حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني
حول العالم على كرسي متحرك "1"
أحبتي الكرام هذه سياحة جديدة،في كتاب آخر،ونحن هنا نمارس سياحة في سياحة،فالكتاب – وعذرا لرفع الكلفة والقول "كتاب"هكذا بدون ألقاب ,, ولكن المقامات محفوظة – هو نفسه سياحة أو رحلة :(حول العالم على كرسي متحرك) قام بالرحلة الأستاذ حسين القباني،والكتاب من نشر شركة مكتبات عكاظ للنشر والتوزيع،في طبعته الأولى سنة 1401هـ / 1981م. سوف ندخل إلى الكتاب عبر بوابته،أي عبر المقدمة :(كل إنسان في هذه الدنيا،منذ أن وجدت الدنيا يحلم بالتنقل من مكان إلى آخر .. ومن كهف إلى كهف .. ومن بيت إلى بيت .. ومن مدينة إلى أخرى ... ومن بلد إلى بلد آخر .. بشرط أن يعود في النهاية إلى وطنه مهما طالت غيبته عنه ..حتى التجمعات الزراعية التي من طبيعة أهلها الاستقرار .. إن الفلاح ربما لا يفكر جديا في الخروج من أرضه لأي سبب .. ولكن من المؤكد أنه يحلم بالعالم الخارجي .. العالم المحيط بهذه الأرض،بكل ما فيه من خلائق ومناظر .. من شوارع .. وأزقة .. من عمارات شاهقة وقصور فاخرة .. من تقاليد وطباع .. وقد يقتصر الحلم على زيارة أقرب مدينة إلى قريته .. وقد يتمادى إلى زيارة عاصمة إقليمه .. وقد يسرف في التمادي لزيارة عاصمة بلاده ليعود إلى أبناء قريته هتفا (يا خلق الله).. وأنا كأي إنسان،كانت لي أحلامي في التّرحل .. في رؤية العالم .. أيا كان – هذا العالم،محليا أو دوليا .. ولعل محنة المرض المزمن الذي لا زمني منذ صباي كانت أدعى إلى إذكاء هذه الأحلام .. وما أكثر الساعات التي عشت فيها حالما يقظا .. وما أكثر اللحظات التي كنت أثوب فيها إلى رشدي وأهز رأسي يأسا وأنا أجد نفسي عاجزا عن الانتقال من مقعد إلى مقعد في نفس الغرفة أو من غرفة إلى أخرى في نفس البيت .. ولجأت إلى الكتب لأحقق فيها أحلامي .. لاسيما كتب الرحلات والمغامرات .. كتب ألكسندر ديماس ورايدر هاجارد وتشارلس ديكنز .. جزيرة الكنز في صباي .. سجين زنده في شبابي .. و"كنوز الملك سليمان: .. و"عائشة" .. و"عودة عائشة" .. وأخذت أطوف بأحلامي مع هذه الكتب مناطق القطب الجنوبي لأعيش مع الإسكيمو .. وأتسلق الجبال لأعيش مع سكانها في سويسرا،وأمرق بالسيارة بين الغابات لأنتشي بصمتها ورهبتها .. وأحلق في السماء بطائرة أتوقع في كل لحظة أنها ستسقط بي .. وطالت أحلامي سنوات وسنوات حتى تبلورت شخصيتي وتركت كتب الروايات والمغامرات إلى ما هو أهم وأجدى في حياة الأديب .. ولكن الأحلام .. مجرد الأحلام .. كانت تقتحم عليّ خلوتي إلى نفسي. كلما قرأت لزميل لي كتابا عن رحلة قام بها){ص 1 - 2}.ثم جاءته الفرصة،فسافر إلى لندن للعلاج،فألف كتابا آخر {50 يوما في لند}غير هذا الذي بين أيدينا.وبعد هزيمة 1967،عكف على دراسة القضية العربية والدور الذي تلعبه الصهيونية،وأعد بعض الدراسات باللغتين العربية والإنجليزية .. (واتصلت بالسيد مدير الإعلام الخارجي بجامعة الدول العربية. وقدمت له مشروع الرحلة،والدراسات،والأهداف منها .. ووافق السيد المدير،وقرر أن يرسل خطابات إلي مكتبي الجامعة في باريس وروما ليقدم المسؤولون فيها كل التسهيلات اللازمة،مع الاستفادة مني إعلاميا ... وهكذا أصبح للرحلة هدف أساسي وطني .. بجوار الأهداف الأخرى .. ولم يكن من بين هذه الأهداف،أي هدف له علاقة بالسياسة – لأني – بكل وضوح لا أحب السياسة،ولا أفهم لعبتها،ولم أفكر يوما أن أكون أحد لا عبيها (..) وإذا كان القلم قد جنح في الحديث عن موقف بعض الحكومات أو الأفراد منها،فإن له بعض العذر .. لأنه قلم في يد إنسان .. والإنسان يسعده الموقف الكريم فيتغنى به،ويشقيه الموقف اللئيم فلا يسعه إلا التنديد به ... فلا عجب إذا تملكتني أريحية إنسان كريم ... ولا عجب إذا أسخطني موقف إنسان لئيم .. وفي كل الأحوال،أشهد الله على صدق ما أكتب عن هذا أو ذاك .. والله ولي التوفيق.){ص 3 - 4}.هذه الرحلة كانت سنة 1970م. وقبل أن نفسح المجال للأستاذ(القباني) ليسرد علينا وقائع الرحلة،أو نصحبه فيها ... أشير إلى ملاحظتين : أعتقد أنني قرأت عددا لا بأس به من الرحلات،وتحتفظ الذاكر بصورة سلبية تتمثل في تغييب الحديث عن شعائر الدين!! طبعا باستثناء المتدينين أصلا ،ولكنني أتحدث عن الكاتب المسلم العادي... حتى عندما يدخل مسجدا ففي فإنه يدخله كسائح!! أما الملاحظة الثانية،فتتعلق بكثرة حديث المؤلف عن النساء والنظر إليهن ... ومع أنني أعلم تماما لماذا يصر تيار معين،على تعرية المرأة وتتركز كل مطالبه – تقريبا - على ما يتعلق بعريها أو الاختلاط بها،أعلم ذلك،ولكنني سوف أكثر النقل من هذه الرحلة،لكي تتضح الصورة لدى من لا زال يسأل : لماذا كل هذا التركيز على المرأة؟! مع لفت النظر إلى أن الكاتب ليس قادما من مجتمع متزمت مغلق،متلفعة نساؤه بالسواد ... لذلك تبدو قضية مطالبة ذلك التيار بالاختلاط وبعري النساء (عادلة) جدا!!! فهل من العدل أن يستمتع الرجال في العالم كله برؤية (البكينيات) أوأكثر أو أقل ... بينما يحتاج أحدنا إلى السفر خارج البلاد لمشاهدة ذلك؟!! أو يكتفي بمشاهدة الصور!!!!! مع ما سبق لا تمنعنا معرفتنا بأهداف التيار المشار إليه،من القول بأن التيار الآخر لا تنقصه المبالغة والتضييق فيما فيه خلاف فقهي. .. وإلى الرحلة. يقول الكاتب :(لن أطيل الحديث فيما أعددته للرحلة من اتصالات مع إدارة الإعلام بجامعة الدول العربية،ومن اختيار المرافقين،ومنهم ابنتي الطالبة بالتعليم الجامعي،ومن محاولات لتحويل مبلغ بسيط إلى العملة الصعبة لا يكاد يكفي ثمنا لبنزين سيارة مسافة خمسة آلاف كيلو متر ..وكان برنامجي في المرحلة الأولى أن أقطع نحو عشرة آلاف كيلو مترا في عشرة دول حول البحر المتوسط.وتذكرت – وأنا أقلب بين يدي المبلغ البسيط الذي تقرر أن أعيش به مع ثلاثة مرافقين أكثر من شهرين – بعض الزملاء المحظوظين الذين طافوا قبلي حول العالم واثبين من طائرة إلى أخرى. ومن مدينة في أقصى الغرب إلى أخرى في أقصى الشرق،تنتظرهم الشيكات السياحية والمبالغ المحولة بلا حساب،والفنادق الفاخرة التي يستقبلهم فيها صفوف من عمالها ....وهززت كتفي وأنا أحاول – مثل كل فقير مفلس – أن أقنع نفسي بأنه ليس بالمال يصنع الإنسان كل شيء،وأن الرحلة التي تكتنفها الصعاب والعقبات بسبب قلة المال هي الجديرة بأن تكون أكثر تشويقا وأكثر متعة ... وخيل إليّ أني أسمع في أعماق نفسي ضحكة ساخرة..!! وتمت جميع الإجراءات التي لن أطيل الحدث عنها،حتى تحدد يوم السفر،صباح الأحد – الثامن والعشرين من شهر يونيه .. ووصلت السيارة البيجو الاستيشن إلى باب المنزل .. وبدأت عملية نقل الحقائب الضخمة المحملة بالزاد والزواد إلى السيارة التي تقرر أن تحملنا إلى بنغازي .. ونظرت حولي لحظة الوداع ... أصدقاء كثيرون تركوا بيوتهم هذه الساعة المبكرة من الصباح لتوديعنا ... ابنتي تعانق أمها في لحظة وداع مؤثرة،فقد كانت تلك أول مرة تفترق عنها لمدة طويلة ...وتحركت السيارة وأنا أتمتم "اللهم سبحانك أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل". .. ونظرت إلى يساري ... إلى مرافقي الشاب إبراهيم سلامة .. صديق في سن الابن،ترك أعماله وزوجته ووالدته وإخوته وإخوانه ليصحبني في الرحلة .. مساهما في نفقاتها،لا لشيء أكثر من الحب والوفاء .. إن الدنيا لا تزال بخير .. وابنتي حنان. الطالبة بكلية الاقتصاد المنزلي،افترقت عن والدتها لأول مرة في حياتها،وقررت أن تتحمل مشاق السفر بسيارة أكثر من عشرة آلاف كيلو متر،لكي تتولى رعايتي صحيا .. ولكن هذا واجب الابنة .. كل ابنة نحو الأب .. كل أب .. والمرافق الثالث،الشاب محسن .. فشل في دراسته في مصر وقرر السفر إلى أوربا للتدريب على أعمال الفنادق .. ولكنه،بحكم ما بيننا من أواصر القربى،قرر أن يصحبني في رحلتي ليقوم بأعمال السكرتارية،ثم نفترق في أوربا،فيمضي إلى وجهته. وأعود إلى وطني بعد أن أكون قد أتممت الجزء الأول من الرحلة إن شاء الله .. ونظرت إلى السائق الليبي .. عمر .. شاب هادئ السمت. قليل الحديث .. ويزين بعض أسنانه – كالكثير من إخواننا الليبيين – بطرابيش فضية اللون. ){ص 5 - 6}.وبعد أن قضوا يوما في الإسكندرية،بحثا عن استكمال ركاب السيارة .. (وفي الساعة السابعة والنصف من صباح اليوم التالي كانت السيارة تحمل معنا،شابا اسكندرانيا واثنين من إخواننا الليبيين ... وتوكلنا على الله .. وفوجئت بالطريق بين العجمي وسيدي عبد الرحمن غير مستقر على حال .. في ارتفاع وانخفاض دائما ... وعمر السائق منطلق بالسيارة بسرعة تتجاوز المائة كيلو متر في الساعة .. وكلما مرت السيارة على مهبط في الطريق،ارتفعنا نحن من مقاعدنا إلى السقف .. ولولا استعمال صاحبي إبراهيم ساعديه لتثبيتي في المقعد – كلما اقتربنا من مرتفع – لما احتملت هذه السرعة فوق طريق من هذا الطراز ..ولكنه لم يلبث أن استوى في منتصف المسافة إلى مرسى مطروح (..) وتوقفنا في مرسى مطروح قليلا ريثما تناولنا طعام الغداء،ولم ننس أن نشتري بضع بطيخات شيليان لنحملهما إلى بنغازي .. فقد سمعنا أن البطيخ هناك مرتفع الثمن،وأنه ليس في حلاوة البطيخ المصري.وعادت السيارة تطوي الطريق إلى السلوم .. رمال بعد رمال على الجانبين ... وبين الحين والآخر نمرق بجوار بضعة بيوت صغيرة كان صاحبي إبراهيم يتساءل مدهوشا عن كيف يعيش سكانها في هذه البراري الشاسعة (..) ومضت السيارة تطير فوق طريق واسع ناعم كالحرير .. وعدنا ننظر على الجانبين البراري تمتد إلى مد البصر ... وعدت أتساءل : متى ينتصر سكان الصحراء على رمال الصحراء ... هل ستشهد الأجيال الآتية بعدنا كيف يستخدم أبناؤنا وأحفادنا العلوم الحضارية لاستصلاح هذه الأراضي وتحويلها إلى مزارع وبساتين ... إننا لن نصعد إلى القمر ,, ولكن علينا أن نقيم التوربينات الهائلة التي تدار بالذرة لتحويل مياه البحر إلى مياه عذبة تروي هذه البراري ... ونطلق السحب الصناعية لتمطر ماء تربو معه الأرض وتؤتي ثمارها،ونحول المنخفضات إلى بحيرات يتدفق فقوها ماء البحر مولدا الكهرباء ... ونحول بلادنا الصحراوية إلى جنات في الأرض. (..) ولما استأنفنا السير. شرعت شمس الغروب،وكانت قرصا متوهجا بالضوء الأحمر،تحاورنا .. فهي تارة عن يميننا .. وتارة على يسارنا .. حسب انحرافات الطريق،وبعد أن غابت في البحر،مضينا على البقية من شفق غروبها حتى اقتربنا من طبرق .. وتمنيت لو دخلت هذه المدنية التي شهدت أعنف المعارك في الشرق أثناء الحرب العالمية الثانية .. ولكن السائق كان متعجلا للوصول إلى بنغازي في نفس الليلة .. ومن ثم اكتفينا بالمرور بها من بعيد .. وكانت تبدو كشعلة فضية بأنوار الاحتفالات بأعياد التحرير .. وانطلقت السيارة مرة أخرى في طريقها إلى البيضا ... وبدأ الطريق يصعد ملتويا في سكون الليل .. وقيل لي أنها تقترب من الجبل الأخضر الذي تربض عليه المدينة بجامعتها الإسلامية ... والليل ساكن تماما إلا من هدير الريح المنبعث بسبب السرعة غير العادية للسيارة وحمدت الله حين رأيت ابنتي حنان مستغرقة في النوم ... (..) وعاد الطريق الثعباني في الهبوط إلى بنغازي .. واستيقظت ابنتي وحاولت أن تعرف أين نحن .. ولكننا أكدنا لها أننا نسير في طريق عادي،وأننا نقترب من بنغازي،وفوجئنا بالسيارة تمر على كوبري معلق يصدر أصواتا تحت عجلاتها .. ثم بكوبري مماثل كان يقف على مدخله جندي ينظم حركة المرور عليه بحيث لا تمر أكثر من سيارة في وقت واحد. ووصلنا إلى مدخل بنغازي بعد منتصف الليل ... وانحرف السائق إلى طريق في حي الفندق،وهو – كما رأينا في الصباح – من الأحياء الشبيهة بحي أبو العلا أو روض الفرج .. وتلفّت حولي كما لو كنت أنتظر رؤية المستقبلين لي .. ولكنني لم أر مخلوقا حتى توقفت السيارة أمام فندق صغير "فندق البيضا" .. وهنا فقط لمحت ثلاث قطط تتعارك على كومة من القامة بالقرب من الفندق ..وعلى هذا النحو كان استقبالنا في بنغازي حين دخلناها بعد منتصف الليل ..){ص 7 - 11}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة Mahmood-1380@hotmail.com
رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني
حول العالم على كرسي متحرك "2"
بعد ذلك الاستقبال الحافل .. (ظلت صورة القطط الثلاث المتعاركة على كومة القمامة تطاردني في أحلامي خلال نومي المؤرق .. ولكنني كنت أحاول في فترات الأرق أن أوهم نفسي بأن هذه المخلوقات التي استقبلتني في لحظة وصولي إلى بنغازي بعد منتصف الليل بساعة أو بأكثر إنما ترمز للوداعة والهدوء والترف .. وفي أعماق نفسي كنت أرى الحقيقة وأشعر – لأول مرة – بشيء من الخوف .. غريب مع الرفاق الثلاثة في بلدة لا أكاد أعرف فيها أحدا .. ماذا يحدث لو أنني لم أجد أي لون من ألوان الترحيب أو الاستقبال في الصباح .. إنني لم أحاول أن أتصل بأحد قبل وصولي،بعد أن ذكر لي القنصل الليبي في مصر،أن الحكومة الجديدة أصدرت الأوامر بعدم استقبال أو تقديم أي تسهيلات رسمية للصحفيين والفنانين لأسباب رفض أن يذكرها لي {طبعا تلك حكومة القذافي وصحبه،والذين كانوا قد استلوا على السلطة في العام السابق لزيارة الكاتب.. وها نحن بعد أكثر من أربعين سنة .. في الانتظار ... فك الله كرب إخواننا في ليبيا }.ونهضت في الصباح المبكر في الغرفة المخصصة لي مع ابنتي حنان .. وفتحت النافذة لأرى أول منظر في المدينة في ضوء النهار .. ميدان صغير لوقوف السيارات على جانبيه شارع ضيق يمر بجوار الفندق،يشبه إلى حد كبير شارع الغورية في القاهرة "وقد تأكدت من هذه الحقيقة بعد أن سرت فيه بعد العصر" .. وشارع آخر واسع يمتد على أحد جانبيه مجموعة من البواكي (..) ولكن الفندق نفسه،والشهادة لله،نظيف ومريح وجميل الأثاث،وخفيف على الجيب،وهذا هو المهم،لأني عرفت أن أجر المبيت في الغرفة،بسريرين،بالدرجة الأولى لا يتجاوز مائة وأربعين قرشا ليبيا "أي ما يساوي جنيهين مصريين" .. ولكن العيب الوحيد أنه يقع – كله – في طابق واحد يرتفع عن الأرض بحوالي ثلاثين درجة،وكان رفاقي الثلاثة – بما فيهم ابنتي حنان – يهبطون بي مرة واحد في الصباح،ويصعدون مرة واحدة في المساء ... (..) وتناولنا طعام الإفطار من حقيبة زادنا،وما أكثر ما حملنا معنا،حتى لا ننفق من العملة الصعبة القليلة التي معنا إلا في أشد الضروريات .. وأفطرنا جبنا وزيتونا وبيضا مسلوقا ومربى،وأتبعنا هذا الشاي الذي لم يكن مستساغا،لأن مياه الشرب في بنغازي تشوبها أملاح معدنية (..) وجلسنا نضع برنامجنا اليومي .. الاتصال بالسيد جميل الفرجاني. وهو يمت لي بأواصر من النسب. (..) وتمت المحادثة بين صاحبنا محسن – الذي أصر أن يقوم بدور السكرتير الخاص بي – وبين السيد جميل الفرجاني الذي ما إن عرف بوجودي في بنغازي حتى كان أمامنا بسيارته اللانشا بعد أقل من ربع ساعة من المحادثة التلفونية .. وكانت أول عبارة قالها لنا بعد أن تبادلنا كلمات الترحيب :من الذي جاء بكم إلى هنا ... إلى هذه المنطقة من المدينة لماذا؟إنه حي شعبي جدا شديد الازدحام والضوضاء و – ونظر إلي كأنما يريد أن يقول "ولا يليق بالمقام" .. وابتسمت وقلت في نفسي (لو عرف القروش التي خرجنا بها عملة حرة لنطوف حول البحر الأبيض المتوسط،لأدرك أننا نزلنا في فندق أعلى من مستوانا بكثير"... ولن أطيل الحديث فيما لقيناه من ألوان الكرم على يدي هذا الرجل حتى لا نخجل تواضعه .. ولكن يكفي القول أنه تخفف من جميع أعبائه وأعماله ومسؤولياته واضعا نفسه وسيارتيه البيجو والمرسيدس وقصره الفاخر في الفويهات تحت أمرنا ... ولكننا أصررنا على المبيت كل ليلة في فندقنا البسيط .){ص 13 - 16}.وظلت النقود القليلة تطارد الكاتب .. وتساءل : ( هل سأجد في كل مدينة أو بلدة أصل إليها مثل السيد جميل الفرجاني .. تلك هي المشكلة .. أو هذا هو السؤال .. ولكن من كان الله معه في السفر،وخليفته في الأهل،فلن يجد إلا الترحيب في كل مكان ...ونشرت أخبار وصولنا صحيفة الحقيقة،وهي أوسع الصحف انتشارا في بنغازي .. وفي اليوم التالي نشرت نبذة عن حياتي مع صورتي،وعن المكان وموعد إلقاء محاضرتي "أثر الثقافة الإسلامية في تطوير الحضارة الإنسانية" وقد تحدد المكان بالمركز الثقافي العربي،والزمان بالخامسة من مساء الجمعة .. وحتى يحين موعد المحاضرة،أخذنا نعايش الليبيين في بنغازي على مختلف المستويات وقد لاحظنا أنهم لا يعترفون بالألقاب .. وهذا في الواقع شيء جميل ... كل إنسان ينادي الآخر باسمه مجردا. حتى لو كان المنادي عاملا بسيطا والمنادى عليه صاحب الشركة التي يعمل بها... ولاحظنا أنهم يسمون الخادمات باسم "الصبايا"وهذا شيء جميل ولكنهم يقولون عن "الست" "مره" وهو شيء يزعج الذي لا يعرف هذه الحقيقة .. وقد كان هذا الاسم سببا في وقوع أزمة معروفة حين صاح أحد الليبيين وقد استهواه الطرب من صوت أم كلثوم"يا سلام يا مره"وكان يقصد طبعا "يا سلام يا ست"ونحمد الله أنه لم يقل"يا سلام يا مرة الكل"قاصدا "يا سلام يا ست الكل" .. ومن الألفاظ التي أثارت انتباهي قولهم عن اللون الأسود. أزرج .. والأزرق زرجيني،والقرع العسلي ... البكواه،والفلفل الأسمر ... فلفل أكحل (..) والليبيون لا يقبلون على أكل الجبن بأنواعه المختلفة. ولهذا قلما تجد من يبيع أي صنف من الجبن في بنغازي ... ولكنهم يحبون المكرونة حتى أصبحت من ألوان أطعمتهم الشعبية .. وهم يطهون الأرز كما نفعل نحن في مصر،ولكن لديهم نوع آخر من الأرز "يسمى المبوخ" أي المطهو على بخار الماء .. والكسكسي المتوج بالخضر"وهراديم"اللحم من الأكلات المحببة إليهم ... وهناك صنف من الطعام اسمه الزميط ويصنع من الدقيق والعسل الأبيض وزيت الزيتون،ومن ألوان اللحوم لديهم لون يسمى الجديد – بكسر الجيم وتشديد الدال – وهو لحم عادي يقطع قطعا كبيرة وينشر في الشمس حتى يصبح "قديدا"ثم يخزن ليأكل منه الليبي على مدار السنة ويكثر تناوله بين القبائل الغربية ... ولكن الأجيال الجديدة لم تعد تستسيغ هذا اللحم {ما أحوجهم إليه في هذه الأيام ... وهو "القديد" بالفصحى. و"التشطار" عند الشناقطة. و"القفر" عند أهالي نجد ... ويسميه السودانيون باسم يحمل معنى غير لائق،حسب استعمالنا لنفس المفردة!!} واللحوم في بنغازي ممتازة بوجه عام – على عكس ما كنت أظن -،والمترفون من أهلها يخرجون في أيام العطلات إلى الخلاء والجبال وقد حملوا معهم الحوالي (أي الخراف التي لم تبلغ عامها الأول ) وهناك يذبحونها ويسلخونها ويخرجون أحشاءها ثم يحشونها بالأرز المعمر والمكسرات ثم يعيدون لف الحمل في جلده المسلوخ ويضعونه في حفرة تحيط بها جمرات الفحم ... (..) والليبي يتناول إفطارين في اليوم .. الإفطار الأول "مسح زور"ويتكون من القهوة والخبز الإفرنجي المغموس في زيت الزيتون .. وهو يعتقد أن هذه الوجبة الخفيفة وسيلة لتخلص المعدة من العصارات الصفراء المتخلفة فيها أثناء الليل ... وفي الساعة العاشرة يتناول إفطاره العادي كاملا وعادة يتكون من شطائر التونة والهريسة والخبزة .. أو الخبز .. (..) وقد لفت انتباهي إلى حد كبير هدوء الليبي وبطء حركته وأخذه الأمور ببساطة وبلا تعقيد ... وبعده عن الثرثرة ... وأنت إذا دخلت محلا ليبيا تركك صاحب المحل تختار ما تشاء،ثم تسأله عن الثمن .. والثمن محدد ... وإذا حاولت المساومة فإنه يرفض أن يبيع لك ولو دفعت أكثر مما طلب أولا ... والواقع أنه على حق في هذا الموقف. لأنه لا يزيد في السعر المعترف به. ولا يحاول أن يستغل .. وقد سمعت في نشرة البلاغات المحلية بالإذاعة أن السيد فلان التاجر الكبير استورد "كذا طن من كذا شيء" من لبنان .. وقد حددت الحكومة سعر الطن بكذا جنيه،ويباع الكيلو للمستهلك بكذا قرش ... وقد عرفت من جميع الذين اتصلت بهم،ومعظمهم من مواطني في مصر،أن الليبي لا يخالف التسعيرة سواء كانت ودية أو رسمية،وأنه مشهور بالأمانة التي تثير الإعجاب.ولكن المساومة ممكنة في شراء السيارات المستعملة .. وقد شهدت هذه التجارة تجري في قطعة أرض فضاء بحي الفندق ... وقد طلب البائع مبلغ ثلاثمائة وخمسين جنيها ليبيا في سيارة هيلمان ستيشن موديل 66 وبحالة جيدة .. ولكن الشاري استطاع أن يظفر بها بمائتين وخمسين ثم استقلها وانطلق بها على أن يتم إعداد أوراق البيع والشراء في اليوم التالي.والشوارع في معظم الأحياء واسعة نظيفة وحسنة الرصف،وفي أثناء إقامتنا في أوائل شهر يولية كان هناك أسبوع للنظافة،وكانت الإذاعة الرسمية والصحف .. لا تكف عن تذكير المواطنين للمحافظة على نظافة مدينتهم .(..) ويحين موعد المحاضرة التي سألقيها في المركز الثقافي العربي (..) وأعترف أني سعدت إلى حد كبير حين وجدت قاعة المحاضرات بالمركز محتشدة بعدد كبير من أهالي بنغازي المثقفين وبعض رعايا الدول العربية الشقيقة .. وكان في مقدمة الحاضرين السيد جميل الفرجاني. وأشهد أن السيد أحمد كمال مدير المركز،وجاري السابق بحي المنيل،كان موفقا في الإعداد للمحاضرة التي أعقبها فيلم تسجيلي .. وعدنا إلى الفندق لنستعد للسفر في صباح اليوم التالي إلى طرابلس ... الساعة السابعة والنصف من صباح السبت الرابع من شهر يولية .. السيارة البيجو التي ستقلنا إلى طرابلس واقفة أمام الفندق .. ورفاقي مع الحاج عبده بستاني السيد جميل الفرجاني يضعون الحقائب بداخلها وفوقها .. والسيد جميل يحاول التغلب على تأثره لفراقنا بعد أن قضينا في ضيافته الحاتمية أربعة أيام ... وكنت أنا أتلفت حولي لألقي النظرات الأخيرة على المنطقة الشعبية التي نزلنا بها ... وكان هذا التساؤل يلح على نفسي "ترى هل ستتاح لي فرصة رؤية هذا المكان مرة أخرى في حياتي" .. أن أقطع مسافة ألف وسبعمائة كيلو مترا في سبعة عشرة ساعة متواصلة ليست بالرحلة التي يقبل الإنسان عليها ببساطة ما لم تكن لأول مرة .. وكان أمامنا أن نقطع إلى طرابلس ألفا وخمسين كيلو مترا .. ولكني بعد تجربة الرحلة السابقة أصبحت أرى أن قطع الألف كيلو متر في السيارة في ساعات متصلة ليس بالأمر الشاق،وخطرت ببالي ذكرى أولائك الأجداد العظام الذين كانوا يقطعون هذه الفيافي القاحلة فوق الجمال أو سيرا على الأقدام .. من الرباط في أقصى الغرب،إلى القاهرة ثم السويس ثم المدنية المنورة .. ثم مكة المكرمة ليؤدوا فريضة الحج .. هل كان يخطر ببال ألئك يوما أن هذه المسافة التي كانوا يقطعونها في عام وبعض العام أصبح قطعها الآن لا يستغرق بضع ساعات بطائرة نفاثة ... يفطر الإنسان في الرباط ليتناول غداءه في مكة؟!وتحركت السيارة وأيدينا تلوح للسيد جميل وتابعه الحاج عبده ... ومررنا بالطرق البنغازية التي كانت الشعارات لا تزال معلقة فيها .. شعارات الوحدة ضرورة حتمية،"الشعب سيد الجميع"،"لا أحزاب ولا حزبية بعد اليوم" ..(..) وخلفنا مدينة بنغازي المدنية التي تسللت إليها ليلا مرهقا مكدودا لأرى ثلاثة قطط تتعارك على كومة قمامة بجوار الفندق،والتي غادرتها بعد أربعة أيام وخمسة ليال لعلها أن تكون من أجمل أيام وليالي العمر.وعاد الطريق الممهد الناعم يمتد بين الصحراوات على الجانبين لا نهاية لها .. ولكن الصحراوات هذه المرة كانت مكسوة بنباتات برية غبراء اللون مما يدل على أنها أرض صالحة للزراعة لو توفر الماء لها .. وتلتهم السيارة الطريق بسرعة مائة وعشرين كيلو مترا ... وكان السائق فرج شابا طويلا أبيض البشرة هادئ السمت،كصاحبه الأول عمر،ولكنه كان أبرع في القيادة،لأنه كان يعرف كيف يتحكم في السيارة أثناء صعودها وهبوطها فلا نندفع نحن إلى السقف كما كان الحال مع السائق عمر في جزء من المنطقة الواقعة بين الإسكندرية ومرسى مطروح .. وظلت الصحراء هي سيدة الطريق قبل بلدة المقرو وما بعدها .. وكنا بطبيعة الحال نمر بقرى صغيرة على جانبي الطريق حتى وصلنا إلى مدينة سرت ... وأصررت على أن نتجول خلالها حتى أرى على الطبيعة إحدى هذه المدن الساحلية الصغيرة،وكانت البلدة رغم صغر حجمها جميلة الممرات والطرق والمنازل ولما رأيت فندقها الصغير المشيد على الطراز العربي المغربي،تمنيت لو أمضيت فيه يوما أو يومين .. فقد كان الهدوء الشامل والهواء الجبلي،والصحراء الممتدة على مدى البصر،وبعض الأشجار التي كانت تزداد جمالا في تلك المنطقة الخالية من الخضرة .. كان كل شيء مختلفا عن حياة المدن المزدحمة ومغريا بالبقاء فيها ولو يوما وليلة.وتحت شجرة خارج المدينة،وبالقرب من محطة بنزين ومشرب شاي،جلسنا نتناول الغداء،وكانت الساعة تجاوزت الواحدة بعد الظهر .. ){ص 16 - 23}.لنترك الأستاذ (القباني) ورفاقه .. يتناولون غداؤهم ... بالهناء ... إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله.
رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني
حول العالم على كرسي متحرك "3"
بعد تناول (الغداء) .. واصلوا السفر .. ( وعادت الصحراء تسود الطريق إلا من بعض الشجيرات والقرى والنجوع القليلة،حتى فوجئت،قبل مدينة مصراتة بحوالي ثلاثين كيلو متر – كما علمت فيما بعد – بتباشير الخضرة تغزو الصحراء وتتسيد الطريق .. ورأيت الأشجار والنخيل في مناطق متفرقة .. وكلما أمعنت السيارة في طريقها،ازدادت الخضرة والأشجار والنخيل .. وأحسست بالراحة النفسية .. إن الصحراء في ذاتها قد تبدو جميلة مهيبة،لمدة ساعة أو بعض ساعة وقد يستطيع ابن المدنية أن يعيش فيها يوما أو يومين .. وربما بضعة أسابيع أو أشهر إذا كان عمله مرتبطا بها ... ولكن شتان بينها وبين المناطق التي تسودها الخضرة ... النابعة من الماء .. الذي جعل الله منه كل شيء حي ..ووصلنا إلى مصراتة – وقد قيل لنا أن الاسم مشتق من كلمة "مصر أتت"أي مصر جاءت بخضرتها وزرعها وخيراتها .. وكانت المدينة أكبر نسبيا من المدن التي مررنا بها .. ولكنها تمتاز بأنها تسبح في ألوان من الخضرة والأشجار والزهور والنخيل .. طرقاتها ممهدة،ومنازلها نظيفة تنم عن ذوق – رفيع،وحدائقها أو بساتينها ممتدة،ومقاهيها عامرة بالرواد،رغم فترة الظهيرة الحارة (..) ووصلنا بعد نصف ساعة إلى بلدة صغيرة تسمى زلطين .. تسبح هي الأخرى في خضرة الأشجار والنخيل والزهور .. وفيها تناولنا شاي العصر .. وقد فوجئنا – ونحن نشرب الشاي لأول مرة في الطرق – بشاي ثقيل رهيب المذاق ... ولكن الكمية كانت قليلة فاستطاع كل منا أن يحسوها،رشفة صغيرة بعد أخرى،حتى أتينا عليها .. وسألت السائق عن نوع هذا الشاي،فقال إنه شاي أحمر .. هل هناك شاي آخر ... نعم ... هناك الشاي الأخضر .. وهو أقل حموضة من الشاي الأحمر .. وهناك الشاي الكيس .. أي الذي يوضع كيس الشاي الصغير في كوب من الماء الساخن مع السكر .. مثل الشاي الذي نسميه في مصر (كشري) .. ولما ذقنا بعد ذلك هذا الشاي أدركنا أنه مبتغانا ..(..) وبعد زلطين ازدادت الخضرة على الجانبين كثافة .. وكانت أحراش النخيل تمتد على مدى البصر ... أمامنا وحولنا .. والطريق يمضي بنا كخط أسمر عريض طويل ليس له نهاية ... وازداد إحساسنا بالبهجة (..) والهواء الآتي من البحر عن يميننا يزيد ساعة الأصيل بهجة انتعاشنا .. واستقام الطريق بعد بلدة سوق الخميس – وهي بلدة صغيرة رائعة الجمال – إلى طرابلس .. عابرا منطقة سياحية قال السائق عنها أنها جرابولي أو ترابولي ... ويبدو أن السائق كان جاهلا بتلك المنطقة،لأن ترابولي هي "طرابلس بالإيطالية ... (..) واستقام الطريق بين أحراش النخيل والمزروعات على الجانبين والبحر يبدو من بعيد بين الحين والآخر (..) وتذكرت ذات ليلة أمنية جاشت بنفسي وأنا جالس أمام شاشة التلفزيون في القاهرة .. تذكرت منظر سيارة كهذه تنطلق بركابها السعداء في طريق كهذا ... تحف به الأشجار والنخيل على الجانبين إلى غاية البصر (..) ودخلنا طرابلس في السابعة والنصف مساء .. وكانت الحركة في المدينة في تلك الساعة من المساء تنم عن الحيوية التي تتميز بها طرابلس كما علمت فيما بعد .. وطرابلس قبل الثورة كانت عاصمة الولايات الغربية .. والعاصمة الأولى للبلاد .. وكانت بنغازي عاصمة ولاية برقة .. والعاصمة الثانية للبلاد،ولكن الثورة قررت أن يكون للبلاد عاصمة واحدة،مثل كل بلاد العالم،وكان طبيعيا أن تكون طرابلس هي العاصمة ... ولم تستقبلني في طرابلس كلاب ولا قطط والحمد لله .. فقد كان الوقت من الليل مبكرا،ولم تكن هذه المخلوقات قد بدأت تسرح بحثا عن رزقها بين الفضلات .. ونزلنا بفندق الاكسلسيور المطل على البحر .. وهو فندق من الدرجة الأولى من ناحية الأسعار،ولكنه أقل كثيرا من الفنادق السياحية الممتازة (..) وفي صباح اليوم التالي،وقبل موعدنا مع السيد أنيس في الثانية بعد الظهر،خرجنا نجول في المدينة .. وفد لاحظت لأول وهلة أو شوارعها كلها – على وجه التقريب – كما عرفت بعد ذلك – تمتاز،مثل بنغازي،بالبواكي التي تحتمي بها المحلات التجارية،ولا حظنا كذلك أن الشوارع كلها،بلا استثناء،نظيفة وواسعة بعكس شوارع الإسكندرية التي ليس بها شارع واسع إلا طريق الحرية،واستهوتني بوابة أثرية قيل لي أنها تفضي إلى سوق المشير ... واجتزناها .. وسرنا في سوق المشير .. وهو سوق مسقوف مليء بالممرات المتفرعة منه .. وهو يشبه إلى حد كبير خان الخليلي. وبه من البضائع المستوردة والمحلية ما يقرب مما في خان الخليلي والموسكي .. وسرنا نتلفت حولنا ولعابنا يجري لما نراه من سلع بلغت حدا عجيبا من الرخص .. والعجيب أن السلع المستوردة أرخص في طرابلس مما تباع في بلادها المصدرة .. وهذه سياسة الدول التي تريد أن تفتح لنفسها أسواقا عالمية .. وإسرائيل تصدر بعض منتجاتها عن طريق إيطاليا وفرنسا دون أن تذكر اسم البلد المصدر إلا بعد أن يفتح المشتري السلعة ويجد ورقة تحمل الاسم .. ولو أني ذكرت أسعار السلع هنا – ولاسيما في الملابس والأدوات – الخزفية وأدوات التصوير والترانزستورات،لتسببت في أزمة سكانية في المدينة بسبب الوفود التي ستهرع إليها من كل مكان"كان هذا عام 1970" .. وبقدر ما كانت شوارع بنغازي خالية من النساء إلا القليلات في وسط المدينة كانت شوارع طرابلس مليئة بهن .. وكنّ نوعين لا ثالث لهما : السيدة الليبية بزيها الوطني الذي يكسوها من الرأس إلى القدمين فيما عدا فتحة صغيرة عند إحدى العينين تتبين منها السيدة الطريق،وهذا زي مختلف الألوان .. ولكن الغالبية هي اللون الكريم. والنوع الثاني من النساء والبنات الوافدات من مختلف الدول .. وكلهن يرتدين الملابس العصرية على أحدث طراز .. والشاب الليبي يكتفي بالنظر .. وأحيانا النظر الطويل المركز،ولكنه لا يعاكس باللفظ ولا بالإشارة أو الصفير ... ولم أر في شوارع طرابلس شبانا يتسكعون أو بنات يحاولن إغراء الشبان على المعاكسة .. والمقاهي كثيرة وهادئة رغم ازدحامها ليس بها هذا الضجيج العجيب الذي تنفرد به مقاهينا في مصر. وليس بها قرقعة الطاولة والدومينو .. ويبدو أن قلة عدد السكان نسبيا – إذ يبلغ تعداد سكان طرابلس حوالي مائتين وأربعين ألفا بما فيهم من الأجانب المدينة تتسع لأضعاف هذا العدد – أقول يبدو أن هذه القلة العددية في السكان هي السبب في ذلك الهدوء الذي يرين على المدين دائما،ولاسيما بعد الثامنة مساء،حين تغلق جميع المحلات أبوابها ..إنك تسير فيها بالسيارة أميالا بعد أميلا،جيئة وذهابا،فلا يكاد يقع بصرك بعد الثامنة على إنسان .. وإنما على صفوف لا تنتهي من السيارات على الجانبين .. جميع الجوانب بلا استثناء .. زاخرة بالسيارات الواقفة والمارقة،كلها من أحدث طراز،وقد عرفت أن عدد السيارات في طرابلس يزيد عن مائة وعشرين ألف سيارة،أي بمعدل سيارة لكل اثنين .. وهي أعلى نسبة في العالم. وقال لي السيد أنيس الفرجاني مفسرا إقبال الطرابلسيين على شراء السيارات،أن المدينة واسعة،وسيارات الأتوبيس قليلة،وسيارات التاكسي باهظة الأجرة وبلا عدادات .. والمشوار الذي لا يتجاوز خمسة كيلومترات قد يكلف الراكب جنيها،وإذا ساومه فنصف جنيه .. وانخفاض سعر البنزين في ليبيا من الأسباب التي تغري الطرابلسي باقتناء سيارة،فضلا عن هذا ارتفاع مستوى الأجور (..) أسعار الخضروات عالية إلى حد مذهل (..) واللحوم مرتفعة الثمن .. يصل الكيلو إلى جنيهين {في الهامش : كان الكيلو في مصر يومذاك بستين قرشا} وقد تعجبت وأنا أذكر أن ليبيا قبل عشرين سنة فقط أو على التحديد قبل خمسة عشر سنة،أي قبل ظهور البترول كانت من الدول المصدرة للماشية،,لكن ظهور البترول،وارتفاع أجور العمال،جعل المزارعين والرعاة يتدفقون إلى المدن وراء الربح والحياة البعيدة عن جفاف الصحراء .. وكما ذكرت فإن المزارع والبساتين وأحراش النخيل تحيط بالمدينة من جوانبها الثلاثة وتلطف جوها على مدار السنة (..) ولا أدري من أين تستمد طرابلس المياه لري كل هذه المساحات الخضراء بداخلها وخارجها .. ولكن المهم أنها عرفت كيف تبدو كالجوهرة في صحراء قاحلة تحيط بها من كل جانب (..) قبل أن أتحدث عن أهم مشكلة يواجهها الشباب في ليبيا،وهي مشكلة الزواج،أحب أولا أن أذكر أن مدينة طرابلس استقبلتنا في حفاوة لم نكن نتوقعها .. فما أبعد الفرق بين وصولنا إلى بنغازي ونحن لا نعرف كيف سيكون استقبالنا فيها،ومن الذي سيستقبلنا وهل سنجد فيها ما يدفعنا لمواصلة الرحلة أم الإسراع إلى إنهائها والعودة إلى الوطن قانعين من الغنيمة بالإياب ..ما أبعد الفرق بين هذا كله،وبين وصولنا إلى طرابلس لنجد السيد جميل الفرجاني قد حجز لنا غرفتين في فندق الاكسلسيور الممتاز ... وجرس التلفون يرن في غرفتي عقب وصولنا،وإذا المتحدث مندوب جريدة الثورة يهنئنا بسلامة الوصول بعد أن عرف من صحيفة الحقيقة نبأ مغادرتنا بنغازي إلى طرابلس.ورن جرس التلفون مرة أخرى لنجد المتحدث هو قريبنا السيد أنس الفرجاني شقيق السيد جميل (..) وفي مساء اليوم نفسه مضينا إلى الشارع العام القريب من الفندق .. وهو شارع عمر المختار الذي تقوم المحلات الفاخرة على جانبيه .. وكان بعضها قد أغلق أبوابه،والبعض الآخر يستعد للإغلاق ... وسرنا تحت "باكية"نتفرج على المعروضات في الواجهات الزجاجية الفاخرة .. واقتربنا من نهاية "الباكية"عند تقاطع طرق لنجتاز الشارع العرضي إلى الباكية الأخرى ..ولا أدري حتى الآن ماذا حدث على وجه التحديد في تلك اللحظات الخاطفة التي لم تستغرق دقيقة أو دقيقتين على الأكثر،ولكنها بدت لي كأنها زمن كامل ... لقد وجدت نفسي أطير من فوق الكرسي – عند حافة الرصيف في نهاية الباكية – وأهوي على رأسي بأرض الشارع .. وأحسست بآلام لا توصف وأنا أسقط بكل ثقل جسمي "أكثر من تسعين كيلو جرام"على ركبتي المريضتين .. وفي نفس الوقت – ورغم الفزع والألم – سمعت صرخة ابنتي حنان وهي تهتف بفزع أكبر "بابا ..بابا " .. وفي دقيقة كان ولدنا إبراهيم قد رفعني إلى المقعد بمساعدة ولدنا محسن وبعض المارة الذين فوجئوا بهذا المنظر .. ولا أدري كيف عدنا بسرعة بالغة إلى الفندق. ولكنني كنت ألاحظ اثنتين من السيدات كانتا تساعدان ابنتي على السير نحو الفندق وهي بينهما في شبه إغماء ... وكان الجميع يحاولون أن يؤكدوا لها أن "بابا"بخير .. وأنه كالقطط بسبعة أرواح" .. ووجدت نفسي بجوار النافذة في غرفتي بالفندق وأحد النزلاء يقدم لي كويا من عصير الليمون المثلج ويقول :- قدّر ولطف يا أستاذ فتمتمت قائلا :- كيف حال حنانفقال :- حقنتها بإبرة مهدئة .. وهي الآن بخير .. وكنت أحاول في تلك اللحظة أن أكتم الآلام الرهيبة التي انتشرت في جسمي و مفاصل ركبتي .. وكانت الركبتان محدودتي الحركة بسبب تليف عضلات المفاصل وترسب بعض الأملاح الجيرية حولها ... وكان السقوط عليهما بثقل الجسم قد ضغط على المفاصل المتليفة بشدة مفاجئة أدت إلى انتشار هذه الآلام التي لا يمكن وصفها. والتي لو أن الإغماء يريحني منها ..وتحسست جانب رأسي فإذا به قد تورم قليلا ... ولكنه كان أيضا يؤلمني وكانت المخاوف تملأ صدري بسبب هذه الصدمة التي أصابت رأسي .. فقد كنت قرأت عن حالات كثيرة من الانفصال الشبكي نتجت عن صدمات أقل من هذه بكثير .. وقرأت أيضا عن حالات ارتجاج المخ التي تسببت من صدمات مفاجئة كهذه .. وكان الخوف من حدوث شيء من هذا أكبر من الآلام التي انتشرت في مفاصل ساقي .. وكانت المعلومات عن الانفصال الشبكي أو ارتجاج المخ،أنها أي هذا أو ذاك – يحدث عادة بعد يوم أو يومين أو ثلاثة .. أي كان علي أن أتوقع في هذه الفترة أن أفقد بصري أو أفقد السيطرة على عضو آخر من جسمي بسبب ارتجاج المخ ..){ص 23 - 35 }. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة
رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني
حول العالم على كرسي متحرك "4"
قبل الحلقة :فوجئت بعدد من التعليقات على (زهرات من بستان أحلام ..) .. رغم أنني اغترفت بعضا من الكتاب على عجالة ... ولعل العجيب أيضا .. أن التعليقات كانت كلها من أخواتي أو بُنياتي !!! فهل سبب ذلك أن الكتاب موجه للنساء أصلا؟!!على كل حال ... أحببت أن أسأل إن كانت هنالك من يرغب .. بل من ترغب أن نضع كتاب الأستاذة أحلام (نسيان) على قائمة (السياحة)؟
يواصل الأستاذ (القباني) سرد رحلته .. (وتحسنت حالتي في الصباح بعض الشيء ... ولكن الآلام كانت تنوشني إلى حد مزعج وأنا في الطريق إلى الموعد المحدد لإلقاء المحاضرة قبل الخامسة بعد الظهر،أحاول جاهدا كبت هذه الآلام .. وأعتقد أن الجمهور الكبير الذي ملأ قاعة المحاضرات بالمركز وفي المقدمة كان الصديقان الأستاذ محمد طاهر وقرينته الدكتورة نعمات لم يلحظا شيئا مما كنت أعانيه وأنا ألقي المحاضرة.. ولما اشتد الألم ختمت المحاضرة قبل نهايتها (..) ولعل السيد سعد حسن مدير المركز يعرف الآن لماذا لم أستطع أن أستطرد في المحاضرة إلى نهايتها ... وبمناسبة الحديث عن الأدب العربي واللغة العربية الفصحى المشتركة بين العرب،أذكر أنه لو لا هذه اللغة العربية الفصحى لما كان بمقدوري أن أتفاهم إطلاقا مع إخواننا في ليبيا .. إن اللغة الليبية العامية،واللهجة الليبية تجعلان التفاهم بينهم وبين المصري يكاد يكون مستحيلا قبل مرور فترة طويلة من الوقت على الأقل،ولكن اللغة العربية السليمة كانت العامل الحاسم في أن يفهم العربي أخاه العربي أينما كان وحيثما كان ... أقول هذا للذين ينادون باستعمال اللغة العامية – من أجل الفن – أقول لهم ما معنى هذه العبارات التي يستعملها التونسيون وبعض الطرابلسيين : وجميع الليبيين :"لعوص يمين" "لعوص شمال" أي "انحرف يمينا أو شمالا" {في الهامش : يعني اتجه يمينا أو اتجه شمالا} "نروح فدّهور في الخرارات" يعني "نذهب للنزهة في الشلالات" (..) ومن المناظر التي لاحظتها في بنغازي وفي طرابلس،كما سبق أن لاحظتها في شوارع لندن وجود عدادات للسيارات الواقفة على جانبي الطريق الرئيسية .. العداد يضيء بعد ربع ساعة ما لم يضع صاحب السيارة في فتحته نصف قرش .. ويمكن لصاحب السيارة أن يضع أربعة أنصاف قرش مرة واحدة لكي يطمئن إلى أن من حقه الانتظار ساعة كاملة (..) وبمناسبة ذكر السفارات،أقرر أنني لم أعان في طرابلس من شيء قدر ما عانيت من المسؤولين في سفارة تونس .. لم أكن أتصور أن يعامل العرب من سفارة بمثل هذه القسوة والتحدي .. في القاهرة رفضوا إعطاءنا تأشيرة مرور .. مجرد مرور وكذبوا علينا قائلين أننا سنجد هذه التأشيرة جاهزة في طرابلس بمجرد وصولنا إليها .. ولكني فوجئت بالسفارة التونسية في طرابلس مزدحمة بالعرب الذين يريدون المرور إلى الجزائر والمغرب .. ويمكنك أن تدرك الفارق الضخم بين موقف دولة عربية وأخرى،فالجزائر والمغرب تسمحان بدخول ومرور العرب بلا تأشيرات،بلادهما ترحب بكل عربي يريد أن يمر أو يدخل (..) لقد رأيت إخواننا العرب الغاضبين يصطدمون بحراس السفارة أكثر من مرة،وبرجال الشرطة الطرابلسيين حين حاولوا الدخول لتهدئة الحال أكثر من مرة. (..) وإلى أن نحصل على تأشيرة مرور في تونس نعود إلى طرابلس الجميلة (..) .. الواضح أن مسألة الحواجز بين الجنسين لا تزال قائمة رغم ظهور بعض الفتيات الليبيات بالملابس العصرية .. وبمناسبة الحديث عن الفتيات الليبيات،قالت لي سيدة أن الفتاة الليبية التي تستكمل تعليمها وتحتل مركزا في إحدى الوزارات،تكون عادة على جمال بسيط .. أما الجميلة فإنها تخطب وتتزوج قبل أن تتم تعليمها .. تماما كما كان يحدث في بلادنا منذ نصف قرن .. وأنا حتى الآن لم أتحدث مع فتاة أو سيدة ليبية مائة في المائة،لأعرف اتجاه تفكير المرأة الليبية،وما تأمله في المستقبل،ومدى ما تقدمه الجمعيات النسائية من خدمات للخروج بالمرأة الليبية من عهد الحريم إلى عهد الوصول إلى القمر .. وهذا الحديث عن المرأة يجرنا إلى أهم مشكلة يواجهها الشباب الليبي ... وهي مشكلة الزواج .. وهل هناك ما هو أهم من موضوع الزواج في نظر الشاب الذي أنهى دراسته وبدأ حياته العملية .. المشكلة تتلخص في المغالاة الشديدة في ارتفاع نفقات الزواج بالنسبة للشاب .. إن هذه النفقات لا تقل عن ثلاثة آلاف جنيه {في الهامش : كان هذا عام 1970 أي عندما كان متوسط الصداق في مصر ثلاثمائة جنيه} ينفقها الشاب المتوسط الحال على عروسه بين صداق وحلي وهدايا "منها ما لا يقل عن عشرة أطقم فاخرة للملابس لها ولأخواتها ووالدتها وأقرب النساء إليها" .. وفي الموسم على العريس أن يرسل إلى بيت العروس،قبل الزفاف طبعا،سيارة محملة بأجولة الأرز والسكر والبصل وصفائح السمن والحوالي "الخراف الصغيرة" وعليه أيضا أن يؤثث البيت تأثيثا كاملا بكل الضروريات والكماليات .. والشاب فوق المتوسط قد ينفق على عروسه ما لا يقل عن عشرة آلاف جنيه،عدا تأثيث فيلا فاخرة وشرائه سيارة جديدة خاصة بعروسه .. ويمكنك أن تتصور ما ينفقه الشاب الثري .. (..) وقررت قيادة الثورة أن تضع حدا لعذاب شباب بلادها كما قلنا ... وأنذرت أرباب الأسر في أحد المؤتمرات الشعبية التي تقام للتشاور في حل مشكلات البلاد،الواحدة بعد الأخرى،بأنه إذا لم يخفف الآباء من النفقات المطلوبة من المتقدمين للزواج من بناتهن{!!!} خلال ستة أشهر. فإنها ستضع تفسيرا جديدا لعبارة "الأجنبيات"أو على الأقل،سيجعل هذه العبارة لا تنطبق على النساء العربيات جميعا كما كان الحال من قبل (..) ولكنني شخصيا لا أعتقد أن هذا حل جذري للمشكلة .(..) والزواج في بنغازي له تقاليده الخاصة .. فهناك ليلة الحناء كما هو الحال في معظم البلاد العربية. وفي ليلة الزفاف تذبح الخراف ... وتستمر الأفراح من ثلاث إلى سبع ليال،وتحييها فرقة من النساء السود عادة،ثلاث نساء،أجرهن في كل ليلة عشرين جنيها،واحدة طبالة،و الثانية مغنية،والثالثة تدير أقداح الشاي للمدعوات .. وفي بنغازي يضاف إلى هذا أن تقوم بعض بنات الأسر بالرقص على دقات الطبلة وصوت المغنية .. وهناك تقليد معروف أيضا في بنغازي .. وهو أن تخرج العروس قبل اختفاء آخر نجمة في السماء عند الفجر،وتجري في الطريق .. وتجري وراءها البنات العذارى للحاق بها .. واللحاق بها يعتبر تفاؤلا باللحاق بها في الزواج .. ويعود الجميع إلى بيت العريس الذي يكون إخوانه قد احتفلوا به على رنين الكؤوس – قبل تحريم الخمور في ليبيا بعد الثورة – ويمضون به إلى غرفة الزفاف،ويدفعوه ضاحكين وهو يتظاهر بالحياء .. ثم يغلقون الباب ... وينتظرون في الخارج حتى يخرج إليهم {!!!!!!!!!!!!} أما في طرابلس فإن الزيانة "أي المرأة التي تزين العروس"تبقى مع العروس في ليلة الزفاف حتى يدخل العريس ويقول لعروسه : نورت حوشك{أي نورت بيتك : يسمون البيت "حوشا"} يا عروسة .. وهنا تقدم له الزيانة قطعة سكر،ولعروسه مثلها .. استبشارا بأن يجعل الله أيامها كلها حلوة ,, ويخرج العريس تاركا عروسه لتقضي ليلتها الأولى في بيته بين أهلها وأحبابها .. ويتم الزفاف الحقيقي في الليلة التالية .. (..) والآن .. قبل أن أغادر هذا القطر الشقيق في طريقي لاستكمال رحلتي .. أكاد أسمع بعض همسات الساخرين الذين لا يعجبهم العجب .. إنك لم تذكر عيبا واحدا في هذه البلاد .. فهل يعني هذا أن ليبيا أرضا وشعبا،جنة الله في أرضه .. أم أنك قبضت؟وللرد على همسات هؤلاء الذين سأقابلهم بعد عودتي إن شاء الله،أقول أنني لست ممن يقبضون ليكتبوا .. (..) هذا من ناحية،ومن ناحية ثانية،فإني أحب دائما أن أفتح عيني على الجوانب الطيبة في كل بلد أمر به .. أما الجوانب السيئة،فهي موجودة في كل بلد .. ولا أحد يجهلها،ولا تحتاج إلى ذكرها .. لأنها شيء يخص أهلها .. وأنا لا أنسى صديقنا الذي لم ير في الهند العظيمة .. العظيمة حقا،إلا البقر في الشوارع وإلا الحميات في مصب الأنهار .. وإلا الأوحال والأمطار والسير بأقدام حافية بسبب تكاثر الأوحال،وإلا الناموس والحشرات والأفاعي ... (..) انتظروا يا أصدقائي حتى أزور الهند يوما ... وسوف تعرفون حقا .. ما هي الهند ومدى ما وصلت إليه من حضارة في جميع الميادين ..الساعة تقترب من العاشرة صباحا .. والسيارة البيجو الاستيشن 405 تقف أمام باب فيلا الأخ أنيس الفرجاني تحمل حقائبنا الخمسة الثقيلة جدا .. وحانت لحظة الوداع مرة أخرى .. أياما عشرين أمضيناها في طرابلس مرت سريعة كالحلم الجميل .. وكنا قد حصلنا في اليوم السابق على تأشيرة مرور بتونس لا تزيد مدة صلاحيتها عن ثلاثة أيام .. وقد حصلنا عليها بعد حوار ساخن مع القنصل التونسي في طرابلس. وانطلقت السيارة يقودها شاب ليبي أسمر "عرفنا فيما بعد أنه جزائري هارب من أحكام في الجزائر"ومرقت من شوارع جميلة نظيفة طالما سرنا فيها بمقعدي المتحرك ,, وراحت شرائط الذكريات تنساب أمام مخيلتي كلما أمعنت السيارة في الانطلاق .. (..) وتمضي السيارة المارقة في هدوء ولا كلاكسات أو فرقعات شاكمانات الموتوسيكلات .. الحركة في هذه الساعة من النهار على أشدها .. ولكن الهدوء يكسو المدينة إلا من حفيف السيارات. وتلفت حولي لأملأ عيني مما أرى .. فمن يدري متى أعود إلى هذه المدينة الجميلة مرة أخرى ..(..) وتنطلق السيارة إلى الحدود التونسية قاطعة نحو مائة وثمانين كيلو مترا ... وعلى طوال الطريق كنا نرى قوافل سيارات الإيطاليين واليهود المهاجرين من ليبيا بعد صدور قرار استرداد ممتلكاتهم للشعب ... ووصلنا الحدود الليبية في حوالي الثانية بعد الظهر .. ثم انتقلنا بضعة أمتار – لا تزيد عن مائة متر – لندخل الحدود التونسية .. وكانت الساعة قد بلغت الثالثة بعد الظهر .. ولكن قيل لنا أن نؤخرها ساعة،لأن فارق التوقيت بين ليبيا وتونس ساعة،وهكذا أصبح هذا الفارق ساعتين بين القاهرة وتونس .. ولاحظت دقة تفتيش الحقائب في الجمرك التونسي .. لا فرق بين عربي وأجنبي. الجميع يجب أن يفتحوا الحقائب ويضعوها على منصبة خاصة ليجري موظفو الجمارك تفتيشها .. وكان أمامنا خمس سيارات،منها ثلاثة إيطالية هاربة إلى تونس .. وحاولت أن أشعر بالعطف عليهم،فلم أستطع .. لم تطاوعني مشاعري أن أعطف على هؤلاء المغتصبين الذين نصب آباؤهم وأجدادهم المشانق للعرب المناضلين في ليبيا .. ترى .. هل كان هؤلاء يعلمون أن الوقت سيحين للانتقام المشروع ..حقا "الآباء يزرعون الحصرم والأبناء يضرسون"كما قال السيد المسيح عليه السلام،واقترب موظف الجمرك التونسي نحوي وهو يلقي بعلبة سجائره الفارغة في ضيق فأسرعت وقدمت إليه سيجارة من علبتي قائلا :- سيجارة مصرية .. وابتسم الرجل – وعلى الأصح – الشاب،وتنازل السيجارة قائلا :- مصري ..- نعم .. - أهلا بك في تونس ..وكدت أن أكذب سمعي .. أهلا في تونس؟ إذن فيم كانت هذه المماطلة من الموظفين المساكين المغلوبين على أمرهم في سفارتي القاهرة وطرابلس .. وأقول مساكين وأنا أعني هذا .. لأني في مقابلاتي معهم لاحظت أنهم على جانب كبير من الضيق بالكلمة ... ولكن وجوههم كانت تنطق بهم .. (..) ونعود إلى الموظف التونسي بالجمرك .. لقد راح يدخن السيجارة المصرية ويقول :- باهي ياسر (يقصد كويسة جدا) ..){ص 35 - 62}.وبعد أن غادروا منطقة الجمارك،توقف بهم لسائق ليتناول غداءه،وكانوا هم قد تناولوا الغداء أثناء الانتظار في الجمارك .. وحين أخبروه .. (هز الخبيث كتفيه ودخل المطعم .. وطالت غيبته ونحن نتململ من التأخير،وذهب إبراهيم لاستعجاله،ولكنه عاد مسرعا يقول :- دا بيشرب بيرة - وقعته سودة وأسرع محسن إلى داخل المطعم ليتأكد ... وعاد يقول :إنه محروم من شرب الخمر في ليبيا بعد تحريم شربها .. وهو قد جاء إلى تونس ليسكر .. هكذا قال لي.وشعرت بالانقباض .. إن الطريق إلى تونس لا يزال طويلا،ولا يزال أمامنا أن نمضي إلى قابس .. وصفاقسي .. وسوسة .. وبين كل مدينة وأخرى مائة وخمسين أو مائتي كيلو مترا .. فكيف يقودنا إلى هذه المدن سائق مخمور .. ولما خرج بعد ساعة،صرخت فيه وقد انفلت زمام أعصابي .. ولكنه تجاهل حديثي العنيف،وانطلق بالسيارة يغني .. وكان صوته،والحق يقال،جميلا ... لكن ما قيمة جمال الصوت وقد أصبحت حياتنا معلقة في خيط واه .. ){ص 62 - 63}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة
رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني
حول العالم على كرسي متحرك "5"
وتستمر الرحلة مع السائق المخمور .. ( وكنا قد طلبنا في بني جردان أكوابا من الشاي فقيل لنا إنه لا يوجد في تونس كلها غير القهوة والمرطبات .. و أما الشاي فممنوع تعاطيه أو تقديمه في المشارب العامة بأمر من السلطات الحاكمة .. لماذا يا عالم؟! لأن الشاي يهرب من ليبيا وسعره فيها ستين قرشا ليبيا للكيلو – ويباع في تونس بجنيهين أو ثلاثة. وكنا قد تعودنا على شرب الشاي في ليبيا ..والليبي يشربه في كل ساعتين أو ثلاثة قائلا"دير لنا شاي"وله العذر .. فالشاي رخيص،والسكر أرخص،الكيلو بخمسة قروش،وشعرنا بالضيق وقلة المزاج،ولم يكن معنا ترموس،وصبرنا على الحرمان من الشاي،وفي بلدة مارتا،بعد بني جردان بنحو ساعة،هبط صاحبنا طربان وهو يقول :- هنا قهوة مشهورة جدا،يقولون لا تجعل قهوة مارتا تفوتك إذا مررت بها ..وشربنا قهوة مارتا،ولم نجدها تختلف عن القهوة الفرنسية في شيء .. ولكن الخبيث انتهز فرصة انشغلنا بشرب القهوة ليعب زجاجتي بيرة،ولم يتورع عن إحضار زجاجتين أخريين في السيارة ليشرب كلما "حبك المزاج"ولم يكن في مقدورنا أن نفعل شيئا أكثر من توجيه عبارات اللوم والعتب إليه .. وقد قال له الراكب منصور محاولا استثارة مروءته :- لا تنس يا طربان أن معنا رجلا مريضا لم يغادر السيارة من العاشرة صباحا،ومعنا أيضا آنسة شديدة القلق على أبيها.ولكن طربان يرفع عقيرته بالغناء وهو ينطلق بالسيارة .. وحاولت أن أنسى الموقف بالنظر إلى المروج والأشجار الممتدة على جانبي الطريق،وكانت المناظر أخاذة إلى حد كبير،والطريق ضيق ومتعرج ليس كالطرق الليبية الملساء،والشمس المائلة إلى الغروب تحاورنا كعادتها،فهي أمامنا حينا،وعلى يسارنا أو على يميننا حينا آخر،وفي قابس كانت قد غابت تماما،واندفع طربان بالسيارة مخمورا في طريق وعر يحاول أن يسبق الزمن ليصل في نفس الليلة إلى تونس،ولكن إحدى العجلتين الخلفيتين فرقعت وتعطلنا نحو نصف ساعة حتى وضعنا العجلة الاحتياطي،وعلمت أن الإطار الخارجي في العجلة المعطلة قد تمزق تماما،أي أصبحت غير صالحة للاستعمال،وهكذا سارت السيارة بلا عجلة احتياطية .. وازداد إحساسنا بالخوف والرهبة .. ومن حسن الحظ أن النوم غلب ابنتي حنان فلم تدرك الخطر المحيق بنا في كل خطوة تقطعها السيارة،وتوالت المناظر الخلابة في شفق المساء،الهضاب والجبال من بعيد،والأشجار والمزارع على الجانبين،والأراضي الصحراوية أو البور تمتد بين الحين والآخر،والطريق ضيق،واشتدت الظلمة،وأضاء طربان مصابيح السيارة ولم نعد نرى إلا الطريق أمامنا في المسافة التي يضيئها المصباح،ويتعرج الطريق ويتولى{لعلها : يتلوى} وطربان يتمايل برأسه ويرفع عقيرته بالغناء،وكلما أقبلت سيارة من الاتجاه الآخر،انحرف بقوة ليتفادها،و نهتز نحن بعنف،وأمسك صدري بيدي وأنا أخشى أن يتوقف قلبي من فرط الرهبة. ونصل أخيرا إلى صفاقس فنجد التيار الكهربائي مقطوعا بها،بالمدينة كلها،ولكني لمحت رغم الظلمة،والسيارة تقف أمام مزلقان سكة الحديد،دراجة بخارية يقودها شاب وقد جلست وراءه تونسية في ملابسها الوطنية البيضاء (..) وبعد صفاقس اشتد الطريق وعورة ولكن طربان لم يكن يهتم،فهو يضحك حينا ويغني حينا،ثم يكتئب فجأة (..) ووصلنا إلى مدخل قنطرة حيث وجدنا عداد من السيارات قد توقفت وأحد رجال الشرطة واقفا ينظم حركة المرور،وقلت لطربان في تلك اللحظة :- هل أطلب منه أن يشم رائحة فمك الآن؟ وشحب وجه اللعين ولكنه قال ساخرا :- وكيف تصلون إلى تونس إذا وضعوني في السجن؟ولم نستطع أن نناقش،,في الوقت نفسه لم ندر ماذا نفعل،الطريق قطعه السيل،والوقت يمر لإصلاحه،والليل يوغل،والظلام حولنا يثير الرهبة،وأضواء السيارات الحمراء كأنها عيون شيطانية تحملق في وجوهنا والإرهاق يكاد يقتلنا (..) وأريح رأسي على مسند المقعد تاركا الأمر كله لله،وتذكرت ردي على صديق لي أشفق علينا من هذه الرحلة:- إنني خارج وليس لي اعتماد إلا على الله ..ويبدو أنني غفوت قليلا،لأنني تنبهت فجأة على صوت الشرطي يطلب من طربان المرور على القنطرة بعد أن تم إصلاحها وطلب منه أن يسير متمهلا بقدر الإمكان،وكانت بعض السيارات الخفيفة قد مرت أمامنا،ببطء شديد،وكنت أسمع صرير ألواح القنطرة الخشبية تحت عجلات كل سيارة،ونظرت إلى الجانبين،فوجدت القنطرة قائمة على هاوية عميقة ليس لها قرار،وأحسست بقلبي يوشك أن يقف والسيارة تقترب من القنطرة التي تم إصلاحها على عجل وفي ظلمة الليل،ماذا لو أن العمال كانوا مرهقين فلم يحسنوا إصلاحها،وتحركت السيارة ببطء شديد على ألواح القنطرة التي راحت تصر كأنها تشكو من الثقل،وتذكرت حقائبنا الخمسة الثقيلة،كل حقيبة لا يقل وزنها عن ثلاثين كيلو جراما،وندمت على حمل هذا المتاع كله،وفرقع شيء،وراءنا وسمعت صيحات عالية تحذرنا،ولكن السيارة اندفعت إلى الأمام في قفزة واحدة،وانهار جزء من القنطرة وراءنا مباشرة،ولكننا كنا قد تجاوزناه بأمتار قليلة .. وحتى الآن أصحوا من النوم مفزوعا وقد رأيت في الحلم كالكابوس – أن السيارة تهوي .. وتهوي إلى القاع السحيق (..) وبدأت أضواء تونس تومض من بعيد .. يا رب .. ودخلنا في طريق عريض ذي اتجاهين،وحمدت الله أن طربان لم يعد – على الأقل – في حاجة إلى من ينبهه إلى السيارات القادمة من الاتجاه الآخر .. وكالجواد الذي يستجمع قواه في المرحلة الأخيرة من الشوط،اندفعت السيارة تسابق الريح إلى أن دخلنا تونس والساعة تدق الثالثة صباحا.){ص 63 - 68 }.ولم يجدوا غرفة مناسبة في الفندق الذي أوصلهم إليه سكران،أو طربان ... فرفضوا النزول من السيارة،نام المؤلف وابنته – بعد أن أسدلا الستائر على نوافذ السيارة – في السيارة :(فتحت عيني لأجد ضوء الفجر قد لاح،أين أنا؟ ما هذه السيارة التي أقبع فيها؟ وبدأت أفيق تدريجيا لأدرك أنني في السيارة التي حملتنا من طرابلس إلى تونس في عشرين ساعة يقودها سائق مخمور،وينطلق بها في ممرات جبلية على جسور أكلتها السيول،وفي طرق ملساء حينا،وشديدة الوعورة أحيانا .. وسمعت صوتا بجانبي يقول :- مصريين- نعم- مرحبا بكم في بلاكمونظرت إلى المتحدث الواقف بجوار السيارة فإذا هو غلام لا يتجاوز السابعة عشرة من عمره يطلق شعر رأسه"نصف خنفس"(..) ترى رجلا يبيع شيئا تعرفه من شكله وهو ينادي عليه :العَضْم الطايب {لم أكن أشك حين قرأت هذه العبارة،وقبل أن أقلب الصفحة،أن المقصود – كما هو معنى الكلمة في اللهجة الشنقيطية : "اللحم الناضج" ولكن ..} وتدرك من شكل السلعة التي ينادى عليها أن هذا"العضم " ليس إلا بيضا،وتدرك أيضا من كلمة"طايب"أنه بيض مسلوق(..) وقررنا أن نبحث عن فندق - من أي درجة – طالما أنه بالقرب من محطة سكة الحديد ما دمنا قررنا السفر بالقطار (..) وافترقنا عن السائق طربان ونحن نرجو ألا نرى وجهه مرة أخرى،أو هذا على الأقل شعوري،بعد أن جعل الشيب يغطي البقية الباقية من شعر رأسي بسبب ما عانيناه على يديه في الليلة السابقة.(..) وهنا أقف قليلا لأقول أنني في خلال اليومين الذين أمضيتهما في مدينة تونس لم أر فتاة أو سيدة عصرية ترتدي الثوب العادي،وإنما هي ترتدي أحدث ما وصلت إليه الأزياء في باريس،وقد قال لي زميل صحفي تونسي أن هناك اتجاها عاما بين الحكام أو على الأصح،بين بعض الحكام يرمي إلى تشجيع الفتيات والشبان على هذا التمادي في"المودة"حتى يتم تحويل تونس إلى بلد أوربي مقطوع الصلة بالعرب والعروبة .. والنوع الآخر هن المحجبات أو المرتديات الملابس الوطنية،وهي عبارة عن ملاءة بيضاء تسمى الفراشة من الحرير أو الكتان،بيضاء عادة،وملونة في أحوال قليلة،ولكن التونسية حين تجمع طرفها عند الوجه تترك للعينين{هكذا} وأحيانا تترك الوجه كله مكشوفا.أما"الخَنْفَسة"بين الشبان،تونسيين وأجانب،فكانت أوضح السمات في شوارع تونس،الشعور الطويلة بين الشبان،وأحيانا تقابلها اللحى الطويلة أيضا،والبنطلونات الضيقة جدا،أو الميكرو جيب بين الفتيات،ومما يؤسف له أنني أمضيت في مقهى باريس نحو نصف ساعة وبالقرب مني فتاتان على جمال مذهل وكانتا جالستين في مدخل أحد أبواب المقهى،وكانت كل منهما تدخن السيجارة الطويلة بين أصابع طويلة ناعمة تتألق فيها الخواتم الذهبية والماسية،والشعر الذهبي متموج ومرسل على الكتفين ومفروق من الجانب اليسر،والأصباغ على الوجهين بأسلوب ينم عن الذوق الباريسي الممتاز،وكان يجلس معي في تلك اللحظة شاب من الزملاء الصحفيين في تونس،ولما رآني أطيل النظر إلى هاتين الفتاتين. ابتسم وقال يل :- ما رأيك في هذين الشابين؟- شابين؟!!- نعم .. من الخنافس ..!{لعل بعضكم يذكر أننا نشرنا – عبر استراحة الخميس : الشعرية – "أرجوزة" للشاعر الجزائري محمد الأخضر السائحي،يرد فيها على سؤال ورده عن "الخنافس"فقال :تسألني عن موضة الشعور ***** وكيف صارت صفة الذكوروعن لباس وحد الجنسين ****** وطار بالمعنى من الاثنينكلاهما يخطر في السراول"أي البنطال" ** ويلبس النعل بكعب عالييعلق الصليب فوق الصدر *** ويربط الحزام حول الخصر الأمر سهل إنه التساوي ****** وهو كما ترى من المساويوربما زاد من الجنون ***** فعادت النساء بالذقونوطارت النهود في الرجال *** فليس هذا الأمر بالمحالفنحن في عصر الصعود للقمر **** لا فرق فيه بين أنثى وذكر }وخجلت وأسفت على ضياع الرجولة والشباب لوثته الحضارة الأوربية المنحلة. ويقولون إن هؤلاء الهيبز أو الخنافس هم جيل من الشباب المثقف المتمرد على حضارة هذا العصر وعلى ما يعانيه العالم من تمزق وحروب وكراهية وتعصب في كل مكان،ولكنني شخصيا أسخر من هذا التفسير،لأن هذا اللون من الخنفسة وتشبه الشبان بالفتيات ليس تمردا على مساوئ العصر،وإنما هو إضافات أخرى لهذه المساوئ،إنه لون من تحلل شباب يريد أن يهرب من المسؤولية ومن أداء الواجب لإصلاح ما يراه فاسدا – فهل إطلاق الشعور كالنساء سيصلح فساد عصرنا،هل القذارة وإطلاق الأظافر والمبيت على الأرصفة،واصطياد القطط ليلا وذبحها "وهذا يحدث فعلا"هو رمز التمرد على الحروب!(..) إن هناك اتجاها من المتفرنسين يحاولون أن يقطعوا البلاد عن العرب،ويجعلوها جزء من أوربا،ولهذا يشجعون اللغة الفرنسية،ويعرقلون إعادة فتح جامعة الزيتونة التي كان لها الفضل في الحفاظ على هذا القليل من اللغة العربية في تونس،إن جامعة الزيتونة الآن لا تعدو أن تكون مسجدا أثريا تدخله الأجنبيات بما يشبه المايوه ليتفرجن عليه،(..) ورغم أننا كنا في الجمعة،إلا أننا وجدنا كل الأماكن و المتاجر ودور الحكومة مفتوحة،ولم نعثر على مسجد واحد،ولم نسمع أذان وقت من أوقات الصلاة لا في الشوارع ولا في الراديو،وإنما رأينا الكثير من الكنائس الفاخرة والمعابد اليهودية الضخمة (..) وأمضينا يومي الجمعة والسبت نتجول نهارا في الأحياء الشعبية ونتنسم عبير الشرق القديم بكل أصالته وعروبته،ونمضي المساء في الشوارع العصرية الواسعة النظيفة المضاءة على أحدث طراز،ولم يفتنا أن نتجول في متجر ضخم،أو سوق يسمى"المغازة العامة"وكلمة مغازة مشتقة من الكلمة الفرنسية "مجازان"أي المتجر أو السوق. والواقع أني دهشت وأنا أتجول بالطابقين الأرضي والأعلى،لا يمكن أن يخطر على بالك شيء دون أن نجده فيه – فيما عدا الطائرات والصواريخ وقطارات السكة الحديدية – أما فيما عدا هذا فإنك واجد كل شيء،من الإبرة إلى قسم الأثاث – الفاخر مارا بأقسام الملابس والأدوات المنزلية والمكتبات والعطور والتريكو والأقمشة وكل شيء ... كل شيء. (..) أشهد أن مدينة تونس من المدن التي أحببتها كل الحب رغم الفترة القصيرة التي سمح لي بالإقامة فيها،إلا أنني لاحظت أن السادة المتفرنسين أساءوا إلى طابعها أثناء محاولاتهم جعلها جزء من الشاطئ الفرنسي،لقد أصبحت بالعباءات التونسية والفراشات النسائية والملابس العصرية والهيبز والميكرو ميكرو جيب بلا طابع مميز .. كالراقصة التي لا يراها الذين هم فوق .. أو الذين هم تحت. والأسعار مرتفعة جدا بالنسبة للدخل العام. هكذا أكد لي الزميل الصحفي الحزين من أجل بلاده. (..) المرأة التونسية العصرية أصبحت بتشجيع المتفرنسين تهتم فقط بالمودة والميكرو ميكرو جيب دون أدنى اهتمام بالثقافة والتعليم الجامعي إلا في النادر جدا،ومع هذا كله فإن تونس بلاد جميلة .. جميلة .. جنة مهملة لا تجد من يرعاها بإخلاص .. والشعب التونسي،شعب مرح،يسهر الليل كله إذا أمكن،ويصبر على تفاهات المتفرنسين،,يحب مصر العرب ويتحفز لإعادة بلاده إلى عروبتها التقليدية الطبيعية .. لقد ظلت ذكريات إقامتي القصيرة في تونس تملأ قلبي سعادة وحبا للتونسيين جميعا .. وأنا أستقل القطار في الحادية عشرة من صباح اليوم التالي،الأحد 26 يولية،في الطريق إلى الجزائر الرباط ... ) {ص 69 - 79}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. والتي ستكون مع (نسيان com.) .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة
رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني
حول العالم على كرسي متحرك "6"
وركب الأستاذ (القباني) ومرافقوه القطار الذي تحرك .. ( من محطة تونس في الحادية عشرة وعشر دقائق ليصل إلى مدينة(غار الدماء) وينطقونها (غار دما) على الحدود التونسية الجزائرية في الساعة الثانية والثلث بعد الظهر. ووصل في موعده تقريبا مارا بعدد كبير من القرى التونسية الواقعة بين المزارع والسهول وبعض الجبال القليلة الارتفاع،وكانت المناظر في تلك المنطقة رتيبة متشابهة ليس فيها غير قليل من التنوع،ولم تكن الجبال أكثر من تلال جرداء طينية اللون،وكانت بيوت القرى قريبة الشبه من القرى في الريف المصري وإن كانت – والشهادة لله – أكبر حجما وأنظف شكلا .. ولما لم أجد ما يثير انتباهي،رأينا أن نتسلى بتناول ما حملناه من فاكهة ومكسرات (..) وكان أملنا معقودا أن نجد في (غار دما) مصرفا محليا بإدارة الجمارك نحول فيه عددا من الدولارات إلى عملة جزائرية. ولكننا فوجئنا بما لم نكن نتوقع،جمرك غار دما مجرد قاعة صغيرة تم فيها تسجيل جوازات السفر والتفتيش الصوري بسرعة وكياسة،ثم أسرعنا لركوب القطار الواقف بالمحطة ليقلنا إلى مدينة عنابة بالجزائر. وبعد لحظات من ركوبنا القطار الجزائري،وكان من الناحية الشكلية أفضل كثيرا من القطار التونسي،ذلك أننا وجدنا أنفسنا في مقصورة خاصة لثمانية ركاب،ولكننا انفردنا بها لأن مقاصير الدرجة الثانية كانت أكثر من عدد الركاب (..) ومرة أخرى تذكرت أحلامي وأنا في بيتي في القاهرة أمام التلفزيون،أشاهد ركاب القطارات الطولية وهم في مقاصير كهذه،وأمام الجالسين بجوار النافذة منضدة متحركة عليها المرطبات وعلب السجائر والمجلات والكتب،وكنت كلما رأيت هذه المناظر على شاشة التلفزيون تنهدت وتساءلت في نفسي : ترى هل سيأتي اليوم الذي أجلس فيه على مقعد كهذا وأمامي منضدة كهذه والقطار يلتهم الأرض من مدينة دولية إلى أخرى ..وأغمضت عيني برهة وفتحتهما وتلفت حولي وأنا أخشى أن أكون في حلم لم ألبث أن أستيقظ منه لأجد نفسي جالسا أمام شاشة التلفزيون ببيتي في القاهرة (..) وبدأ القطار يتحرك متأخرا عن موعده ساعة بسبب الإجراءات الجمركية على الحدود،وهو تأخير لم يضق به أحد بحكم الظروف. وكانت الساعة قد بلغت الثالثة والنصف بعد الظهر وعند تحركه قلت لإبراهيم :- كم لدينا من أرغفة الخبز- أربعة - تكفي حتى وصولنا إلى عنابة في الثامنة إلا ربعا أو الثامنة على الأكثر .. قالوا إن عنابة بلد كبير وسنجد فيها بنوكا لتحويل ما نريد من الدولارات (..) لم أكن أدري في تلك اللحظات أيضا أني سأخترق مناطق تبهر لها النفس من فرط الجمال والإثارة وتعميق الشعور بما في الطبيعة من فتنة وبهاء،إنني لا أستطيع أن أقسم هذه المناظر من منطقة إلى أخرى،كان كل شبر في نظري قطعة من الجمال – ربما لأنني عشت حياتي في بلاد مسطحة على الأرض،ليس بها إلا الخضرة المباركة دائما أو الرمال الصفراء أحيانا .. ولكنها منبسطة أبدا دائما ..وأيا كان الأمر،فقد وجدتني أتشرب بنهم منظر كل شبر من الأرض التي يخترقها القطار(..) القرى الجزائرية المتناثرة والمعلقة بين الجبال – على السفوح أو القمم – وبين السهول،والحريصة على البقاء بعيدا عن قيعان الوديان حتى لا تغرقها السيول،قرى جميلة كل الجمال بيوتها ذات الأسقف القرميدية المائلة على الطراز الأوربي حتى لا يتجمع عليها ماء الأمطار أو الثلوج. وقطعان الماشية وهي ترعى العشب في السهول والوديان وعلى سفوح الجبال الخضراء. وكانت بعض هذه السهول مكسوة كلها بالخضرة الزاهية (..) وازدادت المناظر جمالا وبدأ الهواء يبرد قليلا ويزيد من انتعاش الجسم،ويصعد القطار زاحفا ربوة،وينحدر إلى سهل ويمرق بجوار واد سحيق،وينطلق بين السهول الخضراء،وتتلون سفوح الجبال بكل الألوان،الخضراء المكسوة بالزرع. والبنية ،والصفراء،والحمراء التي صنع منها خيالي صورة للدماء التي أراقها الجزائريون لتحرير بلادهم(..) وتناولنا ما لدينا من شطائر الخبز المحشو بالجبن أو المربى أو البيض المسلوق،وشربنا الشاي،ثم القهوة وقد صنعناها خلسة في المقصورة وظلت الشمس تميل في أفق الغروب حتى غابت وراء قمة جبل،لكي تظهر مرة أخرى في أفق سهل وهكذا (..) ولكن بقايا من أشعتها الضاربة في السماء ظلت تكشف لنا الدنيا حولنا بهذا الضوء الخافت الحزين الذي يسبق اللحظات الأخيرة قبل حلول الليل {تلك اللحظة .. لحظة الغروب .. داكنة الحزن،يبدو أن الكهرباء قد قضت عليها .. } (..) وأحسست بالحزن العميق وأنا أمد بصري من النافذة الزجاجية فلا أرى إلا انعكاس مقصورتنا المضاءة وقد نام الذين معي (..) أحاول أن أغمض عيني وأستجلب النوم،ويبدو أني نجحت. لأني فتحت عيني فجأة على صوت إبراهيم وهو يتحدث مع موظف يرتدي الزي الرسمي،وعلمت أنه موظف الجمارك (..) وأصر أن نفتح كل حقيبة وأصر أن يفتش كل ما معنا بدقة وكأننا مهربون،ولم نحاول طبعا الاعتراض،فهذا من حقه،ولكن كان من حقنا أيضا أن – نشعر بالضيق الشديد ونحن نعامل هكذا لأول مرة منذ أن خرجنا من بلادنا (..) أسرع إلينا الحمالون ليساعدونا في إنزال الحقائب،ولكننا أفهمناهم أننا لا نملك نقودا جزائرية،وكنا في "غار دما"قد واجهنا موقفا عصيبا حين ساعدنا بعض الحمالين قبل أن نصارحهم بخلو جيوبنا من النقود التونسية أو الجزائرية. ولكننا خرجنا من هذا الموقف بتقديم علبتي سجائر ثمنهما أربعين قرشا أخذها الحمالون على مضض (..) وتعاون محسن و إبراهيم وحنان على إنزال الحقائب من القطار،وحانت لحظة نزولي وذهب محسن لإحضار مقعدي المتحرك من مركبة البضائع لأن موظف القطار الجزائري أصر على أن يوضع المقعد أو "الكروسة"كما يسمونه في هذه المركبة – وفوجئ محسن بالمقعد عليه ورقة تحمل رقما استعدادا لشحنه إلى مدنية "وجدة"على الحدود الجزائرية المغربية،,عبثا حاول أن يجعل موظفي المحطة الجزائريين يفهمون أن هذا المقعد ضروري لراكب مريض لا يمكنه الاستغناء عنه،واشتركت حنان في المناقشة محاولة شرح الموقف،وكانت المناقشة والتفاهم،مستحيلا تقريبا،فالموظفون الجزائريون لا ينطقون إلا بكلمة ممنوع ... - يا ناس هذه الكروسة جزء من راكب مريض لا يمكنه الحركة إلا بها .. إنها بمثابة ساقيه- ممنوع .- كيف يمكننا نقله إلى المحطة ... أو المدينة حتى يركب قطار الساعة السادسة صباحا ..- ما بنعرف .. واقترب موكب الجدل من نافذتي،وأشارت حنان إليّ محاولة شرح الموقف بكل كياسة للموظفين المتشبثين بالكرسي أو الكروسة كما يسمونها ورأيتها تهمس لمحسن الفهلاو بكلمات وكان أحد الركاب يصيح بدوره بأنهم أخذوا منه عربة ابنه الوليد محاولا أن يفهمهم أن العربة ضرورية لنوم الطفل في المحطة إذا لزم الأمر وحتى يركب قطار الصباح،ولكن كلمة "ممنوع"كانت الرد الوحيد على كل شرح أو تفسير .. ورأيت محسن يحضر مع إبراهيم .. وحملاني معا إلى خارج القطار،واندفعت حنان بحركة مفاجئة ووضعت الكرسي المتحرك تحتي .. وفوجئ الموظفون بي جالسا عليه وأنا أبتسم في هدوء. وصاح أحدهم :- ممنوع .. هذا ممنوع .. وقلت أنا بكل هدوء :- ما بنعرف.وتقدم أحد الركاب محاولا أن يقوم بالترجمة بيننا وبين إخواننا الجزائريين "العرب" وقال لنا أن وضع الورقة أو الرقم يحتم أن ندفع رسوما قدرها خمسمائة فرنك جزائري على شحن الكرسي :- يعني كم جنيها - لا .. لا .. المسألة أبسط من هذا ... ما يساوي دينارا تونسيا أو حوالي خمسين قرشا ..- هل يقبلون دولارات .. وبعد أن سألهم هز رأسه نفيا .. فقلنا :- ليس معنا غير دولارات .. وهاج الموظف المسؤول .. وراح يرسل سيلا من العبارات الفرنسية لم نفهم منها غير "امبسيل"أي "أوباش" أو "ملاعين"أو أي شتيمة تعجبك .. وانتهت المناقشة بأن وافق الموظف المسؤول عن الشحن بتسجيل رقم جواز سفري لكي أسدد الرسوم في مكتب أي محطة مقبلة قبل خروجي من الحدود الجزائرية ... وكانت الساعة قد بلغت الحادية عشرة، و طلبنا أن نغادر المحطة إلى المدينة،فسمعنا كلمة"ممنوع"ولم يسعنا إلا أن ندخل إلى قاعة الأمتعة حيث وجدنا صاحبنا الراكب الذي أخذت منه عربة ابنه جالسا بجوار زوجته وقد أرقدا ابنهما الرضيع على فراش فوق أرضية القاعة،وجمعا متاعهما وحقائبهما بجوارهما،وتم التعارف بيننا،كان اسمه يوسف،من الفلسطينيين اللاجئين العاملين في ليبيا،وكان قد بدأ هذه الرحلة من طرابلس بسيارته الخاصة ولما وصل تونس وحاول أن يستمر بالسيارة ليجتاز جبال الأوراس،أدركه الخوف وترك السيارة في تونس واستقل القطار .. ولم نفترق ،أو على الأصح لم يحاول هو أن يفترق عنا طيلة الرحلة إلى حدود المغرب وقد وجد فينا زملاء يمكن الاعتماد عليهم وقت الأزمات،,بقينا في القاعة نصف ساعة،وجلست حنان على إحدى حقائبنا وقد غلبها النوم على أمرها،ولكنها ظلت تقاوم (..) قيل لي – وأنا أسأل عن سر تجهم الجزائريين وجمود ملامحهم،وعدم استعدادهم للتفاهم مهما تكن المناسبة. أن الأحزان لا تزال تملأ قلوبهم. وأن كل بيت،وكل أسرة فقدت في الثورة أكثر من شهيد واحد. وأن السنوات القليلة التي مرت بعد التحرير لم تمح مرارات الآلام التي عانها الشعب المكافح (..) وعدنا إلى المحطة لأجد ابنتي حنان قد فرضت بطانية على أرضية غرفة الأمتعة ونامت بجوار زوجة يوسف الفلسطيني،والطفل الوليد بينهما. وكان محسن قد جلس بدوره على وسادة صغيرة من الأسفنج كنا نحملها مع وسادة أخرى لأريح ذراعي عليهما طيلة السفر في السيارة أو القطار. وجلس وأسند ظهره إلى الجدار وراح في سابع نومة.وقررت أن أنام كذلك بعد أن رأيت أني سأعجز تماما عن البقاء فوق مقعدي خمس ساعات إلى أن يتحرك القطار. وفرش لي إبراهيم ملاءة على الأرضية،ووضعت الوسادة الأسفنجية تحت رأسي،ووجدنا لدينا من الأغطية ما يكفي لتغطيتنا جميعا،ولم ألبث أن استغرقت في نوم عميق لا إحساس فيه بصلابة البلاط تحت جسمي،بل مجرد إحساس بالضيق .. وإنما استيقظت في الخامسة منتعشا ضاحكا لأجد الجميع مثلي في حالة انتعاش وضحك .. ولم نهتم كثيرا بالنوم على البلاط،ولم نشعر بالضيق من هذه المعاملة غير العادلة التي كنا نلقاها من موظفي السكك الحديدية في جميع محطات الجزائر. إن متعة الرحلة في الواقع كانت أقوى من أن تجعلنا نضيق بمثل هذه المتاعب القليلة(..) .. وصل قطارنا إلى العاصمة الجزائر في العاشرة مساء بعد رحلة شاقة لم يخفف منها،بالنسبة لي،إلا روعة المناظر الجبلية التي كنا نمر بها،فقد كانت المناظر في الواقع تزداد جمالا كلما أمعن القطار في اختراقه لمنطقة جبال الأوراس،وفي كل بضعة كيلومترات نخترق نفقا،أو نمر فوق جسر يمتد على هاوية سحيقة،أو نصعد جبلا تبدو المدن والقرى تحته من بعيد وكأننا نحلق في طائرة منخفضة الارتفاع تسير ببطء ممتع مثير(..) وصلنا محطة الجزائر في العاشرة مساء ونحن ننفخ من الغيظ،فقد كنا نخشى ألا نجد صرافا في المحطة يحول لنا ما نريد من نقود،وكنا نخشى أن يرفض موظفو المحطة خروجنا منها،وقد وقع ما كنا نخشاه تماما،لم نجد صرافا يحول لنا من العملة ما نريد،ولم نجد أحدا يقبل أية عملة غير جزائرية،وفوق كل هذا تكررت عملية مقعدي المتحرك أو "الكروسة"حين أصر الموظفون أن يشحنوه رأسا إلى وجدة،وكان طبيعيا أن تكرر حركة الاستيلاء عليه. وفوجئ الموظفون بي جالسا فوقه (..) وجلسنا في قاعة الأمتعة الكبرى. وكانت خالية تماما إلا منا والزميل يوسف،وكان بها بضعة مقاعد خشبية وحجرية،قلنا أن النوم عليها أخف وطأة من النوم على البلاط،ولكننا فوجئنا بالموظفين يقولون لنا :- ممنوع - إذن نخرج إلى المدينة للمبيت - ممنوع- نخرج إلى رصيف المحطة ننتظر قطار الساعة السابعة صباحا - ممنوع- إذن ما ذا نفعل- ما بنعرفلقد تأخر القطار أربع ساعات عن موعده وليس هذا ذنبناوكان يقوم بالترجمة أحد الموظفين الذين يعرفون اللغة العربية"طشاش"وكان الرد :- قضاء وقدر .. كان يمكن أن تموت الماكينة في الطريق ... يقصد أن تتعطل القاطرة تماما في الطريق- إذن أخبرونا ما ذا تفعل - ما بنعرف .. لابد أن تخرجوا من هنا .. - إلى أين يا عالم- ما بنعرفوتبادلنا نظرات الدهشة والعجب فيما بيننا،إذن البقاء في القاعة ممنوعا،والخروج إلى الرصيف لانتظار القطار ممنوعا،والخروج إلى المدينة للمبيت فيها ممنوعا،والتفاهم مع إخواننا هؤلاء الجادين جدا،مستحيلا،فماذا يمكننا أن نفعل .. وحضر إلينا الزميل الفلسطيني متهللا وقال :- لقد وضعت حقيبتي الكبرى في غرفة الأمانات للتأمين عليها حتى الصباح .. ويمكنني الآن الخروج للمبيت في أي فندق.ولما علم أن الخروج من المحطة ممنوع،وأن جميع مكاتب تحويل النقود مغلقة في تلك الساعة،استطال وجهه وزاغت نظراته،ونظر إلى زوجته الجالسة في هدوء على مقعد رخامي ووليدها بين ذراعيها مستغرقا في النوم .. وهتف قائلا :- العالم دول مش عايزين يفهموا ليشثم أسرع إلى ابنه الوليد وانحنى عليه يقبله،بكل هدوء وعاد يقول :- ماذا سنفعل ؟وكان إبراهيم جالسا بالقرب منا متعبا مكتئبا لأن لأنه فقد نظراته الطبية أثناء حركة النزول بالحقائب من القطار ولما سمع يوسف يتساءل رد عليه قائلا :- اللي يعمله ربناوفي تلك اللحظة حضر أحد موظفي المحطة من الذين يعرفون عبارات قليلة باللغة العربية ولما شرحنا له ظروفنا قال :- فيه قطار واقف بالمحطة سيسافر إلى وهران في الحادية عشرة قال هذه العبارة بكلمات عربية ركيكة ولكننا فهمنا المعنى. ولم ننتظر كلمات أخرى،وإنما انطلق إبراهيم ومحسن وحنان في نشاط عجيب ينقلون متاعنا إلى القطار الذي لم يكن باقيا على تحركه غير نصف ساعة. وفي دقائق معدودة كنت جالسا هذه المرة في الردهة الصغيرة في مدخل الدرجة الثانية،على مقعدي المتحرك. لقد أصررت على ألا أتركه مهما كان الثمن. وأقبل موظف القطار وحاول أن يقنعني بالانتقال إلى مقعدي في المقصورة المخصصة لنا،ولكنني قلت :- ممنوع ... وكلما قال شيئا فهمته أم لم أفهمه،قلت بإصرار :- ممنوع .. ولم يبتسم الرجل،ولكنه هز كتفيه وانصرف.ولم أهتم بانصرافه غاضبا متجهما فلو أنه عاد بالجيش الجزائري كله،لما سمحت لأحد أن ينقلني من فوق الكرسي إلا جثة هامدة. (..) وفي هذه الفترة الحرجة كان الزميل الفلسطيني يتراقص لأن حارس غرفة الأمانات كان قد أغلق الغرفة على حقيبته الكبيرة و انصرف إلى بيته،وأمسى يوسف في موقف أشد من موقفنا حرجا،ماذا يفعل الآن، إن الحارس لن يعود إلا في الثامنة والنصف صباحا،ويكون القطار قد رحل،وربما يمنع من البقاء في العاصمة حتى التاسعة من مساء اليوم التالي،موعد القطار المسافر إلى وهران .. وراح المسكين يتواثب في جنون. ولكنه كان في أثناء تواثبه،لا ينسى أن يذهب إلى ابنه الوليد النائم على حجر أمه ويقبله،ثم يعود إلى الوثب والصياح في طلب بوليس النجدة أو أي بوليس أو سفير ليبيا أو أي سفير عربي ليحل مشكلته ...){ص 81 - 94 }. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة
رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني
حول العالم على كرسي متحرك "7"
بينما كان يوسف الفلسطيني يغلي من الغضب،ولا ينسى – في الوقت نفسه – أن يذهب ليقبل طفله .. (وفوجئنا بإبراهيم وحنان ومحسن يدخلون القاعة حاملين حقيبة صاحبنا،لقد عثروا على حارس غرفة الأمانات قبل أن يخرج من باب المحطة الرئيسية وظلوا يقنعونه بحرج موقف الراكب يوسف (..) وما إن رآها يوسف حتى تهالك جالسا بجوار زوجته وهو يتنفس بعمق وارتياح .. وجلسنا – أعني جلسوا – في مقصورة الدرجة الثانية،,بقيت في الردهة الخارجية بمقعدي،وتحرك القطار،ووجدت أنني أكثر راحة في مكاني هذا من الجلوس في المقصورة الضيقة حيث كان الزميل يوسف لا يكف عن تقبيل ابنه كل دقيقتين بانتظام،كما قال لي إبراهيم ومحسن – ضاحكين (..) ومرت ساعات الليل وأنا أنام حينا وأستيقظ حينا آخر،وتبلج الفجر وأضاء على الدنيا،وأخذت أشبع روحي بمنظر الحياة وهي تنبض في الكون حولي لحظة بلحظة،وبدأت الجبال من بعيد كأطياف هائلة تتحرك ببطء وإصرار،وأخذت معالم الأشياء تبين تدريجيا حتى انبثق ضوء الفجر على كل شيء فإذا كل شيء يعود للحياة من عدم الليل والظلام،والواقع أن الإنسان لا يدرك معجزة الليل والنهار،والعدم والوجود إلا في مثل هذه الآفاق الواسعة البعيدة عن عبث الإنسان وتفاهة الإنسان ومحاولات الإنسان – اليائسة – في تسخير الطبيعة،بينما تسخر منه في كل مكان ...ظللت أرقب الضوء أو نبض الحياة يزداد رويدا،رويدا .. ألوان الطيف تتوزع وتلون معالم الطبيعة في سمت العين بالألوان التي ترتاح لها النفس وتستريح لها العين،ويبتهج من عذوبتها القلب،وتسترخي لعذوبتها الأعصاب وتتدغدغ لبهائها الحواس ويطمئن لتناسقها الذهن،ويتلاشى أمام حلاوتها كل إحساس بالتعب والإرهاق والحاجة إلى النوم (..) وألاحظ أن القطار يسير ببطء غير عادي (..) ورأيت الوجوه التي كانت متجهمة تبتسم،ولم أدر السبب،ولكني لم ألبث أن سمعت همسات .. أن القطار يجر عشرين مركبة محملة بالجنود عدا مركبات الركاب العاديين،لماذا؟ .. يقال أن انقلابا وقع في وهران،ولهذا فإن الوجوه المتجهمة دائما تبتسم الآن،ولم أشأ أن أرد على محدثي،ما لي أنا وللسياسة،ومن يدرني أن هذا المتحدث صادق فيما يقول،أليس من المحتمل أن يكون عينا يريد أن يعرف اتجاهاتي السياسية،أليس من المحتمل أن يكون هذا النبأ أو هذه الشائعة شركا يلقي بي – إذا تحمست له ،في معتقل جزائري .. ونظر إلي المتحدث يريد أن يعرف رأيي ... وقلت :- إن الساعة تقترب من الثامنة ولم نصل بعد إلى وهران ..- ولكن .. ألم تسعد بما قلت لك؟- إننا إذا لم نصل إلى وهران قبل قيام قطار وجدة في الواحدة فسوف نضطر إلى قضاء أربع وعشرين ساعة أخرى في المحطة أو في المدينة ونحن لا نملك مالا جزائريا .. وهز محدثي كتفيه وانصرف عني في شيء من الغضب {عجيب!! كيف حولت بعض الأنظمة العربية الإنسان العربي إلى (متوجس)!! (مرعوب) من المعتقلات إن أبدى رأيه السياسي!! وعجيب أيضا كيف انقلب حال الجزائريين!! يبدو أنهم فجأة أصبحوا يجيدون الحوار باللغة العربية الفصحى!! وابتسمت الوجوه التي كانت متجهمة !!!} .. وازدادت المناظر الطبيعة جمالا حولي حتى نسيت الموعد الذي يجب أن نصل فيه بهذا القطار السلحفائي إلى وهران وبدا لي أن الطبيعة في كل خطوة ترتدي من أجلي ثوبا جديدا،كل ثوب أجمل من سابقه،ولكأنها تقول لي : لا يحزنك ما تلقاه من البشر،فليس بين البشر من هو معصوم من الأخطاء والعقد النفسية. وعش معي هذه الساعات فإنك قد لا تعيشها مرة أخرى.ووصلنا إلى وهران في الواحدة إلا ربعا،وهبطت من القطار وأنا أستحث إبراهيم ومحسن وحنان للإسراع بحمل حقائبنا ومتاعنا إلى القطار المنتظر بالمحطة،وأقبل الزميل الفلسطيني يوسف يقول :- ألا يحسن أن نبقى في المدينة حتى مثل هذا الوقت في اليوم التالي؟وصرخت فيه بأعصاب ثائرة :- ابق أنت .. أما أنا فإني أريد أن أصل إلى حدود المغرب في أسرع وقت ..- ولكن ليس معنا خبز- لنصم .. ألا تصوم رمضان- وأين نحن من رمضان يا أستاذولم أبال به .. وإنما أخذت أحرك المقعد بقدمي وقد دبت فيهما قوة مفاجئة وانطلق المقعد بي دون مساعدة عبر الممر الممهد إلى الرصيف الآخر حيث يقف قطار وجدة،وفوجئ إبراهيم ومحسن وحنان بي عند مدخل الدرجة الأولى،وسرعان ما حملت إلى ردهة هذه الدرجة،مصرا ألا أنزل عن مقعدي مهما يكن الأمر ){ص 95 - 97 }.وركبوا قطارا سريعا،عوضهم عن بطء القطار السابق،وتسلموا استمارات لملئها،فملؤواها باللغة العربية ،فرفض الموظف استلامها .. (وقلت للموظف الشاب بهدوء :- لماذا .. ما هو الخطأ- ممنوع لغة عربية- ولكن الاستمارة مكتوبة باللغة العربية- ممنوع لغة عربية- نملأها باللغة الفرنسية - ممنوع- إذن ماذا نفعل- ما بنعرفوأقبل محسن ساخطا وأمسك بالاستمارات ومزقها وألقى بها من نافذة القطار .. قائلا :- ما في استمارات .... واللي عايزين تعملوه اعملوه ..ورفع الموظف يده بحركة تهديد وانصرف. وظهر أن تهديده لم يتجاوز أن جعلنا،حين وصلنا إلى مبنى جمارك الحدود الجزائرية آخر الركاب الذين تم تفتيشهم وإطلاق سراحهم ليعودوا إلى القطار ويجتازوا الحدود إلى المغرب.){ ص 97 - 98}.كما يقول المثل الشعبي (ليالي العيد تبان من عصاريها) .. (ووصلنا إلى الحدود المغربية في الثامنة مساء،ورأينا على الجانب الآخر من الرصيف القطار الذي كان ينتظرنا لينطلق في التاسعة إلى الرباط .. وقال لنا موظف الجمارك المغربي وهو يرى حالتنا وما كان يبدو علينا من إرهاق وضيق و"بهدلة"بعد أن أمضينا ليلتين وثلاثة أيام بلاد طعام إلا اللوز والمربى واللبن والبيض المسلوق،قال لنا بابتسامة لطيفة :- لقد انتهت كل متاعبكم هنا .. اطمئنوا .. اطمئنوا .. وأمر لنا بمرطبات،واعتذر آسفا لأن صراف المحطة انصرف منذ دقائق،ولكن لا بأس لسوف يتفاهم مع رجال المحطة لكي يستقضوا ثمن التذاكر في الرباط عندما نصل في الثامنة صباحا،وهناك في محطة الرباط سنجد أكثر من مكان لتحويل ما نشاء من نقود إلى عملة مغربية (..) وفوجئنا بموظفي المحطة المغاربة،يعاونوننا في حمل الأمتعة إلى القطار الآخر،وأصر أحدهم أن أجلس،أنا ومن معي،في ديوان خاص بالدرجة الأولى،رغم أنه لن يتقاضى إلا ثمن تذاكر الدرجة الثانية،وتقدمنا إلى أقرب مقصورة بجوار مدخل المركبة وطلب من ركابها أن ينتقلوا إلى مقاصير أخرى لأن مصريا مريضا يحتاج إلى هذه المقصورة القريبة من الباب،وخرج الركاب الأربعة بأمتعتهم وهم ينحنون أمامي برؤوسهم،وكل منهم يقول لي بابتسامة :- لا بأس .. لا بأس . ولما استقر بي الأمر في ديوان الدرجة الأولى بمقاعده الفاخرة العريضة الصالحة للجلوس والنوم،نظرت إلى محسن وإبراهيم وحنان وقلت :- هل نحن في حلم؟!وقال إبراهيم بضحكته الصافية البريئة :- إحنا يا أستاذ في المغرب.وجدت نفسي في مقصورة بالدرجة الأولى،أعدها لنا – كما سبق القول مفتش السكة الحديدية في وجدة،واسمه على ما أذكر،عبد الحميد ... ومن المصادفات العجيبة أنني عرفت أثناء زيارتي للسيد محمد بن زيان في مصيف أفران بالمغرب،بعد ذلك طبعا،أن السيد عبد الحميد هذا الموظف المغربي الإنسان. هو زوج ابنة الصديق محمد بن زيان ،مدير التعليم السابق بالمغرب،ووكيل مكتب تنسيق التعريب في الدول العربية بالرباط .. أقول وجدت نفسي في هذه المقصورة الفاخرة،الأولى من ناحية الباب،والمستقلة عن باقي مقاصير القطار،وليس معي غير ابنتي حنان،أما ولدانا محسن وإبراهيم فقد أعد لهما المفتش الإنسان مقصورة أخرى بجوارنا حتى يستطيع كل واحد منا أن يستقل بمقعد كامل يمكن تحويله إلى سرير. لقضاء ساعات الليل التي سيستغرقها القطار للوصول إلى الرباط .. وجاء المحصل بعد المفتش،نفس الأسلوب المهذب في المعاملة،نفس الابتسامة الصافية،نفس التفاهم الذي كان يتم بالقلب قبل اللسان. وكانت اللغة العربية السليمة هي لغة المخاطبة بيننا،بعكس إخواننا الجزائريين الذين لم يكونوا يفهمون من اللغة العربية – للأسف الشديد – إلا كلمتي "ممنوع" و"ما بنعرف" ..كان إبراهيم ومحسن معنا – قبل أن نفترق للنوم – وأخرج إبراهيم – الذي كان – أمينا للصندوق – النقود ليدفع ثمن التذاكر .. ولكن المحصل قال :- جئت لأطمئن على راحتكم فقط ..- شكرا جزيلا أيها الأخ العزيز- أما ثمن التذاكر فيمكنكم أن تسددوه في الرباط بعد أن تحولوا ما شئتم إلى العملة المغربية. (..) كان القطار الفاخر ينطلق بسرعة تزيد على ثمانين كيلو مترا في الساعة ولكن العربات لم تكن تهتز أو تتأرجح كعربات قطارات تونس والجزائر،وكانت ستائر الليل مسدلة على نوافذ القطار لا تتيح لنا أن نرى شيئا من الطبيعة التي ننطلق فيها .. وبدا لي فجأة أن القطار يحملنا إلى مجهول يملأ النفس بالتوجس،بالخوف،أو الفرحة،باليأس أو الأمل،بالمتاعب أو الراحة .. أربعمائة وستين دولارا هي كل ما يملكه أربعة أشخاص،أحدهم لا يسير خطوة إلا على مقعد متحرك،وثانيتهما فتاة لا تزال في أول الصبا لا تحسن القيام بأي عمل. والجميع قد ابتعدوا عن وطنهم نحو أربعة آلاف كيلو متر،والقطار يحملهم إلى نحو سبعمائة أو ثمانمائة كيلو مترا أخرى ..وكل ما معهم أربعمائة وستون دولارا ..آ .. نسيت .. وحقيبة بها بعض المأكولات المحفوظة تكفيهم بضعة أيام لا تزيد عن خمسة .. وقلت لولدنا إبراهيم :- كم يوما يكفينا هذا المبلغ في للإقامة في الرباط؟وفكر إبراهيم برهة ثم قال :- إذا نزلنا في فندق متوسط فإنه يكفينا للإقامة فقط – دون أكل – حولي أسبوعين - أي حوالي أسبوع بالأكل- وأسبوعان في فندق من الدرجة الرابعة – هبوطا – مع الاقتصاد الشديد في نفقات الطعام ..- وبعد ذلك يا إبراهيم ..ونظر إبراهيم نحو النافذة ورفع عينيه إلى أعلى .. إلى السماء وقال :- وبعدها يحلها الكريم ..ثم أردف مسرعا :- ألن نكون ضيوفا على الحكومة المغربية؟إن خطاب السيد محمد الدوكالي مدير الإعلام الخارجي الذي رد به على خطابي،لا يحمل أكثر من عبارات الترحيب بنا في المملكة المغربية حيث سنجد كل حفاوة من زملائنا الأدباء والكتاب في المغرب. وحك إبراهيم مؤخرة رأسه بيده وقال :- يعني ليس فيه أي وعد قاطع باستضافتنا رسميا- أبداوخيم علينا صمت ثقيل لم يكن يقطعه إلا صرير عجلات القطار الذي كان ينهب الأرض نحو الرباط .. على مسافة خمسة آلاف وثلاثمائة كيلو مترا من أرض الوطن .. وقال إبراهيم بصوته الهادئ ووجهه الذي ينم عن الطيبة المطلقة :- سمعتك تقول لأحد الأصدقاء أنك ماض في الرحلة معتمدا على والله وحده .. وتمتمت في صوت خافت :نعم يا إبراهيم .. معتمدا على الله وحده .. ){ص 98 - 103 }. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة
رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني
حول العالم على كرسي متحرك "8"
وعادة هواجس المستقبل تلتهم أفكار الأستاذ (القباني)،ففي ليبيا كانوا ضيوفا على أقربائهم من آل الفرجاني .. ( ورغم الحفاوة أو المعاملة الطيبة التي قوبلنا بها من موظفي الجمرك والسكة الحديدية المغربيين. فإن ما لقيناه من إهمال السلطات الرسمية في تونس والجزائر {سيعود ليعتذر للجزائريين بأنه لم يخبرهم بمروره عبر أراضيهم} وهما جزء من المغرب الكبير – جعلني أفكر طويلا فيما سيحدث لنا لو أننا وجدنا في الرباط بعض ما وجدناه في تونس مثلا ،حفاوة من أفراد الشعب المحب لمصر والمصريين،وإهمال تام من السلطات المسؤولة – إننا قد نجد اثنين أو ثلاثة في الرباط من الأصدقاء الذين تعرفت بهم في القاهرة،مثل السيد عبد الكريم القباج ومحمد بن زيان،أو آخر مثل الحاج عبد القادر التحيفة الذي كنا نحمل إليه هدية قرآنية من صديق له في القاهرة ،من المؤكد أن هؤلاء الأصدقاء أو المعارف الثلاثة سوف يدعوننا إلى ثلاث مآدب على الأقل،ثم ماذا بعد ذلك؟ أقول لكم الحقيقة أن النوم طار من عيني رغم حاجتي الشديدة إليه ... قد تكون لحظات من هذه اللحظات التي تنتاب النفس البشرية مهما بلغ بها الإيمان من قوة .. مادات لم تأخذ بالأسباب أولا! (..) وهكذا أخذت أحدث نفسي وأنا تحت سيطرة هذه اللحظات من الضعف،إن المبلغ الذي معنا قد يكفينا للعودة إلى الوطن إذا بدأنا هذه العودة في صباح اليوم التالي،وهذا شيء يكاد يبلغ حد المستحيل بعد ثلاثة أيام أمضيناها من قطار إلى آخر بلا نوم مريح،ولا طعام يذكر .. وإذا فعلنا هذا،فلماذا كانت الرحلة،ولماذا لم نناقش هذه الاحتمالات قبل أن نبدأ أول خطوة بها .. بل لماذا لم أشتر – كما يفعل الكثيرون كمية من السلع المستوردة الزهيدة الثمن في بنغازي ثم أعود في سلام (..) وفي كل لحظة كان القطار ينهب الأرض نحو ذلك المجهول .. وفجأة جمعت نفسي بقوة وتمتمت بصوت مسموع :- إن الله الذي رعانا حتى الآن سوف يرعانا بقية الرحلة طالما كان اعتمادنا عليه نابعا من إيمان عميق،إيمان لا شأن له بالحسابات ومنطق العقل .. (..) ولما فتحت عيني أخيرا وجدت ضوء الفجر قد غمر المقصورة،فنهضت جالسا،واقتربت من النافذة أحاول أن أنسى أحلامي المزعجة (..) وأخذت أعب من دنان الألوان التي كانت تسكبها الطبيعة وهي تستحم في بواكير أشعة الشمس،وخيل لي أن روحي تنزلق من جسدي لتهيم مع مواكب الضوء،والألوان،والإشراق،وتستحم مع الطبيعة في بحار الطيف الشمسي،وتتوثب على قمم الجبال البعيدة وعلى سفوحها القريبة،ولتعبر الوديان الخضراء بأزهارها البرية التي كانت ترسم عاملا من الألوان والأحلام،وبهجة الحياة. ورفعت المنضدة الأنيقة المثبتة على جانب المركبة تحت النافذة. وتناولت علبة سجائري ورحت أدخن سيجارة وقد عاد إلي الإحساس الدافق ببهجة الحياة (..) ونهضت حنان بعد أن داعبتها نسمات البكور،وجلست تفرك عينيها وتقول بعد تبادلنا تحية الصباح :- أين نحن؟!- في الطريق إلى الرباط- ونظرت في ساعة يدها ثم تمتمت :- ياه الساعة الآن التاسعة.ووقفت تسوي ثوبها وبنطلونها،وتناولت من حقيبتها الخاصة أدوات التجميل والصابون المعطر والمنشفة وأسرعت إلى دورة المياه بالقطار. وفي خلال غيبتها جاء محسن وإبراهيم وانهمكا في إعداد طعام الإفطار (..) وظهرت منطقة الأشجار التي تقع في ضواحي الرباط،وأخذت البيوت الصغيرة المتناثرة على طول الطريق تبدو بين الحين والآخر منبئة باقترابنا من محطة الرباط (..) ولاحت عمارات المدينة،البيضاء،من بعيد،تقترب بسرعة هائلة،وفجأة اختفى كل شيء .. فقد دخل القطار في نفق ليصل إلى محطة تحت الأرض،ولهذا كانت المحطة عملا هندسيا جميلا،مدخلها الفاخر على مستوى الشوارع،ثم تهبط منه مقدار طابقين أو ثلاثة إلى أرصفة القطارات التي تنطلق في نفق طويل يبدأ في مدخل المدينة،وينتهي في آخرها،دون أن تعيق القطارات حركة المرور في شوارع المدينة .. وهبطنا من القطار في تمام التاسعة تماما (..) وقبل أن تهبط من القطار،رأيناه يتحرك بهدوء ليواصل رحلته إلى مدينة الدار البيضاء في نهاية الخط،وخفق قلبي بعنف وصرخت :- اقفزي يا حنان ..وقفزت ... وسقطت على يديها وركبتيها،ولكنها كان سقطة بسيطة لأن القطار لم يكن قد أجمع سرعته بعد .. وقد ذكرني هذا التحرك الخافت أو "التسلل"للقطارات على طول البلاد المغربية،فمنذ غادرنا تونس كنا نجد القطار"يتسلل"من المحطة في موعده أو بعد موعده دون أي إنذار أو تحذير،تكون جالسا تتحدث في هدوء،وإذا بالقطار يتحرك،وببطء في أول الأمر طبعا،وإذا هو يندفع مطلقا صفيره (..) ووقفنا برهة أمام مدخل محطة الرباط أنظر،لأول مرة في حياتي إلى شوارع مدنية الرباط،وكان ضوء الصباح باهرا. أكثر إشراقا من أي صباح رايته من قبل،ولم أكن أدري لماذا .. بل ولا أدري السبب،قد يكون إحساسا داخليا. وقد يكون السبب في هذا الإشراق غير الطبيعي للصباح في الرباط،إن المدينة كلها كانت تسبح في اللون الأبيض المطرز بالخضرة الزاهية وألوان الزهور المتعددة،المباني جميعا بيضاء ناصعة وكأن عمال الطلاء قد هبطوا لتوهم من واجهاتها ..وكان ثمة أزيز متصل قد أثار سمعي دون أن أعرف مصدره في أول الأمر،ولكنني لم ألبث أن تبينت الحقيقة،كانت هناك أعداد كبيرة من راكبي وراكبات الدراجات البخارية تنطلق في الشوارع المتفرعة من الميدان الواقع أمام مبنى المحطة،شوارع كثيرة واسعة،نظيفة،تحف بها الأشجار،وتتوسط الشارع الرئيسي،"محمد الخامس"،صفان من النخيل المتوسط الارتفاع،وكان الهواء نديا،والجو منعشا،والمارة يسيرون على الأرصفة في جو لا أثر فيه للتسكع،مواطنون بملابسهم التقليدية أو ملابس عصرية،وأجانب من الجنسين،عاديون أو "خنافس"بلحاهم الطويلة،والميكرو والميني جيب،والسيارات تمرق من الشوارع المتفرعة وإليها في سرعة وهدوء لا صريخ عجلات ولا ضجيج الكلكسات،ولا زعيق ركاب الأوتوبيسات وسائقيها (..) هذه إذن مدينة الرباط مدنية الأحلام التي طالما راودتني .. المدنية التي رأيتها كثيرا في أفلام الجاسوسية والمغامرات،ومدينة القلاع والأسوار القديمة،والحصون والروابي،والشرق القديم المجيد (..) وعاد إبراهيم ومعه الحمال قائلا أنه عثر على فندق متوسط الحال،يسمى فندق الأكسلسيور،على مسيرة ثلاث دقائق من مبنى المحطة،وانتحى بي جانبا وقال في همس :- أجر المبيت في الغرفة ذات السريرين اثنا عشر درهما .. أي حوالي مائة وعشرين قرشا ..وقلت :- عال جدا .. - ومن حسن الحظ وجدنا غرفتين متداخلتين بهما حوض - ودورة المياه- في الطابق الأعلى - والغرفتان!!- في الطابق الأول .. ارتفاع عشرين درجة فقط ..- بلا أسانسير طبعا- نعم ووصلنا مدخل الفندق،وكان أول ما لفت الانتباه تناقض الاسم "الأكسلسيور"مع هندسة البناء،فقد كانت هندسته على الطراز المغربي،الباب له قبو،وله عتبة مرتفعة،والواجهة تحمل الطابع المغربي بنقوشه العربية القديمة،والأرضية من البلاط المزخرف بوحدات مكررة ملونة،ودهليز طويل يؤدي إلى بهو صغير يحتوي على مكتب المدير ومقاعد الاستراحة ،وكانت ثمة عاملتان تقومان باللمسات الأخيرة من عملية تنظيف القسم الأسفل من الفندق،وكان طبيعيا أن أختلس النظر إليهما،فقد كانتا أول مغربيتين تبدوان على طبيعتهما،كان الوجه شاحبا بعض الشيء،قمحي اللون والعيون سوداء واسعة. والشعر أسود ناعما ومرسلا على الكتفين والقوام مشيقا،والتقاطيع عادية.(..) كنت أحاول وأنا أمضي على مقعدي المتحرك تحت البواكي في شارع علال بن عبد الله أن اشرب كل شيء حولي بنظرات نهمة ونفس متفتحة لاستيعاب كل نبضة حياة في هذه المدينة التي سحرتني من النظرة الأولى.كان الشارع الذي بدأنا منه التجوال يشبه شوارع طرابلس،البواكي على جانبيه والمحلات الفاخرة تعرض أحدث المنتجات المحلية والمستوردة،وفي جزء منه قريب من الفندق – داعبت أنوفنا – بل معداتنا – روائح الفطائر التي كان يعدها مخبز عصري (..) وكانت المقاهي على الجانبين كثيرة،أنيقة ونظيفة وتغري بالجلوس،كان روادها عادة من الجنسين،والفتاة الأوربية في الرباط كأختها في تونس،لا تعرف من الملابس إلا الميكروجيب،والميكرو ميكرو ... ولكن ماذا كان بوسعي أن أفعل مع ولدنا إبراهيم .. كان ممتازا في كل شيء،إلا كراهية النظر إلى ذوات الميكروجيب،وقد عانيت من كراهيته هذه الشيء الكثير،فقد كان يصر أن يتولى قيادة مقعدي حتى يتيح الفرصة لحنان أن تتفرج بحريتها على ما تعرضه الواجهات من روائع الملابس والأقمشة والتحف،وكان من نتيجة إصراره هذه أن راح يدير المقعد بزاوية منفرجة كلما مررنا على باقة من الزهرات الأوربيات جالسات على مقهى،واضعات السيقان على السيقان وبخاطرك بأه!!ولكن على مين،كان هو يوجه المقعد إلى زاوية منفرجة،ولكنني كنت أدير رأسي على عنقي في زاوية حادة أختلس خلالها،من تحت النظارة،نظرات خاطفة،ولكن كافية لإثارة الدفء في دماء كادت خمسون عاما أن تبردها .... وقد قلت له ذات مرة في أثناء حوار في هذا الشأن :- إذا لم يكن هذا الميكروجيب قد صنع خاصة لمتعة أنظارنا،فلماذا صنعوه ..فكان رده عليّ :- لأنظار الخلابيص يا أستاذ ..- أتعني أنني خلبوص- لا سمح الله يا أستاذ ... ولكن الشرع يقول النظرة الأولى لك .. والثانية عليك .. - حلوا جدا .. أنا أكتفي بالنظرة الأولى واتفقنا على ألا ينحرف بالمقعد في زاوية منفرجة عند المرور على ذات ميكرو جيب ،ولكن الماكر كان يمر بسرعة كلما اعترضنا شابة حسناء،وكان يتلكأ إذا وقفنا أمام شمطاء أمريكية معصعصة الساقين .. وكان أحيانا يتوقف بالمقعد أمام بعض هؤلاء المعصعصات،مختلقا سببا من أسباب كثيرة يمكن للإنسان أن يتوقف من أجلها،لإخراج منديل،أو مسح زجاج النظارة أو مسح الجورب .. إلخ.وكنت في كل مرة أسمع ضحكه المكتوم وهو يراني "أرفض"{هكذا بالمعجمة} بقدمي بعيدا عن ذلك المنظر"المؤذي". (..) وانتهى الشارع بميدان متوسط الاتساع يتفرع من جانبيه – عرضا – شارع واسع فاخر تتوسطه جزيرة مخضرة،وتقوم أعمدة النور على جانبيه وفي الجزيرة التي تتوسطه،وحول الميدان،وكانت الشمس المائلة في سمت الغروب تسكب ضوءها الهادئ – في رفق – على كل شيء .. وعلى أهم شيء تعلقت به نظراتي في تلك اللحظة ... كان في الجانب المقابل للشارع الذي خرجنا منه سور ضخم من الحجارة الصلدة الحمراء،وفي وسطه،عند طرف الميدان،بوابة واسعة علمت أنها تفضي إلى حي من أحياء المدنية القديمة وأنها تسمى بوابة السويقة،وتسمرت عيناي على البوابة وعلى السور الضخم الممتد على جانبيها،وعلى الأرضية المرصوفة بالبلاط الصغير وعلى جمهرة الداخلين والخارجين منها،ومعظمهم من الأهالي،والباقون من السياح والهيبز ... وتمتمت كأنما أحدث نفسي :يخيل لي أني رأيت حلما تجسد أمامي فجأة ..(..) وغادرنا القهوة إلى جزيرة الميدان .. ونظرنا إلى اليمين ثم على الشمال ونحن لا نعرف إلى أي اتجاه نواصل التجوال،وسألنا عن ضاحية سلا،وأشار المسؤول إلى اليمين،وبعد مسيرة لحظات في الشارع الأنيق،رأيت من بعيد منظرا أعتقد أني لن أنساه في حياتي،منظر الشمس الغاربة وهي تنسكب في مهرجان من النور على دور فيلا بيضاء تقوم {على} ربوة مطلة على نهر متوسط الاتساع .. نهر الرقراق ..وتراخيت في مقعدي المتحرك عل أرضية ناعمة،ومددت عيني على هذا المنظر الفريد الذي لم أر له مثيلا من قبل،أنت في القاهرة المزدحمة لا تستطيع أن ترى غير العمارات العالية في شوارعها الحديثة. وعلى ضفاف النيل لا نرى من بعيد إلا صفوفا من العمائر والحدائق المحيطة بها أو الحقول عند وراق العرب أو جزيرة الذهب،أو الكازينوهات والأشجار في الجزيرة،وكلها بطبيعة الحال مناظر تخلب ألباب الغرباء والسائحين،ولكن منظر مدين بيضاء وبيوتها الصغيرة كالحمام الأبيض،تقوم على ربوة فوق نهر رقراق الماء ... تبدو .. كلها تقريبا بشوارعها ومعارجها وممراتها .. كأنها شيء يفوق الحلم ..){ص 104 – 121 } إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة
رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني
حول العالم على كرسي متحرك "9"
بعد بحث مضني،عثر الأستاذ (القباني) ورفاقه على منزل الحاج عبد القادر التحيفة،والذي دعاهم للغداء – حسب المتوقع تماما - في اليوم التالي،وفي صبيحتة نفس اليوم،تناولوا إفطارهم في الفندق،من مخزونهم الغذائي .. (وبعد هذا الإفطار – الذي لا شأن له بحساب الإقامة في الفندق – عقدنا جلسة كالمعتاد نقرر فيها ما سنفعله في يومنا،أجلس أنا للكتابة،وتقوم حنان بكي بعض الملابس التي غسلت في الليلة السابقة،ويمضي إبراهيم ومحسن للبحث عن مكتب تنسيق اللغة العربية لتحديد مقابلة مع صديقنا عبد الكريم القباج ومحمد بن زيان،على أن يتم هذا كله قبل موعدنا مع الحاج عبد القادر التحيفة .. (..) وقلت لمضيفنا :- إنني لا أتناول الغداء عادة إلا بعد الظهر، وأرجو أن يكون هذا الموعد مناسبا لكم ..وقال المضيف :-إذن هلم إلى بلاج سلا نقضي فيه الوقت الباقي على معود الغداء ..وكان البلاج قريبا من البيت،نستعمل في الوصول إليه السيارة،وكان يقع وراء السور القديم الذي قلت أنه يمتد على طول الشارع الذي يطل عليه بيت مضيفنا. وسرنا في ممر طويل مرصوف يؤدي إلى رمال البلاج،وتوقف مقعدي المتحرك عند حافة الممر المرصوف،لأن الرمال كانت أكثف من أن تمضي عليها عجلات المقعد دون أن تغوص فيها ،ومن حسن حظي،وحظي دائما حسن في مثل هذه المواقف،رأينا فتاة مغربية جالسة على مقعد حجري عند حافة الممر (..) أما الفتاة فقد أشرق وجهها الخمري بالابتسام حين اقتربنا منها،ولم تحاول أن تنهض أو تنصرف،وإنما ظلت جالسة تنصت إلى الاتفاق الذي تم على أن أبقى في مكاني ريثما يمضي الباقون إلى حافة الماء،وقلت وأنا أنظر إلى الفتاة أبادلها الابتسام :-إنني لن أكون بمفردي على كل حال ...وقالت وقد فهمت ما أعني :-مرحبا بك يا عمي .. -عمك .؟؟ وابتعلت الكلمة التي كانت دائما تأتي في الوقت غير المناسب،لتذكرني بالشعر الأبيض الذي ملأ فودي،ولكن ما ذنبي يا بنات إذا كان هذا البياض لم يصل وأعتقد أنه لن يصل إلى القلب ...وقلت لها :-مغربية ؟-نعم-من الرباط -والدتي من فاس ..{ودار بينهما حوار طويل،عن دراستها،في المرحلة الثانوية،وعدم معرفتها إذا كانت ستكمل تعليمها الجامعي أم لا،فإذا تزوجت لن تكمل ..} واندفعت الكرة بالقرب منا،وفوجئت بمحسن الفهلاو يسرع لالتقاطها ثم يهمس في أني قائلا :- مين قدك .. الماء .. والبلاج ... والوجه الحسن .. (..) وأحب أن أؤكد بهذه المناسبة أن المتعة التي كنت أشعر بها وأنا أجلس إلى غادة حسناء كهذه،كانت أبعد شيء عن المتعة النابعة من أي إحساس جنسي،وإنما إحساس "رومانتيكي"رفيع،لقد ذكرتي – وتذكرني دائما هذه المناسبات – بأيام صباي،فلا أراها أمامي "مجرد أنثى مغرية"وإنما هي إنسانة جميلة أستريح بالحديث معها،وأنعم بالنظر إليها،ويسعد قلبي بابتسامتها،تماما كما يسعد المرء حين يرى في الصباح باقة ورد تلمع بالندى ..وعلى كل حال لا داعي للتفلسف الآن،يمكنني أن أقول أنني كنت ناعما بهذه الجلسة،أحاول الحديث حتى لا تنصرف {يا رجل .. أحد يعيق "باقة ندية"عن الانصراف؟!!! على كل حال بعد حوار طويل،عرف أنها قرأت بعض كتبه،ثم حضر والدها للسلام عليه،وأخيرا ذهبوا إلى بيت مضيفهم}(..) ولم أكن أتوقع أن يقدم "الحاج"نساءه إلينا،ولهذا فوجئت برؤية السيدة حرمه تقبل لتحيتنا باسمة وهي ترفل في رداء من الحرير الطبيعي المطرز بالقصب وخيوط الحرير الثمين،وصافحتنا جميعا في حياء واضح وهي تغمغم بكلمات مغربية لم نفهمها،وكنا في خلال هذين اليومين قد تعلمنا كلمتين : مزيان أي حسن أو "كويس" و "أخا" أي لا بأس.وتقدمت بعد الزوجة – ابنة في نحو الثانية عشرة من عمرها لطيفة باسمة مثل أمها،هادئة رقيقة (..) وبدأنا الطعام بصنف هو أقرب إلى السلاطة الخضراء،وصنف آخر كالصلصة الحمراء السميكة المتبلة بالفلفل والشطة وزيت الزيتون،وبعدها قدم الباذنجان المقلي مع صلصة حمراء سميكة أيضا وشرائح الفلفل الأخضر،وكان معه طبق من شرائح "الفقوس" أو القثاء ثم قدم إناء كبير مستطيل يحمل زوجا من الدجاج "الإنجليزي"أو الهولندي ولعله دجاج مغربي،وكان محمرا بالصلصة وتحيط به شرائح البطاطس المحمرة والزيتون الأخضر (..) وبعد الدجاج قدمت الشوربة أو "الحريرة"وكانت سميكة جدا مكونة من حساء الدجاج والشعرية ومكعبات البطاطس والجزر الأصفر وحوائج الدجاج"الرؤوس والأعناق والأجنحة"ولكننا تناولنا منها شيئا عن سبيل المذاق،لا الأكل،ولم نستسغ أو لم أستسغ أنا على الأقل – هذا اللون ،وربما كان للشبع أثره في هذا الإحساس .. وفوجئنا في النهاية بإناء "الكسكسي"الرائع يوضع أمامنا وقد توج بالخضر المطهو بالصلصلة والمكسرات،وقطع اللحم الكبيرة،ولكننا كنا قد شبعنا تماما،ولهذا أخذت أنظر إلى "الكسكسي"في حسرة الأخ الشاعر أبو شوشة النحال "عندما دعي إلى وليمة مفاجئة وكان متخما من وليمة سابقة .. وحاولت عبثا أن أتناول كمية كبيرة منه،فقد كان "الكسكسي المغربي" أمنية طالما حلمت بها معدتي وأنا في مصر،وها هو ذا أمامي كومة هائلة متوجة بالخضر واللحم،ومع هذا فقد رفضت معدتي أن تستقبل أكثر من حفنتين .. وجاءت ألوان الحلوى بعد ذلك،شرائح البطيخ "الدلاع" بقشورها،وشرائح الشمام"البطيخ"بقشوره ثم العنب الشبيه بالعنب الرزاقي وغسلنا أيدنا بعد ذلك،ثم شعرنا جميعا "بالخدر"أو "الوخم"الذي يعقب امتلاء المعدة وسحبها للدماء من الأطراف للرأس وكانت الساعة قد بلغت الرابعة حين نهضنا من النوم وتهيأنا لشرب الشاي الأخضر (..) وأصر الحاج أن يوصلنا بسيارته إلى البيت،وعادت حنان من مجلسها بين ضيفات لزوجة الحاج،جئن ليتعرفن على هذه الغادة المصرية،وكانت قد أمضت معهن فترة نومنا وفي الطريق إلى الفندق قالت هامسة :- إنني لم أفهم كلمة واحدة من أحاديثهن ..(..) وقررنا أن نمضي المساء في المدينة القديمة،ودخلنا من بوابة أخرى مواجهة لشارع الملك محمد الخامس،وشارع الملك محمد الخامس من أجمل شوارع الرابط (..) وبعد الميدان الذي يتقاطع فيه الشارعان،محمد الخامس والحسن الثاني،والذي تنتهي عنده أو تبدأ عنده خطوط سيارات الأتوبيس،يمتد الشارع قليلا نحو خمسين مترا ليصل إلى إحدى بوابات السور الضخم الذي يفصل المدينة القديمة عن المدينة الجديدة .. واجتزنا البوابة .. وتغير كل شيء في لحظة .. لم أكن أتصور يوما أن من الممكن لأي إنسان أن ينتقل في لحظة من القرن العشرين ليجد نفسه في القرون الوسطى بكل ما قرأه عنها من حقائق واساطير قد يكون الوضع في القاهرة أيضا حين ينحرف الإنسان من شارع الأزهر إلى شارع الغورية،ويجد نفسه في متاهات مصر التي شهدت عصور المماليك والعثمانيين والحملة الفرنسية (..) لقد مررت بهذه التجربة مرات ومرات في القاهرة الحبيبة (..) ولكنني لم أشعر في كل مرة بهذا التغيير المفاجئ،بهذا الانتقال السحري من الجديد جدا،إلى القديم جدا .. ربما كان يرجع السبب إلى أن الانتقال في القاهرة من الجديد إلى القديم يأتي تدريجيا،فأنت تمر في القاهرة بشوارع عصرية جدا،ومنها إلى شوارع شقت في أواخر القرن الماضي،ومنها إلى شوارع أخرى مدت في الخمسينات من هذا القرن (..) ولكن الأمر يختلف في الرباط،فبينما أنت تسير في شارع من أحدث شوارع الدنيا وأكثرها أناقة وجمالا واتساعا،إذا بك .. حين تنحرف بضع خطوات من بوابة في السور الممتد على جانب الشارع،تجد نفسك في مدينة من أجمل مدن العصور الوسطى (..) ولولا أن معداتنا متخمة بطعام الحاج التحيفة،لتلمظت شفاهنا وتحلبت أفواهنا ونحن نشم روائح الشواء (..) وأنا لا أريد أن أزعم أن "زنقات"المدينة القديمة تختلف كثيرا عن شارع الغورية وما يتفرع منه من"حواري"ضيقة تفوح برائحة الشرق القديم،فالاختلاف يكاد يكون معدوما- ولكن المدينة القديمة في الرابط تقوم بكاملها وراء أسوراها الضخمة وبوابتها القديمة – وطابعها الذي لم يفسده تسرب العصر الحديث إذا استثنينا هؤلاء الهيبز الأبالسة. وجلسنا نستريح في مقهى،أعني خارج مقهى،وفي مكان لا حظنا أن الهواء المنعش يهب عليه من ناحية الشمال (...) وكذلك لفت نظارنا إلى حد المضايقة شاب من الهيبز كثيف اللحية قصير البنطلون لا يغطي نصفه الأعلى غير بلوزة مفتوحة،وشعر رأسه منكوش وفي ذراعه تعلقت فتاة مثله عارية الوسط،وتغطي الجزء الأعلى من صدرها بما يشبه مشد الصدر،,نصفها الأسفل ببنطلون قصير جدا،وكان الفقر باديا عليهما بوضوح،بل كانت نظراتهما تنم على أنهما ينتظران من يدعوهما إلى كوب شاي أو شطيرة جين (..) وشجع جلوس صاحب المقهى معنا بعض الرواد من المغاربة،فجاءوا على استحياء يتعرفون بنا ويرحبون،واتسع نطاق الجلسة حتى خيل إلي أنها شملت المقهى كله من الداخل.وتحولت الجلسة تلقائيا إلى ندوة الأسئلة تتولى .. وأجيب أنا للمجموعة التي تلتف حولي (..) واستغرق الرد على هذه الأسئلة أكثر من ساعتين وأحمد الله أني كنت مستعدا لإجابات في إفاضة وإقناع {عن وضع مصر بعد هزيمة 67،وتفكيرها في الانتقام} بعد أن أعددت نفسي ثلاث سنوات لمواجهة موقف كهذا،ولم أحاول طبعا أن أقدم صورا مشرقة كأنه ليس في الإمكان أحسن مما كان أو هو كائن،وإنما تحريت أن أكون صادقا وواقعيا(..) وعندما وصلنا إلى مدخل العمارة التي يقع بها الفندق لمحت بجوار المدخل متجرا ساهرا يعرض في واجهته الزجاجية ألوانا من الخضر والفاكهة واتفقت آراؤنا جميعا على شراء كمية من التفاح اللبناني الممتاز الكيلو بدرهم{يا ترى كم كيلو التفاح اللبناني الآن،بعد أكثر من أربعة عقود؟} وكمية من الطماطم المغربية الجذابة وبضعة أرغفة من الخبز اللامع،وقررنا أن نضيف إلى هذا بعض ما نحمله من جين ومربى وزبد لنصنع وجبة عشاء فاخرة ... وإن شاء الله ما حد حوش!! ) {ص 129 - 142}.لافت للنظر جدا،هوس الكاتب بالمرأة!! والذي كنا نظنه من خصائص الدول التي ينتشر فيها الحجاب،وتنعدم فيها (لابسات البكيني) إن جاز أن يسمى لباسا!! أو هكذا يفسر البعض انتشار المعاكسات،والتحرشات لدينا .. ويبدو أن الأمر في حاجة إلى إعادة نظر في أسباب هذه الهوس،وهذه التحرشات ... عموما،في اليوم الثاني ذهبوا إلى البلاج لتناول طعام الغداء .. (أن أجلس في مشرب ومطعم يمتد أمامه شارع مرصوف تتهادى عليه بعض السابحات الفاتنات – الشاردات عن مياه المحيط – والراغبات في استعراض أجسامهن أمام رواد المقاهي والمطاعم،وكان المايوه البكيني هو الغالب،ولاسيما على أجسام الفتيات الأوربيات من ذوات الشعور المرسلة،وكانت الشماسي في ذلك البلاج عبارة عن مخيمات صغيرة من أقمشة مخططة – على الأغلب – مغلقة من ثلاثة جهات،ومفتوحة من الجانب الرابع المواجه للبحر ... (..) وفي الساعة الثالثة كثرت أسراب الجميلات اللاتي ازددن جمالا وبهاء وجاذبية البكيني اللعين .. أستغفر الله العظيم .. {رأى الأستاذ (القباني) بطاقة دعائية لفندق "باليما" ولكنه صرف النظر عنها،فالأمر فوق أحلامه ،ثم شاهد الفندق نفسه} وكان الفندق على مسافة يسيرة جدا من دار البريد،ووقفنا أمامه في جزيرة الطريق تحت أشجار النخيل،ننظر إليه .. كان أجمل كثيرا من صورته في البطاقة،وكانت الكافيتريا الملحقة به،تمتد أمامه في حديقة واسعة،أنيقة،تناثرت فيها المقاعد والكراسي تحت الشجر الظليل المكثف،حوله نافورة بجوار المطعم،وكان معظم الجالسين،كما لاحظت من الأجانب،أعني الأوربيين،وكان بينهم بعض الهيبز،لعجبي الشديد،بملابسهم الرثة ولحاهم المرسلة،وشعورهم المشعثة،ورفيقاتهم الجريئات ..وقلت لنفسي : "أليس هذا المكان .. جنة من جنات الأرض" ..ورفعت صوتي قائلا لولدنا إبراهيم :-هلم نعد قبل أن تعود حنان فلا تجدنا .. وبعد لحظات قليلة من عودتنا،رأيت حنان آتية تجري وهي تلوح من بعيد بورقة في يدها،ولاحظت أنها لم تغير ملابسها،وظننت أن في الأمر شيئا،ولكنني اطمأننت حين لمحتها تبتسم،ومرت لحظات خلتها أياما،وهي معزولة عنا بسبب حركة المرور في الميدان،ولما سمح للمشاة بالعبور،اندفعت نحونا جريا – كطفلة صغيرة سعيدة – وقالت وهي تلهث وتضع الورقة،أعني المظروف في يدي : - أقرأ يا بابا ... خطابا من السيد محمد الدوكالي ..وقرأنا جميعا الخطاب في وقت واحد،وأعدنا قراءته مرة أخرى حتى نتأكد أننا فهمنا جيدا .. ){ 150 - 153}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة
رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني
حول العالم على كرسي متحرك "10"
وتجمع الرفاق على الخطاب الذي أحضرته حنان ... (وقرأنا جميعا الخطاب في وقت واحد،وأعدنا قراءته مرة أخرى حتى نتأكد أننا فهمنا جيدا ..لقد رحب الرجل بنا في الرباط،وعاتبنا لأننا لم نرسل إليه برقية نخبره فيها بموعد وصولنا ليستقبلنا في المحطة،وذكر أنه ذهب إلينا في الفندق،في صباح يوم الجمعة نفس اليوم،فلم يجدنا،ثم عاد وذهب الساعة الثالثة فلم يجدنا،ولما كان مضطرا للسفر إلى طنجة بسبب ظروف عاجلة طارئة ولن يعود قبل يوم الاثنين،فإنه - سيترك لنا هذا الخطاب في فندق "فيلدا"بعد أن حجز لنا جناحا خاصا في فندق "باليما"إقامة كاملة "تشمل المطعم والكافيتريا"وأنه يرجو أن نجد الإقامة في هذا الفندق مريحة ريثما يعود،وإلا حجز لنا في هيلتون الرباط .. وأخذنا نتبادل النظرات في صمت،هل حقا أصبحنا في غمضة عين،نزلاء في هذه القطعة من جنة الأرض .. لقد وقفت أمامها منذ لحظة،وقفة الحمال الفقير أمام قصر السندباد،كما جاء في الأسطورة. . ولكنني لم أكن أتصور إطلاقا أن يتحقق حلم إنسان بمثل هذه السرعة،وقد يظن البعض أنني "أخلق"هذه المصادفة بخيال القصاص،ولكن الله يشهد أن هذا ما حدث لحظة بلحظة وخطوة بعد أخرى. وأفقنا من ذهول المفاجأة السارة،واندفعنا،تلقائيا – نحو فندق باليما وأنا لا أكف عن التفكير فيما حدث،إنني لم أكن أطمع من وزارة الإعلام في أكثر من أن تزودني بأحد موظفيها ليطلعني على الأماكن التاريخية،وأن يقدم لي ما أحتاج إليه من معلومات لأكتب عن "المغرب"الفصل الخاص به حين أدون ذكرياتي عن الرحلة،ولم يكن اتصالي بالسيد محمد الدوكالي بصفتي الرسمية،أو بصفتي الصحفية،وإنما أديبا مصريا يقوم بجولة في دول البحر الأبيض المتوسط (..) لقد سخر من حديثي عن المغرب وحماسي لما يزخر به من جمال ودعة وأريج تاريخي عاطر،أديب عراقي كان يعمل مدرسا هناك،وحاول أن يحدثني بإفاضة عن "الانحلال الاجتماعي والأخلاقي الذي تزخر به التيارات التحتية"في المغرب،وفي تونس،وفي الجزائر،وفي ليبيا،ولكنني لم أهتم كثيرا بأحاديثه،لأنني – أولا – لست من البلاهة لأزعم أن هناك بلدا يعيش أهله كالملائكة الأطهار الأبرار،ولأنني – ثانيا – أؤمن بأن كل إنسان يكتب عن بلد – يزروه – أو يقم فيه مؤقتا – من الزاوية الاجتماعية التي يحياها أو يمارسها،فلولا أن هذا الأخ العراقي قد انغمس في هذه التيارات الانحلالية لما عرف عنها شيئا(..) وأفقت من أفكاري عند وصولنا إلى فندق باليما،واجتزنا الكافتيريا "الفردوسية"وقد تحولت أنظار الكثيرين إلينا،ووصلنا إلى بهو الفندق الأنيق،ومضى إبراهيم ومحسن إلى مكتب الاستعلامات حيث علما أن جناحا من غرفتين وصالون ودورة مياه خاصة قد حجز لنا بالطابق الثالث،وأن الفندق على استعداد لاستقبالنا في أي وقت نشاء. وكانت الساعة قد تجاوزت الخامسة بقليل،ورأى إبراهيم أن يمضي إلى فندق فيلدا فيخلي غرفتينا على أساس ألا يحسب يوم الجمعة،ولكن مدير الفندق أكد له أن يوم الجمعة لابد أن يحسب لأننا لم نخطر الفندق بالرحيل قبل الثانية عشرة ظهرا ..وقررنا أن نبيت ليلتنا في فيلدا – لنأخذ حقنا – ونبدأ الإقامة في "جنة الأرض"من يوم السبت (..) كان فندق باليما يبعد مسافة يسرة جدا عن فندق فيلدا،بل كان ثمة شارع جانبي،اكتشفه إبراهيم – يختصر المسافة إلى النصف. ومن ثم لم تستغرق عملية الانتقال أكثر من نصف ساعة قمنا بها بعد إفطار دسم،وهكذا كنا متأهبين،قبل العاشرة صباحا للذهاب إلى "مبنى دار الفكر"للتعرف على بعض الأدباء والشعراء والكتاب في المغرب .. واكتشفنا ونحن نسأل عن الشارع الذي تقع في الدار،أنها أيضا في نفس المنطقة،لا تبعد أكثر من مسيرة خمس دقائق،ولما وصلنا إليها،ألفيناها دارة"فيلا على الطراز المغربي بوابة صغيرة يمتد وراءها شريط من حديقة صغيرة،ثم باب مغربي،ودهليز يؤدي إلى دهليز آخر مرصوف بالبلاط الأبيض والأسود،ثم حديقة داخلية صغيرة حسنة التنسيق،تراصت بها المقاعد والمناضد،ثم مبنى الدارة حيث قاعات الاجتماع والمكتبة والاستقبال والإدارة (..) ولم يكن عدد الحاضرين كثيرا كما توقع السيد عبد الكريم،لأن معظم الكتاب والأدباء كانوا يقضون إجازاتهم مع أهليهم في مدن أخرى،أو في المصايف الجبلية،ومن ثم لم أجد أكثر من خمسة عشر زميلا،أذكر منهم السادة محمد برادة كاتب قصة وناقد ومترجم وخريج القسم العربي بآداب القاهرة عام 1960،ومحمد الصباغ كاتب وأديب وشاعر،وإبراهيم السولامي أستاذ بكلية الآداب وشاعر وقصاص وله ديوان باسم"حب"ومن خريجي الآداب بجامعة القاهرة،والخيري الريوني كاتب قصة ومقدم برامج إذاعية .. وأعترف أن الجلسة كانت ممتعة إلى أقصى حد الإمتاع،فليس احب إلى ألأديب من الاجتماع بزملائه يبادلونه الحديث والآراء في مختلف شؤون الأدب والفن والنقد والمعرفة بوجه عام .. وكان السيد عبد الكريم بارعا في وقف تيار كل حديث ينحرف إلى موضوعات شائكة {!!!!!!} وتحدث الأستاذ إبراهيم السولامي عن أدبنا المصري المعاصر حديث المثقف الواسع الإطلاع،الغزير القراءة،النافذ البصيرة (..) وبعد وصولنا إلى حديقة الفندق مضينا إلى المطعم الملحق بها،وكان فاخرا بطبيعة الحال،مثل كل المطاعم الملحقة بفنادق الدرجة الأولى،ولما لم نكن من خبراء الأكل في المطاعم،ولما كانت كل خبرتي في تناول الطعام مع بعض الأصدقاء،داعيا أو مدعوا،في محلات الكباب المشهورة،فقد طلبت من محسن الفهلاو – الذي تدرب على الفندقة – في فندق سميرا ميس بالقاهرة،أن يوجهنا إلى ما ينبغي من سلوك – وتقاليد {جلسوا على طاولة مخصصة لخمسة أشخاص،لقربها من الباب،فحاول المتر أن ينقلهم إلى طاولة مخصصة لأربعة،ثم اقتنع بعد جدل مع محسن،وخصوصا بعد أن سأله عن رجل وامرأة – أجنبيان – يجلسان على طاولة مخصصة لثلاثة أشخاص ) فاعتذر وانحنى وانصرف مسرعا،ثم عاد يحمل أربعة دفاتر لقوائم الطعام،وقال محسن قبل أن ينصرف المتر : - هل تطلبون الألاكارت أو الميني؟!وقلت له : اسمع يا أخينا .. لا تستعرض عضلاتك علينا نحن أيضا ..وضحك محسن قائلا : - إنني أريده أن يعلم أننا لسنا محدثي مطاعم فاخرة .. - وما معنى الألاكارت و الميني - الألاكارت أن تختار من ألوان الطعام الموجود في القائمة ما تشاء،والميني هو الوجبة الكاملة المخصصة لهذا اليوم،والتي تقدم دون اختيار إلا في اللحوم .. - وما الفرق في الحالتين ؟ - الألاكارت أغلى كثيرا من الميني .. إنك تختار نفس الكمية ونفس الأصناف الموجودة في الميني،ولكن سعر الألاكارت يكون مضاعفا ..وإني أكاد أرى ابتسامة السخرية وهي ترتسم على زملائي الذين شهدتهم قاعات الأكل في المطاعم الكبرى أكثر مما شهدتهم غرف المائدة في بيوتهم،وأكاد أسمع همساتهم الساخرة المشفقة وهم يقولون "أين كان يعش هذا الزميل الذي لا يعرف الفرق بين الألاكارت والميني؟!! وأكاد أيضا أرى ابتسامة السخرية على شفاه الزملاء وأنا أصف الفندق الفاخر بحديقته الجميلة كأنها قطعة من الجنة،بينما يعيشون هم في أماكن أجمل منه بكثير،أعني قصور بحمامات سباحة وحدائق تمتد في كل اتجاه إلى مدى البصر،وأنا حين أقول زملاء،فإنما أعني زملاء في الصحافة والأدب من الذين يطلبون من الشعب أن يحتمل المعاناة ويربط الأحزمة على البطون،بينما يعيشون على أعلى مستوى من الرفاهية والثراء..وإذا تجاوزنا ابتسامات السخرية لإخواننا الذين ندعو لهم بالمزيد مما هم فيه من نعيم مقيم،أقول أنني أكتب في الواقع لإخواني وقرائي الذين هم ،في الغالب،مثلي،لم يترددوا كثيرا،وربما لم يترددوا إطلاقا على مطاعم من هذا الطراز،ولم يعيشوا يوما،في فندق من هذا النوع،ولم يشعروا – مثلنا- بطعم الحياة الخالي من هموم السعي من أجل الرزق وتكاليف المعيشة والعمل على موازنة الدخل مع المنصرف (..) وعدنا إلى حديقة الكافتيريا نستريح،وصعدت حنان إلى الجناح المخصص لنا لتنام فترة الظهيرة (..) وجلست أتأمل المكان في تراخي واستمتاع،وكنت قد لاحظت،منذ قدومي في اللحظة الأولى رجلا طويلا مهيبا يرتدي الملابس المغربية أو المراكشية – كما علمنا – ويرتفع فوق رأسه الطرطور عاليا،وتبرز من فوق أذنيه ذؤابتان من الطرطور،والجبة من القماش الفاخر،والنعل"البلغة"فاسية رائعة،وكان يسير في ممرات الكافتيريا،وفي بهو الفندق،مختالا بطيء الخطوات،ملفتا للأنظار،أنظار أمثالنا من النزلاء الجدد،وكان له وجه معبر وسيم،وعينان نفاذتان،يضع عليهما أحيانا نظارة شمس .. وفوجئت بهذا الرجل المهيب يقترب مني،ومن إبراهيم،ويحيينا بيده في تعال ثم يقول بلهجة مغربية : - من أين؟! - من مصر .. - أهلا ومرحبا .. - وهذه الحالة .. من زمان مشيرا إلى مرضي - نعم .. من الطفولة .. - شفاك الله .. هل تعرف ما هي زينة الحياة الدنيا .. - المال والبنون .. فهز رأسه ... وقال :هذا هو المعنى الظاهري،أما المعنى الباطني فهي الصحة .. والعقل .. ولم أرغب في الدخول معه في جدال ديني،وقبل أن يستطرد في الحديث لمح فتاة أجنبية ترتدي الميكرو جيب تمر من الكافتريا إلى بهو الفندق،فانطلق وراءها انطلاق الصياد البارع،وراء الفريسة .. (..) ومضى الزملاء. وبقيت في الحديقة مستمتعا بشمس الصباح التي كانت أشعتها تتسلل في حياء من بين أغصان الشجر،وترسم على أحواض العشب والممرات اللامعة زخارف أو لوحات "رائعة على المذهب السريالي" (..) وأفقت من ذكريات وطني على رؤية صاحبنا المغربي المهيب وهو يقبل بطرطوره العالي (..) وتلفت حوله واضعا يديه في جانبي خصره وكأنه قائد يشرف على الاستعدادات للمعركة،ثم لمح بعين الصقر سيدة أمريكية عجوزا كانت تجلس بمفردها إلى مائدة قريبة مني،ولعلك تسألني كيف عرفت أنها أمريكية فأقول إنها لهجتها وهي تتحدث الإنجليزية ومبسم سيجارتها الطويل،وعلبة سجائرها والولاعة الذهبيتين،,فستانها القصير جدا رغم اقترابها من السبعين،والإسراف في تجميل الوجه المجعد ولكن ماذا يصنع العطار فيما أفسد الدهر (..) وشيئا فشيئا بدأت الحقائق تتضح،وكان ما رأيته بنفسي من تصرفات الرجل يؤكد كل كلمة سمعتها عنه بعد ذلك،لقد أخبرني محسن الفهلاو – نقلا عن موظف بالفندق أن الرجل مشهور باسم"سلطان باليما"وكان هو الذي أطلق هذا الاسم على نفسه،وإن كان شباب الرباط يسمونه" شيطان باليما"(..) إنه رجل مراكشي المنبت،متوسط التعليم قرر أن يتخذ الاحتيال حرفه له،ورغم عدد المرات التي سجن فيها بسبب هذه"الحرفة"فإنه لم يكف عنها (..) وكان طبيعيا أن تعرف طراز هذه الخدمات،كان يجلس إلى الأمريكية العجوز المتصابية ويعرف رغبتها في نوع "الفتى"الذي تريد أن تصادقه طيلة إقامتها في البلاد (..) والرجال العجائز من السائحين في حاجة – بطبيعة الحال – إلى عطر زهرة أو أكثر "تنعش " منهم النفوس(..) وهكذا كان صاحبنا سلطان أو شيطان باليما يقوم بعملية التنسيق والتوفيق {وذهب الرفاق إلى منزل السيد عبد الكريم القباج } ولم تمض لحظات حتى أقبلت طفلة في الثامنة أو التاسعة من عمرها (سلوى) التي سميت الفيلا باسمها (..) وجاءت ربة الدار،حرم مضيفنا السيد عبد الكريم،طويلة القامة،رائعة السمت – كملكة أسطورية – في رداء حريري فاخر فضفاض يصل إلى القدمين،وينعقد عند الوسط بحزام من الذهب الخالص .. وكانت في جمالها تجمع بين الجمال العربي الأصيل والجمال الأسباني الذي ورثته عن جدتها لأمها الأندلسية،وكان حديثها أيضا باللغة العربية الفصحى المشوبة باللهجة المغربية،وأنا حين أركز على عبارة اللهجة المغربية فإنما أعني الاهتمام بنطق القاف ومد أواخر الكلمات إلى أعلى ... وسرعان ما أحضر الطاهي معدات الشاي،وكلها من الفضة الفاخرة والبورسلين الثمين،وأخذت حرم السيد عبد الكريم تقوم بصنع الشاي على الطريقة المغربية،وقد علمت أن السيدة المغربية هي التي تقوم بصنع الشاي لضيوفها إذا أرادت الإمعان في تكريمهم .. وأشعلت البوتاجاز الصغير،ووضعت عليه براد الشاي الفضي اللامع ومع الماء المغلي أعواد النعناع الأخضر،بكميات كبيرة – ثم كمية كبيرة أيضا من الشاي الذي يبدو لي أنه شاي صيني لا يترك لونا في الماء .. وقدمت السيدة بنفسها أقداح الشاي ،أكوابا من الكريستال الملون،وكانت تضع السكر حسب الطلب،ومع الشاي نوع من الحلوى تشبه"بلح الشام"إلا أنها محشوة بالفستق (..) ورغم اتفاقنا مع السيد عبد الكريم القباج أن تقتصر الضيافة على الشاي إلا أنه فاجأنا بعشاء مغربي فاخر أكد لنا أن الوجبات المغربية التي تقدم للضيوف أو في المآدب عامة،لا تكاد تختلف كثيرا في جميع البيوت المغربية بصرف النظر عن مراكز أربابها الاجتماعية،بل لا يكاد أيضا أن يختلف عما يقدم في أفخر المطاعم المغربية (..) ودار الحديث حول القضايا العربية،وضرورة سيادة اللغة العربية،والوسائل التي يمكن أن تحل المشاكل التي يعاني منها العالم العربي (..) وعدنا بسيارة عبد الكريم القباج وقد مضى يوم سعيد آخر من أيامنا في الجنة ) {ص 153 - 179 }. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنو
رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني
حول العالم على كرسي متحرك "11"
مرة أخرى تمت دعوة الأستاذ (القباني) ورفاقه ، من قبل السيد محمد الدوكالي،والذي دعاهم إلى مطعم في قصر.. ( قصر القباج من زنقة القناصل هذه فقد كان مقرا لحاكم الرباط الأسبق في ظل الاستعمار،وهو أحد أفراد العائلة التي ينتمي إليها السيد عبد الكريم القباج،وبعد وفاة الحاكم،رأى ورثته أنهم عاجزون عن إدارة القصر الكبير بما فيه من خدم وأتباع،فقرروا مسايرة العصر،وتحويل القصر إلى مطعم سياحي فاخر – يعمل فيه الأتباع والخدم – وليس من شك في أن القصر من المعالم السياحية الهامة في الرباط، وقد أحسن السيد الدوكالي بدعوتنا لتناول الطعام فيه،فهو أنموذج رائع للقصر المغربي المترف الفاخر .. فأنت حين تدخل من بابه الكبير تنحرف يمينا أو يسارا في دهليز طويل يؤدي إلى ساحة واسعة جدا مرصوفة بالمرمر الفاخر،وفي وسطها نافورة هي قطعة فنية من الهندسة المغرية،وحول الساحة الكبيرة،التي لا سقف لها،يدور دهليز مسقوف فوق أعمدة من الفسيفساء ذات النقوش العربية الرائعة الألوان،وهذا الدهليز الدائري مفتوح على الساحة من جانب .. والجانب الآخر به أبواب،أو فتحات واسعة تؤدي إلى قاعات مغربية فاخرة الأثاث والرياش،مزخرفة الجدران بالفسيفساء الملونة،تدور في جوانبها الثلاثة الأرائك الحريرية المحشوة بريش النعام،والمزودة بالوسائد اللينة،وعلى أرضية القاعة السجاجيد المغربية ذات الألوان الجميلة والزخارف المريحة للعين،وفي سوط كل قاعة منضدة منخفضة – على مستوى الأرائك المغربية الخفيضة – توضع عليها صينية فاخرة من النحاس المنقوش يتوقف اتساعها على عدد الطاعمين (..) ثم تحلقنا حول الصينية الكبيرة بعد أن غسلنا أيدينا بماء معطر وجيء بأرغفة الخبز الوطني والإفرنجي – في سلال مغربية ملونة،على كل سلة غطاء مخروطي الشكل،وبدأت أصناف الطعام تتوالى،نفس الأصناف التي تقدم في البيوت المغربية للضيوف (..) ومرة أخرى هززت رأسي أسفا حين رأيت تل الكسكسي يأتي في نهاية الأصناف،أي بعد أن تكون المعدة قد امتلأت أو كادت .. وكانت السيدة حرم القباج بارعة في تناول الكسكسي باليد،فهي تأخذ كمية صغيرة في كف يدها،ثم تحرك اليد حركات اهتزازية دائرية بطريقة معينة وإذا كمية الكسكسي تغدوا في هيئة كرة .. متماسكة .. تقذف في الفم،وعبثا حاولنا أن نجاريها في هذا الفن (..) كانت المدينتان{ سلا والرباط} تبدوان في رونق بديع وهما تربضان على جانبي نهر الرقراق،وقنطرة مولاي الحسن بما عليها من حركة المرور تبدو وكأنها قطعة من خيال أو حلم،وكانت مياه المحيط الممتدة إلى ما لا نهاية أو بحر الظلمات كما كان العرب الأندلسيون يسمونه تلوح في جانب .. والجبال العالية الممتدة إلى ما لا نهاية أيضا تبدو في جانب آخر .. ومياه النهر تتألق في بهاء وقد تراقص عليها عرائس المغيب من الشمس الغاربة ... وكان ثمة رجال ونساء وصبيان من المغاربة والأجانب قد سبقونا إلى ذلك المكان،ووقف الجميع مبهورين بما يطالعهم من ألوان الجمال،البيوت البيضاء الأنيقة،والمدنية القديمة وراء أسوارها،والشوارع الواسعة بما فيها من سيارات تجري ومارة يمشون،وقد لاحوا جميعا من بعيد كأنهم لعب أطفال تتحرك ببطء،ولا تكف عن التحرك أبدا ){ص 199 -211 }.لو ذهبنا نستعرض صنوف التكريم،والجولات،التي نعم بها الأستاذ (القباني) ورفاقه،لطالت بنا السياحة أكثر مما ينبغي،فقد طوفوا بهم في الغابات،والمصايف والمعالم السياحية،والمعارض الشعبية ... كما حضروا حفل زواج .. (كانت الساعة التاسعة مساء عندما حضر السيد عبد الكريم القباج والسيدة حرمه والصغيرة سلوى لاصطحابنا إلى حفلة الزفاف في بيت العريس وكنا والشهادة لله قد ارتدينا أجمل ما لدينا من ثياب لنبدو في أبهى رونق أمام إخواننا المغاربة في تلك الليلة،ولكن السيدة حرم القباج سامحها الله كسفت أضواءنا بما بدت عليه من رونق وبهاء،وكانت ترتدي ثوبا فضفاضا طويلا مشقوقا من الجانبين من الحرير الطبيعي السميك وكأنه طيلسان ملك،ومطرز بالخيوط الذهبية تطريزا يخلب اللب،وكان الحزام الذهبي العريض المزخرف الذي تعقد به الثوب من الوسط يساوي ثروة كاملة،هذا فضلا عن ثروة أخرى من الحلي الذهبية والماسية التي تزين العنق والمعصمين والأصابع،وقد علمنا بعد ذلك أن مكانة السيدة الاجتماعية،في مثل هذه المنسبات تحدد بما تتزين به من حلي وجواهر .. ومضت السيارة بنا داخل المدينة القديمة،واختلطت عليّ الشوارع والزنقات حتى وصلنا زنقة متفرعة من شارع السويقة المؤدي إلى بلاج الرباط،وسارت السيارة في الزنقة التي بدا في آخرها أقواس من الزينات المضيئة. وانسابت من جوانبها البعيدة زغاريد النساء (..) وكان الصحن يسبح في أضواء الزينات وقد تراصت المقاعد صفوفا بعد صفوف في ثلاثة جوانب،أما الجانب الرابع،أو الركن المواجه لباب الدخول،فقد خصص للفرقة الموسيقية الغنائية التي كانت عند دخولنا تغني موشحة أندلسية (..) وأحسست بالدماء في عروقي تتراقص نشوة وطربا وأنا أسبح بروحي مع النغم الموسيقي الرتيب والغناء الأندلسي الجماعي،حقا لم أستطع أن أفهم من كلمات الغناء إلا المقطع الأخير الذي كان يردد دائما بعد كل فقرة غنائية (الحبيب النبي .. محمد) (..) وقال لي شاب أنيق في ملابس عصرية أنيقة : - هل تعجبك هذه الموسيقى؟! - جدا .. جدا .. - ألا تشعر بالملل منها .. - أبدا ...فابتسم وقدم لي نفسه قائلا أنه أحد الدارسين في معهد الموسيقى الملكي بالرباط ثم قال في لهجة تنم عن"القرف التام" : - طالما نحن نطرب لهذه الموسيقى البدائية فلن نتقدم أبدا .. ولما نظرت إليه في دهشة ممزوجة بالاستنكار قال : - لن تتغير نغمة واحدة ولن تسمع غير هذه الجملة الوحيدة في اللحن مهما طال بك المقام هنا،وسوف تشعر بعد ساعة أو ساعتين بغثيان نفسي لا ينقذك منه إلا الهرب (..) ولاحظت بعد ساعة أو بعض ساعة من العزف والغناء المتصلين،فيما عدا لحظات قليلة من الاستراحة، أن المدعوين بدأوا يتبادلون الأحاديث همسا تخفيفا للملل الذي أخذ يشع في نفوسهم،ورأيت في مقصورة مواجهة بعض الفتيات الأجنبيات،وبعض شبان الهيبز عليهم اللعنة – وراءنا حتى في داخل البيوت المغربية .. وعلمت من السيد عبد الكريم القباج أن هؤلاء الأجانب شبانا وفتيات،يتناولون عشاء مكونا من الكسكسي المغربي"والشيش كباب" ولما عرض علينا أن نمضي إلى إحدى المقصورات للعشاء اعتذرنا له بأن ما تناولناه من حلوى كعب الغزال لم يترك في بطوننا مجالا للمزيد من كسكسي أو من كباب .. (..) وكان أعضاء الفرقة الموسيقية الغنائية منهمكين في الغناء والعزف يهزون رؤوسهم طربا ويختلسون النظرات الجانبية إلى المدعوين القريبين منهم ليروا أثر النغم والغناء عليهم،وقد لفت نظري،وربما نظر الكثيرين،واحد منهم .. أكثرهم حركة ونشاطا وحماسا وهزا للرأس،لعله كان أكبرهم سنا،إلا أن بياض وجهه المستدير المشرب بالحمرة،والنظارات ذات الإطار الذهبي،والرأس اللامعة التي تعكس الأضواء بشدة،كان هذا كله يدل على أنه في شبابه كان على جانب كبير من الوسامة،و (؟؟) وفجأة تكهرب الجو : لقد خرجت من المقصورة المواجهة البنات الأجنبيات الثلاث والشبان الهيبز الملاعين،وكانت إحدى البنات شبه عارية ببلوزتها الحريرية المفتوحة من الوسط،والمعلقة بالحمالات فقط،ولم يكن تحت البلوزة شيء،يبدو أنها كانت فستان ميكرو جيب يكشف من الجسم (؟؟؟) أكثر مما يغطي. وكانت الثانية ترتدي بذلة بلا أكمام،مفتوحة الصدر أيضا،ولكنها تغطي الجزء الأسفل كله،والثالثة كانت تتيه بالجبة المغربية المطرزة التي تخفي كل شيء إلا الرقبة والرأس ذا الشعر الذهبي الغزير المنسدل على الكتفين ... جلست البنات الثلاث على بعد صفين من الفرقة الموسيقية وتركزت النظرات كلها على البنات الجميلات ولاسيما تلك العارية أو تكاد ورفت الابتسامة الحلوة على وجوه أعضاء الفرقة الموسيقية الغنائية المواجهين للبنات أما الأعضاء الآخرين وكان بينهما صاحبنا الروميو العجوز الوسيم،فكانت ظهورهم إليهن،ونسيت أن أذكر أن الروميو العجوز كان أحد العازفين على العود،وشاء حظه العاثر أن تجلس البنات وراء ظهره تماما،وكان قد أدرك من وجوه الجالسين أمامه أن في ألأمر أمرا،فاستدار بجسمه البدين و لوى عنقه السمين الأحمر ولمح البنات ... ومن هنا بدأت عملية التواثب والتظاهر بالاستغراق في الموسيقى والغناء،وبدأ العازفون بظهورهم إلينا – إلى البنات – يتمايلون ويدورون بأجسامهم يمينا وشمالا – ويحركون أعناقهم في كل مكان في حركة تشبه مع المبالغة حركات الذاكرين في حلقات الذكر،أو المتواثبات في حلقات الزار ..كل هذا لكي تتاح لهم نظرات مختلسة إلى البنت العارية بالكاد .. {مثل هذا الوصف،يشي بأن "الهوس" بالمرأة ليس ظاهرة "محلية"!! كما أنه يجعلنا نفهم !!! نفهم "الغيرة"التي تنتاب بعض "ربعنا"حين يرون في الخارج،لابسات "الميني جيب" و"الميكرو جيب" و"الميكرو ميكرو جيب" إضافة إلى "البكينيات"وليست النسبة للصين قطعا ... حين يرون ذلك .. ثم يعودون إلى الوطن،فلا يرون إلى عباءة سوداء ... عباءة سوداء ... عباءة سوداء .. فتثور"غيرتهم"ليروا هنا ما رأوه هناك!!! ويبدو أن الأمر لا يتعلق بالرجال فقط .. فحتى "الضفدع" له "نفس" كما يقولون!!! :اسد مجمع الحيوانات في الغابة
ويقول لهم نبي نغير شوي في الغابة ونطورها
قاله الضفدع : نجيب بنات
سكت الأسد و قال بنحط سور للغابة
قاله الضفدع زين وعقب السور بتجيب بناات...عصب الأسد وقال المهم بنحفر ابآر في الغابة
قال الضفدع :طيب, والبنآت؟
قال الأسد في واحد اخضر وعيونه كبار إذا ماسكت ب(نذبحه) اليـــوم
قال الضفدع: عقب ما نذبح التمساح بنجيب بنات ولا لا} أما الشاب عازف البيانو فقد ترك يديه تعزفان،واستدار بجذعه كاملا في مواجهة البنات وبين الحين والآخر كان يومئ برأسه يرد على تحية إعجاب منهن .. ونظرت بجواري فرأيت ولدنا إبراهيم يغالب النوم،ولم أجد أثرا لمحسن الفهلاو ولقد غافلنا الماكر وتسلل مع شابين عقد معهما صداقة سريعة،إلى البيت الآخر المواجه وكان البيتان يكونان نهاية الزنقة – حيث كانت النساء يحتفلن بالعروس وقد أخبرني محسن هو وحنان بعد ذلك أن الحالة عند النساء كانت تشبه تماما الحالة عند الرجال .. نفس الصفوف النسائية .. ونفس الفرقة العازفة المغنية من النساء السوداوات – ونفس النظرات المختلسة من السيدات ومن العازفات إلى الشبان الثلاثة .. محسن وصاحبيه .. وزال الطرب بعد زوال النشوة الأولى،وتمنيت لو يكف هؤلاء العازفون فترة طويلة حتى يمكن أن تتهيأ نفوسنا مرة أخرى للإنصات في نشوة وطرب (..) وأفاق إبراهيم واندفع مع المندفعين ليرى العروس وهي تهبط من السيارة لتدخل بيت العريس،وقد قالت حنان التي صحبت أهل العريس في ذهابهم لإحضار العروس – أن موكب الذاهبين كان يتكون من تسع سيارات خاصة حملت أكثر من أربعين سيدة وفتاة من أهل العريس وأحبابهن .. وكان العريس في السيارة الأولى بين والدته وأخواته،ولما وصل الجميع إلى بيت العروس،أهدى هؤلاء للعريس جلبابا ولثاما وحذاء من الطراز والصناعة المغربية،وحمل أهل العروس وبعض أهلها وأحبابها وطاف الموكب الطويل في أنحاء المدينة الهاجعة حتى وصل الجميع إلى بيت العريس .. وعاد ولدنا إبراهيم يقول : - يعني - يعني ماذا؟ - العريس أجملأنت بطبيعتك عدو النساء (..) وأعربت للسيد عبد الكريم عن رغبتي في الانصراف،فاستدعى السيدة حرمه وابنته وحنان ومحسن ومضى بي إبراهيم إلى السيارة .. وقالت السيدة حرم القباج ونحن في طريق العودة إلى الفندق : - إن والدة العروس سوف تحمل إليها،في بيت الزوجية،هدية من الفطائر والحلوى واللبن في الصباح - مثل الصباحية عندنا في مصر! - وفي الساعة الواحدة بعد ظهر الغد أيضا تذهب صديقات العروس وقريباتها للغداء معها،ما رأيك يا حنان؟ هل تتناولين الغداء مع العروس غدا ؟! ولكن حنان اعتذرت عن قبول الدعوة .. وهبطنا أمام الفندق نكرر الشكر للزوجين الكريمين اللذين أتاحا لنا ليلة أندلسية ما كنا لنعيش مثلها في الأحلام. (..) وأمضينا صباح الجمعة في الاستعداد للسفر (..) وقبل أن أفرغ من الكلمة التي أمليتها على مندوب وكالة الأنباء،أقول أني ما كنت لأصدق أنها نشرت أو أذيعت إلا بعد أن أرسل إليّ صديق مغربي بقصاصات من بعض الصحف العربية والأجنبية التي نشرتها (..) وتم كل شيء في الصباح بسلام،في لحظات كنا نودع موظفي الفندق وعمال المطعم ومضيفيه،وعمال الكافتريا،ولم يكن أحد من النزلاء قد هبط في تلك الساعة المبكرة – السابعة والنصف – وفي لحظات كنا مع السيد عبد الكريم القباج،هذا الأخ المغربي الودود والسيدة حرمه،في بهو المحطة،وفي لحظات كانت عملية شحن الحقائب الثلاث قد تمت،وكنت أنا خلال هذه العملية جالسا على مقعدي المتحرك بجوار الباب العام،أنظر إلى المدينة الجميلة التي كانت تستيقظ في تلك الساعة كالعروس المترفة،كنت أنظر إليها وقلبي ينبض بعرفان الجميل،وبالحب،وبالشوق الذي جعلني أتمنى أن أعود إليها يوما لو طال بي الأجل .. لا .. لابد أن أعود إليك يوما يا مدينتي الجميلة .. يا مدينتي النظيفة البيضاء .. يا مدينة الكرم والجود والحب .. يا من جمعت بين أحضانك أعظم أمجاد التاريخ وأعظم ما يبشر به المستقبل القريب .. سأعود إليك يوما يا رباط الفتح إذا مد الله لي في العمر .. سأعود ولو دافعا بيدي مقعدي المتحرك .. فقد جئت إليك وقلبي يخفق فزعا من المجهول الذي ينتظرني فإذا أنت تفتحين ذراعيك لأعيش أياما كالحلم الجميل .. لأعيش أياما في جنة من الأرض .. وبين إخوة ضربوا المثل الأعلى في الكرم والمودة والإخاء .. وجاء إبراهيم ليمضي بي إلى المصعد،بعد أن هبط الجميع إلى رصيف المحطة وألقيت نظرة أخيرة على المدينة وقد طفرت الدموع من عيني .. ){ص 222 - 276}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة
رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني
حول العالم على كرسي متحرك "12"
بعد أن ذرف الأستاذ (القباني) بعضا من دمعه .. استدار ( بالمقعد إلى داخل بهو المحطة،ومضيت مع إبراهيم نبحث عن مصعد يهبط بنا إلى الرصيف،وفوجئنا بالمصعدين المخصصين لمثل هذه الطوارئ معطلين،وشعرت بالحرج والارتباك والخوف لأني لم أضع في حسابي احتمالا كهذا،وحتى لو تعاون بعض الحاضرين مع إبراهيم في حملي إلى الرصيف عبر عشرات من الدرجات والممرات،لفاتنا القطار قبل أن نصل إلى الرصيف،إذ لم يكن باقيا على تحركه غير دقائق معدودة لا تزيد على العشرة ... ومرة أخرى انبثق الكرم المغربي الممزوج بالشهامة العربية الأصيلة لقد قرر جميع الموجودين في تلك اللحظة من موظفين وحمالين،أن يضعوا تحت أمري مصعد البضائع الهائل الذي كان محملا عندئذ بعشرات من الطرود الصغيرة والكبيرة،ولا أحسبني أنسى هذا المنظر يوما .. منظر الموظفين والعمال والحمالين – ومعهم إبراهيم – وهم يفرغون المصعد الكبير مما فيه من طرود صغيرة وضخمة ... وفي لحظات معدودة كانت هذه العملية الشاقة قد تمت،وهبطت بمقعدي في المصعد وتحيات الجميع ودعواتهم لي بالصحة والسلامة تنطلق من أنفاسهم اللاهثة،وظل اثنان من موظفي المحطة معي حتى عبرت مجموعة قضبان السكة الحديدية لأصل إلى الرصيف الآخر الذي كان يقف فيه زملائي – في أشد القلق مع الصديق الكريم،عبد الكريم القباج والسيدة حرمه .. وكان القطار واقفا بالرصيف على أهبة الاستعداد للانطلاق .. وتصافحنا مع الزوجين الكريمين وتبادلنا مع السيد عبد الكريم قبلات الوداع،وصعدنا إلى القطار ... وما كدنا نستقر بداخله حتى تحرك وأيدينا تلوح للصديقين بتحية الوداع .. وكان القطار قد تحرك قبل أن أنتقل من مقعدي المتحرك إلى مقعد المقصورة وفيما كنت أتجه إليها في ممر يتسع للمقعد إذا بنا نرى مقعدا خاصا أمامه منضدة متحركة ومثبتة بجدار المركبة،وكأن المقعد والمنضدة وضعا من أجلي خاصة وقال إبراهيم : - ما رأيك في هذا المكان الممتاز؟- كأنه مخصص لمثلي وسرعان ما نقلني إبراهيم إليه ثم طوى المقعد ووضعه في مكان كالخوان مواجه للمكان الذي جلست فيه كل شيء تم في هذه المرة ببساطة ويسر وبلا أدنى تعقيد أو مشقة ولكنني لم ألبث أن فكرت قليلا .. ما معنى وجود هذا المقعد الوحيد في الجزء الأمامي من المركبة؟ من المؤكد أنه ليس مقعدا مخصصا لراكب واحد؟ إذن .. فلأي سبب وضع في هذا المكان؟وضع لراحة رئيس القطار بطبيعة الحال ؟وأحسست بعرق الخجل يتفصد من جبيني. ماذا يقول الرجل حين يأتي ويراني جالسا في مكانه بكل "بجاحة" (..) وتمنيت لو حضر إبراهيم بسرعة لأطلب منه نقلي إلى مقصورتهم (..) وجاء رئيس القطار،رجل طويل القامة يقترب من نهاية العقد السادس من العمر،ولكن وجهه المجعد كان ينم عن السماحة وطيب القلب. ونظر بدهشة أولا،ثم أشار إلى المقعد وقال بلغة عربية مغربية : - هذا المقعد لي ... وأشار إلى المقعد أولا،ثم إلى صدره ثانيا وكأنما خشي ألا أفهم حديثه لكثرة ما يرد عليه من مخلوقات الله :وبدا عليّ الارتباك وأنا أستدير بجذعي وأشير إلى مقعدي المتحرك المطوي والموضوع في الفجوة الكبيرة الشبيهة بالخوان (..) ونظر الرجل إلى المقعد المتحرك ثم نظر إليّ،وفهم كل شيء وابتسم فجأة ثم قال :- لا بأس عليك .. لا بأس .. استرح وقلت معتذرا : - سوف أترك المكان عندما يأتي ولدي وينقلني إلى مقعدي المتحرك .. وكان قاطع التذاكر قد انضم إليه وأدرك الموقف ولكن رئيس القطار قال مسرعا :- لا لا .. كن مستريحا .. اطمئن .. وبقي بجواري مع التذكري فترة حضر خلالها ولدنا إبراهيم فلما علم بالموقف أراد بدوره أن ينقلني إلى مقعدي المتحرك ولكن رئيس القطار أصر أن أبقى في مكاني مستريحا .. وقدم إليّ ولدنا إبراهيم وصاحبته التي صادقته في القطار بعد أن عثر لها على حقيبتها،وكانت المركبة في خلال هذه الفترة قد امتلأت بعدد كبير من الأجانب والمغاربة (..) وهكذا لم يجد إبراهيم ولا صاحبته مقعدا خاليا،فاضطرا إلى الجلوس على الرف الأوسط لتلك الفجوة الكبيرة التي تشبه الخوان ... وكانت الفتاة جميلة حقا والميكرو ميكرو يزيدها جمالا وإغراء وقد التمست لولدنا إبراهيم العذر حين عجز عن مقاومة الاهتمام بها!!وتحدثت الفتاة قائلة أنها في طريقها إلى طنجة بعد أن أمضت جانبا من عطلتها السنوية عند خالة لها في الرباط،وأنها من أب مغربي وأم أندلسية إذا يبدو أن "حكاية"الأم الأندلسية أصبحت أو كانت دائما"مودة"بين البنات والسيدات .. وكان المفروض أن يظل ولدنا إبراهيم بجوارها يلاغيها ويسامرها،ولكنه كأي ولد عاق في هذا المجال،تركها وانصرف يحدثني عن زوجته في القاهرة وعن "ولي العهد"المنتظر وصوله بين يوم وآخر،وكان طبيعيا أن تمط فتاة الميكرو ميكرو شفيتها وهي تسمع هذا الحديث عن "الزوجة"وأن تنتهز أول شاب هيبز له لحية هائلة يبادلها النظرات ثم العبارات الفرنسية ثم تضع يدها في ذراعه وتحمل حقيبتها وتومئ برأسها لي وتلوي بوزها لإبراهيم ثم تختفي في المركبة ويضرب ولدنا إبراهيم يدا بيد ويقول : - هما ولاد الكلب الهيبز دول ورانا ورانا في كل مكان .. ثم يستطرد قائلا :- خصوصا أصحاب الدقون الخنفشارية دولي!!ونظرت إلى قامته الفارعة،ولون بشرته الأبيض،وتقاطيعه الوسيمة وقلت لنفسي "الحلو ما يكملش مع البنات .. شاب تتمناه كل بنت .. ولكنه طيب أكثر من اللازم" (..) وكان محسن قد تحدث بالألمانية إلى أحد رجال الجمارك،فسمحوا لنا بالخروج من المنطقة بعد أن اطلعوا على الجوازات .. وسرنا في الشارع الرئيس المحاذي لشريط السكة الحديدية،ثم انعطفنا إلى شارع فرعي صاعد إلى المدينة القديمة التي تقوم على ربوة مشرفة على البحر،وكان الأهالي أو المقيمون في المدينة والشوارع خليط من جميع الأجناس. إذن هذه هي طنجة .. المدينة التي كانت مجرد اسم في أحلامي .. مجرد أخلاط عجيبة من قراءتي عنها ،مدينة دولية قبل أن يتخذها الملك الحسن العاصمة الصيفية للمملكة (..) وجلسنا في مشرب نتناول الشطائر التي أعددناها للغداء،ولم نجد حرجا فيما نفعل،فقد كنا عابري سبيل،ولكن الفتاة الجميلة التي قدمت إلينا المرطبات أغرقتنا بابتساماتها حتى أخذتنا نفخة غير عادية من الكرم فتركنا لها درهما كاملا بقشيشا!!!(..) وعدنا إلى مبنى الجمارك،وفرغنا من الإجراءات بسرعة وسعدت بمصافحة ذلك الموظف الذي ترك مكتبه ليرحب بي ويسألني عن زملائي الأدباء والكتاب ومضينا إلى رصيف العبارة التي ستنقلنا إلى الجزيرة الخضراء على شاطئ أسبانيا :ولما وصلنا أول السلم،اعترضنا رجل يبدو من تقاطيعه الحادة ووجهه المستطيل وشاربه الأسود أنه أسباني وقال بالإنجليزية الركيكة : - يحسن أن تدخلوا الباخرة من الخلف.وصعدت دماء الغضب في وجهي .. من الخلف؟ إننا من ركاب الدرجة الأولى،وقد رأينا زملاء لنا في القطار قد صعدوا من هذا السلم وهززت رأسي معترضا وأنا أقول : - ولما لا نصعد من هذا السلم؟وأشار إلى مقعدي وتمتم بصوت الإنسان الذي يشعر بالضيق لأننا لا نفهم ما يريد أن يقول .. ولما استمر الحال على هذا النحو لحظات أشار إلى رأسه وقال بلغة عربية : - عرب؟!يخرب بيتك .. عرب؟ مالهم العرب يا ابن القديمة .. واندفعت أقول بكلمات كانت تنطلق كالقذائف بلغة إنجليزية وبصوت عال كالصراخ : - ما لهم العرب؟ أسيادك وأسياد الدنيا كلها .. وربت رجل آخر على كتفي وقال بلغة إنجليزية سليمة .. ومفهومة جدا : - مهلا يا صاحبي .. إنه يقصد أنكم معروفون بالعناد ... وهذا ما عرفناه عنكم دائما .. فهدأت وقلت : - إنه العناد الشريف الذي نحافظ به على حقوقنا .. وكان إبراهيم في تلك اللحظة قد فهم أن هناك إهانة وجهت إلينا فوقف متحفزا وقد شمر عن ساعديه وبدا في وقفته عملاقا مستعدا للإطاحة بالأربعة أو الخمسة الأجانب الواقفين أمامنا .. وقال الرجل الهادئ الذي يتحدث إنجليزية سليمة : - إنه لا يقصد إهانة .. بل يقصد الراحة لك .. إن للباخرة بابا خلفيا واسعا لدخول السيارات في قلبها .. ويمكنك استعماله دون أن تحتاج إلى أكثر من شخصين لحملك على السلم هنا.وابتسمت فجأة وأنا أشرح الموقف لإبراهيم الذي قال : - طيب يقولوا كدا من الأول :الواقع أنهم قالوا كده من الأول ولكننا لم نفهم (..) وتحركت الباخرة – وكانت تلك أول مرة أركب فيها باخرة من هذا النوع،لتعبر مضيق جبل طارق إلى الجزيرة الخضراء .. وتحرك معها على أمواج البحر سرب صغير من السمك لذي يتكاثر بجوارها سعيدا بما يلقى إليه من فتاة الطعام ... ونظرت إلى السماء .. وإلى البحر ... وتمتمت بصوت خفيض "على بركة الله" كنت جالسا في مكان يواجه قاعة الجلوس ذات الصفين من المقاعد،وكان الجلوس عليها بطريقة الكراسي الموسيقية"أي السابق هو الذي يظفر بالكرسي،وكنا متأخرين فجلسنا في الناحية الخالية الواقعة أمام الكراسي .. أقول جلست أنا .. أما حنان فقد استطاعت أن تظفر لها بكرسي عندما تركه شاغله ليذهب إلى مقدمة السفينة،ولم تلبث أن استغرقت في النوم بسبب ذلك الاهتزاز الخفيف الصادر عن السفينة،وكنت أتوقع أن أصاب بالدوار ولكن شيئا من ذلك لم يحدث،كان الجو جميلا،والمنظر الجديد على عيني .. بل كان حلما تحقق .. فطالما حلمت بركوب باخرة في عرض المحيط،وكنت أتخيل المباهج التي يمتلأ بها القلب حين يجد الإنسان نفسه طافيا على أمواج البحر،لا يغطيه إلا السماء المرصعة بالسحب ... ولكنني أعترف أن هذه البهجة لم تلبث أن انحسرت بعد ساعة وبعض ساعة. فما أسرع النفس إلى الملل إذا كان المنظر واحدا لا يتغير .. ولشد ما أشفقت على البحارة والضباط والموظفين البحريين الذين يقضون معظم أعمارهم فوق هذه الصحراوات المائية اللانهائية. (..) وتلفت حولي في ساحة الجمرك .. إذن نحن الآن على الأرض الأسبانية لأول مرة .. حلم آخر تحقق .. أسبانيا (..) ونظرت إلى الأرضية فوجدتها تشبه ببلاطاتها الكبيرة أرضية جانب من أرصفة الميناء في الإسكندرية،وأخذت نفسا عميقا من الهواء عسى أن أجد له عبيرا خاصا .. عبير أسبانيا مثلا،فلم أجده إلا نفس الهواء الذي أتنفسه على شاطئ البحر في بلادي. ونظرت إلى الشمس المائلة للغروب،وقد بلغت الساعة السابعة مساء فوجدت أنها نفس الشمس الحلوة المضيئة ذات العرائس الراقصة على الأمواج رقصات الوداع في كل مكان بالشاطئ في مثل هذه الساعة على ضفاف النيل أو على شاطئ الإسكندرية ... إذن ما أسبانيا إلا اسم أطلقه عدد من الناس على جزء من أرض الله بعد أن حددها ولولا هذا الاسم لكانت كلها – وهي فعلا كلها – أرض الله .. البحر واحد في كل مكان .. والأرض بتضاريسها واحدة في كل مكان .. والشمس هي هي لا تتغير ولا تتبدل وإن تغيرت حرارة أشعتها من مكان لآخر طبقا لناموس معين .. ورائحة الهواء هي هي .. في كل مكان وإن اختلفت الرطوبة فيه والجفاف من مكان إلى آخر حتى الناس في طبائعهم وأعماق نفوسهم ... لا يختلفون إلا في الشكليات والألسن .. أما الجوهر .. أما النفس البشرية .. فهي هي سواء كان صاحبها على ضفاف النيل أو البوسفور .. في ذرى الجبال أو أعماق الصحارى .. في جليد القطب أو أتون خط الاستواء وأفقت من خواطري هذه"الفلسفية"على وصول ولدنا محسن بعد أن انتهى من إجراءات التأشير على الجوازات،وانتقلنا إلى رصيف القطار الذي كان واقفا في انتظار الركاب المسافرين رأسا إلى مدريد .. وكانت تذاكرنا تحمل أرقام المقاعد المحجوزة لنا في القطار بالدرجة الثانية،ومع هذا فقد اعترضنا أحد موظفي الخط الحديدي قائلا أنه لابد من أخذ تأشيرة أخرى على التذاكر قبل الصعود،وذهب محسن وإبراهيم،ومضت اللحظات سريعة،وبدأت ظلال الغروب تزحف على المكان،وبقيت على مقعدي أمام باب المركبة أنتظر عودة الاثنين،وجلست حنان على الحقيبة الكبيرة تستريح،وكان الموظف يعيد الركاب إلى دائرة السكة الحديد لأخذ التأشيرة .. وتسليت فترة بالمشادات التي حدثت بينه وبين المسافرين،ولاسيما المسافرات الأسبانيات،وتسليت أكثر بالنظر إلى الجميلات منهن اللاتي جئن لتوديع أصدقائهن أو أقربائهن،جميلات بعيون سوداء واسعة جريئة،وطال غياب محسن وإبراهيم،وبدأ القلق يستبد بي،كنت أخشى أن يتحرك القطار في أية لحظة (..) وأخيرا طلبت من حنان أن تذهب ثم تعود بسرعة لتخبرني عن سبب تأخرهما،وذهبت وعادت تقول أن الطابور طويل،وأنهما أوشكا على أن يفرغا من المهمة،وكانت الشمس قد غابت تماما حين رأيتهما يأتيان جريا،وتنهدت ارتياحا. ولكن الموظف نظر في التذاكر وأشار إلى أول القطار،وقال إبراهيم ومحسن أنهما سيذهبان للبحث عن المقاعد المخصصة لنا ثم يعودان في لحظات،ولكنهما لم يعودا،كانت كل دقيقة تمر بمثابة يوم كامل في إحساسي،ورغم الاتفاق الذي تعاهدنا عليه ألا أبقى بمفردي في أي مكان طوال الرحلة. إلا أني نسيت كل شيء وطلبت من حنان بأعصاب متوترة أن تذهب وتبحث عنهما،وذهبت حنان ولم تعد هي الأخرى،وكادت عيناي تخرجان من وجهي وأنا أحملق في الاتجاه الذي غاب فيه زملائي،كانت الحقيبة بجواي،وبعض زمزميات الماء المثلوج ولا شيء غير هذا.. ولا جوازات سفر .. ولا بطاقة شخصية،لا شيء إطلاقا .. واشتدت ضربات قلبي وأنا أرى المودعين يغادرون القطار،وأنا أرى المسافرين الواقفين على الرصيف يسرعون بالركوب .. وأحسست كأن يدا تعتصر قلبي وأخرى تضغط على عنقي! ماذا حدث لزملائي؟ كيف تركوني هكذا وحيدا؟ وما عساي أفعل؟ ما أشد هوان العجز! مرة أخرى،من المرات القليلة في حياتي،أشعر بلعنة المرض الذي يعجز إنسانا عن التصرف في موقف كهذا. ولم يبق غير لحظات ويتحرك القطار في الثالثة والنصف؟ ماذا أفعل لو تحرك وتركني وحيدا،بملابس صيفية وقد بدأ الجو يزداد برودة.ماذا أقول لناس لا يفهمون لغتي؟ ماذا أفعل وأنا فاقد كل شيء يدل على شخصيتي .. ووجدت نفسي أتغلب على جانب من العجز وأحرك المقعد بساقي وقدمي بقوة لم أعهدها فيهما من قبل وتحرك المقعد في الاتجاه الذي اختفى فيه زملائي .. تركت الحقيبة و كل شيء ورائي ومضيت أدفع المقعد متحركا بسرعة وأنا أهتف عليهم : إبراهيم محسن .. حنان .. وتجنبت نظرات بعض الركاب الذين أطلوا من نوافذ القطار .. والقطار يوشك أن يتحرك .. وبقيت أدفع المقعد بقوة وأنا أقول لنفسي على الأقل أختصر المسافة إذا عادوا ليمضوا بي إلى المقاعد المحجوزة .. وكان الأمل لا يزال يراودني في أنهم سيحضرون إليّ حتما .. ولكن البقايا من الأمل أخذت تتلاشى كلما ازدادت أشباح المساء حولي ... وأحسست أني سأغيب عن وعيي من فرط الجزع والرعب .. وكلما تصورت حالتي وحيدا في بلاد لا أعرف لغة أهلها،وبلا مال أو تحقيق شخصية،ازددتُ دفعا للكرسي المتحرك بقدمي،وازدادت أنفاسي اضطرابا وأنا أنادي على زملائي بصوت متقطع مرهق .. ) {ص 276 - 290 }. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة
رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني
حول العالم على كرسي متحرك "13"
ظل الأستاذ (القباني) يدفع كرسيه بحثا عن رفاقه ... (وفجأة رأيت حنان تقبل نحوي جريا وقد هالتها حالتي .. ولما وصلت إليّ أحاطتني بذراعيها وراحت تخفف من روعي بينما قال ولدنا إبراهيم الذي لحق بها : - الناس دول مجانين .. كل ما ندخل مركبه يرجعونا إلى مركبة ثانية .. حاجة تجنن ثم انطلق لإحضار الحقيبة وباقي الحاجيات بينما دفعت حنان الكرسي وهي تقول لاهثة : - تركنا محسن جالسا في الكابينة ذات الثمانية مقاعد. وقد احتجزنا فيها أربعة .. ولولا هذا لجلس عليها أي عدد من الركاب بلا مبالاة .. ولم أستطع أن أقول شيئا .. لأني لو تكلمت في تلك اللحظة،لانفلت زمام أعصابي ولعنت"الأخضرين"كما يقولون وإن كنت لا أعرف ماهما الأخضران .. وكل ما يكن يتردد على شفتي بلا وعي هما الكلمتان "الحمد لله .. الحمد لله" لقد أحسست فجأة كالذي كان يهوي إلى قاع البحر وهو يدرك أنه ميت ولا محالة،ثم إذا بيد تمتد وترتفع به إلى الحياة في آخر لحظة :واستقبلنا ولدنا محسن عند باب المركبة على مسافة بعيدة جدا عن المكان الذي تركت فيه بمفردي،ويبدو أن القطار كان مكونا من عشرات المركبات،وصعدت بمقعدي بسهولة،بعد أن تدرب ولدانا محسن وإبراهيم وحنان على هذه العملية،ومضيت إلى المقعد المخصص لي بالمقصورة،بجوار النافذة وكنت في حالة نفسية سيئة،فلم ألق التحية على الأربعة الأجانب الذين كانوا بالمقصورة :وألقيت برأسي إلى مسند المقعد وأغمضت عيني لأهدئ من توتر أعصابي واضطراب النبض في قلبي،ولم أشعر بتحرك القطار،فما كان يهمني عندئذ أن يتحرك أو يظل في مكانه إلى الصباح،ولما أضاء بعضهم المصباح الكهربائي الكبير للمقصورة طلبت في ضيق أن يطفئ المصباح ويكتفي بالآخر الساهر،وظل القطار منطلقا في قلب البلاد الأسبانية بعد أن ترك وراءه مدينة ملقا،وظللت أنا مسترخيا في مكاني،مسندا رأسي إلى ظهر المقعد المريح،منصتا بين الحين والآخر إلى الفتاة الوحيدة في المقصورة وهي تتحدث إلى الأجانب الآخرين،كانت تحدث أحدهم بالفرنسية،والآخر بالإنجليزية،وفتحت عيني ببطء لأرى هذه "الشيطانة"الصغيرة بعد أن عرفت من حديثها بالإنجليزية أنها مسافرة بمفردها من الدار البيضاء إلى مدريد ومنها إلى برشلونة - بمفردها؟ورأيتها،فتاة نحيلة الجسم جدا،ترتدي البنطلون – كما تفعل حنان أثناء السفر – وتكشف البلوزة عن صدر بارز العظام،فوقه عنق طويل معروق،ثم وجه مستطيل لا أثر فيه للجمال،وإن كان الشعر الناعم الطويل يضفي عليها ظلالا من الجاذبية.وتبينت من حديثها أنها لا تدري كيف ستتحمل ساعات الليل المملة إذا لم تجد من يتحدث إليها؟ وأنها من والد مغربي وأم أندلسية – كالمعتاد – وأنها ذاهبة لزيارة أقارب أمها في برشلونة،وأن والدها من كبار التجار في الدار البيضاء.وكان الشاب الذي تتحدث إليه بالفرنسية بعيدا عن مرمى نظري،ولكن الشاب الآخر الإنجليزي اللغة كان في مواجهتي،كان إنجليزيا لحما ودما كما يقولون،على جانب كبير من الوسامة. أشقر الرأس أزرق العينين كما تأكدت في الصباح،هادئ الوجه (..) هدأت نفسي تدريجيا،ويبدو أني استغرقت في النوم،لأني حين فتحت عيني لم أسمع شيئا غير زفيف القطار بحركته الرتيبة وهو ينطلق في قلب أسبانيا،وحاولت أن أرى شيئا من خلف زجاج النافذة،فلم أستطع .. ولكنني رأيت حنان راقدة في المقعد المواجه لي بعد أن ترك لها ولدانا محسن وإبراهيم مكانيهما وخرجا إلى ممر المركبة يتحدثان مع الركاب،أو يتلمسان مكانا آخر للنوم،والواقع أن محسن وإبراهيم كانا يعاملان حنان أكثر مما لو كانت أختا صغيرة ... فهما دائما يتركان مقعديهما لها حين ترغب في النوم،وإذا كانت المقصورة قاصرة علينا فقط،فإنهما أيضا يتركانها بضع ساعات حتى أستطيع أنا وحنان أن ننام مستريحين كل على مقعد كامل .. كالسرير ..(..) حين فتحت عيني على هذا المنظر في المقصورة .. أعني منظر حنان النائمة في راحة وعليها غطاء وضعه ولدنا إبراهيم،والإنجليزي عند قدميها نائم أيضا وهو جالس وقد أخذت رأسه تطوح من الأمام إلى الخلف وبالعكس،وفي مواجهته الشاب الآخر،الذي رأيته في ضوء المصباح الساهر،نحيفا معروق الوجه أسمر البشرة،مكوما على نفسه في ركن من المقعد وقد ألقى برأسه إلى المسند ونام فاتحا فمه،أما الفتاة فقد تكومت بيني وبينه بقدر ما تستطيع وعلى حذر شديد من أن لمس قدماها الصغيرتان جنبي بعد الذي رأته من خشونتي.وأقسم أني أشفقت عليها كما لو كانت حنان،وأقسم مرة أخرى أنه لو كان بمقدوري أن أترك لها بقية المقعد لما ترددت وكان عزائي أنها مستغرقة في النوم،وهذا هو المهم،فالنوم كما يقولون سلطان (..) وتململت حنان في رقدتها،ثم فتحت عينيها قليلا كأنما تحاول أن تتذكر أين هي،ثم نهضت جالسة وحيتني باسمة،فأحسست أن ضوء الشمس قد تجمع في المقصورة،وسألتني عن راحتي فأومأت برأسي أطمئنها،وعاد إبراهيم ومحسن باسمين قائلين أنهما عثرا على مقصورة خالية تماما فدخلاها وأغلقا الباب من الداخل وأسدلا الستائر وهات يا نوم. وصحا زملاؤنا في المقصورة،وفوجئت الفتاة بي وهي تراني أبتسم وألقي عليها تحية الصباح بالإنجليزية،وبدا واضحا من دهشتها أنها ظنت أني – بسبب حالتي الصحية – لا أعرف الابتسام .. ولكن الدهشة لم تلبث أن تركت مكانها لمزيد من السرور والغبطة حين أومأت برأسي لإبراهيم ومحسن،فأخرجا من حقيبة الطعام ألوانا من الفاكهة والحلوى والشطائر التي جهزت للإفطار (..) وأخذت الفتاة التي كان اسمها ناديا ترسل ضحكاتها سرورا بهذه"الصحبة"التي لم تكن تتوقعها أثناء الرحلة،وقد أدركت سر "جرأة"أهلها في تركها للسفر بمفردها،فلم يكن فيها مطمع لشاب أو رجل عجوز،كانت ممصوصة كعود جاف،ولولا خفة ظلها وعيناها الواسعتان المعبرتان لما اهتم أحد بمجرد الحديث معها .. وأخبرنا الشاب الآخر الأسمر،النحيف أيضا،أنه يدعى عبد الحميد وأنه مغربي من تطوان في طريقه إلى صديق له في باريس،وكان شابا وديعا جدا،هادئ السمت،قليل الحديث،يتحدث الفرنسية بطلاقة والعربية الفصحى بدرجة مفهومة.وكان هذا الشاب هو المعجزة التي تمنيت أن نلتقي بها في طريقنا إلى باريس،ولم يكن من الصعب على ولدنا محسن أن يعقد معه صداقة قوية جعلت الشاب هو الذي يلتصق بنا وكأنه أحوج إلينا منا إليه؟(..) وكانت الساعة تقترب من الحادية عشرة والنصف والقطار يخترق مناطق سهلية أو أرضا زراعية أو وديانا،والقرى تبدو بين الحين والآخر من بعيد أو قريب،مجموعات من المنازل الصغيرة البيضاء ذات أسقف منحدرة من الآجر. وفي الحادية عشرة والنصف وصل القطار إلى محطة القطار في الجنوب،وهبطنا وودعنا ناديا والشاب الإنجليزي،وصحبنا الشاب عبد الحميد حيث عبرنا المحطة من الداخل لنحصل على سيارة مأجورة،تحملنا إلى محطة الشمال (..) وانطلقت السيارة بنا في شوارع مدريد،شوارع واسعة،وضيقة،صاعدة ومنحدرة،والمحلات على الجانبين،والناس قليلون جدا،ومعظم المحلات مغلقة،وحركة مرور السيارات عادية،وكل ما كان يدور في ذهني وأنا في شوارع مدريد بسيارة،أني حاولت أن أضخم في نفسي هذا الإحساس .. مدريد .. وشوارع مدريد .. كل شيء تقع عليه عيني سيبقى بعد ساعات أو بعد لمحة العين على الأصح ذكرى ,, حتى الميادين وأطراف الشوارع لاحظت أنها مرصوفة ببلاط بازلتي صغير في دوائر وأشباه دوائر ذات أشكال هندسية جميلة،والبيوت بعضها – بشرفات صغيرة وبعضها بلا شرفات،نوافذ فقط،كلها تقريبا ذات اللون الوردي (..) وأودعنا حقيبتنا الكبيرة مكتب الأمانات،واحتفظنا بحقيبة الأكل والمشروبات والضروريات وغادرنا المحطة بعد أن تمت التأشيرات على الجوازات في لحظات ..وكان في برنامجي أن أحاول الاتصال بكاتبة أسبانية تسمى أنا ماريا ماتيوت،ترجمت لها في القاهرة قصة بعنوان "القط"وكانت من أجمل وأروع ما قرأت وترجمت من قصص عالمية (..) وكان محسن قد طمأنني أنها تحسن الحديث بالإنجليزية .. ورفعت السماعة إلى أذني وقلت بصوت مختلج شديد الاضطراب : - سنيورة أنا ماريا ماتيوت؟ فقالت بالفرنسية : - نعم .. من المتحدث؟فقلت : - أرجو أن تحدثيني بإنجليزية،إنني أديب مصري قرأ لك وأعجب بك وترجم من قصصك قصة "القط"التي نشرت بمجلة شورت ستوري أنترناشونال.ومرت برهة صمت قالت بعدها الكاتبة بصوت ضاحك : - آه .. نعم .. نعم .. شكرا .. هل أعجبتك إلى هذا الحد؟ - إنها أعجبت جميع القراء في مصر،وهي في رأيي من أعظم ما قرأت على كثرة ما قرأت من قصص في أدب العالم .. - إنني سعيدة بهذا الإعجاب .. - وإني أكون أسعد لو سمح وقتك لمقابلة سريعة،فإني سأغادر مدريد في قطار التاسعة مساء إلى هانداي،ثم باريس .. ثم ذكرت لها حالتي الصحية التي لولاها لذهبت إلى لقائها في بيتها - من حسن حظي أنني عدلت عن الخروج في آخر لحظة .. سأكون عندك في أقل من نصف ساعة (..) وجلست أنتظر متوتر الأعصاب،وفجأة وقفت سيارة بجوار رصيف المشرب،وهبطت منها سيدة،آية في الأناقة والجمال،وقد بلغ من جمالها وأناقتها أنك لا تستطيع أن تحدد لها سنا (..) وجلست حاسرة الثوب الميني جيب عن ساقين جميلتين جدا. وأعترف أنني كنت أتأملهما بإمعان وأنا لا أصدق أن هذه الآنسة الجميلة الأنيقة هي كاتبة قصة"القط"التي تصور أجمل وأدق تصوير عن"ضياع الناس البسطاء المسالمين في عالم وحشي لا يرحم"؟ (..) أعتقد أنك طلبت مقابلتي لسبب أهم من مجرد التعبير عن إعجابك بقصيي؟فأومأت قائلا : - هذه هي الحقيقة .. كنت أتمنى لو طالت إقامتي هنا أياما حتى أستطيع أن ألتقي بأكبر عدد ممكن من الكتاب والأدباء ورجال الصحافة لأعرض عليهم وجهة نظر بلادي في المعركة الدائرة بيننا وبين الصهيونية العالمية.فبدا الاهتمام على وجهها وقالت : - إنني شخصيا أعرف أن اليهود يريدون أن يستقروا في وطنهم القومي بفلسطين ولكنكم تعارضون بالحديد والنار .. وعندئذ اندفعت أحدثها عن تاريخ اليهود في فلسطين،مدعما حديثي بمراجع تاريخية لترجع إليها إذا شاءت .. وقد بينت لها أو أثبت لها أن مجموع السنوات التي عاشها اليهود كشعب في فترات متفرقة منذ أن هاجر الخليل إبراهيم {عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام} من جنوبي العراق إلى أرض كنعان"فلسطين"عام 1800 ق . م لا يزيد عن 400 عام،موزعة كالآتي :150 سنة عاشها اليهود في فلسطين في عهد إبراهيم وإسحاق ويعقوب{عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام} الذي أنجب الأسباط الاثني عشر أي من عام 1800 ق. م إلى عام 1650 ق. م. وفي عام 1650 ق . م نزح يعقوب{عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام} وأولاده وعشيرته إلى مصر بسبب ما أصاب فلسطين من قحط شديد. ثم خرجوا من مصر في عهد منفتاح بن رعمسيس عام 1290 ق. م وظلوا في التيه أربعين سنة مات خلالها موسى وأخوه هارون {عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام}،ثم دخلوا فلسطين بقيادة يوشع بن نون.ومن عام 1130 إلى عام 1020 ق. م "أي حوالي 110 سنة"كانت الحروب قائمة بين أسباط بني إسرائيل وبين سكان فلسطين الأصليين،أي أنهم لم يعرفوا الاستقرار أو السيادة طوال هذه المدة .ومن عام 1020 إلى عام 1000 ق. م توالت هزائم اليهود بقيادة طالوت أمام الفلسطينيين بقيادة جالوت حتى ظهر النبي داوود عام 1000 ق. م وهزم جالوت بمعجزة لا شأن لبني إسرائيل بها.ويمكن القول أن الإسرائيليين عاشوا في حالة استقرار أربعين سنة هي مدة حكم النبي داوود {عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام} – الذي اتخذ من أورشليم عاصمة مملكة صغيرة أقام فيها سبطان فقط : سبط بن يامين،وسبط يهوذا الذي سمي اليهود باسمه بعد ذلك. أما الأسباط الأخرى فقد أقاموا في الشمال مملكة إسرائيل ,, ومن عام 960 إلى عام 935 ق . م كان عهد الملك سليمان {عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام} الذي أقام هيكلا لا يزيد حجمه عن "قصر" صغير،وهو ما يسميه اليهود مهللين "هيكل سليمان" وبعد سليمان اشتبك اليهود في الجنوب مع الإسرائيليين في الشمال في حروب متصلة حتى خضعت المملكتان لنفوذ نجلا نيلز مؤسس الدولة الآشورية حتى عام 721 ق. م حين تمرد الإسرائيليون على مملكة آشور. فهاجمهم شليم نصّر وانتصر عليهم وقتل قائدهم هوشيع وأسر منهم 27 ألفا .. وظل اليهود أو بنو إسرائيل يتمردون وينهزمون حتى سقطت أورشليم في يد نبوخذ نصّر في عام 597 ق . م فدمر الهيكل تماما وانتهت إلى الأبد سيطرة اليهود على فلسطين وعاشوا فيها أقلية مسحوقة خاضعة للفرس .. ثم للإسكندر وخلفائه.وقد حاولوا التمرد أكثر من مرة،ولكنهم في كل مرة كانوا ينهزمون ويشردون،وكانت آخر محاولة للعصيان في عام 132 – 135 ق . م على يد زعيم منهم يسمى يركوشيا،ولكن الإمبراطور هادريان هزمه وقتله ودمر الهيكل تماما مرة أخرى وجعل القدس مستعمرة رومانية بعد أن شرد اليهود الذين كانوا فيها. ويؤكد المؤرخ توينبي أن اليهود لم تقم لهم قائمة منذ ذلك الحين إلا كأقلية في أية دولة ..ولما استولى العرب على القدس في عهد عمر بن الخطاب {رضي الله عنه} عام 635م اشترط المسيحيون عليه إلا يسمح لليهود بالإقامة فيها أبدا. ويقول البروفيسور ميلر روز أستاذ الدراسات التوراتية في جامعة بيل بأميركا في كتابه "إسرائيل جريمتنا"أن صلة الأمة العربية بفلسطين هي صلة حقيقية مباشرة أقوى بكثير جدا من صلة بني إسرائيل بأرض كنعان (..) وقال المؤرخ المعروف فرانك ساكران في كتاب له "إذا كان لليهود حق في فلسطين لأنهم عاشوا في جزء منها كشعب مدة 400 سنة على فترات متفرقة،فإن للمكسيكيين الحق في استرداد – كاليفورنيا،وأن يكون لأسبانيا الحق في المطالبة بالمكسيك التي حكمتها أكثر من 400 سنة،وأن يكون للإنجليز الحق في استرداد الهند لأنها حكمتها أكثر من 400 سنة وأن يكون للعرب الحق في استرداد أسبانيا الأندلس لأنهم استوطنوها أكثر من سبعمائة وخمسين سنة .. وضحكت الكاتبة أنا ماريا ماتيوت قائلة : - المكسيك تسترد كاليفورينا .. وأسبانيا تسترد المكسيك .. والعرب يستردون أسبانيا مع المكسيك وكاليفورينا ؟! - هذا هو المنطق الذي يتعامل به الصهيونيون هنا في هذا القرن ...وهزت الكاتبة رأسها وقالت : غير معقول ... غير معقول إطلاقا .. وهنا سردت عليها جرائم الإسرائيليين مع المدنيين العرب كما أثبتها المراسلون الأجانب للصحف العالمية . (..) وأخيرا قالت : - هذا لم يحدث حتى في عهود التفتيش في بلادنا هذه .. وهي عهود يضرب في قسوتها المثل .. وقلت :إنني سأقدم إليك هذا السجل من القصاصات،وسأسلمك أيضا مجموعة من الدراسات باللغة الإنجليزية كلها مدعمة بالأسانيد التاريخية،وكل رجائي أن تتحدثي عن عدالة قضيتنا بين إخوانك وزملائك من الكتاب والأدباء .. فقالت بحماس :يسعدني جدا أن أفعل هذا .. فليس أحب إلى الإنسان من المساهمة في الوقوف إلى جانب قضية عادلة .. وقدمت إليها دراسات عن القضية الفلسطينية،ووضعت الكاتبة هذه الدراسات،وسجل القصاصات في حقيبة يدها الكبيرة بعناية،وقالت : - أرجو أن تسمحوا لي باستضافتكم لتناول الغداء معي .. وكنت أتوقع هذه الدعوة،ولهذا قلت بسرعة مشيرا إلى الزميل عبد الحميد :لولا أننا وعدنا صديقنا المغربي بتناول الغداء معه،لقبلنا دعوتك شاكرين جدا .. (..) وبعد أن ركبت سيارتها ولوحت بيدها مودعة،نظرت في ساعة يدي فإذا بها الواحدة بعد الظهر. أي أننا لم نستغرق غير ساعتين منذ وصولنا إلى محطة الجنوب،وفي خلال هاتين الساعتين شعرت أني قمت بعمل كان يحتاج إلى أسبوعين ..) {ص 290 - 303 }. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة
رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني
حول العالم على كرسي متحرك "14"
وبعد جولة في حديقة بمدريد،وتناول الطعام فيها ... (كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة حين عدنا إلى المحطة لنتخذ الإجراءات اللازمة قبل ركوب القطار،وهنا – أعترف – أني عثرت على (جو) أسباني لأول مرة في الرحلة،كانت فتاة في نحو الثلاثين من عمرها،وكانت مع أمها تشتري الحلوى من نفس المخبز الذي اشترينا منه،وفي أثناء انشغال الأم بالشراء،تبادلت معها النظرات وابتسمت .. وابتسمت .. وطلبت من الله أن تتأخر حنان ومحسن في عملية الشراء بالداخل بعض الوقت. وكان إبراهيم وعبد الحميد واقفين يتفرجان على الفطائر المعروضة،ولما أوشكت الفتاة أن تغادر المحل،أومأت برأسها إليّ مودعة،وظللت ملتفتا إليها وهي تبتعد تدريجيا .. ونظرت خلفها ثلاث مرات .. باسمة .. وظننت أن هذه المغامرة "الخفافي"قد انتهت عند هذا الحد – ولكنني فوجئت بنفس الفتاة واقفة مع أبيها في كشك فاخر ببهو المحطة الداخلي،واقفة تساعد في البيع بعد أن تكاثر الركاب،وكان الكشك يبيع الصحف والمجلات وبطاقات السياحة الملونة فضلا عن ألوان من الحلوى والشيكولاته والسجائر ..أما الأم فقد جلست بالقرب من الكشك .. وجلست أنا بطبيعة الحال في أقرب مكان من "الجو"وظللنا مدى نصف ساعة ونحن نتبادل النجوى بالنظرات والابتسامات – من وراء ظهر الأب والأم .. والزملاء الذين سيفاجئون بقراءة هذا الآن ... وكانت الفتاة أو "السيدة"جميلة والشهادة لله .. طويلة القوام،ممتلئة الجسم إلى حد ما،وردية الوجه،سوداء العينين،(؟؟) ولم أكن "مغرورا"حين ذكرت أن هذا"الجو"أراد أن "يلاغيني"فإنها لم تكن في العشرين من العمر،وإنما كانت بين الثلاثين والخامسة والثلاثين،أي السن التي تفضل فيها المرأة الرجل"المستوي".ولما بدأنا الاستعداد لركوب القطار،رأيت الفتاة تسرع نحوي،غير مبالية بوالديها،وتقدم يدها مصافحة بحرارة وتقول عبارة لم أفهم منها شيئا أكثر من كلمة "سنيور" ولكنني أومأت إليها وقد أحسست بالنار تكتسح وجهي،وقالت حنان ونحن نمضي إلى مركبة الدرجة الثانية : - والله عال يا سي بابا ... دي البنت الأسبانية كانت ... وضاعت كلماتها في صفير القطار .. ولكنني لا زلت أذكر حتى اليوم،ولا أظن أني سأنسى،عيني الفتاة أو السيدة – السوداوين وهي تنظر إلي .. لقد خيل إلي أني رأيت في أعماقهما عالما بعيدا ... بعيدا لا نهاية له ... وتحرك القطار وأنا تائه في هذا العالم البعيد .. (..) لم يكن بالمقصورة غيرنا ونحن في الطريق إلى هانداي على الحدود الفرنسية الأسبانية ومن ثمة كانت الرحلة مريحة نسبيا إذا كان من الممكن أن يجد الإنسان راحة في النوم جالسا أو نصف راقد على زفيف القطار وحركته الرتيبة (..) ووصل القطار متأخرا ساعة ونصف ساعة عن موعده،أي وصل في التاسعة والربع تماما،وما إن بدأنا نهبط في محطة هانداي حتى رأينا قطارا آخر ينطلق من الرصيف المقابل،وسمعنا الزميل عبد الحميد يقول بدهشة :- لقد تحرك قطار باريس .. ونظر بعضنا إلى بعض ما معنى هذا؟ لقد تعودنا أن نجد القطار الذي سيقلنا إلى المرحلة التالية واقفا في الانتظار مهما تأخر قطارنا عن موعده. وأسرع عبد الحميد يسأل موظفا فرنسيا بالمحطة،وجاء يحمل الإجابة: - علينا استقلال قطار الثانية والنصف بعد الظهر. - ومتى يصل هذا القطار الثاني إلى باريس ؟ - في العاشرة والنصف تقريبا. وقلت لإبراهيم ومحسن :- لكن برقيتنا لمكتب الجامعة العربية تقول أننا سنصل إلى محطة استرلنز في الخامسة بعد الظهر :وقالت حنان : - نرسل برقية الآن للمكتب .. ومع ذلك فإن الذي سيأتي لاستقبالنا في الخامسة سوف يعرف أن هناك قطارا آخر سيصل في العاشرة والنصف .. وأحسست بالضيق الشديد .. ماذا لو كان موظف المكتب الذي سيكون في استقبالنا في الخامسة مساء يرفض العودة في العاشرة؟ ولكن هل يمكن هذا؟ هل يمكن ألا نجد أحدا في استقبالنا بعد أن تأكد لدينا أن إدارة الإعلام بالجامعة في القاهرة أرسلت إلى مكتبها في روما وباريس لاستقبالنا وتقديم كافة التسهيلات لنا ... بهذا المنطق تحررت من الشعور بالضيق .. ولم تستغرق إجراءات التأشيرات على جوازات السفر غير دقائق خرجنا بعدها إلى هانداي،أول مدينة فرنسية أراها في حياتي.الجو كان ممتعا رغم البرودة البسيطة التي كانت تشع فيه،الشارع الممتد أمام المحطة بالعرض،يمينا ويسارا،عريض نظيف تقوم المساكن على جانبيه في تناسق وهندسة معمارية تستريح لها العين،السيارات الفرنسية الحديثة الأنيقة تملأ الفناء الداخلي للمحطة،رينو وبيجو وستروين وغيرها كثير .. كلها جديدة وكلها من أحدث طراز،النساء جميلات،كلهن جميلات،حتى العجائز،ويبدو أن كلمة "عجوز"بدت تتلاشى من قاموس المرأة،بالرموش الصناعية،والباروكات التي أصبحت تستعمل كالقبعات قديما،وألوان النظرية {هكذا} والعطور الباريسية،والملابس التي تكشف أكثر مما تخفي،والحيوية،والإقبال على الحياة،والضحك،والحركة السريعة،كل هذا لم يجعل لكلمة "عجوز"مكانا فيما كان يجري أمامي.وتناولنا الإفطار في كافتريا المحطة،وكان لها بابان أحدهما على المحطة والآخر على الشارع،ولم يكن الإفطار يتجاوز الشاي وقطعة كرواسو وزبد ومربى "إفطار دولي" كما عرفت بعد ذلك (..) وعدنا إلى الرصيف لنجد القطار الذي سيقلنا إلى باريس في انتظار"تشريفنا"له بالركوب،وصعد إبراهيم ومحسن لحجز الأماكن الملائمة لنا بجوار مدخل المركبة كالمعتاد،ثم صعدنا جميعا ليتحرك بنا القطار إلى باريس في الثانية والنصف بعد الظهر. كان ثمة إحساس غامض بالقلق يفرش قلبي والقطار ينهب الأرض إلى باريس،إلى المدينة التي طالما قرأت عن دورها العجيب (..) دورها في انبثاق أول ثورة دموية قامت على الظلم الطبقي،ودورها في نشر العلم،ثم دورها كعاصمة لدولة استعمارية،وأخيرا دورها كعاصمة لدولة تؤيد السلام في كل مكان .. ما أكثر ما قرأت عن باريس في الروايات التاريخية،وما أوسع ما تخيلت عن قصور ملوكها وأمرائها ونبلائها،وما كان يجري داخل هذه القصور من حفلات البذخ والترف التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا،ومن مؤامرات وخيانات وتكتلات ومناورات سياسية،حتى انتهى هذا كله إلى تلك الثورة الدموية التي أكلت أبناءها مع أعدائها. وما أكثر ما سمعت من أصحابي عن شوارع الشانزلزيه،وسان أونريه،وكنيسة مادلين، ومونمارتر و مونبارناس والأوبرا والكونكورد وحي سان جرمان وبرج إيفل،وحدائق فرساس وغابة بولوني،ونهر السين (..) هل سأرى هذا كله بعد ساعات؟ إذن لماذا هذا القلق الغامض؟ ليكن ما يكون بعد أن أعيش ولو ساعات في كل هذه الأحلام التي ستغدو حقائق ملموسة.يكفي أن يجري بي مقعدي المتحرك في شارع الشانزليزيه،في ميدان الكونكورد حيث تقوم المسلة المصرية الرائعة؟ في حدائق التويلري في دهاليز أبهاء قصر اللوفر،يكفي هذا،وليكن بعد ذلك ما يكون؟؟ - دير لنا شاي يا إبراهيم .. وضحك إبراهيم وأنا أتحدث باللهجة الليبية .. وقال : - باهي .. ولكن لنأكل أولا .. وقال محسن بالمغربية : - مزيان .. وقالت حنان وهي تلوي لسانها لتكون مثل بنت باريس :- تري بيان وانحسر القلق الغامض عن نفسي وتنالونا غداء شهيا نصفه تفاح وبقيته الفطائر الأسبانية وشربنا الشاي (..) وظلت المناظر الرائعة تتوالي،حقول إلى غاية البصر،غابات من أشجار الحور والبان،أميالا بعد أميال،مصايف متناثرة على خليج بسكاي،حدائق ومخيمات،البيوت القروية النظيفة المنسقة وكأنها لوحات ملونة،تتوسطه قطع من لخضرة الناضرة (..) كان كل شبر من الأراضي التي يخترقها القطار منزرعا،مثمرا،لم أر قطعة أرض في مساحة شبر مهملة،أو متروكة أو بورا؟ وكان طبيعيا أن أعقد المقارنة،هنا شعب عرف كيف يستفيد من كل شبر في أرض بلاده زراعيا وصناعيا ولم يكتف بذلك وإنما مد أياديه المسلحة ليستغل أراضي غيره من شعوب أخرى،ثم يتركها بورا .. لقد تذكرت الأرض الهائلة في تونس والجزائر والمغرب التي تصلح للزراعة ولكنها متروكة مهملة بائرة (..) دير لنا قهوة يا إبراهيم حتى نصحصح .. ودار لنا إبراهيم ومحسن القهوة التي شربناها باللبن مع قليل من الفاكهة واللوز (..) وقيل لنا أننا نقترب من ضواحي باريس،ووصلنا إلى الضواحي،وأخذت أمد عيني لأرى أضواء باريس من بعيد،لاشك أننا سنطرف بأعيننا من فرط سطوع هذه الأضواء حين يصل القطار إلى باريس،إن محطة السكة الحديدية في قلب المدينة كما سمعت،وأن استرلنز واحدة من أربع محطات على ما أذكر في داخل المدينة،أي لابد أن يخترق القطار قلب المدينة،أو جانبا منها على الأقل،ليصل إلى المحطة،وظللت أبحلق منتظرا مهرجان الأضواء والأنوار الباريسية،ولكنني لم أر إلا أعمدة النور العادي تجري تباعا من ورائها ستائر من الظلام الدامس،وفجأة بدأ القطار يهدئ من سرعته ثم يدخل فيما يشبه النفق،ثم يتوقف في ممر طويل مسقوف .. وشعرنا بالبرد الشديد حين فتحت أبواب المركبات وبدأ الركاب في الهبوط،وما كدنا نخرج من القطار إلى الرصيف حتى ارتدعت بشدة من فرط البرد،الساعة حقا العاشرة والنصف مساء،والمحطة نصف مضاءة أو نصف مظلمة،وسرنا مع السائرين إلى باب الخروج لأنه لم يكن في وسعنا أن نفعل غير هذا،وقدمنا التذاكر وجوازات السفر إلى الموظفين الواقفين بالباب،ثم تجاوزناه إلى بهو واسع جدا لم أستطع أن أرى له حدودا بسبب الظلام المنتشر الذي لم يكن يخفف منه إلا بعض المصابيح الخافتة المتناثرة هنا وهناك .. - إلى أين يا إبراهيم؟ وقال إبراهيم بصوت خاف :- علمي علمك .. - عبد الحميد يا خويا .. أين نحن ذاهبون؟ - سترى بعد قليل .. وكنت أتوقع في أية لحظة أن أسمع من ينادي علينا،أو أن يدوي الميكروفون طالبا من "المسيو هوسين كاباني"مقابلة مندوب مكتب الجامعة العربية في قاعة الاستقبال،وكنت قد طلبت من الزميل المغربي أن يفتح آذانه لمثل هذا النداء .. ولكننا لم نسمع صوتا لا في الميكرفون أو غيره بل الشهادة لله،سمعنا الميكرفون ينادي بعض الأسماء،ويلقي بعض العبارات التي قال عبد الحميد أنها لا تخصنا في شيء،وفيما نحن نتحسس طريقنا خشية أن يسقط مقعدي المتحرك في فجوة أو في طوار{هكذا} مرتفع،إذا نحن نجد أنفسنا بجوار باب واسع يؤدي إلى قاعة الانتظار .. وتنهدنا في ارتياح ونحن ندخل القاعة،ووجدنا بعض الأشخاص جالسين هنا وهناك على المقاعد الخشبية الصلبة،ولكن البرد كان أكثر مما نحتمل،وقلت لإبراهيم وأنا أرتعد وأنظر إلى الحقيبة الكبيرة التي كانت معنا : - ألا نجد في هذه الحقيبة بعض الملابس الإضافية؟ فهز إبراهيم رأسه وقال وهو يفتحها :- لا أظن .. ربما نجد فيها بعض الملابس الداخلية فقط .. وأحسست لأول مرة طوال الرحلة أني أواجه خطرا حقيقيا ربما يقضي على حياتي،لقد كانت البرودة أشد من برودة شهر يناير في بلادنا،رغم أننا كنا في السابع عشر من أغسطس،أي كانت حوالي العشر درجات فوق الصفر،وكان الهواء البارد جدا ينساب لاذعا من جميع الجهات في القاعة الكبيرة،بل لاحظت أن بعض الأجانب،فرنسيين أو غير فرنسيين،كانوا يرتعدون وهم ملتصقون بعضهم ببعض.وهتفنا في ارتياح حين فتحنا الحقيبة ووجدنا بها : بالطو أبيض من الصوف الفاخر من ملابس حنان الخارجية فاختطفته وارتدته بسرعة وهي تقول "الحمد لله.. سلمت يد من وضع هذا البالطو هنا" ووجدنا جاكيت من الجلد الشمواه كنت اشتريته من سوق المشير في طرابلس،وسعدت به وأنا أرتديه فوق القميص الصيفي الذي كان"كالثلج"فوقي .. ووجد محسن الفهلاو جاكيت من الجلد الأسود المبطن بالصوف .. ووجد ولدنا إبراهيم بلوفرات صوفية ارتدي منها اثنين وشعر بالدفء المعقول . - هذه نفحة من رعاية الله لنا .. هل كان منكم من يعلم بوجود هذه الملابس في هذه الحقيبة.وهز إبراهيم رأسه وقال : - الحقيقة أنا وضعت هذه الملابس .. ولكنني كنت أظن أنني وضعتها في حقيبة أخرى من الحقائب التي شحناها إلى باريس وجلسنا ننتظر ... ننتظر ماذا أو من؟ ) {ص 306 - 319}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة
رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني
حول العالم على كرسي متحرك "15"
وجلس الأستاذ(القباني) ورفاقه ينتظرون .. (ننتظر ماذا أو من؟ربما تحدث معجزة أخرى كمعجزة الملابس ونفاجأ برؤية مندوب مكتب الجامعة يقترب منا،ويحيينا باسما،ويرحب بنا .. ثم يحملنا إلى حديث الدفء والراحة .. والبلبطة في الماء الساخن،ومضت الدقائق وهذا الحلم يمضي معها،يتلاشى تدريجيا. وحاولت أن أتسلى بالنظر فيما يجري حولي،لا شيء كثير،فتاة يبدو أنها كانت تتوقع أن تجد أحدا في انتظارها،فلما لم تجده استبدت بها حالة عصبية وراحت تبكي،وانتهز الفرصة شاب فراح يهدئ من روعها،ويسير بجانبها ذهابا وإيابا داخل القاعة،ثم توقف معها أمام التلفون ويتحدث نيابة عنها،وشيئا فشيئا بدأت الفتاة تهدأ،ثم تستكين،ثم تجلس بجانبه على مقعد مستطيل ثم (؟؟؟) ؟(..) ولم يعد في القاعة أحد غيرنا وغير شابين من الجنود،ورجل عجوز رث الهيئة كان ينام على مقعد مستطيل أمامنا،وتعلقت عيناي بهذا الرجل،فطالما هو نائم،فنحن هنا في مأمن رغم البرودة الشديدة القارسة،إن القاعة أفضل من الشارع على كل حال،وكان الزميل عبد الحميد قد اتصل ببيوت الشباب – وكنا جميعا مشتركين بها- فلم يجد مكانا خاليا في واحد منها(..) وكان إبراهيم ومحسن قد خرجا يبحثان عن شيء ينقذنا من هذا الموقف(..) وعاد إبراهيم ومحسن ونظرت إليهما في أمل،وقال محسن بوجه مكتئب : - توجد قاعة أخرى للانتظار مكيفة الهواء،دافئة .. تحت .. في الدور الذي يقع تحت المحطة .. فقلت بسرعة : - هلم إليها،إننا لو بقينا هنا ساعة أخرى فسوف نموت حتما ... وحملنا حاجياتنا إلى السلم المتحرك الذي يفضي إلى أبهاء المحطة التحتية. ولكنني خشيت أن أستعمله بمقعدي المتحرك،وآثرت أن أهبط الدرجات بمساعدة حنان ومحسن وإبراهيم والزميل المغربي. وهبطنا نحو عشرين درجة،وسرنا في دهليز لنهبط نحو عشر درجات أخرى،ثم انعطفنا إلى ممر طويل أنيق دافئ،كل شيء فيه يلمع،الأبواب الزجاجية والجدران،والأرضية،وكل شيء .. ووصلنا إلى غرفة ذات باب زجاجي ضخم،الغرفة صغيرة نسبيا مقاعدها من الجلد الفاخر التي يمكن أن يصنع كل مقعدين ما يشبه السرير،وشعرت بالارتياح الشديد وقلت في نفسي أننا لن نجد مكانا مثل هذا نقضي فيه ليلتنا حتى الصباح .. وكان عبد الحميد يمضي معنا كأنه واحد منا،بنفس الهدوء والاستسلام وضبط الأعصاب. ولم يكن بالغرفة غير شاب نائم في جلسته،وسيدة جالسة بجوار زوجها النائم على مقعدين واثنين من الجنود يتحدثان في همس .. وذهب إبراهيم ليعود بالحقيبة الكبيرة التي تركناها في القاعة العليا،ولما وصل إلينا رأيته متجهم الوجه : - مالك يا إبراهيم ؟ - قال أحد الحراس أن جميع غرف المحطة ستغلق في منتصف الليل تماما ... لن يستطيع أحد أن يزحزحني من هذا المكان ولو بالشرطة .. ولكن الكلام شيء،والتنفيذ شيء آخر،فما إن بلغت الساعة منتصف الليل،حتى رأينا ثلاثة من الحرس يقبلون لإغلاق الباب،ونهض زملاؤنا في الغرفة ليغادروا بهدوء،ويبدو أنهم كانوا من ركاب القطار الذي سيتحرك في الثانية عشر والنصف،ولم يسعنا إلى أن نخرج .. تماما كما خرج آدم وحواء من الجنة .. وعدنا إلى القاعة العليا فوجدناها مغلقة الأبواب،ولم يسعنا إلى أن نخرج إلى الرصيف لأن الأوامر اقتضت هذا .. لابد من إغلاق باب المحطة الخارجي أيضا .. هذه إن باريس .. يا للهول!! ويا للكراهية التي شعرت بها نحوها وأنا جالس على مقعدي المتحرك فوق رصيف شارع واسع في منطقة هادئة تماما .. حتى السيارات المأجورة لم يكون لها أثر،لا شيء .. لا آدميون ولا عفاريت !!ولمحت ضوءا في الجانب المقابل،ضوء مشرب أو مقهى ينساب من باب زجاجي،وأسرع إبراهيم وعبد الحميد إليه،ثم عادا ليقول إبراهيم : - إنها قهوة صغيرة .. ولكن العمال كانوا يكنسونها ليغلقونها.وللمرة الأولى أحسست بخطر مسؤوليتي عن زملائي هؤلاء الأربعة. أنا الذي دفعت إلى الرحلة،وأنا المسؤول عن هذا الوضع الذي انتهينا إليه.(..) ماذا نفعل؟لا شيء .. لم يكن أمامنا ما نفعله .. أربعة رجال وفتاة على رصيف الشارع بعد منتصف الليل في باريس،في جو بارد شديد البرودة،فقد تلاشت كمية الدفء التي اكتسبناها في الغرفة المكيفة بمجرد خروجنا إلى الشارع،كانت أسناننا تصطك،وأطرافنا ترتعد،ولولا الملابس التي عثرنا عليها – مصادفة{!!!!} – في الحقيبة لفقدت وعيي ولاسيما وأنا أعاني طبيعيا من هبوط في الضغط .. ورأينا من بعيد سيارة مأجورة،وأشرنا إليها بالتوقف ووقفت. وذهب عبد الحميد ليتحدث مع السائق .. وعاد يقول : - إن السائق لا يحمل غير ثلاثة منا. وهو لا يعرف مكانا خاليا في أي فندق،إلا في مونبارناس .. - ليكن .. اذهب واطلب منه أن يحملنا على دفعتين .. واسأله عن أجر الإقامة في الفندق.وعاد عبد الحميد ليقول : - أجرة السيارة في المشوار الواحد إلى مونبارناس ستين فرنك .. وأجر مبيت الشخص الواحد خمسين فرنكا في الليلة الواحدة .. وتبادلنا النظرات .. إن ما معنا أقل كثيرا مما هو مطلوب،ويبدو أن سائق السيارة لم يعجبه ترددنا فانطلق لا يلوي على شيء .. (..) واتجه إبراهيم يمينا واتجه عبد الحميد يسارا (..) ولم يلبث أن عاد إبراهيم قائلا :رأيت وراء مبنى المحطة مكانا يمكننا أن نقضي فيه الساعات الباقية على الصباح. وكالغريق الذي يتعلق بقشة أسرعنا إلى ما وراء المحطة عبر شارع هادئ لم نر فيه مخلوقا،حتى لو كان رجل شرطة. (..) ووصلنا إلى الجانب الخلفي من المحطة،أو لعله الجانب الأمامي،فأنا لم أعد أعرف أين الحقيقة في تلك الساعات،ورأينا ركنا صغيرا يمتد على طول باب زجاجي مغلق،ولكننا وجدنا في الوقت نفسه الهواء البارد يضرب فيه بعنف جعلنا نهرب منه بسرعة لنبحث عن مكان آخر،ورأينا بابا مفتوحا فاستبشرنا خيرا،ودخلنا من الباب لنجد درجات صاعدة جرى فيها ولدنا إبراهيم بسرعة ليرى إلى أين تنتهي،ثم عاد وقال أنها تؤدي إلى محطة المترو العلوي – وكنا أثناء سيرنا حول المحطة قد رأينا شريط المترو العلوي القائم على دعائم من الخرسانة الضخمة. ونظرنا حلونا،ووجدنا المكان مثل غرفة صغيرة يمكن أن تتسع لنا إذا أغلقنا الباب علينا أمكننا أن نجو من الهواء اللاذع،ولكنها فرحة أخرى لم تتم،فما لبثنا أن رأينا حارسا نصف مخمور يهبط غاضبا ممسكا بهراوة وقد حسبنا جماعة من صعاليك باريس المخمورين يريدون أن يبيتوا في المكان،ولم ننتظر حتى نشتبك معه في معركة،فالأمر لا يستحق،وغادرنا المرفأ لنبحث عن مكان آخر يصلح إلى حد ما – لقضاء الليل. (..) ووصلنا إلى دهليز مفتوح على الشارع خلف المحطة،دهليز له درجات صاعدة جلس عليها جماعة،رجل وسيدة وفتاتان،أسرة (..) ورأينا أيضا خمسة من الهيبز،فتاتان وثلاث شبان جلسوا بجوار عمود خرساني في البهو يتحدثون همسا،وفي الجانب الآخر ذلك الصعلوك السكير الذي رأيته في قاعة الانتظار بالمحطة،وبدا بوضوح أن هذا هو أنسب مكان لقضاء الساعات الباقية على الصباح،فلاشك أن مثل هذا الرجل خبير في الأماكن المناسبة ليقضي صعاليك الليل لياليهم .. ونظرت في البهو،ورأيت مكانا مستورا من ثلاث جهات،والجهة الرابعة مواجهة للبهو نفسه لا للشارع،أي مكان نموذجي في مثل هذه الظروف،ولكنه كان مزدحما بهذه العربات الصغيرة التي يستعملها الحمالون في نقل الحقائب من القطار إلى أرصفة المحطة وبالعكس،وكان ثمة سلسلة حديدية تمتد على طول المكان كأنما تقول "ممنوع الدخول"ولكنني لم أهتم بالأمر وطلبت من إبراهيم ومحسن أن يرفعا جانبا من السلسلة وأن يفسحا لنا مكانا في ركن من المكان ولو اقتضى الأمر أن يضعا بعض العربات فوق بعض،,لم تستغرق هذه العملية غير دقائق معدودة وجدنا أنفسنا بعدها في ركن بعيد عن تيار الهواء على الأقل،وفرشنا على الأرضية كل ما كان معنا من ورق وصحف ومجلات(..) وبقيت على كرسي المتحرك بطبيعة الحال،ولكنني وضعت على ساقي منشفة كبيرة لتقيني بعض البرد القارس،ونامت حنان بمعطفها الأبيض الصوفي بجوار مقعدي ونام الباقون فيما عدا إبراهيم في الجانب الآخر،وشغل إبراهيم نفسه في صنع براد كبير من الشاي الذي ساعد على احتمالنا للبرد (..) وقررت أن أجعل الزميلين المغربيين يوقعان على شهادة مكتوبة بخطهما للمسؤولين في القاهرة إثباتا لما حدث إذا حاول المشرفون على المكتب الإنكار .. وظللت أجتر هذه الخواطر وأنا أرتعد من البرد وفجأة ابتسمت وقد وجدت نفسي جالسا كذكر البط الساهر على فراخه ليدرأ عنهم الخطر،وكانت آلام المفاصل قد عادت إليّ بعنف شديد بعد أن كنت قد تخلصت منها قبيل الرحلة،ولكنني لم أهتم فقد كان اهتمامي منصرفا إلى إبراهيم ومحسن وحنان وكانت نظراتي لا تفارقهم لحظة بعد أخرى (..) ومضت الساعة الأخيرة كأنها طاحونة غير منظرة تطحن أعصابي،ونهض الجميع حين سمعنا جلبة في أعلى المحطة وأسفلها،ونهضت حنان وهي تضع يدها على جنبها الأيمن قائلة أنها تجد صعوبة في التنفس وألما مع كل نفس،ولم يسعني أن أفعل شيئا أكثر من أن أجز على أسناني في انتظار اللحظة التي سأسوي فيها الحساب مع المشرفين على مكتب الجامعة بباريس .. وغادرني الزملاء عدا عبد الحميد الذي أصر أن يبقى معي رغم إلحاحي عليه في الهبوط ليتلمس الدفء،ولكن يبدو أن الشاب كان من النوع "الحار الدماء"الذي لا يبرد أبدا .. وفي حوالي السادسة إلا ربعا،عاد الزملاء لنمضي جميعا ونقف مع الواقفين أمام باب كافتريا المحطة الخارجي،وكنا حوالي عشرين رجلا وسيدة وفتاة بعضهم من الهيبز،وكان عمال الكافتريا قد فرغوا من إعداد المكان وجلسوا يشربون الشاي أو القهوة باللبن ويتبادلون الحديث دون أن يهتموا حتى بالنظر إلينا،وكان البرد قد بلغ حدا رهيبا في تلك الساعة أو ربما كان الإجهاد قد جعل أجسامنا تشعر به مضاعفا،أو لعل الدفء القريب منا والطعام الساخن في الجنة التي لم يكن يفصلنا عنها غير باب زجاجي مغلق،قد ضاعف شعورنا بالبرد والجوع والمهانة. نعم. أحسست تماما كأننا مجموعة من القطط الجائعة التي طالما رأيتها تتمسح في أرجل الطاعمين بالمطاعم في انتظار لكسرة خبز أو قطعة عظم.وفجأة ازداد إحساسي بالمهانة بعد أن رأيت العمال مصرين على ألا يفتحوا الباب إلا في السادسة تماما،وكان باقيا عليها عشرة دقائق (..) وقلت لإبراهيم بلهجة لا تقبل الجدل : - هلم يا إبراهيم إلى المشرب القائم أمام الباب الآخر للمحطة .. - ربما لم يكن مفتوحا - إن الذهاب والعودة لن يستغرقا أكثر من خمس دقائق،وهذا أفضل على كل حال من الوقوف هكذا كالمتسولين.وتحركنا نحو المشرب الآخر،ولما وصلنا وجدانه مفتوحا وبعض الزبائن جالسين في هدوء يتناولون الإفطار،وأحسست وأنا أجلس إلى المائدة في الدفء أني عدت إلى الحياة من رحلة رهيبة كان الموت خلالها يتعقب خطواتنا بإصرار) {ص 319 - 328}.ثم عثروا على مكتب الجامعة العربية،ولكن لم يحصلوا على طائل،الشخص الموكل باستقبالهم،لم يذهب بسبب بحثه عن شقة،كما ادعى مدير المكتب أن الخطاب لم يصل،ثم عثر عليه،وعليه شرحه،ثم اعتذروا بأن الوقت غير مناسب،لإقامة الندوات والمحاضرات،ويحتاج إلى حجز الأماكن،والحصول على مترجم ،ثم صرفوا له – دون مرافقيه – مبلغا زهيدا،ولكنه حصل على (تقرير) بما حصل،ثم ذهبوا إلى السفارة المصرية،وتم الاتفاق على أن يحجز لهم المكتب تذاكر إلى القاهرة،على أن يسددوا قيمة التذاكر في مصر،فوافق،على أن يدفع بعد أن يضع الموضوع بتفاصيله أمام المسؤولين في القاهرة،وقد زار الأستاذ (القباني) رجل عرض عليه أن يقدمه عبر برنامج حواري،وسوف يحصل على مكافأة مجزية،فرفض،ثم عرف أن الرجل سبق له أن قدم نفس الخدمة لشخص آخر،وكانت النتيجة أن اضطر ذلك الرجل إلى مصافحة (إسرائيلي) !!! سنة 1970 .. كان مجرد مصادفحة عربي لإسرائيلي (إنجازا) يستحق أن (يخطط له)!! والآن؟!!! .. ومع ذلك فقد زار الأستاذ تلك الأماكن التي كان يحلم بها،ومنها متحف اللوفر .. (وبدأت أحملق .. وتمنيت لو أن كل حواسي تحولت إلى عيون،لقد قرأت كثيرا عن اللوفر،عن الكنوز التي يحتويها،وخطر لي أحيانا أن بعض الكتاب كانوا يبالغون في وصف بعض هذه الكنوز (..) لوحة مثل لوحة "الأختان" للرسام ت. تشاسو،كيف يمكن التعبير – بغير الريشة والألوان – عن مثل هذه الوداعة،والبراءة،والحب المشترك،و الرضى،وتدور رؤوسنا،أو رأسي أنا على الأقل،وأنا أنتزع انتزاعا من لوحة لأخرى (..) وهذه اللوحة الهائلة،أربعة أمتار في ستة على الأقل،إنها – على ما أذكر – لكوربيت،تصور نابليون في إحدى انتصاراته وأحد الأسرى يهجم على قدمه في الركاب لقبلها مستعطفا،هل أستطيع أن أصور بالقلم إمارات الضراعة والأمل وقد امتزجت كلها على ملامح الأسير الممزق الثياب .. أم .. الشموخ والاعتداد والزهو والدهشة وقد اختلطت كلها على وجه القائد المنتصر،أم العضلات البارزة والأخرى المشدودة التي بدت مترقرقة تحت جلد الحصان وهو يرفع ساقيه منفعلا مدهوشا،محتجا. أم الألوان التي اصطنعها الفنان لتتناسق هنا،وتتنافر هناك،حارة هنا،باردة هناك،هادئة هنا،ثائرة هناك،ولكنها كلها تنساب من نبع واحد (..) وبقيت أنظر إلى الجيوكندا مبهورا وأنا أحاول أن أستعيد في ذاكرتي ما قرأته عنها،ولم يكن هناك شك في أن "شهرة"هذه اللوحة العالمية كان لها أثر كبير في شعور"الانبهار"الذي ملأني وأنا أستوعبها بنظرات نهمة،وحاولت أن أتخلص من هذا الأثر بقدر الإمكان،حاولت أن أنظر إليها على أنها صورة جميلة لسيدة جميلة،ولكنني لم أستطع،وأدركت لماذا وضع في وصفها أكثر من أربعمائة كتاب بمختلف اللغات،لم يكن هناك شك في أن كل كاتب حاول أن يضيف جديدا في تصوير مشاعره وهو ينظر إلى الصورة،ولم يكن هناك شك في أن نظرة الرسام إليها تختلف عن نظرة الأديب،وعن نظرة الشاعر،وعن نظرة الموسيقار،وعن نظرة رجل الشارع .. إنني لست رساما متخصصا،ولست أيضا من هواة اقتناء اللوحات والتحف،لسبب بسيط،وهو ضيق اليد،ومثل هذه الهواية لا تنمو إلى على أطنان من الذهب الرنان (..) لقد تحدثوا كثيرا عن ابتسامة الموناليزا الغامضة الساحرة،وتحدثوا كثيرا عن نظراتها الهادئة التي تنبع من نفس راضية مطمئنة،ولهم الحق، وتحدثوا عن جمال اليدين والأنامل،وكأنها صنعت من الزبد الممزوج بالشهد والورد وتحدثوا كثيرا عن روعة الخلفية المتناسقة مع "جو"الابتسامة والنظرة والهدوء المرتسم على الوجه .. ولهم الحق،كل الحق (..) ماذا يمكنني أن أقول أكثر من أنني بقيت أنظر إلى اللوحة وقد غبت تماما عن كل شيء حولي .. فلم أعد أسمع الطنين الهادئ الصادر من المتفرجين .. ولم أعد أرى غير هذا الوجه الهادئ الباسم الذي يكاد ينبض بالحياة .. وغير هاتين اليدين بأناملهما البضة وكأنها لم تخلق إلا للقبل ..(..) وفي الواحدة تماما بعد منتصف الليل، قبلت عجلات الطائرة أرض الوطن،وقبلته معها قلوبنا ومشاعرنا .. ) {ص 399 - 407}. إلى اللقاء في "سياحة" جديدة في كتاب آخر .. إذا أذن الله.
رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني
بعد انتهاء مسلسل (حول العالم على كرسي متحرك) ..
وصلني تعليقان من بُنيتين كريميتن من بنياتي .. من الماء إلى الماء .... من الخليج أولا جاء تعليق البُنية الكريمة ليقول :(وتهانينا على ختام العرض للكتاب،الفريد في نوعه "والذي جعلني أعرف نظرة المقعد للمرأة!! يظل رجلا ..")وأتى التعليق الثاني من ماء المحيط .. (وعندي ملاحظة تقاسمناها {تقصد مجموعة من صديقاتها} جميع وهي أن الكاتب عينو زايغة وكنتخيلو شنو لو كان يمشي على رجل).هذان التعليقان .. أعاداني إلى كُليمة كتبتها قبل فترة .. تحت عنوان (الطيبات من الرزق أو "الكائن اللذيذ") .. طبعا هذه نظرة يبدو أنها تنتشر بين الرجال على مستوى العالم ... شرقا ... وغربا .. قبل المقالة :أولا : قد أتحرج من هذه الملاحظة .. ولكن الإنسان الذي يعاني نقصا في جزء من جسده .. لا يعني أنه مختلف من حيث الرغبات البشرية .. وربما يكون أشد رغبة في بعض الأحيان.ثانيا : سبق لي أن كتبت عن وجهة نظري في التعامل الإسلامي مع المرأة .. أو تلك (الحصون) التي وضعها الإسلام :1 – الحث على الزواج المبكر (الإعفاف) .. وعمدا وضعته قبل (الوازع الديني)2 – الوازع الديني.3 – غض البصر.4 – (هل ترضاه لأمك .. هل ترضاه لأختك).5 – التزام المرأة بالحجاب .. وعدم (التجمل) إن كانت تقلد من يقول بجواز كشف الوجه ... لا يمكن أن تتعرى المرأة ... وتتجمل .. ثم تلوم الرجل إذا (فُتن) بها.وإلى المقال :
******************************
الكائن اللذيذ!!{الطيبات من الرزق)!!!المرأة ضد المرأةالعنوان الذي يعلو هذه السطور بني على مقالة، كتبها الأستاذ عبد الله القفاري،وقد جاءت تحت عنوان ( المرأة تصوّت ضد المرأة)، ومما قال،بعد أن تحدث عن المرأة والانتخابات في مصر، والعراق، وفلسطين، والجزائر، والمغرب، والكويت :( وأي قارئ في ملامح مشهد ثقافي وسياسي، يدرك أن ثمة علاقة ليست على ما يرام بين المرأة المرشحة والمرأة الناخبة){ جريدة الرياض العدد 13895 في 14 / 6 / 1427هـ.}. نُشر المقال يوم الاثنين،وفي نفس اليوم شاهدت مقطعا من لقاء، بثته القناة الأمريكية( الحرة)، مع رجل لم أتبين اسمه، وذلك في برنامج ( مساواة). ذكر ذلك الرجل أنه يُؤمن بتاريخية النصوص، وأن الثابت في الإسلام، هو ألوهية الله، أما بقية النصوص فهي غير ذلك، ثم تساءل متهكما، إذا جاءتك ماري كوري، والتي حصلت على جائزة نوبل مرتين، هل تعد شهادتها بنصف شهادة،حارس عمارة؟ ثم قال، وهو يخاطب المحاور الافتراضي : إنها سيدتك، وسيدتي. ثم ذكر أنه لا يقبل أن يناقش أصحاب اللحى، في مسألة شهادة المرأة، وقال، وهو دائما يخاطب شخصا افتراضيا، إن ناقشتك في هذا أشاركك في الجهل.وفي يوم الثلاثاء، شاهدت عبر قناة ( الجزيرة)، جزء من برنامج ( الاتجاه المعاكس)، وقد تحدث الدكتور فيصل القاسم، مقدم البرنامج، عن عدم تصويت المرأة الكويتية، لصالح أختها المرأة الكويتية، وفضلن التصويت للرجل.هذا الخطاب الذي نطالعه بين حين وآخر، والذي يدور في محوره، حول، المرأة ضد المرأة، وكلما أبدت امرأة رأيا لا يعجب البعض، وُصفت بأنها ضد بنات جنسها، هذا الخطاب الذي تسرب إلينا، يحمل في طياته، أفكار الأنثويات، المتعصبات، مثل دعوة السيدة ( مورجان)، والتي أسست ( جمعية تقطيع أوصال الرجال)، ومثل جرمين غرير، التي أعلنت في كتابها ( الجنس العقبة)أن جنس النساء ليس لطيفا، وإنما هو عقبة لا تزال المرأة تحاول تجاوزها، وفي رأيها أن العقبة الوحيدة التي منعت المرأة من إنتاج فن عظيم هو الشعور بالنقص الذي أوصلها إليه الرجل، ولكنها تراجعت بعد ذلك عن بعض آرائها. ألائك الكارهات لأنوثتهن، والكارهات للرجال من باب أولى، أوجدن خطابا حادا، لا يخلو من عنصرية، وبالتالي فهن يلمن المرأة لأنها لا تقف مع أختها المرأة، في وجه (العدو المشترك) الرجل، قلت أنه خطاب لا يخلو من عنصرية، لأن صاحبة جمعية( تقطيع أوصال الرجال)، كانت تتعجب، من مساندة المرأة البيضاء، للرجل الأبيض، وتخليها عن دعم أختها المرأة السوداء! لاشك أن في ذلك بعض العجب، والأعجب منه، أن يتسرب خطاب (الأنثويات) ذلك إلينا!!! إذا أخذنا مسالة الانتخابات كمثال، فقد قيل لنا ( صوتك أمانة)، فلو فرضنا، جدلا، أن الأمانة اقتضت أن أصوت لبرنامج امرأة، فمن واجبي أن أصوت لها، ولا أصوت للرجل، لمجرد أنه رجل! ولو سارت الأمور كما يريد الذين يرون أن المرأة يجب أن تصوت، لأختها المرأة، فهل يريدون أن يصوت الرجل، أيضا لأخيه الرجل؟!!. أما ذلك الذي يتحدث عن شهادة المرأة، والذي قال أنه لن يناقش أصحاب اللحى، لأنه لو فعل فسوف يشاركهم في الجهل!! نحن نحيي هذه الأريحية في الحوار ، وقبول الرأي الآخر،و نسأل، وماذا لو جاءه شخص ينكر وجود الخالق؟ ألن يدخل معه في نقاش خشية أن يشاركه في الكفر!!. هناك إشكال كبير لدى كثير من العلمانيين بشأن فهم بعض ما جاء به الإسلام، وهم يكررون نفس الشبه التي يثيرها الغربيون، ومن تلك الشبه، بطبيعة الحال، مكانة المرأة، والتي يرونها متدنية جدا، وتكون المقارنة دائما، بضرب الأمثلة التي تبدو فيها المرأة هي الأقل شأنا، ونؤكد هنا لذلك الذي قارن بين شهادة ماري كوري، وحارس العمارة، أن البرت إنشتاين، لو طلب الزواج من ابنة حارس العمارة – المسلمة - لما زوجها له، لأنه مع احترامنا لعقله، ولرجولته، ولنوبل التي حصل عليها، إلا أنه ليس (كفؤا) لابنة صاحب العمارة ، هاهو الإسلام يجعل ( امرأة) أعلى من ( رجل)، في مكانة (النوبلي) العريق. إذا كنا في الأسطر السابقة نرصد العجائب،فلا بأس أن نضيف هذه العجيبة. في هذا العام 2008م، جرت انتخابات في الكويت. وقد رأيت سيدة تتحدث في الموضوع، وتحث الرجال، والنساء على التصويت للمرأة ( تشجيعا لها)!! أين الأمانة؟! أين اختيار المترشح صاحب البرنامج الأكثر الأصلح؟!!!! المرأة هل هي فتنة؟!... نعلم يقينا أن الحديث عن كون المرأة فتنة لا يروق لأصحابنا من الحداثيين .. اللبراليين .. العلمانيين.. وخصوصا في عصر ( الإنترنت) والقنبلة الذرية .. إلى آخر تلك العبارات التي يكررونها دائما ... ولكننا نتعامل مع حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول في الحديث الصحيح، والذي أخرجه البخاري ومسلم : ( ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء ). ونحن أولا لا نرى أن الأحاديث الشريفة لها تأريخ صلاحية تنتهي فيه! وبالتالي فنحن نؤمن بأن المرأة ( فتنة) كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وإن كان ذلك لا يمنع من أن نفهم الحديث على أكثر من وجه، إذا كان النص يحتمل ذلك. ففتنة المرأة، قد تكون هذا المعنى الأولي الذي يتبادر إلى الأذهان، من فتنة الجمال، وسطوته التي لا يستطيع أحد أن ينكرها. وقد يكون في الحديث ( إعجاز)، وذلك حين يقع الظلم على المرأة، فيتسبب ذلك الظلم في أن تتحول المرأة إلى (قضية)، ثم إلى ( فتنة)، تتجادل حلوها الأمة، وقد تكون مدخلا للنيل من الإسلام، وقد تكون ( الفتنة) في هذا العري الذي سوف يغزو الأمة، وتصبح هناك شروط أخرى، وظروف أخرى، مختلفة كل الاختلاف عن واقع وظروف المرأة المسلمة، في العهد النبوي الشريف .. الخالكائن اللذيذ!!{ الطيبات من الرزق} إذا كان حديثنا السابق لا يعجب الحداثيين، فسوف ندير دفة الكلام بعيدا عن كلام (الدراويش)، ونأخذ جولة في علاقة الغرب بالمرأة، وهو الجهة التي يستقي منها أصحابنا جل أفكارهم، وتنظيراتهم، وخصوصا ما يتعلق بالمرأة، وحقوقها.قبل سنوات قرأت مقولة لأحد الكتاب، يصف فيها النساء بأنهن من ( الطيبات من الرزق)، وقد رأيت – ذلك الوقت – أن في ذلك الوصف إساءة للمرأة، ثم اكتشفت أن منهن من لا تراه كذلك! حين نصف المرأة( بالكائن اللذيذ)، فذلك نظرا للطريقة التي يتم التعامل بها مع المرأة، من قبل (معظم) الذكور! فهذا أحد الزعماء يقول عن إحدى السيدات :( .. أدخلتني روضة الأطفال ... اختصرت في شفتيها قصة الأنوثة ... وأعلنت الثورة من سفوح نهديها. لقد غيرت شرائع الدنيا ... وخريطة الحلال والحرام{!!} ... ثم إنها حلت عقدي ... وثقفت جسدي (..) كانت( سرتها ) مركز الكون ... وعلى محيط خصرها اجتمعت كل العصور ... وراحت الكواكب تدور وتدور.وفي لحظة العشق اجتاحتني كالبركان ... أحرقتني .. أغرقتني .. كسرتني ألف قطعة مثل فازة من الكريستال.هذا الاعتراف الناعم (..) ليس لشاعر (..) وإنما لفلاح فقير تحول إلى ثائر .. ثم إلى زعيم .. ثم إلى عاشق مجهول .. هو ماو تسي تونج. أما المرأة التي وقع في هواها (..) فهي تشانج تشينج العاهرة الأسطورية..){ ص 47 ( حكومات غرف النوم) .}. أما إيميلدا ماركوس،فقد أعادت الدفء إلى العلاقات الأمريكية الفلبينية!! :( تأزمت العلاقة من جديد .. وبدت واشنطن كمن فض يده من الرئيس الفيلبيني فرناندو ماركس .. زوجها .. فدعت وزير الخارجية الأمريكية جورج شولتز للحضور إلى مانيلا .. العاصمة .. وفي المطار وأمام عشرات المستقبلين، انحنى شولتز على يد إيميلدا وقبلها .. ثم .. عانقها .. وبعد أن شعر بالدفء، قال للصحفيين : ( إن صداقة أمريكا والفيلبين لن تضعف ولن تتبدل ){ ص 160 ( المرجع السابق).}. وعن إيميلدا يقول الأستاذ عادل حمودة :( أخطر ما في إيميلدا أنها تستخدم أنوثتها المغطاة بالبراءة في إسالة لعاب أقوى حكام العالم .. فهم في النهاية بشر ... يفضلون التفاوض مع امرأة مثلها عن الجلوس منفردين في حجرة مغلقة مع امرأة مثل جولدا مائير .. وتعرف إيميلدا ذلك .. تقول :" أنا لست جولدا مائير ... أنا امرأة جميلة .. جذابة" هكذا ببساطة وجرأة وصراحة .. وقد وصفت الرئيس السوفيتي الأسبق برجنيف بأنه طفل " لقد رأيته سعيدا بأوسمته وهو يحركها أمامي وكأنه صبي يداعب لعبته الملونة " ووصفت وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر بأنه بلاي بوي " أهبل " لقد تصور أن قبلة يختطفها من شفتيها هو ثمن باهظ تدفعه مقابل أن تدعم الولايات المتحدة زوجها : " إنني قبلته كما يقبل الجليد النار .. وقد تصورت أنه لن يكتفي بذلك .. ولكنه اكتفى فكان أن ضحكت في سري من تواضع رغباته" ..){ ص 164 – 165 ( المرجع السابق).}. يبدو أن ضعف الرجل أمام المرأة لا نهاية له : ( من الرؤساء الذين صُوروا في أوضاع خاصة الرئيس الإندونيسي الأسبق أحمد سوكارنو .. كان مولعا بالنساء .. وكان يسقط في أحضان أي امرأة توضع في فراشه ... ولم يصور فقط في القاهرة{!!!} بل صورته المخابرات الروسية أيضا في موسكو .. ولكن .. عندما أرادوا ابتزازه وعرضوا عليه الصور الفاضحة .. طلب نسخة منها ليأخذها إلى بلاده وينشرها علنا، ثم قال :" سيكون شعبي فخورا بي بالتأكيد" فلم يحالوا متابعة تجنيده){ ص 239 ( المرجع السابق). }.سنترك( سوكارنو) منتشيا بانتصاراته!، ونلتفت إلى فضيحة الوزير البريطاني، جون بروفيمو، ونترك ( حمودة) يحدثنا ببداية القصية :( في إحدى أمسيات صيف 1961 .. كانت كرستين كيلر تسبح عارية في قصر اللورد آستور .. إنها حسب وصف اللورد نفسه : قطعة من الجاتوه ... فراشة من الحرير وريش العصافير .. جسد ممشوق مثل السيف أو السهم ... مباشر مثل قطعة الرصاص ..(..) في تلك الأمسية استقبل اللورد مجموعة من ضيوفه، وسار أمامهم في اتجاه بوابة السور المحيط بحمام السباحة .. وما إن ولجوا من البوابة حتى وجدوا أمامهم حسناء عارية تخرج من الماء، وتبعد بيديها شعرها الأحمر الطويل عن عينيها .. وبينما اتسعت ابتسامة الغرباء، صرخت الحسناء العارية مطالبة بملابسها التي رماها رفاقها بعيدا عنها. كانت كرستين كيلر هذه الحسناء العارية، وكان بين الضيوف جون بروفيمو .. وكان هذا المشهد هو المشهد الافتتاحي في الفضيحة .. أما المشهد الثاني فكان سقوط بروفيمو في هوى كرستين ... لقد افقده جسدها العاري السمع والبصر والفؤاد .. ولم يعد ينتبه لما يدور حوله (..) لم يعرف بروفيمو في ذلك اليوم 8 مايو 1961 علاقة كرستين بالجاسوس السوفيتي إيفا نوف .. ولا علاقتها بالعميل المزدوج ستيفن وارد.. ){ ص 213- 214 ( المرجع السابق).}. أصبحت كرستين، تنقل الأخبار التي يبثها إياها بروفيمو، الذي كانت تصفه بــ(الزهرة)،إلى الجاسوس السوفيتي، الذي تصفه بــ(البلطة)!! وعندما وقعت كريستين في ضائقة مالية،سعت لبيع قصتها للصحافة :( وعرف رئيس الحكومة هارولد ماكميلان، فحاول التدخل لمنع النشر بحجة الحفاظ على الأمن القومي .. وأسرار الدولة العليا .. ولكن لا أحد استجاب لهذه الحجة .. وقامت الدنيا ولم تقعد بعد النشر .. وقبضت كرستين من صحيفة واحدة 23 ألف جنيه .. واضطرت الحكومة إلى فتح التحقيق الذي كشف عن تورط أكثر من 50 شخصية مسؤلة في الدفاع والمخابرات، عرفوا الفضيحة، وتستروا عليها على أمل أن ينالوا كرستين كيلر ولو مرة واحدة){ص 216 – 217 ( المرجع السابق).}. قضي على مستقبل بروفيمو السياسي،وربما تكون الحكومة كلها استقالت.وهنا نشير إلى مسألتين، الأولى : كيف كانت الفضائح الجنسية للسياسيين، تؤدي إلى الاستقالة، وقد تقضي، بالكامل، على المستقبل السياسي لصاحب الفضيحة. وكيف تغير الوضع لتصبح الفضائح السياسية مجرد عناوين كبيرة في الصحف، ويظل صاحب الفضيحة في مكانه! والأغرب أن هناك ظاهرة أخرى، وهي موقف زوجة السياسي صاحب الفضيحة، فقد أصبح كل همها أن تغطي على فضيحة زوجها، فالمناصب والمكاسب أهم بكثير من مجرد ( خيانة)!! .. وما هيلاري كلنتون عنا ببعيد. المسألة الثانية، ما ورد عن وجود كرستين كيلر، عارية في قصر اللورد، آستور، فذلك يذكرني بقصة أوردها روجيه فاديم في مذكراته، عن الماركيز الإيطالي سيرجيو دوسان ستيفانو، أحد كبار النبلاء الإيطاليين، والذي تعرف عليه(فاديم) في روما، سنة 1955م. زار فاديم صديقه الماركيز،فأعد له الأخير مفاجأة : ( كانت( المفاجأة ) من نوع الحماقات الإيطالية الشائعة حينها، وكان صاحب المنزل، قد استأجر عددا من الفاتنات الرومانيات، وكلفه ذلك ثروة تكفي لترميم جناح بكامله من قصره،عند منتصف الليل " أطلقت: الحسناوات في حديقة القصر عاريات تماما، ( كان ذلك في مطلع فصل الصيف) وأعطى سيرجيو إشارة بدأ الصيد، وإن قبضت على إحدى الفتيات فهي لك طيلة الليلة){ ص 220 ( من نجمة إلى نجمة)/ مذكرات روجيه فاديم/ ترجمة : نضال حواط / دمشق/ دار طلاس للنشر / 1987م/ الطبعة الأولى.}. هذه صورة من صور النفاق الغربي، فلو أن هذه القصة رويت عن ( ثري عربي)، وليس عن (ماركيز إيطالي)، لأنتج عنها فاديم نفسه فيلما، يرتدي أبطاله ( اللباس العربي)، ولكن ما دام الفاعل من أصحاب الدم الأزرق، فالمسألة ليست أكثر من(( "مفاجأة" من نوع الحماقات الإيطالية الشائعة حينها))!!!!إذا عدنا إلى موضوع ( الكائن اللذيذ)، فلا بد أن نقفز قفزة عالية فوق أرتال من فضائح السياسيين، الغربيين، بما فيها الفضيحة الأكثر شهرة، قضية( مونيكا و كلينتون)، لنصل للطبعة الأخيرة، أو موديل هذا 2006م، وما نقصده ليس فضيحة من تلك الفضائح التي تعودنا عليها في الشرق والغرب، ولكنها حادثة ( صغيرة)، نترك المجال لجريدة ( الشرق الأوسط)، لتروي لنا ما حدث، نقلا عن ( نيويورك تايمز) :( وقف الرئيس الأمريكي جورج بوش خلال أعمال قمة الدول الصناعية الثماني في سان بيترس بيرغ الأسبوع الماضي ومشى خلف المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل التي كانت تجلس في المقعد المخصص لها، ووضع يده على كتفها وضغط عليه مرتين، كما بدا في الصورة، وما كان من المستشارة الألمانية إلا أن رفعت يديها في الهواء وبدت على وجهها تكشيرة استياء. ترك الأمر لوسائل الإعلام والمشاهدين ليفكوا شفرة ما حدث لمعرفة ما جرى بالفعل. وسائل الإعلام الألمانية انتقدت بقسوة{هل كان ذلك من باب الغيرة مثلا؟!!} ما حدث من جانب الرئيس بوش، فيما وصف كتاب محافظون ولبراليون أمريكيون في مواقع على لإنترنت ما حدث من الرئيس بوش بأنه إما دفء في العلاقة{!!!} أو شيء آخر أكثر إثارة للاستياء،مثل الملاطفة والمداعبة على الطريفة القديمة{!!!}. مهما كان دافع بوش من وضع يده بالطريقة التي شوهدت، من الواضح أن ما حدث منه لم يرق للمستشارة الألمانية ولكن في سياق المس والمداعبات الخارجة على المألوف{هل هناك مس ومداعبات مألوفة؟!!} من جانب الساسة يمكن النظر إلى سياق زمان ما فعله بوش بأنه فعل غير ضار{!!!}،وإن كان سياق المكان غير مناسب{!!!}.(..) وفي نيومكسيكو واجه الحاكم بيل ريتشارسون، الذي يتطلع لترشيح نفسه للرئاسة، إلى انتكاسة سياسية في ديسمبر ( كانون الأول) الماضي عندما قالت نائبته دايان دينيش لمراسل ( البوكيرك جورنال) أنها تحاول أن تتحاشى الحاكم في المناسبات لأنه قرصها في عنقها ولمسها في وركها وجانب ساقها. ترى هل جن قادتنا؟){ جريدة الشرق الأوسط العدد 10102 في 26 / 7 / 2006م.}. هذا الهوس من قبل الرجل الغربي بالكائن الأنثى، في مجتمع ( مفتوح)!! فما هو تصوركم لما يحصل من الرجل الذي يعيش في مجتمع يعيش ( الكبت)، كما يقولون؟!! لربط الموضوع بواقعنا، فقد بدأت التساؤلات – إذا لم نقل الدعوات – عن الوقت الذي يتم فيه تعيين ( سفيرة) لحكومة خادم الحرمين الشريفين؟!! تم طرح هذا السؤال على وزير الخارجية السعودي!! يا ترى ماذا ستفعل (السفيرة ) السعودية مع ما أسماها المقال السابق : ( أفعال غير ضارة)؟!!!!!!!!!!!!!!! بعيدا عن الأفعال الضارة، أو غير الضارة، نترككم مع هذا الكلام( العلمي)، أو نتيجة إحدى الدراسات، كما جاء في مقال: ( فهل ترك له الجمال صوابا)، للأستاذ فهد عامر الأحمدي :( قبل فترة قرأت دراسة تثبت أننا – نحن الرجال – مرضى بالحسن والجمال .. فقد اتضح أن رؤيتنا للوجه النسائي الجميل ( والجميل فقط ) يفرز في أدمغتنا مخدرين طبيعيين الأول يدعى أندروفين والثاني السيروتونين .. والأندفروفين هرمون يفرزه الدماغ في أحوال كثيرة لبعث الشعور بالراحة والاسترخاء، أما السيروتونين فله مفعول إدماني لذيذ ويدعى ((هرمون السعادة)) لأن انطلاقه في الدماغ يسبب شعورا بالسعادة والانشراح ( وهو موجود أيضا في الشوكولاتة)!! .. والمشكلة لا تكمن فقط في انطلاق هذين المخدرين، بل في تكرار رؤية ( نفس الوجه الجميل) وإفراز هاتين المادتين بشكل متواصل .. وحين يتشبع المخ بهما يصعب على الرجل التفكير بشكل سليم ويجعله يستهين بالعواقب ولا يقدرها بشكل جيد ( وهو ما يفسر المراهقة المتأخرة لبعض الرجال وتهور بعض الساسة والمشهورين إكراما للوجه الجميل){ ذكر نماذج من الإغواء، عبر التاريخ.} .. وهذه النماذج تثبت تأثير الجمال على عقول الرجال وشل قدرتهم على التفكير المتزن (بسبب الإفراز الدائم لهرموني الإندروفين وسيروتونين) .. لكن، قبل أن نلوم(( المسكين )) يجب أن نتذكر أن هذا النوع من الانجذاب له أصل بيولوجي وغريزة طبيعة تحث على الارتباط والإنجاب، فالسؤال الذي شغل الفلاسفة والعلماء طويلا هو : لماذا ينجذب الرجل للمرأة الجميلة بالذات – وما الذي يحكم و يحدد عناصر الجمال أصلا؟ ... وفي السنوات الأخيرة فقط أدرك العلماء أن الجمال يرتبط بالخصوبة وأن الوجه الجميل يعني مستوى أعلى من الهرمون الأنثوي الأستروجين .. ففي جامعة سانت أندرو ( في ايرلندا) عمدت الدكتورة مريام سميث إلى جمع صور 56 طالبة بين سن الــ 18 و 24 وعرضتها على 30 طالبا بغرض تقييمها من حيث الجمال والجاذبية وتناسق الملامح .. وفي نفس الوقت أجرت تحليلا لمستوى هرمون الأستروجين ( المسؤول عن خصوبة المرأة وإعطائها الملامح الأنثوية المميزة) فوجدت تطابقا بين مستوى الهرمون المرتفع وجاذبية المرأة في عيون الرجل .. ليس هذا فحسب بل اتضح أنه كلما ارتفع مستوى الهرمون الأنثوي تمتعت المرأة بعينين أكبر وفكين أصغر وشفايف{هكذا شفايف،وليس شفاه!!} ممتلئة وشعر أكثر غزارة – وهي الصفات التي ينجذب إليها الرجال ( لسبب غامض لا يفهمونه أنفسهم ){هكذا}){ جريدة الرياض العدد 14260 في 25 / 6 / 1428هـ = 10 / 7 / 2007م }.يبدو أن الفرنسيين أدركوا مبكرا ما يفعله جمال المرأة بالرجل! فحين أنشئت بورصة باريس سنة 1724م، يقول بيار رامير : (ولأن المرأة كانت موضوع اشتباه بإمكانية إطلاق العنان لنشوة المضاربات والتفاوض على ديونها مقابل جمالها لم يُسمح للنساء بدخول المكان إلا في العام 1967) لم يتضح أن المرأة ( كائن لذيذ)، فقط، بل اتضح أنها ( قطعة شوكولاتة)!! يبدو أنني بدأت أعذر ( الغضبة المضرية)، لبعض الساعين إلى كشف حجاب المرأة!! من يقبل أن تظل ( قطعة الشوكولاتة)، مغطاة بهذا الحجاب، الذي يحرمهم من ( التلذذ بالشوكولاتة)!!ماذا كنا نقول؟ هل المرأة فتنة أم لا؟! وهل في الحديث إعجاز أم لا؟ هاهي المرأة تُظلم، ثم تصبح (قضية)، ثم تتعرى، فتصبح فتنة كبرى!! تسقط حكومات، وتذهب (عقول الرجال)! ثم يصبح صراعها مع الرجل، سببا في تفكيك الأسرة؟!! صدق حبيبنا صلى الله عليه وسلم( ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أسلب لذي لب من إحداكن). أو كما قال صلى الله عليه وسلمفي الحلقة القادمة نتحدث عن ( الحجاب السعودي) إذا أذن الله محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة Mahmood-1380@hotmail.com