-
حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
رواية تاريخية ..قيل عنها الكثير ..
تدور احداث القصة في تركيا ولبنان , ومن ثم الهند , وفرنساالقصة ضخمة
760 صفحة
11ميجا بايت
ترجمة : حافظ الجمالي
http://www.4shared.com/file/23434157...73/___-__.html
http://www.4shared.com/document/y-o5wr6q/_____-__.html
http://www.darlbrl.com/vb/images/smilies/rose.gif
منقول
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
شكرالك على هذه الرواية
ان شالله احملها واقراها كاملة
تحيتي
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
السلام عليكم
وصلني ملحص عن الرواية لمن ليس له صبر في القراءة ويتبع:
1-\حياة أميرة عثمانية في المنفى"1" صحيح أن مسلسل (طعام .. صلاة .. حُب)،لم يحقق ذلك النجاح الكبير،أو لم يكسر الأرقام القياسية،إلا أن متعة السياحة في الكتب،وفكرة (تمرير) عدد كبير من الصفحات تحت غطاء (المسلسل)،مما يعني أن (المتصفح)،قد قرأ – في المسلسل الماضي – 38 صفحة!! بطبيعة الحال،هذا إذا كانت الحيلة قد انطلت عليه فقرأ 38 صفحة،تمثل سياحة في 470 صفحة ... ما سبق دفعني – أو دفع بي – إلا السياحة في كتاب آخر،ولكن هذه المرة لن نصحب (المقداد) وهو يجمع مهر (المياسة)،كما لا نكون مع زرقاء العينين،(مطلقة)،بل سنكون مع (موعظة)،ليس بالمعنى المباشر للكلمة. يستطيع المرء أن يتخيل حياة سليلة الخلفاء العثمانيين،وحياتها المترفة،ثم ينظر – بعين الاعتبار – إلى نمط حياتها بعد ذلك في المنفى. الكتاب – كما جاء في العنوان – هو (حياة أميرة عثمانية في المنفى)،لمؤلفته كينيزي مراد،وقد نقل الكتاب عن الفرنسية حافظ الجمالي،ونشرته دار طلاس في دمشق،سنة 1990م،في طبعته الأولى. اهتم كثيرا بالسير الذاتية،وبالرحلات،ويكمن سر ذلك في أنني أعتبرهما (مادة أولية) للتأريخ،فمن يكتب سيرة حياته،أو يسجل رحلته لا يحمل نفس التصورات التي يحملها (كاتب التأريخ)،ومن هنا فإن الأول يخبرك بمشاهداته،أو بمعلومة اطلع عليها بكل بساطة ... وتستطيع أنت – أو من يقرأ التأريخ بعد ذلك – أن يقارن بين معلومة (شاهد العيان)وبين ما كتبه المؤرخ.قبل أن نبدأ الرحلة،يبدو لي عنوان الكتاب وكأنه يحمل نوعا من (التداخل) – إن صح التعبير – فهو يشير إلى حياة (أميرة). صحيح أن الأميرة المقصودة هي (سلمى) و قبل أن تصبح هي الشخصية الرئيسة،أي قبل أن تتزوج - وهي في لبنان - وتذهب إلى الهند ثم إلى أوربا،كانت هناك أمها (السلطانة خديجة) والتي عاشت المنفى في لبنان،فنحن إذا أمام سيرة (أميرتين) عثمانيتين في المنفى. يبدو أنني قد عرفتكم – قبل أن نبدأ السياحة – على (سلمى) و(خديجة)،ومع ذلك فلا بأس أن أقول بأن السلطانة خديجة هي بنت السلطان مراد الخامس (خلعه السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1876م)،ابن السلطان عبد المجيد الأول (1839 – 1861)،ابن السلطان محمود الثاني (1808 – 1829) إلى آخر السلسلة الممتدة في تأريخ العثمانيين. القسم الأول : تركياتبدأ القصة من موت السلطان عبد الحميد الثاني،ولكنها تعطي – أيضا – صورة لحياة الأميرتين :(وصلت،بعد أن أرهقها الجهد إلى الباب الضخم،باب الحرملك،الذي يقوم على حراسته خصيان سودانيان،على رأس كل مهما طربوش فاقع الحمرة. (..) ومن غير أن تنظر إليهما،اجتازت العتبة،ووقفت لحظة أمام المرآة الفينيسية،لتتحقق من حسن ترتيب خصل شعرها الأحمر،وثوبها الحريري الأزرق،ثم لما راقها منظرها،دفعت ستارة البروكار ودخلت إلى الصالة الصغيرة،التي اعتادت أمها أن تبقى فيها بعد الظهر،بعد الحمام.(..) وكانت السلطانة المتمددة على الديوان،تنظر إلى سيدة القهوة الكبيرة،تصب سائلها في فنجان موضوع في كؤيس مطعّم بالزمرد.وكأنما داخل البنيّة فورة من كبرياء،فتجمدت وأخذت تتأمل أمها وهي في قفطانها الطويل. ومن عادة السلطانة(الأم)،متى ظهرت بين الناس،أن تتقيد بالموضة الغربية،التي أدخلت إلى إستانبول،منذ نهاية القرن التاسع عشر. أما في بيتها،فإنها تؤثر أن تعيش على "الطريقة التركية". ففي هذه الحالة لا نراها تستخدم مشدات البطن،ولا الأكمام المنفوخة،ولا التنورات الضيقة،بل تضع على جسمها الثياب التقليدية،بمتعة ظاهرة،وتتمدد بشكل مريح على الصوفات اللينة التي تُفرش بها صالات القصر الكبرى.- اقتربي،يا سلمى السلطانة.بهذه الكلمات تخاطب الأم ابنتها الصغيرة،ذلك أن البلاط العثماني لا يقبل إهمال تقاليده،ويخاطب الآباء أبناءهم،مضيفين إليها {هكذا! : ولعل المقصود يخاطبون أبناءهم بأسمائهم مضيفين ..} كل مالهم من الألقاب،حتى ينشأ الأبناء،منذ أصغر العمر،على تقاليد المرتبة التي يملكونها بحكم مولدهم،ويشعروا بكامل حقوقها وواجباتها. (..) سلمى تقبل بسرعة أصابع الأميرة المعطرة،وتحملها إلى جبهتها،كإشارة احترام،وأخيرا،بلغ بها الهيجان أقصى حدوده،ولم تعد تصبر على حبس الكلام أكثر من ذلك،وهتفت تقول :أيندجيم { : يا أمي العزيزة المحترمة} إن العم "حميد"قد مات!وظهر شيء من البريق على العينين الرماديتين – الخضراوين. مما حمل البنيّة على الظن بأن ذلك الألق علامة نشوة،ولكن سرعان ما انطلق صوت شديد البرودة يعيدها إلى النظام،إذ تقول :- كأنك تشيرين إلى جلالة السلطان عبد الحميد،على ما أظن. فليقبله الله في جناته. لقد كان سلطانا عظيما. ولكن من أين جاءك هذا الخبر الحزين؟- أهو خبر محزن؟ قالت البنيّة ذلك مندهشة،وهي تنظر إلى أمها. أو محزن موت هذا العم الكبير شديد القسوة،الذي أزاح أخاه عن العرش،أخاه الذي هو جد سلمى،وأشاع أنه مجنون؟ والحقيقة أن مرضعتها كثيرا ما روت لها قصة مراد الخامس،وهو أمير محبب،كريم،ومن المؤسف أن "مراد الخامس"لم يحكم إلا ثلاثة أشهر ... ذلك أن أعصابه الرقيقة هُزّت هزا عنيفا بدسائس البلاط،والاغتيالات التي رافقت وصوله إلى السلطة. فأصيب بانهيار نفسي عميق. لكن الطبيب النمساوي،المختص الكبير لييديرسدروف Liedersdorfكان قد أكد أنه إذا خلد إلى الراحة،فسيبرأ خلال عدة أسابيع. لكن المجموعة التي كانت حوله،لم تحسب أي حساب لهذا الرأي. فخلع مراد،وحبس مع أسرته كلها في قصر تشيراغان.ولقد عاش السلطان ثمانية وعشرين عاما في هذا الأسر،محاطا باستمرار بجواسيس أخيه الذي كان يخشى تدبير مؤامرة،تهدف إلى إعادته إلى العرش. وكان عمره ستا وثلاثين سنة،عندما دخل سجنه هذا،ولم يخرج منه إلا عندما مات. (..) ومن المستحيل أن تكون الأيندجيم قد شعرت ببعض الأسى،وهي التي بقيت خمسة وعشرين عاما سجينة في قصر تشيراغان،ولن تستطع استعادة حريتها إلا عندما قبلت ذلك الزوج الفظيع،الذي فرضه السلطان عبد الحميد.فلِم تكذب؟لكن هذه الفكرة الكافرة نبهت سلمة فجأة،وجعلتها تتخلى عما كانت تعيش فيه من أحلام. إذ كيف استطاعت أن تتخيل للحظة واحدة أن هذه الأم الكاملة إلى هذا الحد،تتدنى بنفسها إلى الكذب؟ إن الكذب أمر يناسب العبيد الذين يخشون العقاب،ولكن هل يناسب سلطانة؟ ومع حيرتها هذه،أجابت أخيرا :كنت أمر في الحديقة. وسمعت الأغوات يقولون ذلك.وفي نفس اللحظة ظهر في العتبة خصيّ،سمين بعض الشيء. وعلى يديه قفازان أبيضان،وعلى جسمه ذلك الثوب الأسود الكلاسيكي،ذو الياقة الشبيهة بياقة لباس الضباط،أي ما كان يسمى بالاستانبولين. وبعد أن انحنى أمام سيدته مرات ثلاثا،استوى واقفا،ويداه متصالبتان تواضعا فوق بطنه،ليقول بصوت حاد :سيدتي السلطانة العظيمة الاحترام ..فقاطعته الأميرة قائلة : إني أعلم. إذ لقد كانت سلمى أسرع منك. فقل ذلك لأختيّ،الأميرة فهيمة،والأميرة فاطمة،وكذلك أخبر أبناء الإخوة،الأميرين نهاد وفؤاد،أني أنتظرهم هنا هذا المساء.) {ص 14 - 16}.وحضرت الأميرتان :(فاطمتها الرقيقة العذبة،التي تلبس ثوبا من التفتا العاجية اللون،يُبرز حسن عينيها السوداوين وكذلك تتأمل فهيمتها المتألقة،التي تبرز قامتها الناعمة من داخل ثوب ذي ذيل،تناثرت عليه صور الفراشات،وكأنما قد أتى به مباشرة من عند أدلر موللر،أحسن خياط في فيينا – أما روائع باريس فإنها لم تعد تصل،مع الأسف،منذ أن خطر ببال الدولة،في آب / أغسطس / عام 1814،ذلك الخاطر بإعلان الحرب على فرنسا.(..) وفي أعلى السلم كانت السلطانة خديجة قد تقدمت. إنها تبدو أطول من أختيها،ولها مشية منزلقة،شهوانية،مغرية،وعلى شيء كبير من العظمة. ونراها تفرض نفسها على أكثر الناس بعدا. وعندما يتحدثون في الأسرة عن السلطانة،على الرغم من أن الأخوات كلهن سلطانات،فإنهم إنما يتحدثون عنها هي،بصورة مؤكدة. وتجمدت فاطمة،أمام أختها الكبرى،من غير أن تخفي إعجابها،ولكن فهيمة،المستاءة،والتي هي تبعا لمعايير الموضة،الأجمل بين أخواتها،أسرعت فقضت على السحر :- ما ذا يحدث يا أختي العزيزة حتى تستدعينا بمثل هذه السرعة؟ لقد اضطررت لإلغاء الأمسية التي دعيت إليها لدى سفير النمسا – هنغاريا. تلك الأمسية التي كنا نقدر أنها ستكون مسلية جدا. - إن الذي يحدث،هو أن عمنا السلطان عبد الحميد،قد قضى نحبه. هكذا قالت السلطانة بلهجة أكثر رسمية من المألوف،لاسيما وأنها لم تقرر بعد السلوك الذي عليها أن تعتمده في هذه المناسبة. واكتفت فهيمة برفع حاجبيها.لم يكن لموت هذا ... الطاغية،أن يحملني على العدول عن حضور البال (حفلة الرقص). ..) { ص 19 - 20}.وأسرة السلطانة خديجة تستعد لجنازة السلطان عبد الحميد،انتهت هذه الحلقة،فإلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"2"في ظل النقاش حول وفاة (العم حميد) .. (وفي هذه اللحظة ظهر أحد الخصيان،يعلن عن وصول رسول من السلطان. وكان هذا الرسول سودانيا عظيم الهامة. ومع أنه عبد،فقد نهضوا جميعا،لا احتراما لشخصه،لأنه غير موجود بالنسبة إليهم،ولكن تعبيرا عن الاحترام للكلام الذي هو حامله. إن جلالته الإمبراطور،السلطان رشاد،أمير المؤمنين ... وظل الله على الأرض،وخاقان البحرين،الأسود والأبيض،وسلطان البرين،يرسل إلى أفراد أسرته هذه الرسالة : بمناسبة موت أخينا المحبوب جدا،السلطان عبد الحميد الثاني،ندعو الأمراء والأميرات من أسرة جلالة السلطان مراد إلى الاشتراك في المأتم،في الأماكن والطريقة المحددّة في الأعراف. فليكن السلام معكم،وليتولاكم الله جل وعلا بلطيف عنايته.وهنا نراهم يتقلبون الأمر الصادر. وليس من شك في أن رسالته ليست بدعوة،بل هي أمر.وما كاد الرسول يغادر المكان حتى دمدم الأمير نهاد،رافعا كتفيه وقائلا :ليحدث ما يحدث،فلن أذهب.وتتدخل السلطانة خديجة لتقول بلهجة اللائم. - يا نهاد،أظن أن (فؤاد) على حق. فالموقف خطير. وعلينا أن نبقى على وحدة الأسرة. - وحدة الأسرة! آه. لنتحدث عنها،يا خالتي العزيزة. إنها أسرة لم تنقطع منذ ستة قرون عن الاقتتال من أجل السلطة. فكم قتل جدنا مراد الثالث "قاهر الفرس"من إخوته؟ إنهم تسعة عشر فيما أظن. وكان أبوه أكثر تواضعا،إذ لم يقتل إلا خمسة. وأجابت الخالة :- لقد كان ذلك مبررا بضرورة الحكم. وقد حدث مثل هذا في كل الأسرة الحاكمة. لكن الذي حدث في أوربا،أن الملوك لم يكن لهم إخوة بهذا العدد. وأنا لا أحقد في هذا على السلطان عبد الحميد. ففي تلك الظروف الصعبة التي كانت فيها إنكلترا وفرنسا وروسيا تريد اقتسام أراضينا،كان يجب بلا ريب أن يوجد رجل مثله،لكي يدير دفة الحكم. ولقد استطاع خلال ثلاث وثلاثين سنة أن ينقذ الإمبراطورية من شرور الدول،التي كانت تريد تمزيقها. أما أبي. المفرط في حرصه على الشرف،والشديد الحساسية،فربما لم يكن قادرا على أن ينجح في ذلك. وأخيرا،أليست مصلحة البلاد أولى بالرعاية من سعادتنا الشخصية؟ وعندئذ تبادلت فهيمة السلطانة والأمير فؤاد غمزة عين ساخرة. ذلك أن كبراهم كانت دوما امرأة تحرص على الواجب. ولكن من يهتم اليوم بهذه المبادئ الكبرى؟ أما فهيمة فتريد قبل كل شيء أن تتمتع،وهي تقبل على المتعة إقبالا عنيفا بحكم شعورها أنها أضاعت في الأسر أجمل سني حياتها. إنها من المرح،والخفة بحيث لقبت بلقب "السلطانة الفراشة" (..) – إذا كنت أفهم سيادتك (أفنديمز)،فإنه ليس علينا فقط أن نحضر المراسم،بل لعل علينا،كذلك،أن نذرف فيها بعض الدموع،لنكون في مستوى الموقف. - يكفيكم أن تحضروها. ولكن تذكروا هذا،يا فؤاد،وأنت يا نهاد،فلئن وصلتما إلى العرش يوما،فانسجوا على مثال السلطان عبد الحميد لا على مثال جدكم السلطان مراد. إذ لا تملك المرأة،في آن واحد،أن يكون لها ولد،وأن تحتفظ بعذريتها. وعندما انفجرت ضاحكة من سحنتهما المندهشة – إذ إنهم لن يتعودوا أبدا على خشونة كلماتها – نهضت لتختم الاجتماع) {ص 22 - 24}.الآن يقترب الحديث عن شخصية سترافقنا طول هذه السياحة – إذا كتب لها الاستمرار - ولكن قبل ذلك نذهب إلى السوق في رفقة السلطانة :(في صباح اليوم التالي،ما كادت السلطانة خديجة تستيقظ من نومها،حتى استولت عليها رغبة مفاجئة في المضيّ إلى السوق لتشتري بعض "الشرائط" والعادة هي أن الباعة النساء من الأغارقة والأرمن،هن اللواتي يأتين إلى القصر ليعرضوا{هكذا!} أشيائهن،إذ لا يحسن بالأميرة أن تتردد على هذه الأماكن الشعبية،حتى ولو بقيت بعيدة عن الأنظار في عربتها المغلقة أحسن الإغلاق. ولكنها اليوم لا تريد الانتظار.فاستدعت زينل،خصيّها المفضّل. وهو ألباني طويل القامة،ذو بشرة شديدة البياض. ويجب أن يكون في الأربعين من عمره،وتلاحظ السلطانة بشيء من المتعة أن سمته الجديدة،تريق عليه هيبة الباشا. وتتذكر الآن ذلك المراهق المرعوب الذي وصل منذ خمسة عشر سنة إلى قصر تشيراغان،حيث كانت تعيش سجينة مع أبيها،وإخوتها. وكان قد أرسل إليهم من قبل رئيس الخصيان لدى السلطان عبد الحميد،الذي وجد في إرساله هذا،وسيلة مناسبة للتخلص منه. ذلك مع أنه كان موهوبا بشكل خاص – لأنهم كانوا يعلمون الأطفال الذين يهيئونهم لخدمة البلاط الملكي – ويتميز بالذكاء والحيوية – فإنه فيما بعد بدا عصيا جدا على نظام الحريم القاسي. ومع ذلك،فإن زينل هذا سرعان ما تلاءم مع صورة الحياة في قصر تشيراغان. فهل كان مثلا يشعر بأنه أكثر حرية،من هؤلاء المساجين؟ وتذكر خديجة أنه كان يتبعها إلى كل مكان. وكان شديد الانتباه لأصغر حركاتها،على حين أنه كان يتجاهل أختيها الأميرة فهيمة و الأميرة فاطمة. ولقد اختارها هي وحدها ليقوم بخدمتها. (..) ومن أعماق صمتها تتجه إليه،وتقول له أخيرا :يا أغا أريد أن تجد لي عربة من عربات الأجرة،وبأسرع ما يمكن. وينحني الخصي،مخفيا دهشته. ذلك أن عربات القصر المغطاة والمكشوفة،وهي خمس،في أحسن حال! وبطبيعة الحال،فإن هذه العربات تحمل الشارات السلطانية ... فهل ترغب سيدته أن تمشي،مجهولة الهوية،في الوقت الذي كان فيه زوجها خيري بك،في رحلة خارج المدينة؟ و زينل هذا معتاد على نزوات النساء،فلطالما لاحظها بين نساء الحرملك،حيث كان يخدم لمدة أربعة عشر عاما. لكن سلطانته هذه مختلفة! فأنب نفسه على أنه شك فيها،ولو للحظة،وأسرع ليجد لها عربة أجرة. ){ص 25 - 27}.أخذت السلطانة معها (سلمى) في رحلة التسوق،وسارت العربة،حتى أوقفها الازدحام،فقال زينل :( - يا صاحبة السعادة،لم يعد في وسعنا أن نتقدم. فمن هنا يجب أن يمر الموكب الجنائزي. وترتسم ابتسامة هادئة على محيا السلطانة.- أحقا هذا؟ لقد نسيت ذلك. إذن فسننتظر ريثما يمر.وألقت سلمى نظرة باتجاه أمها،إن هذا هو فعلا ما كانت تفكر به : فالشرائط لم تكن إلا ذريعة! فأيندجيم لا تهتم كثيرا بزينتها! والشيء الذي كانت تريده،هو أن ترى موكب الجنازة،ولما كانت التقاليد تقضي بأن لا تحضره الأميرات،فقد وجدت هذه الحيلة للحضور.وكان هناك جمهور كبير من الناس قد تجمع،على دهشة كبيرة من السلطانة. فقالت في نفسها : "يا بؤسهم،إن الناس لقليلو المتع،في أيام الحرب هذه،حتى يكفي أي شيء،لإخراجهم من منازلهم". وفجأة يسود الصمت. إذ لقد ظهر الموكب في أعلى الشارع.كان النعش مسبوقا بفرقة عسكرية موسيقية بالإستانبولية السوداء. ومرت الجنازة ببطء،محمولة على أكتاف الجنود. ويتبعها الأمراء،مشاة على الأقدام،بترتيب الأعمار،وعلى صدورهم أوسمة الألماس. ويأتي بعدهم الأصهار (الدامادا) أزواج الأميرات،ثم الباشوات في زيهم الاستعراضي الموحد،ثم الوزراء بالريدنجوت المزين الجوانب بمطرزات الذهب. وأخيرا،وعلى نفس مستوى الوزراء في هذه الاحتفالات الرسمية،يأتي ألكيسلر آغا،حارس أبواب السعادة،ورئيس الخصيان السود،في القصر.){ص 28}.ثم نصل إلى مربط الفرس،تقارن السلطانة بين جنازة عمها،وجنازة أبيها،ولكن قبل ذلك، يستمر وصف جنازة العم: (وعلى جانبي الموكب،وعلى طول الثلاثة الكيلومترات التي تفصل جامع أيا صوفيا،عن الضريح الذي سيقبر فيه السلطان،ينتشر الجنود في لباسهم الرسمي في وضعية التأهب. من الواضح كل الوضوح،أن حكومة تركيا الفتاة،التي أزاحت السلطان عبد الحميد عن العرش،قبل عشر سنوات،وتحت رعاية السلطان رشاد،هي التي بيدها مصائر الإمبراطورية. ولقد شاءت أن يكون الاحتفال بدفن السلطان ضخما. وفي وسع المرء أن يبدو طيبا مع الموتى.أما الطيب .. فإن الرجل الذي يحتفل بدفنه اليوم،لم يعرفه قط .. وكانت الدموع تغشّي نظرة السلطانة. وفجأة ترى نفسها قبل أربعة عشر عاما،في تلك الليلة شديدة البرد التي قبر فيها أبوها السلطان مراد،بأمر من السلطان عبد الحميد،بصورة سريعة جدا. إذ لم يصحبه إلى القبر إلا بعض خدمه الأوفياء،أما الشعب الذي أحبه حبا جما،فإنه لم يسمح له بالإعراب عن أسفه.وترتجف خديجة. ذلك أن العظمة التي تحيط بالموكب الجنائزي،لذلك الجلاد،أثار كراهيتها من جديد. (..) وشعرت السلطانة بأن طعما مرا يملأ فمها. أهو الغيرة؟ وهل تغار من ميت؟ .. إنها تفهم الآن ما هي الرغبة التي دفعتها لتجاوز الأعراف،من أجل حضور هذا الاحتفال الجنائزي. ولقد ظنت أن هذا منها ليس إلا من قبيل الفضول : والحقيقة أنها أرادت الشعور بالانتقام. فلقد جاءت تلاحظ وتستنشق وتتذوق موت الرجل الذي كان يقتل أباها،يوما بعد يوم،خلال ثمانية وعشرين عاما. (..) وفجأة ندت عن الحضور صرخات. وحاولت السلطانة داخل عربتها أن تكبت ابتسامة. إن هذا هو السبب الذي جعل الناس كثيرين في الاحتفال : إذ قلما يهتم الشعب باللياقات التي تمنع إحاطة الميت بالسخط. ولهذا جاء يحيي الطاغية التحية التي يستحقها!ولما كانت شديدة الانتباه،فإنها أصغت بأذنها،داخل هذا الصخب،إلى ما بدا لها أنه تأوهات وشهقات وبكاء. ولكن هذا مستحيل،ويجب أن تكون أساءت السمع! ومع ذلك ... فقد كان ما سمعته قائما فعلا. فتجمدت في مقعدها،وعلا وجهها شحوب كلون الموت.وما ذلك الذي طنت أنه صرخات كره،بدا فعلا صرخات تألم ويأس. فاشتد فيها الاستياء. ماذا؟ أهذا الشعب الذي كان في الماضي يهزأ بالطاغية،يبكي عليه اليوم؟ أو نسي تلك السنوات السوداء التي كانت فيها الشرطة ودوائر المخابرات تحكم حكما مطلقا؟ أو نسي كم صفق للانقلاب الذي قام به رجال تركيا الفتاة،وأطاحوا فيه بالسلطان عبد الحميد،وأحلوا محله أخاه "رشاد"؟ فهزت رأسها باحتقار،وكأنها تقول : "حقا إن ذاكرة الناس قصيرة".وبدا وجه امرأة من نافذة،وهي تتألم،وتتوجع،,تقول :أيها الأب. لِمَ تتركنا وتتخلى عنا؟ ففي زمانك كان لدينا خبز نأكله. أما اليوم فنحن نموت جوعا! وانضمت أصوات أخرى بعضها إلى بعض،لتقول :أين تمضي؟لا تتركنا وحيدين. ){ص 28 - 30}.لم أكن أرغب في إنهاء هذه الحلقة بهذا الكم من الكراهية .. ولكن : كم تبدو بائسة – يأكل الحقد،تحت ستائر الابتسامات، قلوبهم - حياة قوم في الأعالي،ربما حسدهم بعضنا!! ... إلى اللقاء في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"3"لا يقف الأمر عند تلك المشاعر التي تكنها السلطانة لعمها،بل يبدو أن أسرتي السلطانين،كانتا تتجنبان اللقاء! (وكان قد حان الوقت لتمضي إلى تقديم تعازيها لأسرة الميت. وباستثناء الاحتفالات الرسمية التي يحاولن فها عدم التعرف ببعضهن على بعض،فإن هذه أول مرة تلتقي فيها الأسرتان.وتجتاز السلطانة خديجة الحديقة،متبوعة بأختيها وابنتها،لكي تتجه إلى الجسر المبني من الحجر الذي نبتت عليه الطحالب فيما بعد. وكانت النسوة الأربع يلبسن اللباس الأبيض {هذه "لقطة" تصلح كنهاية ممتازة لحلقة من مسلسل متلفز} لون الحزن،أما اللون الأسود المعتبر كلون الشؤم،فإنه محرم في البلاط العثماني.وساعدهن الخصيان،فصعدن إلى القارب اللطيف،بعد أن حياهن المجدفون العشرة الذين يلبسون،على ما كانت عليه الحال أيام سليمان الرائع،قمصانا واسعة من الباتيستا وسراويل قرمزية اللون. والمجدفون لا يكونون إلا عشرة،عندما يستقبل الأمراء والأميرات.أما الوزراء فحصتهم ثمانية مجدفين. وأما السلطان فإنه يستخدم عادة (قايق){نوع من القوارب التي تستعمل للنزهات القصيرة في البحر} فيه أربعة عشر مجدفا.وعندما كان القايق يسبح فوق الماء،كانت السلطانات يرفعن حجبهن لكي يتمتعن بالنسيم العليل،إذ ما من إنسان هناك لكي يراهن. أما المجدفون فعليهم أن يخفضوا عيونهم،وإلا فإن التسريح عقوبتهم. وفي الماضي كان هذا العقاب هو الموت.){ص 31}.من أي إسلام أخذت تلك العقوبة؟!!! والتي لاشك أن الإسلام بريء مها.. ويا له من فرق شايع بين العقوبتين (القتل) ثم (التسريح)!!! ويا ترى تحت أي تأثير تم تخفيف العقوبة؟! أهو (العدول عن الظلم) فقط،أم لأسباب أخرى؟!! الضغوط الأوربية مثلا!!!!!!!! ثم ..( وصلت الأميرات إلى قصر بيلربي،وقد دُخن قليلا بهواء البحر،فواكبهن الخصيان في البهو الكبير ذي السقوف المزينة بأشكال هندسية خضراء وحمراء،وذي الجدران المكسوة بمرايا دمشقية مطعمة بالصدف. وكان هذا القصر قد بني في القرن الماضي بأمر من السلطان عبد العزيز،الذي أراد له زينة شرقية فخمة ليتميز بها من الدُرجات{الموضات} الآتية من أوربا. ويروى أنه عندما جاءت أوجيني دو مونتيجو،التي كان يحبها حبا شديدا،أقامت فيه قبل أن تمضي لتدشين قناة السويس،فأمر السلطان بأن تطرز الناموسية،التي تنام تحتها الإمبراطورة بألف حبة من اللؤلؤ الناعم.(..) وعندما ظهرت السلطانات الثلاث،دمدم الحضور دمدمة الدهشة. لكن "الكادين"{أرملة السلطان عبد الحميد} تبتسم،وهي أذكى من أن يخفى عليها السبب السياسي لهذه الزيارة. ومع ذلك فإنها لا تقلل من شأن هذه الزيارة العظيمة. فنهضت على عجل،لاستقبالهن،إذ حتى في ذلك اليوم،الذي وصلت فيه إلى قمة الفخار والتشريف{كونها تستقبل العزاء في السلطان عبد الحميد،لعدم وجود أمه،وهي أكبر الزوجات سنا} لا تنسى الاحترام الواجب للأميرات بالدم. ومهما يكن الأمر فإنها،ككل زوجات السلطان،ليست إلا امرأة من الحريم،تميزت عن غيرها بحظوتها لدى السلطان الشديد القوة.أما سلمى الغارقة في تقديم احتراماتها الصغيرة،فإنها تقبل يد النساء المتميزات اللواتي يحطن بالزوجة العزيزة. وكانت تتهيأ للسلام على سيدة قميئة جدا جالسة على يمينها،ولكنها أمام نظرات البعض العنيفة التي ركزت عليها،لم تجد بدا من التوقف. فماذا أتت من السوء؟ وبحكم ما اعتراها من الاضطراب،نظرت إلى أمها التي كانت تدفعها بحزم إلى الأمام. - سلمى،هيا سلّمي على خالتك السلطانة نعيمة،ابنة المرحوم السلطان عبد الحميد. ولكن البُنية تراجعت وهي تهزّ خُصل شعرها الأحمر،لتثير أكثر العجب والاستغراب.فأزاحتها عنها أمها إزاحة مفاجئة،والتفتت إلى الأميرة قائلة :- أرجو أن تعذري هذه الطفلة،فحزنها على فقد عمها لابد أن يكون قد رفع حرارتها. لكن السلطانة نعيمة،التي قابلت هذا الكلام بشيء من الاحتقار،أزاحت وجهها،كما لو أنها لم تكن تستطيع أن تتحمل رؤية التي تكلمها. وعندئذ انتصبت خديجة بقامتها الطويلة،وألقت على الجماعة الحاضرة نظرة ساخرة،ومضت لتجلس على يسار"الكادين"التي دعتها إلى الجلوس بجانبها. فانتصرت. أما ما ظهر من عامية على ابنة عمها،فقد كان بمثابة الاحترام. وما من شخص هنا يخفى ذلك عليه. وهكذا فإن الجرح بعد أربع عشرة سنة،ما يزال ينزف،كما كان الأمر من قبل! ){ص 32 - 33}.عدم قدرة الأميرة نعيمة على إخفاء كراهيتها للسلطانة خديجة،لم يأت من فراغ،فعندما تزوجت الأخيرة بزوج فرضه السلطان عبد الحميد عليها :(.. وكان القصر الذي أهديته من قبل السلطان – كما هي الحال مع كل أميرة تتزوج حديثا – ملاصقا لقصر ابنة عمها نعيمة. وتعودت خديجة أن تزور السيدة الشابة،قريبتها. وكانت تقدم لها نصائحها،كأخت كبرى،وتوصل إليها بواسطة زينل،بعض الهدايا الصغيرة. وسرعان ما جعلت منها صديقة. وكانت نعيمة تعشق زوجها الأنيق،المتفتح،أكبر العشق. فهل من انتقام منها أفضل من أن تسرقه منها. وأية وسيلة أوثق من هذه لكي تجرح جلادها وجلاد أبيها،ذلك الأب الذي كانت تحبه حبا جما،عندما تجعل ابنة السلطان تيأس من الحياة بهذه الصورة؟ وبهدوء وصبر،قامت خديجة،كما لو أنها تقوم بواجب العدالة،بإغواء كمال الدين. وكان ذلك سهلا عليها،لأن نعيمة القليلة الحذر،حرصت،خلافا للتقاليد، على أن يلتقي زوجها،أفضل صديقاتها.وكانت خديجة جميلة،فوقع الباشا في غرامها،وصارحها بحبه لها،في رسائل غرامية عنيفة،كانت تحفظ بعناية. (..) فجعلت من رسائل كما الدين حزمة،ونادت زينل وأمرته أن يسلمها إلى السلطان،مدعيا بأنه عثر عليها بالمصادفة. وكانت تحرص على الانتقام،وعلى حريتها. ولم يكن لمثل هذه الفضيحة إلا أن تؤدي إلى الطلاق.){ص 34}.نُفيَ كمال الدين باشا إلى بروسة العاصمة القديمة .. أما السلطانة خديجة،فقد استدعاها السلطان عبد الحميد .. (واكتفى بالضحك الساخر منها و ... أعادها إلى زوجها. ولن تتخلص خديجة من زوجها إلا بثورة 1908،التي خلعت السلطان عبد الحميد. (..) وبعد ذلك بسنة،وخلال نزهة في "مياه آسيا الحلوة"{نهر صغير في ضواحي إستانبول} التقت خديجة بدبلوماسي جميل،فوقعت في حبه،وقررت الزواج منه. وكان ذلك الدبلوماسي هو خيري رؤوف بك،أي أنه أبو سلمى وخيري الصغير){ص 34 - 35}. وجاء عيد (البيرم) – الأضحى – ولكن قبل ذلك،أليس ممن الممكن إعادة الروح – من الموتة الصغرى – إلا بالموسيقى؟ .. (وانتهى صوت منغم،عذب ومُلحّ،بأن يجعل سلمى تستفيق من نومها. فتفتح عينيها،وتبتسم للمراهقة التي تمس العود بريشتها،على مهبط السرير. وهذه عادة شرقية،للحذر من يقظة مفاجئة،ذلك أن الروح،على ما يقولون،تمضي إلى عوالم أخرى. ويجب أن نمنحها الوقت الكافي للرجوع بالتدريج إلى الجسم. (..) وفي ذلك الصباح،شعرت بأنها فرحة بشكل خاص : إنه البيرم. العيد الأكبر في الإسلام،الذي يستعيد ذكرى تضحية إبراهيم بابنه لله،وعلى كل إنسان أن يرتدي ألبسة جديدة ويتبادل الهدايا مع الآخرين. والمدينة كلها تدوي من ضجيج الألعاب،وصرخات البهالين،وباعة السكاكر. (..) ولكن الاحتفالات تكون أعظم ما تكون في قصر ضولمة باهتشه. حيث يستقبل السلطان،لمدة ثلاثة أيام،عظماء دولته وكل أفراد أسرته.وأبت سلمى كأس الحليب الصباحي،المفروض أن يحفظ لها بشرة حلوة،وقفزت من السرير. ومضت متعجلة إلى الحمام،حيث تقوم عبدتان بتهيئة حمام الورد لها (..) ومن أباريق الفضة يسيل الماء الفاتر على جسد الطفلة الأبيض. وبعد أن تنشفها العبدتان بالموسلين الأبيض،ترشان على جسمها وشعرها رذاذا من تويجات الورود،وتمسدانها لمدة طويلة. (..) وها إن هذه {السلطانة خديجة } دخلت بهوها الصغير،فنهض خيري بك، ليقبل يدها،وبعد أن قال لها ما تقتضي به الأعراف في هذه المناسبة من تمنيات وتهان،قدم لها علبة مجوهرات من المخمل وتقضي الأعراف أن يقدم الرجل لزوجته بمناسبة بيرم،وكذلك بمناسبة عيد ميلاد السلطان،هدية ما لامرأته. فإذا لم يفعل ذلك،فإن هذا إشارة إلى قرب الطلاق. ويتنهد الداماد داخل نفسه. ولكن من حسن الحظ أن سكرتيره يفكر بكل شيء! وكان داخل العلبة عقد عظيم من الياقوت الأزرق،بل شديد الزرقة. وتدمدم الأميرة قائلة :وأي ماء رائع! {في الهامش : في الشرق العربي اصطلح الناس على قول ماء الألماس،أو مية الألماس،على كل المجوهرات المصنوعة من الألماس}.وينحني الرجل بهدوء :لا شيء عظيم الجمال بالنسبة إليك،يا سلطانة! {التعجب من الأصل!}لقد قام سكرتيره بكل ما يجب أن يقوم به. ولكن أنى له،في مثل أيام الحرب هذه والتضييق من المخصصات المدنية {في الهامش : مبلغ يعطى لأفراد العائلة المالكة للإنفاق على حاجاتهم الشخصية}. أن يدفع ثمن هذا كله؟ (..) ثم سحب من جيبه علبة مجوهرات ثانية،أصغر من الأولى – وهذه اختارها هو – ووضعها بين يدي سلمى. إنها مشبّك،وهو عمل دقيق يمثل طاووسا،له ريش مزين بالزمرد.){ص 37 - 39}.عذرا .. الآن عرفت سبب علامة التعجب تلك،بعد أن قال للسلطانة أنه لن يذهب إلى الاحتفال،مع أنه سوف يذهب : ( ولكنه لا يستطيع إلا أن يثير زوجته. فمع مضي السنين،أصبح لا يتحمل دوره هذا المصطنع. أما الطلاق،فإنه ليس بموضع بحث. إذ لا يطلق الإنسان زوجته وهي سلطانة،فهي وحدها لها هذا الحق،إذا وافق السلطان على ذلك.وعلى كل حال فإن خيري بك لا يملك ما يلومها عليه. فهي زوجة كاملة،ولكنها أميرة إلى أقصى الحدود ... ومضجرة إلى حد الموت.{!!!!!!} هكذا كان يفكر،دون أن يعترف أنه مسحوق بشخصية أقوى من شخصيته،مما يحيله إلى مجرد ظل. ){ص 40}.ما أكثر من يعيشون كـ"ظل"رغم أنهم غير متزوجين بـ"سلطانة"!!!!!!! نترك هذه الملاحظة غير المهمة،وننقلكم إلى قصر : (.. ضولمة باهتشه كله بالرخام الأبيض،يمتد بكسل على طول البسفور. ويلاحظ الإنسان فيه كل أساليب العمارة،من كل العهود وكل البلاد،بنظام فوضوي غني. فهناك نجد الأعمدة الإغريقية،والأقواس المورسكية،والغوطية،أو الرومانية Romans،كما نجد الزخرفة المثقلة تغمر الواجهات بباقات الزهر،وأكاليله،والورود {لماذا يصر المترجم على إغضاب سيبويه؟!! فــ"الورد" جمع !!} والرصائع،المزينة بنعومة بالأرابسكات المذهبة. لكن"الطهوريين"يجدون ما يسمونه "بحلوى العروس"شيئا بشعا جدا. ولكن الكثرة،والكرم،والأناقة الخيالية،والجهل البريء،بكل قواعد الزخرفة القانونية،تجعل ذلك كله،قريبا إلى النفس،كما لو أن طفلا وضع كل أنواع الزينة المتباينة،التي وجدها في خزانة أمه،لكي يبدو أجمل مما هو. وهذا لا يفهمه إلا الشعراء،والشعب التركي شاعر. وعندما دخلت سلمى القصر،تجمدت أمام وابل الذهب والكريستال. وكثيرا ما كانت قد زارته من قبل،{لماذا يعقد تركيب الجملة؟!} ولكنها في كل مرة تقف فاغرة الفم أمام كل هذه الأثقال من الفخفخة. فالشمعدانات والثريات تدوي بآلاف وريقاتها البراقة،وسلّم الشرف مصنوع من "البكراة Baccarat"{في الهامش : البكرا : نوع من الزجاج الثقيل الفرنسي الأصل (من قرية بكرا)} وكذلك المواقد الضخمة ذات الجوانب المقصوصة قصة الماس،والتي تشع بنجمة أضواء متقزحة،يتغير لونها في مختلف ساعات النهار. وتحب البنية الصغيرة هذا البذخ. فهو يشد عزمها عندما يُدخل في روعها أن قوة الإمبراطورية لا تغلب،وأن ثروتها لا تنفد،وأن العالم جميل وسعيد. هنالك طبعا هذه الحرب،التي يتحدث عنها أصدقاء أبيها،ثم هؤلاء الرجال والنساء،ذو النظرات المحمومة،الذين يتزاحمون حول شبك قصرها،لكي يطلبوا الخبز. إلا أنهم يظهرون في عيني سلمى وكأنهم يسكنون كوكبا آخر،فالحرب بالنسبة إليها ليست إلا كلمة في الفم الثرثار،لدى الأشخاص الكبار.){ص 40 - 41}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة ...إذا أذن الله أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"4"في هذه الحلقة نواصل متابعة الاحتفال بالـ(بيرم) – عيد الأضحى - ،فبعد انبهار (سلمى) بزينة القصر، نجد السلطانة خديجة وسلمى .. (وبعد مجموعة الخصيان التي استقبلتهما،ها نحن الآن أمام مجموعة من الفتيات،كلهن رائعات – ذلك أن البشاعة شيء محرّم في القصر – يحطن بهما لمساعدتهما على التخلص من حجبهما،على حين أن (القهوجية)،التي ترتدي بنطالا واسعا وقميصا صغيرا فضفاضا،مطرزا بالشركسيات،تقدم لهما القهوة معطرة بالهال،لكي يستريحا من عناء الرحلة.(..) وظهرت سيدة المراسم،التي تبدو فخمة في جاكيتتها الطويلة،المطرزة بالذهب،كعلامة على وظائفها العليا. ولقد جاءت لتبحث عن الأميرات،وتقودهن إلى السلطانة الوالدة،أم السلطان.{رشاد}. إذ أن كل زيارة إلى القصر تبدأ،أو يجب أن تبدأ بهذه السيدة العجوز،التي هي الشخصية الثانية في المملكة {هكذا!!} بعد ابنها. وتجلس السلطانة في جلالها،في بهو مفروش بالحرير البنفسجي،ويتألف أثاثه من مقاعد ثقيلة،من الطراز الفيكتوري. ويدعي العارفون أنها كانت جميلة جدا،ولكنها مع تقدم العمر،والإقامة الطويلة،في جناح الحريم،أصبحت ضخمة. ولم يبق منها إلا عيناها الزرقاوان الرائعتان،اللتان تشهدان على أصلها الشركسي.(..) وتتذكر هذه السيدة العجوز ذلك اليوم،الذي وقعت فيه عين السلطان عليها وأعجبته. وكثيرا ما تشير إلى ذلك في أحاديثها. وأصبحت نتيجة ذلك غوزدي Geuzde،أي تلك التي تلفت نظر السلطان. وحصلت على حق التفرد بغرفة لها على حدة. واشتُري لها فساتين جديدة من الحرير. وكان من حظها أن السلطان لم يتعب منها ولم يزهد بها،وأعاد طلبها مرات كثيرة. وحصلت على لقب "إقبال"أو المحظية،فنقلت عندئذ إلى غرفة أكبر. ووضع في خدمتها ثلاث كالفات{نساء مكلفات بخدمة القصر} وحان عليها الوقت لكي تحمل وتلد. وكثيرا ما سمعت سلمى حديث سيدات عجائز في القصر،يقصصن كيف أن هذه الشركسية الجميلة،عندما ولد ابنها رشاد،رفع من شأنها وأعطيت لقب "الكادين"الثالثة. ولم يكن يكفي الارتقاء عن مستوى الإماء،أن تكون الفتاة جميلة،بل إنها كانت بحاجة إلى الذكاء والعناد،لكي تحظى بهذه المرتبة المرغوبة والمحسود عليها. ذلك أنه كلما علت الفتاة في مراتب الحريم،ازدادت الخصومات واشتد التنافس،وكبرت الأخطار. وفي هذه القمم،يصبح الصراع عنيفا بلا رحمة. وكان أبناء هاته الكادينات،في الواقع،كلهم أمراء،من الأسرة المالكة. وكان العرف يقضي بأن يتربع أكبرهم سنا على العرش. ولكن خلال القرون الستة التي عاشتها الأسرة العثمانية،كثيرا ما رأى الناس،الأبناء الأوائل يختفون،كضحايا للحوادث،أو مرضى بأمراض غربية.ولم تترك هذه الكادين لأحد حق رعاية طفلها،لأنها كانت تعرف جيدا نماذج من المرضعات و الخصيان،أُغروا من قبل فتاة منافسة أخرى،وقتلوا الولد بصورة ما. ولقد أقسمت أن يكون ابنها سلطانا،وأنها ستكون السلطانة الوالدة. وكانت حياتها كلها مركزة على هذه الغاية. وكان عليها أن تنتظر عمر الثامنة والسبعين لكي يتحقق لها هذا الأمل. أما الآن فإن الطموح الذي رافقها خلال ستين سنة من الدبلوماسية والمؤامرات،قد فارقها،ولم تعد شيئا آخر غير امرأة عجوز متعبة. وأخذت السلطانة الأم وليدة،بيدها شديدة البياض،تدغدغ بضربات خفيفة خدها،مما يشير إلى الكثير من العطف،كما كالت المديح للسلطانة خديجة على مظهرها الجميل. ثم إنها عبّت نفسا طويلا من نارجيلتها المذهبة،وأغمضت عينيها وانتهت المقابلة. (..) وفجأة علت ضجة : فالسلطان عاد من صلاة السلاملك. وستبدأ مباشرة حفلة تقبيل اليد. (..) أما سلمى المحصورة بين سيدتين ضخمتين جدا،فإنها تجد صعوبة حتى في التنفس،ولكنها تأبى أن تتخلى عن مركزها هذا في الملاحظة،ولو دفعت لها كل أموال الدنيا.ورأت،وهي تنظر من حوالي ثلاثين مترا تحتها،غابة من الطرابيش الأرجوانية،والريدنجوتات السوداء أو الرمادية،التي تزينها ألوان الزي العسكري. ولما كانت قد بهرت بآلاف المصابيح الموجودة في قاعة العرش – وهي أكبر قاعة من نوعها في أوربا كلها – على ما يقال – فإنه كان عليها أن تنتظر مدة طويلة قبل أن يتاح لها التعرف على بعض الوجوه.وكان السلطان يجلس في صدر القاعة،ويبدو كشكل كهنوتي في عرشه الذهبي الواسع،المرصع بالأحجار الكريمة. ويقف على يمينه أمراء الأسرة،باللباس الرسمي الفخم،تبعا للمرتبة والعمر. (..) ويأتي كل واحد من الحضور بدوره،ويتقدم باتجاه العرش،ويركع ثلاث مرات (أو يسجد) على الأرض،ثم ينهض لا ليقبّل يد السلطان،إذ ليس من حق أحد أن يمسها،ولكن ليقبل رمز السلطة،وهو بطرشيل etole من المخمل الأحمر،المزين بأشكال بلاطية من الذهب،يمسك به رئيس المراسم. ثم يأتي كبار الموظفين،الذين يمثلون مختلف الوزارات،بالريدنجوت الأسود،ثم يأتي بعدهم،مبهورين بكل هذا البذخ،وجهاء القوم الذي أريد لهم أن يكافؤوا على ولائهم،الذي بدا بشكل متميز. ولما كان هؤلاء جميعا في أشد حالات التأثر من التشريف الذي يحاطون به،وكذلك من الخوف من سوء رعاية تقاليد المراسم المقدسة،فإنهم يقبلون البطرشيل،ثم يخرجون متراجعين إلى الوراء،متعثرين أحيانا،على مرأى من عيون الحضور الساخرة. ويسود الصمت فجأة. ويحبس كل إنسان أنفاسه،ذلك أن أعلى سلطة دينية في المملكة،أي شيخ الإسلام،الذي يضع عادة ثوبا أبيض طويلا،وعمامة من البروكار،يتقدم تجاه السلطان،الذي بدوره ينهض تكريما له،حتى يستقبله. ويأتي وراءه كبار العلماء،وفقهاء الدين،بثياب خضراء،أو بنفسجية،أو سمراء. ويتبعهم ممثلو المذاهب الدينية في المملكة،مثل بطريرك الروم الأرثوذكس والبطريرك الأرمني،الذين يلبسان لباسا أسود،وكبير أحبار اليهود،الحاخام،الذي يتمتع بوضع خاص،منذ أن جعلت السلطنة من نفسها،في القرن السادس عشر حامية لهذه الطائفة المضطهدة في أوربا. وخلال الحفلة التي دامت زهاء ثلاث ساعات،كانت الأوركسترا الإمبراطورية،ببذلة بيضاء يلبسها كل فرد من أفرادها،وفي صدرها،مقدمة حمراء وذهبية،تعزف "موسيقى"عسكرية عثمانية،وسيمفونيات حماسية لبيتهوفن. وكان يديرها الموسيقي المشهور لانج بك وهو رئيس أوركسترا فرنسي وقع في حب الشرق.وكانت النساء وراء مشربياتهن (أي الحواجز الخشبية المثقوبة ثقوبا كثيرة بصورة فنية)،يضحكن ملء قلوبهن،فيرى بعضهن بعضا رئيس القوى الألمانية،الجنرال فون ساندرس. ذلك الجنرال الذي تجعله يبوسته وتعاظمه شبيها بكاريكاتير للضابط الروسي. وكذلك الماركيز الجذاب بالا فيشيني،سفير النمسا وهنغاريا،الذي كثيرا ما يصادف في إستانبول مساء راكبا حصانه الأشقر. ويقول الناس إنه يعرف كل شيء،فإذا أخبر بشيء بدا مندهشا كأنه لا يعلم شيئا. إنه دبلوماسي كامل. والحقيقة أن هؤلاء السادة الثلاثة الحقيقيين للبلاد،هم الذين يحب النساء أن تراهم : الوزير الأول الكبير المرهف،طلعت باشا،الذي له جسم الثور،والذي تدل يداه الحمراوا اللون على أصله المتواضع،والقصير الشاحب اللون جمال باشا،وزير البحرية الذي يخفي تحت المظاهر الأليفة،قسوة صارمة،على مال يقال. فلقد أرسل عام 1915 إلى سوريا،فقمع الثورة التي التهبت مطالبة بالاستقلال،بعنف لا حد له،لقب من أجله "بجلاد الشام". {جمال باشا الجزار}.ولكن نجم المجلس كان بالتأكيد الوسيم أنور باشا. وهو رجل لطيف،نحيل،ووزير للحربية،ورئيس الثلاثي المشهور. ويقال أنه قادر على إغراء النساء جميعا. أما شجاعته فلا حد لها. (..) ولكنه في هذه الأشهر الأولى من عام 1918،حيث يتراجع الجيش على كل الجبهات،فقد سمعة الرجل الذي كان يطلق عليه لقب نابوليونيك،وبدأت تذبل يوما بعد يوم. وتطول الألسن لنقد ذاك الذي عبده الناس يوما ما.وتهمسُ إحدى السيدات قائلة : إنه لشيء مخجل أن يقيم هذه الاستقبالات المكلفة في هذه الأيام الشديدة الضيق.وتقول أخرى: إن هذا الابن لموظف صغير،لمسرور من أنه تزوج أميرة،سرورا تجاوز به كل الحدود. وحقا فإنه بطل ثورة تركيا الفتاة،كان قد تزوج السلطانة ناديا،ابنة أخ السلطان رشاد. وهو جد فخور بامرأته،حتى يريد أن يريها للناس جميعا،وهو يستمر في قلب هذه الحرب،بإقامة حفلات يبلغ فيها الإسراف غايته. وعلى حين أن الناس،حتى في القصر الملكي،قد ضيقوا على أنفسهم،فإنك ترى مائدته غنية جدا. ولكن الأسرة قد تسامحه على هذا كله،لو أنه لا يلعب هو نفسه دور الإمبراطور،مصدرا الأوامر باستمرار إلى الملك العجوز،فيذله ويذل الأسرة كلها معه. وتتألم الأميرات فيقلن مستنكرات :- انظروا كم أن جلالته مريض،وحصياته تجعله يتألم ألما لا يطاق. ولكن أنور باشا أرغمه مع ذلك،منذ عدة أشهر،على الذهاب إلى المحطة لاستقبال القيصر غليوم الثاني. والحقيقة أن ما يسوءهن ليس التعب الذي يسببه للباديشاه بالدرجة الأولى،بل الإذلال الذي يذيقه إياه : وأصلا فإنه ما من سلطان تحرك من قصره لاستقبال أحد الناس،ملكا كان أو إمبراطورا. وبصورة خاصة،فإنهن لسن على وشك نسيان شنق الشاب الجميل صالح باشا،زوج منيرة السلطانة،إحدى بنات أخ السلطان الأثيرات عنده. فلقد اتهمه بالتآمر على تركيا الفتاة،وقضى بشنقه. وجاءت السلطانة تقبل رجلي السلطان،وتوسل هذا الأخير إلى أنور باشا لتخفيف هذا الحكم على الدامادا،ولكن عبثا. وكان على السلطان رشاد أن يصادق على الحكم،وقلبه محطم. ويقال إنه أعاد التوقيع ثلاث مرات،بسبب الدموع التي كانت تشوش عليه الرؤية.وهكذا كانت التعليقات والانتقادات تأخذ سبيلها بين الناس،وكانت سلمى تصيخ السمع،بكامل أذنيها لما يقال،عندما انقطعت الموسيقى فجأة. فنهض السلطان،وأنهى الاحتفال. وترك قاعدة العرش ببطء،متبوعا بالأمراء،وحيا الهاتفين التقليديين من العلماء الذين يقولون :"أيها الباديشاه،كن متواضعا،وتذكر أن الله أكبر منك"وكانت النساء يستعجلن باتجاه القاعة الكبرى الزرقاء،حيث سيأتي الشاه ليزورهن. (..) ومن خلال أهداب عينيها،المنخفضتين نصفا،بدأت سلمى تتفحص هذا الرجل العجوز ذا الشعر الأبيض،الذي تشي نظرته الزجاجية،وشفتاه الثخينتان بطيب قلبه. وكان قد أجلس أمه بجانبه وبدا يبتسم بكل هدوء. وتفد بعدئذ السلطانات،اللواتي يسمونهن "السلطانة خانم". وكانت ذيولهن الطويلة تدمدم فوق السجادات الحريرية،وتقف كل منهن أمام السلطان وتحييه ثلاث مرات بانحناءات رشيقة من جسمها،وتنسحب لتجلس على يمين السلطان. ثم تأتي الكادينات والوصيفات اللواتي يجلسن إلى يساره. وأخيرا يأتي دور سيدات القصر والكالفات القديمات،اللواتي بعد أن يحنين الهامة حتى الأرض أمام السلطان،يذهبن فيجلسن في آخر الصالة.ومتى انتهت هذه التحيات،يظهر عبدان يمسكان بين أيديهما،قماشا من المخمل مملوءا بقطع ذهبية سُكت في السنة نفسها. وتأتي الخازنة الكبرى فتغرف ملء يديها من هذه القطع،وتنثرها باتجاه الأوركسترا {في حدود ستين عازفة} والكالفات الصغيرات اللواتي يجمعنها،وهن يباركن للباديشاه،على كرمه.وعندئذ تبدأ فترة المحادثة. فيرجو الباديشاه قريبتاه،وزوجاته بأن يجلسن. ويبدي قلقه على صحتهن،ويقول لكل منهن كلمة طيبة. (..) وبعد أن يسود الصمت فترة تظن كل سيدة أنها لن تنتهي،يبدأ الملك بالحديث عن حماماته. فهو هاوي لهذه الطيور التي يستوردها من أوربا.(..) ثم يتلكم على وروده الحلوة التي يقطعها،عندما يمضي من حديقة قصر الهامور الصغير،موضحا أنه لا ينبغي أن يقطف منها أكثر من وردة واحدة من كل شجرة،حتى لا يؤذيها. إنه رجل ذو رقة بالغة. ويحكى أن الشيء الوحيد الذي يخرج به عن طروه هو أن يضع أحد السفراء الأجانب،رجلا على رجل،في حضرته. وعندئذ يقول متألما : إن هذا الكافر حشر رجله في أنفي. ولكنه يكظم غيظه بقراءة سورة ما من السور القرآن،لأنه تقي جدا،وهو عضو في جماعة صوفية،ولكنه لا يتحدث عن هذا أبدا.){ص 41 - 48}.بعد ذلك ينصرف السلطان .. فتبدأ الاحتفالات ... والرقص ... ومسابقات الشعر ... و تقدم أصناف الأطعمة .. وأقزام السلطان يدخلون السرور على السيدات المحتفلات ... (وعندما قطعت سلمى البسفور الذي أضاءه القمر،في القايق الذي أعاد أهلها إلى قصر أورطاكوي،كانت تفكر بأن ذلك اليوم كان جميلا،وأن الحياة حلوة. فكيف يمكن أن نصدق طيور النمس،التي تتنبأ بانسحاق إمبراطورية بمثل هذا الغنى وهذه القوة؟.){ص 49}.كذبت طيور "النمس" وإن صدقت ... إلى اللقاء في الحلقة القادمة. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"5" هذه الحلقة،أبعد ما تكون عن أجواء الاحتفالات التي طغت على الحلقة الماضية .. (وكانت خديجة السلطانة تمضي كل أسبوع لزيارة مستشفى هازيكي ،في مركز المدينة،لكي تحمل إلى الجنود المرضى أو الجرحى،شيئا من الدعم المعنوي وبعض الهدايا الصغيرة. وحتى ذلك الحين،لم تكن قد أخذت معها سلمى،خوفا من أن تتأثر بهذه المناظر تأثرا سيئا. ولكن البنت أصبحت في السابعة والنصف،وتفهم الكثير من الأشياء. ومن ناحية أخرى،فإن السلطانة من أنصار الرواقية،(الصبر على المكاره). ولما كانت،من أبكر العمر،قد عاشت أقسى التجارب،وخرجت منها سليمة،فإنها ترى أن لا شيء يساوي التجربة والاختبار،في تعديل الطبع وتثقيفه. ولقد رأت النساء الجميلات من بنات الطبقة الممتازة في إستانبول،تلك الآثار السيئة للتربية الضعيفة،المرخية للعزم،فلم يعد في وسعها ألا أ، تحرص على صيانة سلمى منها.وعندما أخبرت زوجها بعزمها هذا،فإن هذا الرجل،اللامبالي في العادة،غضب غضبا شديدا.- إنك تريدين إفساد حياة هذه الصغيرة. وسيكون لديها الوقت،فيما بعد،لترى ألوان الشقاء،وربما تعيشها أيضا – من يدري؟ فدعيها إذن تعيش هادئة.ولكن السلطانة ترى أنها الحكم الوحيد هنا فيما يتعلق بتربية ابنتها،كما هي كذلك في كل ما يتعلق بشؤون البيت. وإذا هي تركت لزوجها أن يهتم بتنشئة ولدهما خيري – ذلك أن الصبيان،في ديار الإسلام،إنما يربون بدءا من السابعة من العمر،على أيدي الرجال – فإنها ستقبل ما تقضي به التقاليد طبعا،ولكنها تشك في أن تكون هذه التربية ناجحة. ذلك أن جبن كبير أولادها يجرح كبرياءها.(..) ومن حسن الحظ أن يكون الأمر شيئا آخر مع سلمى،فخديجة تجد فيها قوة شبابها وشجاعتها. أما خيري،فيبدو أنه يميل إلى أبيه. وانتهت هي باليأس من ابنها وزوجها. معا. ومع ذلك فإن الله وحده يعرف أنها أحبت خيري رؤوف بك،بكل ما في المرأة من عنف في الحب،إذا كانت في الثامنة عشرة من عمرها،وبكل مطالب المرأة التي كانتها في الثامنة والثلاثين عندما التقته. ولربما كانت قد أسرفت في مطالبته بما لا يستطيع. وهكذا فإن أحلامها كمراهقة وحيدة،وكامرأة أسيء إليها من زوجها الأول الذي كانت تكرهه،قد نقلتها إلى زوجها الثاني. (..) وذات صباح حار من أيام تموز / يوليو /،مضت السلطانة هي وابنتها إلى المستشفى. وكانت سلمى قد قضت نهار البارحة بصنع حزم صغيرة كهدايا للجرحى. وقامت إحدى الكالفات بتهيئة مناديل الشاش الزهرية. وفي كل واحد منها،وضعت علبة من التبغ،وحلوى وبعض النقود،ثم غلفت بشريط جميل من الساتان الأزرق. وهنالك المئات من هذه العلب،تملأ حتى القمة،جملة السلال المزينة بإطار من القماش الملون. وهذه تقدم انطباعا أجمل،وسلمى سعيدة جدا،لا تكاد تهدأ،من فرط الفرح،بعملية غير مألوفة من هذا النوع.(..) وأخيرا يصل الركب إلى إستانبول القديمة {في الهامش : كانوا يطلقون هذا الاسم على الحي القديم من استانبول} (..) وأبعد من ذلك تقوم سوق صغيرة. وهناك باعة سمان يعتلون عرشهم فوق أهرامات الخضار والفاكهة،ويقدمون لربات البيوت المحجبات بمناديل سوداء ما يحتجن إليه من بضاعتهم. وتحت شجرة من الأشجار يجلس الكاتب الشعبي،مع مجموعة أقلامه،ومحبراته،ويكتب عروض حال للناس،بوقار،على حين أن سيدات عجائز،يجلسن على الأرض ويحزرن المستقبل،برمي عظيمات على قطعة من سجادة قديمة. (..) وبعد ساعتين من بدأ الحركة،وصل الركب سالمين،ووقفت العربات جامدة في فناء المستشفى. ولم تنتظر سلمى أن يأتي زينل ليفتح لها الباب،بل قفزت منه قفزا على الأرض. فهي متلهفة لرؤية المحاربين الشجعان"كما يسميهم خالها فؤاد".المستشفى بناء كبير،رمادي اللون،بُني في القرن السادس عشر،بأمر من السلطان سليمان الرائع. ودخلت السلطانة وابنتها متبوعة بخادماتها،في البهو الكبير،حيث كان ينتظرهم مدير المستشفى. وانحنى بأكثر ما يستطيع أمام السلطانة،وألح عليها أن تمر بمكتبه لبعض الاستراحة وتناول القهوة قبل زيارة المرضى. ولكن السلطانة أبت ذلك عليه،على أكبر فرح من سلمى،وتحمل هذا الرجل الصغير سوء حظه بقلب طيب (..) وما إن دخلت الجماعة في الممر الأول حتى شعرت البنت الصغيرة أن حلقها تملكته رائحة حامضة حلوة،تنتزع منها قلبها. فتعض على أسنانها قائلة : لا مجال لان أكون مريضة! ولكن كلما تقدم الزوار قليلا،ازدادت الرائحة ثقلا،وقلّ احتمالها. وتفكر البُنية قائلة : "ما أغرب هذه الأدوية!". ولم تفهم القضية إلا عندما وصلت إلى الممر الثاني،وأصابها الرعب. ففي الأرض،وفي كل الزوايا،كانت هناك سطول صغيرة مفعمة بضمادات لطخت بالدم وفضلات الإنسان. وهناك رجال متمددون على فراش،أو على مجرد غطاء،وهم يئنون. وبعضهم ينادي أمه. وآخرون رؤوسهم مقلوبة،وعيونهم مغمضة،يبدو أنهم يتنفسون بصعوبة. وفي هذا الممر الذي لا هواء فيه،لا يوجد أقل من مئة. وإلى جانب بعض المتميزين نجد امرأة – هي أخت؟ أو زوجة؟ تسند عنقا،أو تعطي كأس ماء،أو تطرد الذباب الذي أغراه الدم.وشرح المدير القضية فقال :إن هذه الفضلات تبقى هنا ليلا ونهارا. ونحن نتسامح بذلك،لأنه ليس عندنا من عناصر الخدمة ما يكفي للقيام بواجب هؤلاء المساكين.فالممرضة،وهي فتاة ترتدي صدرية بيضاء،طويلة،وشعرها مرصوص بوشاح أبيض،هي الوحيدة التي تخدم كل غرف هذا الممر. وهي تقسم وقتها بين إعطاء الإبر،وأخذ الحرارة،وتوزيع الأدوية القليلة التي لا تزال جاهزة. وليس لديها أي وقت لراحتها الشخصية.ومع ذلك فإنها لا تزال تحتفظ بالبسمة،وتجد كلمة مواساة لكل مريض. وسلمى التي لم تعد لديها إلا رغبة واحدة،هي الهروب من هذا المكان،وتشعر فجأة بالخجل : إن عليها أن تقاوم.وبعد أن اجتازت الأم و ابنتها بعض الأمتار،التي بدت لها وكأنها لا تنتهي،دخلتا في قاعة كبيرة. وهنا،تصبح الرؤية أوضح. فلوحظت نوافذ عالية تثقب الجدران مطلية باللون الأزرق لاستبعاد "العين"،كما أن الأسرة تمتد على صفوف طويلة. وكان المرضى قد ناموا على الفُرش مباشرة،لأن الأغطية انتزعت منذ مدة طويلة لتحل محل الضمادات المفقودة – وبين هؤلاء ممن هم،في أكثر الأحوال في أول الشباب – من يئنون من الألم.(..) ثم إن أغلب المرضى يتقاسمون الأسرة الضيقة،اثنين اثنين. ومع ذلك فهم محظوظون لأن الموشكين على الموت،أولئك الذين لا ينتظر منهم أحد إلا النفس الأخير،وُضعوا تحت الأسرة،خوفا من أن يفقدوا المستشفى محلات ثمينة. وفي كل صباح،يتكرر الشيء نفسه،إذ ترفع الجثث لردها إلى أسرها،أو يلقى بها في الحفرة العامة. ويؤتى من جديد بالجرحى الذين لا يرجى بقاؤهم أحياء،فيوضعوا تحت الأسرة،وهكذا ... على حين أن القادمين الجدد يوضعون في مكانهم.وترتجف سلمى،مقسمة بين الغثيان والاستغراب. وتتساءل : "أين هم إذن محاربونا الشجعان؟". وهي لا تستطيع أن تربط بين الجنود الذين أُعجبت بهم في الاستعراضات،وبين هذه المخلوقات التي يشتد منها الأنين. وكأنها تحب أن تبكي،,لكنها لا تعرف ما إذا كانت تبكي بداعي الشفقة،أو بداعي خيبة الأمل. فالشجاعة أمام الموت،والفرح بأن يهب الإنسان حياته للوطن،أكل هذه العواطف التي يكثر الجنرال – الأمير من الحديث عنها،ليست إلا كذبة كبيرة؟ وتحس عندئذ بأن أمها تضغط على يدها،وتقول :- هيا،يا بنيتي الصغيرة،تشجعي،أنا هنا. غير أن هذا الحنان اللا مألوف يدخل إلى نفسها الاضطراب أكثر وأكثر أيضا،فتتوسل قائلة : أيندجيم! أرجوك لنمض.فتهز السلطانة رأسها بوقار حزين،وتقول : - يا سلمى،إن هؤلاء الرجال في نهاية البؤس،أو لست قادرة على منحهم شيئا من المواساة؟وتود سلمى لو أجابت بكلا،وأنها لا ترغب بعد الآن في رؤيتهم،وأنها تحتقرهم لتألمهم بهذه الصورة التي زال منها الخجل ... إنهم حيوانات! وفجأة ترى بأنها لم تعد تشعر لا بالشفقة ولا بالخوف،ولكن فقط بغضب هائل ضدّ هؤلاء الجرحى،وضد الجنرال – الأمير. بيد أنها تسمع نفسها تجيب :- بلى،أيندجيم.وتبدأ بتوزيع الهدايا الزهرية والزرقاء. وتجد خديجة أمام كل سرير كلمة مواساة مناسبة. أما الأقل ضعفا بين هؤلاء،فيشكرونها بابتسامة. وبعضهم يتمسك بها،كما لو أن وجود هذه السيدة الجميلة الرصينة في عالمهم المرعب،يمكن أن يدفع عنهم الموت. والبعض الآخر،يحولّون رؤوسهم عنها.وتتابع سلمى،وهي ممتلئة حقدا،وعيناها مثبتتان على أحذيتها البيضاء،فتشعر فجأة بأنها اختطفت : ذلك أن رجلا شدها إلى سريره وهو يدمدم القول : "نجلا،يا طفلتي الحبيبة"،وعلى وجهه سمات الضياع. فبدأت سلمى تصرخ،مرعوبة. فأسرعت أمها وأنقذتها مباشرة. ولكن بدلا من أن تبعدها عنه،أبقتها بجانبه،وأحاطتها بيدها الحامية. - إن هذا الجندي المسكين يظن أنك ابنته. فدعيه يتأملك،فلعل لحظته هذه هي آخر سعادة له في هذه الدنيا.أنا ابنته؟ فتتصلب – ترى كيف يتجرأ؟ومرت دقيقة،وكأنها زمن طويل. ثم إنها بصورة غير محسوسة،وأمام النظرات المفعمة حبا لهذا الأب المستعار،بدأت تشعر بذوبان عدائها،وتشاركه في البكاء رغما عنها. وبعد شهرين .. ){ص 56 - 62}.عفوا. انتهت الحلقة .. فإلى اللقاء في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله.
عن
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة Mahmood-1380@hotmail.com
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"6"كان من الطبيعي،بين ضفتي نهر (ثراء طبقة) و(بؤس) بقية الشعب،أن تكون النتيجة :(وبعد شهرين من ذلك التاريخ {تأريخ زيارة السلطانة للمستشفى}،أذيع نبأ الهزيمة في 30/9/1918. إذ أن الإمبراطورية العثمانية كحلفائها ألمانيا والنمسا – هنغاريا- طلبت الهدنة .. وأخيرا انتهت الحرب،والشعب الذي استنفدت قواه،بدأ يتنفس.وسلمى الآن سعيدة : إذ لم يعد مجال لزيارة المستشفيات ولا رؤية الجرحى،ولا الموتى. (..) ألئك الذين سعدوا بالهدنة – وكانوا يقولون "السلام"بدأوا يفقدون روحهم،عندما تقدم أسطول المنتصرين،بعد ثلاث عشر يوما،وذات صباح بارد،كثير الضباب،من شهر تشرين الأول / أكتوبر /،واجتاز الدردنيل،ومضى منه إلى البسفور. هنالك ستون قطعة بحرية،إنكليزية و فرنسية وإيطالية وإغريقية – وكانت مشاركة هذه الأخيرة غير واردة في اتفاقات الهدنة – ولكن تركيا يومئذ أضعف من أن تحتج،لاسيما وأن البلاد فقدت حكومتها. ذلك أن الثلاثي الذي جرّها إلى الحرب،هرب في نفس اليوم الذي أعلنت فيه الهدنة. وكانت القطع البحرية،المسبوقة بطرادات،تقترب من الشاطئ في صمت مهيب. وببطء دخلت في القرن الذهبي،حيث ألقت المراسي،ووجهت مدافعها إلى قصر السلطان ومقر الباب العالي،الذي هو مقر أعضاء الحكومة.وكانت السلطانة واقفة وراء النوافذ تنظر إليها. وتقول في ذات نفسها "لقد سقطنا إلى الحضيض". فلأول مرة منذ أن استولى أجدادها على المدينة،أي منذ خمسمائة سنة تقريبا،تراها احتلت من جديد. وهذه الإمبراطورية التي أرعبت أوربا خلال خمسة قرون،تجد نفسها الآن تحت رحمة أوربا. وهي سعيدة أن أباها مات،وعلى أقل تقدير،لم تقع هذه النكبة في أيامه. (..) فتشاهد منظرا،جعلها مذهولة : فعلى الأرصفة،من ناحية المدينة المسيحية،كان هناك جمهور متعدد الألوان يهز أعلاما.وتلاحظ خديجة وجود الأعلام الفرنسية والإنكليزية،والإيطالية. ولكن أكثرها أعلام مخططة بالبياض – وهي أعلام إغريقية!لم تصدق ما ترى،فسوت المنظار،ثم أعادته إلى مكانه بحركة غاضبة،قائلة : الخونة. إنهم يرحبون بقدوم العدو!وتشعر فجأة أنها متعبة لدرجة الموت،وتتساءل،"ولكن لماذا،لماذا". إن أغاريقنا عثمانيون {في الهامش : كانوا يطلقون اسم العثماني على كل سكان الإمبراطورية،سواء كانوا أغارقة،أم البلغار،أم العرب،أم من الأتراك،أم من أية قومية أخرى. أما كلمة تركي فكان يحتفظ بها للناس الذين هم من العرق التركي.}،كالآخرين! وهم مسيحيون. وليكن،ولكنهم يملكون كامل الحرية في ممارسة طقوس دينهم،وبطركهم هو أحد الشخصيات الأعظم أهمية في الإمبراطورية. وفي الواقع،فإنهم أكثر حظا من أتراك الأناضول،الذين ينهكون أنفسهم في فلاحة أرض غير معطاءة. وعندما استقلت اليونان منذ تسعين سنة،كان لهم كامل الحرية في الرحيل،فآثروا البقاء هنا،حيث تزدهر أحوالهم. أما الأرمن واليهود،فإنهم سادة التجارة والمال. وماذا يريدون أكثر؟والحقيقة أنها تعرف جيدا ماذا يريدون. ولكنها تأبي أن تصغي لهذه المطالب الخارجة عن الحدود. إنهم يريدون العودة ستة قرون إلى الوراء. وطرد أتراك تراقيا الشرقية،وإستانبول خاصة،لكي يعودوا إمبراطورية بيزنطة. وهم يعتمدون على المحتل لكي يساعدهم في تحقيق أحلامهم. (..) ثم إن الأحياء المسيحية في غلطة وبيرا،تزهو بحيوية جديدة. فالفنادق والحانات ملأى ببحارة وجنود يتكلمون بصوت أعلى من ذي قبل. وينقون مبالغ لم يقبضها القيمون عليها منذ زمن طويل. أما الضباط فإنهم يترددون على البارات الأنيقة،حيث تقوم لاجئات روسيات،طرتهن الثورة البلشفية،بتقديم المشروبات لهم (..) وستقر الإدارة بسرعة استعادة "حفلات الشاي الراقصة"،وسنرى العسكريين الوسيمين يراقصون الجميلات من المجتمع البيروتي،في رقصة الفالس (..) وفي الطرف المقابل،في المدينة الإسلامية،لا نجد إلا الحزن. فلا يخرج الإنسان من بيته إلا في أدنى الحدود،خوفا من أن يزعجه الجنود الذين كثيرا ما يكونون سكارى،أو على الأقل حتى لا يكون عليه في الأرصفة الضيقة أن يمحى أمام المنتصر. وإنه لإذلال جارح،بالنسبة إلى الأتراك،الذين تعودوا أن يغلبوا الآخرين من الشعوب،أن يغلبوا على يد هؤلاء (..) ولا يمكن أن نرى بلا استنكار وحقد،ذلك التعاظم الغالب،لدى الأقليات المسيحية،التي كنا نظن،حتى ذلك الحين،أننا نعيش معها في أحسن التفاهم. (..) غير أن المستقبل يبدو أكثر سوء : إذ يتحدث الناس،بقلق عن تعيين الجنرال فرانشي ديسبيري FrsnhetdEsperey. وهو المعروف بسلاطته وعنفه،لقيادة قوى الحلفاء. وتقول الإشاعات إنه يريد أن يجعل من إستانبول عاصمة فرنسية،وجعل سكانها الأتراك عبيدا. (..) وفجأة تقرع الطبول،ويبدأ عزف الأبواق. هاهو الجنرال يبدو أكثر فخامة مما كان الناس يتخيلون،بقبعته الحمراء،وقميصه الفضفاض،وهو على ظهر حصان أبيض رائع. وينفجر الجمهور تصفيقا. أما الحصان الأبيض فلم يخف على أحد : ذلك أن السلطان محمد الثاني المنتصر عام 1453،دخل إلى بيزنطة على حصان أبيض،وعلى حصان أبيض يعود جنرال مسيحي جدا،فيملك المدينة. ){ص 62 -70}.يبدو أن الجنرال (ديسبيري) اعتمد على ذكاء الأتراك / العثمانيين، في قراءة رمز (الحصان الأبيض)،ولكن الجنرال (غورو) لم يكن شديد الثقة في ذكائنا نحن العرب ... فركل قبر صلاح الدين وقال،مقولته المشهورة : "ها قد عدنا يا صلاح الدين".لم يتوقف الأمر عند رمز الحصان الأبيض .. (ويأتي خصيّ بالصحف. وهي كلها تنشر،في الصفحة الأولى ذلك البيان المشترك للمندوبين السامين،الإنكليزي والفرنسي والإيطالي. وهو يقول :"إن رجال المنظمة المسماة وطنية،يحاولون عرقلة الإرادة الطيبة الموجودة لدى الحكومة المركزية. ولهذا فإن قوى التحالف تجد نفسها مضطرة لاحتلال القسطنطينية". وتفكر سلمى وتقول في نفسها: "أي هوس في الاستمرار على إعطاء اسم مسيحي لهذه المدينة،التي أصبحت منذ خمسة قرون تسمى باسم إستانبول". ){ص 112 - 113}.يبدو أننا،قبل أن ننتقل – أو تنتقلون – إلى الحمام التركي،في حاجة إلى أن نعرج – في سياحتنا هذه – على كتاب،ألقينا عليه نظرة في مرة سابقة – حلقة واحدة ولم نكمل السياحة – وفيه تتحدث المؤلفة عن (الشرق) الذي اخترعه الأوربيون :(ولكن رغم هذه الثروة الطائلة من الصور المتوفرة أمام الرسامين الأوربيين فإن ثمة ما كان يكبلهم ويجعلهم يخرجون عن الموضوع الذي يرسمونه،والقليلون هم الذين استطاعوا أن يرسموا المشاهد الشرقية كما رأوها دون أن يضيفوا عليها شيئا من عندهم. وهكذا تحولت لوحات أكثر الرسامين الاستشراقيين من واقع تراه أعينهم إلى حكاية ترويها ريَشهم،وأصبح الشرق بين أيديهم رمزا وأسطورة. لقد قدموا لأوربا ما كانت تريد أن تراه أوربا،ولهذا فإن الجادين من رسامي المناظر لم يحظوا بالشعبية السريعة التي نالها الرسامون الاستشراقيون. ومن هؤلاء كان مثلا الرحالة الذكي والمُجد (إدوارد لير Edward Lear ) الذي لم يكن في رسومه مواصفات "الشرق" المطلوب في عصره. فمائياته الدقيقة والمتأنية لم تلقَ سوى اهتمام ضئيل إذ لم يكن فيها ما يثير،فكان أن مات مغموما محروما من أي تقدير لأنه،كما كتب إلى الليدي وولدغريف عام 1868،لم يفعل سوى أنه "رسم حياته بأمانة".أما (ج. ف.لويس John Frederick Lewis) فقد انتهج مسلكا مغايرا لطريق (لير) واختار منذ البداية أن يرسم شرق المستشرق،ووقع تحت تأثير الكتابات الاستشراقية فنشر مجموعة من أعمال الحفر بعنوان (رسوم القسطنطينية) عام 1837،أي قبل ثلاث سنوات من زيارته الفعلية لهذه المدينة.){ص 128 – 129 (أساطير الغرب عن الشرق : لفق تسد) / رنا قباني / ترجمة : د. صبح قباني / دمشق / دار طلاس / الطبعة الثالثة 1993م}.ونحن إذ نعلم أن مؤلفة كتاب (حياة أميرة عثمانية في المنفى) - وهي حفيدة السلطانة خديجة – لا تنقل،كل ما كتبت، من (مذكرات)،أو(وثائق)، ولكنها .. تركت لحدسها ليسد ما لم يرد في الوثائق. وفي ظل هذه الحقيقة،من حقنا أن نتساءل عن تأثر المؤلفة – الحفيدة – بثقافتها الغربية،أو سقوطها تحت سطوتها؟!! في ظل هذا ننقل وصف الأستاذة (رنا قباني) لإحدى اللوحات الاستشراقية،ثم نقارن بينها وبين ما جاء في كتاب (حياة أميرة ... ).ولكن. قبل نقل وصف اللوحة،نلفت النظر إلى عناوين لوحات أخرى،مثل لوحة (تنفيذ الإعدام دون محاكمة)،,التي رسمها (هنري رينو Henri Regnault) سنة 1870 ،ولوحة (بدوي يقايض على جارية بسلاح)،والتي رسمها (جون فيد John Faed) سنة 1857،ولوحة (سوق الجواري)،والتي رسمها (جيوم)،وليس لها تاريخ. أما لوحة (الحمام التركي)،فهي للشهير (جان أوغست دومنيك آنغر )،وقد رسمها سنة 1863 ،واللوحة : ( تشتمل على ست وعشرين امرأة عارية يستمتعن بملذات الحمام. لقد جعل (آنغر) المرأة العازفة في مقدمة اللوحة مديرة ظهرها للناظر لا إعراضا عنه بل لتقود عينيه إلى داخل المشهد،فهي غافلة عمّن وراءها ولكن نظرها يتركز فقط على النساء اللواتي هن قبالتها في اللوحة. وكذلك الأمر بالنسبة لهؤلاء فهن يبدون غير مدركات أن ثمة من ينظر إليهن فلا واحدة تتطلع نحو الخارج حيث المتفرج،إنهن في مكان حميم يحسبنه مغلقا في وجه كل من يريد أن يختلس النظر إليهن. ويزيد من الطابع النسوي لهذه اللوحة شكلها الدائري والتركيز على استدارة (..) والنحور والبطون فيها،كما أن استدارت اللوحة توحي إلى المشاهد بأنه يسترق النظر من خلال ثقب الباب فيدخل في روعه أنه تسلل إلى الشرق المحرم وأنه يرى عالم مسراته بدون أن يُرى. تبدو جميع النساء في اللوحة وكأنهن توالدن من نموذج واحد،فهن امرأة واحدة صُورت في أوضاع مختلفة. إنهن متشابكات في وضعيات غرامية (كتلميح غربي للعلاقات السحاقية الشرقية). والواقع أن المتفرج لا يرى أيّ نشاط ذي علاقة بالاستحمام : فالحمام هنا لا أكثر من مناسبة للتعري والمغازلة. واللوحة لا تخرج عن كونها خليطا من الأفكار المكررة والمبتذلة حول شهوانية الشرقية. فالمداعبة بين النساء والعطور،والموسيقى،كلها تمد المرء بإمكانيات لا حد لها من الإمتاع،إلا أن ذلك ينحدر إلى درجة الإسفاف المضحك فتكديس الأجساد في مثل هذه الكتلة الضخمة إنما يزعج أكثر مما يبهج.){ص 131 – 132 (أساطير الغرب عن الشرق ..}.نعود إلى السلطانة خديجة .. (وردا على الاستياء العام،فإن السلطانة خديجة فكرت بتنظيم واحدة من "هذه الدعوات إلى الحمام"(..) ولم تضع لذلك شرطا إلا شرطا واحدا : فليس على مدعوة أن تتحدث عن هذه الأحداث – ذلك أننا لن نصل مع ذلك إلى حد السماح للمحتل بأن يفسد كل شيء. وفي مثل هذه الأحوال البائسة تصبح التسلية نوعا من التحدي أو شبه الواجب الوطني تقريبا.(..) .. تستقبل المدعوات في البهو الكبير،من قبل كل العناصر النسوية في القصر،أي من حوالي الثلاثين"كالفا"الكبيرات أو الصغيرات،اللواتي عليهن أن يحيين المدعوات بوابل من الورود. وبعد أن يساعدن على خلع الشرف (الملاءة)،يأخذن بأيديهن إلى الأبهاء الصغيرة،المزينة بالمرايا والأزهار،المجاورة للحمام. وتتولى إحدى العبدات أن تجدل شعورهن بأشرطة ذهبية أو فضية طويلة،وتعيد هذه الجدائل بشباك إلى أعلى رؤوسهن،ثم تلفهن بمنشفة حمام كبيرة مطرزة تطريزا ناعما،وتضع في أقدامهن خفافا مطعمة بالصدف.(..) وتتجه المدعوات عندئذ إلى القاعات الساخنة،وكل واحدة منهن تحيط بها عبدتان مكلفتان بتحميمها،وتمسيدها،ونزع ما على جسمها من شعر،وتعطيرها من الرأس حتى القدمين. (..) وهناك حيث يكن متمددات بلذة عنيفة،يتذوقن شراب البنفسج أو الورد،التي تقدمها كالفات صامتات،ويكون هناك وراء بعض الستائر أوركسترا تقدم موسيقى ناعمة،خفيفة. (..) يقوم بين هؤلاء النسوة المستسلمات لأجسامهن،الحريصات على راحتها نوع من التواطؤ السعيد،المؤلف في آن واحد،من الميل الجنسي ومن الفرح الطفولي. فتراهن يعجبن ببعضهن(؟؟) وتأخذ كل منهن الأخرى من الخصر.){ص 73 -75}.لا تكتمل الصورة إلا بالعودة إلى كتاب الأستاذ (رنا). كلنا نعرف كيف هو (الشذوذ) – الآن - في الغرب،رغم انفتاحه،وخلوه من الكبت ... لننظر كيف كانوا ينظرون إلينا،وكيف كانوا ينظرون إلى أنفسهم. (وقد شهدت إحدى المحاكم الاسكتلندية في القرن التاسع عشر دعوى قضائية أقامتها تلميذة اسمها الآنسة (كامنغ) ضد معلمتين في مدرستها بتهمة السحاق. إلا أن القضاة "أثبتوا"براءة المعلمتين بحجة أنهما غير قادرتين على ارتكاب خطيئة "لا وجود لها في بريطانيا. وبعد أن أسقطوا الدعوى راحوا يكيلون الإهانات للآنسة (كامنغ) – وهي نصف هندية – لأنها وجهت أساسا هذا الاتهام :"رأى القضاة أنه نظرا لكون الآنسة (كامنغ) قد نشأت في الشرق الفاسق،فلا يمكنها أن تدرك مدى الاشمئزاز الذي تخلفه مثل هذه التهمة في بريطانيا. "وقد أشار القاضي (لورد كيدوبانك) إلى أنه كان شخصيا في الهند ويستطيع أن يقول إنّ الآنسة (كامنغ) قد نما لديها حب الاستطلاع حيال الأمور الجنسية عن طريق مربياتها الهنديات الداعرات اللواتي بإمكانهن،خلافا للنساء البريطانيات،التحدث بمثل هذه القذارات.){ص 89 – 90 (أساطير الغرب عن الشرق ..}.انتهت الحلقة .. ولم يبق غير بعض الشهادات الغربية،قيلت في حق كتاب الأستاذة (رنا).تقول ديبورا ميسن ،في جريدة (نيويورك تايمز ) :(لقد بينت رنا قباني أن محصلة كتابات الرحالين الاستشراقيين كانت تأكيد التحامل الغربي وتخليد الصورة التي لفقتها أوربا عن الشرق).ويقول بيتر كونراد،في جريدة (الأوبزرفر) :(إن رنا قباني،المولودة في دمشق،أخذت على عاتقها إنقاذ الشرق العربي الإسلامي مما لحق بهما من ازدراء غربي على مدى قرون عديدة،ولاشك أنها في غضبتها العارمة،التي تغلي في كل سطر من سطور كتابها،كانت على حق تماما).وتقول إنيجلا كارتر،في جريدة (الغارديان) :(إن رنا قباني استطاعت،كامرأة عربية ذات حجة قوية،أن تسقط الأقنعة عن وجوه الكتاب الغربيين الاستشراقيين الذين كانوا في نظر مواطنيهم أنصاف آلهة).يبدو أن قدر هذه الكاتبة أن تكشف (أقنعة الغرب)،قديما وحديثا!! فقد كشفت في ..(مقدمة كتابها الصادر بالإنكليزية "الروايات الإمبريالية" عن اعتداءات وقعت عليها عند التحاقها بأول دفعة فتيات في جامعة كامبريدج التي كانت مغلقة أمام النساء حتى عام 1980. وذكرت أنها تعرضت إلى موقف في هذه الجامعة التي تعتبر أرقى مؤسسة أكاديمية غربية تبين حجم النفاق الغربي في اتهام العرب باحتقار المرأة،وذكرت كيف عرض عليها المشرف على أطروحتها للدكتوراه أن تكون عشيقته وأوصى بطردها من الجامعة عندما رفضت ذلك.){جريدة الحياة العدد 12079 في 2/11/1416هـ = 21/3/1996م}.إلى اللقاء في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله.
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"7"يبدو أننا سنظل في جو (الحمام التركي)،ولكن هذه المرة،من أجل حديث السيدات عن (الغرب)،وسلوكه الذي كان يتسلل إلى (تركيا)،تلك التي كانت لا تزال معظم نسائها يحتفظن بـ(الحجاب)،بينما تتسلل القيم الغربية،خصوصا عبر(السفارات الأجنبية) ..(وتتحدث امرأة شابة عن زوجها،وهو موظف كبير في وزارة الخارجية. فهو رجل حديث يأخذها معه إلى كل الاستقبالات الرسمية. وتروي أنها رافقته،ذات ليلة،إلى عشاء دعت إليه السفارة السويسرية،وهي إحدى السفارات القليلة،التي ظلت على الحياد.- فلم يكن هناك إلا أوربيات،أنيقات جدا،ولكن بلباس يكشف الصدور والظهور كشفا خجلت منه عنهن،والأدعى إلى الاستغراب،هو أنه ما من واحد من الرجال الحاضرين أعار ذلك انتباها. فهم يمشون بين هؤلاء النساء المعروضات بهذه الصورة دون أن يبدو عليهم أي اهتمام. - ولكن هذا معروف،فالغربيون لا يملكون رغبات قوية،على ما تقول السيدة المجاورة لها،التي تبدي مظهر الخبير العليم،ولهذا فإن نساءهن يستطعن التنزه وهن نصف عاريات.فيضحك الجميع. - ما شاء الله – والحمد لله – إنه لا يمكن أن نقول مثل هذا عن رجالنا. فهم لا يستطيعون أن يلمحوا ساعدا،أو كعب قدم،من غير أن يُجَنّوا به!وتتنهد امرأة سمراء جميلة،وتقول :- كم يجب أن تكون هؤلاء الأوربيات بائسات. فلو كنت مكانهن لمت من الأسى.- ولكنهن لا يعين ذلك .. فهن يحسبن بأنهن حرات،ويقلن إن رجالهن متسامحون،على حين أنهم غير مبالين.وتشير سيدة نحيلة قصيرة،ممن يدعين أنهن من المثقفات إلى أن :- هذا ربما ينشأ عن دينهم. فالنبي عيسى {عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام}– الذي يعتبرونه كإله،ذلك أنهم يؤمون بعدة آلهة،أو لنقل بثلاثة : هم الآب والابن والروح القدس- هذا النبي {عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام} كان يبتعد عن النساء،ولم يتزوج قط. وأهم الفرق المسيحية،أي الفرقة الكاثوليكية،تعتبر أن الطهارة الجنسية هي أعلى صور الكمال. ولهذا فإن رهبانهم يبقون عزابا،وكذلك بعض فتياتهم اللواتي يسمونهن راهبات.وأمام هذه الكلمة يصرخن جميعا : عازبات؟ كما لو أنهن لا يصدقن. إذ أن العزوبة بالنسبة إليهن هي اللعنة. أوليس أول واجب من واجبات المرأة أن تنجب،أوَلم يكن للنبي {صلى الله عليه وسلم} نفسه تسع زوجات؟ إن هؤلاء المسلمات لا يرين أن الجنس شيء يتصل بفكرة الخطيئة،بل العكس تماما.){ص 75 - 76}. ويمتد الحديث عن المسيحية،ليصل إلى (أكل لحم المسيح) {عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام}/وهل ذلك من باب (الرمز) أم أنهم يعتبرون ذلك حقيقة :( - ربما كان هذا مجرد رمز.- هذا ما كنت احسبه. ولكن لا. إنهم يقسمون أن إلههم كائن في هذا الخبز،لحما ودما،فيعروهن من ذلك رجفة.- ويجرؤون على القول إننا متعصبون!وتخلص المثقفة إلى القول،بصورة الجزم القاطع.إن القضية هي دوما على هذه الصورة. فالأقوياء لا يفرضون قوانينهم علينا،بل يفرضون كذلك أفكارهم. وكان شيئا من الحزن يرين الآن على الحضور. فكيف حدث أن وصلن للحديث في السياسة؟ وهذا على الرغم من أن الجميع تعاهدن على تجنب كل موضوع مزعج.وكانت هذه اللحظة هي التي اختارتها إحدى الأميرات لكي تقول،بلهجة غريبة :- هل تعرفن آخر خبر؟فاتجهت جميع الأنظار إليها،وقلن :- قوليه بسرعة،لا ترهقينا بالانتظار.- حسنا،هاكن : إن روز دور ... الوردة الذهبية.ولمعت عيون المدعوات من جديد : فماذا عساه أن يكون روز دور قد فعل؟- إن روز دور قد طلب يد صبيحة السلطانة. فتكاثرت علائم الاستغراب (..) أفتتزوج الجميلة صبيحة،الابنة المفضلة للسلطان وحيد الدين،اللواء الشاب،بطل غاليبولي،الذي أنقذ،في أشد ساعات الحرب،إستانبول من يد البريطانيين،الذين كانوا يهاجمون الدردنيل! ولكن الجميع يعتبرون أن روز دور هو وجه أسطوري. ذلك أنه تحدى رأي رؤسائه،وتحدى جيشا أوربيا أكثر عددا،وأفضل عدة. فلقد استطاع،بجرأته،وثقته المطلقة بنفسه وبرجاله،أن يتغلب على وضع أجمع الخبراء كلهم – في إستانبول وفي الجبهة – على أنه ميئوس منه. وقد جعل منه هذا النصر،الذي يعود إلى عبقريته العسكرية،مشهورا،لاسيما وأنه بعد عدة أشهر،عندما واجه الجيش الروسي،استعاد مدينة بيتليس وموش،فحقق بذلك النجاحات التركية الوحيدة،بين مجموعة الهزائم. (..) وعندما عاد إلى إستانبول منذ نهاية الحرب،صار يرى في البلاط. ويحب السلطان أن يستشيره حول الوضع المعنوي للجيش،وأن يستمع إلى آرائه المتميزة عن الآخرين. (..) وعندما يأتي إلى القصر،كانت الأميرات المختبئات وراء المشربيات (الشمعدانات)،ينظرن إلى الضابط الوسيم الذي يمر،وعليه أكاليل المجد،ولقد حلمت أكثر من واحدة منهن أن تصبح امرأته،بل إن سلطانة صبية تجرأت فكتبت إليه رسائل بريئة غرامية،وكانت توصلها إليه بواسطة أحد العبيد. لكن هذا القاسي القلب لم يتنازل مرة ليجيب،فأوقعها ذلك في المرض،من شدة الحزن. أتراه كان يظهر بمظهر اللامبالي،لأنه كان يطمع ببنت السلطان،وهو من أصل متواضع؟ ولكن هذا غير مهم. ففي تركيا ليس هناك أرستقراطية،خارج الأسرة المالكة. وفي وسع الإنسان أن يصل إلى أعلى المراتب،اعتمادا على مزاياه وحدها. (..) – ولكن أخيرا،ماذا قال السلطان للباشا،تماما؟- لقد قال : إن ابنته ما تزال صغيرة،وإنه سيفكر.- أصغيرة،صبيحة السلطانة؟ولكن عمرها لا يقل عن عشرين سنة!وعندئذ خفضت الأميرة صوتها،ودمدمت تقول :- يبدو أن السلطان يتردد. ولاشك أن الباشا هو أفضل لواء في جيشنا،ولكنه شديد العنف،ويكثر من الشراب. ثم إنهم يقولون،إن له آراء تميل به إلى الحكم الجمهوري.واعترت المجموعة رجفة المذعور.- أو هو جمهوري،هذا الروز دور؟ إن هذا مستحيل! وعندئذ لم تعد الأميرة تحتمل {الكلام هنا،لا يستقيم،فأي أميرة هي؟! وكيف تجهل ذلك "النجم"؟!!}،فالتفتت إلى جارتها،لتقول:عفوا سيدتي،ولكن من هو هذا الروز دور؟كيف يا سلطانة،ألا تعرفين! قالت ذلك مندهشة. ولكنه هو اللواء مصطفى كمال!){ص77 -79} كأن التأريخ يعيد نفسه،في صورة الانبهار بالغرب – بصحافته في حالتنا هذه – كما صوره الحديث عن (المنع) وأثره .. ( .. "الجيش اليوناني يحتل إزمير،وبعد بعض المعارك الدامية،عاد الهدوء". وتنهد خيري رؤوف بك،واسترخى جسمه على المقعد الأكاجو،ليقول :- لئن كانت الصحافة الأجنبية هي التي تكتب ذلك،فيجب أن يكون صحيحا.وكمثل الكثيرين من أبناء جيله،ومحيطه،كان الداماد شديد الإعجاب بأوربا،وليس لديه إلا الازدراء،لما يسميه"بالتركيات"،,لاسيما صحافة بلده،بل إنه لا يقرؤها،ويكلف من يرسل إليه كل يوم نصف دزينة من الصحف الفرنسية والإنكليزية. إن هذا هو وجهة نظر العدو.فليكن،ولكنه في رأيه أكثر موضوعية من وجهة نظر الصحف المحلية،الخاضعة للرقابة. وينسى أن هذه غير مفروضة إلا من قبل المحتلين،هؤلاء الأوربيين الذين ما أكثر ما يعجب بهم. وعنده أن هذه تفاصيل،ذلك أن الإعلام،في تركيا،كان دوما،على كل حال،تحت المراقبة،(..) أما أن الصحافة في البلاد"الحرة"خاضعة لرقابة في مثل الصرامة،ولكن برهافة أكبر – من حيث أن الحكومات قد فهمت أن المنع أو البطش،لم يكونا خطرين فقط،بل بلا جدوى – فإنه لا يريد أن يفهم ذلك. ويعتبر أنهم نمامون،أولئك الذين يقولون : إن الديمقراطية قد أصبحت سيدة من يحسن التلاعب بالأخبار وتزوريها.ففي أوربا،على ما ترى هذه العقول الفاسدة،لا تسجن السلطة مديري الصحف،بل يدعونهم إلى العشاء،ويصارحون "بالمشكلات الحقيقية"على أفضل وجه. وعندما "يدللونهم"بهذه الصورة،فإنهم يصلون في أكثر الأحيان إلى استبقائهم في نوع من الحياد المحابي.لكن هذه الملاحظة تستفز خيري بك. وعلى فرض أنه صدقها،فإن هذا لا يغير شيئا من قناعته بأن سلام تركيا،إنما يمر من باب"تغريبها". وكثيرا ما يقول : "يجب أن نأخذ من أوربا ورودها،ولتذهب الأشواك غير مأسوف عليها". ){ص 81 - 82}. ختام هذه الحلقة سوف يكون ... بعد اختيار سلمى لعقد من الزمرد،من بين الكثير،والكثير من المجوهرات،وعندها :(يقدم "الجواهري"مباركته ببعض الكلمات.ويمسك بالعلبتين،ويدخلهما في حقيبة من الجلد القاتم. ثم قدم تحياته،وودع الأميرة،مستأذنا بالانصراف.وتنظر إليه سلمى وهو يخرج،فلا تصدق عينيها.- أيندجيم،لِمَ حمل مجوهراتك،وأين هي التي اشتريتها اليوم؟والحقيقة أن زيارات مميجان أغا،التي تباعدت في الأيام الأخيرة،كانت دوما مناسبة لمشتريات عظيمة. - يا سلمى،إني لم أشتر ... بل إني بعت المجوهرات التي أشرتِ إليها.. أترين؟ فالحرب ثم الاحتلال،جعلا الأشياء غالية جدا. ولدينا هنا ستون أمة يجب الإنفاق عليهن. وحقا فأنا أستطيع أن أتخلص من نصفهم عددا. ولكن إلى أين يذهبن؟ وكثيرات هن اللواتي يقمن عندي منذ الطفولة. أما الأخريات فقد كبرن لدى أبي. وكن دوما وفيات لنا. ولا يطاوعني قلبي في الاستغناء عنهن. ولهذا فأنا أبيع مجوهراتي. وعلى كل حال،فإن لديّ الكثير الكثير منها!- ولكن إذن،يا أيندجيم،نحن فقراء.وشعرت سلمى بأنها مسحوقة. إذ لقد رأت في الطريق أطفالا،شاحبي اللون،كانوا يبيعون شرائط الأحذية،وخيطانا ودبابيس،موضوعة في علبة من الكرتون،مربوطة بأعناقهم. وقالت لها الآنسة روز{مربيتها} إن هؤلاء "فقراء صغار". فأعطتهم بعض قطع النقود وابتعدت عنهم بسرعة،خجلا من نظراتهم الطامعة والحزينة،التي كانوا ينظرون بها إلى ثوبها الجميل،وخُصل شعرها المعتنى بها. وقد آلت على نفسها أنها لن تكون أبدا،أبدا فقيرة. وبعد قليل،اطمأنت وهي تفكر أن الإنسان يولد إما غنيا،وإما فقيرا،كما يولد أبيض أو أسود. وأن العالم مقسم على هذه الصورة،وأنها،لحسن الحظ،في الطرف الأفضل.أما الآن،فإن حديث أمها يغرقها في مهاو من المخاوف : فعندما تزول المجوهرات،أيكون عليها عندئذ أن تذهب لتبيع الدبابيس في الطرقات؟وتطمئنها أمها قائلة : ولكن لا،أيتها الحمقاء الصغيرة،فنحن لسنا فقراء. وبالمقابل فإن حولنا عددا يتزايد من هؤلاء. ولهذا قررت منذ الغد أن أصنع "فقرا مين تسور باسو"أي حساء للفقراء.){ص 103 - 104}.إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله.
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"8"في هذه الحلقة سنأخذ جزء من حلم "سلمى"المشترك مع المثقفة خالدة أديب :(وخالدة أديب؟ إن سلمى تعود فترى المرأة ذات الثوب الأسود،التي كانت تخطب في الجماهير،مساء الاستيلاء على إزمير. وعندها أن خالدة هذه تجسد فكرة الحرية. ستعمل إذن في حقل المرأة،وستلغي هذه الملاءات البغيضة،وهذه المشربيات الخانقة،وتُفتح نوافذ العربات،وأبواب الحريم. وستساعدها سلمى. وهما معا،ستؤسسان عالما جديدا،لا يضيق به صدر الإنسان أبدا. ويكون بوسع النساء أن تصبح ملوكا وسلاطين،كما هي الحال في إنكلترا.){ص 145}.لكن حلم سلمى لم يحالفه الحظ سريعا .. (في هذا اليوم،كان مزاج سلمى سيئا. فقد احتفلت البارحة بعيد ميلادها الثاني عشر،أي في أبأس يوم من أيام حياتها.ذلك أنها وجدت بين الهدايا العديدة التي قُدمت لها،علبة كبيرة كتلك التي تتلقى فيها أمها،أثوابها من باريس. ورفعت الغطاء،كالمحمومة،مغلقة عينها،ثم فتحتهما ... لتجد شرشفا من الحرير،فيروزي اللون،ومعه وشاح من الموسلين.فانقبضت حنجرتها،وفاضت عيناها بالدموع. فأدارت ظهرها لما وجدته،وعلى الرغم من إلحاح الكالفات اللواتي يهنئنها بالصعود إلى مرتبة امرأة،فإنها رفضت،بكل حسم،أن تجرب هذا السجن المتنقل.وإنها الآن لعاتبة على والدتها،أنها خضعت للأعراف،لاسيما وأن استخدام الشرشف كان في طريقه إلى الزوال،إن لم يكن في المدن الصغيرة،ففي العاصمة على الأقل. وكانت الأنيقات من الفتيات والنساء قد حَوّلن هذا الثوب الفضفاض إلى ثوب من قطعتين متلائمتين فيما بينهما،ثم دفعن الحجاب بأناقة إلى طرف الرأس،ولم يعد إلا زينة لها أطيب الآثار.){ص 167}. يبدو أن (الحجاب) لم يكن هو الوحيد الذي في طريقه إلى الانحسار،فبعد انتصار (الكمالية)،يصل (زينل) إلى قصر السلطانة خديجة،,فتسأله سلمى:(- يا آغا،ماذا يجري؟غير أنه لم يسمع. فبدأت بدورها تعدو وراءه،وتصل لاهثة،إلى عتبة البهو الصغير في الحين الذي كان فيه زينل،المترنح ينحني في تحيته الثالثة : - أيتها السلطانة المحترمة جدا.وتراه يلهث ويدير عينين يائستين.- أيتها الأميرة المحترمة جدا ... ويفتح فاه،ولكن الأصوات تنحبس في حلقه،وفجأة تراه ينفجر شاهقا من البكاء.فتشير السلطانة بأن يؤتى له بمقعد،ويرطب وجهه بالماء (..) واستطاع الخصي،بعد بضع دقائق أن يستعيد هدوءه, فوقف وصالب كفيه على البطن،وخفض بصره،وتمتم،وكل أعضائه ما تزال ترتجف،قائلا :- إن جلالته ... قد .. هرب!فانتصبت السلطانة واقفة،وقالت له : - أيها الكذاب! كيف تجرؤ؟ ولم تستطع أن تكمل جملتها،إذ أنها هي الأخرى يتملكها الإحساس بالاختناق. وحتى الإماء،والكالفات،المندهشات،لا يفكرن في تقديم المساعدة إليها. وجاء صوت صاف يفسد الصمت :- قل ما عندك،يا آغا،أرجوك. وكانت سلمى،الجريئة وحدها بين كل هؤلاء النساء،الموشكة على السقوط على الأرض،تريد أن تعرف. فيقول:- إن جلالة السلطان،قد ترك إستانبول هذا الصباح،برفقة ابنه،الأمير إيرطو غرول،وتسعة عناصر من حاشيته. فقد ركبوا البحر على متن بارجة بريطانية اسمها "مالايا".(..) وتتساءل سلمى وتقول : كم هو مخجل! ترى كيف استطاع أن يفعل بنا هذا؟ وإذن فقد كان الطباخون على حق،عندما كانوا يقولون إن السلطان بدأ يخاف. وعندما كنت أنقل أحاديثهم إلى أيندجيم،انزعجت وغضبت وقالت إن الطباخين لا يمكن أن يفهموا إلا سلوك الطباخين،وليس سلوك السلطان. بيد أنهم هم الذين كانوا على حق,ولقد سلك السلطان سلوك الطباخين،وبدأت تدور في غرفتها،راكلة قطع الأثاث الناعمة من الغضب. (..) وفجأة ساد الصمت،وسلمى تلاحظ،بعد أن فتحت عينيها،نسيم آغا،الخصي الأسود المفضل لدى السلطان وحيد الدين،الذي كان يدخل عليها. ترى لماذا لم يسافر مع سيده فانتصبت السلطانة،وفي نفسها بصيص من الأمل في النظرات. - تبارك الله الذي أرسلك،يا آغا!قالت هذا وهي ترجو الآغا أن يجلس،بغية أن تظهر للخادم الوفي،اعترافها بجميله. لكنه يحرص على أن يبقى واقفا : ففي أيام الشقاء بالضبط،وعندما تكون الأسرة المالكة هدفا للاحتقار والنميمة،يحرص هو أن يبرهن على احترام أكبر. (..) ويقص الخصي،ودموعه تغرغر في عينيه،ما يلي :إن السيد ناداني في مساء اليوم السابق لسفره،وأسر إليّ بسره الكبير،وأمرني بأن أهيئ له بعض الحقائب. وتجرأت ونظرت إليه،ورأيت أن عينيه كانتا حمراوين. فقال لي : "كن مقتصدا،وخذ قليلا من الأشياء"فأخذت سبع"بدلات" فقط. وكذلك،على ما أمرني به،ذلك اللباس الرسمي الفخم الذي لبسه يوم تتويجه. وكان قد طلب إلى عمر ياور باشا،أن يقوم بحساب المال الذي يملكه،وقال لي وهو يضحك،وكما لو أنه يبكي : "ستأتي إلينا خلال بضعة أيام. ولكن كن مستعدا،يا نسيمي،للكثير من العذاب،وذلك لأن الله يشهد أنه ليس لديّ الكفاية من الموارد لأعول بها أسرتي. ولكن على أنه ما من إنسان سيعرف ذلك،إذ أن الشعب يقيس شرفنا بمقياس أموالنا". (..) ويتابع الخصي كلامه،فيقول :إنك تتذكرين،إفنديميز،تلك المحبرة الذهبية،وحامل السجائر المطعم بالياقوت،اللذين اعتاد الباديشاه استعمالهما؟ ففي اليوم السابق لسفره،أمر ياور باشا أن يردهما إلى الخزانة،وأن يأتيه بالوصل. ودهش لذلك زكي بك والكولونيل ريشارد ماكسويل،اللذان كانا هناك،وأشارا على جلالته أن يأخذ معه بعض الأشياء الثمينة،لكي يستطيع أن يعيش في الخارج. فرأيت سيدّنا يشحب لونه،وردّ على الكولونيل بلهجة شديدة البرودة : "إن ما معي يكفيني أما الأشياء الموجودة في القصر فإنها ملك الدولة!"ثم التفت إلى زكي بك،وترك لغضبه أن ينفجر،وقال : "من الذي رخص لك أن تكلمني بهذه الصورة؟ أتريد أن تلوث شرف الأسرة العثمانية؟ اعرف إذن أنه لم يوجد في أسرتنا من هو سارق. فامض الآن في سبيلك!"ولم يكن يملك يوم سفره إلا 35 ألف جنيه إسترليني،ورقا"){في الهامش : مذكرات نسيم آغا}. - هذا صحيح تماما. وفي وسعي أن أؤكده.والتفت الحاضرون جميعا. ذلك أنه ظهر في العتبة الجنرال عثمان فؤاد،مصحوبا برجل طويل القامة،في ثياب الضباط. وهذا الأخير هو الذي تدخل وقال هذا،بصورة قليلة الاحتفال بالبروتوكول. فذهلت الكالفات. وصرن ينظر بعضهن إلى بعض : ترى هل يجب أن ينسحبن؟ لكن الفضول كان أقوى من المواضعات الاجتماعية. فاكتفين برد الأغطية على وجوههن. وبحركة آلية،بحثت السلطانة،في الديوان عن قطعة الموسلين لكي تحجب عن ناظر الأجنبي شعرها الغزير. وعندما لم تجد ذلك،هزت كتفيها بصورة غير ملحوظة! ما أهمية ذلك! فالأحداث أخطر من أن تصر على الشكليات. (..) أما الضابط،فقد بدا متضايقا. وقال : - على الرغم من أني ضابط في الجيش الوطني – وحك حنجرته – ولا أتنكر لأي شيء في المعركة التي خضناها،فقد كنت أريد أن أقول لك،يا سلطانة،أننا كثيرون {هكذا}ألئك الذين يأسفون على إلغاء الملكية. ومنذ زمن طويل،كنا نشك في نيات كمال باشا. ولكن كان علينا أن نختار إما البلد،وإما الملكية. وكان ذلك صعبا. ذلك أننا كضباط عثمانيين،كنا أقسمنا يمين الولاء للسلطان. واستقال البعض منا. وأنا على الرغم من الصلاة التي تشدني إلى أسرتكم،فقد قررت البقاء. فتركيا بحاجة إلى كل جنودها.ويشعر الإنسان أن العقيد (كريم) قد حضر خطابه بعناية،ولكنه ليس مع ذلك مرتاحا. وكان الصمت،في البهو الصغير،يزداد كثافة. وكانت الكالفات يحبسن أنفاسهن،في حين أن السلطانة تعبث بخاتمها. وفجأة،ترفع رأسها،لتقول : أعتقد،يا سيادة العقيد،أنك لم تأت لتحدثني عن حالاتك النفسية.فترتعد سلمى. إذ ما من مرة رأت أمها بمثل هذه الشدة في الوخز،تجاه إنسان ثانوي. ولكن ربما كانت لا ترى الآن أن العقيد رجل ثانوي،بل كممثل للسلطة الجديدة. وربما كانت هذه الصفة هي التي تسحقها باحتقارها.فاحمر وجه العقيد،وحسبت سلمى أنه على وشك النهوض للرحيل. وأجاب العقيد بقوله :الحقيقة،يا سيدتي السلطانة،أن ذكرى طيبك الماضي،هو الذي دفعني إلى المجيء.{سبق للسلطانة أن خبأته في قصرها،أيام مقاومة الاحتلال،ووقفت في وجه الجنود الذي يبحثون عنه،وأشهرت مسدسها. وقالت أن عليهم أن يحضروا ورقة من السلطان نفسه،لتسمح لهم بتفتيش قصرها،فأحاطوا بالقصر،وتم تهريب العقيد في ملاءة امرأة}.وألاحظ الآن أني قد أخطأت،وأن بعض الأشياء،للأسف،لا يمكن أن تنسجم فيما بينها.فعضت السلطانة خديجة شفتيها. ذلك أن الجرح مال بها عن العدالة. ولكن الآن،وقد حدث الأذى وتم،فإنها لن تمضي إلى حد الاعتذار! واكتفت بالقول : - إنني أصغي إليك. وعلى الرغم من أنها أرادت،بهذه الكلمات،أن تلطف الجو،فإن هذه قرعت الأسماع كأمر ملكي.ولما كان الأمير فؤاد ديبلوماسيا،فقد تناول هو الكلام،قائلا :هيا،يا صديقي،فنحن نتحرق شوقا إلى حديثك. (..) أستطيع أن أؤكد لك بأن أنقرة هي التي دفعت بالسلطان إلى الهرب. (..) وتدخلت السلطانة وعيناها تبرقان : إن مصلحة أنقرة واضحة،ولكن مهما كانت الضغوط،فإنه لم يكن للباديشاه أن يهرب. ){ص 179 - 187}. وصل مسلسل إلغاء الخلافة ذروته :(وفي يوم 27/2/1924،وُجهت الضربة الأخيرة فأدانت المجموعة الكمالية ما يحاك من مؤامرات من أنصار العهد القديم،وقضت بإلغاء الخلافة. وفي اليوم الثالث من أيار،وبعد أسبوع من الاحتجاجات والمشادات،انتهى البرلمان بالخنوع. وصوت برفع اليد لا على طرد الخليفة عبد المجيد فورا،بل على طرد أفراد الأسرة العثمانية جميعا.وكان علينا جميعا أن نرحل في غضون ثلاثة أيام. (..) وكانت المراهقة،بعينيها، تسأل أمها،ولكن أمها أخفت وجهها بيديها،وبصعوبة ما استطاعت سلمى أن تسمعها تقول : - المنفى؟ .. هذا غير ممكن ..أما الجنرال الأمير فكان في البهو الصغير المزين بأزهار النرجس،يدور كالأسد المستعد للانقضاض. - لقد جُردنا من جنسيتنا،ومُنعنا من أن تطأ أقدامنا أرض الوطن مرة ثانية. وأموالنا مصادرة. وكل ما هو من حقنا الآن،هو أن نحمل معنا حاجاتنا الشخصية. آه! كدت أنسى شيئا،فقد قررت الحكومة الكريمة منح كل منا ألف ليرة ذهبية،بحيث نستطيع العيش بضعة أشهر! هاك،يا عمتي العزيزة جلية الموقف. فنحن مطرودون كمجريمن! ولاسيما أولئك الذين من بيننا وهبوا دمهم لتركيا.قال هذا يضع يده على صدره المزدان بالأوسمة التي نالها في ساحة القتال. (..) ويقول الجنرال الأمير :سلطانة تذكري أنه ليس لدينا إلا ثلاثة أيام. (..) هنالك ضباب .. وسلمى لا تذكر إلا ضبابا من الأنين،والجنود،والدموع،والصغائر،والإخلاص،والوفاء اللا منتظر،والخيانات أيضا .. وخلال ثلاثة أيام، تاهت البُنية،ورُدّت على أعقابها من غرفة إلى أخرى من قبل الخادمات والخصيان الذين ينتزعون الثياب المعلقة من أماكنها،ويطوونها،ويضعونها في الحقائب (..) ومع ذلك فإن بعض الصور من داخل هذا الضباب تطفو على السطح،كجزيرات صغيرة من الألوان : مثل صورة الخياطات المنحنيات على أرواب أمها،واللواتي يخفين في تضاعيفها بعض الحلي : ويقلن إن للسلطانة الحق في حملها معها،ولكن لا يعرف أحد،ما إذا كان أحد رجال الجمارك يُبرز الكثير من قوة الوجدان! بل يبدو أنها رأت زمردة تختفي في جيب إحداهن ... ثم زينل،زينل الطيب،الواقف فوق صندوق،يصرخ بكل الناس،وينقد الجميع،ويهز ساعديه كما لو كان رئيس أوركسترا. وأخيرا صورة أمها في وسط هذه الفوضى،وهي تمر من جديد،باسمة،وتواسي وتهدئ. - لا تخافوا شيئا،يا أولادي،إنها ليست أكثر من زوبعة تثور ثم تهدأ بعد بضعة أشهر. وعندئذ سيستدعينا الشعب. ولكن الشعب، في الوقت الحاضر يصمت. ذلك أن الحكومة قامت بما هو ضروري للجمه. فقد أقامت في كل المدن الكبرى محاكم استثنائية،لها الحق في إصدار الحكم بالإعدام،وعممت "قانون الخيانة"على كل ألئك الذين قد يناقشون قضية طرد الخليفة والأمراء من البلاد. وخلال ثلاثة أيام تتابع الأصدقاء لزيارة قصر أورطاكوي،وعلى الأقل ألئك الذين تجرؤوا على تحدي المراقبة. وخلال ثلاثة أيام أيضا،تساءل أهل البيت،أين يذهبون؟ إذ لم يحدث مرة قبل اليوم أن أميرة عثمانية خرجت من بلدها. وبين"القديمات"قليلات هن اللواتي خرجن من قصورهن. ولقد اقترح أول الأمر الذهاب إلى فرنسا،إلى نيس حيث الطقس لطيف كما هو في إستانبول،وحيث السماء،على ما يبدو،تظل زرقاء صافية،وحيث البوسفور يسمى البحر الأبيض المتوسط. ولكن الأميرة اختارت أخيرا بيروت "لأنها قريبة جدا،ولأننا نستطيع العودة منها بسرعة!". وتساءلت سلمى عما يفكر به أبوها حول هذا الموضوع. فمنذ جاء هذا الخبر لم تره مطلقا. ويخيل إليها أنه غارق،ذلك المسكين،في نخل كتبه،والنظر في أوراقه ... وخالجتها فجأة رغبة حادة في أن تراه،إذ لم تعد تطيق الوجود مع كل هؤلاء النسوة اللاتي يقبلن يدها،بهيئة المحزونات الكئيبات.ولم يعد هناك حرس على باب الحرملك. فعات سلمى ومرت في البهو،صادمة الكالفات.واندفعت نحو أمها. - أيندجيم،بابا،أيون هو بابا؟وبرقة عير مألوفة،تداعب السلطانة شعر ابنتها وتقول لها :كوني شجاعة،يا سلماي. فقد خُير الدامادون {أزواج الأميرات} بين الرحيل مع زوجاتهم،أو الانفصال عنهن،والبقاء هنا. وأبوك لن يأتي إلينا بعد الآن.فرنّت الكلمة في الفراغ ... وهو فراغ،يعمّق مجراه،ويزداد برودة،داخل صدرها،وداخل بطنها،وحتى آخر نقطة من أصابعها ... "لن ... يأتي ... بعد الآن".الساعة هي الثامنة صباحا،وضوء النهار شفاف في يوم الجمعة 7 / 3 / 1924.وفي القطار الذي ينقلهم بعيدا عن إستانبول،كانت سلمى،ملتفة على نفسها فوق المقعد،تنظر إلى بلدها الذي يتركها ... أي إلى غابات الصنوبر التي تمر أمامها،وإلى الأنهار المتألقة،والنساء في أغطيتهن البيضاء وسط حقول اللفت.وأمام عينيها،كانت السماء تمطر رذاذا.){ص 208 - 212}. انتهى القسم التركي ... ألقاكم في (بيروت) ... إذا أذن الله.
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"9"أهلا بكم في بيروت ... ومع القسم الثاني .. هذا القسم يبدأ بداية غريبة ... يبدأ هكذا :(في وسعها أن تصفعني بقدر ما تستطيع،فلن أخفض عيني. وتكفي شكوى واحدة،وتكون قد انتقمت،ولن يكون بها حاجة إلى الضرب،وقد تعفو. إنني لن أقدم لها هذه الفرصة. فذلك معناه أنها على حق.وفي ساحة اللعب،وحول المرأة التي تلبس الثياب السوداء،وحول الفتاة ذات الخُصل الحمراء،كانت الطالبات يزدحمن،صامتات. وهذا الذي بدا كأنه وليمة – يكاد ينتهي إلى مأساة – وأخيرا سنرى هذه الوقحة تبكي. والأم أشيليه تضرب بعنف – إنها على وشك أن تقصم ظهرها ... فلماذا لا تصرخ وتبكي هذه الحمقاء؟ أولا تعلم أن عليها أن تصرخ قبل أن تشعر بالألم. فالراهبات ذوات قلوب رقيقة،ولا يحتملن سماع الصراخ.وتوقفت الراهبة،متعبة. وترفع سلمى ذقنها،وتكسو وجهها بسيماء الاحتقار – كما لو أنها ضحية أمام معذّبها. - ستكتبين لي الدرس مئة مرة!- كلا.فعمّت الدهشة الطالبات : إنها قوية،هذه التركية الصغيرة. واصفرت الأم أشيليه،وقالت :- إنكِ الشيطان! وسنرى ماذا تقول عن سلوكك الأم المديرة. وانطلقت بما تلبس من تنانير وأكمام،وأدارت ظهرها،واتجهت إلى مكتب الراهبة العليا.واقتربت مراهقة سمراء من سلمى بخجل. إنها أمل،بنت أسرة درزية كبيرة،من هؤلاء الإقطاعيين الذين سيطروا على الجبل اللبناني قرونا وقرونا. وقالت لها،قلقة :- ستُطردين إذن. فماذا ستقول أمك.- ستهنئني.- ؟؟؟- إن أمي لا تقبل أن تهان أسرتنا. وهذه التي يقال إنها مدرّسة تاريخ ليست إلا كاذبة! أو يقال عن راهبة إنها كاذبة! إن الطالبات لا يصدقن ما يسمعن. ويبتعد بعضهن لينقلن الكفر الذي لا يصدق،لغيرهن. ولا يَجرؤ أحد على تخيل ما قد يقع – ولكننا حتما سنتسلى. وتنظر الأم مارك،في مكتبها المغلف بخشب قاتم،إلى الصليب الذي علّق فيه المسيح،داعية أن يلهمها الصواب. فهذه حالة تمرد موصوفة. وهي مضطرة إلى الرد بعنف. ولكن هل تستطيع أن تقسِر هذه الصغيرة على أن تقول السوء عن ذويها؟ وفي العام الماضي،جوبهت بمشكلة مماثلة،بعد الدرس الذي كان يتعلق بالحروب الصليبية! وكان في الصف طالبتان مسلمتان،جاء أبوهما فأخذهما دون أن ينبسا ببنت شفة.وهذه المؤسسات،الشبيهة بهذه التي تديرها الأم مارك في بيروت – أي مدرسة أخوات بيزانسون – مفتوحة للأطفال من كل الأديان. وهي لا تهدف إلى هداية "الغنمات الشاردة"ولكنها لا تفقد الأمل بأن كلام الربّ مثل البذور التي تُرمى في الهواء وستنتهي ذات يوم بأن تنبت. ويقرع الباب بثلاث ضربات خفيفة. وتدخل صبية ذات شعر كثيف،ملتهب،فوق ياقة من الدانتيل الأبيض،الذي يُحلي اللباس الأزرق – البحري. وعيناها مخفضتان،والجبهة عنيدة،وتقدّم عميق الاحترام بانحناءة كبيرة.- يمكنكِ أن ترفعي راسك يا آنسة.وتضرب الأم مارك على مكتبها ضربات خفيفة بأصبعها العاجية الطويلة.- إنك ترين،يا ابنتي،أني مترددة. فماذا تفعلين لو كنت في مكاني؟ولكنها لم تتوقع تلك النظرة المثقلة بالتأنيب،ولا الرد الجارح،على ما فيه من حسن التهذيب.- ليس لي شرف الحلول محلك،أيتها الأم المحترمة.- "الأم"!- عفوا؟- أمي المبجلة.- نعم،الأم المبجلة.واختارت الأم مارك أن تضع الحذف (حذف حرف ي من "أمي"والاكتفاء بالأم وحدها) على حساب الجهل باللغة الفرنسية،وتابعت كلامها بلهجة ناعمة،قائلة :- إن الأم أشيليه تطلب طردك. وتؤكد أن في سلوكك خطر على النظام في الصف.وتسكت سلمى. وتفكر بأمها. مسكينة أيندجيم. فبعد خيري الذي يأبى أن يذهب إلى المدرسة،لأن رفاقه يسمونه "صاحب الحمرنة Annesse" بدلا "صاحب السمو Altesse". وهاهي تسبب لها مشكلات جديدة. وعندما خطر لها ما ستعانيه أمها من ذلك،ضعُف عزمها.- أيتها الأم المحترمة – ما ذا تفعلين لو أنهم أرغموك على حفظ – وهنا يضعف صوتها – على حفظ أن جدك كان مجنونا ... وعمك الكبير كان شيطانا مغرما بدم الآخرين ... وعمك الآخر ضعيف العقل،والأخير جبانا؟وتنظر الأم مارك من جديد إلى الصليب الذي عليه المسيح. ثم استدارت إلى المراهقة،وعيناها تلمعان.- إن سيدنا يسوع المسيح قد صُلب{"ولكن شبه لهم"}،لأن معاصريه كانوا يرون فيه "دجالا".فأحكام الناس،كما ترين،تعكس حدودهم : فليس هناك من تاريخ،بل هناك وجهات نظر. والوحيد الذي يعرف الحقيقة،هو الذي لا يملك وجهة نظر،لأنه غير محدود بشيء. فهو في كل مكان،إنه الله.وباعتبارها حفيدة متأخرة لأسرة عظيمة من أيام الصليبيين الذين حاربوا،ووهبوا حياتهم للحقيقة،فإن الأم مارك تضطرب وكأنها قد خانتهم. ورأت أن تستعجل الخلاص من هذه القصة،ولكن صوتها يضطرب قليلا عندما تنطق بحكمها :- إنك لن تحضري بعد الآن درس التاريخ،وستدرسين البرنامج وحدك. وأعتقد أنه ليس من الضروري أن أشير إلى هذا الحادث أمام السلطانة.- أوه! شكرا يا أمي المبجلة!وباندفاع طبيعي،قبلت سلمى يد الراهبة العليا،وحملتها إلى جبينها كما كانوا يفعلون في البلاط العثماني. وتمتمت الراهبة، مندهشة :- امضي بسلام،يا بنيتي!ومن غير أن تفكر سلمى،وحسب العادة الإسلامية،أجابت :- رافقتك السلامة،يا أمي!وبدا للأم مارك أن المسيح،من صليبه،يبتسم لها. وإذا قارنا بيروت بالعاصمة العثمانية،وجدناها مدينة حلوة في المحافظات،يسكنها حوالي المئة ألف نسمة،تزينها بيوت بيضاء ذات سقوف من القرميد الأحمر،ومحاطة بحدائق كثيرة الظلال. وفي الغرب في حي رأس بيروت،حيث استقرت السلطانة،يمكن للإنسان من الشرفة أن يرى البحر،ذا اللون الأزرق الشديد الزرقة حتى أن سلمى صُدمت منه أول مرة،كما يُصدم الإنسان مما يبدو له من سوء الأدب لدى إنسان ما. ولكن البُنيّة فهمت تدريجيا أن كل بيروت كانت على صورة البحر المتوسط ضاحكة،ممتلئة حيوية،على نقيض إستانبول وبوسفورها،اللذين كان شفوفهما المتقلب المغمور بالأحلام والأشواق،يُثير الرغبة في البكاء من شدة الرقة. ثم إن السيدة اللبنانية التي أجرتهم بيتهم الجديد"تعشق تركيا والأتراك!" – ككل سكان الحي،على ما تؤكد هي.وبزهو ما تعظّم لهم شأن بيتهم المجمل بأشجار التين دون أن تشير إلى المزاريب التي تهرّب ما يجري فيها من الماء،وتملأ الجدران ببقع كبيرة من العفن،ولا إلى النوافذ التي لا ترى حرجا من مرور الهواء،منها،بكامل الحرية.وتشرح لهم :- أن الأسر السنية تسكن في رأس بيروت،وتلك الأسرة التي كانت في عهد العثمانيين،وحتى مجيء الفرنسيين،سادة المدينة،خلال أربعة قرون."أما هنا فتسكن عائلة الغندور،التي كانت تملك إدارة حصر التبغ والتنباك. وأسرة البلطيجي،والتي تسيطر على المرفأ. وهناك نجد بيت الداعوق،وبيهم،والصلح. وهم جميعا أغنياء جدا! ثم إنهم يتكلمون اللغة التركية،كما يتكلمون اللغة العربية،وأحيانا نراهم يفاخرون بوجود دم تركي في عروقهم،عن طريق جدّة شركسية أو إستانبولية". وتضيف إن هذا المجتمع الراقي السني،على أفضل حال مع الأسر الرومية الأرثوذكسية،التي تشكل أقلية عظيمة القوة. وهذه جميعا تستقبل الزوار،تقريبا كل يوم. فيلعب الرجال بالورق والبوكر،وتلعب النساء بالبيناكل،وفي آخر ما بعد الظهر،يتنزه الناس على الأحصنة،في الهضاب المجاورة،ولاسيما في الربيع عندما يتعطر الجو برائحة الزعتر والزعرور. وتهز السلطانة رأسها،بأدب،فتفهم صاحبة البيت أن في ذلك دعوة لمواصلة الحديث،فتسرع إلى إيضاح أن هذه الأسر : أي السرسق،والطراد،والتويني،وكلهم من أصحاب المصارف،هي التي تقدم أجمل الاستقبالات.ويلتقي عندهم كل أهل بيروت،من مسيحيين ومسلمين.والمسيحيون هنا هم الذين يتبعون الطقوس الإغريقية،ذلك أن الموارنة،باستثناء بعض الأسر المقيمة هنا منذ أجيال كثيرة،قلائل في بيروت. وما تزال أكثريتهم تسكن في الجبل،وهم فلاحون حريصون على أرضهم وكنيستهم. (..) .. إن الهوة تكبر بين البيروتيين القدماء،و البيروتيين الجدد. بيد أن الإدارة الفرنسية لا تشجع المارونيين وحدهم،بل إنها بحاجة كذلك إلى دعائم قوية لدى الطائفة الإسلامية. وهي تعلم أنه لا يمكنها أن تنتظر من البورجوازية السنية العليا،الكثير من الحماسة،وذلك أنها عندما أنشأت لبنان،فصلته عن المملكة العربية التي وعد بها الإنجليز العرب والتي كان عليها أن تضم سورية ولبنان وفلسطين. وعدا ذلك فإن الانتداب اضطر لكي يثبّت وجوده إلى الضغط على المصالح الاقتصادية لهؤلاء السنيين الأغنياء. ومع ذلك فإن العلاقات تظل سليمة،وأحيانا جيدة بين الطوائف. فقد كان اللبنانيون دبلوماسيين دوما. أما فيما بينهم (بين السنيين خاصة) فإنهم يتهمون فرسنا بأنها أساءت إلى ثروة البلاد،بصورة خاصة،عندما عوضّت عن الليرة الذهبية،بليرة ورقية تعتمد على الفرنك. وهم مستاؤون،بشكل خاص،من أن أعظم المراكز نفوذا في السياسة،والقضاء،والجيش،قد أعطيت للمسيحيين. وبالمقابل فإن هناك طبقة بورجوازية متوسطة،سنية،لم تكن تكلّف في عهد العثمانيين بوظائف هامة. فصار الفرنسيون يعتمدون على بعض هذه الأسر،ويشجعونها ليكسبوا إخلاصها. وإلى هذا المجتمع البيروتي،المشرف على تحولات عظيمة،بتأثير سادته الجدد و"أصدقائه"وصلت السلطانة خديجة،مصحوبة بولديها،و زينل،وكالفتين.) {ص 215 - 221 }. وهنا بالضبط ... انتهت هذه الحلقة .. فإلى اللقاء في الحلقة القادمة.
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"10"إلى ذلك ..(المجتمع البيروتي،المشرف على تحولات عظيمة،بتأثير سادته الجدد و"أصدقائه"وصلت السلطانة خديجة،مصحوبة بولديها،و زينل،وكالفتين.وهنا حصلوا على نجاح كبير نشأ عن فضول الناس أولا،وعن تعاطفهم ثانيا. وعلى كل حال فإن السلطان مراد الخامس لم يؤذ أحدا،لا لسبب غير أنه لم يحكم،ذلك المسكين،إلا ثلاثة أشهر .. أما ابنته البائسة! فلقد بقيت سجينة مع أبيها ثلاثين سنة،ثم عشرين سنة أخرى،مقسمة بين زوج كان على الأرجح يضربها،والآخر كان بالتأكيد يخونها،ثم جاءت الحرب،والثورة،والنفي أخيرا! وهكذا فإن كل سيدات المجتمع المحيطات بها،كن يتألمن لها،وصرن يتسابقن إلى زيارتها.ولكن إذا كن يتوقعن – وعيونهن سلفا تتألق لهذا التوقع – كنشوة مؤثرة،وتفاصيل لم يُسمع بها من قبل حول الصورة التي عوملت بها الأسرة الملكية،أو في أقل الدرجات،بعض التنهدات،والنظرات الحزينة،التي توفر الفرص للإمساك بيد الأميرة،وحلف اليمين لها بأن ستملك صداقتهن الأبدية – فإنهن قد خاب فألهن.وفي البهو ذي الستائر الحريرية الصفراء التي عفا لونها قليلا،كانت السلطانة تستقبلهن بالبسمة الأليفة،وبحس الكرامة الخاص بملكة تأتيها رعاياها لتقدم لها احترامها. أما أسئلة الزائرات التي بدأت بأن تكون رسمية،ثم مع الأيام،غدت أكثر فأكثر إلحاحا على ما يتوقعنه من كشوف ومصارحات،فإنها كانت تجيب عنها بهدوء لا يعرف الاضطراب. وحقا،فإنه ليس لديها ما يمتعهن أن تقوله،فكمال لم يفعل إلا ما قدر أنه واجبه،أما إمكانية قيام ثورة مضادة،وإعادة النظام السابق؟ فذلك خاضع لإرادة الله ... (..) وخلال أسابيع كان البهو لا يفرغ من الزائرات. ولكنهن مع الأيام،باعدن بينها. ذلك أن هذه الأميرة التي كان يقال : إنها ذكية،والتي كانت شخصيتها ممتدحة بينهن،ليس لديها ما تقوله! فيزهد المجتمع البيروتي،ويمضي ليتعلق بآخرين. فيما عدا بعض المتحذلقات من ذوات المستوى الأكثر تواضعا واللواتي واظبن على زيارتها،بغية أن يروين لصديقاتهن المنبهرات،بأن "صديقتهن"السلطانة،كانت اليوم"مزكومة"بعض الشيء أو أنها كانت تلبس ثوبا من الحرير الأخضر كان يهبها حقا سمتها السلطانية!وفي الهدوء الذي اعتادت عليه السلطانة فوجدته من جديد،كانت تضحك بصمت.لقد لقنتهن درسا،هؤلاء البله،اللواتي كن يردن التطاوس،إذ يضعن على صدورهن سلطانة! أيدعونني! حقا إنهن لا يرين ما في ذلك من حرج! فهل لأميرة من أسرة ملكية،ومن عمري،أن تتحرك من بيتها؟ فاذكري يا سلمى هذا : إنه ليس لأننا أصبحنا لا نملك المال،يجب أن نغير طريقتنا في السلوك. فأنت أميرة،ويجب ألا تنسي ذلك أبدا. وتطلق سلمى واحدة من تنهيداتها .. "أميرة بلا مال،ماذا يعني ذلك؟ إنني أضحوكة الصف كله. ورفيقاتي يسمينني بصاحبة السمو ذات الكلسات الملقوطة".ومع ذلك فإنها تكتفي بالجواب :إنه يصعب عليّ،يا أيندجيم،أن أنسى ذلك.وتنظر إليها خديجة مندهشة :هل من شيء يزعجك؟ في المدرسة؟كلا يا أيندجيم. إن المدرسة سارة جدا.كان يجب أن توفر العناء على أمها،بأي ثمن. فالسلطانة تظل شامخة الرأس،ولكن،بمرور الزمن،كانت نظراتها التي كانت ممتلئة حيوية في الماضي،وعميقة،قد غشيها تعبير مؤلم. فهي لا تفهم،ولا تقبل سوكت شعبها.وفي الصباح والمساء تصغي إلى الإذاعة،وتحاول الاستماعي إلى أخبار تركيا. فحذف المدارس والمؤسسات الدينية،وإغلاق مراكز التجمعات الصوفية،قد أثار استنكارها. وبالمقابل فإنها شعرا بلذة الانتصار عندما سمعت أنهم ينزعون الحجاب بالقوة،ويأمرون الرجال بنزع الطربوش،كرمز على الانتساب إلى الإسلام،تحت طائلة الشنق! ففي هذه المرة،لا بد للأتراك أن يثوروا! ولكن الأمر في هذه المرة ظل كما كان في غيرها من المرات،فقد قبل الأتراك ما جرى. ويوما بعد يوم كانت الثنية تتعمق أكثر فأكثر على زاوية شفتي خديجة. (..) لا ريب أن المحاكم الاستثنائية قائمة في كل مكان والمعارضة و الصحافة،ما زالتا خاضعتين للرقابة. (..) .. ذات يوم،ألغى أستاذ الرياضيات درسه،لأنه كان مريضا. فعادت سلمى إلى البيت قبل ساعة من موعدها. فأوقفت على العتبة : وسمعت جلجلات الضحك! وببطء اقتربت ورأت ... أيندجيم – أيندجيم التي تضحك كما لم ترها تضحك منذ زمان طويل منذ مغادرة إستانبول. وكان زينل جالسا على وسادتها وهي،جاثية بين قدميها،وهو سعيد يخطب :فشعرت المراهقة بأن حنجرتها تنقبض،وأنها خدعت : فأمها لا تريها إلا وجها حزينا. فلِمَ تجد مع زينل بهجتها القديمة؟ وتقدمت وهي صفراء الوجه تماما،فنهض الخصي،وتوقفت السلطانة عن الضحك،وسألتها :- ماذا هناك يا سلمى؟ أأنت مريضة؟وتتصنع القلق وتقول في نفسها : ولكني أستطيع أن أموت مادام زينل هنا.أما خيري الذي لم تكن سلمى قد رأته،فيضحك،ويقول :- هي غيرى. هذا كل شيء. أوَلا تفهمين،يا أيندجيم،أن الآنسة لا تحتمل أن تهتمي بأي إنسان آخر غيرها،حتى بي أنا؟ وعندما تبتسمين لي،يمتقع لونها كسفرجلة قديمة!وتنظر سلمى إلى أخيها نظرة أفعوية. إذ لقد كانت تسيء تقدير قوة الملاحظة لدى أخيها (الباتابوف) السمين. ولكنه سيدفع الثمن. وبانتظار ذلك،فإن من الأفضل التخلص من هذا الموقف.- أأنا غيور،أية فكرة! إني لست غيور! بل كنت مندهشة .. ومسرورة بأن أسمعك تضحكين يا أيندجيم. وتشعر آنئذ أن صوتها يرن رنة المداجاة. وقطعا لما قد يحدث،تدّعي أنها تريد ترتيب كتبها،وتنسحب إلى غرفتها.(..) - إنهم يقتلون أصحابنا بالمئات.وجذبت أمل سلمى،إلى ركن من أركان ساحة اللعب،وكان وجهها أكثر شحوبا مما هو في العادة.قام الفرنسيون،في الجبل،بإحراق قرى بكاملها،بلا أدنى شفقة على النساء والأطفال. وسوف يندمون. إن انتقام الدروز،سيكون مخيفا.وهبط بالون الأرض بين أرجلهما. وتزاحمت طالبتان وهما تضحكان،للإمساك به. إنها الأيام الأولى للخريف،والشمس أشبه ما تكون بالحرير.وأخذت سلمى بيد أمل. ذلك أن هذه الدرزية الصغيرة هي صديقتها الوحيدة في مدرسة أخوات بيزانسون،بل الوحيدة التي تجرأت على كسر العزلة التي كانت تحيط بها. وفهمت المراهقة ما في سلمى من قلق واضطراب،ذلك أنها مرت،هي الأخرى،بمثل هذا،وهي التي يقول فيها الراهبات : "أمل،جميلة،ذكية،وكم هو مؤسف أن تكون هذه المسكينة مسلمة!". وفي البداية،لم تكن تريد البقاء. وكانت تبكي كل يوم،ولكن أباها لم يقبل ذلك منها : فأفضل المدارس في لبنان هي المدارس المسيحية. وتعتبر الأسرة المسلمة أن مما يشرفها أن ترسل بناتها إليها. وتسأل سلمى أمل،بنعومة،قائلة :- أمل اشرحي لي أرجوك،فاللبنانيون الآخرون قبلوا الانتداب الفرنسي. فلم يحارب الدروز؟- إنها مسألة شرف!وتتألق العينان الزرقاوان.لم نكن في البداية ضد الفرنسيين،ولكن المندوب السامي،الجنرال ساري،شتم رؤساءنا. (..) – إذن فأنتما تتآمران؟وانتصبت أمل أمامهما،وقد استعدت للقتال.- ما أكثركما حصافة! { ما أشد حصافتكما} والواقع أننا كنا نتناقش في الطريقة الأنجع لطردكم من لبنان.وكانت ماري لور تنظر إليها بشيء من العطف.- أوه،أوه! هوني عليك،يا صغيرتي،فبعد كل حساب،لولانا،لكانت بلادكم ما تزال منطقة مستعبدة للعثمانيين! وتتدخل ماري أنييس قائلة :- أنهوا أحاديثكم. فحولنا من يستمع إلى ما نقول. ولئن علمت الأمهات أننا نتحدث في السياسة،إذن لكان عقابنا الطرد من المدرسة. واحتجت سلمى بلهجة جافة،قائلة :- إن هذا بالغ السهولة أن نهرب الآن بعد أن شتمتمانا!وهزئت ماري لور من صاحبتها،وقالت :- انظري،إن الأميرة تطلب تعويضا. حسنا. إني أقترح أن نسوي النزاع فوق ساحة الرياضة. وأنا أترك لكما اختيار الأسلحة : فإما العدو،وإما القفز.- القفز! بالمظلة. وكانت ماري لور أطول منها بعشرة سنتيمترات،وسلمى تعرف أنه ليس لها أدنى حظ في التسابق بالعدو معها.وتقع ساحة اللعب (..) وحلوهما كانت الطالبات يتجمعن منتبهات.وتتطوع اثنتان لرفع العوارض على أبعاد متساوية : عشرين فعشرين سنتيمترا. ولديهما القليل من الوقت قبل نهاية الفرصة. وهناك طالبتان للمراقبة. وأول قفزة كانت كلعبة أطفال.(..) وهنا يصبح الأمر جديا. وتقفز الواحدة بعد الأخرى،متجمعة كل منهما حول نفسها،ومتركزة. (..)ولم تكد تنهض من مكانها حتى هبطت ماري لور وراءها. فتصالبت نظراتهما،وترددتا لحظة،ثم تباعدتا.- 80 ،2 مترا.وبهدوء تسلقت سلمى الدرجات. وشعرت بارتجاف غريب في صدرها. أما تحتها فيسود الصمت. وهناك عشرون زوجا من العيون ينظر إلهيا.ولا مجال للتراجع.فتتنفس بعمق : هيا!وما كادت تنطلق حتى عرفت. وكما لو أنها تضاعفت – سجلت الكسر،وحرقة ضربة السوط،والألم اللامحتمل،,في الوقت نفسه،تسجّل نوعا من الارتياح : لقد انتهى الأمر،,ليس عليها الخوف.وكانت الصرخات تدوي حولها،وكل شيء يدور. لا .. إنها لن تتقيأ،إنها ... أين هي،وماذا حدث.ولِمَ تغسل لها الأم جان وجهها بالماء المثلج؟ ولِمَ هذا الوجه المرعوب؟وعندئذ شدها ألم في الساق اليمنى إلى الحقيقة. - لا تتحركي يا صغيرتي،ستصل عربة المستشفى. ولكن أي سوء تبصر. كان يمكن أن تقتلي نفسك. فلِم قفزت من مكان بهذا العلو؟وترد سلمى بتقطيب وجهها،وتقول :- كنت أتدرب .. كمقدمة للألعاب الأولمبية. وينقلب وجوه البنات من القلق إلى الإشراق،وتكثر الضحكات. وكان هذا أكثر مما تتحمله ماري لور. - إن الحق عليّ،يا أمي فأنا التي .. وقاطعتها سلمى بحدة :- إنك أنت التي جعلتني أتذوق الرياضة. وكان عليّ أن أفهم أني لست بحيث أضاهيك.وتتنهد الأم جان قائلة :- يا طفلتي المسكينة. أترين إلى أين يؤدي الغرور والزهو بالنفس؟ (..) وعادت سلمى بعد شهرين إلى المدرسة على عصوين،ودخلت الصف. فاستقبلت بحماسة. وحتى البنات اللواتي لم يكلمنها قط،تجمعن حولها،عَجِلات.ومن آخر الساحة كانت ماري لور،تتقدم غير مبالية. وقالت لها :- إني سعيدة أن أراك ثانية.وهي جملة بسيطة. ولكن أحدا لم يخطئ في فهمها : إذ صدرت عن رئيسة الرابطة الفرنسية المارونية،مما يعني أنها تؤكد الصداقة.أما بالنسبة لسلمى فإن النهار مضى كعيد،وحتى الراهبات كن يقدمن لها مختلف صور العناية. وفي المساء، اقترحت عليها ماري لور أن ترافقها. وكما هي الحال مع أكثر الطالبات الفرنسيات،فإن تحت تصرفها عربة لها سائق ينتظرها عند باب المدرسة. وكادت سلمى أن تقبل عندما فاجأت نظرة أمل الحزينة.- إن هذا لطف منك. ولكني أحب أن أتنفس الهواء الطلق. وشاءت أمل أن تحمل لي كتبي. ولم تُخدع ماري لور بالكلام،فهزت كتفيها،وقالت :- إني آسفة،وكنت أظن أن لدينا أشياء نقولها لبعضنا. ثم أضافت : ولكنك على حق،بلهجة اللا مبالية،التي لا تحسن إخفاء خيبة أملها. فالوفاء في المقام الأول!ورأتها سلمى تبتعد،وقلبها حزين لأنها رفضت اليد الممدودة. وكانت تشعر أنها أخطأت. وعبثا حاولت أن تفكر في الأمر،وأن تبرر ما فعلت – فهل كانت تستطيع التخلي عن أمل التي كانت إلى جانبها حتى في أسوأ الظروف؟ وأخيرا تضاءل الفرح بذلك النهار. وحتى الشمس،فإنها فقدت بعض حرارتها. ){ص 221 -235 }.إلى اللقاء في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله.
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"11"وتبدأ سلمى في الحلم .. تحلم بحضور (حفلة راقصة ) ... ولكن!! (وتتأمل سلمى الجالسة بين زينل والكالفات،نقوش السجادة الأرابسك التي تكاد ... أن ترقص. ولقد سمعت ماري أنييس تقول إن أستاذا في هذه العصرونيات جاء ليعلمهن الشارلستون فتتخيل الضحكات،والموسيقى،وكأن ساقيها تمشي عليهما النمل ولكن ماذا يجدي أن تحلم؟ فهي لن تذهب.وأصلا،فإنها لا تملك ثوبا مناسبا تضعه على جسمها لمثل هذه الزيارات. ثم إن الزيارة تقتضي أن يُرد عليها بمثلها. فأين تجد المال اللازم لذلك؟وقد أصبحت الأسرة تعيش على ميزانية صغيرة. وفي كل شهرين أو ثلاثة،وعن طريق ابن عم ميمجيان آغا،يأتي صائغ قضى شبابه في إستانبول،وهو مخلص لهذه الأسرة،فتبيعه السلطانة قطعة مجوهرات،تتنازع عليها نساء المجتمع الماروني،اللواتي اغتنين من جديد. لا من أجل جمال الحجرة{هكذا} الثمينة،ولكن من أجل أن يحظين بحمل مخلفات هذه الأسرة العثمانية التي كانت مسيطرة في بلادهن مدة أربعة قرون.ولكن مقتنيات الأسرة من الحلي ليست مما لا ينفد. ويحدث أحيانا أن تتخذ السلطانة لهجة قاسية،وأن تتكلم عن ضرورة الاقتصاد – مما يضحك كل الموجودين في البيت. ذلك أن الأميرة لا تملك أي فكرة عن المال. ولقد رفضت باستمرار أن تراجع الحسابات – وتقول : "أتنظرون إليّ كبائعة؟ أو كامرأة قادرة على تقليب القطع النقدية التي تبعث على التقزز".وكان زينل هو الذي تولى الشؤون المالية للبيت. فهو منذ الآن الرجل الوحيد في الأسرة. ذلك أن خيري في السادسة عشرة من عمره،ليس إلا صبيا يكثر من الحرد. أما وأن السلطانة قد سعدت بخلاصها من هذه المهمة"التي لا تحتمل"فقد تركت له كامل الحرية في التصرف،وما من مرة تتقدم بملاحظة ما،أو تقول كلمة حول تواضع المائدة التي كثيرا ما تكون هزيلة. فهي قادرة فقط على التحليق فوق هذه التفاصيل. وبالمقابل فإنها لا تعرف أن ترفض شيئا على الفقراء الذين يقرعون بابها،{"ترفض"هنا بلا معنى!! والمقصود : أنها لا تستطيع أن ترد سائلا} فكرمها مشهور لدى سكان الحي جميعا،وما من إنسان يفكر في جعلها تلاحظ بأن الدنيا قد تغيرت،وأن عليها أن تكون أقل كرما. ولاسيما سلمى. فلقد رأت دوما من حولها يعطي للأصدقاء والخدم والعبيد والمعوزين. كانوا يعطون. وكان هذا أمرا طبيعيا،يؤلف جزءا من نظام الأشياء. أما اليوم،فإنه لم يعد هنالك مال. فهل هذا سبب كاف للتغيير؟ الحقيقة أنها،كأمها،لا تستطيع أن ترى عينين تتوسلان من دون أن تستجيب لهما. ذلك أن فعل الخير يسرها أعظم السرور. وذات يوم،كانت إحدى رفيقاتها تراها تفرغ ما لديها في حاملة النقود،في كل مرة يمر بها سائل ويمد إليها يده،فاستاءت منها هذا،وقالت لها :- ولكن توقفي عن القيام بدور الأميرة!وفي تلك اللحظة،دهشت سلمى من هذا القول. أما فيما بعد فقد تساءلت عما إذا كانت تعطي ما تعطيه لتحتفظ بوهم التميز عن الآخرين،أو بوضع لم يعد لها أبدا. وقد أقضها هذا التساؤل،بعض الوقت. ثم إنها قالت لنفسها،إنها لا تزيد على أن تنقاد لغريزتها: وكما أن واجب الجندي أن يقاتل،وواجب الطبيب أن يُعنى بالمرضى،فإن طبيعة الأمير،على ما ترى هي،أن يظهر بمظهر الأميري.وجاء موزع "بربري"يحمل رسالة. ولما كان مزهوا بلباسه الأحمر الرسمي الذي يبرز عظمة بشرته السمراء،فإنه وقف على مدخل البهو،حين كانت السلطانة تمزّق الغلاف المزين بتاج ذهبي سميك. وتقرأ :"وصحيح أن (الخديوي) حصل بفضل الإنكليز،على لقب "ملك مصر"،على ما كانت تفكر به،متسلية،وإذا هو بقي على شروط الطاعة المعروفة،فلعله يصل ذات يوم،إلى لقب "الإمبراطور". وكان التسامح الساخر،الذي كانت تستقبل به،بوجه عام،صغائر الغرور لدى أمثالها،قد تلوّن اليوم بشيء من الزهد : وهي غير قريبة من نسيان ما وقع سابقا،وهو أن السلطان الكريم رفض عام 1924 أن يستقبل الأسرة العثمانية المنفية.وتدل الكتابة العالية المركز عليها على شخصية تعي أهميتها،وهذه بنت أختٍ للملك فؤاد،هي الأميرة زبيدة،تمر ببيروت وتحب بهذه المناسبة أن "تَسعَدَ"بمحادثة السلطانة. "أوَ تَسعد. فعندما كنا حماتهم .. ولم يمر وقت طويل على ذلك،أي منذ اثنتي عشرة سنة،كانوا يطلبون التشرف باستقبالنا لهم! ولكن هيا ... سنستقبلها بشكل لائق. ولكنه ليس من المؤكد أنها ستجد فيها .. ما يسعدها!؟.وأخذت السلطانة واحدة من أواخر أوراقها التي تحمل شعارات الإمبراطورية،وخطت،مع بسمة خبيثة،بضعة سطور،تدعو فيها الأميرة إلى زيارتها في الغد،في ساعة الشاي.وكان العقد الثقيل المؤلف من حبات الزمرد يتوهج،وفي المركز ماسة كبيرة كعين السّماني تتألق بأشعتها المتنوعة الألوان.وعلى العتبة وقفت الأميرة زبيدة مبهورة،حتى ليصعب عليها أن ترفع عينيها عن عنق السلطانة.- ادخلي،يا عزيزتي،أرجوك.وفي الحال تعرفت زبيدة على اللهجة الإمبراطورية،حيث يختلط التهذيب المرهف،والسمو الرفيع،مع أكبر قدر من الظهور على السجية،هذه اللهجة التي تملؤها وهي فتاة شابة،بالإعجاب،والحقد،والتي لم تصل،مع جهودها كلها،إلى تقليدها.وعلى الكرسي العالي،في آخر الصالة،كانت السلطانة في شكلها القاتم،تنتظر،بلا حركة.وبسرعة تعود الأميرة إلى نفسها،وتنحني بلطف مقدمة أعمق تحياتها وتمنياتها،واليد على القلب،ثم الشفاه،ثم على الجبهة. وعندما تنتصب واقفة،ترى نظرة باردة،كلها تساؤل. ومن المؤكد أن مضيفتها كانت تتوقع ثلاث انحناءات،كما يقضي بذلك العرف في البلاط العثماني. وفي هذه القاعة الضيقة في بيتها البيروتي المتواضع. تبقى السلطانة "سلطانة"أكثر منها في أي وقت آخر. وتعود هذه المرأة الشابة،بعناء كبير،فتنقاد للعرف،موائمة بين تمنياتها وبين المكان الشديد الضيق،في الوقت الحاضر،محمرّة خجلا منذ البداية بعد أن أعيدت بصمت،ولكن بوضوح إلى مكانها.وأخيرا تبتسم لها السلطانة،وتشير إلى مقعد قريب منها لتجلس عليه. ولا تدرك ما وراء ذلك إلا بعد أن جلَست : ذلك أن المقعد الذي تجلس عليه الأميرة أدنى من الكرسي العالي الذي تجلس عليه السلطانة،مما يرغم الأولى على مد عنقها لكي تكلم مضيفتها : ذلك هو مبدأ العرش ومقاعد الدوقات الصغيرة. وكانت الأميرة التي شعرت بأنها تضيق بجلستها أكثر فأكثر،تتساءل عما إذا كان يجب عليها أن تعتبر نفسها مهانة،وأن تعرب عن ذلك. وفي هذه اللحظة بالضبط تتلكم السلطانة بأعذب لهجة في العالم لتشكرها على إضاعة جزء من وقتها الثمين للقيام بزيارة لمسكينة منفية. ترى هل كانت تسخر؟ ولكن ما الوسيلة لاتخاذ موقف بائس،أمام هاتين العينين البراقتين،وهذه الكلمات التي تقطر عسلا ..؟لكن الساعة التي تلت كانت من أطول الساعات التي عرفتها الأميرة زبيدة في حياتها،فقد جاءت متوجة بثروتها،وقوتها،لتلاحظ شقاء أسرة كانت دوما تغار منها،وفي نفسها أن تتألم،وتواسي،بل لتقدم بلطف وذوق،مبلغا صغيرا خبّئ في أعماق حقيبتها. وهاهي الآن تستقبل بنبل وتعاظم كانا أكبر مما عرفته في الأيام التي كانت فيها هذه الأسرة هي الحاكمة.وتساءلت الأميرة عن الأقاويل التي كانت تذاع عن فقر السلطانة – وحتى عن شقائها على ما كان يقول بعضهم. ترى كيف أخذت بها وخُدعت إلى هذا الحد. وحقا فإن البيت ليس كبيرا،ولكن حليّ السلطانة،وفخامة الاستقبال،حيث كانت تتتابع المشروبات،والحلوى المقدمة في آنية من أفخر ما يوجد من أنواعها،أي من الفضة المذهبة،وعلى أيدي ثلاثة من الخدم الذين يتقنون المهنة إلى أبعد حد،كل ذلك لا يدل على الضيق : فماذا تفعل؟ وكان التساؤل مثيرا للغاية،وكان من المستحيل طرحه.ومنذ أن حانت فرصة طبيعية،عادت الأميرة فقدمت شكرها،وطلبت الإذن بالانصراف،دون أن تنسى التمنيات – التي قدمتها،ثلاث مرات،دون أن تدير ظهرها،أمام السلطانة الجالسة على كرسيها العالي،التي تبتسم لها في طيبها العظيم.أما الشيء الذي لن تسمعه الأميرة المنكودة الحظ زبيدة،وما هي بعيدة عن تخيله،فهو انفجار الضحك لدى السلطانة خديجة بعد مغادرتها مباشرة.- حقا لم تكن تلك المرأة المتصنعة تصدق ما تراه عيناها! وأعتقد أني لقنتها درسا جيدا!ولن نحصل بسرعة على زيارات من هذا النوع. هيا،يا أبنائي،تعالوا،فالحلوى لذيذة جدا!فجاءت سلمى وخيري و زينل والكالفتان المتنكرتان بزي القائمات بالخدمة،وجلسوا جميعا على الطاولة. وتبعهم رجل قصير،أجلسته خديجة إلى يمينها،وملأت له هي بنفسها صحنه. إنه صديقها الصائغ الأرمني الأمين. وسيغادر المنزل بعد ساعة،وفي كيسه الجلدي الكبير،ذلك العقد الضخم،وصحون الفضة المذهبة التي أعارها للسلطانة بهذه المناسبة.){ص 239 - 242}.لابد أن تنتهي هذه الحلقة هنا ... والسلطانة تحتفل بهذا (الانتصار الصغير) .. هل من جديد في هذه الدنيا؟!!الملك فؤاد يرفض استقبال (الأسرة العثمانية المنفية) ... ثم لا يجد (رضا بهلوي : ملك الملوك) من يستقبله ... غير "السلطان" محمد أنور السادات ... وها هو "السلطان" زين العابدين بن علي معلقا في السماء لعدة ساعات لا يجد من يستقبله!!!!!!!!!! وذلك (الصهيوني) يحاول (إهانة) السفير التركي – قبل سنوات – بإجلاسه على كرسي أكثر انخفاضا من كرسيه هو!!!!! إلى اللقاء في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله.
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"12"نبدأ هذه الحلقة،بحنين (سلمى) إلى وطنها ... (في وسعنا،بكل هدوء،أن نلاحظ مرفأ بيروت،من شاطئ مدينة الحصن،من فوق صخرة تنهض عموديا من البحر.وفي كل خميس،تأتي الباخرة بيير – لوتي من إستانبول،وتفرغ حمولتها من الركاب. وبعد عدة ساعات،وعندما تكون قد امتلأت بالبضائع والمسافرين،تعود الباخرة البيضاء الكبيرة من جديد إلى العاصمة،وتحمل معها أحلام مراهقة تستند إلى الجانب الصخري،وتتابعها بنظراتها،بعنف،حتى تختفي عند حدود الأفق. وفي البداية كانت سلمى تنزل إلى المرفأ. وهناك تختلط بالجمهور،وتترك الناس يزحمونها ويهدهدونها،وعيناها مغلقتان،محاولة أن تجد آثار أصوات بلدها،ورائحته. ثم إذا هي غمرت بذلك كله،عندئذ،وعندئذ فقط،كانت تسمح لنفسها بالنظر. ويبدو لها عندئذ أن هذه الوجوه التي رأتها،تعرفها،وكانت تتفحصها بحماسة،واحدا بعد آخر،محاولة أن تلتقط في النظرات صورا تحدثها عن مدينتها،وأن تجد في بسمة ما،ذلك الألق المتشوق،لغروبات الشمس،على القرن الذهبي. وكانت تمسك نفسها بعناء عن سؤال الناس : هل الأهل في إستانبول سعداء؟ وأن تطلب قطعة من خبز السمسم،تجاوزت السلة،لتلحظ بها حرارة نبرة،أو وردة ذابلة.وكان هؤلاء المسافرون،المزدانون بأوهامها،موضوع تأمل من قبل هذه المسكينة. وكانوا يتجاوزونها،مندهشين،مستنكرين. أما بعد ذلك، فقد فضلت أن تلجأ إلى صخور هذا الشاطئ الخيالي.وبعيدا عن الجمهور الذي ظل محتفظا بسره،وعن هذا الشيطان ذي الجوانب الحسنة الاستقبال والهادئة،تجد حلمها بصورة أفضل. (..) واستمر ذلك حتى فقدت بييرلوتي،بالتدريج،سحرها وأصبحت كغيرها من المراكب،وأصبح لركابها ذلك الوجه العاجي المغتبط،كالمسافرين الذين يفدون من أية نقطة في العالم. (..) وبعد ذلك. وبعد زمن طويل من نسيانها طريق المرفأ،بدأت سلمى تتساءل عما إذا كانت تمضي إلى هناك لتغذية عذابها،أو لتقضي عليه،ولتتحرر منه.){ص 259 - 260}.وتنتقل دفة الحديث إلى السلطانة خديجة .. (وهذه السلطانة التي كان قصرها أورطاكوي،يعج بالناس،والتي كانت تقسم وقتها بين أعمال البر التي تقوم بها،وبين المناقشات السياسية،وبين مجالس الأسرة،وأصدقائها وصديقاتها،والتي كانت تشرف على جيش من العبيد والخادمات وتقوم هي نفسها بحل مشكلة كل واحد منهم على حدة،هاهي ومنذ سنتين،محصورة في هذا البيت،وليس لها من صحبة غير هاتين الكالفتين،وغير هذا الخصي ... وحقا فإن زينل أكثر بكثير من خصي،إذ لقد أصبح المحاسب،وأمين السر،والمستشار في كل ما يهم الحياة اليومية،ولكن هل هو صديق،أو ممن يباح له بما في النفس؟ إن سلمى تعرف أمها،وتعرف أنها حتى إذا أصابها اليأس،فإنها لن تتساهل ... تجاه الأدنى. وليست القضية قضية زهو أو عجيب – فالسلطانة تقدر زينل أكثر بكثير مما تقدر أغلب أمراء الأسرة – ولكنها قضية منظومة من القيم،وهي من الرسوخ،بحيث أنه ما من كارثة تستطيع هزها أو زلزلتها : إذ لا يطلب العونُ من أولئك الذين يعتبرون بحكم التقاليد،ممن علينا أن نحميهم،فمع هؤلاء يمكن أن نتقاسم الأفراح،ولكننا لا نتقاسم المصائب والأتراح.{يبدو الأمر شبيها،حد التطابق،مع رفض بعض الرجال استشارة زوجاتهم!! وهم الذين يفترض فيه أن يكونوا "حمتهن"!!!} وفي القاعة يجلس شخص مهيب،كله أسود : إنه نائلة السلطانة بنت السلطان عبد الحميد. وكانت الأسرتان لا تتزاوران في إستانبول. ولكن المنفى قرّب بينهما. وما أقلهم عددا في بيروت! ذلك أن أكثر الأمراء والأميرات قد تبعوا الخليفة إلى نيس،حيث عاد للتكوّن،بلاط صغير. وإلى هنالك ذهب العم فؤاد – "إلى بلاد النساء الجميلات"على ما كان قد صرح به،مغطيا شقاءه بالمزاح – والسلطانة الفراشة التي طالما حلمت بأن تعرف الشاطئ اللازوردي. وكثيرا ما كانت سلمى تفكر بهذه الخالة،المرحة،الأنيقة،التي كانت تدفع بالذوق إلى الدرجة التي كانت معها تجعل فرش عربتها منسجما مع لون أثوابها،يوم تحتاج إلى التنقل. ترى ماذا فعل الله بها؟ وهل هي سعيدة في باريس؟ بل إن مراهقتنا لا تستطيع أن تتخيل صورة حياتها هناك. أما فهيمة السلطانة فقلما تكتب عن أخبارها. وبالمقابل فإن فاطمة السلطانة،تكتب بانتظام. فلقد استقرت في صوفيا مع زوجها وأولادها الثلاثة،وأصبحت تعيش حياة هادئة،يضيئها وجود شيخ عظيم للدراويش،تزوره عدت مرات في الأسبوع.(..) والباقي هنا – هو المنفى،والعودة الممكنة – وهذا ما كانت تتحدث عنه السلطانة خديجة وابنةُ عملها نائلة. أما أخبار إستانبول فسيئة. ذلك أن مصطفى كمال أوقف أهم معارضيه،بحجة اكتشاف مؤامرة ضده. وبعد أن حوكموا محاكمة تافهة،صرح خلالها القاضي "علي الأصلع"للصحفيين بأن المتهمين كانوا مذنبين حقا،نُصبت لهم المشانق،وتم التنفيذ هذا الصباح،في 27 آب / أغسطس 1926. وكانت إذاعة لندن هي التي أشاعت الخبر،وأوضحت أن الوضع هادئ. أما محاكم الاستقلال فإنها تظل عاملة، في المدن كافة.وتعبر السلطانة خديجة عن استيائها،وإذن فمن بين كل الأبطال الذين حاربوا من أجل استقلال تركيا،لم يبق أحد؟ وعلى كل حال يبق الوزير الأول عصمت اينون. وقد أطلق عليه لقب"سوط الغازي"لأنه شديد على الذين ينحرفون عن الخط. أما أكثر الآخرين،مثل رؤوف باشا ورحمي والدكتور عدنان وخالدة أديب،فقد نفوا أنفسهم منذ عدة أشهر. وعندما حل كمال الأحزاب رأى هؤلاء أنه لم يبق لهم ما يفعلونه،وأنهم هم أنفسهم في خطر. وتنهدت السلطانة . وقالت : - مسكينة تركيا. وماذا أقول عندما أفكر بأن هذه الحكومة مضت إلى حد تغيير اسم الله وأن على الناس في المساجد أن يُصلوا لـ"تانري"بحجة أنه اسم أكثر تركية! .. ولقد انتظرت مدة طويلة رد فعل الشعب على هذا،ولكني ألاحظ الآن أنه مقيد تماما.وهنا ضعف صوتها،وتابعت تقول : - وأصل من هنا إلى التساؤل،عما إذا كنا حقا سنعود يوما ما لديارنا .. وبلادنا ... وهذه هي المرة الأولى التي تعترف فيها السلطانة بشكوكها. فأخذ الاضطراب بسلمى كل مأخذ،واقتربت،فقبلت يد عمتها،وجلست على الوسادة إلى جانب أمها. - أيندجيم،من المؤكد أننا سنعود. ففي إستانبول،كل الناس مستاؤون،كالطلاب،والمثقفين،ورجال الدين،والتجار خاصة. وتذكري ما كتبه ميمجيان آغا إلى ابن عمه : "إن السوق كلها معادية للنظام الجديد،وعندما تبدأ السوق بالتحرك،فإن القادة يكونون في خطر".وكانت المراهقة قد وضعت في نظراتها كل ما تستطيعه من القناعة : إذ يجب ألا تفقد أمها الأمل. فبدأت الأم تداعب بحنان،خصلات شعر ابنتها الأحمر. - إنك على حق يا بنيتي. وقد تنتابني أحيانا نوبات اكتئاب ليس على الإنسان أن يُعيرها أي انتباه.وتشعر سلمى بقلبها ينقبض : فإنها تقبل كلامها حتى لا تحزنها،وكل منهما تمثل على الأخرى. وفي الحقيقة فإنهما،كلتيهما،تعرفان. تعرفان؟ وتعود فتنتصب،استياء – فماذا تعرفان؟ لا شيء! بل هما بكل بساطة في حال من قبل الهزيمة. ولكن سلمى،وهي وحدها،ترفض! "إذ يجب أن تناضل،على ما كانت تقوله قديما أيندجيم. فكل شيء ممكن دائما". (..) وذات صباح،ومن غير أن يحدث شيء ينبئ عما سيكون،استيقظت سلمى مرهقة،مثبطة العزيمة. ونظرت إلى غرفتها ذات الأثاث العادي جدا،وفكرت : "إن الحقيقة،هي هذا!". ودفعة واحدة،استولى عليها اليأس،وارتمت على وسادتها وبدأت شهقات البكاء. آه،كم تكره لبنان. فنحن دوما أمام هذا البحر الأزرق،وهذه الشمس العنيدة،وهذا المرج! وكم تكره هؤلاء الناس الذين يستقبلونها في"بيوتهم"،وكل هؤلاء الذين يستطيعون أن يقولوا : "جماعتنا،بلدنا،وطننا"من دون أي رغبة في البكاء. وكل هؤلاء الذين يخصّون الآخرين ... وأبدا لم تعود فتجد إستانبول،ولن تخص أحدا مطلقا. ففي كل هذه الأيام،كانت تكذب على نفسها. إذ لا يمكن أن نناضل إلا إذا كان لنا أرض نقف عليها،ونحارب فيها وجها لوجه،أرض لنقع فيها،ومنها سننهض. ولكن عندما لا يكون هناك ما يثير فيك أي صدى،وعندما لا تستطيع يداك أن تلمس شيئا لك حقا،وعندما يحكم على أقوالك بأن لا تكون أكثر من ضجيج ... فأنى لك أن تحارب؟ وضد ماذا؟ وضد من؟ (..) – ولكن من الذي سرق البسمة من ابنة عمي الحلوة؟وكان قد وصل الأمير أورهان،حفيد السلطان عبد الحميد،وهو يوقد سيارة من نوع دولاهي،بيضاء رائعة. إنه يقوم بوظيفة تاكسي،كما يقول. وهذه طريقة في أن يضع نفسه في خدمة كل الناس،وبالتالي لا يخدم أي إنسان. كان قصيرا ونحيلا،ولكنه ذو قوة هركولية،ومزاج حاد،وهو لا يتردد،عندما يتخذ زبون ما لهجة لا تروقه،لا يتردد في أخذه من عنقه،ورميه خارج السيارة. وهكذا وجد بعضهم نفسه ملقى على الأرض،دون أن يفهم ماذا كان يحدث له : وكان ذلك فقط لأن سموه شعر بأنه شُتم. وسلمى تعشق هذا الرجل. فهو غريب،لا يتقيد بالمواضعات،على نقيض ابن عمه خيري الذي لا يرتدي منذ بلغ الثامنة عشرة من العمر،إلا بدلات قاتمة وياقات منشّاة،حتى في عز الصيف. أما أورهان،فإنه في العشرين من عمره،ولا يتخذ موقف الجد من شيء. وهو يأبى الكلام عن تركيا،ويسخر من مزاج ابنة عمه الصغيرة.إنه دمك السلافي! فكل هؤلاء الجميلات الأوكرانيات والشركسيات،اللواتي حلّى بها أجدادنا حريمهم،نقلن إلينا حبة! هيا،يا أميرة،استفيدي من حريتك. فأنت تعرفين أنك في إستانبول تظلين سجينة. هيا أسرعي وجمّلي نفسك،فأنا آخذك لأنزهك.ويركبان،ضاحكين،في السيارة البيضاء،تحت بصر السلطانة المتسامحة. فابنتها الصغيرة بحاجة إلى بعض التسلية،ومع أورهان،تكون تحت حراسة جيدة.وأخذ الاثنان طريق دمشق،الذي يصعد متثنيا بين أشجار الجيكاراندا ذات الأزهار البنفسجية،والعندم الهندي،والعرعر. ولقد طلبت سلمى،بأعذب صوت لها،أن تسرع السيارة،وأن تمضي بعيدا. (..) وتنهدت لشعورها بالراحة،وأنزلت زجاج السيارة وعرّضت وجهها للهواء،وكانا كلما ارتفعا على الطريق،ابترد الهواء،وصفا الضياء وترك الصنوبر والسرو مكانهما لأشجار الخروب،ذات الجذوع الملساء والأوراق الخضراء البرونزية،الناعمة الملمس،حتى ليكاد الإنسان أن يداعب جسده بها.ولقد تجاوزا بحمدون. وانتصبت أماهما سلسلة جبال لبنان،الزرقاء بعض الشيء،مما عليها من ضباب،وتميز فيها بعض شعاعات الشمس،قمة جبل صنين الملأى بالثلج.وقفزت سلمى من العربة،وبدأت تعدو على الطرق،في وسط الحشائش العالية،والغويبات الملأى "بالوزال"ووجهها يتطلع إلى السماء،وذراعاها مفتوحتان،كما لو أنها تريد ضم كل هذا الأفق،وامتصاصه،وتملكه،ثم تعدو وتعدو حتى ليقال،إنها لا تريد أن تقف،فتسمع من بعيد صوت أورهان،يناديها،ولكنها لا تلتفت إليه،وتريد أن تبقى وحيدة مع هذه الطبيعة التي تردها إلى نفسها،والأقرب إليها من أعز الصديقات،هذه الطبيعة التي تستسلم لها دون الخوف من أنها ستتخلى عنها،والتي تشعر من كل مسامها بأنها تدخل إليها،وتهبها القوة،والشدة.وارتمت بعنف على العشب،وهي تشم الآن رائحة الطبيعة،ورأسها فيما يشبه الدوار،وتصعد إلى ساقيها وبطنها تلك الاهتزازات الحارة للأرض،وهي تشعر بأنها تنصهر فيها. إنها لم تعد سلمى،بل هي أكثر من ذلك،إنها هذا الغصين من العشب،وهذه الوريقات،وهذا الغصن الذي بتمطى لكي يبلغ السحاب،بل هي هذه الشجرة التي تمد جذورها حتى الأغوار العميقة والخفية لولادتها،وهي هدير النبع وماؤه الشفاف الذي ينطلق هاربا،فيبقى دوما هناك. إنها مداعبة الشمس،دوران الريح،وهي لم تعد سلمى،بل هي موجودة،فقط.وعلى طريق العودة لا تنطق الفتاة بأية كلمة،وتحاول أن تحمي فرحها،كأنما هو لهب ضعيف تخاف أن يخبو. وظن أورهان أنها حزينة،فجد يبحث عن طريقة لتسليتها. ويقص عليها مئة قصة لا تسمع منها شيئا. ولعلها تؤثر أن يسكت. ولكن أنى لها أن تفهمه أن الصمت قد يكون أعز الرفاق،وأكثرهم حرارة وأعظمهم انتباها،{طبعا هذه العبارات تذكر بالحكمة المشهورة لـ"كونفوشيوس" : ((الصمت صديق لا يخون أبدا))} وأوسعهم كرما،وأنها في كلمة "الوحدة"ترى "الشمس". { في الهامش : كلمة الشمس بالفرنسية هي Soleil،وكلمة الوحدة التي تعني العزلة هي Soletude،ومن هنا نشأ جناس خاص،لا يمكن إنشاؤه في العربية.}.وفيما بعد،عندما كانت سلمى تذكر هذه الفترة من مراهقتها،كانت تقول : إنها هذه الصلة الرحيمة مع الطبيعة التي حمتها من اليأس،وردتها إلى نفسها. ولولا هذه الانطلاقات في هذا العالم السحري،لما احتملت الانفصال عن كل ما كانت تحبه،ولما استطاعت،على الأرجح،أن تقاوم الاكتئاب اللاذع،الذي كان يهاجم شيئا فشيئا،منزل طريق رستم باشا.){ص 262 -267 }.إلى اللقاء في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله. س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة ((سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب))
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
إجازة : ليست لكم بل لي!!!!!!!!! فقد هاجمتني (آلام) في (الظهر) .. دعواتكم أبو أشرف حياة أميرة عثمانية في المنفى"13"هذه الحلقة تبدو امتدادا ليأس سلمى في الحلقة الماضية،ولكننا هنا أمام السلطانة خديجة ... (وكانت السلطانة تنهار أكثر فأكثر كل يوم. ثم إن إعادة انتخاب مصطفى كمال لرئاسة الجمهورية،مرة ثانية،في تشرين الثاني / نوفمبر 1926،أصابتها بصدمة لن تبرأ منها. ومنذ الآن،رأت نفسها مرغمة على القول بأن الشعب التركي لن يحارب من أجل عودة الأسرة العثمانية. وتأثرت بذلك صحتها،وازدادت خطورتها. وجاء الطبيب فشخص لديها مرضا في القلب. وقالت له مبتسمة : "حقا يادكتور،إن القضية قضية مرض في القلب"،وتطمينا لزينل وللكالفات،قبلت أن تتناول،كل يوم،جملة الحبّات والنقاط التي كانت زجاجاتها مصفوفة على طاولة نومها. وكان ما يقلق سلمى أكثر من المرض،هو ذلك الانقياد أو المطاوعة اللامألوفة لديها : وهي تشعر جيدا أنها ليست نتيجة الأمل في الشفاء،بل نتيجة اللامبالاة العميقة في بالحياة،كأنما هي استقالت منها.وكانت المراهقة تتألم من أجل أمها. وفي الوقت نفسه كانت تحقد عليها أنها لا تقاوم ما بها. وتلك التي كانوا يسمونها "جيها نجير" "غازية العالم" – وإلى هذه الدرجة كانت قوتها لا تنحني في الخصومة – ليس لها الحق في ترك الأمور على عواهنها،ولا الحق في التنكر لنفسها! ولا يجوز لها أن تكشف ضعفها للناس،كأي واحدة من البشر،بل يجب أن تستمر في البقاء "سلطانة". ولئن كان الوثن يبدأ بالتحطيم،فإن العالم كله حولها ينهار.) {ص 267 - 268}.وانتهت السنة دراسية،وتتعلق سلمى بالسينما،أما السلطانة .. (فإنها لم تقف ضد حب سلمى للسينما،وتعلقها بها. وتقول لنفسها إن خيال ابنتها سيجد ما يتغذى به في هذه القصص الرومانطيقية الجميلة،أكثر مما يجد في الوحدة،داخل بيت،كل ما فيه يتحدث لها عن الماضي. فهذا الفن السابع هو في سبيله إلى أن يأخذ مداه. وهناك شركة هوليودية كبرى اسمها Warmer Bros،نجحت نجاحا ضخما في إنتاجها فيلما ناطقا باسم مغنى الجاز،حيث نجد الممثلين يتكلمون. وهكذا اعتادت سلمى وأمل،أن تذهبا إلى السينما كل يوم جمعة في الساعة الثالثة،في الحفلة المخصصة للنساء. ويأتي مروان بسيارته إلشيرنار وووكر التي تحمل النسر المذهب الشهير،فيوصلهما إلى السينما،ثم يعود بهما عند نهاية الفيلم.ولكن كثيرا ما تقع أخطاء فنية عند العرض،وقد يحدث أن هاتين الفتاتين المراهقتين من انقطاع العرض،تتركان السينما المظلمة وتذهبان فتتنزهان في ضياء الشمس.وهذا الحي من المدينة،الذي تجتمع فيه كل قاعات السينما،هو بذاته مغامرة. وهو يبدأ من ساحة المدافع،التي اصبح اسمها ساحة الشهداء،منذ أن قام جمال باشا التركي بشنق أحد عشر معارضا فيها،عام 1915. وهذا الحي هو أكثر الأحياء حركة،وكثرة مارة،في بيروت،وهو مجمع المقاهي العربية،حيث تجد رجالا يضعون الطرابيش على رؤوسهم،ويقضون ساعات طويلة في لعب الطاولة،بكل رصانة،(..) ثم إنه المكان الذي تكثر فيه المطاعم والمقاهي الليلية،أي هذه المحلات التي تتحدث عنها النساء المسلمات في رأس بيروت،ويقلن إن النساء فيها يرقصن عاريات. وتأخذ سلمى بيد أمل : فبمجرد المشي بجانب هذه المحلات يعني أنك تذوقت الثمرة المحرمة. وكان في ذهنهما أن الناس جميعا ينظرون إليهما،وتتخذان صورة اللا مبالي وهما تقطعان الساحة ببطء،باتجاه المطعم الفرنسي،"وهو ملهى مرح جدا" على ما قال أورهان الذي زاره مرة.){ص 271}.ويقترب حلم سلمى – بحضور حفلة – من التحقق،ولكن مع مؤامرة صغيرة،بين الصديقتين :(وعندما وصلت بطاقة الدعوة،كانت أمل،كما لو أن الأمر،بالصدفة،عند صديقتها – وسألت السلطانة بلهجة الاحتقار :من عساهم أن يكونوا هؤلاء السرسق؟ أيكونون تجارا على ما أقدر؟وأجابت أمل بلطف :أوه،كلا،يا صاحبة السمو،إنهم إحدى العائلات الكبيرة ويقومون بأعمال ضخمة في ... وقاطعت السلطانة كلام أمل بجفاف،قائلة :إن هذا ما كنت أقوله. إنهم تجار.من حسن الحظ أن السيدة غزاوي كانت موجودة هناك. وهذه لبنانية ولدت في إستانبول،وتزوجت أحد كبار الموظفين. فشرحت للسلطانة أن "السرسق"هم أحسن من يوجد في لبنان! وهم روم أرثوذكس،بطبيعة الحال،ولكنهم في النعومة،التي للسنيين. ففي أبهائهم لا نلتقي إلا بأفضل شخصيات المجتمع اللبناني. ولئن شاءت الأميرة سلمى أن تخرج إلى الناس ذات يوم،فإنه لا يمكن أن يوجد مكان أفضل من قصر السراسقة. ولكن إذا كانت،سموك،تبتغين إبقائها في البيت،بطبيعة الحال ... وكانت سلمى مستعدة لتقبيل السيدة غزاوي على دفاعها هذا،ولكنها كانت مسرورة بتقليب صفحات إحدى المجلات،وعليها سمة اللا مبالاة،كأن الأمر لا يعنيها.وتتردد السلطانة خديجة. فالسيدة غزاوي تعرف معرفة كاملة عالمها اللبناني الصغير،واتضح أن نصائحها ثمينة ،دوما : ولكن ملاحظتها الاخيرة هي التي هزت أركان السلطانة،ذلك أنها تنسجم مع الهم الذي بدأ يسكنها منذ بعض الوقت،ويمنعها أحيانا من النوم : ترى ماذا سيكون أمرُ سلمى؟وعندما كانت في المدرسة،مشغولة بدراستها،فإن هذا الأمر لم يكن مطروحا،ولكن الآن؟ الآن والمنفى يطول،والعودة إلى تركيا تبدو مجرد خيال،فإذن ماذا سيكون أمرها بعد هذا؟يجب أن نجد لها زوجا،و مسلما طبعا،وغنيا،وأميرا على الاقل،وهذه شروط الثلاثة يستحيل الجمع بينها في هذه البيروت،حيث لا تطمع حتى العائلات السنية بزواج مع بنات الأسرة العثمانية. ولعل ذلك ممكن من جهة الأسرة الملكية المصرية،أو من الإمارات الهندية..؟ وبانتظار ذلك،فإن السيدة غزاوي على حق. فليس على سلمى أن تبقى قابعة في البيت. ويجب أن تتعلم منذ الآن الدخول في المجتمع. ولا تكفي المعرفة التي يمكن أن تنقلها السلطانة إليها،لتقوم بهذا الدور،بل إن على ابنتها أن تجابه الواقع. (..) وبكل نعومة تستدير السلطانة نحو أمل،وتقول لها :عودي في الغد،يا بُنيّة. وسأعطيك جوابي.والحقيقة أنها كانت قد اتخذت قرارها. فسلمى تذهب إلى دعوة ليندا سرسق. ولكن بقى هنالك مشكلة صعبة : فماذا تلبس؟ إذ ما من مال متوفر لشراء الفستان المناسب. ولكنّ عليها،بين كل هؤلاء اللبنانيات المترعات بالحلى،واللواتي يلبسن أحسن ما تخترعه الخياطة الفرنسية،أن تحتفظ بمقامها! لكنّ لدى السيدة غزاوي رايا في هذا الموضوع،وهي امرأة ذات .."لئن استطعت أن أسمح لنفسي،يا صاحبة السمو،فإني أسأل لماذا لا تقوم ليلى هانم التي تملك أصابع الجنيات،بأخذ واحد من أثوابك القديمة،وتطوره لهذا الغرض؟ فهذه الثياب الفخمة المقصبة لابدّ أن يسوء حالها إن هي بقيت نائمة في الخزائن.ويلاحظ الجميع أن هذه الفكرة رائعة الذكاء،فتقوم سلمى عندئذ باختيار فستان حريري لونه أزرق بحري،يبرز لون عينيها.وخلال ذلك يصل سورين آغا. فيوضع في الصورة. إذ لقد أصبح الارمني صديقا للاسرة منذ أن أشار ذات يوم على الأميرة،وضد مصلحته هو،أن تشتري بثمن المجوهرات التي تبيعها له،أسهما في الشركات،لكي تستفيد من أرباحها. ولقد وضع نفسه في خدمة زينل في هذه القضية الحساسة. فكسب بإخلاصه ووفائه ثقة كل هذه الأسرة،وكل أفرادها.(..) وربما لاحظ الإنسان أنه يريد أن يقول شيئا،ولكنه لا يجرؤ. وأخيرا غامر،محمر الوجه،بالقول :عفوك يا سيدتي السلطانة،واغفري لي جرأتي،ولكن الأميرة سلمى جميلة. ويجب أن تكون الأجمل،فهل تقبل أن تختار بين الحلي التي أملكها ما ترى أنه الأفضل بالنسبة إليها. كل ما لديّ هو بين يديها،في كل المناسبات التي تحتاج فيها إلى الحلي،وسيكون ذلك شرفا كبيرا لي! وتأثرت السلطان بهذا القول،وابتسمت للرجل القصير،ومدت إليه يدها التي أمسك بها،متعثرا،وقبّلها بحماسة.الآنسة أمل الدروزي،والآنسة سلمى رؤوف،والسيد مروان الدروزي.هكذا قدم المعلن القادمين الجدد،وألقى بنظرة حائرة على الفتاة التي تصحب الدروزي. إذ أنه لم يرها قط في "أربعاءات"ليندا سرسق،(..) وكانت المضيفة قد أسرعت إلى لقاء القادمين الجدد. (..) ولكن اعذروني،إني أترككم،فها هو غبطة البطريرك!وتنطلق مهفهفة لكي تقبل الخاتم الذي يتألق في اليد المعطرة. (..) وقاد مروان الفتاتان إلى الشرفة،وهي مكان مثالي ليستمتع الإنسان،دون أن يزعجه أحد،برؤية هؤلاء الحاضرين بألوانهم الغريبة. وبدأ مرشد سلمى يعرفها بالحضور.فهذا السيد النشيط،الذي يضع قرنفلة في مزررته،هو نيقولا بطرس،من عائلة من الروم الأرثوذكس أيضا،وهي تنافس عائلة سرسق في فخفخة الاستقبالات. وإلى جانبه الماركيزة جان دو فريج،وهي نبالة بابوية،تلقبها ألسنة السوء"بالماركيزة من عهد قريب". وأبعد منها،هذا السيد القصير،وهو هنري فرعون،رئيس الناي الأدبي،وهو لا يعطي انطباعا هاما،ولكن لا تنخدعي بمظهره،فهو يملك أعظم مجموعة من الأشياء الفنية في لبنان كله،وسوريا على أغلب الظن! (..) وانظري،إن الأميرة شهاب قد وصلت. وهي تنتسب إلى أقدم اسرة أمراء الجبل،وهاهي الجميلة لوسي طراد،مصحوبة بجان تويني،هذا الكهل المتميز جدا،فقد كان سفيرا للأمبراطورية العثمانية،في عاصمة القيصر الروسي،وهو صديق شخصي لإدوار السابع.(..) ويضحك الجميع،دون أن يلاحظوا أن رجلين كانا منذ بضع دقائق،يراقبانهم من الجهة الأخرى من الشرفة،مراقبة المهتم الحريص.أقول لك إنها فرنسية! فانظر إلى هذه القامة المشيقة،والخصر النحيل،والبشرة البيضاء،إنها روعة حقيقية!إنك لا تعرف من الأمر شيئا يا أوكتاف! فهذه العيون الناعسة،وهذا الفم البض الشفتين،البريء والشهواني معا،لا يمكن أن يكون إلا لواحدة شرقية.حسنا،فلنتراهن،يا ألكسيس. ولكن لنتراهن،لا على أصل الفتاة،بل على أي منا يكسب مودتها.لم أكن أتوقع اقل من ذلك من ضابط فرنسي،فأنت دائما مستعد للهجوم،أليس كذلك؟ ولكن حذار. لقد لاحظت يدها فهي غير ذات بعل. (..) وبكل سهولة ويسر،اقتربا. وإذن،يا صدقي مروان!وبصورة أليفة جدا،ضربا على كتف الشاب ضربات خفيفة،وانحنيا أمام أخته،مع شيء من التردد أمام سلمى.الآنسة؟ وتسرع أمل فتقول :الآنسة سلمى رؤوف. يا سلمى إني أقدم لك ابن العم الصغير لمضيفتنا. ألكسيس،والكابيتين أوكتاف دي فير بري.ويبدأ الحديث،بحيوية. وهذان القادمان الجديدان يتمتعان بحب النكتة،وبجمال الخلقة،وهذا الأخير لا يفسد فيهما شيئا.وكانت نظرتهما المعجبة تجعل سلمى شديدة الخفة. ولنذكر الآن أنها كانت قد ترددت في المجيء،خجلا وخوفا من أن يصيبها الملل! ويتناول الحديث كل شيء ولا شيء. وبصورة خفية يسال ألكسيس سلمى :آه : أنت مستقرة إذن في بيروت. وأبوك ديبلوماسي فيها على الأرجح؟ لا؟ هل هو ... ميت؟وتخذ وضع المتالم.أرجوك أن تعذريني. يجب أن تكون أمك متألمة من الوحدة،وأنا واثق من أمي ستسعد بأن تدعوها إلى حفلة شاي. أفلا تخرج؟ أم هي مريضة؟ ما أكثر البؤس! وهكذا فأنت زهرة حلوة وحيدة. ..ويحمر وجه سلمى. فما من مرة كلمها رجل بهذه الصورة. والواقع أنها لم تسنح لها فرصة للكلام مع رجل،غير إخوة صديقاتها،اللواتي يعتبرنها كأخت. وبدأ قلبها يخفق بسرعة أكثر بقليل. ترى أهذا هو ما يسمونه "المناغشة"أو الغزلFieurt؟ وهذه اللحظة التي يختارها مروان،غير الشاعر بما يجري حوله،ليتذكر بأنه لم يقدم احتراماته للخالة إيملي.(..) ويبستم ألكسيس إذ يرى مروان يبتعد ويقول :إن هذا المروان رجل لطيف حقا.وقالت سلمى :بلى،دون أن تدرك الغمزة،مما أضحك أوكتاف كثيرا.وغامر فقال ايضا :أولا ترين،يا آنسة،أن هذه الأمسية تتطاول قليلا،بل ليس هناك من موسيقى جيدة. فهل تحبين الرقص؟وترد سلمى :أحبه كثيرا،ولعلها تفضل أن تفرم قطعا صغيرة من أن تعترف بأنها لم ترقص قط،إلا مع رفيقاتها في الصف.وإذن فأنا أقترح عليك شيئا أكثر إمتاعا من هذا الاستقبال المزعج. سنقوم بتهيئة حفلة لديّ،مع بعض الأصدقاء،ونساء جميلات. ولديّ آخر الاسطوانات التي ظهرت في باريس. وأنا أضمن لك أنك لن تملي لحظة واحدة. (..) وتتلعثم قليلا،وتقول:لا أعرف ما إذا كان مروان وأمل ..فيغمز أوكتاف بعينه.أوه! إنهم من (الدقة) القديمة،بل لسنا بحاجة إلى أن نقول لهما. فسنقترح أن نصحبك في العودة،لأن بيتك على طريقنا،وتكون اللعبة قد تمت.ويشعر ألكسيس أنهما يسرعان أكثر مما يجب. ولكن الزمن يفرض ذلك،إذ سيعود مروان بين لحظة وأخرى. فيقرر أن يضرب ضربته الكبرى.لا تقولي لي،أنك لست واثقة منا! ويقو هذا وعليه سمة من جرحت كرامته.والحقيقة أنه غير منزعج،من أن ترغمه على الإلحاح في الرجاء. فهو لا يحب الانتصارات السهلة. (..) هيا يا ينيتي الجميلة،افلهذه الدرجة لا نعجبك؟وتقدم أوكتاف دو فير بري فاقترب من الفتاة،وبحركة طالما نجحت في الماضي يمد ذراعه الملاطف حول خصرها.وحالا،وبقفزة واحدة،تخلصت سلمى من يده،مرتجفة من الاستنكار وقالت له :اتركني أيها المقرف!وإذن فقد كان هذا لطفهما،وجميل تقربهما. فكيف لم أفهم ذلك من قبل؟ ولكن كيف لها أن تقدر أنهما يعتبرانها ... فتاة ... وتشعر بأنها لوثت،وأذلت،ولديها رغبة في البكاء.أهذا أنت. إنه لغريب. وماذا تفعلين هنا يا أميرة؟وكان على الشرفة سيدة طويلة القوام تتقدم،فتعرف سلمى بدهشة. أنها عمتها،نائلة السلطانة. فكيف حدث لها وهي القليلة الظهور جدا بين الناس،أن توجد لدى العائلة "سرسق"،عرفت العمة إيميلي في إستانبول،وأنها أرادت تكريمها – والمرة الوحيدة ليست بالعادة – بحضور هذه الأمسية. فطار صوابها – ولكن ماذا حزرت؟ - فتقوم سلمى بتقديم احتراماتها العميقة،وتقبل اليد الممدودة إليها،بينما كان الشابان المبهوتان،ينحنيان :صاحبة السمو.فنظرت إليهما بعين مملوءة بالشك،ثم قالت بلهجة جافة :إني أحرمكما أيها السيدان،من قريبتي. فقد مضى وقت طويل لم أرها خلاله. وتأخذ سلمى بذراعها،وتستولي عليها بحكم السلطة.هل أنت مجنونة،يا صغيرتي،ووحيدة في شرفة تكاد أن تكون غير مضاءة،مع رجلين ليس لهما – وهذا ما أستطيع أن أقوله لك – أية سمعة حسنة! ولئن كان شرفك رخيصا عليك،فإن شرق لأسرتنا،غالي عليّ! وستعدينني أن تتصرفي في المستقبل،تصرفا أرعى للكرامة. فإذا لم تفعلي فأنا مضطرة إلى إخبار أمك المسكينة،ونصحها بأن تحبسك في غرفتك،حتى يجدوا لك عريسا.) {ص 273- 283}.إلى اللقاء في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله. س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"14"بعد حضور سلمى إلى تلك الحفلة : (حبست نفسها في بيتها،بعد هذه التجربة المؤلمة. وهي ناقمة على الأرض كلها،إنها لا تحبها(..) وسرعان ما شاع الخبر بوجود هذه الأميرة الشابة ذات العيون الزمردية،الطويلة،بقدر ما هي متعالية. وفي كل يوم تأتيها بطاقات دعوة موجهة من أسماء عظيمة.وفي مثل هذا المجتمع الذي يعرف بعضهم بعضا حتى الفتيان،فإن وجها جديدا هو تسلية عظيمة القيمة. وكانت الفتاة قد أقسمت ألا تقبل أية دعوة. ولكنها انتهت بعد بعض الوقت،ومن طرف الشفاه،بالقبول : فها إنها قد بلغت الثامنة عشرة .. (..) وخلال بضعة أشهر تنشئ سلمى لنفسها مكانا تغبط عليه،في المجتمع البيروتي العالي،لا لأنها الأجمل بين كل هؤلاء النساء – فاللواتي يغرن منها ينتقدن أنفها الطويل بعض الشيء وذقنها المثلثة الشكل – لكن الرجال لا ينظرون إلى هذه التفاصيل.){ص 282 - 284}. ويحل عيد ميلاد سلمى .. فيا لله من الفرق بين احتفال الحاضر،واحتفالات الماضي :(فيلاديتين تيدريك إيدريم! ليكن مبارك يوم ولادتك! ولتزهر زمنا طويلا ورود خدّيك،وتملأ روائح الجنة أنفك،ولتكن حياتك كلها عسلا ولبنا!واجتمعت الأسرة في الصالة التي قامت الكالفتان بتزيينها بطاقات الخبيزة والداتورا،لكي تحتفل بالعيد العشرين لولادة سلمى. وكانت الهدايا المقدمة قد صُفت على الطاولة المصنوعة من الخشب المذهب،وأحاطوها،بعناية،بالورق البلوري. فقد جاءها من نيرفين و ليلى خانم مناديل لطيفة من الباتيستا،طرزتاها بأرقام سلمى،وفقوها تاج،ومن زينل زجاجة من"الكريب دوشين"من صناعة مييو،وهي الرائحة التي تفضلها لدى العزيز زينل. والذي احتاج إلى أن يحرم نفسه من السجائر خلال أسابيع لكي يستطيع شراءها لها. أما خيري،العملي دائما،فقد قدم لأخته علبة من الفواكه المجففة التي يمكن لأهل البيت جميعا أن يستفيدوا منها. أما السلطانة ... فقد هيأت مانطو من الزيبلين،وهو روعة تتذكر سلمى أنها رأته على أمها في الماضي،عندما كانت تذهب إلى "ضولمة باهشتة"،ووضعته على الفوتوي. (..) وأشعلت نيرفين الشمعات العشرين الموضوعة في قالب الكاتو الكبير،بالشوكولا. (..) وتتأمل سلمى،حالمة تلك "الشعل"التي تتراقص،وقليلا تراها تتحول،وتكبر،وتتكاثر. وهي الآن مئات ومئات تتألق تحت ثريات الكريستال في قصر أورطاكوي. وكانوا في أعياد ميلادها،في عهد الطفولة يشعلونها كلّها،على شرفها. وتعود تفاصيل هذه الحفلات الفخمة كلها إليها الآن،واحدا بعد آخر. وكانت الأوركسترا النسوية التي توقظها على نغمات الموسيقى،بينما كانت الإماء تُعنى بها لجعلها أجمل ما يمكن،تستمر في عزف الأنغام التي كانت تحبها،ثم يأتي دور الكالفات الصغيرات،الاثناعشرة،وقد لبسن ثيابا جديدة قدمتها السلطانة،فيأتين ويواكبنها إلى بهو المرايا،حيث كان أبواها ينتظرانها،هما وكل من كان الحرملك. وعندما كانت الأوركسترا تبدأ بعزف لحن عيد الميلاد – وكانوا في كل عام يؤلفون لحنا جديدا – وكانت الكالفات ترمي فوقها آلاف من زهرات الياسمين الصغيرة التي كانت تعطر الغرفة كلها. وعندئذ يبدأ توزيع الهدايا التي تكون سلمى قد اختارتها مع أمها السلطانة،لكل واحدة من إماء القصر ونسائه. ذلك أنهم،في المشرق،يعرفون،أن في العطاء من السعادة أكثر من تلك التي توجد في الأخذ،وأن عيد الميلاد يجب أن يكون عيد بالنسبة لكل من يحيط بنا. (..) وكانت سلمى تحتاج إلى ساعتين أو ثلاث لتفتح هذه الحزم،وتنظر في محتوياتها (..) وكثيرا ما تتذكر سلمى،بشكل خاص،عيدها الثالث عشر،أو الأخير،قبل النفي. ذلك أن أباها استقدم من باريس،من عند بائع الحلي المشهور كارتييه ساعة صغيرة عجيبة،لم تستطع البُنية أن تفهمها لأول وهلة. وكان الإطار الكريستال محاطا بلآلئ وماسات،وكانت عقارب الساعة من الماس أيضا،وكان الرقاص المصنوع من الذهب،والمعلق بين عمودين صغيرين من الكوارتز الزهري،ينعكس في قاعدة من الكريستال الصخري. (..) ومن خلال الشعل التي تترنح،كانت سلمى ترى نفسها لابسة ثوبا طويلا له ذيل،وعلى جبينها تاج. كما ترى باقات وأزهارا نارية،تلهب حديقة قصرها،قصر الدانتيل،وأوركسترا متوارية في الغيوبات،تعزف فالسات رومانتيكية. أما هي فإنها تمشي والوجه معرض لنسائم البسفور،وحولها نساء يلبسن قفطانات مطرزة بالذهب،يهرولن ويضحكن من سعادتها ... وبدأ الشمع يسيل على قطعة الكاتو الشوكولاتية. وبنفخة واحدة قوية،أطفأت سلمى الشموع،وصفقت الكالفات. وهذا يعني،على ما يتنبآن به،أن الأميرة ستتزوج خلال سنة. أتتزوج إذن؟ ولكن ممن؟ إن سلمى تعرف أن أمها عادت إلى مراسلة بعض الأمراء،الذين كانوا، في الماضي،من أتباع الإمبراطورية. وحزرت الآن أنها كانت موضوع هذه الرسائل،ولكنها تتظاهر بأنها لا تُعنى بهذا الأمر.){ص 289 - 291}. يبدو أننا سنخرج إلى الحديث عن السياسة في لبنان,بطبيعة الحال كما جاءت في الرواية ... والحديث عن إضرابات 1931 :(أما المطالبة بالاستقلال،ومشكلة الاحتلال حتى لو أطلق عليه اسم الانتداب،فإن سلمى عاشت مثل ذلك كله في تركيا،وتألمت منه بدرجة كافية،لكي تفهم نفاد صبر أصدقائها.(..) لكن أكثر المرشحين لرئاسة الجمهورية هم الموارنة. ومن أبرزهم،إميل إدّة،وهو رجل قصير القامة في السابعة والأربعين من عمره،ومعروف بسلامته الخلقية وعواطفه المنحازة إلى فرنسا،وبشارة الخوري،وهو محامي لامع،أكثر انفتاحا على العالم العربي،وأشد نقدا لنظام الانتداب. ويقف ضد هؤلاء جميعا رجل مسلم هو الشيخ محمد الجسر،رئيس البرلمان. وهو رجل وسيم ذو لحية بيضاء،محترم بين أنداده المسلمين والمسيحيين على السواء. وكان نائبا في العهد العثماني،ونائب حاكم بيروت. وأثناء الحرب قام بخدمات كبيرة للطائفة المارونية،وأنقذ بطريركها من النفي. وهكذا فإنه مدعوم لا من الشيعة والسنة والدروز فحسب،بل كذلك من الكثيرين من الروم الأرثوذكس ومن الموارنة. ولما كان المسيحيون منقسمين على أنفسهم،فإن النجاح يصبح كبيرا. ولكن أيُقبل مسلم على رأس الحكم في لبنان؟ ويرى كثيرون من المسيحيين اللبنانيين،وفرنسا التي فصلت لهم بلدا على مقاسهم بُغية أن يكون لها في الشرق الأوسط حليف موثوق،أن هذا غير معقول،إذ يوشك أن يرمي لبنان في فلك سورية والعرب. (..) وتقضي سلمى ساعات في النقاش مع مروان وأمل. ونراها تستاء أشد الاستياء من موقف الفرنسيين،وملأى بالحماسة للشيخ الجسر،وهو صديق السلطانة يساعدها بأكثر مما يستطيع منذ أن جاءت منفية : وهي لم تنس قط تلك الليلة التي قضاها في قصر ضولمة باهتشه،وعندما كانت لا تزال في عمر الرابعة. وكان يصحب أباها إلى الدعوة الموجهة إليه من قبل السلطان عبد الحميد. وتقف سلمى مع أنصار الشيخ الجسر المتحمسين جدا. وظلت تفعل ذلك حتى جاء ابن عمها أورهان مع خيري،إلى شارع مار إلياس،وأنّبها بعنف على ما تفعل. - إن هذا كله أمر لا علاقة له بك،أيتها الأميرة. وليس عليك أن تدخلي فيه. وعلى الطريق،أمعن أورهان في تأنيبها،لمدة طويلة. - سلمى،أأضعت صوابك. أتريدين أن يطردونا جميعا مرة جديدة؟ وإلى أين نذهب؟ أرجوك أن لا تكثري من الكلام،وتذكري أننا لسنا في بلادنا.ترى أكان يمكن أن تنسى ذلك. ولكن عليها أن تعترف أن أورهان على حق. ذلك أن أفراد الأسرة العثمانية ما يزالون يُنظر إليهم وكأنهم السادة القدماء. فلا يمكن أن يسمحوا لأنفسهم بالتحيز لأية جهة. "وحتى بين الأصدقاء ينبغي أن تظلي على الحياد،إذ ما من شيء يبقى خافيا على الناس".){ص 292 - 293}. في الحلقة القادمة : هل تصبح الأميرة سلمى نجمة من نجمات هوليود؟ أم تصبح "ملكة"على ألبانيا؟ .. إلى اللقاء في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله.
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"15"
نبدأ هذه الحلقة بالحديث عن السينما .. ( ومنذ عشر سنوات،فرضت هوليود نفسها كعاصمة "للفن السابع"،ولقد وصف تشرشل في مقال له في جريدة الـ Reveil،إحدى أهم جريدتين في لبنان،بعد أن تخلي مؤقتا عن العمل السياسي،وزار الولايات المتحدة،وصف هذه المدينة الجديدة "ككرنفال في بلاد الجن".فالستوديوهات تغطي آلاف الفدادين التي تؤوي آلاف الممثلين – الاختصاصيين من ذوي الأجور العالية. وهناك جيوش من العمال يبنون بسرعة ومهارة شوارع صينية،أو لندنية،أو هندية. وقد يجد الإنسان عشرين فيلما في آن واحد. "والشباب والجمال هما ملكا العالم".وعلى كل حال،فإن نجوم هذا العالم هن الإمبراطورات،اللواتي يفرضن معايير الموضة على العالم كله. فإذا ظهرن على الشاشة،ابتهجت الجماهير أكبر الابتهاج. وما من يوم بلغت فيه ملكة ما،مهما كانت شعبيتها طاغية،درجة الشهرة التي بلغها "الملاك الأزرق" أو "المرأة السماوية la Divine..".وتذهب سلمى لرؤية كل فيلم من أفلام هؤلاء. فمارلين تهزها وتغريها. أما شخصية "لولا"فإن صوتها الأجش،وشهوانيتها المضطربة،عندما تغني "إني ملأى بالحب،من الرأس إلى القدمين"كل ذلك كان بالنسبة لفتاتنا اكتشافا حقيقيا. أوَ يمكن أن نَحمل الرجال على الافتتان إلى هذه الدرجة؟ ولكنها تجدها أجمل في فيلم "موروكو"عندما سحرت الجندي غاري كوبر،وهي في السموكنغ،واللباس الرسمي جدا،أو عندما تراها في فليم ماتا – هاري،مرة كطيارة في لباسها الرسمي،ومرة كامرأة مشؤومة،تصلح،بحركة أخيرة،حمرة شفتيها الحلوتين بحد سيف الضابط المكلف بإعدامها. ومع ذلك فإن جريتا جاربو هي التي تستهويها أكثر من كل واحدة أخرى. (..) وذات يوم،وبمناسبة استقبال تم في منزل أسرة طراد،وهي من الأسرة التي تملك المصارف،والبارزة جدا في بيروت،تلاحظ سلمى رجلا في الخمسين من عمره،لم ينقطع عن النظر إليها طيلة العشاء. وعندما انتقل المدعوون إلى الصالة لشرب القهوة،فإنه يقترب منها ويقول : - لقد نسي أصحاب الدعوة أن يقدمونا لبعضنا. فأنا ريشارد مورفي،المدير الفني لمترو غولدن ماير،وأنا ألاحظك منذ بداية السهرة،فهل أنت ممثلة؟وسُرت سلمى لهذا المديح،وفتحت فمها لضحكة خفيفة وقالت : - هل تدل هيئتي على ذلك؟ - أنت جميلة،وهذا لا ريب فيه،ولكن ليس هذا هو الأهم. ذلك أن لك حضورا وهذا أمر نادر جدا. فهل فكرت يوما ما بالدخول في عالم السينما؟ - لن أكون قادرة على ذلك أبدا ... - هيا،لا تكوني متواضعة. فالتحرك أمام الكاميرا،هو مهنة،وهي تتعلم. ولكن الذي ينقص هوليود،هو هؤلاء الفتيات الشابات مثلك،ممن يمتلئن حيوية،ورقة،ومع وجود المستوى الذي ينبئ عن نفسه،بمجرد النظر. وأريد أن أقول لك شيئا قلما أقوله : إنك من قماشة الكواكب ... فما هو اسمك؟ - سلمى ... - رائع،وخلال سنة سيكون هذا الاسم معروفا لدى الناس جميعا،ذلك لأني،يا آنسة سلمى،أريد أن أقود خطاك إلى المجد. فهل تسمحين لي بذلك؟ ولا يقول ريشار مورفي أنه استعلم،وأنه يعرف جيدا من هي سلمى،وأن هذا وحده هو الذي يهمه. ذلك أنه إذا كانت فتاة حلوة،فإنها،على الأرجح،ستكون ممثلة تافهة. أما المهم فهو أنها أميرة في هوليود! .. ويكاد من الآن أن يرى عناوين الصحف. فالأمريكيين يجنون بكل ما له رائحة الأرستقراطية. ومع حفيدة لسلطان،وحتى إن كانت لأفلام تافهة،فإن الـ MGM ستسبق بكثير الكولمبيا،والوارنر والفوكس. ولكن المسألة ليست بهذه السهولة. إذ لا يمكن للسلطانة المعروفة بطبعها المتصلب،أن تسمح لابنتها بأن تنطلق إلى مهنة،لابد أنها تعتبرها معادلة لمهنة المومس. ثم هي في الجانب الآخر من العالم،في هوليود،هذا المكان المضيّع! ويبتسم مورفي داخليا : "فماذا إن هو أخذ الأم مع البنت لتراقبها؟ سلطانة مكتهلة محجبة في هوليود. إن الضربة ستكون عبقرية .. ولكن لا ندع لنفسنا أن تحلم: فإن الصغيرة هي التي يجب إقناعها وإغراؤها،بآمال المجد،إلى الدرجة التي تكون معها قادرة على تجاوز الاستئذان من أمها. فهي في عمر الرشد،أخيرا! وها هو الخطر يمد يده إلهيا. إن حياتها كلها هنا في الميزان".وهذا ما حمل ريشارد مورفي على العمل لإقناع سلمى. فهو يسكن الآن ضيفا عند عائلة طراد،وسيدعوها كل يوم إلى حفلة شاي. ولا ينبغي أن يترك لها فرصة لتعود فتتماسك وهو يعرف التكتيك الذي يجب استخدامه مع هؤلاء الفتيات الطموحات والساذجات. وهو لم يعرف الخيبة قط. - سلمى،أعتقد أنك أصبحت مجنونة تماما!وهاهي السلطانة منتصبة على كرسيها،وحاجباها متقطبان،وهي تنظر إلى ابنتها كما لو أنها تحاول الإمساك بالشخص الغريب الذي يكلمها.وللمرة الثالثة،تعود سلمى فتقدم شرحها للموضوع. - أيندجيم،أرجوك حاولي أن تفهمي. فالـ MGM هي أكبر شركة للسينما في العالم. ويريدون أن أعمل معهم. إنهم يعقدون معي عقدا ذهبيا : خمسة أفلام في العام،وفي كل منها أنا البطلة. وهل تعرفين كم يدفعون لي؟ مئة ألف دولار في العام. تخيلي إذن. سنستطيع أن نشتري لأنفسنا قصرا،وستكوني براحة حتى آخر أيامك. - إنك طفلة. أفلا تتخيلين فساد الجو المفعم بالممثلين،وما فيه من اللا أخلاقية؟ - أوه،ولكني أعرف كيف أفرض احترامي. {هذه عبارة تتكرر في تأريخ المرأة المحدثة بشكل لافت!! فكل ما حُذرت المرأة من أمر ما قالت : أستطيع أن أحمي نفسي!! فهل دعاهن جميعا ريشارد مورفي؟!!!} وأصلا فإني أفهمت أصحاب العلاقة أني لن أمثل أدوارا جريئة،وقد قبلوا. - أدوار جريئة! .. ,قد قبلوا! ... إنه لشيء حسن من جانبهم. وحقا فإني أرى الآن أني أنا التي أصبحت مجنونة. ولن أناقش لحظة واحدة بعد الآن في هذا المشروع اللا معقول. ونفرت الدموع إلى عيني سلمى،,هي لا تحاول حتى إيقافها. فنهضت واجتازت الغرفة بخطوات كبيرة غاضبة.- بدأت أفقد الصبر من الحياة التي أعيشها! من حفلات الشاي الراقصة،والدعوات إلى العشاء،والبالات ثم البالات ... وها إني قد قضيت أربع سنوات بعد أن غادرت المدرسة. وعمري واحد وعشرون عاما،والزمن يمضي،ولم أفعل شيئا بعد بحياتي.وشعرت السلطانة أن في هذا الانفجار العاطفي الشاب،آثار مرارة،ويأس،يرهقانها. وكانت تفكر أيضا بأن ابنتها لا تستطيع أن تكتفي بهذه الحفلات،كشاغل لحياتها. فقالت بصوت حنون : - هيا،يا سلماي. لا تأخذي الأمور بصورة مأساوية. والحقيقة أن لك من الشخصية أكثر مما ترضين معه بحياتك هذه. ويجب أن نزوجك. ووقفت سلمى،وقالت بصوت ساخر : - وأين هو الأمير الرائع؟وردت الأم من غير أن تفارق هدوءها. - لقد فكرت أنه ينبغي لك ملك. فنظرن سلمى إلى أمها مذهولة : إذ ليس من عادة أمها أن تمزح! وقالت : - ملك؟ ولكن ..ومن غير أن يبدو على السلطانة أنها لاحظت دهشة ابنتها تابعت كلامها بنفس اللهجة : - شكرا لله،فما يزال هناك بعض الملوك على هذا الكوكب. والملك الذي فكرت فيه لك،هو زوغو ZOG ملك ألبانيا. ومنذ بعض الوقت،قمت ببعض الاتصالات،السرية طبعا. وأنت تعرفين أن أخته تزوجت منذ مدة قريبة،عمك الأمير عابد،أصغر أبناء السلطان عبد الحميد. وهذا مما ييسر المفاوضات. وأنا لا أخفي عنك أن الملك أحمد زوغو ليس بملك كبير،ذلك أنه لا يحكم إلا ما هو قريب من المليون نسمة. ولكنه ما يزال شابا،وهو جميل،ويبدو أنه يملك صورة التعامل الحلوة،ولا يُعرف له عيب شائن. ثم إنه يتكلم التركية بطلاقة لأنه أتم دراسته في إستانبول،وهو يُكن أكبر الاحترام لأسرتنا. (..) فما رأيك في هذا؟ أترضين أن تكوني ملكة؟"أي دور"وقضت سلمى ليلها بالتقلب في سريرها،مرة لطرف،ومرة لطرف آخر،ذلك أنها أكثر هيجانا مما تستطيع معه النوم. وفجأة تظهر لها أنوار هوليود براقة وتافهة : وستكون ملكة،ولكن لا ملكة من السيلوئيد! ومنذ الغد سنخبر مخرج مترو غولدن ماير أنها لم تعد مستعدة لتوقيع العقد،وأن لديها ما هو أفضل كعمل! وتتخيل دهشته : سيفتح فاه ليصبح أكبر من فم الأسد الذي جعلته الشركة شعارا لها،وسيطرح عليها ألف سؤال. وبديهي أنها لم تستطيع أن تجيب بشيء..وخلال الأسابيع التالية،ستغرق سلمى في كل الكتب،وكل المجلات،التي تتحدث عن ألبانيا. واتفقت مع أمل على القيام بغزو على جميع مكتبات المدينة،لأنها الوحيدة التي حدثتها عن هذا الموضوع. ستقرآن،وتناقشان،وتُشغفان بالإطلاع. غير أن ما تكتشفانه ليس بالمفرح دوما. لاشك أن المملكة الصغيرة الجبلية رائعة الجمال : وقد عُرف أبناؤها،وهم فلاحون جفاة وشرفاء كيف يحتفظون بعادات أجدادهم،واحتفظوا بقانون رائع لقضايا الشرف. (..) وهناك صحف تُعجب بكرم الملك،وتوضح أن الهدايا التي يقدمها لأصدقائه وأسرته،تنشأ إلى حد كبير عن خلطه بين ماله و مال الدولة. (..) وبالجملة فإنها تسجل،بانتباه شديد،جملة الأرقام والتفاصيل التي تتحدث عن فقر المملكة وعما فيها من تخلف. إذ يجب أن تبني المشافي والمدارس. ومنذ الآن تتخيل البسمة المطمئنة التي ترتسم على وجوه النساء والأطفال،الذين قررت أن تكرس نفسها لهم. وهي تعرف أن مهمتها ليست سهلة،وأنه يجب تغيير العادات،والاصطدام بالمواقع المكتسبة،ولكنها ستناضل،و تشعر فجأة أنها قوية بالحب الذي يحمله شعب كامل. وبنوع من الاندفاع العفوي،أحاطت بذراعها خصر صديقتها،لتقول لها : - لن تنسيني. و ستأتين مرات كثيرة لزيارتي،أليس كذلك؟فتعانقها أمل بحنان،وتقول سآتي لرؤيتك طبعا،أعدك بذلك. (..) منذ ذلك الحين،ومنذ أن تعود سلمى إلى البيت،نراها تختلي بزينل. وخلال ساعات،يتكلمان "على بلادهما"وما فيها من غابات واسعة،وشلالات،وقرى جميلة من الحجارة البيضاء،جاثمة على طرف الجبل،وعلى الليالي الطويلة في الزاوية التي فيها النار،حيث بتسامر الناس حول حكايات فرسان شجعان تحميهم الجن،وعن المُعيزة الرائعة التي تزوجها ابن الملك،ذلك أنها كانت تخفي تحت صوفها وقرنيها"حسناء الأرض"،وحكاية"الدب النادم"وحكاية"الصوص الساحر"..وكان زينل في الثالثة عشرة من عمره،عندما أخذه جنود السلطان من قريته في ألبانيا،إلى عاصمة الإمبراطورية. ولقد حاول النسيان،و نجح في ذلك جزئيا. ولكنه اليوم يتذكر كل التفاصيل،كما لو أنها حدثت البارحة.(..) ومضى شهران. ولا يصل من ألبانيا خبر. وبعد أن أعطت السلطانة موافقتها المبدئية،فإنها ترفض الآن متابعة الاتصالات. وهذه المفاوضات حرجة بطبيعتها،وتحتاج إلى وقت. وقد يكون أثر الاستعجال فيها سيئا جدا .وأخيرا وصلت الرسالة المنتظرة من زمن طويل،مختومة بخاتم الأسرة الملكية. وكانت صادرة عن أمين السر الشخصي للملك. وهو شخص في غاية التميز عرفته السلطانة منذ أن كانت وظيفته في إستانبول. وبعد التهاني المعتادة والتمنيات المتصلة بالصحة والسعادة وللأسرة الإمبراطورية،يقول فيها :..) {ص 294 - 301 } ذلك ما سنعرفه في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله.
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"17"
هذه الحلقة أهديها إلى بُنيتي (أم عبد الملك) والتي منحتني دفعة معنوية،جعلتني أواصل الكتابة،بعد أن كنت قد نويت التوقف عن كتابة هذا المسلسل الذي طال،وربما أصاب بالملل ... بني يدي الحلقة .. حكم مقتطفة من رسائل مجموعة (علي بطيح العمري) :أقوال مأثورة- أجمل مـا في الحياة أن تبني جسراً من الأمل فوق بحر من اليأس. - الإنسان الناجح هو الذي يغلق فاه قبل أن يغلق الناس آذانهم، ويفتح أذنيه قبل أن يفتح الناس أفواههم. - تستغرق مناقشة المسائل التافهة وقتاً طويلاً؛ لأن بعضنا يعرف عنها أكثر مما يعرف عن المسائل المهمة. - عندما يمدح الناس شخصاً، قليلون يصدقون ذلك، وعندما يذمونه فالجميع يصدقون. - اختر كلامك قبل أن تتحدث، وأعط للاختيار وقتاً كافياً لنضج الكلام، فالكلمات كالثمار تحتاج لوقت كاف حتى تنضج.
حياة أميرة عثمانية في المنفى"17"
إلى الهند وصلت سلمى .. (أين هو إذن قطار المهراجا؟ويبدو لسلمى أنها ما تزال تمشي منذ ساعات في هذا العفن المشمس،وفي هذا الصخب من الألوان والأصوات وفي هذه الفوضى الغريبة التي تهدد في كل لحظة أن تودي بها،لولا هذا الحاجز القوي،من حولها،والمؤلف من حوالي عشرة حراس في غاية الضخامة،ومن ذوي الشوارب أيضا. ونحن في شهر آذار / مارس / والجو حار،ومحطة بومباي تشبه مركز ألعاب فروسية،في حالة الجنون،أكثر منها محطة أولى في شبكة السكة الحديدية التابعة للإمبراطورية البريطانية الفائقة العظمة،فهناك تحت القباب القوطية بين تيجان الصلصال،الرملي،والأعمدة الفكتورية المنحوتة نحتا يملؤها بالأزهار،جمهور صاخب يزدحم،صاما أذنيه عن النداءات الخنّاء للباعة الصغار،باعة الحمص،وغير مبالين بالروائح الكريهة لأطواق الياسمين المخلوطة ببقايا العرق والبول. وتشعر سلمى بالاختناق،ولكنها لاتريد أن تكون في أي مكان آخر،مهما كان الثمن : هاهو إذن وطنها الجديد،وبعيدا جدا تقوم أبهاء الرخام الأبيض و نوافير الماء في فندق تاج محل (..) لقد شعرت بالاضطراب فالتفتت إلى رشيد خان،الرجل الثقة لدى الراجا،والذي جاء لاستقبالها لدى وصولها من بيروت،كأنما هي تسأله،ولكنه ابتسم مطمئنا،أمام سؤالها الصامت (المضمر) ثم كيف لها أن تصوغ سؤالا مطلقا كهذا؟وقال : - لا تخافي شيئا،يا صاحبة السمو،فالهند،صادمة لكل قادم جديد،ستتعودين.ثم أضاف،كأنما يقول لنفسه : - بمقدار ما يستطيع الإنسان التعود على ما لا يقبل التفسير .. وفي آخر الرصيف،هنالك حراس مدججون بالسلاح بلباسهم الرسمي الأزرق،الذي يحمل شعار دولة بادلبور،وهم يقومون على حراسة عربة قطار خاصة جاءت من أجلهم،وكان حولها عناقيد بشرية تحاول عبثا أن تأخذها عنون. واستولت على سلمى دهشة،كبتتها : فقد كانت تنتظر قطارا كاملا،كقطار ابنتي عمها نيلوفر و دورو شيهفار،زوجتي أميري حيدر آباد،ولم تعد تندهش من أن يخبرها رشيد خان بأن أمامها ثلاثة أيام وليلتين من السفر،ضرورية لاجتياز ثلاثة آلاف كيلو كم،(..) وبصورة غامضة بعض الشيء،شعرت بإهانة وُجهت إليها،كما حدث البارحة،عندما لاحظت لدى وصولها أن الراجا لم يكون موجودا. (..) أما داخل العربة،فإنهم يتمايلون،ويترجحون. وها إن الخدم المعممين يندفعون من مرقاة العربة،متطلعين بفقدان صبر إلى رؤية رانتهم {في الهامش : الراني،أو راني : هي زوجة الراجا في لغتهم.} الجديدة. ومن خلفهم تتكاثر الأصوات الحادة لنساء يكدن يختنقن من الأغطية السوداء التي تلفهن وتحجبهن. - يا صاحبة السمو،هؤلاء هن حشمك. وقد حرص الراجا على أن يأتين ليكن في مرافقتك .. ولكن ليس لهن الحق بالخروج،فلنصعد،أرجوك،إن السفر بادئ عما قريب. وتتنفس سلمى في ظل العربة،على حين أن القطار يهتز . أما المكان فمريح : ومغطى بخشب الأكاجو الذي رصع بنحاس متألق وما صبيح من الكريستال. أما المقاعد المخملية والستائر الحريرية الكثيفة فتبدو وكأنها مصنوعة لإنكلترا القاتمة أكثر مما رُوعي فيها هذا الطقس الشديد الحرارة. (..) وأما الفتيات فهنالك نصف دزينة من النسوة اللواتي افترشن غطاء أبيض،مُدّ على ظاهر الأرض،وأخذن يتفحصن الراني،ويتبادلن التعليقات بصوت أجش بعض الشيء. (..) وبدت حناجرهن،وآذانهن،والسواعد مغطاة بالذهب. وكن ينظرن بدهشة غير راضية إلى يدي سيدتهن العاريتين،وإلى عنقها المحلى بعقد من دور واحد من اللآليء.و تبتسم سلمى،المندهشة بعض الشيء : فكيف تشرح لهؤلاء أن مثل هذا التراكم،لديهن ... ولكنهن لا يدعن لها المجال. وبدورة واحدة،خلعن عليها،هذه أساورها،وهذه حلق أذنيها،وهاهي الآن مزينة كوثن معبود. - روبسرات، روبسرات .. أي هي جميلة وجد جميلة.وهذه هي الكلمة الوحيدة من اللغة الأردية التي تفهمها لأنها سمعتها تعاد مئة مرة،على طريقها،منذ وصولها. (..) وعلى عتبة العربة،كان رشيد خان واقفا : وكان في عينيه لوائح إعجاب،سرعان من احتجب. وبكل احترام يسأل : - هل ترغبين بشيء،يا صاحبة السمو. فمرافقتك السيدة غزاوي،و زينل آغا يستريحان في العربة المجاورة. وهما يريدان أن يعرفا ما إذا كنت بحاجة إلى شيء ما،منهما .. - شكرا خان صاحب.(..) - إني لا أرغب،إن كان هذا ممكنا،إلا في شيء من الهدوء.ذلك أن غرائب هؤلاء السيدات قد أرهقتها،وهي تطمح إلى أن تبقى وحدها. ولكن أنى لها أن تقول لهن ذلك بدون أن تجرحهن؟ فيبتسم رشيد خان. - سأقول لهن أنك بحاجة إلى أن تنامي. (..) كم هو مسكين رشيد خان،لقد كان لطيفا،وغريبا إلى حد كبير. وعندما وصلت جاءها محملا بباقة ضخمة من الزهر،ثم أسمعها دفعة واحدة جملة من التمنيات،والمباركة بالوصول بالسلامة،باللغة التركية،وكان واضحا أنه حفظها عن ظهر قلب،لهذه المناسبة. ولكن بدلا من "التحيات والاحترامات"فإن الذي وضعه على قدمي سلمى هو قلبه الملتهب،وعندما لاحظ تعابير الدهشة على الفتاة،أدرك فورا أن أصدقاءه لعبوا معه هذه اللعبة. فاحمرت وجنتاه بقوة جعلتها تضحك،وذاب الثلج بينهما،ومنذ تلك اللحظة أصبحا صديقين. (..) سنصل لو كنوف بعد ساعتين. (..) وقلما ترددت أمام الفساتين المنشورة بمقدار ما ترددت هذه المرة،وكل ذلك لكي تتعجب أخيرا وتقول : - ولكن أين عقلي،إن الساري هو ما يجب أن ألبسه! (..) وفجأة ثارت ضجة في العربة،أو هو أمير؟ وشعرت بأن قلبها يتوقف. ولكنه لم يكن إلا رشيد. - لحظات أخرى أيضا،يا صاحبة السمو،ريثما يهيئون البردة {في الهامش : البردة : هي ستارة تفصل النساء عن الرجال. ولكنها أصبحت تعني كون الإنسان محبوسا أو سجينا.}. - ال : ماذا؟ولا يجيب الرجل،وكأنه مزعوج. والسيدة غزاوي تتمتم بجانبها أن هذا كله غير طبيعي،فتسكتها سلمى.(..) ولكن هاهن النساء الهنديات المرافقات،يظهرن من جديد : أما هنا فإنهن يستعدن كل حقوقهن التي مورين بها بشكل مخجل،خلال هذه الرحلة،وكوجوه الراهبات القديمات اللواتي يستقبلن،بكثير من الطيب،راهبة جديدة،يمددن لسلمى جبة سوداء طويلة (كاغول) شبيهة بتلك التي تغطي أجسامهن من الرأس إلى القدمين .. فاندهشت سلمى مما يفعلن،وسألتهن بنظراتها. ولكنهن يحطن بها،ولا يتركنها. - وتصرخ هي : لا ،لا!! ولما كانت صرختها حادة،فقد انطلقت بقوة. فاندفع رشيد خان إليها بسرعة. وكانت سلمى في زاوية العربة،ترتجف،من شدة الاستنكار،وتحاول تمزيق هذا الحجاب إربا إربا. وكانت النسوة اللواتي يُحطن بها يتشاورن في نوع السلوك الذي يجب أن يلجأن إليه. أما السكرتير،فقد وجد أكبر العناء في الاحتفاظ ببرودة دمه أمامهن. لقد تمت الرحلة على ما يرام،إلا أن هؤلاء الغبيات على وشك أن يفسدن كل شيء! فماذا سيظن القصر إذا وصلت الخطيبة باكية!ومع أن الرجل في العادة مجامل جدا،فقد أمرهن،مع ذلك،بصوت قاطع بالخروج. وبعد شيء من التمرد الشكلي،عدن فخرجن،وفي ذواتهن أنهن جرحن،أو جرحت كرامتهن.(..) - أين هو الراجا؟ماذا؟ هوزرو{صاحبة الشرف} – وبدت المرأة القصيرة،وكأنها منزعجة – سيدتي،لن تستطيعي رؤيته قبل الزواج. ولكن اطمئني – ذلك أنها لاحظت على الفتاة سيماء خيبة الأمل – فحفلات الزواج تتم بسرعة كبيرة،خلال أسبوع واحد تماما. وبانتظار ذلك،ستعيشين في القصر لدى الأخت الكبرى لسيدنا،الراني عزيزة.وفي إحدى زوايا السيارة الضخمة (إيزوتا فراشيني) شعرت سلمى،المجردة من كل قوة،بأنها لم تعد تسيطر على خيبة آمالها. ومن كل السيارة الفخمة البيضاء،حتى العادمات والأضواء المذهبة،لم تلاحظ،بصورة خاصة،إلا الستائر التي تغطي النوافذ،تماما كما كانت الحال في إستانبول المغلقة،أيام طفولتها. وقليلا فقليلا كانت تشعر بأن الغضب يشتد : وهذا الذي كانت تأباه في الثامنة عشرة من عمرها،يجب عليها أن تقبله الآن،بعد سنوات الحرية هذه،ولا مجال للبحث فيه،ولكن هذا كله ليس سوى إنذار كاذب : إذ لقد رأت بنات أعمامها،نيلوفر ودورو شيهفار،في صورهما،كل يوم في الصحف،وهما تدشنان المعارض،أو ترأسان بعض حفلات العشاء،ولم تحلم بهذا حلما. فتحاول أن تطمئن نفسها،وسد المنافذ على الرعب الذي بدأ يستولي عليها. إلا أنها تجد صعوبة في التنفس. ولا تملك أن تمتنع عن تذكر نظرة الإشفاق التي كانت تلمحها في عيني رشيد خان،وصمته المتلجلج،تجاه بعض أسئلتها. فلأول مرة،منذ وصلت إلى الهند،تشعر بأنها أخطأت خطأ فاحشا.){ص 357 -367 }. إلى اللقاء في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله. س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"18"
س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
(الكتاب مثل الناس فيهم السيد الوقور وفيهم الكيس الظريف وفيهم الجميل وفيهم الرائع وفيهم الساذج الصادق وفيهم الأديب والمخطئ والخائن والجاهل والوضيع والخليع)عباس محمود العقاد .. وصلت سلمى إلى القصر :(هاهم إذن خصيان طفولتها ... وشعرت سلمى فجأة بأنها عادت خمس عشرة سنة إلى الوراء. ولو لم تكن أمامها هذه السراويل الواسعة (الشالفار) والكرتاه الزرقاء اللون التي تعوّض الإستامبولينيات القاسية،إذن لظنت أنها في قصر ضولمة باهشتة. ولكن ما إن صعدت على السلم الحجري الهائل حتى تبدد هذا الإحساس. إذ تعود الهند،فتفرض نفسها بهذه الشرفات المنحوتة،كالدانتيل،وهذه الشرفات المنحوتة على الفناء الداخلي،حيث تجري المياه من النوافير جريانا غنائيا،وبصورة خاصة،بهذه المجموعات من النساء اللواتي يتلاصقن ليقبلن يدي الراني الجديدة،أو ليمسكن بطرف ساريها،بأشد المسكنة والتواضع،في حين أن أطفالا نصف عراة يحدقن { هكذا} فيها بعيونهم الواسعة السوداء المكحلة. لكن البيجوم،تدفعها لأنه لابد من السرعة،ذلك أن الراني عزيزة تنتظرهما.وراني عزيزة .. هي ابنة حماتها المقبلة،وتريد سلمى أن تعرف المزيد من المعلومات حولها. ونُصرت لا تطلب إلا هذا،فتقول :- إن راني عزيزة هي أخت غير شقيقة للراجا. وهما من أمين مختلفتين. وهي أكبر من أخيها بخمس عشرة سنة. وعندما فقد أبويه،وهو صغير،في حادث يكتنفه الغموض،كانت له بمثابة إلام. إنها سيدة كبيرة،,لديها من الذكاء مثل ما للرجال! وفي عمر الرابعة عشرة،عندما أشرف أميرنا على الموت مسموما،على يد عمه على الأرجح،عمه الذي كان له حق الحكم كرئيس للدولة،حتى بلوغ ابن أخيه سن الرشد،وقررت راني عزيزة أن ترسله إلى إنكلترا للدراسة،وأخذت على عاتقها تسيير شؤون القصر. وكان القيمون على الشؤون المالية يخافونها أكثر بكثير من الراجا العجوز الذي لم يكن يطلب قط بأي حساب،معتبرا أن هذا يحط من شأنه.{الله يذكر السلطانة خديجة بالخير!!!} وتخفض البيجوم نُصرة صوتها،فتقول :وهم يأملون أن يكون سيدنا الشاب أقل محاسبة لهم. فهذا المسكين إنما عاد حديثا،بعد غياب اثنتي عشرة سنة. وهؤلاء الأوغاد يخططون لاختلاس أمواله. ومن حسن الحظ أن أخته الراني هنا."وأنا،لن يحسب حسابي أبدا،إذن"{مكتوب بخط صغير،وكأنه منقول من "مذكرات"} ومن دون أن تعرف سلمى هذه الراني،فإن حدسها يقول : إنها لن تحب راني عزيزة.وكانتا قد مشتا أكثر من ربع ساعة،عندما دخلتا إلى غرفة ذات سقف عال : ووجدتا هناك نصف دزينة من النساء،جالسات على الأرض،يثرثرن،وهن يكسرن جوز التنبول betel (من فصيلة الفلفليات) بكسارات من الفضة. فلما وصلت سلمى أثارت موجة من الاستغراب والعجب : إذ أنهن يحطن بها،ويضممنها بين أذرعهن،ويُشدن بجمالها. ولما كانت مذهولة،ومطمئة بحكم حرارة الاستقبال،فقد سمحت لنفسها بالانطلاق مع هذه المجموعة الضاحكة : ثم يفتح لها ستارة أخيرة من الحرير وتدخل إلى قاعة واسعة مزخرفة بموزاييك من الصدف،وبمرايا على صورة العصافير والأزهار. وهناك وجدت سلمى مجموعة نساء جالسات على سُرُر من الحبال،ذات أرجل من الفضة {هذا مع فقر المواطنين المدقع!!!} وهن يتسامرن،ويمضغن البان Pan ،أي الحلوى الوطنية التي تُصنع من جوز التنبول ومن بعض أوراق مُرة، أو أنهن ينتشين بشرب نوع من التبغ المعطر،من أنابيب النرجيلة،الطويلة،المصنوعة من الكريستال. وفي آخر القاعة،,على سرير مرتفع،تلمع أرجله الذهبية،في الظل،كانت هناك امرأة تستريح بين وسائدها،على حين أن عبدين يهزان فوقها مراوح عريضة من ريش الطاووس. وعرفت سلمى مباشرة،من خلال تعابير الوجه،أنها أمام الراني عزيزة،وهي ما تزال جميلة : فقسماتها حادّة،وعيناها عميقتان،وفمها متعاظم،لا تبلغ بسمتها أن تخفيه.- تعالي واجلسي بجانب،يا بنيتي.أما الصوت فغنائي،وأما الضمة فباردة. وبلغة إنكليزية ذات لهجة غريبة،تسأل الفتاة عن رحلتها،وهي تتفحصها من الرأس حتى الأقدام.وانتهت من ذلك إلى القول :- إنك جميلة جدا – لكن الصوت يرتفع،كما لو أنها تريد أن تسمع الجميع ما تقول – وعليك أن تتعلمي لبس الغارارا (تنورة تلبسها المسلمات). أما الساري فهو لباس أتباع الديانة الهندية. ونحن،هنا، مسلمون.واحمرّ وجه سلمى حتى لكأنه كله دم : أوتُذكّرُ هي بأنها مسلمة؟ وهي حفيدة خليفة المسلمين! فلو أنها صفعتها على وجهها،لما أذلّتها أكثر مما فعلت. و تلاقت نظرات الامرأتين { هكذا} : فمنذ هذه اللحظة تعرف كل منهما أنها عدوة للأخرى.ثم حمل إليهما بعض الحلوى التي صنعت من اللوز والعسل،وشاي مشرب بالسكر. "لتحلية حموضة الاستقبال على الأرجح" {مكتوب بخط صغير،وكأنه منقول من "مذكرات"} على ما فكرت به سلمى،وهي تبلل به شفتيها. وبدأت الراني تسأل عن صحة السلطانة أمها،وحياتها في بيروت،فأجابت دون انتباه كبير. وعندما رأت أن الحديث يطول،غامرت بهذا السؤال : - عفوك يا سيدتي،لكني متعبة من السفر. أفيمكن أن أنسحب إلى غرفتي؟فارتفع حاجبا الراني،كجواب على هذا الطلب.- ولكن غرفتك هنا،يا بنيتي،فخلال هذا الأسبوع،ستسكنين معي. ولكن ماذا بك،أليست الغرفة واسعة بشكل مناسب.وحملت الخادمات "غارارا"أخضر،زمرديا،فأعفاها ذلك عن الجواب.- خذي هذا،وغيري به ثيابك،فهذا اللون يناسبك إلى أعلى الدرجات. وأكثر من ذلك أنه لون الإسلام ...وأجابت سلمى مجروحة :- إني أعرف ذلك.- وإذن فأنت تعرفين كذلك أن أسرتنا تنحدر من النبي مباشرة،عن طريق حفيده الحسين. ونحن شيعة.{ورارنا ورانا؟!! حتى ونحن في هذه السياحة .. بعيدا عن الواقع ومشاكله!!} أما أنت فسنية بطبيعة الحال – وتتصنع آنئذ التنهد،بصورة مدروسة – ولكننا،على كل حال،مسلمون جميعا!"هذه الأفعى،على ماذا تريد أن تبرهن؟ على أني لست إلا غريبة،وأنها هنا تظل ذات الكلمة العليا؟". {مكتوب بخط صغير،وكأنه منقول من "مذكرات"}. غير أن مزاج سلمى لن يقاوم طويلا رغبتها في الحمام. فتتذكر أباريق الفضة،والماء الساخن المعطر،والرغوة ذات الألوان الناعمة،وزيت العنبر في زجاجات الكريستال. (..) - ولكن أين هي إذن السيدة غزاوي؟وأجابت الراني،مطمئنة:- لا تقلقي عليها. لقد أخذت تستريح. وهي تسكن في الجهة الأخرى من البهو،بعد الفناء الثاني من جناح النساء.- كيف؟ إن هذه مرافقتي! ويجب أن تبقى معي!- أوليس لديك ما يكفي من الخادمات؟ يمكنك أن تحصلي على عشرة،أو عشرين،وبقدر ما تردين. وإن لم يعجبنك،فنستبعدهن،ونأتيك بغيرهن.وشعرت سلمى بأنها على وشك أن تبكي. فالسيدة غزاوي و زينل هما صلتاها الوحيدتان مع الماضي. وبدونهما تشعر بالضياع. ولكنها تفضل أن تموت في مكانها،على أن تعترف بضعفها. وهنا تظهر بسمة صغيرة على شفتي الراني،فتسأل : - أولستِ على ما ينبغي معنا هنا؟ نحن أسرتك منذ الآن : ويجب أن تنسي الباقي.وتسكت سلمى. وقد سجل الخصم نقطة. فهل في وسعها أن تقضي ثمانية أيام مع هذه المرأة،وتحت بصرها الثاقب،السيئ النية؟ تصبرين إذن ثمانية أيام،وأمير يكون هنا،وستشرح له ما يعنيها،وتساعدها. وبانتظار ذلك،لعل رشيد خان .. بطبيعة الحال،هذا هو الحل! فكيف لم تفكر به من قبل؟ وتنتصب،وتسأل بصوت تريد أن يكون واثقا من نفسه :- أيمكن أن نخبر رشيد خان،بأنني أود أن أكلمه.- تكلمين من ..؟ اعرفي،يا أميرة،أنه إذا كان سكرتير أخي قد ذهب لاستقبالك في بومباي،فذلك لأنه كان لابد من رجل لمواكبتك. ولكن لا مجال لك بعد الآن لرؤيته ثانية. فالرجال لا يستطيعون الدخول إلى الزنانا (جناح النساء).{هنا سجل الخصم"ثلاثية" لا نقطة!!}وبحجة الإرهاق،نزلت سلمى إلى الحديقة،وسحبت الوشاح،الذي كان يحجب عنقها،بعض الشيء. إنها تختنق. وسجينة،إنها سجينة. وكعمياء رمت نفسها في الفخ. ولكن الوقت ما زال يسمح بالخروج منه. وستعود عن عزمها. إذ ليس في وسعهم،على أي حال،أن يحتفظوا بها عندهم،بالقوة! وجلست على العشب،وحاولت أن تسترد أنفاسها. فإذا بيد توضع بيدها.- لا تخشي شيئا،هوزور. فالراني ليست بهذا السوء. إنها تريد فقط الحفاظ على التقاليد. وبدون ذلك فالمجتمع كله سينهار.وكانت هذه امرأة الحاكم التي لحقت بها،وعلى وجهها المستدير نظرة حلوة.- اصبري،أسبوعا فقط. إن زوجك المقبل رجل عصري،كإنكليزي تقريبا! ومتى كنت معه،صرت حرة،ستكونين السيدة الأولى. ولن يكون للراني عزيزة ما تقوله. وهي تعرف ذلك جيدا ولهذا فإنها تبدي المرارة،أسبوعا واحد،هوزور. ولاشك أنك تستطيعين بذل هذا الجهد.وتفكر سلمى : إنها على حق. وإذن فلن أدع نفسي تمّحي،بسبب هذه المرأة. وبقلب طيب تبتسم. إلا أن توترات هذا اليوم كانت عنيفة. وعلى شفتيها،كانت البسمة ترتعش. ونسيت مقامها كأميرة إمبراطورية،واستسلمت للبكاء.){ص 368 - 372}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله. (الحبر،ويحك،نور أسود،وكنز سائل وهو عطر الدفاتر وشبع الفراغ وري البياض وغيث الورق)الأمين نخلة
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"19"
في واقع الأمر،لا بيروت،ولا إستانبول : (وفي اليوم التالي عُرف أن الراني عزيزة مريضة،وأنهم وضعوها في الطرف الآخر من الزينانا،وأنها لا تريد أن ترى أحدا. ولن تعرف سلمى أبدا ماذا حدث،إلا ما يتعلق بأن الراجا غضب،ولأن{هكذا} أخته اضطرت لمسايرته لأول مرة. وقد أفاد تمرد سلمى،في رفع نفوذها ومقامها،أكثر من كل ما كانت قدمته من مجاملات كثيرة. فالنساء اللواتي لم يكن يتعرفن إلا على الراني،ويتبنين بصورة عمياء عواطفها الطيبة والسيئة بنفس القوة،صرن – خلافا للعادة والتقاليد ،التي تقضي ألا يكون للشابة الزوجة أي صوت في الميدان – صرن ينظرن إليها وكأنها هي سيدتهن الجديدة. وجاء بعد الصاغة باعة البروكار،والحرير،والدانتيل،يعرضون ما عندهم. وفي البهو كان كل هذا العالم الصغير يشتغل في التفصيل،والخياطة،والتطريز. إذ يجب أن يتهيأ جهاز العروس،خلال خمسة أيام،وهو عادة يهيأ خلال سنين كثيرة،بصورة مسبقة،وأن تهيأ الغرارات (الملاءات الخاصة بمسلمي الهند) والشيكان كرتاه Chekan Kurah،أي القمصان المصنوعة من اللينون الناعم،الناعم،والتي يمكن لفرط النعومة أن تدخل في خاتم،وأن تكون جاهزة تلك الروبوتراه Ruputrah– أي فرو الكتفين المحلى بالذهب واللآلئ – التي تخفي الأشكال التي تكون وراءها.وما من مرة بذلت هؤلاء النسوة،الكسولات في العادة،مثل هذا الجهد. ولقد طلبن مساعدة القريبات والجارات،وتحولت الزينانا كلها إلى معمل،إذ لا يكفي أقل من مئة مجموعة من الثياب،كجهاز أساسي. أما بالنسبة إلى أميرة الأحلام هذه،التي لا يكل أحد من الحديث عن جمالها،فهل تعتبر ثلاثمئة منها مجموعة كافية؟ ولكن النساء الأكبر سنا يروين،مع تكشيرة استصغار،أن جدة الراجا الحالي،لم تلبس مرتين نفس اللباس،وأنها عندما ماتت بعد عشرين سنة من الزواج،كانت هنالك عشرات من الحقائب من جهازها لم تفتح بعد : أما ثلاثمئة غاراراة،فهذا بؤس كبير! ){ص 377 }.أعلم أن الوقت ... وقت (فرح) ومع ذلك لم أستطع أن أتجاوز عبارة ظلت تقرع أذني .. أو ذاكرتي .. وأنا أقرأ هذا الكلام .. تلكم العبارة،قالها سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. حين وجد أحد ولاته يعلق (ستائر) على جدار بيته ... مجرد (ستارة) ... فلامه قائلا :تعلق ثياب المسلمين على حائطك؟!!ولو كانت بادلبور .. خالية من الفقراء - فقرا مدقعا - فربما اعتبر الأمر – ما لم يصل حد الإسراف – من باب المباحات ... ولكن .. ولكن نعود إلى تجهيز سلمى :(واشتدت المناقشات : ترى هل يجب تأخير الزواج لكي تعامل الراني المقبلة،كما تستحق؟ فهذه سلطانة،حفيدة خليفة،تشرفنا بالانضمام إلى أسرتنا،ويقدم لها جهاز واحد؟ مسكينة. ترى ماذا نعمل؟ والراجا يأبى أن ينتظر يوما واحدا إضافيا. فلقد أصبح قليل الصبر. "كواحد من الإنكليز". وتشكو العاملات. ولكنهن في الواقع يختنقن من شدة الزهو. ذلك أن هذا الزواج يضع بيت بادلبور على نفس المستوى الذي استقرت عليه أسرة نظام {في الهامش : نظام : ملك. ولم يكن في الهند إلا نظام واحد،هو نظام حيدر آباد.} أي الملك الأغنى والأقوى في البلاد. (..) وهنالك فتاة واحدة تبقى بعيدة عن كل هذا الصخب. إنها ممتلئة،والبشرة من لون الحليب،والشعر الأسود المزيت جدا،ينزل على ظهرها حتى منخفض الكليتين. ولهذا فهي تعتبر هنا،ما اصطلح على تسميته،باسم "الفتاة الجميلة"،على الرغم من أنفها المدور بعض الشيء،وذقنها الثقيلة،ولقد بقيت سلمى مدة طويلة،قبل أن تفهم أهم معيار جمالي،هو بياض البشرة،وأن المرأة التي تملك أنعم القسمات،تعتبر بشعة،إذا كان لون بشرتها قاتما.){ص 377 - 378}.مع أننا لسنا في (خلطة كتب)،إلا أن عبارة (بشرتها قاتمة) عادت بي إلى سياحة سابقة. فرغم أن سلمى تتحدث عن فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية،إلا أننا نجد العبارة نفسها مستعملة بعد سنة ألفين بقليل!! كل شيء .. أو معظم الأشياء تغيرت في الهند .. إلا !!! تقول السيدة (بُقول) – هل يتذكر أحد تلك الأمريكية،خفيفة الظل؟! – والتي نقلت لنا حوارا لها مع صديقتها الهندية :(سألت تولسي ما الذي يجعل زواج الفتاة الهندية صعبا،فقالت كثير من الأسباب. "إن كان طالعها سيئا. إن كانت كبيرة في السن،إن كانت بشرتها داكنة جدا. إن كانت متعلمة إلى حد يصعب إيجاد رجل أعلى مركزا منها،وتلك مشكلة شائعة هذه الأيام لأنه لا ينبغي على المرأة أن تكون متعلمة أكثر من زوجها. أو إن أقامت علاقة مع شخص وعرف بها الجميع،آه،يصبح من الصعب عليها إيجاد زوج بعد ذلك ..".رحت أفكر على الفور إن كان من السهل عليّ إيجاد زوج في المجتمع الهندي. لا أدري ما ذا كان طالعي جيدا،ولكنني بالتأكيد كبيرة جدا ومتعلمة جدا وأخلاقي ملطخة علنا .. أنا لا أشكل عروسا محتملة. على الأقل بشرتي فاتحة،هذا كل ما لديّ في رصيدي.){ص 221 - 222 (طعام .. صلاة .. حُب) / إليزابيث جيلبرت / ترجمة : زينة إدريس / مراجعة وتحرير : مركز التعريب والبرمجة / الدار العربية للعلوم : ناشرون / مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم}.ولكن لماذا يعشق الهنود اللون الأبيض؟! ذلك ما سيعود بنا إلى سلمى .. (ولقد بقيت سلمى مدة طويلة،قبل أن تفهم أهم معيار جمالي،هو بياض البشرة،وأن المرأة التي تملك أنعم القسمات،تعتبر بشعة،إذا كان لون بشرتها قاتما. وهذا انتباه كبير يمنح اللون الذي يكشف – على حد ما شرحوا لها – نبالة الأصل من عدمه،بأكثر من أي شجرة نسب. ذلك أنه إذا كان غزاة الهند،من آريين،وعرب،ومغوليين- كلهم بيض البشرة،فإن السكان المحليين كانوا سمرها. ومن هنا جاء التعادل،الراسخ بقوة في الوعي العام،وهو أبيض"عرق السادة". وأسود"عرق العبيد".وعلى مرأى من سلمى،أدارت الفتاة وجهها،بشكل بين،بارز. "ترى؟ .. بلى حتما،ويجب أن تكون هذه بارفان. وفي هذه الأيام الأخيرة،دُهشت من أنها الوحيدة،خلافا لغيرها،التي لم توجه إليّ الكلام. مسكينة هذه الصغيرة! .. لقد رُبيت على فكرة الزواج بالراجا،الحلو،وعلى الأرجح فإنها كانت تهواه. وها إن قادمة جديدة،ليس لها من ميزة،إلا أنها من أصل محترم،هي التي تحرمها من تحقيق أحلامها!" "وماذا سيكون من أمرها؟ كانت موعودة لرجل. ثم اطرحها بعيدا،فمن يريد أن يتزوج بها الآن،وأية أسرة مناسبة ستغامر بطلبها للزواج،على حين أنها،كما يقولون"ملوثة"بحكم رغبة إنسان آخر. وفي ذهنهم الضيق،أنها ليست عذراء تماما!"{كتبت هذه الأسطر بخط أصغر،كأنما نُقلت من "مذكرات"}.وعبثا ستحاول سلمى أن تتقرب من الفتاة (..) ومشاغل سلمى كثيرة هذه الأيام. وعندما كانت تتجول في الممرات،لاحظت بهلع أنهم كانوا يهيئون غرفة عرسها،في وسط الزينانا،تماما إلى جانب غرفة الراني. وهكذا فإن هذه الأخيرة،يمكن أن تراقب على راحتها كل حركات العروسين. - ترى هل الراني التي أتزوجها،أو هو الراجا؟وهكذا انفجرت ذات صباح،عندما اتجهت إلى امرأة الحاكم.- أوليس في هذه البلاد مكان للحياة لخاصة. ففي تركيا عندما كانت إحدى السلطانات تتزوج،كان لها قصرها،وخدمها،وكانت مستقلة.- أرجوك،هوزور. إن هذه تفاصيل. وكل شيء سيتم على ما يرام.وبفضل الله،ليس عندك إلا بنت حماة واحدة. ولو أنه كان عندك حماة،فإن أعظم الأزواج حبا لم يكن ليستطيع عمل شيء،ضد إرادتها .. ولكن لِمَ تريدين أن تكوني وحدك؟ وهل في الحياة شيء أتعس من ذلك؟ فهنا،عندما تنشأ لنا مشكلة فإن الأسرة تنضم إلينا للمساعدة،وحل المشاكل نيابة عنا.وصرخت سلمى مزعوجة :- أما هذا فلا،وعلى الأقل اتركوا لي مشكلاتي.ورأت البيجوم أن من الأفضل أن تغيب عن وجهها. والتدليك شيء لا مثيل له للروح،كما هو كذلك بالنسبة لأمراض الجسم. وتقتنع سلمى بهذا مرة أخرى. فهمومها،تحت الأيدي المرنة والناعمة تتطاير مزقا،وتصبح تفاهات. وبلذة كبيرة تترك إماءها يدهن جسمها بمعجون أصفر،معطر،يتألف من حبوب الخردل الممروث بالحليب،والتوميريك Tumeric وستة أنواع من البهارات المطحونة جيدا،,بنشارة خشب الصندل وبأنواع نادرة من العطور. وبهذا المعجون يطلى جسمها من القدمين حتى جذور الشعر. ثم يفرك جسمها به فركا قويا،حتى يصبح كل مليمتر من جسدها كالساتان النقي،وحتى تفوح مسامها كلها برائحة علوية. ولا يسمح لها خلال خمسة أيام بعد ذلك أن تغتسل. وقد ذهبت احتجاجاتها على ذلك،أدراج الرياح. ذلك أنهم قالوا لها يجب ترك المرهم العجيب،الذي يُحتفظ به للأزواج الجدد،حصرا،حتى يدخل في اللحم،ويصفي الدم. وفي صباح يوم الزواج،وعندما يسمح لها بالاغتسال في الحمام،ستخرج منه رائعة،كالفراشة التي تولد من الشرنقة بعد نضج طويل. (..) "راني بيتا قد وصلت"{في الهامش : بيتا أو Bita هي فتاة المنزل.} وعندئذ تنطلق صرخات في جنبات البهو. ولكن ماذا يحدث أيضا. هاهي غائبة في حلمها،مستندة إلى كتف أمير الذي يداعب شعرها. فتغمض سلمى عينيها،وتتعلق بعناء بالصورة اللامعة،فلا تكاد تشعر إلا بيد خفيفة،تأخذها من ذراعها،وبصوت يقول بلغة إنكليزية صافية :انظري إليّ،أبا Apa. أنا زهراء،أختك الصغيرة وجثت على ركبتيها،فتاة نحيلة تبتسم. فترتجف سلمى. وصحيح أنهم حدثوها عن أخت للراجا،أصغر منه بعشر سنين،موجودة الآن في بادلبور لدى جدتها لأمها،المريضة. فتفحصت وجهها العريق،وعينيها الحالمتين. يا الله،ما أجملها من فتاة. وكم هي شبيهة بصورة أمير. ولكن زهراء،من جهتها،لا تخفي إعجابها،وتقول :- إنك جميلة! (..) وفي الأيام التالية ستقوم زهراء،بما لها من جاذبية،ومرح،بتمهيد صعوبات كثيرة أمام سلمى. لقد رُبيت على يد معلمة إنكليزية – وهذا ما قضى به أمير،رغم التقاليد التي ترى أن الدراسة المعمقة،تأتي بالبلاء للفتاة،وهي مولعة بالأدب الأجنبي. إذ لقد قرأت كيتس Keats ،وبيرون،وستاندال،وبلزاك كله،وعلى الرغم من أنها لم تخرج قط من الزينانا،إلا في عربة مغلقة تأخذها إلى زينانا أخرى فإنه يبدو أنها تعرف الدنيا. (..) وفي هذا الصباح أوقظت سلمى على شعاعات الفجر بضحك بعض الفتيات. وكان الجو لا يزال رطبا،والياسمين،على طول الشرفة،يعطر الجو. ولكن لِمَ هي تعيسة؟ والنهار جميل! آبا،استيقظي،وهاتي يديك ورجليك لكي نرسم عليها بالحناء كل بشائر السعادة. وافتحي عينيك على أجمل يوم في حياتك.وكن فرحات،وبدأن عملهن حول السرير،وهن يغنين أغاني الحب بصوت خفيض،وهي أغاني ينبغي،تقليديا،أن ترافق تجميل الزوجة قبل زواجها. (..) وكما لو أنها في حلم ترى الراني عزيزة تقترب،وتربط في رسغها سوارة ناعمة من القماش وتنطق ببطء تلك العبارات التي كرستها القرون :- أعطيك هذه السوارة. وهي تحتوي على أرز يحمل إليك الهناء والسعادة،وعلى عشب يؤمن الخصب،وخاتم من الحديد،هو ضمان الوفاء.وتحركت أوتار قلوب النساء،فسكتن : إنهن يتذكرن. وفجأة دوت ضربات ضخمة قرعت الباب البرونزي الذي يفصل الزينانا عن أجنحة الرجال. وتندفع الفتيات بصرخات الفرح،وفي أيديهن وردة : إنه الخطيب،وهو يحاول أن يدخل ليخطف الجميلة،وهن مكلفات بدفعه عنها بضربه بعنف بالأزهار. وبعد محاولة أو محاولتين غير ناجحتين،يتراجع الخطيب مكللا بالسخرية،ويعود إلى أقربائه ومعارفه،المجتمعين في "الإيمام بارا"العائلية،وهو معبد من الرخام والموزاييك،مجاور للقصر،حيث يحتفل دينيا بالزواج. ولقد تركت سلمى وحدها في غرفة تقع فوق بهو النساء. وهناك تستعرض الخطيبة عادة،وهي محاطة بأعز صديقاتها،تستعرض ذكرياتها كمراهقة،وتذرف بعض الدموع على الحياة التي ستتركها. ولكن صديقات سلمى بعيدات و .. هي لم تعد تحب البكاء. (..) ترى كم يجب على سلمى أن تنتظر. إنها لا تعرف شيئا عن ذلك. والسيدة غزاوي،الجالسة إلى جانبها تضيق ذرعا،لاسيما وأن ضجة أدوات المطبخ المشيرة إلى بدء حفلة الطعام،تصل إليها. وتعبر عن ذلك بقولها :- إن هذا مخجل. فكل الناس يستمتعون،ويحتفلون،ويتركونك وحدك! إنهم برابرة. فاعدلي يا أميرة عن هذا الزواج اللا معقول. فما يزال أمامك متسع من الوقت.- اسكتي.ولم يكن مزاج سلمى يسمح لها بالاستماع إلى شكوى مرافقتها (..) – استيقظي يا آبا {في الهامش : أبا APAالأخت الكبيرة.} فالمولوي يصل عما قريب. وزهراء هي التي تقول هذا بصوتها الشفاف.وتقوم النساء حول سلمى بإسدال ستائر واسعة،حتى لا يراها الشيخ. ولكن أين هو الخطيب؟ وبدأت زهراء تضحك من قلق الفتاة. - مالك،يا آبا؟ غدا سترينه. غدا؟ إن سلمى لم تعد تفهم،ولكن لم يعد هنالك وقت لطرح الأسئلة. وتنظر فترى في الجانب الآخر من الستارة،صخبا عنيفا،وهمسا،وسعالا. وأخيرا،من داخل الصمت،يرتفع صوت أجش،يتلو آيات من القرآن. وفجأة تسمعه يناديها ويقطّع كل كلمة من كلامه،ويقول : يا سلمى بنت خيري رؤوف،وخديجة مراد السلطانة. هل تقبلين بأمير،بن أمير علي من بادلبور،وعائشة سليم آباد زوجا لك؟ هل تقبلين؟"كلا .. لا أريده".){ص 378 - 383}.إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"20"
يا سلمى بنت خيري رؤوف،وخديجة مراد السلطانة. هل تقبلين بأمير،بن أمير علي من بادلبور،وعائشة سليم آباد زوجا لك؟ هل تقبلين؟"كلا .. لا أريده".وتظن سلمى أنها أعلنت صوتها فيما قالت. ولكن النسوة بقين كما هن،حولها. وضاقت صدرا،وبدأت تبحث بعينيها عن زهراء : فلا تجد أمامها إلا الراني عزيزة بوجهها القاسي. وعليها أن تجيب. وفجأة تلاحظ أنها حتى الآن كانت تمثل،تمثل دور الخطيبة،ولكنها في الحقيقة،كانت تحتفظ بقرارها لآخر لحظة،عندما تستطيع أمام الشيخ (المولوي) أن ترى أمير،وتقرأ ما في نفسه من خلال عينيه .... فهل خدعوها! .. أو أنها خدعت نفسها وأخطأت؟ (..) – سلمى هل تريدين أن تقبلي ... "كزوج".وعاد الصوت يتكلم،أولا يَدعون لها لحظة للتفكير؟ وتشعر بأن النسوة حولها يضحكن ملء أفواههن،ويسخرن بنظرات عيونهن. "لعلهن ظنن أني خائفة؟".- بلى أريده.أتراها هي سلمى،التي تكلمت. لقد أعاد الشيخ جملته ثلاث مرات. وثلاث مرات سمعت نفسها تقول : نعم،بصوت المصمم،حتى إن النساء بدأن ينظرن بعضهن إلى بعض وكأنهن يقلن : أي أسلوب غريب يستخدم،لدى فتاة تتزوج!ولكن الحفلة كلها لم تدم أكثر من خمس دقائق. (..) ومن جديد،عادوا فدهنوا جسمها بالعطور،وألبسوها الغارارا الحمراء والمذهبة،غارارا المتزوجات. وعلقوا بعنقها وأذنيها،عددا كبيرا من الحلي الماسية،ووضعوا في زنديها عشرات من الأساور الذهبية،تملأها من الرسغ حتى المرفقين. بل إن رجليها أثقلت بسلاسل ذهبية،وكذلك باهماها{هكذا!!} فقد جعلا يلمعان بالأحجار الكريمة. ولم يعد ينقصها إلا الماسة الوحيدة التي توضع في الأنف الأيمن. والتي لا تكون العروس جميلة إلا بها. ولكنها قبل ذلك ببضعة أيام،عندما جاءت النساء ليثقبن أنفها،صرخت صرخات احتجاج،كانت من القوة بحيث أنهن تركنها،وتخلين عن عملية الثقب.ولكن الشمس قد علت في الأفق،وها إن سلمى،مزينة كوثن معبود،وغارقة في غرارتها القاسية من كثرة التطريز،تنتظر. فهي جاهزة. فهل يتفضل راجاها الجميل،بأن يأتي أخيرا؟ولكن سلمى ليست مستعدة تماما تماما. ذلك أن امرأة تقترب منها ،ماسكة بيدها،مسكة دينية،وشاحا من الموسلين الأحمر،مغطى بستارة من الورد والياسمين،فوقها أشرطة مذهبة. وهذا هو وشاح الزوجة،الذي سيغطي وجهها،طيلة حفلة الزواج. وتشعر سلمى أنها تكاد تختنق،تحت هذا الحجاب المثلث،ولكنها تعرف اليوم أنها لا تستطيع أن ترفض هذا الشيء الذي يرمز إلى الصفة {هكذا} العذرية.وبدأت الفتيات تغني. ثم تأني يدان قويتان فترفعانها وتنقلانها بنعومة،كأنها صرة صغيرة من اللون القرمزي والمذهب،إلى ما تحزر أنه سيكون الفناء المركزي للزينانا. ومن خلال حجابها ترى كرسي العرض يتبوأ منصة. وبألف عناية يضعونها فيه. وبدءا من هذه اللحظة،لم يعد يجوز لها أن تأتي بحركة،ولا أن تتنهد أبسط التنهيد. إذ يعتبر أنها ليست شيئا آخر غير الرقة،والضعف،والاستسلام المنتظر. (..) وتبتسم سلمى ابتسامة مسكينة،محاولة أن تدفع الدوار عن نفسها،فتسمع من يقول لها : - اخفضي عينيك،فالعروس المتواضعة لا ينبغي لها أن تضحك!والراني عزيزة،في قمة الاستنكار : "هذه الحمقاء الصغيرة على وشك أن تفضحنا. أولا تفهم أن من قلة الحياء أن تعرب عن سعادتها،لدى انتقالها من حياة العزوبية إلى حياة الزوجية. وكذلك من المعيب أن يظهر عليها شيء من البؤس،لما لذلك من إساءة إلى أسرتها الجديدة؟".{هذه والله الورطة!!! ويقولن لماذا تثور المرأة وتتمرد؟!!}ومع ذلك فإن هذه الأشياء بسيطة يسهل فهمها. ويزداد الحر أكثر فأكثر،فتتنفس سلمى بعناء ..(..) ترى كم ظلت مغمى عليها؟ إنها لا تعرف.(..) .. أمير!وكانت النساء ترش على قدمي الراجا،ذلك الماء الذي تحممت به الخطيبة،ثم انسحبن باحترام. فتقدم بخطوات خفيفة إلى الكرسي العرائسي،حيث تنتظره سلمى،ويجلس بجانبها،مع الحذر من أن يمسها. أما هي فإنها لا تراه،ولكنها تحس بأنفاسه،القصيرة نسبيا. أيكون في مثل حالها من الهيجان؟ ولقد غطوهما بشال واسع،يخفيهما عن أنظار الناس : وفوق رأسيهما كانت تقف امرأة تحمل القرآن،وبين رجليهما وضعت مرآة. وفي هذه المرآة سيرى كل منهما الآخر لأول مرة."أترفع حجابها،إنه ينتظر هو أيضا ليرفع حجابه. وأخيرا سأراه،فمم الخوف؟". وتتابعت على أنظار سلمى صور مخيفة : فتحت حجاب زوجها،يختفي وجه كوجه القرد،تظهر عليه حبات الجدري ... كما لو أنه مخلوق عجيب. وهي تحسه تعرف أنها تحسه. فكيف لم تحزره من قبل؟ ولهذا رفض أن يقابلها قبل الزواج! أما الصورة. فهي مزيفة وقد أرسلت لمجرد الإقناع. وما من مرة ظهرت لها يدها ثقيلة إلى هذه الدرجة،عندما جمعت كل قواها،لتحملها إلى حجابها. ولما لم يكن أمير ينتظر إلا هذه الإشارة،فإنه أسرع،بحركة خفيفة،فكشف هو حجابه. أما في المرآة فإن وجهه الحار كان ينظر إلى عينين زمرديتين مبللتين بالدموع. ولم تنتظر سلمى نهاية الصلاة. فما إن شعرت أن الحفلة انتهت وجدت نفسها بين أيدي نساء يمسكنها،ويضعنها على الهودج إلى جانب زوجها.ومن خلال الستائر التي كانت تحجبها عن الأنظار،هاهي الآن ترى مسيرة المدعوين (..) ورفعت سلمى الحجاب عن وجهها،وهي على الفيل،بعيدة عن الأنظار الطفيلية وعن النقاد. ونظرت إلى زوجها،مندهشة سعيدة. وهو أيضا لم ينس أن ينتهز الفرصة،فتخلص مما وضعوه على رأسه من المزعجات،وابتسم لها كالمتواطئ معها. فغمر الفرح قلب المرأة الشابة : يبدو إذن أنه يفهمها،ويعرف كم هو صعب أن تتحمل هذا كله.وتوقف الفيل. ثم ركع ببطء،في الحين الذي وضعوا على جنبه السلم الذهبي. أما الخدم والحشم فإنهم (أو إنهن) ينتظرون سلمى،في الطابق الأرضي،لكي يحملوها إلى الأجنحة المخصصة لها. وتحاول أن تتخلص منهم،وتريد أن تمشي. ولكن أمير،الذي كان وراءها،يتدخل ويقول : - إن عليك أن تحترم التقاليد!وكانت هذه أول جملة تبودلت بينهما. ولن تنساها. أما غرفة الزوجية فإنها اختفت تحت أكوام الأزهار. وهناك صوان من الفضة،وضعت فيه فواكه،وسكاكر،صففت كالأهرامات. أما في محارق العطور،الموضوعة في جهات الغرفة الأربع،فيُستهلك المسك والصندل.) {ص 384 - 389 }. كما قفزنا فوق ما لا يخص القارئ غير (المتطفل)،فإننا سوف نقوم بعدة قفزات .. مبتدئين بالحفل الذي أقيم بعد أسبوعين من العرس : ( أما الراني عزيزة،المتألقة،كما لو أن الناس يحتفلون بانتصار شخصي لها،فتأمر وتطلب : وها إن أكواما من"البالايكي جيلوريان"- وهي مخاريط من الكريمة الطرية،المحشوة بالجوز والمعطرة بالهال – والحلوى،والموتانجان – وهي مربى صنعت من لحم الجدي – وكل أنواع الحلوى المخصصة لطعام العرس،تقدم،مرصوفة بشكل فني،على صوان من الفضة المطلية بالذهب.){ص 407}.ثم إلى حفلة حضرتها سلمى وأمير،لدى السير هاري ويغ – حاكم المحافظات المتحدة – وهناك :(.. بدأت السهرة بداية حسنة : إذ قدم الكبد المعجون وخمرة السوترن،وطير الدرج المسقي بخمر البورغواني المسكر. ذلك أن السيد الحاكم يحسن الاستقبال،ثم إنه حسن التصرف مع النساء. إلى أبعد مدى. وكانت سلمى قد نسيت تقريبا،أن مصاحبة الرجال،شيء سار جدا،وخاصة عندما تشتعل في العيون تلك الشرارة الصغيرة،فتشعر من جديد أنها امرأة.){ص 419}. ليس بالضرورة أن يدقق أحد على تلك الأسطر التي تبدو للناظر وكأنها قد لونت باللون الأحمر!! ولا يتسرب إلى ذهن أحد وجود إشارة إلى الاختلاط ... أو – ربما – الرغبة المحمومة لدى البعض للاختلاط .. كأن يقول قائل : إذا عرف السبب بطل العجب ... كلي أمل ألا يتسرب إي من تلك الأوهام إلى ذهن القارئ ... فنحن هنا نحاول رسم صورة لحالة الترف لدى حكام الهند من الوطنيين والمستعمرين على السواء .. مقابل الفقر المدقع لدى عامة السكان ... حتى أن سيدة قدمت صغيرتها لسلمى لتحتفظ بها .. وتلك طريقة لــ(التملك) كانت موجودة في الهند حتى منعها الإنجليز .. :(في إستانبول،رأت سلمى،خلال طفولتها،الشقاء،وفي درجة من القسوة،مثل التي تراها في الهند. ولكن هذا الشقاء كان بسبب الحرب التي كانت منذ سنين تعصف بالبلاد. كان ذلك"وضعا استثنائيا"يناضلون ضده،ويعرفون أنهم سيتغلبون عليه. أما هنا،ففي كل يوم،يموت آلاف الأطفال من الجوع،وهذا واقع مقبول،متوقع،داخل في عادات الناس. والعكس هو الذي يستغربه الناس. وتتساءل سلمى : من يعرف؟ ربما أن الأغنياء تقوى شهيتهم لأنهم يعلمون أن الطعام امتياز،وفرط السِمن علامة على لوضع الاجتماعي؟ أو يكون هنالك لذة للأغنياء بالغنى،لو لم يكن هناك فقراء يذكرونك في كل لحظة،بأنك من المحظوظين؟ ){ص 514}. نعود إلى الاحتفالات التي أقيمت بعد أسبوعين من عرس سلمى .. (ومن حسن الحظ بالنسبة إليها،أن هذه الاحتفالات ستختصر بعض الشيء،لأن فترة الحزن،في شهر محرم،ستبدأ قريبا،والحزن هنا على مقتل الحسين {عليه السلام} حفيد النبي {صلى الله عليه وسلم} عام 680،مع أسرته كلها،على يد جيش الطاغية يزيد. وسيبكي المسلمون الشيعة سبعة وستين يوما على ذلك الذي يعتبرونه الوريث الروحي للنبي {صلى الله عليه وسلم} – ذلك أن الخلفاء الثلاثة الأوائل ،المبجلين جدا لدى السنة،هم مجرد مغتصبين في نظرهم. وخلال سبعة وستين يوما لا تشهد العين احتفالا،ولا حليا،ولا ثيابا ملونة،بل تشهد مسيرات جنائزية،ومجالس،أي اجتماعات للصلاة،يقوم خلالها مرتلون،موهوبون للألم،بانتزاع طوفانات من الدموع،يذرفها الحضور،وهم يتذكرون مأساة كربلاء،وفضائل الشهداء. وتشتهر لوكنوف،في الهند كلها،بالجمال الواخز،لهذه الاحتفالات.){ ص 408 }.في احتفال الحاكم الذي نقلنا منه ما يتعلق بالطعام .. طبعا وعنايته بالنساء!! في ذلك الاحتفال،وجدت سلمى نفسها بين مجموعة من النساء الإنجليزيات ... وكن يتطلعن لدعوة هذه (الأميرة) – سمعن من ناداها بهذا اللقب – لمزيد من التسلية :(وكانت هناك سيدة صغيرة شقراء،أكثر جرأة أو أكثر فضولا من غيرها،فغامرت بهذا السؤال : - أمن زمن بعيد يا أميرة – وكم هي حلوة هذه الكلمة إذا لفظت! – تركتِ فرنسا؟ ودهشت سلمى،ونظرت إليها،وأجابت : - ولكني لم أذهب قط إلى فرنسا .وعندما لاحظت دهشتهن جميعا،أضافت قائلة : - أعتقد أن لهجتي هي التي تحمل على هذا الظن. والحقيقة أني رُبيت في بيروت.وتنهدت امرأة وقالت : - آه،بيروت،إنها باريس الشرق الصغيرة. وحقا فلقد نجح الفرنسيون بتمدين هذه المدينة. فلعل أباك،على الأرجح،هو أحد كبار الموظفين،أو هو ديبلوماسي،أو لعله ضابط؟ وأجابت سلمى،دون أن تفهم ماذا يعني هذا الحديث. - أظن أن أبي لم يفعل قط في حياته شيئا آخر غير الاهتمام بأحصنته.وصادقت السيدات على قولها هذا،وقلن : طبعا،فهو أمير .. - إنه ليس إلا دامادا،ولكن أمي سلطانة.دامادا،سلطانة،هنالك شيء غير منسجم في هذا الكلام،فلعلها تسخر منا! ... - وإذن فلست فرنسية؟ - طبعا لا،فأنا تركية.تركية! وتتجعد الأفواه،محتقرة : تركية! لقد ضحكت علينا تماما. ولكن أين مضت لتحصل على هذا اللون القيشاني،فالأتراك أقرب إلى السواد.وهذا معروف.لا ريب إذن أن أمها اقترفت الإثم،مع أحد جنودنا،عندما كنا نحتل إستانبول ...وتصدت امرأة أكثر طيبا من الأخريات،لإنقاذ هذه الصغيرة المسكينة من هذا الوضع الحرج. - تريدين أن تقولي أنك تركية من أصل إغريقي ومسيحية؟ - لا،أبدا،فأنا تركية مئة بالمئة – وقالت سلمى مستنكرة. - وجدي السلطان مراد.ولكن هذا لا يؤثر أبدا في الحاضرات. إذ لا يصل أي مسلم،في رأي هؤلاء البريطانيات البورجوازيات،إلى كعب حذاء أي بريطاني،حتى ولو كان سلطانا.وترق لحالها السيدة الطيبة،فتقول لها : - وماذا تفعلين هنا؟ - لست هنا وحدي. أنا متزوجة.- وإذن يمكن أن تكون ممن يزار. لابد أن زوجها فرنسي. - إني متزوجة من راجا بادلبور.أمتزوجة من واحد من السكان المحليين! إذن .. هي تركية .. ومسلمة فوق ذلك. فماذا كان يمكن أن نأمل أكثر من هذا؟ فيدرن إليها ظهورهن. وفجأة ظهرت أشياء شخصية جدا بينهن،فهن يتحدثن عنها. أما السيدة اللطيفة،فإنها لم تعد تجرؤ على توجيه الخطاب إليها،خوفا من استنكار صديقاتها،فتعود إلى تطريزها.وحتى في بيروت،وفي المدرسة الفرنسية،لم يحدث قط أن كانت ضحية عرقية صريحة إلى هذه الدرجة،فكظمت بسمة عندما فكرت بأن نساء الموظفين من نوع هؤلاء،ما كن ليحلمن،وهي في إستانبول،بالاقتراب منها. إن هذا حقا لغريب .. (..) إنها تحتقرهم جميعا : "أمير" وزملاءه،الذين تشبهوا بالبريطانيين،والسير هاري الذي يشرفهم بمودته،والليدي فيوليت التي تريد،في هذه اللحظة،أن تكلمها،كرما منها ونبلا. وما من مرة شعرت بمثل هذه الكراهية. ){ص 421 - 423}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"21"
وتبقى سلمى وحيدة في بلاد تركب الأفيال ... (هاهو النهار قد أدبر إلا قليلا ،والشمس الموشكة على المغيب تذهّب ماء البحيرات. وهذه سلمى متمددة على الرخام الأبيض،لتسعد بلحظات الجو اللطيف. ولم تعد الخادمات بعد الآن لتزعجها في هذه الحديقة الداخلية،الأخيرة بعد أفنية النساء. فجعلت لنفسها منها معبدا. فهنا تحلم،وهنا تبكي،وأحيانا تكتب الرسائل إلى أمها،تتحدث لها فيها عن سعادتها.واليوم،هو الذكرى الشهرية لزواجها : فلقد مضى شهران،شهران فقط! .. وعندما أخذت الكآبة تستبد بها،انتصبت واقفة. لتتساءل فجأة عما تعمله هنا،وما تعمل بحياتها ... هنالك شاي ... ثم شاي. وعشرات من النساء اللطيفات،ممن لا ترغب في أن تحدثهن بشيء،وهناك بسمة زهراء،ولعبة الورق مع الراني،ثم ... أمير،أمير في النهار،وأمير في الليل،وهذا الراجا المغري،الجنتلمان الكامل،المنشغل بالسياسة،وبإدارة شؤون دولته،وهذا الجسم القاتم،الصامت،الشره،اللامبالي ... فمنذ صدمة الليلة الأولى تعودت،تلك الكلمة الفظيعة ... ولكن ماذا تستطيع أن تفعل،إذا كان زوجها أصما،وأخرسا{هكذا} وأعمى. وهاهي تسمع وقع خطوات على البلاط. من يجرؤ؟ - آه زينل،يا زينل الطيب،لم هذه السحنة الحزينة؟- الهم،يا أميرة. فالسلطانة وحدها في بيروت .. وصحتها ..مسكين هذا الزينل. كم هو قلق! إن لدى أينديجم،كالفتين تحيطانها بكل حب،ولكن منذ بدأ مرضها،أصبحت وكأنها ولده. ولكن المرأة الشابة لا تملك أن تكبت رغبتها في مناكاته. - أتريد أن تتخلى عني؟ ألم تعد تحب سلماك؟ فيحمر خجلا،ويعض شفتيه. فتأسف هي. - ولكن لم أنت هكذا،كنت أمزح. فأنا أيضا أريد أن تعود إلى بيروت. وأكون أكثر اطمئنانا إذا عرفت أنك بقرب أمي. (..) وضحكت ضحكة كأنها خارجة من حنجرتها.- أفلا ترى كم أنا محاطة،ومدللة. فقل لأيندجيم أني زوجة تغمرها السعادة. (..) - كنت على وشك أن أنسى. إن السيدة غزاوي تريد أن تكلمك. - هل تريد هي أيضا،أن تسافر .. لها الحق،فليس لديها هنا ما تعمله.ذلك أن هذه اللبنانية أتعبت سلمى بنقدها،وشكاواها المتتابعة.){ص 425 - 427}. بينما كانت سلمى في السوق،بدأ الاقتتال .. وتسأل :(ولكن لم يقتتلون؟ - إنهم السنة الذين بدءوا،فقد هاجموا مظاهرة دينية شيعية،مدعين أنها تشتم حظرة{هكذا} عمر،الخليفة الثاني. (..) {وبينما يتحدث النساء في المجلس،عن رواية حب إنجليزية} فتنفجر :وماذا يهمنا من هذه التفاهات! فانظرن إلى ما حولكم{هكذا} وفي مدينتكم،وتحت نوافذكم : فالناس يقتتلون فيما بينهم،وأنا عائدة من أميناباد،حيث كنت أكاد أشنق.وتخونها أعصابها فجأة. وهي تكاد تختنق،فتحيطها النسوة من كل جانب،وتؤتى بالماء البارد،والأملاح ... وتندهش النسوة،ويستنكرن. إذ أن مثل هذا الأمر لم يحدث منذ ثلاثين سنة،أو منذ منعت في عام 1908 القراءة العاملة لتاريخ الصحابة،وهي نصوص سنية،تحكي فضائل ومزايا الخلفاء الأول{رضي الله عنهم} "مما تعتبره الطائفة الشيعية إساءة لشهدائها،وترد عليه بقراءة التبارة Tabarrah التي توضح أن هؤلاء الخلفاء كانوا مغتصبين"ولكن ماذا يجري الآن؟ ولِمَ هذه الاضطرابات من جديد؟غير أن البيجوم ياسمين تنظر إلى راني خامبور الجديدة نظرة قاسية،وتقول : - وهذه لعبة أخرى للإنكليز،على ما أفترض : وهي أن يثيروا الانقسام بين الهنود لكي يقولوا لنا،عندما نطالب بالاستقلال،إنهم يريدون أن يقدموه لنا،ولكن شريطة أن نتفق أولا فيما بيننا.){ص 435 - 437 }.وتذهب سلمى لزيارة جدة الراجا،وهناك تجد راحتها بعيدا عن الراني عزيزة،ويأتيها وفد من النساء يطالبن بفتح مدرسة للبنات،مثل تلك التي ستفتح للذكور،ويطلبن منها ألا تخبر زوجا بأنهن وراء الطلب،لكي لا يعرف أزوجهن،فيعاقبن بالضرب!!!!! ويردن للأمر أن يصدر عن الراجا. ولكن الرجال يعلمون بالخبر قبل أن تخبر سلمى الراجا،فينفي وجود الفكرة،ثم يغضب حين يعرف أنها لم تخبره ... وكأنه آخر من يعلم .. ويتخوف من عصيان الرعية!!! ثم يتفشى الطاعون .. (وبعد أن زرق { الطبيب} سلمى بمصل – موثوق بنسبة 95% - طلب منها،كما لو كان الأمر طبيعي تماما،ما إذا كانت تريد أن تسعاده. - وإلا فإنني سأجد الكثير من العناء في الدخول على الفلاحات : فأكثريتهن ترضى بالموت،وتفضله على أن يقوم رجل بفحصها. ولم أجد زميلة من الزميلات ترضى بأن ترافقني ..وينبغي أن يكون الذهول قد ظهر على سلمى. فابتسم،وقال بصوت عذب : - وعلى كل حال،فأنت رانيتهن،وكما يقول المسيحيون عندما يتزوجون : "للخير كما للشر".وقالت سلمى،على الرغم من أن جسدها يتأبى هذه الفكرة : بلى.وخلال أيام وأيام،كانت تتبع الطبيب،كآلة أوتوماتيكية،ويداها مغطاتان بالقفازات. وأدنى الوجه مستور بالقطن. وكانا يدخلان البيوت. ولسوء الحظ كان الأضعف مقاومة،من الأطفال والنساء،قد أصيبوا. وكانت وجوههم مصبوغة بلون قريب من البنفسجي. ويكادون يختنقون،ويتبرزون برازا سائلا أسود. أما الرائحة فهي لا تحتمل. وتقف سلمى عن التنفس،من شدة الهلع. وبهدوء يلمس الطبيب النبض،ويفحص الحنجرة،والإبطين،والأعين،ويشق الغدد التي ينفجر منها القيح،ويطهر الجرح،ويجفف العرق،ويشجع،ويطمئن. وعرضت كانيز فاطمة وامرأتان أخريان أن تساعداها. فتنظر سلمى إليهما،يمسكن الأحواض،,يغلين الماء،ويغسلن الصديد والبراز. أما هي فإنها تعجز عن القيام بأي حركة،فتتذكر إستانبول،ومستشفى هاسيكي،حيث كانت أمها تأخذها معها لزيارة الجنود الجرحى. وتتذكر خوفها وغثيانها. ولكن الدكتور رضا لا يراعيها. - إني بحاجة إلى مساعدتك،فأعطيني الضمادات.وينتظر. فتقترب من السرير شبه مرغمة،وتقدم القطن ولفائف التضميد. - تفضلي بالبقاء إلى جانبي،وإعطائي الأدوية.فتنقاد لما يطلبه منها،وكأنها مسحورة. وخلال دقائق تبدو وكأنها لا تنتهي،تراه يقبل على عمله برقة ونعومة. ثم إنه ينتصب،ولأول مرة تبتسم عيناه عندما يرى سلمى،ويقول : - .. شكرا.فتهز رأسها،وقد فوجئت بهذا الطبيب،وهذا الذكاء. - كلا،إن عليّ أنا أن أشكرك.وفي الأيام التالية،يراها تبقى إلى جانبه. وما من مرة طلب منها أن تمس المرضى،بل اكتفى منها بأن تكون هنا،حيث هو،للحديث معهم،والابتسام لهم.وعندما مضى أسبوعان،كان الوباء قد أوقف. ومن ألفي قرية مات خمسون : إنها أعجوبة. فيقرر أمير عندئذ أن يعود إلى لوكنوف. أما الدكتور رضا فيبقى بضعة أيام أخرى في القرية لمزيد من الاطمئنان.وفي صباح يوم السفر،جاء لتحية سلمى. فقالت له : - أيمكن أن تصدقني. إني حزينة تقريبا أني أسافر. - وأنا إذن! إنني أفقد أفضل ممرضة عندي!ويتمازحان. لكن ضحكتهما تبدو مزيفة. فلقد كانا قريبين جدا،بصورة يندر أن توجد. ولكن كل واحد الآن مضطر للعودة إلى العالم الذي يخصه. وعلى الأرجح فإنهما لن يلتقيا أبدا.وهو الأفضل – إذ ما عسى الراني والطبيب الصغير،أن يقول أحدهما للآخر؟وكان المطر يسقط مدرار،عندما تركت السيارة القصر. ومن خلال الستائر تنظر سلمى،والقلب منها منقبض،إلى الزول الساكن الواقف تحت هذه الأمطار. ){ص 469 - 470}.ويقيم الراجا حفلا لصديق قديم .. اللورد ستيلتلتون ..(وهاهي الآن تتجه ببطء إلى البيانو،الملجأ المبارك الذي تستطيع أن تعزل نفسها فيه دون أن يظهر عليها أنها تهرب. وهذا البيانو،إنما هو مدينة به إلى تدخل رشيد خان،على الرغم من ثورة الراني عزيزة.أيها العزيز خان! لقد حظيت هذا المساء بمفاجأة سعيدة،هي أنها رأته للمرة الأولى منذ وصولها إلى لوكنوف. وعلى الرغم من أنه أكبر عمرا،فإنه هو الآخر صديقا لضيفها اللورد،الذي لم يكن من مبرر لغيابه عن العشاء. وكذلك فإن أمير لم يشعر بالشجاعة الكافية لكي يشرح لرفيقه القديم أنه هو ذو الفكر القوي،العقلاني المتحرر من المستبقات،كان يحتفظ بامرأته في البرداه. {في الهامش : كثيرا ما كان الهنود يحرصون على أن لا تظهر زوجاتهم بلا برداه أمام الهنود مع التسامح بذلك أمام الأجانب}. وبدأت تداعب بأصابعها،أصابع البيانو العاجية وأخذت تعزف الضربات الأولى من إحدى ليليات (سمر) شوبان. فمن اكتئاب إلى أمل،إلى هوى يتحطم ويعود فيولد من جديد،مرتجفا،عاصفا،ثم من جديد يتجلى في شهقة بكاء،في شكوى مرهفة،كخد وردة،أو كنقطة ندى تموت.وكانت تحس على يديها،وعنقها،نظرة رشيد،الحارة الرقيقة إلى ما لا نهاية. وكانا خلال تلك السهرة يتجافيان،والآن فقط،الآن إذ يظنها ضائعة في أحلامها المنسجمة،يجرؤ أن ينظر إليها. وهي تقطع أنفاسها،لكي تتلقى كل جزئ من هذا الهيجان،وهذه العبادة،التي تجعلها تتفتح،وتُعطّر،وتحيا مرة أخرى،كشعاعات الشمس على زهرة الحقل.){ص 495 - 496}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"22"
وتتلقى سلمى نصيحة من عجوز من أصل إنجليزي .. اهربي من الهند. وتلك العجوز،هي أم الراني شاهينا،وتحكي القصة :(- الماما كانت شابة إنكليزية،بسيطة جدا،ومن البورجوازية اللندنية. وكانت وقعت في غرام أبي الذي كان يتابع دراسته في الجامعة. وكان جميلا،غنيا،ساحرا. فتزوجا. وبعد سنة من ذلك،عاد بها إلى لوكنوف،وإلى أسرة لم تقبلها قط،من حيث أنها رأت أن من واجب الابن الأكبر أن يتزوج هندية.وأخال أنها في البداية،ظنت أنها بشدة اللطف،والطاعة،يمكنها أن تقضي على عواطفها العدائية. ولكن سرعان ما أدركت أن ذلك مستحيل. وأنها ستعتبر دوما تلك الدخيلة. (..) والأسوأ من ذلك،أنهم كانوا يأخذون منها الأولاد،ساعة ولادتهم. وكانت جدتي تأبى أن تربى واحدة إنكليزية،أحفادها.){ص 507 - 508}.وتصاب سلمى بالحمى ... :(- هل أصيب الإنكليز ليلة البارحة،بالحمى؟هكذا طرحت السيدة الوصيفة السؤال،وعليها سيماء القلق : فنظرت إليها سلمى مذهولة وقالت لنفسها : "وماذا تريد مني هذه المجنونة؟ وكيف أعرف أنا،أن الإنكليز أصيبوا بالحمى؟ إن هذا،رغم كل شيء،مبالغة،ولعل من الأفضل أن تسألني عن أخبار صحتي!".وكانت سلمى،منذ البارحة،مريضة. ذلك أن هيجانات الأسابيع الأخيرة قد نالت من صحتها. فهي تسبح في العرق،وكان رأسها،على وشك الانفجار.وعادت الوصيفة إلى الكلام،فقالت :- إن للإنكليز دوما خدودا حمرا. فلقد سمعتهم يسعلون.وانفجرت سلمى،تقول :- آه،ولكن دعيني مرتاحة من هؤلاء الإنكليز! وماذا يهمني من هذا الأمر؟فانفجرت زهراء الجالسة بجانبها،ضاحكة.- هدّئي نفسك يا أبا. فهذه المرأة تتبع التقاليد : فهم يظنون أن الجمع بين الشر وبين اسم الأشخاص الذين نحبهم،يجلب لهم الشر. ولهذا فإنهم لا يقولون : "هل أنت مريضة؟" ولكن يقولون : "هل أعداؤك مرضى؟" والنساء اللواتي يكرهن الإنكليز في لوكنوف،اعتدن على وضع كلمة الإنكليز،مكان كلمة"العدو". ولهذا،فبدلا من القول : هل أصابتك الحمى؟ يقولون : "هل أصابت الحمى الإنكليز ..". ويقرع الباب : ذلك أن الحكيم صاحب ،قد وصل. وهذا الرجل طبيب الأسرة. وفيما ترى فإن له من العمر ما لا يقل عن ثمانين سنة. (..) وكانت الخادمات يصخبن،حول سلمى. وكانت اثنتان منهما قد أمسكتا بغطاء ثقباه،بعناية،ثقبين مختلفي القطر. وبسطتاه بصورة عمودية على السرير،فأخفيتا سلمى،وزهراء،كما أخفتا نفسيهما،إخفاء تاما.وسألت سلمى المذهولة :- ماذا تفعل هاتان؟- أرجوك يا أبا. ولكن يجب أن تستبقي البرداه.- أبرداه،من أجل رجل بهذا العمر؟وأجابت زهراء مذهولة من دهشة زوجة أخيها :- إنه رجل على كل حال!- وكيف يستطيع إذا أن يفحصني؟إن الأمر بسيط جدا. إذ تعطيه يدك من الثقب الكبير لقياس نبضك،والتحقق من ردود فعلك. أما الثقب الصغير فإنه يستطيع من خلاله فحص لسانك،وفحص حنجرتك.وعندئذ تدع سلمى نفسها تستريح على وسائدها.- حسنا،أرجو مع مثل هذا الفحص ألا يكون لدي شيء خطير ...){ص 519 - 520 }. هنا لابد من القفزة،قفزة كبيرة،لتخطى حديث طويل عن الشذوذ،والخوف من الوقوع في براثنه ... ثم إقناع سلمى لأمير بتزويج زهراء من رشيد خان ... عبر هذه القفزة،نصل إلى حفلة حضرتها سلمى،وفيها قابلت شابا إنكليزيا،حديث عهد بالقدوم إلى الهند،ولا يعرف أحدا،فيعرض على الشابة أن ترقص معه ... وهناك يتدخل أمير،ليعرض على الشاب (المبارزة) بـ(السلاح الذي يختاره) .. وبعد كثير من الاعتذار،وإظهار حسن النية ... تصبح سلمى هي المذنبة .. (اعتبارا من اليوم لن تخرجي من غرفتك. وسيحمل إليك طعامك هنا. وممنوع عليك أيضا أن تتنزهي في حديقة القصر،أو أن تستقبلي صديقاتك : إذ ستعرفين كيف تقنعيهن بإيصال الرسائل. ومنذ الآن ستضعين البرداه الأكثر احتشاما. (..) من ذو تلك الليلة المشؤومة لم تر سلمى زوجها،إذ لقد نقل حاجاته الشخصية،وعاد إلى جناحه الذي كان فيه أيام العزوبية. ولو استطاعت أن تكلمه،إذن لأمكنها أن تثنيه عن هذا كله،لأنه يحبها،رغم كل شيء،لكن الاتصالات الوحيدة،تمر بطريق الراني عزيزة،فأخت الراجاه التي تراقب الأخبار التي تخرج من الزينانا. وهنا يكمن الخطر. وربما تركت سلمى نفسها تموت،وأمير لا يعرف شيئا عن ذلك.(..) وعندما طلب الراجاه من أخته،أن تزوده بأخبار زوجته،أجابت هذه بأن العزلة الإرغامية ستكون طيبة النتائج (..) ويجيب أمير : وماذا لو أنني كلمتها،وقلت لها إنني أعفوا عنها هذه المرة وأنها إذا أعادت الكرة،فسوف أطلقها؟وإنه لبعيد عن التخيل ضحك سلمى،إذ هي سمعته يقول ذلك. فهو لا يعلم أن الأميرات،في الأسرة العثمانية،هن اللواتي يطلقن أزواجهن،إذا سمح السلطان بذلك. وما من مرة سمح لدامادا بالانفصال عن زوجته ذات الدم الملكي. إذ كان ذلك يعتبر إهانة للسلطان نفسه.وليست سلمى من هؤلاء الزوجات الهنديات اللواتي إذا هن طُلقن،فإن هذا يعني الموت،ذلك أن أسرة الزوجة لن تقبل بعودتها إليها. والبنت المطلقة،هي العار بالنسبة إلى كل الأقرباء،والبرهان على أنها خالفت القواعد التي تنظم الحياة الاجتماعية : وإذن لم يعد لها مكان،في أي مكان. وإذن فمن الأفضل للفتاة أن تقبل بشرط العبودية،والخنوع،لا لزوجها فقط،بل لأسرته كلها،بدلا من أن تكون منبوذة. والراني عزيزة أكثر فطنة،فلقد أدركت مدى الزهو الذي لا يقدر،لدى هذه الغريبة. (..) وبنظرة الأخت العطوف،تداعب وجه أخيها،المعذب.- لا تخف. فأنا سأهتم بها على أفضل الصور. فإذا تدخلت أنت،فعلينا أن نستأنف بعد ذلك عملنا،كأننا لم نفعل من قبل شيئا. (..) ومن يوم لآخر،كانت سلمى تضعف جسديا. ولقد حاولت قسر نفسها على الطعام،ولكن معدتها لم تعد تتحمل شيئا،وحتى الشاي نفسها،فإنها تسبب لها الغثيان (..) و راسّولان،الخادمة الصبية،التي جاءت ذات يوم،ورأت سلمى تعاني أزمة مرهقة بشكل خاص،هي التي أوحت لها بأن الطعام الذي يقدم لها،هو الذي لا يناسبها،على ما تقدّر ... ولم تزد على ذلك شيئا. ورأت سلمى أنها مجنونة إن هي تخيلت .. ولكنها على مدى يومين،كانت ترد الطعام كما جاء،وانقطع التقيؤ. ومنذ الآن تكتفي سلمى بشرب الماء من الصنبور،وببعض اللوز الذي تحمله راسّولان إليها،خفية. فتشعر أنها أفضل مما كانت. ولكن تعوزها القوة التي تساعدها على النهوض،أو حتى على إصلاح زينتها.(..) – إن هذه جريمة! فمن أمر بهذا؟وفي وضع متوسط بين النوم واليقظة،تدرك سلمى أن حولها صخبا،وتسمع بعض الأصوات التي تكاد ترهق طبلة أذنيها. ولكن لماذا لا يدعونها تنام؟ فتئن،وتتحرك قليلا،ثم تعود إلى الصمت،الذي هو الشرنقة الدافئة التي تتكور داخل متعتها.وتقف زهراء الخجول أمام الراني عزيزة،متهمة!- لو أننا لم نختصر رحلتنا،لعدنا ووجدناها ميتة!وحقا،فإن طبيبا شابا استدعي على عجل لزيارتها،وأكد أن وضعها خطير : فعدة أيام أخرى بلا طعام،والقلب عندئذ يتوقف.ووقف الراجاه،ممتقع الوجه أمام أخته عزيزة التي تقابل أسئلة زهراء بالصمت الذي ينطوي على الاحتقار. ولكن أيهما هو المجرم؟ أهو أم هي؟ إنه يعرف أنها تكره سلمى،ومع ذلك فقد وكل إليها السهر عليها،وصدق كلماتها المطمئنة،دون أن يحاول التحقق منها. (..) وبشيء من الضيق،ينظر إلى هذا الجسد الهزيل،والوجه الذي يشبه العصفور،ويتخيلها ميتة،ويجرب أن يتصور الألم الذي كان سيسحقه،لو ... ولكنه رغم جهوده هذه،فإنه لا يشعر إلا باللامبالاة. فهو مستاء من ذلك : وإذ هو لم يشعر قط بهذا المرض المسمى باسم"الحب"فإنه،على الأقل،شعر بحنان تجاه زوجته.(..) وتنظر زهراء بشيء من العتاب إلى أخيها الذي يبتسم لها باغتباط.- يقول الطبيب إن أبا بحاجة إلى ممرضة تبقى دائما معها (..) ولكن ينبغي أن تغير المنظر أمام عينيها،وأن يكون لها نشاط يخرجها من اكتئابها (..) - إن زوجتي سعيدة هنا تماما! فإذا انتهينا من هذا،قلنا إن هواء الريف سيفيدها،بلا ريب. سنسافر إلى بادلبور،متى أمكن ذلك.){ص 572 - 579}.وذهبا إلى بادلبور ... وقابلت سلمى جدة أمير ... وتحسنت صحتها .. ولكنها قابلت أيضا مواقف صعبة ... إحراق زوجة هندوسية شابة – كانت تحت رعاية سلمى - ،مع زوجها الميت،المسن ... ولم تستطع إنقاذها،ولا يستطيع أمير أن يغير عادات رعاياه من الهندوس .... ومات (ملك تركيا) .. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"23"
أيقظت الخادمة سلمى .. وأخبرتها بموت (ملك تركيا) ... فهبت .. إذا مات السلطان؟ ... وبعد قليل دخل أمير،يرتدي زيا أسود اللون .. حدادا .. ثم علمت أن ملك تركيا لم يكن غير (مصطفى كمال) والذي اعتبره الهنود المسلمون رمزا لأنه حرر بلاده من الاستعمار،و سوف يصلون عليه صلاة الغائب .. فيزداد حزنها،وتبعث بطاقة دعوة لبعض صديقاتها – ومن هن زهراء – لتحتفل بموت (كمال) ... وكان شرب الخمر قد أنهك صحتها ... لم يحضر أحد،ولا حتى زهراء .. بل حضر رشيد خان ... (وكان رشيد خان يقف على العتبة. ولما كانت شاردة في ذكرياتها،فإنها لم تسمع خطوات دخوله. ماذا؟ أو أيضا يلبس الشرواني الأسود؟ وبنوع من المجاملة،تبتسم له.- دعك عنك،يا رشيد بك،هذه الشكليات،ألسنا أخا وأختا؟ أين هي زهراء؟- في المسجد .. وأنا عائد منه. ورأيت أن أمر بك لأعتذر عن حضور حفلتك. - ولماذا؟- سلمى،أرجوك،انتهي من هذه اللعبة. إنها لا تناسبك.وجلس رشيد إلى جانبها وحملق فيها بقلق.- إن عليك ملامح التعاسة منذ بعض الوقت،فما الذي لا يستقيم لك؟( تجاوزت عبارات بخط صغير،يبدو أنها منقولة من "مذكرات") - أي خيال خيالك؟ ألا تعلم أنني المرأة المدللة أكثر من كل امرأة أخرى في العالم،والمحبوبة أكثر منهن جميعا.وأخذ رشيد يدي سلمى،وبدأ يضغط عليهما بقوة. فنظرت إليه مندهشة،فما من مرة قبل ذلك تجرأ على مثل هذا،ويبدو أنه مضطرب جدا.- كم تغيرت ... فالفتاة المتحمسة التي كنت أستقبلها في بومباي،ولم يمض بعد سنتان،أين هي الآن؟ سلمى،إن عليك أن تقاومي : فأنت في الطريق إلى تدمير نفسك...- وما أكبرها من خسارة!- أتوسل إليك،إن كنت تحبينني قليلا ..ثم سكت،فبقيت صامتة،تراقبه : أيظن،حقا أنها تحبه كأخت؟ وبحركة واحدة تستطيع أن ترده إلى رشده،وتنتقم من أمير ومن زهراء معا. زهراء؟ إن (أمير) ليس أخيرا إلا رجلا،وما من رجل يستطيع الآن أن يخيب أملها (..) وقالت له،لكي تأسف مباشرة على ما قالته :- إني أحبك.فأخذها من ذقنها،وتناول منديلا،ومسح لها دموعها كيفما اتفق،واصفر لونه.- سلمى،أنا أيضا أحبك،فمنذ رأيتك تنزلين من هذا المركب الكبير،وأنت فيما كنت فيه من الضياع،والرقة. ولكن كان ذلك مستحيلا : كنت تأتين لتتزوجي صديقي. والآن ... - والآن ..- ربما كنت أحبك أكثر،الآن،ولكن ...- ولكنك لا تحبني بدرجة كافية!فصدرت عنه ابتسامة مرة.- هذه هي قصة حياتي : فكل الناس يحبونني،ولكن ما من أحد يحبني بدرجة كافية ليستبقيني عنده .. - وأمير؟فابتعدت سلمى قليلا. وشعرت فجأة بأنها متعبة جدا.- إنك تعرف جيدا أن أمير تزوج أسرتي.ومضى رشيد،حائرا. وهي تلوم نفسها على أنها جعلته تعيسا،على حين أنه الوحيد الذي لم يقدم لها إلا خيرا.وتنظر في المرآة إلى نفسها،فترى وجهها ازداد هزالا،وعينين محاطتين بالزرقة. وصحيح أنها تغيرت – أو اكتهلت. ربما. أما الخدان المدوران اللذان كانا يدخلان اليأس إلى قلبها عندما كانت تحلم بالتمثيل في السينما،فقد تجوفا،ونُعمت كما لو أنها منحوتة نحتا،وشفتاها اللتان كانت تراهما رقيقتين أكثر مما يجب،على سبيل التضاد مع الخدين،فيبدو أنهما تفتحتا،وهي تحب صورتها الآن،هذه الصورة التي تشبه فيها ... المرأة المشؤومة ... أو الحيوان الجميل،كما يقول أمير. ){ص 619 - 621}.تسلط الرواية الضوء على قضية تطرحها الثقافة الحديثة،وهي نظرة الرجل إلى الزوجة التي تعرف كيف تستمتع باللقاء الزوجي،واعتبار ذلك إما دليلا على (سوابق) أو النظر إلى ذلك السلوك على أنه نوع .. ربما من قلة التهذيب!!! مع أن القارئ لسبب نزول الآية الكريمة (نساؤكم حرث لكم)،والفرق بين تعامل المكيين مع اللقاء الزوجي،والذي يختلف عن تعامل الأنصار،لاحتكاكهم بأهل الكتاب .. القارئ لسبب نزول تلك الآية الكريمة لن يجد ذلك التفريق الذي تطرحه الثقافة .. مثل قول الدكتورة منيرة فخرو – أستاذة التنمية الاجتماعية بجامعة البحرين - :(المرأة الأخرى الحرة كما يسمونها هي المرأة التي تحافظ على نفسها وبحبسها وبسجنها مع الخصيان في القصور إلى آخره،لك يتأكد أنها أنجبت من صلبه .. فقسموها {أي المرأة} إلى قسمين وصارت بها الصورة الانفصالية .. المرأة الزوجة المحرم عليها كل شيء إلا الإنجاب والمحافظة على الشرف والنوع .. والمرأة الأخرى التي تمتع {الجارية} بينما في الغرب وفي المفهوم الحديث الثنتين اختلطو صاروا وحدة وهذا للي قاعد يصير في المنطقة العربية الثنتين يصيروا وحدة ..){برنامج "عن الجنس بصراحة" من إعداد وتقديم سلوى الجراح ... (البي بي سي "القسم العربي" : الحلقة الرابعة .. أذيعت يوم الجمعة 21/10/1994م}. كانت سلمى قد بدأت تحضر بعض الجلسات،مع نساء غربيات،يجلسن منفردات عن الرجال،ويتحدثن،وهن يشربن الخمر،عن خيانتهن أزواجهن،وعن اللذة ... ويحصل لقاء زوجي – عاصف - بين سلمى وأمير .. وفي الليلة التالية .. يدخل عليها أمير،في حالة سكر .. ويقول لها أنه .. في ذلك اللقاء ظن أنه مع (مومس) .. ولكنه اكتشف أنها زوجته،التي عرفت كيف تخفي نفسها بشكل جيد ... وبعد فترة أخرى .. ( ولم يعد أحدهما يكلم الآخر تقريبا. ويبدو لها أنه يريد تحطيمها،وسحقها. في كل ليلة،عندما يعودان من هذه العشاءات الحلوة،حيث تطيش من كونها امرأة جميلة ومشتهاة،يعاقبها هذا الأمير. إذ أنه ينهال على جسمها (..) وبصمت.وبالتدريج بدأت تتذوق هذه العبودية،وبدهشة كبيرة،واستغراب أكبر،وجدت أنها كانت تحب هذا الخضوع. وكشيء فاقد الإرادة (..) وقد أرعبها ذلك،من حيث أنها لا تستطيع أن تقبل أن يخونها جسمها،وأحلامها،وأنينها(.) فمن أين جاءت امرأة الليل هذه حتى تستمتع بالعبودية ليلا،فلا تستطيع في الصباح أن تتذكرها إلا وترى جسدها يرتعش منها،وتحتقرها بكل كيانها تماما كما كانت تحتقر نساء الحريم (..) وجلست سلمى أمام المرآة،ورفعت كأسها،بتفاخم،وعلى : "على كأس مصيري المجيد!" ثم بدأت تضحك ... وتضحك .. آه،كم تتألق هذه الشمبانيا (..) كم كنت حمقاء منذ قليل عندما أرادت تحدي مصطفى كمال! (..) وتنتبه،وتتأمل في المرآة : أهي أميرة – أم عاهر؟ أميرة – أم من بنات الهوى؟ .. ولِمَ لا. فإذا استثنت أمها،وهي بنت السلطان،أفلم تكن جداتها جميعا،إماء،هن أجمل من في الحريم،وأكثرهن خبرة في شؤون المتعة،وحسن تقديمها؟ أولم يكن يصلن إلى قلب لسلطان،ويصبحن في عداد زوجاته؟ ولقد تحدث الناس عن ذكائهن،ومهارتهن،وقدرتهن على حبك المؤامرات،ودس الدسائس،وهي مزايا لاشك في ضرورتها للوصول إلى المركز الأول،وضرورية أكثر للبقاء فيه! ولكن يجب أولا أن تحسن الإغواء (.) إذن ففي عروق سلمى يجري دم ثمانية وثلاثين سلطانا – أي ستة قرون من الحكم المطلق – وكذلك طبعا ستة قرون من بنات الهوى. وهي تنحدر،بدرجة متساوية،من هذين الفرعين : وهي في الحين نفسه ملكة وأمة معا. ) {ص 623 - 624 }.ظلت سلمى تسكر،وتحاور نفسها،حتى أغمي عليها ... وبعد إنقاذها – كانت قد أغلقت على نفسها الباب – اقترحت عليها راني شهيدة،أن تذهب إلى بيروت لترتاح عند السلطان خديجة،ولكنها رفضت،فأمها امرأة قوية وتكره الضعف،ولكن الراني أقنعتها بأن السلطانة أم،وسوف تتفهم ... وبعد أن أرسلت برقية بموعد وصولها إلى بيروت،وأثناء استعدادها للسفر .. جاءت برقية تخبر بوفاة السلطانة خديجة ... ثم اكتشفت سلمى أنها حامل،فتذكرت تحذير السيدة الإنجليزية،اهربي من الهند،ولكنها احتارت فهل من حقها – إن حملت بذكر – أن تحرمه من ملك أبيه؟ وماذا لو كانت (أنثى) ؟ فسألت أمير : هل على تلك البنت أن ترتدي البرداه؟ فأكد ذلك .. فقررت الهرب .. تحت ذريعة الحصول على طب حديث،فقرر أمير أن يحضر لها طبيبا إنجليزيا .. رغم معارضة الراني عزيزة،فكيف يقوم كافر بتوليد مسلمة؟ .. ثم بدأت بوادر الحرب العالمية الثانية ..فساعد ذلك سلمى على إقناع أمير بفكرة سفرها .. فاقتنع .. وجاء زينل من بيروت ليرافقها إلى باريس .. قبل السفر نعود إلى سلمى حين تلقت خبر وفتاة السلطانة خديجة ..(وعندما قضت أيندجيم نحبها،استقر في ذهن سلمى،أن طفولتها،وشبابها،هما اللذان ماتا. وأصبح ماضيها كله مهددا بالزوال،إذ لم يعد هنالك من شخص يتذكر معها،ويتذكر بها – فهما لحم واحد،وذاكرة واحدة. وكانت عيناها عيناها،وكانت أنفاسها تتملك العالم،وتعيده إليها،مدجنا،ومرحبا به. وكانت شهقاتها تخنقها. وهي لا تقبل هذا التخلي عنها. وماذا كان يُهم،إذا كانت لم تر السلطانة منذ سنتين : إذ أن مجرد معرفتها بأنها موجودة على قيد الحياة،كان يشد من عزمها. "فيما إذا كانت تفكر حولي؟"وماذا كانت ستفعل لو كانت مكاني؟ وهكذا كانت تتساءل دوما،ذلك أن أمها كانت باستمرار إلى جانبها،حتى هذه الأشهر الأخيرة التي حاولت فيها أن تنساها،إذ ما كانت لتتحمل نظراتها،أو لعل نظراتها هذه هي التي لم تعد تحتملها؟ ولم تكن لتجد فرقا بين الأمرين،إذا كانت تتمرد في بعض الأحيان،فإنه كان بينها وبين أمها هذا النوع من الحلول،وهذا الاتفاق على الشيء الأساسي.ولقد قتلتها ... بلى إنها هي،سلمى،التي قتلتها،وخلال هذه الأشهر المجنونة التي كانت تحاول فيها تهديم نفسها،كانت تهدم السلطانة في الحقيقة. والعلاقة التي كانت تصلها بأمها،علاقة الحياة الأقوى من قرب المكان،على كونها ضعيفة إلى درجة اللامبالاة،هي التي تحطمت الآن. وقد ماتت أمها من جراء ذلك .. ){ص 631 - 632}.وجاء وقت السفر ... (- نحن جاهزون،ويمكننا أن نمضي.وقفز أمير خارج العربة. وتندهش سلمى وتقول : "ما أكثر ما هو جزع (فاقد الصبر)،حتى أن من يراه،يظن أنه مستعجل في أن يراني أرحل ..". وهي تعلم أن هذا غير صحيح،وأنه مغلوب على أمره،وأنه يفعل كل ما يستطيع لإخفاء ما هو فيه،ولكنها تحقد عليه،لرفضه أن يترك أمره لله،ولهذه الرصانة التي يبدو بها معها،كما يبديها مع الأجانب. وتلك المرات القليلة التي بدا فيها مكشوف القناع،جعلها في الأيام التالية،تدفع ثمنها ببرودة مضاعفة. وبخطوات خفيفة،سبقها الراجاه في الممر الحريري الذي سلكته،منذ سنتين،بالاتجاه المعاكس. كانت يومئذ تصل،مخطوبة،متألقة بالأمل الذي تحمله،وتتقدم بثقة لكسب زوجها الجميل،ووطنها الجديد.{هل يشبه هذا حال كل "زوجة جديدة"؟ - مع التحفظ على مسألة جمال الزوج طبعا – تحلم بكسب زوجها،ووطنها الجديد!! }والآن .. فإنها تستمر في السير إلى عربة القطار المصنوعة من المعدن،,الخشب،التي ستقلها بعيدا عن ألئك الذين يعرفونها،والذين يحبونها على طريقتهم. وكانت تمشي بعدها زهراء (..) وفاحت رائحة ياسمين قوية،فانتزعتها من أفكارها. ووصلوا جميعا إلى العربة النيلية المطلية بألوان الدولة. (..) وأجابت زهراء مبتسمة،عن سؤالها الصامت بقولها : إنها باقات أمير. وعندئذ فاضت الدموع التي طال حبسها،من عيني سلمى.أهو أمير إذن .. ولكن لِمَ جعلها متأخرة إلى هذا الحد؟ أتراه استطاع،أخيرا،أن يعبر عن شيء من الحب،لأنها مسافرة؟ ودخلت العربة،مضطربة،وتقدمت نحوه. ولو أنه في هذه اللحظة طلب منها البقاء،إذن لرمت نفسها بين ذراعيه. {يا ترى .. كم أسرة تشتت .. وكان يمكن لكلمة – واحدة .. رقيقة – أن تمنع ذلك التشتت؟!! إذ أن ما بين الزوجين أقوى بكثير من أية مشكلة ... }.ولكنه اكتفى بالنظر إليها،وتراجع،بصورة لا يُشعر بها.وفيما بعد،سنراه يفكر كثيرا في تلك اللحظة التي مهما تكن الرغبة التي تشده إلى زوجته ساعتئذ،فإنه لم يستطع تجاوز المنعكس المكتسب،أو القاعدة الذهبية التي تحول بين الأزواج المسلمين،وبين أن يُبدوا شيئا من العلاقة الحميمة التي تربطهم بزوجاتهم،على أنه لا يوجد،في هذه المرة،إلا أفراد الأسرة،و زينل الذي وصل لتوه من بيروت،وبعض الخادمات .. ثم امرأته الشابة التي تتوسل إليه،بصمت،أن يقوم بحركة ما،للتعبير عن عواطفه.وأخذت سلمى،وهي ترتجف،كأس الشمبانيا التي تفضل أمير،باعتباره زوجا محبا ووفيا،بتقديمها لها. {هنا لم يمعنه إسلامه من ذلك؟!!!!!!! مع التحفظ على تقبيل الزوجة أمام الناس .. إلا أنه من العجيب أن تتم المحافظة على ذلك السلوك – الذي هو حلال في الأصل – بينما يتم شرب الخمر،الذي لا خلاف في حرمته!!!}. واستعاد برودة دمه،وطلب أن يُشرب على صحة الأميرة،وحسن تمام الرحلة،وحسن الإقامة في فرنسا. ولكنه لم يشر قط إلى التعاسة التي يسببها له غيابها،ولا إلى الأمل باللقاء القريب. وكذلك لم تلمح على وجهه مطلقا،لوائح الهيجان.{يستعمل المترجم عبارة"الهيجان" كثيرا .. وهي في معظم الأحيان تعني "الانفعال"}.ودوت صفارة رئيس المحطة لتعلم الناس بحركة القطار الفورية،فقطعت حفلة الوداع هذه. وفيما عدا زينل الذي وصل لتوه من بيروت،فإن الناس المودعين جميعا نزلوا إلى الرصيف. وكان أمير آخر من بقي. أتراه سيقبلها؟وبنعومة،ينحني أمامها،كما لو أنه سيغيب عنها لعدة أيام.- إلى القريب العاجل،يا أميرتي.- أمير!ونادته،فالتفت إليها. ونظر كل منهما إلى الآخر،لمدة طويلة،وبألم. وشعرت بأنهما لن يلتقيا أبدا،وأنها أبدا لن تعود فترى الهند.وانحنت من نافذة القطار الذي تحرك في طوفان من الدخان،وثبتت نظراتها على ذلك الزول الأبيض،الواقف على الرصيف،الذي يبتعد،ويبتعد،ويغيب ... ){ص 646 - 467}. من أحد مخابئ الذاكرة ... تبرز هذه العبارة : (ساعات اللقاء لها أجنحة ... ولحظات الوداع لها مخالب). إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"24"
وتصل سلمى – و زينل – إلى باريس،وتعثر على زميلة دراستها ماري لور،وتصبح نجمة من نجمات المجتمع الباريسي،فهي زوجة أحد ملوك الهند،وترتدي الساري الهندي،وبرفقتها زينل،بزييه المميز،وترغب سلمى ..( - إني أحب أن أدشن "الروب"الذي اشتريته من عند Lanvin ذلك أن له ثنيات "درابيه Drape "غير عادية. وتقاطعها ماري لور،وكأنها أغضبت غضبا شديدا،وتقول لها :- أروب يا عزيزتي،إنك مجنونة. البسي من عند لانفان في لوكنوف،إذا كان يشتهيه قلبك،أما هنا فإن عليك أن تلبسي كماهاراني. وإلا فإن كل الناس سيشعرون بخيبة الأمل. فماذا؟ إنها ماهاراني في ثوب مسائي؟ وأنا كيف تكون عيني في عيونهم؟ إن الليدي فيللو تظن أنني أمزح معها مزحة سيئة.وبدت سلمى،كأنما خاب أملها أيضا،وقالت :- كنت أظن أني،في باريس على الأقل،أستطيع أن ألبس ككل الناس ..ولكن ألا تفهمين أن كل هؤلاء السيدات يحسدنك،فقط. لأنك مختلفة عنهن. عفوك يا سلمى. إنك في باريس منذ شهر،ومع ذلك فإن الناس لا يتحدثون إلا عنك،أفتظنين أن أوربية ما،حتى لو كانت جميلة جدا،تستطيع الوصول بسهولة إلى مثل هذه الشهرة؟ إن المجتمع الباريسي قاس جدا،ولكي يحتل فيه الإنسان مكانا ما،يجب أن يكون قد وُلد فيه،أو أن يُسَلّي،أو أن يجعل الناس يحلمون. وعندما نهضت ماري لور طبعت على جبين سلمى قبلة.- إن عليّ أن أهرع إلى الحلاق. فإلى المساء. ولا تنسي خصيّك. ولن يصحبك إلا إلى مدخل القاعة،ولكن يجب أن يراه الناس.){ص 663 -664 }.وانغمست سلمى في الحياة الباريسية،وتعلقت بجراح أمريكي،وبدأت نذر الحرب،وكان الملل (الطفش) يسيطر على حياة الترف،والسهر الذي لا ينتهي،التي تعيشها بعض السيدات،حتى أن سيدة قالت لصديقتها،لا شيء يقضي على هذا الملل غير الحرب .. وضحكتا. .. (وفي بضعة أيام تغير وجه باريس. إذ أنهم أحاطوا الأوابد بأكياس من الرمل،حماية لها،وطلوا باللون الأزرق زجاج المنازل. وفي كل مكان تجد نساء بعمرة (كسكيت) مزينة بشرائط،وساعد،حللن محل الرجال. فهن شرطة السير،وعمال بريد،وجباة باصات،ورؤساء محطات،وسائقات شاحنات ثقيلة. ولكن الإنسان يفاجأ بتغير مدينة النور،في الليل خاصة. إذ منذ الساعة الواحدة والعشرين،يكون الظلام كاملا،ذلك أن الطريق لا يضاء،خوفا من الغارات. وحتى السيارات،أمرت بألا تضيء مصابيحها،وعليها أن تمشي على ضوء قنديل خافت. أما سلمى التي كانت تذهب أحيانا،مع زينل للعشاء،فلم تعد تخرج أبدا.){ص 700}.ولم يطل الأمر حتى هدأ الأمور،وكان الانتظار سيد الموقف .. (أما الباريسيون الذين هربوا من العاصمة،لدى إعلان الحرب،فإنهم عادوا إليها. وعادت دور اللهو إلى سابق عهدها،وبدأت دور الخياطة تطلق مبتكراته من ثياب شتوية،وعادت الحياة في شهر تشرين الأول / أكتوبر / المشمس إلى ما كانت عليه من قبل. غير أن فناني الخياطة بسّطوا الفساتين،لكي تروق لأوانس هؤلاء الجنود الشباب العائدين بإذن إلى البلد. إذ يجب أن تكون المرأة أنيقة،على بساطتها،وسيكون ذلك "دُرجة الحرب"التي تذيع الطقوم ذات اللون الأزرق R.A.F.، {في الهامش : Royal Air Force أي بلون سلاح الجو البريطاني.}ومانطويات "التعمية" ذات البقع الشبيهة بجلود النمور،والأقمشة المطبوعة "الدبابات" و"الإنذار الكاذب" و "الهجوم" بإضافة هنا،وهناك،إلى برندوريات (أشرطة عرضناية على الصدر) وبنود أكتاف،وأشرطة،هنا وهناك. وكما كتبت مجلة "حديقة الموضات" : "عليكن أيتها الآنسات أن تبقين جميلات،كما ترغب عيون أولئك الموجودين في الجبهة أن تراكن". ثم إن الإنفاق واجب وطني. وعليكن أن تقمن بهذه المهمة الأساسية التي تستطعن وحدكن القيام بها : أي "العمل على إبقاء الصناعة الكمالية حية لا تموت!".ولكن سلمى لن تدعم هذا الجهد الحربي الجميل. ولم يعد معها شيء من المال،تقريبا. وعلى الرغم من البرقيات المرسلة إلى أمير،فإنها لم تتلق منه شيئا. وتقول لزينل الذي يعتريه القلق : إن هذا الأمر طبيعي – لأن البريد أصابه الاضطراب – ولكن كل شيء سيعود إلى ما كان،تقريبا. والحقيقة أنها تتساءل عما إذا كان زوجها لم يسمع شيئا عن علاقتها بهارفي. وليكن ما يكون،فستتدبر أمرها بنفسها. وستبيع حليها كما فعلت أمها. (..) هاهي القصة تتكرر.وفي اليوم التالي،تمضي سلمى و زينل إلى جادة Gadet حيث توجد سوق الحلي – بالرخصة – ودخلا واحدة من هذه الدكاكين القاتمة،حيث يوجد رجل بلباس مصقول،والمكبر مربوط على عيونهم،ليفحصوا الحلي بوضع من يشك في سلامتها. آه،ما أبعد ذلك الزمان،زمان سورين آغا اللطيف! ذلك أن هؤلاء التجار المتميزين بالفظاظة يجعلون السيدة الشابة تشعر بأنها سارقة تحاول أن تصرف ثمرة سرقاتها. حتى إن اثنين أو ثلاثة صرحوا بأن أكثر الحجارة مزيفة،أو من نوعية رديئة. ومن حسن الحظ أن زينل هناك. فغضب،وضرب على الطاولة،وهدد باستدعاء الشرطة. وعندئذ بدأ هؤلاء الرجال القاتمون بالتلاطف،وقال أحدهم أنه يستطيع شراء الحلي كلها بخمسين ألف فرنك،لا لشيء،إلا أنه يريد أن يساعد "السيدة". وظنت سلمى بادئ الأمر أنه يهزأ منها،وتقو ل: - إن هذا لا يساوي حتى واحد من العشرين من قيمتها!- هذا هو الثمن فإما أن تقبليه،أو ترفضيه،وعاد إلى القسم الخلفي من دكانه.){ص 702 - 703 }.وتضطر سلمى للبيع بذلك السعر المجحف،بطبيعة الحال. فهي في أمس الحاجة للمال،وعلى وشك أن تضع مولودها :(- إنك أيها السيد،أب،لبنت صغيرة حلوة.وخرجت القابلة،مشرقة الوجه،من الغرفة التي كان زينل يقطعها ذهابا وإيابا،منذ الصباح،ذاكرا أسماء الله الحسنى،مستعينا بها. وكانت الشمس قد غابت منذ مدة طويلة،فتتنفس القابلة مرتاحة،بعد أن أرهقت نفسها،تقريبا كالأم التي ظنت عدة مرات أن قلبها على وشك أن يتوقف. فلقد كانت الولادة صعبة بشكل خاص : فهي نحيلة والوليدة ضخمة (ثلاثة كيوليات ونصف الكيلو) "أيها السيد : في وسعك أن تكون فخروا". (..) – وإذن يا زينل ألن تهنئني؟ (..) فاندفع نحو السرير وأخذ يديها،وبدأ يقبلهما وهو يتمتم بكلمات شكر لم تفهمها.ولما كانت القابلة حريصة على سرية العلاقات الحميمة،فقد استأذنت بالانصراف. وستعود غدا صباحا.- ومن الآن حتى الغد،فكري بالاسم الذي ستسمينها به،ذلك أنه يجب عليّ أن أذهب إلى دار البلدية،لأخبر بولادتها.وأجابت سلمى ببسمة لا مجال لتحديها :- لا تحملي هذا العناء. فزينل سيقوم عنك به. ){ص 704 - 705}.كانت سلمى قد فكرت كثيرا،وقررت أن تخفي أمر طفلتها،خشيت أن تعاني في الهند،وخشيت أن يضغطوا عليها بها،لتعود هي بنفسها إلى الهند،لذلك ضغطت على زينل حتى وافق أن يكتب :( "في يوم 14/11/1939،ولدت الأميرة طفلة،ميتة". لقد كتب ذلك. وبنوع من الخجل،بدأ الخصي ينظر إلى هذه العلامات السوداء،التي تغير،دفعة واحدة،مصير كائن إنساني. فعند الراجاه،هذه الطفلة لم تعد موجودة. وبكلمة واحدة،جعلها تزول.){708}.وفي الفندق المتواضع تقيم سلمى و زينل والرضيعة،التي أصبح عمرها تسعة أشهر،وذات يوم :(- يا سيدة!وكان هذا صوت رب الفندق الذي استوقفها قليلا في اللحظة التي كانت فيها على وشك الصعود في المصعد.- سيدتي،هل في وسعك أن تقولي لي،كم ستبقين عندنا؟- ولكني لا أعرف .. ربما بقيت شهرين أو ثلاثة،على ما أظن.- ذلك أني .. سأكون بحاجة إلى هذه الغرف. فلدينا زبائن ...وكانت سلمى تنظر إليه بازدراء،مندهشة.- إن الفندق ليس ممتلئا،فيما أعلم. والسواح ليسوا بهذه الكثرة حاليا!- لا،ولكن .. حقيقة الأمر : أن طفلتك توقظ الزبائن. وقد رحل عنا كثيرون. وأنا آسف،يا سيدتي،ولكن يجب أن تبحثي عن فندق آخر،أو بانسيون للأسر .. وأنا أعرف واحدا منها،كما ينبغي. (..) فشعرت سلمى بأنها مسحوقة. فلقد كانت على ما يرام هنا،مع هذه الحديقة. وعندما رأى المدير اضطرابها،وما هو بالرجل السيئ،فقد حاول أن يبرر موقفه.- لقد عملنا ما نستطيع. ذلك أننا لا نرضى أن نأبى استضافة سيدة شابة. أما حول الولادة،فإننا لم نقل شيئا. ولكننا لم نفكر قط في أن الأمر سيتطور إلى هذا الحال! فلو أنك أنت،أو الطفلة،قد حدث لكما حادث – لا سمح الله – إذن لقدرتِ كم هي صورة التعقيد التي تنشأ لنا عن ذلك. (..) – حسنا هيئ لي الحساب.- وخجل الرجل،وأخذ يعتذر بقدر ما يستطيع.- ليس الأمر بمستعجل،وفي وسعك البقاء يوما أو أكثر إن شئت ..- أما بالنسبة إليّ فالأمر مستعجل،حتى بالساعة. {ص 711 - 712 }.وانتقلت سلمى إلى :( فندق جادة السكريب،المسمى على سبيل التفخيم "فندق الملك" فندق من الدرجة الثالثة (..) وليس فيه قاعة استقبال،بل فيه غرفة طعام صغيرة،يقدمون فيها طعامهم بسعر ثابت. وعندما رأى الحارس هذه السيدة الأنيقة،ظن أنها ضلت الطريق،ثم إنه لمح السيد ومعه الصغيرة،وفهم أن هؤلاء هم الغرباء الذين أُعلم بأمرهم. (..) وكان لهذا الفندق ميزة أخرى : هي الابتعاد عن عيون القابلة التي ساعدت على ولادة الطفلة.){ص 712 - 713}.في ذلك الفندق تتعرض سلمى لعملية احتيال،حيث وعدتها إحدى الجارات بأنها سوف تحضر لها قابلة تشهد بأنها هي التي حضرت الولادة .. وتسلمت المرأة عشرين ألف فرنك .. وغادرت الفندق دون أن تترك عنوانا. وسقطت باريس في يد الألمان،بينما ظل الإنجليز يقاومون،مما جعل كل من ينتمي إلى إنكلترا عدوا .. أما باريس فقد أصبحت ... ( مدينة هادئة بشكل غريب،تخلى عنها ثلاثة أرباع سكانها. وقضت سلمى بعد ظهر ذلك اليوم في البحث عن حليب،لابنتها الصغيرة،ولكنها وجدت الدكاكين مغلقة. ومع ذلك فقد عثرت على سمان باعها،بسعر عال جدا،حلويات جافة وعلبتي حليب مركز.){727}.وفي ظل تلك الفوضى،رأى زينل أن هذا هو الوقت المناسب لتسجيل الطفلة،والزعم بأن القابلة قد فقدت عقلها،وفرت من باريس .. ( وسارت الأمور على النحو الذي تخيله زينل تماما. (..) – حسنا. لننظر إذن في أوراق هوية الأم،لأنك لا تملك غيرها. الاسم : سلمى. زوجة : أمير،راجاه بادلبور.وسجلت بكتابة حلوة اسم أمير،وطنت أن الاسم الشخصي هو اسم الأسرة. فيحبس زينل أنفاسه.- حسنا! والآن : راجاه بادلبور،فما هذا؟ هل هذا هو مهنة الأب. وماذا تعني كلمة راجاه؟ويتردد زينل. فإن قال تعني : الملك،فمن المؤكد أن أنها ستظن أنه عجوز مجنون.وعيل صبرها،فقالت :- لا بد أن له مهنة. فهل هو تاجر؟ويوافق الخصي،خافضا رأسه،على حين أن الموظفة تكتب بكامل الكفاءة المسكينة :- هذا هو. إنه تاجر.وشعر زينل أنه يخون الراجاه. أكثر مما فعل عندما رأى أن يقول له : إن الوليد،مات فورا. وهو لا يجرؤ على تخيل رد فعل الأمير.وخلافا لتوقعاته،فإن سلمى وجدت في حديثه ما يسليها كل التسلية وقالت :- لو قُدر لأمير،ذات يوم،أن يعرف هذا،إذن لأمر بشنقك. ولكن لا تكترث.){ص 730 - 731}.ويخبر صاحب الفندق سلمى أن زوجته تريد أن تشي بها لدى الألمان،فتغادر الفندق .. (وخلال شهر واحد،تنتقل سلمى من فندق إلى فندق ثلاث مرات. وترتعش كلما رأت أحدا من الناس ينظر إليها. وأصبحت ترى في كل مكان أناسا مستعدين للوشاية بها. على كونها تدفع ضعف أجرة الغرفة. ويقولون : "إن هذا أمر طبيعي. فنحن نغامر،وإنما نحتفظ بك عندنا من أجل الطفلة"ولكن من يدري،إذ قد تشي بك جارة،أو خادمة في الفندق. وفعلا فإن الألمان وعدوا بجائزة لمن يصرح لهم عن المشبوهين. أوَليست من بين هؤلاء في المقام الأول باعتبارها إنكليزية؟ (..) وفي مثل هذا الجو القائم على فقدان الثقة والكذب،فإن جمالها،وطريقتها في الإحساس والشعور،وسمتها"المختلفة"التي كثيرا ما كانت رصيدا لها،أصبحت الآن مصدر خطر. ومهما تفعل لتكون كسائر الناس،فإنها تظل موضوع ملاحظة. وذات يوم،صادفها رجل يحب المغامرة مع النساء،وكانت قد أوقفته عند حده،فقال لها غاضبا :- آه،إنك شديدة الزهو بالنفس،ولكن إذا رحت وأخبرت الألمان عنك،ومن أنت،فلن تكوني بعد ذلك في مثل هذا الزهو،فما رأيك؟ولم تشأ سلمى أن تخاطر بنفسها من جديد،فأرسلت زينل يسدد الحساب. وبعد نصف ساعة،غادرت الفندق،ولفت البنت الصغيرة بشال.وانتهى الأمر بها وبزينل إلى جادة الشهداء في بيت حقير دلوها عليه،لأنه يقبل الأجانب،متى كانوا قادرين على الدفع. ){ 733 }.ونفد ثمن المجوهرات،التي ظلت سلمى تبيعها قطعة بعد أخرى. وكانت رغم كل شيء تذهب،في بعض الأحيان،إلى بعض الأماكن الجميلة وتتناول وجبة،أو تشرب فنجان من الشاي ... ثم قابلت خياطة اسمها شارلوت،اكتشفت أن الثوب الذي ترتديه سلمى من صنعها،وانحنت للتأكد من بطانة الثوب،ذلك أن رئيسها كان يقول لها أن أحدا غيرها لا يجيد مثل تلك (الطُعن) حسب ما جاء الترجمة،أو (الغرز) .. فنشأت صداقة بين الشابتين ..(ثم إن سلمى سلمت إليها أروابها المسائية،طالبة منها أن تبيعها لها. وهذا ما قامت به خير قيام. (..) منذ أن وزعوا على الناس قسائم التموين،ذلك أنها أعطت سلمى ما لديها من قسائم تتعلق بالحليب،وتقول :- أما أنا،فالحليب يمرضني في القلب.){739}.وتم القبض على شارلوت،لأنها يهودية،ويزداد الوضع سوء ...(فما من شيء يجده الإنسان في السوق السوداء،حيث كل شيء موجود،ولكن بأسعار لا تقارب. وتشتري سلمى ما لابد من شرائه من أجل الطفلة. أما هي وزينل،فإنهما يكتفيان بالقلقاس الرومي (نوع من البقول) والملفوف. وحتى البطاطا،فإنها قد أصبحت من عالم الكماليات العظيمة،حتى أن الصحف تعلن عن قدومها إلى السوق قبل ثلاثة أسابيع. وللإنسان الحق في 28 غراما من اللحم و 50 غراما من الخبز الأسود القاسي. أما السكر فإن حصة الإنسان هي نصف كيلو في الشهر. لكن القهوة ذكرى قديمة العهد. وليس ذلك بالأمر الخطير،ذلك أن الصحف تقدم وصفات من نوع خاص لعمل قهوة"لذيذة"من الشعير المشوي أو من البلوط. (..) وأخذ الخصي على نفسه أن يقوم بتدبير الحاجات،ذلك أن الحصول على هذه الحصص التافهة،يحتاج إلى الوقوف في الصف طول النهار. ويرى أن هذا هو وظيفته،وليس وظيفة الأميرة. وتراه يلح على مثل هذه التفاصيل العائدة لعهد آخر،وانتهت سلمى إلى القبول بذلك،لأنه في أيام الشقاء التي هو فيها،يتعلق بقيم يجد أنها ضرورية له كالهواء. أما الشيء الذي لا يقوله،فذلك هو أنه يظل قلقا عليها. وحقا فإنها لم تكن قط سمينة. أما الآن فإن نسمة من الهواء كافية لجعلها تقع على الأرض. وكثيرا ما انتابتها – وهي في الطريق – آلام غير واضحة،ودُهش الناس من حولها،لأنهم لا يتخيلون أن سيدة في مثل هذه الأناقة يمكنها بكل بساطة أن تتألم من الجوع. ولكنها لا تتألم لذلك : فمع قلة الطعام،تتعود المعدة على ذلك،وتتلاءم معه. وكان شتاء هذا العام 1940 مخيفا. فالناس في الخارج يرتجفون من البرد،كما يرتجفون منه داخل الغرف. وما من فحم للتدفئة هذا العام،حتى أن سلمى لا تجرؤ على فتح نوافذ الغرفة،لتهويتها،لأنها ملتصقة من الخارج بطبقة من الجليد. وذات صباح وجدت عصفورها الذي اشتراه لها هارفي،ميتا في قفصه من شدة البرد. فهطلت دموع عينيها هذه المرة،وهي التي تحملت حتى الآن كل شيء. إنه شيء من هارفي قد مضى .. وتأبى بطبيعة الحال أن ترى في ذلك فألا سيئا. ولكنها لا تستطيع أن تمنع نفسها من هذا التفكير : ففي الشرق،ينتبه الناس إلى مثل هذه الأشياء ..){743}. إلى اللقاء في الحلقة القادم ... إذا أذن الله س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
-
رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
حياة أميرة عثمانية في المنفى"25"
: (الأخيرة)(الآغا زينل : "زيزل" ) ويعصف البرد والجوع بسلمى،وبينما كانت ترقص بصغيرتها ..(وفجأة شعرت بألم،كأنه خنجر في البطن،يحملها على التأرجح. فتحس باختناق،,تريد أن تصرخ ... ولكن الطفلة بين يديها،ويجب ألا تدعها تقع. واستنهضت كل قواها،وحاولت أن تتعلق بالطاولة،هناك،على مقربة منها،فتمايلت،وشعرت بحرقة لا تحتمل،وكأنها تمزقها ... كما لو أن هناك موقدا،وستارة من رماد .. ولم تر شيئا ... وتشعر بأنها ستسقط،ولا تتوقف عن السقوط .. (..) ولم يكتشفها زينل إلا بصورة متأخرة،بعد أن عاد من شراء حاجاته. وها هي سلمى متمدد على الأرض،بيضاء،شديدة البياض. لكنها خلال سقوطها حمت الطفلة التي تبكي من شدة الخوف.وفي مستشفى الأوتيل – ديو ،كان الجراح يذرع مكتبه جيئة وذهابا. وكان ينظر بمرارة إلى يديه القويتين اللتين توصفان عند الناس،بأنهما أعجوبتان : أما هذه المرة،فإنهما لم تستطيعا الإنقاذ. بيد أنه منذ أن وصلت سلمى،فيما يشبه الإغماء،أمر بأخذها إلى غرفة العمليات. وكانت مصابة بالتهاب حاد في الصفاق. ففتح البطن،وقص،وربط،وخاط،خلال ساعتين،وقد استبسل في العمل،وحوله ممرضتان صامتتان.(..) غير أن الحمى عادت في الليل،وفهم أن تسمم الدم بدأ. وكان هناك شيء واحد يستطيع إنقاذها،هو هذه الأدوية الجديدة"المضادات الحيوية"التي كانوا يصنعونها في أمريكا. أما في فرنسا،فإنها لم تكن قد وجدت بعد. (..) والآن يجب أن يكلم الأب،الذي بقي لا يتحرك منذ البارحة،في الممر. (..) ولم يكن بحاجة إلى الكلام،لأن زينل كان يعرف. ولقد عرف ما جرى،في اللحظة التي كانت فيها ابنته الصغيرة،تلفظ أنفاسها الأخيرة. فشعر،في جسمه كله،بهزة،وبدت له كأنها تنزع شيئا ما منه. فترك نفسه ينزلق على الأرض،وصدم جبينه باب الغرفة.وجاءت الممرضة،فوجدته هناك،فيما يشبه الإغماء. فأجلسته وغسلت له صدغيه،حتى يعود إلى كامل وعيه. ذلك أن عليه الآن أن يعمل،ويتخذ بعض القرارات. فماذا يجب أن يفعل بالجثة؟ وهم أجانب،,ليس لديهم كهف عائلي. فأين إذن يقبرونها؟ (..) ولا يتذكر زينل ماذا جرى خلال الساعات التالية،ولا يعي شيئا آخر غير أن امرأة في ثياب بيضاء تطرح عليه بعض الأسئلة،لم يكن يفهم منها شيئا،وكان يقول فقط : إنه يريد أن تدفن في مقبرة إسلامية،بعد أن قدم لها محفظة أوراقه.ورأى بعد الظهيرة عربة موتى يشدها حصان هزيل،ثم حملها الرجال الذين رافقوها،صندوقا من الخشب الأبيض. وأشاروا إليه بأن يتبعهم.ولكن كم من الوقت مشى وراء سلمى؟ لقد كان المطر المثلج،مطر كانون الثاني / يناير/ يتسرب إلى ما تحت ثيابه،ولم يكن يشعر بذلك وكان يتذكر النزهات الطويلة التي كانا يقومان بها،كما يتذكر بسمتها المداعبة،عندما كانت تطلب منه أن يعدها بأن يكون معها حتى نهاية العالم. وأخيرا وصلوا إلى أرض ضخمة،غامضة،مقلقة بجدرانها المهلهلة،وعلى مد النظر،كانت هناك صفوف من الشواهد،تبرز من العشب : وكان هذا هو المقبرة الإسلامية،مقبرة بوبينيي Bobegny ولم يستطع زينل أن يكبت شهقة بكاء،عندما فكر بالمقابر الحلوة التي تشرف على البسفور،والتي كانت سلمى تحب النزهة فيها. ولكن إمام المقبرة عيل صبره : ذلك أن الوقت أصبح متأخرا،ويجب بسرعة أن نصلي صلاة الميت،لاسيما وأن هذا الرجل المسكين لا يملك المال الكافي لكي يدفع تكاليف احتفال أهم من هذا،بل إنه لم يكن معه ما يشتري به شاهدة قبر ينقش عليها اسم المرحومة.وليكن ما يكون،فإننا سنكتبه على قطعة من الخشب،حتى إذا ما نبت العشب،لم تختلط القبور على أصحابها،فالعائلات لا تحب هذا الخلط. وأية تعاسة!وينظر زينل إلى الحفرة السوداء التي حفرها رجلان في القسم المخصص للنساء،وإلى النعش الذي سينزلونه إلى مكانه بالحبال. ولكن لماذا حبسوا ابنته الصغيرة في هذه العلبة؟ لابد أنها ستختنق فيها،وهي التي لم تحتمل قط أن تحبس. ففي عالم الإسلام،يلف الجسد في قماش ابيض ثم يوضع هذا على التراب مباشرة. ولكن يقولون : إنه ليس لهم الحق،في فرنسا،أن يفعلوا هذا.وعندما انتهى رجال المقبرة من عملهم،كان الظلام قد حل تقريبا. أما صاحب العربة فقد هجر المكان منذ مدة طويلة وبقي زينل وحده في المقبرة،بين آلاف القبور،أو قل بقي وحده مع سلمى. وكان يفكر،وهو أمام هذا المربع من التراب المطروق،بالأوابد الرخامية الفخمة التي كانت تستمر،قرنا بعد قرن،في إستانبول،في التذكير بأمجاد السلطانات العظيمات،فيرتعد ... ومن يستطيع أن يحزر أن أميرته تنام في هذا القبر المسكين؟ بل من سيتذكر؟وتمدد على الأرض التي حفرت من جديد. مغطيا ابنته الصغيرة بجسمه،ومحاولا أن ينقل إليها شيئا من حرارته الحية،ومن حبه. إذ لم يعد لها الآن غيره. ولن يتخلى عنها. إذ لقد وعد السلطانة بذلك.- آغا!وتعدو سلمى نحوه من آخر الحديقة،وهي أحلى ما تكون في ثوبها الحريري،و خصل شعرها الأحمر تتطاير في الهواء.- آغا،خذني معك. أريد أن أرى الألعاب النارية على البوسفور! وتعلقت برقبته. وأخذت تتسلى بشد شعره.- تعال بسرعة،يا آغا،إن هذا ضروري ! إنني أريده!- ولكن من الممنوع أن تخرجي من الحديقة،أيتها الأميرة الصغيرة.- أوه،آغا،إنك لم تعد تحب سلماك. وماذا تعني كلمة ممنوع؟ آغا،هل تريد أن أكون تعيسة؟ .. ومرة أخرى،عاد فقبل. فهو لن يستطيع أن يخالف لها أمرا ... فيهبطان،يدا بيد،من خلال الممرات التي تعطرها الميموزا والياسمين،باتجاه الشاطئ الذي ينتظرهما فيه القايق الأبيض والذهبي.وقفزت،بخفتها المعهودة. وكانت السهام النارية تلهب شعرها،وحينما كان يستقر في مكانه كانت عيناها تلمعان وتهمس في أذنه قائلة :- والآن،يا آغا،نسافر نحن الاثنين معا،في رحلة طويلة جدا. واستيقظ زينل بضربة خفيفة على كتفه. فقد كان النهار على وشك أن يطلع. وكان فوقه رجل ينظر إليه بفضول.- يجب ألا تبقى هنا،لآن المرض سيصيبك من جراء ذلك!وساعده على النهوض،وعلى نفض التراب الذي يُلوث ثيابه. وقاده بيده،وهو يرتجف من البرد،إلى الغريفة التي يضعون فيها أدوات الحفر،في مدخل المقبرة. وهناك أشربه قدحا كبيرا من القهوة الساخنة. وكان يسمى "علي"وهو حارس المقبرة. وجلس بجانبه كأنما هو متضامن معه على الضراء. - وإذن فكهذا يا أخي،ماتت السيدة؟وتأتأ زينل وهو يصك أسنانه بعضها ببعض.- إنها ابنتي.- ولم تضع شاهدة باسمها،لابنتك؟ويهز زينل رأسه،وفجأة يشعر أنه ضعيف. ذلك أنه منذ ثلاثة أيام لم يأكل،منذ اللحظة التي رأى فيها سلمى .. - خذ،وكل. ثم إن العامل الذي يُصنّع الرخام صديقي،وفي وسعه أن يعطيك رخامة صغيرة،بثمن رخيص. وهكذا فقد سحب زينل بعناء،ساعته من جيب صدرته. وكان هذا كل ما بقي له من أيام العظمة في أورطاكوي. وكان قد احتفظ بها لليوم الذي لا يبقى معه شيء. أما الآن ..- ليس عندي غير هذا. أفيقبل؟- احفظ ساعتك،ستكون إليها في حاجة،فيما بعد. ولا يزعجك فأنا سأتولى شأن الشاهدة, ويجب أن يتساعد المسلمون فيما بينهم.وعلى الرغم من احتجاجات زينل،فإنه خرج. وبعد عدة لحظات،عاد وهو يحمل حجرة صغيرة بيضاء،قطعت على شكل قوس. ونقش عليها بتعليمات من الخصي،وبأحرف عرجاء ما يلي :سلمى13 – 4 – 1911 / 13 – 1 – 1941ولكن شيئا ظل يزعج زينل،فقال لصديقه : إنهم لم يدفنوها كمسلمة. إذ وضعوها في علبة بيضاء. فهل تظن أننا نستطيع؟ ..
وأشرق وجه علي،ذلك أنه يحب على المؤمنين الحقيقيين.{هكذا} وبقفزة واحدة،مضى يبحث عن معول. ووجد في المستودع غطاء أبيض. وذهب الاثنان معا إلى القبر. ولم يحتاجا إلا إلى ربع ساعة لكي يزيحا التراب الجديد،ورفع النعش،وانتزاع المسامير.وقال علي :- حسنا،سأتركك الآن،واختفى في الوقت الذي كان فيه زينل يفتح النعش. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يراها فيها،ما أجملها في قميص نومها الطويل الأبيض،أما خصل شعرها المذهبة فكانت متدلية على كتفيها،وعليها كل سمات الفتاة الشابة. فانحنى وهو يرتعد وطبع قبلة رقيقة جدا،على خدها.وعندما نهض،كانت عيناه جافتين. وبلحظة واحدة،فارقه الهيجان. ذلك أن هذه الراقدة الباردة غريبة عنه. أما ابنته الصغيرة فإنها لم تعد هنا. لقد مضت مع ضحكاتها ونزواتها،وألوان أشواقها،وكرمها،وكل ما كان يجعل منها "سلمى". مضت وفارقت هذه الدنيا ...وبنعومة،لفّ الجسد في القماش الأبيض،واتخذ كل الاحتياطات،كيلا يجرحها. وعاد فأنزلها في الحفرة،أو قل في هذه الأرض التي كانت سلمى تحب أن تستنشق رائحتها،والتي تستقبل الآن جمالها. وترى أنها ابنتها. (..) وفجأة انقطعت أنفاسه،وجحظت عيناه من الرعب. والطفلة! ... لقد نسي. فمنذ ثلاثة أيام بقيت وحدها،دون أي إنسان يغذيها. أو يسهر عليها .. ولعلها ماتت .. ورفع صوته،متوسلا إلى الله،أن يحميها!ولم يعد يعرف كيف عاد إلى الفندق. ويبدو له أن (علي) أوقف سائق عربة من عربات الموتى. كان يعود إلى باريس،فوضعه بدلا من النعش في عربة،وبعد ذلك جرى كعجوز مجنون راجيا من الله أن يرأف بالصغيرة.وعندما دخل الغرفة،وجد الصغيرة متمددة على السرير وكأنه لم يعد فيها دم. وكانت عيناها مغلقتين،ورأسها مقلوبا إلى الخلف،والفم مفتوحا،وتنفسها عسيرا.فصرخ بدرجة من القوة حملت جارته في الدور الذي هو فيه على أن تهرع إليه. فقالت له :إن من الضروري أن لا تحرك الطفلة من مكانها،وإن عليه أن يرفع رأسها قليلا لكي تشرب بعض الماء،لكن الصغيرة ترفض كل شيء ...وعندئذ أخذها زينل بين ذراعيه. فوجد أنها باردة كالثلج. فغطاها بغطاء،وهبط السلم كالعاصفة،ومر بالمطرونة إيميلي،التي حاولت اعتراضه. - قف،قف،إنك مدين لي بأجرة أسبوعين!وبدأ يجري،ونزل في جادة الشهداء،ولا تكاد ساقاه تحملانه. ووجد على الطريق جملة عيادات طبية. ويرن الجرس،ويقرع الباب،فلا يرد أحد. كان ذلك يوم الأحد. وأخيرا ومن شدة اليأس،اتجه إلى أحد رجال الشرطة الذي دله على القنصلية السويسرية،حيث يوجد دوام كل يوم للأجانب.ومضى الخصي حتى وصل جادة غرينيل Rue Grenelle وهناك شعر أن قلبه على وشك أن يفارقه. ولكن يجب أن يقاوم. إذ ليس له الحق في أن يموت قبل أن ينقذ ابنة سلمى.ولكنه عندما دخل قنصلية سويسرا واستقبلته سكرتيرة ذات خدين مدورين،وسألته عما يريد،لم يسعه إلا أن يضع الطفلة بين ذراعيها،ويقع على الأرض،عاجزا عن أن يقول أية كلمة.ومرت بعد ظهر ذلك اليوم مدام نافيل،زوجة القنصل،لتبحث عن قائمة عناوين لتلك السوق الخيرية القريبة التي يقيمها الصليب الأحمر،وما كادت ترى الطفلة،حتى أخذت الهاتف،وطلبت طبيبها الشخصي. ثم إنها أعطت للعجوز المسلم كأسا من الفودكا. وكاد زينل يختنق منها،وأراد أن يردها،ولكنها طمأنته.- إن هذا ليس بكحول! إنه دواء.وبسرعة،شعر بتحسن،وقصّ على هذه السيدة حكايته كلها : لقد ماتت أميرته،وتركت الطفلة لحالها في الفندق ثلاثة أيام. وبعد عدة دقائق وصل الطبيب.ودمدم قائلا،وهو يرى حالة الطفلة :- من حسن الحظ أن الوقت لم يفت! وأخرج من محفظته إبرة،وحقنها بمصل. ثم فحصها بنعومة. وقال :- إنها ضعيفة جدا. وقد تأثرت الرئتان .. ويبدو أنها لم تأكل شيئا ولم تشرب،منذ عدة أيام.وسمع أنينا حمله على أن يلتفت برأسه. ونظر بإشفاق إلى الرجل العجوز وهو متهاوي على كرسيه،وقال له: - لا تقلق أيها الرجل الطيب. سننقذها إن شاء الله. ولكن لابد من عناية مشددة. وكأنما كان يتجه بكلامه إلى السيدة نافيل،ذلك أن مصلحة الإسعاف مرهقة جدا بما لديها من أيتام الحرب. وهذه الطفلة بحاجة إلى أن يكون هناك إنسان إلى جانبها دوما. وإلا فإني أخشى أن ... وقاطعته زوجة القنصل،بقولها :- سآخذها إلى بيتي،يا دكتور،طول المدة اللازمة. فلقد هبطت عليّ هذه البنيّة من السماء. ولا أستطيع تركها تموت.وخلا عدة أسابيع كان زينل يأتي كل يوم لزيارة الطفلة. وسرعان ما عادت الطفلة إلى السلامة،بفضل الغذاء الصحي المتوفر في قنصلية سويسرا. هذه الجزيرة من البحبوحة والخيرات،في وسط باريس المحتلة. وهاهي الآن بنيّة بضّة الجينات{هكذا} والخدود،تستقبل بفرح هذا الخصي وتسميه"زيزل".ولقد قصّ كل شيء على زوجة القنصل،غاضا النظر بطبيعة الحال عن مرحلة الرجل الأمريكي،والرسالة التي أرسلت للراجاه. وهو يرجو أن لا يكون الراجاه قد تلقاها،لأنه لم يجب قط. فإذا انتهت الحرب،فإنه يستطيع استعادة طفلته. وهذا هو الحل الوحيد،مادامت سلمى قد غادرت إلى دار الآخرة. وستكبر الأميرة الصغيرة في الزينانا،وتتزوج،وستكون حياتها مريحة وبلا مشاكل. أوليس هذا ما أرادت أن تقوله سلمى وهي على فراش موتها؟ إن الخصي يتذكر تلك الممرضة الشابة التي هرعت إليه في اللحظة التي كان فيها ينزل المستشفى،وقالت :أيها السيد! انتظر،فأنا التي كنت قريبة من ابنتك،عندما ... أخيرا،أي قبل ذلك بلحظة،وتعلقت بيدي وتمتمت : "عفوك،يا أمير ... الطفلة ... لقد كذبت..." وكانت هذه آخر كلماتها.وارتعش زينل. وبدأ يفكر بالكآبة التي ينبغي أن تكون استولت على المرأة الشابة،عندما وجدت أنها تموت،تاركة طفلتها بلا أب .. لقد فعلت كل شيء لكي تبقي ابنتها حرة. ولكنها لم تتخيل لحظة واحدة،أنها هي نفسها يمكن أن تموت،وأن الطفلة عندئذ ستجد نفسها وحيدة.... يا أميرتي الجميلة،أيتها الصغيرة المسكينة ... هكذا كان يقول زينل،وهو يرى البنية في الجانب الآخر من الغرفة،تلعب مع دماها. ومنذ الآن فإنها في أمان،ولم تعد بحاجة إليه. وقد فعل من أجلها كل ما يجب أن يفعله،وبقدر ما استطاع،سواء أحسن أم أساء. أما الآن فإن به رغبة ملحة،هو أيضا،لكي يمضي ويستريح.وقبّل الطفلة على جبينها بنعومة كيلا يزعجها،وتركها وخرج،بخطوات بطيئة.ثم لم يره أحد بعد ذلك قط.)خاتمةوهكذا انتهي حكاية أمي.وبعد قليل من موتها،تقدم زائر إلى قنصلية سويسرا. وكان هذا،أورهان،ابن عم سلمى. وكان قد كتب على بطاقته هذه الجملة فقط : "من قبل الأميرة الميتة".وأُعلم الراجاه،بالطرق الدبلوماسية أن له ابنة. وكانت العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بين الهند،كمستعرة بريطانية،وفرنسا المحتلة. فلم يستطع استعادتها إلى بادلبور. ولم يلتقيا إلى بعد انتهاء الحرب. ولكن لهذا قصة أخرى.أما زينل،فإنه لم يُعثر له على أثر،تُرى هل مات من شدة الحزن،أو من شدة البؤس،أو أنه غريب بين الغرباء،سيق بين من سيقوا في عربة مرصصة،كغيرها من العربات؟أما هارفي فإنه لم ينس. غير أنه لم يتلق رسائل سلمى إلا عند موت زوجته. وكانت قد أخفتها،مدة ثلاث سنوات.وما كادت الحرب تضع أوزارها،وفرنسا تتحرر،إلا وهرع إلى باريس. وعندما علم بموت سلمى،أراد أن يهتم بالطفلة. ولكن ما كاد يبدأ عملية تحضير الأوراق الرسمية،حتى مات هو أيضا بسكتة قلبية.وفيما بعد،وبصورة مـتأخرة جدا،أردت أن أفهم أمي. فسألت ألئك الذين عرفوها،وقرأت كتب التاريخ،وصحف ذلك الزمان،والوثائق المبعثرة المتصلة بالأسرة،ووقفت طويلا في الأماكن التي عاشت فيها،وجربت أن أعيد تركيب مختلف أطر وجودها،التي انقلبت اليوم انقلابا لا سبيل إلى معرفة أصله،وأن أحيا من جديد ما كانت قد عاشته هي نفسها.وأخيرا،وحبا بالتقرب منها بدرجة أكبر،طبعا بأن أعود فأجدها كما هي،تركت لحدسيحياة أميرة عثمانية في المنفى"25" : (الأخيرة)(الآغا زينل : "زيزل" ) ويعصف البرد والجوع بسلمى،وبينما كانت ترقص بصغيرتها ..(وفجأة شعرت بألم،كأنه خنجر في البطن،يحملها على التأرجح. فتحس باختناق،,تريد أن تصرخ ... ولكن الطفلة بين يديها،ويجب ألا تدعها تقع. واستنهضت كل قواها،وحاولت أن تتعلق بالطاولة،هناك،على مقربة منها،فتمايلت،وشعرت بحرقة لا تحتمل،وكأنها تمزقها ... كما لو أن هناك موقدا،وستارة من رماد .. ولم تر شيئا ... وتشعر بأنها ستسقط،ولا تتوقف عن السقوط .. (..) ولم يكتشفها زينل إلا بصورة متأخرة،بعد أن عاد من شراء حاجاته. وها هي سلمى متمدد على الأرض،بيضاء،شديدة البياض. لكنها خلال سقوطها حمت الطفلة التي تبكي من شدة الخوف.وفي مستشفى الأوتيل – ديو ،كان الجراح يذرع مكتبه جيئة وذهابا. وكان ينظر بمرارة إلى يديه القويتين اللتين توصفان عند الناس،بأنهما أعجوبتان : أما هذه المرة،فإنهما لم تستطيعا الإنقاذ. بيد أنه منذ أن وصلت سلمى،فيما يشبه الإغماء،أمر بأخذها إلى غرفة العمليات. وكانت مصابة بالتهاب حاد في الصفاق. ففتح البطن،وقص،وربط،وخاط،خلال ساعتين،وقد استبسل في العمل،وحوله ممرضتان صامتتان.(..) غير أن الحمى عادت في الليل،وفهم أن تسمم الدم بدأ. وكان هناك شيء واحد يستطيع إنقاذها،هو هذه الأدوية الجديدة"المضادات الحيوية"التي كانوا يصنعونها في أمريكا. أما في فرنسا،فإنها لم تكن قد وجدت بعد. (..) والآن يجب أن يكلم الأب،الذي بقي لا يتحرك منذ البارحة،في الممر. (..) ولم يكن بحاجة إلى الكلام،لأن زينل كان يعرف. ولقد عرف ما جرى،في اللحظة التي كانت فيها ابنته الصغيرة،تلفظ أنفاسها الأخيرة. فشعر،في جسمه كله،بهزة،وبدت له كأنها تنزع شيئا ما منه. فترك نفسه ينزلق على الأرض،وصدم جبينه باب الغرفة.وجاءت الممرضة،فوجدته هناك،فيما يشبه الإغماء. فأجلسته وغسلت له صدغيه،حتى يعود إلى كامل وعيه. ذلك أن عليه الآن أن يعمل،ويتخذ بعض القرارات. فماذا يجب أن يفعل بالجثة؟ وهم أجانب،,ليس لديهم كهف عائلي. فأين إذن يقبرونها؟ (..) ولا يتذكر زينل ماذا جرى خلال الساعات التالية،ولا يعي شيئا آخر غير أن امرأة في ثياب بيضاء تطرح عليه بعض الأسئلة،لم يكن يفهم منها شيئا،وكان يقول فقط : إنه يريد أن تدفن في مقبرة إسلامية،بعد أن قدم لها محفظة أوراقه.ورأى بعد الظهيرة عربة موتى يشدها حصان هزيل،ثم حملها الرجال الذين رافقوها،صندوقا من الخشب الأبيض. وأشاروا إليه بأن يتبعهم.ولكن كم من الوقت مشى وراء سلمى؟ لقد كان المطر المثلج،مطر كانون الثاني / يناير/ يتسرب إلى ما تحت ثيابه،ولم يكن يشعر بذلك وكان يتذكر النزهات الطويلة التي كانا يقومان بها،كما يتذكر بسمتها المداعبة،عندما كانت تطلب منه أن يعدها بأن يكون معها حتى نهاية العالم. وأخيرا وصلوا إلى أرض ضخمة،غامضة،مقلقة بجدرانها المهلهلة،وعلى مد النظر،كانت هناك صفوف من الشواهد،تبرز من العشب : وكان هذا هو المقبرة الإسلامية،مقبرة بوبينيي Bobegny ولم يستطع زينل أن يكبت شهقة بكاء،عندما فكر بالمقابر الحلوة التي تشرف على البسفور،والتي كانت سلمى تحب النزهة فيها. ولكن إمام المقبرة عيل صبره : ذلك أن الوقت أصبح متأخرا،ويجب بسرعة أن نصلي صلاة الميت،لاسيما وأن هذا الرجل المسكين لا يملك المال الكافي لكي يدفع تكاليف احتفال أهم من هذا،بل إنه لم يكن معه ما يشتري به شاهدة قبر ينقش عليها اسم المرحومة.وليكن ما يكون،فإننا سنكتبه على قطعة من الخشب،حتى إذا ما نبت العشب،لم تختلط القبور على أصحابها،فالعائلات لا تحب هذا الخلط. وأية تعاسة!وينظر زينل إلى الحفرة السوداء التي حفرها رجلان في القسم المخصص للنساء،وإلى النعش الذي سينزلونه إلى مكانه بالحبال. ولكن لماذا حبسوا ابنته الصغيرة في هذه العلبة؟ لابد أنها ستختنق فيها،وهي التي لم تحتمل قط أن تحبس. ففي عالم الإسلام،يلف الجسد في قماش ابيض ثم يوضع هذا على التراب مباشرة. ولكن يقولون : إنه ليس لهم الحق،في فرنسا،أن يفعلوا هذا.وعندما انتهى رجال المقبرة من عملهم،كان الظلام قد حل تقريبا. أما صاحب العربة فقد هجر المكان منذ مدة طويلة وبقي زينل وحده في المقبرة،بين آلاف القبور،أو قل بقي وحده مع سلمى. وكان يفكر،وهو أمام هذا المربع من التراب المطروق،بالأوابد الرخامية الفخمة التي كانت تستمر،قرنا بعد قرن،في إستانبول،في التذكير بأمجاد السلطانات العظيمات،فيرتعد ... ومن يستطيع أن يحزر أن أميرته تنام في هذا القبر المسكين؟ بل من سيتذكر؟وتمدد على الأرض التي حفرت من جديد. مغطيا ابنته الصغيرة بجسمه،ومحاولا أن ينقل إليها شيئا من حرارته الحية،ومن حبه. إذ لم يعد لها الآن غيره. ولن يتخلى عنها. إذ لقد وعد السلطانة بذلك.- آغا!وتعدو سلمى نحوه من آخر الحديقة،وهي أحلى ما تكون في ثوبها الحريري،و خصل شعرها الأحمر تتطاير في الهواء.- آغا،خذني معك. أريد أن أرى الألعاب النارية على البوسفور! وتعلقت برقبته. وأخذت تتسلى بشد شعره.- تعال بسرعة،يا آغا،إن هذا ضروري ! إنني أريده!- ولكن من الممنوع أن تخرجي من الحديقة،أيتها الأميرة الصغيرة.- أوه،آغا،إنك لم تعد تحب سلماك. وماذا تعني كلمة ممنوع؟ آغا،هل تريد أن أكون تعيسة؟ .. ومرة أخرى،عاد فقبل. فهو لن يستطيع أن يخالف لها أمرا ... فيهبطان،يدا بيد،من خلال الممرات التي تعطرها الميموزا والياسمين،باتجاه الشاطئ الذي ينتظرهما فيه القايق الأبيض والذهبي.وقفزت،بخفتها المعهودة. وكانت السهام النارية تلهب شعرها،وحينما كان يستقر في مكانه كانت عيناها تلمعان وتهمس في أذنه قائلة :- والآن،يا آغا،نسافر نحن الاثنين معا،في رحلة طويلة جدا. واستيقظ زينل بضربة خفيفة على كتفه. فقد كان النهار على وشك أن يطلع. وكان فوقه رجل ينظر إليه بفضول.- يجب ألا تبقى هنا،لآن المرض سيصيبك من جراء ذلك!وساعده على النهوض،وعلى نفض التراب الذي يُلوث ثيابه. وقاده بيده،وهو يرتجف من البرد،إلى الغريفة التي يضعون فيها أدوات الحفر،في مدخل المقبرة. وهناك أشربه قدحا كبيرا من القهوة الساخنة. وكان يسمى "علي"وهو حارس المقبرة. وجلس بجانبه كأنما هو متضامن معه على الضراء. - وإذن فكهذا يا أخي،ماتت السيدة؟وتأتأ زينل وهو يصك أسنانه بعضها ببعض.- إنها ابنتي.- ولم تضع شاهدة باسمها،لابنتك؟ويهز زينل رأسه،وفجأة يشعر أنه ضعيف. ذلك أنه منذ ثلاثة أيام لم يأكل،منذ اللحظة التي رأى فيها سلمى .. - خذ،وكل. ثم إن العامل الذي يُصنّع الرخام صديقي،وفي وسعه أن يعطيك رخامة صغيرة،بثمن رخيص. وهكذا فقد سحب زينل بعناء،ساعته من جيب صدرته. وكان هذا كل ما بقي له من أيام العظمة في أورطاكوي. وكان قد احتفظ بها لليوم الذي لا يبقى معه شيء. أما الآن ..- ليس عندي غير هذا. أفيقبل؟- احفظ ساعتك،ستكون إليها في حاجة،فيما بعد. ولا يزعجك فأنا سأتولى شأن الشاهدة, ويجب أن يتساعد المسلمون فيما بينهم.وعلى الرغم من احتجاجات زينل،فإنه خرج. وبعد عدة لحظات،عاد وهو يحمل حجرة صغيرة بيضاء،قطعت على شكل قوس. ونقش عليها بتعليمات من الخصي،وبأحرف عرجاء ما يلي :سلمى13 – 4 – 1911 / 13 – 1 – 1941ولكن شيئا ظل يزعج زينل،فقال لصديقه : إنهم لم يدفنوها كمسلمة. إذ وضعوها في علبة بيضاء. فهل تظن أننا نستطيع؟ ..
وأشرق وجه علي،ذلك أنه يحب على المؤمنين الحقيقيين.{هكذا} وبقفزة واحدة،مضى يبحث عن معول. ووجد في المستودع غطاء أبيض. وذهب الاثنان معا إلى القبر. ولم يحتاجا إلا إلى ربع ساعة لكي يزيحا التراب الجديد،ورفع النعش،وانتزاع المسامير.وقال علي :- حسنا،سأتركك الآن،واختفى في الوقت الذي كان فيه زينل يفتح النعش. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يراها فيها،ما أجملها في قميص نومها الطويل الأبيض،أما خصل شعرها المذهبة فكانت متدلية على كتفيها،وعليها كل سمات الفتاة الشابة. فانحنى وهو يرتعد وطبع قبلة رقيقة جدا،على خدها.وعندما نهض،كانت عيناه جافتين. وبلحظة واحدة،فارقه الهيجان. ذلك أن هذه الراقدة الباردة غريبة عنه. أما ابنته الصغيرة فإنها لم تعد هنا. لقد مضت مع ضحكاتها ونزواتها،وألوان أشواقها،وكرمها،وكل ما كان يجعل منها "سلمى". مضت وفارقت هذه الدنيا ...وبنعومة،لفّ الجسد في القماش الأبيض،واتخذ كل الاحتياطات،كيلا يجرحها. وعاد فأنزلها في الحفرة،أو قل في هذه الأرض التي كانت سلمى تحب أن تستنشق رائحتها،والتي تستقبل الآن جمالها. وترى أنها ابنتها. (..) وفجأة انقطعت أنفاسه،وجحظت عيناه من الرعب. والطفلة! ... لقد نسي. فمنذ ثلاثة أيام بقيت وحدها،دون أي إنسان يغذيها. أو يسهر عليها .. ولعلها ماتت .. ورفع صوته،متوسلا إلى الله،أن يحميها!ولم يعد يعرف كيف عاد إلى الفندق. ويبدو له أن (علي) أوقف سائق عربة من عربات الموتى. كان يعود إلى باريس،فوضعه بدلا من النعش في عربة،وبعد ذلك جرى كعجوز مجنون راجيا من الله أن يرأف بالصغيرة.وعندما دخل الغرفة،وجد الصغيرة متمددة على السرير وكأنه لم يعد فيها دم. وكانت عيناها مغلقتين،ورأسها مقلوبا إلى الخلف،والفم مفتوحا،وتنفسها عسيرا.فصرخ بدرجة من القوة حملت جارته في الدور الذي هو فيه على أن تهرع إليه. فقالت له :إن من الضروري أن لا تحرك الطفلة من مكانها،وإن عليه أن يرفع رأسها قليلا لكي تشرب بعض الماء،لكن الصغيرة ترفض كل شيء ...وعندئذ أخذها زينل بين ذراعيه. فوجد أنها باردة كالثلج. فغطاها بغطاء،وهبط السلم كالعاصفة،ومر بالمطرونة إيميلي،التي حاولت اعتراضه. - قف،قف،إنك مدين لي بأجرة أسبوعين!وبدأ يجري،ونزل في جادة الشهداء،ولا تكاد ساقاه تحملانه. ووجد على الطريق جملة عيادات طبية. ويرن الجرس،ويقرع الباب،فلا يرد أحد. كان ذلك يوم الأحد. وأخيرا ومن شدة اليأس،اتجه إلى أحد رجال الشرطة الذي دله على القنصلية السويسرية،حيث يوجد دوام كل يوم للأجانب.ومضى الخصي حتى وصل جادة غرينيل Rue Grenelle وهناك شعر أن قلبه على وشك أن يفارقه. ولكن يجب أن يقاوم. إذ ليس له الحق في أن يموت قبل أن ينقذ ابنة سلمى.ولكنه عندما دخل قنصلية سويسرا واستقبلته سكرتيرة ذات خدين مدورين،وسألته عما يريد،لم يسعه إلا أن يضع الطفلة بين ذراعيها،ويقع على الأرض،عاجزا عن أن يقول أية كلمة.ومرت بعد ظهر ذلك اليوم مدام نافيل،زوجة القنصل،لتبحث عن قائمة عناوين لتلك السوق الخيرية القريبة التي يقيمها الصليب الأحمر،وما كادت ترى الطفلة،حتى أخذت الهاتف،وطلبت طبيبها الشخصي. ثم إنها أعطت للعجوز المسلم كأسا من الفودكا. وكاد زينل يختنق منها،وأراد أن يردها،ولكنها طمأنته.- إن هذا ليس بكحول! إنه دواء.وبسرعة،شعر بتحسن،وقصّ على هذه السيدة حكايته كلها : لقد ماتت أميرته،وتركت الطفلة لحالها في الفندق ثلاثة أيام. وبعد عدة دقائق وصل الطبيب.ودمدم قائلا،وهو يرى حالة الطفلة :- من حسن الحظ أن الوقت لم يفت! وأخرج من محفظته إبرة،وحقنها بمصل. ثم فحصها بنعومة. وقال :- إنها ضعيفة جدا. وقد تأثرت الرئتان .. ويبدو أنها لم تأكل شيئا ولم تشرب،منذ عدة أيام.وسمع أنينا حمله على أن يلتفت برأسه. ونظر بإشفاق إلى الرجل العجوز وهو متهاوي على كرسيه،وقال له: - لا تقلق أيها الرجل الطيب. سننقذها إن شاء الله. ولكن لابد من عناية مشددة. وكأنما كان يتجه بكلامه إلى السيدة نافيل،ذلك أن مصلحة الإسعاف مرهقة جدا بما لديها من أيتام الحرب. وهذه الطفلة بحاجة إلى أن يكون هناك إنسان إلى جانبها دوما. وإلا فإني أخشى أن ... وقاطعته زوجة القنصل،بقولها :- سآخذها إلى بيتي،يا دكتور،طول المدة اللازمة. فلقد هبطت عليّ هذه البنيّة من السماء. ولا أستطيع تركها تموت.وخلا عدة أسابيع كان زينل يأتي كل يوم لزيارة الطفلة. وسرعان ما عادت الطفلة إلى السلامة،بفضل الغذاء الصحي المتوفر في قنصلية سويسرا. هذه الجزيرة من البحبوحة والخيرات،في وسط باريس المحتلة. وهاهي الآن بنيّة بضّة الجينات{هكذا} والخدود،تستقبل بفرح هذا الخصي وتسميه"زيزل".ولقد قصّ كل شيء على زوجة القنصل،غاضا النظر بطبيعة الحال عن مرحلة الرجل الأمريكي،والرسالة التي أرسلت للراجاه. وهو يرجو أن لا يكون الراجاه قد تلقاها،لأنه لم يجب قط. فإذا انتهت الحرب،فإنه يستطيع استعادة طفلته. وهذا هو الحل الوحيد،مادامت سلمى قد غادرت إلى دار الآخرة. وستكبر الأميرة الصغيرة في الزينانا،وتتزوج،وستكون حياتها مريحة وبلا مشاكل. أوليس هذا ما أرادت أن تقوله سلمى وهي على فراش موتها؟ إن الخصي يتذكر تلك الممرضة الشابة التي هرعت إليه في اللحظة التي كان فيها ينزل المستشفى،وقالت :أيها السيد! انتظر،فأنا التي كنت قريبة من ابنتك،عندما ... أخيرا،أي قبل ذلك بلحظة،وتعلقت بيدي وتمتمت : "عفوك،يا أمير ... الطفلة ... لقد كذبت..." وكانت هذه آخر كلماتها.وارتعش زينل. وبدأ يفكر بالكآبة التي ينبغي أن تكون استولت على المرأة الشابة،عندما وجدت أنها تموت،تاركة طفلتها بلا أب .. لقد فعلت كل شيء لكي تبقي ابنتها حرة. ولكنها لم تتخيل لحظة واحدة،أنها هي نفسها يمكن أن تموت،وأن الطفلة عندئذ ستجد نفسها وحيدة.... يا أميرتي الجميلة،أيتها الصغيرة المسكينة ... هكذا كان يقول زينل،وهو يرى البنية في الجانب الآخر من الغرفة،تلعب مع دماها. ومنذ الآن فإنها في أمان،ولم تعد بحاجة إليه. وقد فعل من أجلها كل ما يجب أن يفعله،وبقدر ما استطاع،سواء أحسن أم أساء. أما الآن فإن به رغبة ملحة،هو أيضا،لكي يمضي ويستريح.وقبّل الطفلة على جبينها بنعومة كيلا يزعجها،وتركها وخرج،بخطوات بطيئة.ثم لم يره أحد بعد ذلك قط.)خاتمةوهكذا انتهي حكاية أمي.وبعد قليل من موتها،تقدم زائر إلى قنصلية سويسرا. وكان هذا،أورهان،ابن عم سلمى. وكان قد كتب على بطاقته هذه الجملة فقط : "من قبل الأميرة الميتة".وأُعلم الراجاه،بالطرق الدبلوماسية أن له ابنة. وكانت العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بين الهند،كمستعرة بريطانية،وفرنسا المحتلة. فلم يستطع استعادتها إلى بادلبور. ولم يلتقيا إلى بعد انتهاء الحرب. ولكن لهذا قصة أخرى.أما زينل،فإنه لم يُعثر له على أثر،تُرى هل مات من شدة الحزن،أو من شدة البؤس،أو أنه غريب بين الغرباء،سيق بين من سيقوا في عربة مرصصة،كغيرها من العربات؟أما هارفي فإنه لم ينس. غير أنه لم يتلق رسائل سلمى إلا عند موت زوجته. وكانت قد أخفتها،مدة ثلاث سنوات.وما كادت الحرب تضع أوزارها،وفرنسا تتحرر،إلا وهرع إلى باريس. وعندما علم بموت سلمى،أراد أن يهتم بالطفلة. ولكن ما كاد يبدأ عملية تحضير الأوراق الرسمية،حتى مات هو أيضا بسكتة قلبية.وفيما بعد،وبصورة مـتأخرة جدا،أردت أن أفهم أمي. فسألت ألئك الذين عرفوها،وقرأت كتب التاريخ،وصحف ذلك الزمان،والوثائق المبعثرة المتصلة بالأسرة،ووقفت طويلا في الأماكن التي عاشت فيها،وجربت أن أعيد تركيب مختلف أطر وجودها،التي انقلبت اليوم انقلابا لا سبيل إلى معرفة أصله،وأن أحيا من جديد ما كانت قد عاشته هي نفسها.وأخيرا،وحبا بالتقرب منها بدرجة أكبر،طبعا بأن أعود فأجدها كما هي،تركت لحدسي وخيالي أن يرمما الثغرات التي لم تعن الوثائق على ملئها.){ص 746 - 758 .} كل سياحة ... في – أو مع – سيدي الكتاب وأنتم بخير. تلويحة الوداع :دعاني الهوى من أهل ودي .... بذي الطابسين فالتفت ورائياأجبت الهوى لما دعاني ... بزفرة تقنعت منها أن ألام ردائياس/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة ((سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب)) وخيالي أن يرمما الثغرات التي لم تعن الوثائق على ملئها.){ص 746 - 758 .} كل سياحة ... في – أو مع – سيدي الكتاب وأنتم بخير. تلويحة الوداع :دعاني الهوى من أهل ودي .... بذي الطابسين فالتفت ورائياأجبت الهوى لما دعاني ... بزفرة تقنعت منها أن ألام ردائياس/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة ((سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب))