاد إلى سوريا سنة 1906م بعد أن حصل على شهادة الأهلية ، وبعد عودته إلى مسقط رأسه في سوريا اشتغل بالتدريس ، وتولى الخطابة في مسجد المنصوري بالقرية .وعندما اندلعت الحرب في ليبيا سنة 1911م وحاول الإيطاليون احتلالها هبَّ الشيخ المجاهد عز الدين القسام للدعوة للجهاد في ليبيا ؛ إدراكًا منه أن الدفاع عن أي بلد إسلامي واجب شرعي على كل مسلم ، وبالأخص على علماء الدين ، واستجاب له الكثيرون في سوريا فاختار منهم 250 متطوعًا وأعدهم للسفر إلى ليبيا عن طريق الإسكندرية للمشاركة في الجهاد ضد الطليان ، ولكن السلطات في سوريا في ذلك الوقت منعته ومن معه من السفر .وعندما اندلعت الثورة السورية الأولى ضد الاحتلال الفرنسي سنة 1919م ، كان عز الدين القسام في طليعة دعاتها وقادتها والمجاهدين بأنفسهم فيها . وعندما ظهرت الملامح الأولى للغزوة الصهيونية على فلسطين أدرك عز الدين القسام أن تلك الغزوة أخطر وأشد حلقات التآمر الصليبي اليهودي على العالم الإسلامي ، وأن للجهاد في فلسطين الأولوية الأولى على كل القضايا رغم أهميتها جميعًا ، وعبر بذلك عن البادرة الأولى في وعي الأمة بأن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة الإسلامية ، فتوجه سنة 1920م إلى فلسطين مصطحبًا معه مجموعة من الشباب السوري المجاهد ، واتخذ من مدينة حيفا مقرًّا له وبدأ عز الدين القسام من حيفا في العمل على نشر الوعي الجهادي بين جماهير فلسطين ، والتنبيه المبكر على خطورة الهجرة اليهودية إلى فلسطين ، وقام الرجل بإلقاء الخطب في المساجد أو في المناسبات الاجتماعية كالأفراح أو الاجتماعات أو غيرها . كما أسس المدارس وفصول محو الأمية وتعليم الصغار ، وأسس جمعية الشبان المسلمين في فلسطين ؛ لتكون أداة في المواجهة على مستوي الوعي والتعليم والجهاد ، ثم شكل الشيخ عز الدين القسام تنظيمًا مسلحًا اختار عناصره من الفلاحين والباعة الجائلين والصناع ، وقام هذا التنظيم بالعديد من العمليات الفدائية ضد المستوطنات الصهيونية ، وضد الاحتلال الإنجليزي إلى أن استشهد الرجل في إحدى العمليات ضد القوات الإنجليزية مع اثنين من المجاهدين هما الشيخ يوسف الزيباوي وعطيفة المصري يوم 20 نوفمبر سنة 1935م ، وكان لاستشهاده وكفاحه ودوره في نشر الوعي والثورة أثرٌ مهم في اندلاع الثورة الكبرى في فلسطين سنة 1936م ، واستمر التنظيم الذي شكله القسام يقوم بالعديد من العمليات الفدائية ضد اليهود والإنجليز بعد استشهاد الشيخ عز الدين القسام .
فلسطين هي القضية المركزية لأمة الإسلام :
لماذا ترك عز الدين القسام ساحة الجهاد في سوريا ضد الاحتلال الفرنسى ، وقد كان أحد قادة ثورة 1919م وهي الثورة السورية الأولى ، لماذا ترك موقعه الجهادي هنا إلى موقع آخر في فلسطين ؟ ! أليس هذا إدراكًا مبكرًا بأن جوهر الجهاد وأهم مواقعه هو بالتحديد على الساحة الفلسطينية باعتبار أن أخطر وأهم فصول التآمر الصليبي اليهودي هو بالتحديد على أرض فلسطين ، وأن على أرض فلسطين يتحدد مصير الصراع الطويل بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ؟ أليس هذا وعيًا مبكرًا بأن القضية الفلسطينية هي القضية الأولى والأهم ، وهي القضية المركزية للأمة الإسلامية ؟ ولذلك فضل الرجل أن يواجه التحدي الصليبي الغربي والتحالف مع اليهود في المكان الصحيح ، وفي الموقع الجوهري للصراع ، وبذلك يكون عز الدين القسام السوري المولد والنشأة قد طرح وحفر بجهاده على أرض فلسطين أهم حقائق هذا العصر ، وهو جوهرية الصراع في فلسطين ، وكون القضية الفلسطينية هي قضية العرب والمسلمين الأولى ، وفضلاً عن هذا المعني المهم فإن جهاد عز الدين القسام على أرض فلسطين يؤكد أهمية الجهاد في كل موقع يتعرض لخطر العدوان ، ولعل هذا درسٌ بليغ لكل المجاهدين الذين تركوا القضية الجوهرية (فلسطين) ، وراحوا يجاهدون في قضايا أقل أهمية .
الجهاد الإسلامي .. الطريق الصحيح :
تعلم الجميع - ولكن بعد وقت طويل ضائع - أن عز الدين القسام قد وصل إلى لبِّ المنهج الصحيح للمواجهة ، فالذين تحركوا تحت شعارات مختلفة من وطنية وقومية وماركسية وغيرها قد فشلوا جميعًا في تحريك الجماهير، ووصلوا بالقضية إلى أسوأ حالاتها أو سقطوا جميعًا - إلا من رحم ربك- في مستنقع التفاوض الآسن ، ومنذ اللحظة الأولى وضع عز الدين القسام يده على الطريق الصحيح لتحريك الجماهير (الأيدلوجية الإسلامية) ، وهي الوحيدة القادرة على المواجهة والحشد ؛ لأنها عقيدة الجماهير وبسبب طبيعة التحدي باعتباره صراعًا حضاريًّا بين الإسلام والغرب المتحالف مع اليهود ، صراعًا يمتد في الزمان والمكان في الجغرافيا والتاريخ .. ولقد وعى الشيخ عز الدين القسام ذلك الارتباط بين اليهود الصهاينة باعتبارهم طليعة استعمارية عنصرية تستهدف أمة الإسلام وليس فلسطين وحدها ، وبين الاستعمار الإنجليزي - الوجه الآخر للتآمر الصليبى ، وبالتالي فهم أنه لا طريق لمواجهة هذا التحدي الحضاري إلا بالإسلام وبالكفاح المسلح ؛ لأنه ليست هناك أرضية للالتقاء ، وبالتالي فلا مجال للمفاوضات والحلول الوسط ، ووصل الرجل إلى الأسلوب الصحيح للمواجهة ، أما هؤلاء الذين فقدوا خيار الإسلام أو خيار البندقية ، فما زالت سقطاتهم تتوالى ، وما زالت الكوارث على فلسطين وعلى الأمة تتوالى بسببهم . كان عز الدين القسام يدرك أيضًا أن الجماهير الكادحة هي القادرة على الجهاد والمواجهة ، فتوجَّه الرجل بخطابه إليهم وعاش بينهم وشكل تنظيمه المسلح منهم ، أما الأسر الإقطاعية فقد كان يدرك عدم جدواها وعدم قدرتها على الكفاح المسلح، وهكذا طرح عز الدين القسام الشعار الخطير وهو (المسلمون الكادحون على طريق الكفاح المسلح) . ولم يغفل الشيخ عز الدين القسام الجوانب الأخرى في حركته ، فمارس النضال السياسي كجناح آخر من أجنحة الحركة ، ومارس التعليم ومحو الأمية وألّف لجانًا للدعوة والدعاية ، فبحلول عام 1935م كان عز الدين القسام قد نجح في تشكيل خمس لجان داخل تنظيمه هي (الدعوة والدعاية - التدريب العسكري - التموين - الاستخبارات - العلاقات الخارجية) .هل كان عز الدين القسام يحلم بالانتصار ووقف الهجمة ودحرها ؟ ! بالطبع لا ، ولكنه كان يدرك أن ظروف الأمة وظروف الهجمة لا تسمح إلا بحفر رافد للمنهج الصحيح من خلال الدم ، رافد للوعي والثورة ، رافد للإسلام والجهاد ، يمكنه أن يكون أساسًا للبناء حتى لا تتوه معالم الطريق الصحيح ، فتضيع القضية برمتها .صحيح أن الشيخ عز الدين القسام طلب من مفتي فلسطين في ذلك الوقت أن يعلن الثورة المسلحة في الجنوب في نفس الوقت الذي يعلنها فيه الشيخ عز الدين القسام في الشمال ، ولكن المفتي رفض ، ومع ذلك - أي برغم الرفض الذي يعني بداهة أن إعلان الثورة في الشمال سيفشل حتمًا - استمر الشيخ عز الدين القسام وأعلن الثورة في الشمال رغم إدراكه بفشلها الحتمي ، ولكنه أراد أن يخطَّ ويحفر بدمه رافدًا عميقًا للتوجُّه الصحيح ، ونبعًا أصيلاً ونبراسًا للمستقبل ، واستشهد الرجل مع رفاقه الذين قتلوا أو أسروا ، ولكنه كان بالفعل قد وضع الطريق الصحيح ، وقطع الطريق الخطأ الذي يمكن أن يضيع القضية برمتها وإلى الأبد ، وبعد ستين عامًا نجد أن كتائب عز الدين القسام هي نفسها التي تحمل عبء المواجهة ، وطريق عز الدين القسام هو الطريق الذي اختاره أبناء فلسطين " الإسلام والثورة والكفاح المسلح " في زمن سقط فيه الكثيرون في مستنقع التعايش مع اليهود .كان عز الدين القسام يدرك حقيقة تفاؤل المستقبل رغم يأس المرحلة ، وكان يعرف أن الاستشهاد هو مفجر الوعي ، وأن الحسابات لا ترتبط باللحظة الآنية بل تنظر بعين المستقبل ، كان عز الدين القسام قد انتصر في الحقيقة حين استشهد ، ونجح حين توقفت انتفاضته سنة 1935م .
المصدر: موقع وكالة الأخبار الإسلامية نبأ .
-
علي عزت بيجوفيتش
النسب و المولد :
ولد علي عزت بيجوفيتش عام 1344هـ = 1925م في مدينة بوساناكروبا شمال غربي البوسنة في أسرة عريقة في إسلامها . والمعروف أن الإسلام دخل إلى منطقة البلقان على يد العثمانيين بعد معركة " كوسوفا " الشهيرة سنة 792هـ = 1389م بعدما انتصروا على الصرب . ثم دخل الإسلام البوسنة سنة 868هـ = 1463م ، واعتنق البوسنويون الإسلام ، وعُرف مسلموها بالبوشناق ، وظلوا خاضعين للدولة العثمانية حوالي 415 عاما ، وبعد زوال الحكم العثماني تعرض المسلمون فيها لاضطهاد ديني وعرقي متكرر؛ أدى إلى نزوح عدد كبير من السكان إلى تركيا ، ولم يُسمح للمسلمين لعقود طويلة بممارسة حقهم في إدارة شئونهم ، فضلا عن المذابح والانتهاكات الرهيبة التي تعرضوا لها في فترات متعاقبة لمحو إسلامهم وهويتهم .
النشأة و التربية :
نشأ علي عزت بيجوفيتش في أسرة عريقة في إسلامها ، وتعّلم في مدارس مدينة سراييفو التي أمضى حياته فيها ، وفيها أكمل تعليمه الثانوي عام 1943 والتحق بجامعتها ، وحصل على الشهادة العليا في القانون عام 1950، ثم نال شهادة الدكتوراه عام 1962، وعلى شهادة عليا في الاقتصاد عام 1964، ويقرأ ويتحدث ويكتب باللغات الأجنبية: الألمانية ، والفرنسية ، والإنكليزية ، مع إلمام جيد بالعربية .وفي عام 1940م كان عمر بيجوفيتش 16 عامًا ، وبالرغم من حداثة سنه ، فقد كان من المشاركين في تأسيس جمعية " الشبان المسلمين " ؛ وهي جماعة دينية وسياسية أسست على غرار جماعة " الإخوان المسلمين " بمصر . وبعد ست سنوات ، قامت الحكومة الشيوعية باعتقاله هو وصديقه نجيب شاكر بيه بسبب مساعدتهما في إصدار جريدة " المجاهد " . و بعد خروجهما من المعتقل ، شَنَّ الشيوعيون حملة أخرى من حملاتهم الضارية ضد " الشبان المسلمين " . ففي عام 1949م ، قدموا أربعة أعضاء من الجماعة إلى المحاكمة التي قضت في النهاية بإعدامهم. هذا بالإضافة إلى اعتقال عدد – غير قليل – من " الشبان المسلمين " بسبب نشاطهم الإسلامي الملحوظ . وفي عام 1983م تَمَّ اعتقال عزت بيجوفيتش مرة أخرى بسبب نشره " دعاية إسلامية "، ثم أطلق سراحه أخيرًا في عام 1988م .
كفاحه السياسي :
لم يكن الدكتور علي عزت رئيساً عادياً كسائر رؤساء الجمهوريات الذين تسلموا هذا المنصب في العالم الإسلامي ، بل كان : سياسياً داهية ، ومناضلاً عنيداً ، ومفكراً عميقاً ، وذا نظرة إسلامية بعيدة جعلته يتجاوز حدود البلقان ، إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي ، ليحمل هموم المسلمين حيث كانوا ، ويعمل مع العاملين لنهوض المسلمين ، بعد تخليصهم من أوضار التخلف الذي أطمع الغرب والشرق بهم . كان الفتى علي عزت ذا شخصية متميزة بالجدّ والاجتهاد ، والتأمل في أحوال المسلمين في بلاد البلقان ، وهي أحوال متردية مادياً ومعنوياً ، فالحكم الشيوعي الذي جاء بعد انهيار الحكم الملكي، كان إلحادياً ، شديد الوطأة على الإسلام والمسلمين ، كما كان الحكم الملكي من قبل ، بل كان أشدّ وأقسى وأمرّ ، وقد سمعنا من الشيخ علي يعقوب الذي أنجاه الله من مذابح الملكيين والشيوعيين وهو طفل صغير ، سمعنا منه في استانبول عن بعض المذابح والأهوال التي كان يلقاها مسلمو البلقان على أيدي أولئك المجرمين من الملكيين المتعصبين لنصرانيتهم ، الحاملين أحقادهم التاريخية على الإسلام والمسلمين ، فهؤلاء كانوا يتفقون مع الشيوعيين على حرب المسلمين .فكّر الفتى علي عزت فيما يمكن أن يقوم به من أجل المسلمين ، فهداه تفكيره إلى إنشاء جمعية أسماها (جمعية الشبان المسلمين) ودعا إليها نفراً من زملائه الطلبة ، وكان في السادسة عشرة من عمره ، وكانت الجمعية أشبه بنادٍ مدرسيّ يعمل لجمع الطلبة المسلمين ، وتوعيتهم ، وتثقيفهم ويتحاور فيه الطلبة ، ثم انتقل بالطلبة من الكلام إلى العمل، فقامت بأعمال خيرية ، وثقافية ، وأنشأت قسماً للفتيات المسلمات ، وقدمت خدمات ومساعدات للمحتاجين إبّان الحرب الكونية الثانية ، وسعت إلى بناء الشخصية المسلمة السوية الواعظة التي تفهم زمانها ، وتستقيم طريقة تعايشها مع الوسط الذي تتعامل معه .قرأ علي عزت ما وصل إليه من كتب الإخوان ، وتأثر بأفكارهم ، وتجاربهم ، كما اطلع على تجارب الحركات الإسلامية الأخرى في الهند ، وباكستان ، وإندونيسيا ، وقرأ بعض كتب المودودي و الندوي ، و رئيس وزراء إندونيسيا الأسبق الدكتور محمد ناصر، وتفاعل معها ، وهو ما يزال طالباً يدرس القانون في جامعة سراييفو ، وكان يتحرك في أوساط الطلبة البوشناق في الجامعة ، ويحاورهم ، ويقنعنهم بما اقتنع به من تلك الأفكار التي ألهمته الكثير، ودلّته على الطريق اللاحب الذي يجب أن يسير فيه ، من أجل النهوض بشعبه البوشناق ، وبسائر مسلمي البلقان ، لتخليصهم من أتون الشيوعية الملحدة التي تريد أن تطمس هويتهم ، وتقضي على دينهم الإسلامي الحنيف ، وتجعلهم قطيعاً يعيش على هامش الحياة ، كما تسير سائر القطعان الأخرى التي رزحت تحت وطأة الحكم الشيوعي الدموي .
في مواجهة النازيين
اجتاح هتلر بجيشه النازي يوغسلافيا واحتلها في نيسان (أبريل) 1941 وسارع بعض أبناء البلقان المتأثرين بالفكر النازي إلى تأسيس حزب (الأشتاشا) النازي ، وحاول الشبان النازيون التأثير في الطلاب المسلمين ، فتصدّى لهم الطالب علي عزت وزملاؤه في جمعية الشبان المسلمين وأفهموا الطلاب المسلمين أن الفكر النازي معادٍ للإسلام ، وأن الحركة النازية ضدّ المسلمين ، ويحرم على المسلم أن ينتسب إلى الحركة النازية تحت أي ذريعة .واستطاع علي عزت وزملاؤه في الجمعية التأثير في الطلبة، فاستاء النازيون الألمان من الجمعية ، وحاربوها ، ولم يسمحوا لها بالترخيص والعمل الحر . و عندما تحررت يوغسلافيا ، ورحلت عنها الجيوش الألمانية ، واتخذت الشيوعية مذهباً وديناً أواخر عام 1945تصدّى الطالب الشاب علي عزت للشيوعية ، كما كان يتصدّى للنازية ، فاعتقله الشيوعيون مراراً ، وهو طالب في الجامعة .لقد كان الشيوعيون أقسى على المسلمين من النازيين والملكيين ، فقد أغلقوا المساجد ، و مدارس المسلمين وحوّلوها إلى ملاهٍ و متاحف و بارات و حانات و مراقص ، و منعوا اقتناء المصاحف ، و فعلوا الأفاعيل بعلماء المسلمين و بالمتدينين ، قتلاً ، وسجناً ، و تعذيباً ، و مطاردة ..لم يفتّ هذا في عزيمة الشاب ، بل زاده صلابة وتصميماً على الكفاح ، والعمل بأساليب شتى، فاعتقله الشيوعيون أكثر من مرة فما يزيده الاعتقال والتعذيب إلا إيماناً بصحة الطريق الذي يسير فيه ، وتمسكاً به .وكان عهد ( تيتو) صديق عبد الناصر الأثير، من أشدّ العهود قسوة على المحامي علي عزت، حتى هلاكه سنة 1980، فقد كان هذا الديكتاتور الدموي يكره علي عزت ، وعندما زاره عبد الناصر ، سأله عن علي عزت ، فأجابه تيتو : إنه رجل خطير .. أخطر من تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، فهو يطالب ويرى أن تتولى الحركة الإسلامية السلطة في كل بلد تكون لها الأكثرية فيه .و قد حكم عليه بالسجن مدة خمس سنوات مع الأشغال الشاقة عام 1949 وكانت تهمته ، أن له علاقة بجمعية الشبان المسلمين ، مع أن هذه الجمعية ما كانت تتعاطى مع العمل السياسي ، وكانت اهتماماتها مقتصرة على تعليم العلوم الشرعية ، وعلى أعمال الخير . وفي آب/ أغسطس 1983 حكموا عليه في محكمة سراييفو ، مع أحد عشر شاباً من زملائه- بينهم شاعرة مسلمة - حكموا عليهم بالسجن أربعة عشر عاماً ، بتهمة الانحراف نحو الأصولية ، وكان من الواضح أن الحكام الشيوعيين هناك ، رأوا أن فلسفة علي عزت ، وما يدعو إليه ، خطر عظيم على فكرتهم الماركسية الموغلة في الهمجية والتوحش .
الكفاح الدامي بعد تصدّع الأنظمة الشيوعية في أوربا الشرقية ، وفي الاتحاد السوفيتي عام 1410هـ - 1990م وعدم قدرة تلك الأنظمة المنخورة الفاسدة على كبح جماح الشعوب التي بدأ تململها يظهر على السطوح ، بعد عشرات السنين من القمع والاستبداد ، اضطر الحزب الشيوعي اليوغسلافي إلى السماح بالتعددية السياسية ، فاهتبل الدكتور علي عزت هذه الفرصة ، وبادر إلى تأسيس حزب العمل الديمقراطي ، وشارك في الانتخابات الرئاسية ، وفاز فيها ، وصار رئيساً لجمهورية البوسنة والهرسك ، في جمادى الأولى 1411هـ الموافق لتشرين الثاني/ نوفمبر 1990. وأجرى استفتاء شعبياً على الاستقلال عن الاتحاد اليوغسلافي ، كما استقلت كرواتيا وسلوفينيا ، وصوّت الشعب المسلم على الاستقلال بأكثرية 63% ولكن الغرب الصليبي لم يرض بهذه النتيجة ، فشنّ حملة إعلامية ظالمة ضد مسلمي البوسنة ، الأمر الذي جعل الصرب الهمج ينقضون على البوسنة ، في حرب عرقية دينية دموية ، وحرب إبادة شاملة ، وتطوع آلاف من نصارى أوربا للقتال في صفوف الصرب ، ووقعت الدولة البوسنية الوليدة بين فكي كماشة ، فالصرب من جهة ، والكروات من جهة ثانية ، استطاعوا تمزيقها ، وكادوا يجهزون على شعبها الأعزل الآمن ، بآلة الحرب اليوغسلافية الرهيبة التي كانت في أيدي الصرب المتوحشين .. جرى هذا على مرأى ومسمع من الأوربيين والأمريكان ، وعلى مرأى ومسمع من الأمم المتحدة التي كانت اعترفت بجمهورية البوسنة والهرسك ، بحيث غدت هذه الجمهورية عضواً في هيئة الأمم المتحدة .. لم يتحرك المجتمع الدولي الذي سبق له أن اعترف بهذه الدولة ، ولا تحركت أمريكا ، وتركوا الصرب والكروات ، وعصابات (الشِّتْنك) الصربية الإرهابية ، ومن انضمّ إليها من نصارى أوربا ، يفتكون بالمسلمين ، ويرتكبون المجازر الجماعية التي لم تُكتشف كل مقابرها الجماعية بعد ، ويغتصبون حوالي مئة ألف امرأة وفتاة مسلمة ، وهم (يتفرجون) عليهم ، والمسلمون كالأغنام في الليالي المطيرة ، لا حول لهم ولا طول ، وكان على شعب البوسنة والهرسك ، أن يختار بين الانضمام إلى الكروات أو الصرب ، الخصمين اللدودين اللذين لا يجتمعان إلا على حرب المسلمين ، وكان هذا الاختيار كالاختيار بين سرطان الدم، وسرطان الدماغ - كما قيل- والرئيس الداهية علي عزت - صاحب العين البصيرة ، والفكر العميق ، والنظرة البعيدة ، واليد القصيرة - كان يسعى ويفكر في الطريقة التي تجنّب شعبه ما يمكن من الخسائر ، فكان يتحرك هنا وهناك ، ويعرض مقترحاته وأفكاره ، ويضطر للتراجع أمام التواطؤ الغربي الأمريكي الذي لم يتحرك إلا عندما رأوا الصمود الأسطوري لذلك الشعب المسلم الذي بدت كفّته القتالية ترجح على الصرب الأوباش . من أجل إنقاذ شعبه ، تقدّم الرئيس علي عزت بحلّ وسط إلى قمة رؤساء الجمهورية في شعبان 1411هـ - شباط 1991 يتمثل في إقامة (فيدرالية متناسقة) . كان هذا المشروع كفيلاً بإنقاذ يوغسلافيا من التمزق والانهيار، ومن الحرب الأهلية بين الجمهوريات والأعراق ، لذلك حظي هذا المشروع بدعم الجماعة الأوربية ، ولكن الصرب والكروات وسلوفينيا عارضوا المشروع ، وكانت المحنة الرهيبة التي لن ينساها المسلمون لأولئك الحاقدين على مدى الزمان .. لن ينسوا ثلاث مئة وخمسين ألف شهيد ، وحوالي مئة ألف عرض منتهك .. لن ينسوا المنازل التي هدموها على رؤوس أصحابها ، ولا المساجد التي دمّروها ، ولا الجرائم الكثيرة التي لا تخطر إلا على بال الأبالسة وعتاة المجرمين ، ولن يقبلوا اعتذاراًَ من أوربا وأمريكا .
قالوا عنه : قال عنه (وود وورث كارلسن) : " إن تحليله للأوضاع الإنسانية مذهل ، وقدرته التحليلية الكاسحة تعطي شعوراً متعاظماً بجمال الإسلام وعالميته " .قال عنه بعض طلبة البوسنة إن الدكتور علي عزت مثقف إسلامي كبير، يصفه العلماء والمفكرون بأنه سيد قطب أوروبا . كان الديكتاتور الدموي تيتو الصديق الأثير لعبد الناصر يكره علي عزت ، وعندما زاره عبد الناصر، سأله عن علي عزت ، فأجابه تيتو: إنه رجل خطير.. أخطر من تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، فهو يطالب ويرى أن تتولى الحركة الإسلامية السلطة في كل بلد تكون لها الأكثرية فيه .
من أقواله : يقول علي عزت بيجوفيتش : القرآن الكريم يحتاج من المسلمين أن يقرءوه بعناية ، وكل إنسان يجد في القرآن من المعاني بقدر منزلته وإيمانه ، ونحن إذا أخذنا القرآن كاملاً سوف يعطينا الحق كاملاً .
علي عزت مفكراً ومؤلفاً : الرئيس علي عزت مفكر عميق ، يغوص في الأعماق ، ويأبى أن يعوم فوق السطح ، ومثقف أخذ نفسه وأحاطها بألوان الثقافة العصرية ، كما ثقف العلوم الشرعية ، وقرأ الكتب الفكرية الإسلامية المعاصرة ، وجمع بين أصناف تلك العلوم التي حصلها من مصادرها الأمينة الموثوقة ، غربية وإسلامية ، فكان لنا منه مفكر عميق ، ودارس واع للتيارات الفكرية المعاصرة ، وثقفٌ لقفٌ قرأ فوعى ، وكتب فأوعى ، ولكنه لم يتفرغ للكتابة ، لأن هموم الأمة الإسلامية عامة ، وهموم مسلمي البلقان خاصة ، والمحن والابتلاءات التي مرّوا بها ، والمآسي والكوارث التي نزلت بهم . كان كل هذا يشغل الحيّز الكبير من حياته وحركته وتفكيره ، فقد كان يكافح على عدة محاور، ولو تفرغ للقراءة والكتابة لكان لنا منه مؤلف كبير ، ولزوّدنا بثقافة ثرّة ، ولأغنى المكتبة الإسلامية بمؤلفات قيمة ، ولكن الخير فيما يختاره الله ، ولقد سدّ الرجل ثغرات في المسيرة السياسية والكفاحية لمسلمي البوسنة والهرسك ، ما كان غيره ليقوى على سدّها ، والله أعلم .ومع ذلك ، ألّف الرجل عدّة كتب ، وكتب العديد من الأبحاث ، وقدّم الكثير من المحاضرات ، في ميادين فكرية وسياسية ودعوية . ومن هذه الكتب التي ألفها : 1- هروبي إلى الحرية . كتبه في السجن ، عندما اعتقله الشيوعيون عام 1949 بسبب نشاطه السياسي ، ولانتمائه إلى جمعية الشبان المسلمين ، وحكموا عليه بالسجن مدة خمس سنوات .2- عوائق النهضة الإسلامية .3- الأقليات الإسلامية في الدول الشيوعية .4- البيان الإسلامي . وهو مجموعة مقالات كان نشرها في مجلة (تاكفين) باسم مستعار . و هذه المجلة كانت تصدرها جمعية العلماء في البوسنة ، وكان يقرؤها خمسون ألف مسلم ، وقد جمعها ابنه الأستاذ بكر ، وأصدرها في كتاب بعنوان (البيان الإسلامي) وهو شرح لأساسيات النظام الإسلامي ، وقد أثار نشر هذا الكتاب ضجة كبيرة .5 - الإسلام بين الشرق والغرب . وهذا الكتاب الكبير هو أشبه بموسوعة علمية ، هزّ به أركان العالم الغربي ، فقد خاطب به قادة الفكر هناك ، وكان فيه عالما وفيلسوفا وأديباً وفناناً مسلماً تمثّل كلّ ما أنجزته الحضارة الغربية ، ثم ارتقى بتلك العلوم عندما ربطها بهدي السماء الذي جاء به الإسلام .و قد اتسق منهجه التحليلي في الكتاب في تقصي الحقائق ، مع هدفه الذي عبّر عنه بقوله : " لكي نفهم العالم فهماً صحيحاً ، لا بدّ أن نعرف المصادر الحقيقية للأفكار التي تحكم هذا العالم ، وأن نعرف معانيها " .نال الرئيس المفكر الداعية علي عزت العديد من الجوائز ، ولم يكن يتطلع إليها ، ولا يسعى لنوالها ، بل كانت هي التي تأتيه طوعاً ، فقد عرفه البوسنيون ، والعرب ، والمسلمون ، والمثقفون ، والسياسيون من سائر الأجناس ، وكان عارفو فضله ومقامه في ميادين السياسة ، والفكر، والدعوة هم الذين يرشحونه ، وهم الذين يمنحونه الجائزة تلو الجائزة ، ومن هذه الجوائز : 1- جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1993م . 2- جائزة (مفكر العام) من مؤسسة علي وعثمان حافظ عام 1996. 3- جائزة مولانا جلال الدين الرومي الدولية لخدمة الإسلام في تركيا . 4- جائزة الدفاع عن الديموقراطية الدولية ، من المركز الأمريكي للدفاع عن الديموقراطيات والحريات . 5- جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم (رمضان 1422هـ) ، تقديراً لجهوده في خدمة الإسلام والمسلمين .
وفاته : لقد لقي ربَّه راضياً مرضياً يوم الأحد، التاسع عشر من تشرين الأول المنصرم ، عن عمر ناهز الثامنة والسبعين . وقد أعلن راديو البوسنة وفاته ، ولم يتمكن مسلمو البوسنة من إعلان الحداد الرسمي عليه ، فقد اعترض على ذلك ممثل الصرب في الرئاسة الجماعية ، لأن الصرب الحاقدين يعدون الرئيس علي عزت عدوّهم اللدود الذي وقف بدهاء وجرأة وذكاء في وجه أطماعهم في ابتلاع البوسنة والهرسك ، من أجل إقامة إمبراطورية صربية طالما حلموا بها .
--
-
الإمام محمد بن عبد الوهاب
د. راغب السرجاني
في ظلِّ الجهل المطبق والانغماس في الملذات والملاهي ، والاستعانة بما لا يضرُّ ولا ينفع ، في ظلِّ هذه البيئة الملبَّدة بكل ما هو بعيد عن الدين وُلِدَ محمد بن عبد الوهاب آل مشرف التميمي ؛ ليكون خطًّا فاصلاً وعلامة فارقة بين الجهل والعلم ، والشرك والإيمان .
الإمام محمد بن عبد الوهاب الميلاد و النشأة :
محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد[1] ، الذي يعود نسبه إلى آل مشرِّف [2] من قبيلة تميم عريقة النسب والشرف ؛ حيث ينحدرون من مُضَرَ فمن نزار فمن عدنان [3] ، كان جدُّه سليمان بن علي بن مشرف من أشهر العلماء في عصره ومصره ؛ حيث كان من أكابر العلماء في الجزيرة ، وكذلك كان والده عالمًا فقيهًا على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، وكان من علماء نجد المشهورين ، وقضاتها المعروفين ، فقد تولَّى القضاء في عدَّة جهات ؛ مثل : العيينة و حريملاء [4] ، وكان عمُّه الشيخ إبراهيم بن سليمان من مشاهير العلماء في تلك البلاد [5] . في هذه الأسرة العريقة وُلِدَ محمد في بلدة العيينة شمالي الرياض، في عام (1115هـ =1703م) ، وقد تعلَّم القرآن الكريم وحفظه قبل بلوغه عشر سنين ، وكان يتمتَّع بالذكاء وسرعة الحفظ منذ صغره ؛ فكان رغم حداثة سنِّه كثير المطالعة في كتب التفسير والحديث وكلام العلماء في أصل الإسلام ، فشرح الله صدره لمعرفة التوحيد وتحقيقه ، و معرفة نواقضه المضلَّة ؛ حتى إنَّ أباه كان يتعجَّب من فَهْمِه ويقول : " لقد استفدْتُ من ولدي محمد فوائد من الأحكام " [6] . ولم يكن محمدًا في طفولته كأقرانه ممَّن يُحبُّون اللعب والمرح ، بل كان يقضي معظم وقته في الاطلاع على الكتب وخاصَّة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، ومن قبلهما مؤلَّفات الإمام أحمد بن حنبل ؛ التي كان لها الأثر الكبير في تكوين شخصيَّته العلميَّة الصحيحة [7] .
رحلة الإمام محمد عبد الوهاب في طلب العلم :
ارتحل الشيخ محمد بن عبد الوهاب قاصدًا حجَّ بيت الله الحرام ، وبعد أدائه الفريضة اتجه إلى المدينة المنورة ، وفيها وجد ضالَّته ؛ إذ كانت آنذاك مليئة بالعلماء ؛ أمثال الشيخ عبد الله بن إبراهيم آل سيف مصنف كتاب (العذب الفائض في علم الفرائض) ، فأخذ عنه الكثير من العلم ، وأحَبَّه الشيخ عبد الله، وبذل جهدًا كبيرًا في تثقيفه وتعليمه ، فتوثَّقت روابط المحبَّة بينهما، وممَّا يذكره الإمام عن شيخه عبد الله آل سيف قوله : " كنت عنده يومًا ، فقال لي : أتريد أن أريك سلاحًا أعددته للمجمعة [8] . قلتُ : نعم . فأدخلني منزلاً فيه (كتب كثيرة) ، فقال : هذا الذي أعددناه لها " [9] . و لعلَّ هذا الموقف هو ما جعل الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - يتحمَّس لطلب العلم من مناطق أخرى ، فلم يتوانَ في هذا الأمر طيلة حياته . ومن علماء المدينة الذين كان لهم فضل كبير في تعليم الإمام الشيخُ محمد حياة السِّندي؛ فلقد أدرك الرجل ما عليه تلميذه من عقيدة صافية ، وبما تجيش به نفسه من مَقْتِ الأعمال الشائعة في كل مكان مِنَ البِدَع والشرك الأكبر والأصغر، وأنه إنما خرج من نجد للرحلة والاستزادة من العلم الشرعي ؛ الذي يُعِينُه على القيام بالدعوة والجهاد في سبيل الله .ومن المواقف الجليلة التي أثَّرت في محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله - تأثيرًا كبيرًا ، وكانت سببًا مباشرًا لمقاومته لكلِّ مظاهر الشرك والبدع في الجزيرة ، ذلك الموقف المحزن الذي شاهده عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ففي أحد الأيام كان الشيخ واقفًا عند الحجرة النبويَّة فإذا به يرى أناسًا يدعون ويستغيثون بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، حينذاك رآه الشيخ السِّندي فأقبل عليه ، وسأله قائلاً : ما تقول في هؤلاء ؟ قال له الطالب النجيب : {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 139] [10] .فأيقن عندها الشيخ السندي أن تلميذه قد بلغ مرحلة علميَّة متقدِّمة . أراد ابن عبد الوهاب – رحمه الله - أن يستزيد من العلوم ، وأن يتعرَّف على جديدها ، وعلى العلماء الراسخين في العلم في بقية البلدان الإسلامية الأخرى ؛ فقرَّر أن يترك المدينة المنورة ليتَّجه إلى الدراسة في البصرة ، وبالفعل ارتحل إليها ، وحينما حطَّ رحاله فيها قرَّر أن يدرس على أكابر علمائها الراسخين ؛ كالشيخ العلامة محمد المجموعي ، الذي أثَّر في حياته تأثيرًا كبيرًا؛ حيث قرأ الإمام على يديه الكثير من كتب النحو واللغة والحديث . وفي البصرة بدأت مرحلة جديدة في حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله ، إنها مرحلة الجهر بما يؤمن ويعتقد ؛ فلقد رأى في البصرة أمورًا أطمَّ وأعظم مما رآه سابقًا في المدينة المنورة ، فقرَّر من توِّه أن يُحَدِّث الناس عن خطورة البدع والخرافات؛ كإنزال التضرُّع والحاجات بسكان القبور، مستشهدًا بكتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح ، لكن ذلك لم يُجْدِ مع أقوام تربَّوْا وأُشْرِبُوا في قلوبهم البدع والضلالات ؛ ومن ثَمَّ قُوبِلَ الإمام بالتكذيب والوعيد ، ولم يتوقَّف الأمر عند هذا الحدِّ ؛ بل تعرَّض الشيخ للضرب والسبِّ ، حتى أُخْرِجَ من البصرة قسرًا بعدما أمضى بها أربع سنوات كاملة ، ولم يكتفِ أهل البصرة بما فعلوه بالإمام، بل أنزلوا بشيخه المجموعي البلاء والضيم ! فأراد ابن عبد الوهاب أن يستكمل مسيرته العلمية والعملية ، فقصد بلد الزبير[11] ، وقد واجهته الكثير من الصعاب في طريقه إليها ، وبعد عناء الوصول استطاع أن يأخذ منها حاجته ؛ وقد فكَّر جدِّيًّا في التوجُّه ناحية الشام لاستكمال رحلته في طلب العلم ، غير أن نفقته قد أوشكت على النفاد فاضطرَّ إلى الرجوع إلى بلده ، وفي طريق عودته أتى الأحساء ، فنزل بها عند الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف الشافعي ، وقرأ عنده بعض الكتب الشرعيَّة ، ثم توجَّه إلى حُريملاء وكان ذلك في عام 1143هـ وكان والده – رحمه الله - قد انتقل إليها منذ عام (1139هـ) ، فلازم أباه ، واشتغل في علم التفسير والحديث ، ثم عكف على كتب الشيخين : شيخ الإسلام ابن تيمية ، والعلامة ابن القيم رحمهما الله ، فزادته تلك الكتب القيِّمة ، علمًا ونورًا وبصيرة ، وكانت المنطلق الذي استمدَّ منها مبادئ دعوته [12] .
دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في حريملاء :
بدأت أولى إرهاصات الدعوة في حريملاء ؛ ليتمثَّل محمد بن عبد الوهاب – رحمه الل ه- خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد بدأ أوَّلاً بدعوة عشيرته الأقربين ، ثم دعوة قومه ، فأجلى لهم حقيقة التوحيد الخالص لله عز وجل ؛ إذ لا يُدعى إلاَّ الله وحده لا شريك له ، ولا يُذبح ولا يُنذر إلاَّ له، وأن عقيدتهم في تلك القبور والأحجار والأشجار - من الاستغاثة بها ، وصرف النذور إليها ، واعتقاد النفع والضرِّ منها - ضلالٌ وبهتان .واستمرَّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - يُدافع عن دعوته ، فينشرها بين الناس بالحكمة والموعظة ، متخذًا كتاب الله سبحانه وتعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم منهاجًا ودليلاً ؛ حتى أصبح الأمر مثار نقاش وجدال بينه وبين والده وأخيه سليمان ، الذي اقتنع بحقيقة دعوة أخيه في أواخر حياة الشيخ كما سيأتي بيانه .وكان أهل حريملاء قبيلتين ، أصلهما قبيلة واحدة ، كلٌّ منهما يدعي لنفسه القوة والغلبة والكلمة العليا، ولم يكن لهم رئيس واحد يجمعهم تحت كلمته ، وقد كان في البلد عبيد لإحدى القبيلتين ، كثُر تعدِّيهم وفسقهم، فأراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله - أن يمنعهم من الفساد ، وينفِّذ ما أنزله الله عز وجل في كتابه ، فهمَّ العبيد أن يفتكوا بالشيخ ، ويقتلوه سرًّا بالليل ، فلما تسوَّروا الجدار علم بهم الناس فصاحوا بهم فهربوا [13] . مكث الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في حريملاء تلك السنين يدعو الناس في ثبات وصبر، وقد أنتج فيها كتابه الشهير (التوحيد)[14] ، ثم قرَّر ابن عبد الوهاب – رحمه الله - أن ينتقل إلى العيينة حينما أيقن أن بقاءه في حريملاء لم يَعُدْ يُجدي نفعًا ، وكان ذلك في بدايات عام (1157هـ) [15] .
محمد بن عبد الوهاب في العيينة :
انتقل الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - إلى مسقط رأسه العيينة ؛ حيث كان حاكمها وقتئذٍ عثمان بن حمد بن معمر، وقد تلقَّى ابن معمر الإمام بكل إجلال وإكرام ، ثم ما لبث الشيخ أن شرح له حقيقة دعوته القائمة على دعائم الكتاب والسُّنَّة المطهَّرة ، وأن غايته من هذه الدعوة تعليم الناس أصول دينهم على دعائم التوحيد ، ونبذ الشرك والقضاء على مظاهره، وبشَّرَه بالسداد والتوفيق وزعامة نجد إن نصر كلمة التوحيد وأعلاها . قَبِلَ عثمان بن معمر أن يكون أحد رجالات الدعوة ، وقد تسنَّى للشيخ أن يدعو إلى إفراد العبادة لله دون قيد أو شرط، وضرورة التمسُّك بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، وفي تلك الأثناء تزوج الشيخ الجوهرة بنت عبد الله بن معمر .
بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب وابن معمر :
كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله - يرى أن أحد الأسباب القوية لنجاح الدعوة يكمن في توحُّد بلاد نجد تحت قيادة واحدة ، وكان يعرف جيدًا أنه ليس من السهل نشر الدعوة في البلاد القاصية والدانية في مدة قصيرة إلا بحماية أمير ذي قوة ونفوذ ، فلا يخفى على ذوي العقول والألباب أن القوة المادية لها أهمية عظيمة في نشر الدعوات والأفكار مع القوة المعنوية والحجج والبراهين ؛ لأن أي دعوة إذا لم تكن لديها من القوة ما يحميها ويذود عنها ، سرعان ما تتكالب عليها قوى الشرِّ والطغيان حتى تستأصل خضراءها ؛ ومن ثَمَّ استعان الشيخ بابن معمر الذي أعانه في هذا الجانب .
هدم قبة زيد بن الخطاب :
وبدأ الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله - في أخذ مجموعة من الإجراءات العملية المهمة في سبيل نشر الدعوة ؛ إذ قطع الأشجار التي عظَّمَها الناس ، وما لبث الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - أن هدم قبة زيد بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد كانت مقصدًا للعامة يستشفعون بها، ويلجئون إليها، وقد ذكر ابن بشر قصة الهدم في كتابه (عنوان المجد) فقال : " قال الشيخ لعثمان : دعنا نهدم هذه القبة التي وُضعت على الباطل ، وضلَّ بها الناس عن الهدى .فقال : دونكها فاهدمها .فقال الشيخ : أخاف من أهل الجبيلة أن يوقعوا بنا ، ولا أستطيع أن أهدمها إلا وأنت معي .فساعده عثمان بنحو ستمائة رجل ؛ فلما قربوا منها ظهر عليهم أهل الجبيلة يريدون أن يمنعوهم، فلما رآهم عثمان علم ما همُّوا به فتأهَّب لحربهم، وأمر جموعه أن تتعزل للحرب ؛ فلما رأوا ذلك كفُّوا عن الحرب وخلوا بينهم وبينها. ذُكر لي أن عثمان لما أتاها قال للشيخ : نحن لا نتعرَّضها . فقال : أعطوني الفأس . فهدمها الشيخ بيده حتى ساواها، ثم رجعوا فانتظر تلك الليلة جُهَّال البدو وسفهاؤهم ما يحدث بسبب هدمها ، فأصبح (الشيخ) في أحسن حال " [16] .
قطع الأشجار وإقامة الحدود :
كما قطع الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - شجرة قريوة وأبو دجانة و الذيب وذلك بمساعدة عثمان بن معمر، وأقام الحدَّ على امرأة اعترفت بالزنا وَفْقًا لشرع الله تعالى [17] .
إحياء الصلوات مع الجماعة :
و أمر ابن عبد الوهاب – رحمه الله - عثمان بن معمر بإحياء الصلوات مع الجماعة وعُيِّنت عقوبات للمتخلِّفين ، وكان الأمراء يأخذون أنواعًا من الضرائب والرسوم فرفعها الشيخ ونفَّذ الزكاة فقط، وفي العيينة بدأ الشيخ يؤلِّف رسائل الدعوة المتسلسلة التي استمرَّت إلى وفاته ، وصار له بعض الأنصار في الدرعية فكان يُرشدهم ويُوَجِّههم من العيينة [18] . تزامن ذلك مع انتشار خبر قطع الأشجار المعظَّمَة ، وهَدْم قبة زيد بن الخطاب رضي الله عنه ، ورجم المرأة الزانية بسرعة كبيرة بين أهالي نجد ، وظنَّ الكثير من أهلها - نتيجة ضعف إيمانهم وسوء عقيدتهم - أن الإمام ومَنْ عاونه في عملية الهدم والقطع لا بُدَّ أن يُصابوا بمكروه جرَّاء فعلتهم هذه ! وانتظر العامة - لجهلهم - ليروا مصير الإمام ، عسى أن يُصيبه مكروه نتيجة هدمه للقباب والأشجار المقدسة ! لكنَّ الله بدَّد أوهامهم ؛ فتسارعوا يُقْبِلُون على الدعوة جماعات وأفرادًا ، وكانوا عونًا للشيخ على نشرها بكل حبٍّ وإخلاص . و قد حرص – رحمه الله - أن يُزيل كل ما كان في البلاد الخاضعة لابن معمر من المشاهد والأوثان والقباب ، وقطع ما كان فيها من الأشجار المقدَّسة .
مؤامرة لقتل الإمام محمد بن عبد الوهاب :
ترتَّب على هذه الأحداث المتتابعة أن تنادى رؤساء القبائل والبلدان الكبرى في نجد للوقوف ضدَّ مخاطر الدعوة ، أو بالأحرى مخاطر إقامة شرع الله وحدوده ؛ فهذه الحركة الإصلاحية أخذت – في زعمهم - تهدِّد نفوذهم في مقرِّ دورهم ؛ لأن انتصارها معناه أفول سلطانهم الخاسر، وإفلات زمام الأمور من أيديهم ؛ خاصَّة وأن الدعوة بدأت تؤتي ثمارها في نجد [19] . وكان على رأس الناقمين سليمان بن محمد بن عريعر الحميدي - حاكم الأحساء وبني خالد - الذي أيَّده فريق كبير من الجهلاء وأصحاب المصالح وذوي النفوذ ؛ هؤلاء الذين تحجَّرت عقولهم بعد أن امتلأت بالخرافات والبدع ، فانطلقوا يُقَاومون الدعوة وصاحبها، ويوغرون صدور مشايخ القبائل حقدًا وحسدًا . وما لبث سليمان الحميدي أن بعث إلى عثمان بن معمر كتابًا على عجل جاء فيه : " ... إن المطوِّع الذي عندك ، قد فعل ما فعل ، وقال ما قال ، فإذا وصلك كتابي فاقتله، فإن لم تقتله ، قطعنا خَرَاجَك الذي عندنا في الإحساء " . وقد كان على عثمان بن معمر أن يختار بين دعوة محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - وما تعاهدا عليه، وبين الخراج الذي يُقَدَّر بألف ومائتين دينار ذهبية ، ولم يفكر ابن معمر مليًّا فقد اختار الخراج ومتاع الدنيا مُضَحِّيًا بالدعوة وقائدها ، بل وأرسل إلى الإمام يخبره بكتاب سليمان ، قائلاً : " لا طاقة لنا بحرب سليمان " . وحاول الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - جاهدًا أن يُثني ابن معمر عن قراره هذا قائلاً له : " إن هذا الذي أنا قمتُ به ودعوتُ إليه كلمة لا إله إلا الله ، وأركان الإسلام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن أنت تمسَّكت به ونصرته فإن الله سبحانه وتعالى يُظهرك على أعدائك ، فلا يزعجك سليمان ولا يفزعك " [20] . فأعرض عنه عثمان ، وأرسل إليه مرَّة ثانية يخبره بأن : " سليمان قد أمرنا بقتلك ، ولا نستطيع مخالفته ، ولا طاقة لنا بحربه ، وليس من الشيم والمروءة أن نقتلك في بلدنا ، فشأنك ونفسك، وخَلِّ بلادنا " [21] . لقد وقع عثمان في فتنة الدنيا ، هذه الفتنة التي حذَّر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة ؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم : " وَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ " [22] .بل إن النبي صلى الله عليه و سلم يَخصُّ هذه الأمة بفتنة المال ، فيقول صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ " [23] .من أجل ذاك أُخرج الإمام من العُيينة قسرًا ، فلم يزده هذا الأذى إلا صبرًا وعزيمة ومُضيًّا، وهو يُرَدِّد قوله تعالى : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق : 2- 3] ، فكان يمشي على رجليه مُوَكَّلاً به فارس يمشي من خلفه ؛ لقتله والغدر به، ولم يكن مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - إلاَّ مروحة من خوص في حرِّ الصحراء الملهب ، فهمَّ الفارس بقتل الإمام ، وكان بإيعاز من ابن معمر ، فارتعدتْ يده وكفى الله شرَّه [24] .
....
-
سلسلة المجاهدون
عز الدين قلج أرسلان بن مسعود
النسب و القبيلة
هو عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن إسرائيل بن سلجوق بن دقاق التركماني .
النشأة و التربية
نشأ عز الدين قلج أرسلان في دولة السلاجقة ، وكان يعرف بين أقرانه بشدة ذكائه ، وكان يحتل مكانة متميزة بين أمراء دولة السلاجقة ، وقد رباه والده على حسن إدارة البلاد فقد ولاه حاكماً على البلاد المفتوحة في الجنوب الشرقي لآسيا الصغرى ، وذلك ليعرف كيف يسوس البلاد حتى لا تضعف دولته وتنهار إزاء التحديات التي تواجه دولته من الخارج أو الداخل ، وكان والده حريصاً على أن يوليه حاكماً على كل البلاد في حياته ، ونظرا لهذه التنشئة فقد عمل قلج أرسلان الثاني على النهضة ببلاده ثقافياً واقتصادياً لما يعلم أن في ذلك نهضة الأمم .
جهاده وأهم المعارك ودوره فيها
لم يذكر المؤرخون شيئاً عن حروب قلج أرسلان إلا أنهم قالوا أنه كان كثير الغزو في بلاد الروم ، أما الدكتور محمد سهيل طقوش فأورد في كتابه - سلاجقة الروم في آسيا الصغرى - حروباً لقلج أرسلان الثاني مع الروم معتمداً على المصادر الأجنبية .
ورث قلج أرسلان الثاني الدولة عن أبيه وهي محاطة بالأخطار من الداخل والخارج، فقام بإجراء معاهدت للصلح بينه وبين ياغس سيان وشاهنشاه ، ومع بلدوين ملك بيت المقدس ، ومع الأرمن ، وكانت هذه المعاهدات حتى لا يطعن من الخلف أثناء قتاله للبيزنطيين ، إلا أن هذه المفاوضات لم تنجح إلا مع الأرمن لكسب ود عز الدين قلج أرسلان ، ورأى مانويل البيزنطي أن هذا التحالف موجه ضده ، وتحققت مخاوفه من هذا الخطر، خاصة بعد توحد الجبهة الداخلية بين الدانشمنديون والسلاجقة الذين تناسوا الخلافات في هذه المرحلة ، وتوحدوا لمواجهة الخطر البيزنطي ، وكانت بدايات الحرب أن هاجم السلاجقة البيزنطيون وتمكنوا من فتح (سلوقية ، ولارندة) الواقعتين في الجزء الجنوبي الشرقي من آسيا الصغرى ، وتوسع الدانشمنديون في الأقليم الشمالي الشرقي فاستولوا على مدينتي (يونة وبافرا) الواقعتين في إقليم البنطس .
كانت هذه أولى المعارك بين قلج أرسلان وبين مانويل البيزنطيني، طلب الأخير الصلح لأن مصلحته كانت تقتضي محاربة الأرمن ، وفي ذات الوقت أراد بلدوين الثالث في بيت المقدسمن يسانده في حربه ضد نور الدين محمود فلم يكن أمامه إلا بني جلدته ومن على دينه مانويل فراسله ووافق مانويل واتجه إلى الشام ، واستطاع نور الدين محمود أن يعقد معاهدة مع مانويل البيزنطي ، وكان هذا الصلح رغم قوةنور الدين محمود حتى لا تقع بلاده تحت عدوين هما (بلدوين ، ومانويل) .
بعد هذا الصلح اتجه مانويل من أنطاكية إلى أرمينية الصغرى ، ورغم سهولة السير في الطريق إلا أنه كان محفوفاً بالمخاطر لأنه يمر عبر الأراضي السلجوقية، ولعل سلوكه في هذا الطريق اعتماداً على الصلح الذي عقده مع قلج أرسلان ، أو اغتر بما حققه من نصر في أرمينية الصغرى، وفي بلاد الشام ، وفي الطريق وعند اقتراب الجيش البيزنطي من مدينة قونية أصاب أهلها الرعب فقد ظنوا أنمانويل يريد حصارهم إلا أنه لم يتعرض لهم متابعاً سيره إلى فيلوميليوم ، وعندما وصل إلى كوتاهية هاجمته جماعات من التركمان ، وفتكت بمؤخرة جيشه، فوصل الجيش إلى القسطنطينة وهو منهك من جراء هذا التصرف ، وجرحت هذه المضايقات كبرياء مانويل فعزم على قتال السلاجقة فجهز حملته عابراً إلى آسيا الصغرى بعد ثلاثة أشهر من عودته وذلك في عام554هـ ، لينتقم من السلاجقة فتوجه أولاً إلى إقليم بيثينيا حيث تقيم القبائل التركمانية التي اعترضت طريق أثناء عودته من الشام ، واجتاز بعد ذلك بحر سيستوس ، واستولى على بعض المدن ، وهاجم الفرق السلجوقية المسلحة في وادية نهر تمبريس ، تحرك قلج أرسلان الثاني بسرعة حتى أصاب من الجيش البيزنطي وكان تحركه سريعاً حتى أن كشافة الجيش البيزنطي عجزت عن تحديد مكانه ، لقد دافع السلاجقة عن بلادهم ووقفوا إزاء الخطر البيزنطي الذي هدد بلادهم ، واضطر مانويل بالانسحاب قافلاً إلى عاصمته خاصة بعد دخول فصل الشتاء ومرض زوجته التي ما لبثت أن توفيت .
اراد قلج أرسلان إقامة معاهدة بينه وبين مانويل إلا أن الأخير رفض ذلك وبدأ في تجهيز جيش لمحاربة السلاجقة وفي نفس الوقت طمع ياغي سيان في السلاجقة فبدأ بمحاربته واجتاح ملطية ووجد مانويل الفرصة سانحة لغزو السلاجقة بعد اجتياح ياغي سيان ، وأيضاً بدأ نور الدين محمود بمهاجمة السلاجقة ، ونجح الأخير في السيطرة على (بهنسا، ورعبان ، وكيسوم، و مرعش ، وهاجم بعض المدن الأخرى .
أضحى قلج أرسلان مهدداً من ثلاث جبهات ، وكان مدركاً أنه لا يستطيع المحاربة في الجبهات الثلاث ، فعمل على الصلح مع ياغي سيان ونجح في ذلك ، بعد تنازله للأخير عن البستان والمناطق المحيطة بها في جبال اللكام .
وتوصل أيضاً إلى صلح مع نور الدين محمود وبذلك استطاع توحيد الجبهة الداخلية ، ليتمكن من جيش مانويل الذي جمع فيه المرتزقة وحشد جيشاً غايته القضاء على السلاجقة ، تحرك مانويل على رأس جيش ضخم فاجتاح وادي المياندر، وتحرك يوجنا كونتوستيفانوس ، في الوقت نفسه ، من قليلقية باتجاه الأناضول فاجتاز الدروب القليلقية ، مما جعل قلج أرسلان يقسم جيشه إلى قسمين لمواجهة الجيوش البيزنطية مما كان له أثراً كبيراً على إضعاف جبهة قلج أرسلان القتالية .
فاجأ مانويل السلاجقة حين أغار على أراضيهم انطلاقاً من فيلادفيا ، لأن الأخبار التي وصلت إلي إلى قلج أرسلان كانت غير ذلك، فاستطاع أن يمتص غضبه وأعاد تنظيم قواته مما أذهل البيزنطيين ، ودخل في المعركة واتسمت أعماله بالكر والفر، وأجرى مانويل مفاوضات مع الأمراء المسلمين في المنطقة ليحاصر قلج أرسلان ويمنعه من حرية التحرك إلا أنه فشل في ذلك وأحبطت مساعيه بعد أن تفاهم معهم قلج أرسلان ، لقد عانى الجيش الصليبي من هجمات السلاجقة ومن وعورة المسالك الجبلية ، وأصابه التعب ولم يسترد قوته إلى بعد أن وصل إلى منطقة السهول واصطدم بالجيش السلجوقي وهزمه ، وتلقى السلاجقة ضربة ثانية من يوجنا كونتوستيفانوس ، مما جعل قلج أرسلان يطلب الصلح مع مانويل ، وبدأ الصلح بالشروط التي وضعها مانويل ، وأثناء الصلح تعرض يوجنا كونتوستيفانوس لكمين نصبته له قوات السلطان قلج أرسلان ، مما جعل مانويل يشدد في شروطه .
وكانت هذه المعاهدة لقلج أرسلان حتى يستطيع استرداد قوته من جديد ، وكان من شروط المعاهدة أن يزوره قلج أرسلان مرة في السنة فاستغلها السلطان ليتجسس على الدولة البيزنطية ويعرف مواطن الضعف والقوة ، ولا شك أن هذا الأمر يدل على حنكة سياسية .
لقد ظن مانويل أنه أخضع السلاجقة لسلطانه إلا أنه كان خضوعاً مؤقتاً ، استغله قلج أرسلان في صراعه مع الدانشمندين .
لم يرق لنور الدين محمود توسع قلج أرسلان في بلاد الأناضول فتحالف مع الدانشمند ، ومع أمراء الموصل وماردين وحصن زياد وحليفه الأرميني مليح حاكم قليقية ، وتماطل نور الدين محمود في الحرب حتى أراد الحلفاء مهاجمة السلاجقة دون نور الدين محمود،وكان هدف الأخير هو إتمام الوحدة الإسلامية ، ولم يشأ إضعاف دولة السلاجقة ، ودعاه إلى التحالف معه ضد الصليبيين إلا إن قلج أرسلان رفض التحالف مع نور الدين بسبب معاهدته مع البيزنطيين ، إزاء هذا الرفض لم يجد نور الدين مخرجاً من حربه مع قلج أرسلان ، فعسكر الفريقان على نهر بيراموس كل على ضفة واستمر هذا لأمر ستة أشهر دون قتال فبادر قلج أرسلان بمراسلة نور الدين للصلح ، فأجابه إلى الصلح ، وقال له اريد منك أموراً وقواعد مهما تركت فلا أترك منها ثلاثة : أحدها : أن تجدد إسلامك على يد رسولي حتى يحل لي إقرارك على بلاد الإسلام ، فإني لا أعتقد أنك مؤمن - وكان قلج أرسلان يتهم باعتقاد الفلاسفة ؛ والثاني : إذا طلبت عسرك للغزاة تسيره ، فإنك قد ملكت طرفاً كبيراً من بلاد الإسلام وتركت الروم وجهادهم وهادنتهم ، فإما أن تكون تنجدني بعسكرك لأقاتل الفرنج ، وإما أن تجاهد من يجاورك من الروم ونتبذل الجهد في جهادهم .
والثالث : أن تزوج ابنتك لسيف الدين غازي ولد أخي ، وذكر أموراً غيرها . فلما سمع قلج أرسلان الرسالة قال: ما قصد نور الدين إلا الشناعة علي بالزندقة ، وقد أجبته إلى ما طلب ، وأنا أجدد إسلامي على يد رسوله .
أراد مانويل بعد فراغه من مشاكله في أروبا أن يتوجه إلى آسيا الصغرى لإخضاعها ومن الواضح أن قلج أرسلان لم ينفذ بنود المعاهدة بينه وبين مانويل ، إلا أن قلج أرسلان قد استفاد من هذه المدة فقد نجح في كسب وقته في تجهيز الجيش وإقامة بعض التحصينات ، الدفاعية في وادي نهر المياندر ونهر هرس لتربط بين مدن المنطقة .
توترت العلاقة بين السلاجقة و البيزنطين خاصة بعد الصلح بين نور الدين والسلاجقة، وأتيحت فرصة الحرب بين السلاجقة وبين البيزنطين بعد أن لاحت في الأفق بعض العوامل التي تساعد على نشوب الحرب ومن هذه العوامل التجاء كل من شاهنشاه وذا النون إلى القسطنطينة و ترححيب الإمبراطور بهما ، مما أثار مخاوف قلج أرسلان ، وعلى الصعيد الأخر راسل إمبراطور ألمانيا فريدرك بربوسا قلج أرسلان ليحثه على قتال البيزنطيين ، و كان هدفه أن يتحول مانويل عن الاهتمام بمسائل أروبا .
اندلعت شرارة الحرب عندما طلب مانويل من قلج أرسلان إعادة بلاد شاهنشاة وذا النون إليهما بالإضافة إلى المدن التي كان قد وعد بتسليمها له، وهنا تظهر حنكة هذا الرجل السياسي فعمد إلى خطة ذكية وهو عازم على عدم تنفيذ مطالب الامبراطور، وحتى يُظهر حسن نواياه طلب من مانويل إرسال من يتسلم هذه المدن ، وراسل هو أهلها بأن لا يسلموها لرسول مانويل مما اعتبره مانويل خدعة ومكر من قلج أرسلان ، ففكر جدياً في الحرب واستخدام القوة ، وأراد شاهنشاه أن يستغل الحملة البيزنطية ليسترد أملاكه آتي ضمها قلج أرسلان إلى ملكه ، فحرض الإمبراطور على مهاجمة أماسية، إلا أن مانويل لم يكن لديه استعداد لخوض حرب جانبية فأرسل غابراس إلى المدينة وانضم إليه شاهنشاه مع قواته ، وسار الجيشان بشكل منفصل مما يسر على قلج أرسلان مهمته فقد هاجم جيش شاهنشاه من الخلف واستطاع أن يلحق به الهزائم واضطره إلى الرجوع ، إلا أن غابراس نجح في الوصول إلى أماسية ورحب به أهلها لو لم يدخل المدينة خوفاً من أن يحاصره قلج أرسلان فقرر الانسحاب واستولى قلج أرسلان على المدينة مرة أخرى ، بعد أن فشل في إخضاع قلج أرسلان عمد مانويل إلى تحصين مركز الحدود لإغلاق المداخل إليها إلا أن عمله هذا جاء متأخرأ وبعد أن استولى قلج أرسلان على كل آسيا الصغرى ، أراد قلج أرسلان أن يستفسر عن هذه الأعمال فقد أعدها سوء نية من الامبراطوار، فـلاسل إليه مانويل أنه هو الباديء بالعدوان ، وأنه كان السبب في فشل غابراس في مهمته، ولم يشأ السلطان في قطع العلاقات فأرسل سقيراً يعرض عليه الصلح مرة أخرى إلا أن مانويل يقابل هذا السفير بالرفض لأن السلطان لا يحترم تعهداته، وبات أمر الحرب واضحاً لا يخفى على أحد، فأخذ كل منهما أهبته للحرب القادمة وأراد مانويل أن يضفى على حملته طابع الصليبية ليتعاطف معه النصار ويكبهم في صفه ، وراسل البابا لإرسال نجدات إليه خاصة وأنه استطاع أن يؤلف جيشاً من جنسيات متعددة وسر البابا لهذه الحملة الجديدة على بلاد الإسلام، ولم يكن يعرف البابا أن هذه الحملة ستلقى أشد العذاب بأيدي المؤمنين .
تقدم مانويل إلا بلاد السلاجقة ولم يكن يعرف هذا المسكين أن الهزيمة تلاحقة ، فقسم جيشه إلى قسمين تولى أحدهما ابن عمه فاتازس ومعهذا النون حاكم سيواس ، وكانت مهمته إعادة بلاد ذا النون إليه ، وضرب هذا الجيش حصاراً مركزاً على إقليم بافلاجونيا ، ولما رأى قائد الحامية أنه لا طاقة له بهذا الجيش عمد إلى خدعة فقد ألقى أصحاب الإقليم تجاه البيزنطيين ما يشككهم في الدانشمندين ، وبخدعتهم بعد أن يأخذوا بلادهم فصدق قائد الفرس هذه الشائعة مما كان له أثراً كبيراً في نفوس الجيش البيزنطي خاصة بعد الشائعة الثانية والتي انطلقت بموت مانويل ، فاضطر فاتازاس لفك الحصار وانصرفوا في غير نظام فتتبعهم أهل المدينة فكبدوهم خسائر فادحة كان من بينها القائد فاتازاس الذي حملت رأسه إلى قلج أرسلان .
تلقى مانويل هذه الهزيمة بانزعاج شديد وظن أن العاصمة السلجوقية خالية من حامية تحميها وأن الجيش السلجوقي لا زال في الشمال ، فانطلق نحو العاصمة السلجوقية واتخذ ممر تبزيبرتز الضيق ، والذي يقع في نهاية حصن ميريوكيفالون ليكون في مواجهة قونية مباشرة .
تابع قلج أرسلان تحركاتن هذا الجيش حتى وصل لاإلى الممر الضيق وحشر فيه وحاولوا الخروج منه بسرعة مما أوقعهم في زحام شديد ، وكانت القوات السلجوقية فوق التلال تنتظر هذه اللحظة إلا أن بلدوين هاجمهم واستطاعوا القضاء عليه وعلى جنوده وقتله ثم نزلوا إلى الممر حيث جيش مانويل الذي يقوده بنفسه وهو القسم الثاني من جيشه الذي اقتسمه ودارت الحرب من طرف واحد فلم يعد بمقدور البيزنطيين حمل السيف ، وعملت فيهم سيوف المؤمنين تحصد أرواحهم ، حتى وصلوا إلى موكب مانويل وجده قد هرب بعد تشتيت جيشه ، وكانت حالة الجيش البيزنطي في حالة يرثى لها فقد كان من بين قتيل أو أسير أو جريح، أو مشرد هائم على وجه في الشعاب ، لم يجد مانويل في هذا الوقت إلا الصلح مع قلج أرسلان .
تعد معركة ميريوكيفالون من المعارك المهمة في التاريخ الإسلامي ، لقد أوهم مانويل الغرب بأن هذه المعركة كانت أقل خسارة من معركة مانزكريت التي حدثت قبل مائة عام ، فقد استطاع أن ينجو بنفسه بينما وقع سلفه في الأسر .
لقد تحطمت القوة العسكرية البيزنطية والتي استغرق بناؤها أعوام عديدة والواقع أنه لم يتم بناؤها مطلقاً ، وكشفت هذه المعركة عن ضعف القوة البيزنطية من الناحية العسكرية فضاعت هيبتها كحامية للإمارات الصليبية .
استثمر السلطان هذه المعركة ليدلل على صدق إيمانه بالله عز وجل بعد اتهامه باعتناق مذاهب الفلاسفة والتقاعس عن الجهاد ، وأرسل جزءاً من الغنائم إلى خليفة المسلمين ، ومدحه الشعراء على أنه بطل الإسلام .
قالوا عنه
أثنى عليه العلماء ووصفوه بأنه بطل الإسلام فقال عنه الذهبي : كان فيه عدل وحسن سياسة ، وسداد رأي .
و قال عنه صاحب الوافي بالوفيات : كان ذا سياسة وعدل وهيبة عظيمة وغزوات كثيرة في الروم .
وفاته
قسم قلج أرسلان بلاده بين أبنائه حتى يجنبهم الخلافات بعد مماته إلا أن بعض أبنائه قام بالحجر عليه ، وقوي عليه أولاده حتى لم يبق له معهم إلا مجرد الاسم لكونه شاخ ، فأقام عند ولده غياث الدين كيخسرو حتى توفي بقونية سنة 588هـ .
-
سلسلة المجاهدون
السلطان يعقوب بن عبد الحق
النسب والقبيلة
هو السلطان المجاهد يعقوب بن عبد الحق أبو يوسف المريني سلطان بلاد المغرب ، وقبيلة مرينة من بين قبائل العرب بالمغرب ويقال لها (حمامة) ، وكان مقامهم بالريف القبلي من إقليم تازة .
النشأة و المولد
ولد السلطان يعقوب بن عبد الحق في عام 609هـ، ونشأ ببلاد المغرب في قبيلة مرينة ، من الواضح أنه نشأ على الإسلام ، وكانت نشأته صحيحة وقويمة ، فكما يقول عنه " لسان الخطيب " في الإحاطة أنه كان سليم الصدر، مخفوض الجناح ، وكان ملكًا صالحًا ، فهذه الصفات لا تتأتى إلا من كانت نشأته إسلامية خالصة ، خاصة وقد رفع لواء الجهاد ضد النصارى المتربصين بالإسلام لأخذ الأندلس وتملكها من يد المسلمين ، ولن يتجاوب مع المسلمين في رفع راية الجهاد إلا من تربى ، ونشأ عليه .
جهاده وأهم المعارك ودوره فيها
استولى " الفنش " على جميع ما افتتحه المسلمون من معاقل الأندلس و ارتجعها ثم هلك " الفنش " وتولى ابنه ، وفي عهده ارتجع (قرطبة) و(إشبيلية) من أيدي (بني هود) وعلى عهده زحف ملك (أرغون) ، فارتجع شرق (الأندلس) كله (شاطبة) و(دانية) و(بلنسية) و(سرقسطة) ، وسائر الثغور والقواعد الشرقية .
ولما رأى المسلمون ما حل بهم ملكوا عليهم " محمد الفقيه بن الأحمر"، واستغاث بـ" يعقوب بن عبد الحق " سلطان بـني مرين لنجدته ضد النصارى ، فأجاب صريخه وأجاز عساكر المسلمين من بني مرين وغيرهم إلى الجهاد مع ابنه ، ثم جاء على أثرهم وأمكنه ابن هشام من الجزيرة الخضراء وكان ثائرًا بها ، فتسلمها منه ونزل بها وجعلها ركابًا لجهاده ، وأنزل بها جيش الغزو ، ولقي الجموع النصرانية بوادلك وعليهم " ذنبة " من أقماط " بني أدفونش " وزعمائهم ، فهزمهم " يعقوب بن عبد الحق " وبقيت فتن متصلة، ولم يلقه " يعقوب " وإنما كان يغزو بلادهم، ويكثر فيها العبث إلى أن ألقوه بالسلم ، وخالف على هراندة ملك قشتالة هذا ابنه سانجة ، فوفد هراندة على يعقوب بن عبد الحق صريخًا وقبّل يده ، فقَبِل وفادته وأمده بالمال والجيش ورهن في المال التاج المعروف من ذخائر سلفهم .
وكان أول ما افتتحه وخلصه من أيدي النصارى مدينة (سلا) ، وفتك في بعض غزواته بملك من النصارى يقال له ذوننه ، ويقال : إنه قتل من جيشه أربعين ألفًا ، وهزمهم أشد هزيمة ، ثم تتابعت غزواته بالأندلس وجوازه للجهاد ، وكان له من بلاد الأندلس رندة والجزيرة الخضراء وطريف وجبل طارق وغير ذلك ، وأعز الله تعالى به الدين بعد تمرد الفرنج المعتدين .
وفاته
توفي السلطان " يعقوب بن عبد الحق" في الجزيرة الخضراء من الأندلس، وهو بعسكره للجهاد عند الزوال يوم الثلاثاء الثاني والعشرين لمحرم سنة 685هـ ، وله خمس وسبعون سنة .
قالوا عنه
أثنى عليه لسان الخطيب فقال : كان ملكًا صالحًا، سليم الصدر، مخفوض الجناح، شارعًا أبواب الدالة عليه منهم ، أشبه بالشيوخ منه بالملوك ، في إخمال اللفظ، والإغضاء عن الجفوة ، والنداء بالكنية [1] .
المصادر :
[1]: البداية والنهاية - المختصر في أخبار البشر
- الإحاطة في أخبار غرناطة - تاريخ ابن خلدون
- النفحة النسرينية و اللمحة المرينية .
-
سلسلة المجاهدون
السمح بن مالك الخولاني
نشأته
نشأ السمح بن مالك الخولاني بين ثلة من السلف الصالح ، فنهل من أخلاقهم وتربى على أيديهم ، حتى صار علمًا من الأعلام ، وكان من عادة بني أمية إذا أتاهم الخراج لا يضعوه في بيت المال حتى يشهد عليه عشرة من المسلمين أنه ليس غلول ، وأن الجند أخذوا حقهم. ولما وصل خراج ولاية إفريقية واستحلفوا الشهود ، فأقسم ثمانية ولم يشهد اثنان هما إسماعيل بن عبيد الله والسمح بن مالك الخولاني ، فأعجب عمر بن عبد العزيز بنزاهتهما وكان حاضرًا في مجلس سليمان بن عبد الملك، فلما تولى أمر المسلمين استعان بهما في ولاية الأمصار ، فأرسل السمح بن مالك إلى الأندلس .
جهاده وأهم المعارك ودوره فيها
لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة استعمل على الأندلس السمح بن مالك الخولاني ، وأمره أن يميز أرضها ويخرج منها ما كان عنوةً ويأخذ منه الخمس، ويكتب إليه بصفة الأندلس ، وكان رأيه إقفال أهلها منها لانقطاعهم عن المسلمين . فقدمها السمح سنة مائة في رمضان ، وفعل ما أمره عمر[1] .
وما إن استقرت الأوضاع في الأندلس حتى عزم السمح بن مالك على الجهاد فعبأ الجيوش للغزو ونشر دين الله طالبًا الشهادة ، مشتاقًا إلى جنة الرحمن، فاخترقت جيوش السمح جبال ألبرت من الشرق ، وسيطر على عدد من القواعد هناك، واستولى على "سبتمانيا " في جنوبي فرنسا، وأقام بها حكومة إسلامية ، ووزع الأراضي بين الفاتحين والسكان ، وفرض الجزية على النصارى ، وترك لهم حرية الاحتكام إلى شرائعهم ، ثم زحف نحو الغرب ليغزو " أكوتين ".
وكانت مملكة الفرنج حينما عبر المسلمون إلى غاليا (فرنسا) تفتك بها الخلافات والحروب بين أمرائها ، غير أن الأمير " أدو" دوق أكوتين كان أقوى أمراء الفرنج في غاليا ، وأشدهم بأسًا ، نجح في غمرة الاضطراب الذي ساد المملكة أن يستقل بأكوتين ، ويبسط نفوذه وسلطانه على جميع أنحائها في الجنوب من اللوار إلى البرنية .
فلما زحف السمح بن مالك إلى الغرب ليغزو أكوتين قاومه البشكنس -سكان هذه المناطق - أشد مقاومة، لكنه نجح في تمزيق صفوفهم ، وقصد إلى تولوشة أو تولوز . وفي أثناء سيره جاءت الأخبار بأن الدوق "أدو" أمير أكوتين جمع جيشًا كبيرًا لرد المسلمين ، وإخراجهم من فرنسا، فآثر السمح بن مالك ملاقاة عدوه - على كثرة عددهم - عن مهاجمة تولوشة ، والتقى الفريقان بالقرب منها ، ونشبت بينهما معركة هائلة في (9 من ذي الحجة 102هـ/ 9 من يونيو 721م) ، سالت فيها الدماء غزيرة ، وكثر القتل بين الفريقين، وأبدى المسلمون - رغم قلتهم - شجاعة خارقة وبسالة وصبرًا .
وتأرجح النصر بين الفريقين دون أن يحسم لصالح أحد من الفريقين ، حتى سقط "السمح" شهيدًا من على جواده ، فاختلت صفوف المسلمين ، ووقع الاضطراب في الجيش كله ، وعجز قادة الجيش أن يعيدوا النظام إلى الصفوف ، وارتد المسلمون إلى " سبتمانيا "، بعد أن فقدوا زهرة جندهم، وسقط عدد من كبار قادتهم .
وفاته
أخذ السمح الخولاني في استكمال الفتوح في جنوب غرب فرنسا ، وفي ذات الوقت أرسل يعلِّم الناس الإسلام ، سواء في فرنسا أو في الأندلس ، إلى أن لقي ربه شهيدًا في معركة تولوز بطرسونة يوم عرفة سنة 102هـ/ 9 من يونية 721م [2] .
قالوا عنه
وصفه الحميدي بحسن السيرة والعدل في قسمة الغنائم [3] .
المراجع :
[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3/14.
[2] المقري التلمساني : نفح الطيب 3/15، ابن عذاري : البيان المغرب 2/26. وذكر الحميدي في جذوة المقتبس أنه استشهد في يوم عرفة سنة 103هـ . 6/ 236، 237.
[3] المقري التلمساني : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 3/16.