-
د. حلمي محمد القاعود
د. حلمي محمد القاعود
............................
ولد في قرية المجد ـ محافظة البحيرة في جمهورية مصر العربية عام 1946م.
*حصل على شهادة الدكتوراه في البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن من كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة عام 1985.
*عضو هيئة التدريس في كلية الآداب بجامعة طنطا (قسم اللغة العربية).
*عَمِلَ أستاذاً مشاركاً بكلية المعلمين بالرياض (1989 ـ 1990م).
*حاز على جائزة المجمّع اللغوي بالقاهرة 1968 وجائزة المجلس الأعلى للثقافة 1974م.
*عمل رئيساً لقسم اللغة العربية بكلية الآداب ـ جامعة طنطا (2000-2004م).
*له العديد من المؤلفات المطبوعة في الإسلاميات والأدب والعلوم، منها:
**في الإسلاميات:
1-مسلمون لا نخجل.
2-حراس العقيدة.
3-الحرب الصليبية العاشرة.
4-العودة إلى الينابيع.
5-الصلح الأسود: رؤية إسلامية لمبادرة السادات والطريق إلى القدس.
6-ثورة المساجد .. حجارة من سجيل.
7-هتلر الشرق.
8-جاهلية صدام وزلزال الخليج.
9-أهل الفن وتجارة الغرائز.
10-النظام العسكري في الجزائر.
11-.. واسلمي يا مصر.
12-حفنة سطور.
13-التنوير: رؤية إسلامية.
14-دفاعاً عن الإسلام والحرية
في الإعلام:
1-الصحافة المُهاجرة.
في الأدب والنقد:
1-الغروب المستحيل (سيرة الروائي محمد عبد الحليم عبد الله).
2-رائحة الحبيب (مجموعة قصصية).
3-الحب يأتي مُصادفة (رواية).
4-مدرسة البيان في النثر الحديث.
5-موسم البحث عن هوية (دراسات في القصة والرواية)
6-محمد (ص) في الشعر العربي الحديث.
7-القصائد الإسلامية الطوال في الشعر الحديث.
8-الرواية التاريخية في أدبنا الحديث: دراسة تطبيقية.
9-الحداثة تعود.
10-الورد والهالوك: شعراء السبعينيات في مصر.
11-لويس عوض: الأسطورة والحقيقة.
12-الواقعية الإسلامية في روايات نجيب الكيلاني.
13-الرواية الإسلامية المعاصرة: دراسة تطبيقية.
14-حوار حول الرواية في مصر وسورية.
15-النقد الأدبي الحديث.
-
قراءة في كتاب «الصحافة المُهاجرة»
للدكتور حلمي محمد القاعود
بقلم:أ.د. حسين علي محمد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في 190 صفحة من القطع المتوسط صدرت عن دار الاعتصام بالقاهرة الطبعة الثانية من كتاب الناقد المعروف الدكتور حلمي محمد القاعود "الصحافة المُهاجرة: دراسة وتحليل، رؤية إسلامية"، وكانت الطبعة الأولى قد صدرت منذ ثمانية أعوام عن الدار نفسها.
ويقع الكتاب في أربعة أبواب تتناول ظاهرة الصحافة العربية المغتربة؛ حيث صدر الكثير من الصحف والمجلات العربية في باريس ولندن وقبرص … وغيرها.
ويرى المؤلف أنّ أصحاب هذه الصحف والمجلات هاجروا بها، أو أنشأوها، بعد الحرب اللبنانية الأهلية في منتصف السبعينيّات. ويرى أنه كان من المنتظر أن تُعالج هذه الصحف قضايا العرب والمسلمين بحيدة وانتصاف، ولكن كيف يتم ذلك، والظاهرة "كانت في المحل الأول تجارية تقوم لدى كثير من أطرافها على لعبة محرّمة وآثمة، إنها لعبة العمل لحساب من يدفع، والدفاع عنه بالباطل، وتزداد حرارة الدفاع كلما ازداد مقدار الدفع، ثم إن كثيراً من أطراف اللعبة لم يكونوا بمعزل عن التلوث الفكري والعقدي، بل كانوا قادةً وروّاداً في هذا المجال، وكان رائدهم الأول وهدفهم النهائي هو تلويث الإسلام، وتشويه الصحوة الإسلامية لحساب جهـات شتى، مع تقنين الطغيان في العالم العربي، وتكريس الاسـتبداد والقهر، وتجميل الوجوه القبيحة في عالم الفكر والسياسة. (ص143).
ولقد أضاف المؤلف إلى هذه الطبعة الباب الرابع ( ص ص143-179)، وهذا الباب عنوانه "بعد ثماني حجج"، يُثبت فيه الكاتب بالوثائق كيف كانت دعاواه صادقة في طبعة الكتاب الأولى، فهذا صاحب إحدى المجلات الأسبوعية ـ التي مازالت تصدر في باريس ـ يقول أثناء أزمة الكويت 1990م "وأعرف أنَّ هناك من سيُعيِّرني بأن لحـم كتفيَّ من العراق، ولن أتردّد في القول: نعم، هذا صحيح" (ص154).
لا نستطيع في هذه الزاوية أن نتناول كل زوايا ظاهرة الصحافة المُهاجرة: النشأة، والانحراف العقدي، والاستمرار في هذا الطريق الطويل الموحل، ولماذا استمرّت؟ وهل ستستمر في المستقبل؟
يكفينا ـ في النهاية ـ أن نقول: هذا كتاب جدير بالقراءة، ونرشحه لمكتبتك.
-
حوار مع الناقد الإسلامي الكبير الدكتور حلمي محمد القاعود
«الحب يأتي مصادفة» أذاقتني طعم السعادة
حاوره: أ.د. حسين علي محمد
ــــــــــــــــــ
(القسم الأول)
"حلمي محمَّد القاعود" اسم يعرفه العاملون على الساحة الإسلامية، كما يعرفه خصوم الإسلام من المثقفين العرب أيضاً، هو حاضر في أذهان الجميع بما يكتبه من آراء جريئة، وأفكار قوية، ومقالات حادة لا تعرف المراوغة أو المداورة.
في المجال الأدبي، هو ناقد أصيل وكبير. منذ بداياته، وصفه الأديب الكبير "وديع فلسطين" في مجلة "الثقافة" التي كانت تصدر في السبعينيات من القرن الماضي بأنه أفضل النقاد الشبان، وفي عام 1968م فاز في مسابقة مجمع اللغة العربية، التي كان يتنافس عليها كبار الأدباء والكتَّاب، وكان عمره آنذاك لا يزيد عن الثانية والعشرين، وفي عام 1974م فاز في مسابقة "يوم الأرض" الخاص بالشعب الفلسطيني ببحث عن شعراء المقاومة الفلسطينية، وهي المسابقة التي كان يقيمها المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية (المجلس الأعلى للثقافة الآن).
ومع أنه يقف من المؤسسة الثقافية موقفاً مخالفاً؛ فقد رأت أنه لا بدَّ من تكريمه بوصفه أبرز أدباء محافظة البحيرة، وذلك في مؤتمر أدباء مصر الذي انعقد بمدينة دمنهور عام 1998م، وأهدته درع التفوق.
في حياته الجامعية، يمثِّل صورة للأستاذ الجامعي الجاد، الصارم من غير قسوة، الحازم في غير شدة، وخاصة في مجال الدراسات العليا، حيث يأخذ طلابه بالعمل الدؤوب، والبحث المستمر، والاهتمام بالجزئيات مثل الاهتمام بالكليات، وهو كذلك أيضاً في مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه، حيث تكون مناقشاته ـ كما شهد زملاؤه وطلابه ـ درساً تطبيقياً وعملياً، يعلِّم الطالب كيف يصل ببحثه إلى التفرد والإضافة.
"القاعود" صدر له مؤخراً كتاب مهمّ يعدُّ مرجعاً في بابه، هو "الرواية التاريخية في أدبنا الحديث" عن هيئة قصور الثقافة في أكثر من ستمائة صفحة، وصدر عنه كتاب في سلسلة "أصوات معاصرة" بعنوان: "نحو أدب إسلامي: قراءة في رواية "الحب يأتي مصادفة" من تأليف "ثروت مكايد عبد الموجود"، كما صدر له كتاب ثالث بعنوان: "الإسلام في مواجهة الاستئصال"، وكانت هذه الإصدارات، بعد فترة انقطعت فيها إصداراته الأدبية والفكرية، مدخلنا إلى لقائه وسؤاله عن أثر صدور هذه الكتب بالنسبة له فقال:
ـ في الحقيقة، فإنني ـ مع ظروفي الصحية المضطربة كما تعلم ـ لم أتوقف أبداً عن القراءة والكتابة، إلا لضرورة قاهرة، وطوال السنوات الست الماضية، صدرت لي بعض الكتب القليلة، منها كتاب "دفاعاً عن الإسلام والحرية" عن دار الاعتصام، وكتاب "حوار بين الرواية في مصر وسورية"، وقبلهما صدر كتاب "الرواية الإسلامية المعاصرة"، كما صدر كتاب "الأقصى في مواجهة أفيال أبرهة" عن الانتفاضة الثانية، ولديَّ بعض المخطوطات لكتب أخرى، ولكن تصفية دار النشر، التي كانت تنشر لي باستمرار، لأسباب مالية، فضلاً عن تراجع سوق الكتاب، وعزوف الناشرين عن الكتب الأدبية، أو الكتب التي لا تدرّ ربحاً كبيراً، أو الكتب التي لا تعبِّر عن وجهة نظرهم، جعلني استرخي في البحث عن ناشر يعوِّض ناشري الأول، وكما تعلم فالمؤسسة الثقافية الرسمية لا تنشر لأمثالي؛ لأنَّها تريد كتَّاباً بمواصفات خاصة، لا تتعلق بالكتابة أو الموضوع، وهي مواصفات لا تتحقق في شخصي..
بالطبع نشر الكتب السابقة في أواخر العام الفائت أسعدني للغاية؛ لأنَّ ما كتبته يصل إلى الناس وقد يؤثر في بعضهم، أو يثير لديه الرغبة في مناقشة قضايا أدبية أو ثقافية أو فكرية بصفة عامة، ولا أخفي أن الكتاب الذي ظهر عن روايتي "الحب يأتي مصادفة" أدهشني، فقد أعادني إلى ما يقرب من أربعين عاماً، كنت أكتب القصة القصيرة والمسرحية والرواية بمفهوم إسلامي قبل أن تظهر الدعوة إلى الأدب الإسلامي من خلال رابطته العالمية. الأكثر إدهاشاً أن الكاتب "ثروت مكايد" الذي قرأ روايتي وكتب مؤلفه حولها، أعاد إلى نفسي الثقة في كتابة الرواية مرة أخرى، فقد قرأها بحب شديد، ووجه إليها بعض الانتقادات السلبية، ولكنه أبرز جوهرها وإيجابياتها بطريقة رائعة، ومن المفارقات، أنَّ اليساريين شنوا حملة ضارية على هذه الرواية إبَّان ظهورها في مجلتهم التي كانت تسمَّى "الطليعة"؛ لأنَّ أحد شخوصها ـ أي الرواية ـ كان يسارياً فاشلاً ومتهافتاً .. ومع ذلك فقد أشارت صحف عديدة في مقدمتها "الأهرام" بالرواية، واحتفت بها حفاوة شديدة، ولكن كتاب "ثروت" أذاقني طعم السعادة بطريقة أفضل.
ومن خلال هذه الإجابة، وبمناسبة إشارة الدكتور "القاعود" إلى المؤسسة الثقافية، سألناه:
ولكن يا دكتور، كتابك "الرواية التاريخية" الذي صدر مؤخراً نشرته المؤسسة الثقافية الرسمية "هيئة قصور الثقافة".. فلماذا تأخذ موقفاً ـ لا أقول معادياً، ولكن مخالفاً لهذه المؤسسة؟
أجاب بهدوء:
ـ تعلم أنَّ المؤسسة تأخذ مني ومن كل المنتمين إلى الإسلام منهجاً وتطبق موقفاً معادياً، فالفريق المهيمن عليها ممَّن يسمَّون باليسار، أو اليسار المتأمرك لا يحبون الإسلام، فهم الآن أكثر ولاء للولايات المتحدة وخططها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وقد تأصلت لديهم كراهية الإسلام شكلاً وموضوعاً منذ قام "هنري كورييل" الصهيوني بتشكيل أول حزب شيوعي فعَّال في مصر فترة الأربعينيات من القرن الماضي. وهذه المجموعة في سيطرتها على نشر الكتب أو المجلات أو الصحف، أو على الإدارات الثقافية المختلفة، لا تفتح المجال إلا أمام التابعين لها فكراً وسلوكاً، أو اللائذين بها من أصحاب المصالح والمنافع، وأنا لست من هؤلاء بالتأكيد.. وقد نشرتُ عشرات المقالات في الصحف المصرية منذ أوائل التسعينيات ـ كما تعلم ـ لكشف أوجه القصور والفساد في حركة هذه المؤسسة، وسأضرب لك مثالاً واحداً: كيف تقبل بوصفك مواطناً أياً كان انتماؤك ـ أن تحتفل باحتلال وطنك على يد الغزاة الأجانب؟ إنَّ المؤسسة الثقافية جعلت احتلال نابليون لمصر مناسبة للاحتفال، وغطت على الجريمة بالقول: إنَّها علاقات ثقافية.. يعني إيه؟ إني لا آخذ موقفاً مخالفاً أو معادية من المؤسسة.. بل هي التي تتخذ موقفاً معادياً من الثقافة الوطنية والقومية والإسلامية.
بخصوص كتابي، فقد ظلَّ في الهيئة التي نشرته أكثر من تسعة أعوام، وقال بعض الموظفين الرسميين إنه لن ينشر "ولو على جثته"، وقد اضطررت لخوض معركة ثقافية طويلة المدى، حتى تدخل بعض الفضلاء لنشر الكتاب، وتم نشره بعد السنوات التسع! قارن ذلك بالكتب التي يتم تجميعها لكتَّاب السلطة ـ وهي عبارة عن مقالات رديئة لا فكر فيها ولا جهد ولا موهبة ـ وتنشر بأخطائها وخطاياها، ويكافأ أصحابها بمكافآت ضخمة.
*إذاً القضية هي قضية موقف، وصراع بين اتجاهات فكرية؟
ـ بالتأكيد هي كذلك في جانب مهم منها، ولكن الجانب الآخر يعبِّر عن جانب سلوكي، يرتبط بالانتهازية الرخيصة التي يمارسها البعض، ويفرض على الآخرين أن يمارسوا النفاق والتملق كي يستفيدوا من المؤسسة الرسمية، وعليك أن تتذكر أنَّ قيادات المؤسسة تنتمي إلى اليسار المتأمرك الذي جعل همَّه التشويش على الإسلام وتصوراته، بل واستئصاله إذا استطاع، وأظنك تذكر ما جرى في مؤتمر التحديات الثقافية الذي انعقد في أول يوليو 2003م تحت رعاية وزارة الثقافة، وما قيل في هذا المؤتمر من رفض للإسلام، والدعوة إلى العلمانية.
* لكن، ما هو تقويمك للواقع الثقافي الآن، والواقع الأدبي بصفة خاصة؟
ـ لعلي فيما سبق من كلامي أشرت إلى رأيي بصفة عامة في الواقع الثقافي والأدبي، إنه باختصار واقع فاسد؛ لأنَّه يحارب الثقافة الوطنية والقومية والإسلامية، ويدعو إلى الثقافة الاستعمارية وخاصة في جوانبها السلبية، تسليع المرأة، تفتيت الأسرة، رفض التشريع الإسلامي في الأحوال الشخصية، الدعوة إلى الإباحية، رفض وجود ثوابت في الإسلام، محاربة الحجاب، الدعوة إلى التبعية للغرب الرأسمالي، تصفية القضية الفلسطينية لحساب العدو النازي اليهودي، التقليل من قيمة القدس العتيقة، التشهير بالجهاد والحركات الإسلامية المقاومة في فلسطين، الدعوة إلى إخراج التصور الإسلامي عن مجال القضية الفلسطينية.. وهكذا..
وفي المجال الأدبي، يتم الإلحاح على قضيتين أو مسألتين: الأولى: الترويج للإباحية في الأعمال الإنشائية، والأخرى: التشجيع على الطعن في المقدسات الإسلامية بحجة كسر "التابوهات"، وسوف نلاحظ أنهم لم يقتربوا من "تابو" السياسة أبداً؛ لأنهم يعرفون المصير الذي ينتظرهم! لذا لم نر أدباً تنشره المؤسسة الرسمية ذا قيمة في الأغلب الأعم.
حتى مكتبة الأسرة فرَّغوها من مضمونها، ونشروا كتباً معظمها تافه أو محدود القيمة، لتحقيق أغراض شخصية، أما الكتب الجيدة والمهمة فقد كانت قليلة، ولجؤوا أحياناً إلى تشويه بعضها، بالحذف، كما جرى لكتاب "وحي القلم" لمصطفى صادق الرافعي.
ولا تنس أنهم في مجال النقد الأدبي ألحوا على مذاهب الحداثة وما بعدها مثل البنيوية والتفكيكية والشكلانية والنسوية والنقد الثقافي، وهي بنت بيئتها التي لا تتلاءم مع أدبنا وظروفنا، وتغتال المعنى اغتيالاً تاماً في معظمها لحساب ثقافة وحشية مدمرة، ولعلك قرأت كتاب "الخروج من الـتيه" ـ دراسة في سلطة النص ـ لعبد العزيز حمودة، الذي صدر قبل شهور في سلسلة "عالم المعرفة"، إنه يفضح هذه النظريات ويكشف تهافتها وتهافت من يروّجون لها في واقعنا الثقافي، الذي صار فاسداً في مجمله، غريباً عن فطرة الشعب والأمة جميعاً.
وبهذه المناسبة سألنا الدكتور "القاعود":
* كنتم ممن هاجم "الحداثة"، وأصدرتم كتيباً حولها، فما رأيكم الآن فيما صارت إليه الحداثة التي يتنافس حول ترويجها الآن بعض الكتَّاب والنقاد؟
ضحك الدكتور القاعود، وأجاب:
ـ لقد انتهت الحداثة منذ زمان يا دكتور، وانتهى ما بعد الحداثة، وها هي العولمة تدق الأبواب من جديد لتعيد سيرة الاستعمار الصليبي العسكري الذي توارى مع منتصف القرن الماضي، ففيم يتنافسون الآن؟ اسمع: هناك بعض الناس حتى الآن لا يعرفون معنى الحداثة، ويفهمونها على أنها تعني التجديد، والتجديد مطلوب في كل زمان ومكان؛ لأنَّه التطور الطبيعي للأشياء وفق سنن الله التي فطر الناس عليها، ولكن الحداثة التي يريدون استنباتها في بلادنا العربية المسلمة تعني الانقطاع، أي ترك الدين والتاريخ والعادات والتقاليد..الخ، وبناء عالم جديد يقوم على التجربة والواقع، وعلى الحداثي أن يخطّ طريقاً جديداً بعيداً عن الوحي والمواريث مهما كانت مقدسة! أي لا مكان للإله ولا للعقيدة الدينية، وقد نشأت نظريات ما بعد الحداثة لتجعل الفرد هو سيّد نفسه في كل شيء، وخاصة إذا كان أوربياً أو أمريكياً، وها هي أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م تؤكد على نظريات جديدة تنسف ما سبق، وتعلن جهاراً نهاراً أنَّ العالم قرية واضحة، يجب أن يخضع كلّ من فيها لهيمنة القوة التي تملك المال والسلاح ووسائل الاتصال، كما يجب أن تفتح أبواب الدول والعواصم لمنتجات هذه القوة دون رسوم أو جمارك أو حوائل، وإلا فالعصا الغليظة كفيلة بتأديب من يقف في مواجهتها، والذرائع ملقاة في الطريق: أسلحة الدمار الشامل، الديمقراطية، حقوق الإنسان، الاقتصاد الحر، معاداة السامية، دعم الإرهاب.. والعراق وأفغانستان من أوضح الأمثلة والنماذج التي ترفع أمام كل من تسوّل له نفسه أن يتجاوز حدوده.
الذين يتنافسون حول الحداثة الآن إما غير فاهمين لمعناها الحقيقي، أو بسطاء يتعاركون حول السراب! وقد انتهت الحداثة، وما بعد الحداثة، ودخلنا في عصر جديد! لن يبقى فيه إلا من يحافظون على هويتهم ويفتدونها بالدم والدموع والعمل والإيمان.
*سؤال آخر.. يرتبط بهذا الموضوع، وهو النقد السائد في الساحة الأدبية، هناك من يقول بأزمة خانقة في النقد تسيطر على الساحة بأسرها، فهل ترى حقاً أنَّ هناك أزمة نقدية؟
ـ إذا أدركنا الخلل الذي يحكم الحياة الأدبية بصفة عامة، استطعنا أن نقول إنَّ هناك أزمة نقدية حقيقية، فالفساد الذي يخيِّم على الواقع الأدبي، من خلال المؤسسة الرسمية، حوَّل الأدباء إلى جماعات وشلل متنافسة، ليس على الإبداع أو خدمة الثقافة، وإنما على المغانم والمكاسب التي يمكن جنيها من هذه الجهة أو تلك، ومن ثم فقد روَّجت كل "شلة" لأعضائها، ووجدت النقاد الخاصين بها، وهم عادة نقاد يكتبون بلغة غير مفهومة، ولكنها دائماً تكرس أعمال الشلة، وترفعها إلى أعلى عليين.. من ليست له شلة أو جماعة لن يذكره أحد، فضلاً عن أن ينقده، وبعض الأدباء تحوَّل إلى رجل علاقات عامة ليسوّق أعماله أو كتاباته لدى الصحف وأجهزة الدعاية من تلفزة وإذاعة وندوات ومحاضرات وغيرها، ويستكتب النقاد ـ خاصة في الصحافة ـ الذين يملكون مساحات أو نوافذ دائمة.. الأغلبية التي لا تملك القدرة على العلاقات العامة، ماتت كمداً وحسرة، وخاصة إذا كانت ذات توجه إسلامي واضح.
وقد رأيت ما جرى بالنسبة لجيلكم، حيث سيطر "الهالوك" على مرافق النشر والنقد والدعاية، ولكن النتيجة كما توقعت أنهم ذهبوا، ولم يبق من آثارهم شيء، وبقى "الورد" هو الأقدر على التعبير، والأقدر على الإنشاد، مع أنه كان ضعيف الصلة بالمؤسسة الرسمية والجماعة أو الجماعات المهيمنة عليها.
* أعدتنا إلى "الورد والهالوك" كتابك الذي أحدث ضجة كبيرة عند صدوره، وتناولت فيه فريقين من شعراء السبعينيات أحدهما سمَّيته فريق الأصالة، والآخر فريق الهالوك أو المتسلقين.. ترى ما هو تقويمك الآن لما وصلت إليه في هذا الكتاب؟ وهل يمكن أن تقدم كتاباً يثير قضية مماثلة؟
ـ كتاب "الورد والهالوك" من الكتب التي كتبتها بدمي إن صحَّ التعبير، فكل جملة، بل كل كلمة، بل كل حرف، كان وراءه فكري وأعصابي ودمي، وقد واجهت تياراً هادراً يملك كل شيء، الصحافة والإذاعة والتلفزة والمؤسسة الثقافية بكتبها ومجلاتها وصحفها، وندواتها ومحاضراتها وجوائزها، ونقادها ومؤتمراتها، وكان الترويج لأفراد هذا التيار لا يتم داخل الحدود وحسب، ولكنه كان يتجاوزها إلى أرجاء العالم العربي والصحف والمجلات ودور النشر في لندن وباريس وقبرص، وتاهت الحقائق، وضاع الفن، ووسط الضجيج الصاخب الذي يروِّج لشعر يخلو من مقومات الشعر شكلاً وموضوعاً، بل تعدى إلى إهدار كل قيمة مضيئة فنياً وإنسانياً، في الوقت الذي تقوم فيه كوكبة من الشعراء على امتداد قرى مصر ومدنها الصغيرة بدور صامت في التعبير عن هموم الأمة من خلال فن جميل أصيل متجدد، دون أن يلتفت إليها أحد، أو يقدرها أحد.. وهنا كان دوري لأواجه التيار وأسبح ضده، وأنشر الحقيقة، وقلت رأيي واضحاً وصريحاً وجريئاً بفضل الله، وصحَّ كل ما توقعته.. واليوم لم يبق إلا شعراء الأصالة.. أمَّا الهالوك فقد جفَّ وأصبح هشيماً تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدراً.
تسألني: هل أستطيع أن أقدم اليوم كتاباً آخر مثل "الورد والهالوك"، أقول لك: بعون الله أستطيع، بل إني أقدم بالفعل، ولكن في مجال الرواية ذات المنظور الإسلامي، حيث أكتب عن كتَّابها المهمَّشين وأقدمهم إلى الناس ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ولعلك تذكري كتابي "الرواية الإسلامية المعاصرة" الذي قدَّمت فيه شباباً ممتازاً يكتبون الرواية الإسلامية باقتدار، من المغرب وفلسطين وغيرها، وهناك كتاب جديد، أسأل الله أن يظهر قريباً، قدمت فيه أصواتاً روائية إسلامية جديدة أيضاً.. ثم إني أواجه "الرواية المضادة" التي تعادي التصور الإسلامي وتدعو إلى ثقافة بديلة عن الثقافة الإسلامية، ولعلّ ذلك يظهر مستقبلاً ـ إن شاء الله ـ في كتاب..
إني أحاول دائماً أن أضع يدي على الحقيقة، ولا أعبأ بالضريبة التي أدفعها.. المهم أن يكون هناك رأي فني مخلص، ولتكن النتائج ما تكون.
(يتبع)
-
(القسم الثاني)
ـــــــــــــــــــــــ
* لعل هذا يقودنا إلى سؤال عن الأدب الإسلامي، هل أنت راضٍ عمَّا يقدَّم من نماذج أدبية للأدباء الإسلاميين، وعن مستوى الأدب الإسلامي بصفة عامة؟
ـ هذا السؤال جيد للغاية، فهناك من يشنِّع على الأدب الإسلامي، بل هناك من ينفي وجوده أصلاً، ولعل أكثر المقولات رواجاً في هذا السياق، أنَّ الأدباء الإسلاميين لم يكتبوا أدباً، وإنما كتبوا كلاماً وعظياً يصلح للمنابر فقط! ولكن الحقيقة غير ذلك. الأدب الإسلامي شعراً ونثراً موجود، وله نماذجه الجيدة والجميلة، وهي تفوق ـ من وجهة نظري ـ كثيراً من النصوص التي يكتبها الآخرون، ولكن المشكلة أنَّ هذه النماذج قليلة نسبياً في الشعر، وقليلة إلى حدّ الندرة في الفنون السردية، القصة القصيرة والرواية والمسرحية، مع أنَّ هذه الفنون هي الأكثر رواجاً الآن، ويتقبلها الناس بصورة ملحوظة.
قبل سنوات، كانت الفنون السردية الإسلامية شبه غائبة، ولكن مسابقات رابطة الأدب الإسلامية العالمية أحدثت تطوراً جيداً في هذا المجال، فقد أفصحت المسابقات عن كتابٍ مستواهم جيد في كتابة الرواية الإسلامية، وقصص الأطفال، ويبقى أن تعلن الرابطة عن مسابقات في المسرح الإسلامي، وتكرر مسابقاتها في مجالات الرواية وقصص الأطفال والقصة القصيرة؛ لأنَّ المسابقات تكشف المواهب المخبوءة، وتشجع المواهب الراسخة، وتساعد بصفة عامة على زيادة الإنتاج الأدبي، وخاصة في المجال السردي.
الأمور تتطور بشكل عام، والأدباء الإسلاميين يجوِّدون أدواتهم، ويسعون إلى الأفضل، وأتوقع في السنوات العشر القادمة ـ إن شاء الله ـ أن يكون لدينا وفرة في الإنتاج الأدبي الإسلامي شعراً ونثراً.
* بالمناسبة، ما تقويمك لدور رابطة الأدب الإسلامي العالمية؟
ـ الرابطة حدث مهم، جاء مع مطلع القرن الخامس عشر الهجري ونهايات القرن الرابع عشر، ودورها مهم في تجديد الأدب العربي بصفة عامة، فهي تعيده إلى طبيعته التي ظلَّ عليها إلى مطلع العهد الاستعماري في القرن الثامن عشر الميلادي، حيث تغيَّرت طبيعة الأدب العربي القائمة على التصور الإسلامي، إلى احتضان تصورات غربية مادية بعيدة عن روح الإسلام ومقاصده. وإذا عرفنا أنَّ المسلمين في عصرنا يعيشون الاضطهاد في أسوأ أنواعه على الصعيدين الخارجي والداخلي، وأنَّ الإسلام يعدُّ خطراً داهماً على المستعمرين الغزاة والمستبدين الطغاة، ويقرنونه بالإرهاب والإظلام، لدرجة أنَّ تجار المخدرات واللصوص الكبار والقوادين والعاهرات والقتلة والمفسدين؛ يلقون معاملة أفضل من دعاة الإسلام وأنصار تطبيقه في الحياة العامة.. إذا عرفنا ذلك فإنَّ وجود الرابطة في هذه المرحلة بدعوتها إلى الأدب الإسلامي يعدُّ أمراً مهماً، لأنَّها تمثل حائط صدّ يدفع بقدر طاقته عن هوية الأمة، ويسعى، ولو بخطوات محدودة، إلى نشر صور التسامح الإسلامي من خلال النماذج الأدبية الإسلامية.
إنَّ البعض يطلب من الرابطة ما يطلبه من مؤسسة حكومية ذات إمكانات كبيرة، وهذا أمر فوق الطاقة؛ لأنَّها تملك إمكانات محدودة للغاية، ومع ذلك تنشر مجلة فصلية، وتقيم الندوات والمؤتمرات في إطار قدراتها، وتستفيد من المقترحات والرؤى التي يطرحها المخلصون في الساحة الأدبية، والأيام كفيلة ـ إن شاء الله ـ بدفعها إلى الأمام خطوات أسرع وأفضل.
*نريد أن نتوقف عند الحركة الإسلامية والعمل الإسلامي، وبصفتك واحداً من العاملين المستقلين في هذا المجال، بما تنشره من مقالات أسبوعية وشهرية عديدة، وما تؤلفه من كتب ودراسات في المجال الإسلامي.. فما هو الصورة التي تراها الآن؟ وما مآخذك عليها؟
ـ لا ريب أنَّ الإسلام هو محور حياة الأمة، شاء البعض أو أبى، والإسلام في صورته العملية التطبيقية يقود الأمة إلى الخير ـ إن شاء الله ـ لو أحسن التطبيق، وتمثَّل الناس روحه وجوهره، ولم يتوقفوا عند الشكل الخارجي أو المظاهر العامة فحسب. إنَّ العبادات وخاصة الصلاة مطلوبة، لتكون ـ في حال الإخلاص ـ صلة دائمة تصل العبد بربه وخالقه وسيد الكون بلا منازع. هذه الصلة هي التي تحرِّك الجماهير لبناء الحضارة وتنمية الموارد وتحسين الواقع الاجتماعي ومواجهة الأخطار وتحقيق الأمن والسلام. والأمة بعواطفها المشتعلة مع الإسلام قلباً وقالباً. والإسلام هو عنصر المقاومة الذي يخشاه الطغاة المستبدون والمعتدون المتوحشون. والحركة الإسلامية عنصر بعث للأمة وتجديد للإسلام ونشر له بفتح القلوب ودخول الصدور وإنعاش النفوس. ولا يتحقق ذلك إلا بفهم الإسلام فهماً عميقاً وشاملاً، على يد علماء داعين فاقهين مخلصين، لا يخافون في الله لومة لائم، حينئذٍ تكون الحركة الإسلامية قد اهتدت إلى الرشد، وركَّزت على الأولويات التي يتفق عليها جميع العلماء، وابتعدت عن عناصر الخلاف والفرقة والتشرذم والانحراف إلى مسالك تؤدي إلى أبواب مسدودة.
إنَّ الساحة الإسلامية من الأطلنطي حتى الفلبين، مليئة بالجمعيات والحركات التي تسعى إلى خدمة الإسلام، ولكنها تواجه اليوم بالإعصار الصليبي الاستعماري الجامح، الذي يستغل ضعف الحكومات الإسلامية في ضرب هذه الجمعيات أو الحركات، والتضييق عليها، ووصمها بالإرهاب، مع أنه هو الذي صنع الإرهاب الأكبر، وصدَّره إلى بلاد المسلمين، ثم اخترق بعض الجماعات الإسلامية، ووجهها عن طريق "الريموت كنترول" لتسلك طريق العنف، ويقال إنَّه موَّل كثيراً من العمليات التخريبية في العالم الإسلامي، ليقول ـ بعدئذٍ ـ للعالم: هذا هو الإسلام: دم، وعنف، وشرّ، وجهل، وتخلف، وظلام!
وقد نجح الإعصار الصليبي الاستعماري بالفعل في تحقيق نجاحات عديدة داخل بلاد المسلمين، بحيث صار "العمل الإسلامي" جريمة مؤثمة في العديد من البلدان الإسلامية، ويُحاكم المتهم بهذه الجريمة أمام محاكمة عسكرية لا تقبل استئنافاً ولا نقضاْ، وذلك بعد التعذيب الوحشي والملاحقات والمصادرات التي تصيبه وتصيب من معه.. كل هذا؛ لأنَّ الإعصار الصليبي الاستعماري يدفع بعض العاملين في الحركة الإسلامية، بقصد أو دون قصد، لانتهاج العنف رداً على المظالم والجرائم التي ترتكبها بعض الأنظمة.. فينسى الناس ـ عن طريق الدعاية المركزة والمستمرة ـ ما تفعله هذه الأنظمة ويتذكر فقط أنَّ الإسلام عنوانه موجود لدى حركات العنف، مما يعني أنَّ المسلمين لو أرادوا التقدم والتحرر فعليهم أن يتخلوا عن الإسلام، ويعيشوا كما يعيش الغرب الصليبي الاستعماري في حياةٍ؛ البقاء فيها للأقوى، مع نهب المتعة على حساب كل قيمة خلقية، حياة أقرب إلى الحياة الحيوانية الوحشية في الغابة، ولكن بطريقة مهذبة على الطريقة الاستعمارية المهذبة التي ترفع شعارات إنسانية، وهي تسحق وتقتل وتشرد وتنهب دون أن يهتزّ لها جفن!
العمل الإسلامي، يحتاج إلى حكمة وصبر، وتجنب الدخول إلى المناطق الملغمة بالخلافات المذهبية والطائفية، واعتماد رحابة الصدر للمخالف في الفروع كما يقول الأصوليون؛ لأنَّ الخطر المحدق بالجميع، لن يفرِّق بين مذهب وآخر، أو طائفة وأخرى، بل إنه يتعامل مع كل من يحمل اسماً إسلامياً ولو لم تكن له علاقة حقيقية بالإسلام، على أنَّه مسلم يجب التخلص منه أو إخضاعه بالإذلال والتبعية.
ثم إنَّ العمل الإسلامي يجب أن يعتمد السلوك والتطبيق لمفاهيم الإسلام الصحيحة في المنزل والشارع والمكتب والمدرسة والمصنع والحقل والعلاقة مع غير المسلمين. إنَّ الدعوة بالنموذج هي خير الأساليب، أعني النموذج الصالح المجتهد المتفوق الناجح، والاكتفاء بالخطابة والصوت العالي والزعيق لن يقدِّم هذا النموذج، ولكن حين يراه النَّاس يتحرَّك على قدمين يقلدونه ويتبعونه لأنهم يحبون الصالحين المجتهدين المتفوقين الناجحين.
إني أحذر من الدعوة بوصفها مهنة تدرّ على صاحبها ربحاً، أو شهرةً، أو جاهاً، أو تجعله عنصرياً يشعر أنه الأفضل إسلاماً أو الأحقّ بتوجيه الآخرين ودعوتهم. الدعوة تحتاج إلى تجرّد وإخلاص وبذل وعطاء وتواضع وتوجه نحو الله وحده. العمل الإسلامي لا ينجح ولا يتقدَّم إلا تحت ظلال "إنكار الذات" ونسيان الأنانية، بهذا نجح السلف الصالح، وسينجح الخلف الصالح أيضاً بإذنه تعالى لو اقتدى به.
هناك مخلصون كثيرون، ولكن يعوزهم التنسيق والإعداد والتخطيط والوعي بما يجري ويدور في الأفق الإسلامي وخارجه، ومعرفة فقه الأولويات الذي يقدم إطفاء الحرائق على كنس الدار!
* خطر لي أن أسألك عن دور الصحافة الإسلامية في العمل الإسلامي، والأدب الإسلامي، فقد كنت تشارك في تحرير "الاعتصام" و"الدعوة" و"النور" و"لواء الإسلام" وغيرها من الصحف التي أغلقت أو التي تصدر الآن؟
ـ لا شك أنَّ هذه المجلات، وخاصة "الاعتصام"، كانت تلعب دوراً مهماً في إيقاظ الوعي الإسلامي والدفاع عن الإسلام وقضايا المسلمين في شتى أرجاء الأرض. كان موقف هذه المجلات بصفة عامة، ولما يزل، موقفاً دفاعياً بالدرجة الأولى، وإن كانت لا تهمل الموقف البنائي الذي يعرِّف بأصول الدين وقيمه وتشريعاته، وعندما وقعت مصر اتفاقية الصلح مع العدو النازي اليهودي عام 1979م، كان مطلب الغزاة وسادتهم الأمريكان، هو إغلاق هذه المجلات، وبالفعل أغلق كثير منها بالتتابع، وفقاً لقانون الصحافة الذي صدر عقب توقيع الاتفاقية، ولم يتمكن أي من هذه المجلات من معادة الصدور بناء على القانون الجديد؛ لأنه يضع شروطاً مستحيلة التحقيق، الجريدة الوحيدة التي صدرت هي جريدة "وطني" التي يصدرها بعض النصارى، وتنطق باسم الكنيسة الأرثوذكسية، بل إنها في المرحلة الانتقالية ما بين وفاة صاحب الامتياز، وصدورها عن مؤسسة وفقاً للقانون، لم تتوقف عدداً واحداً، مما يؤكد أنَّ القانون مقصود به الصحافة الإسلامية تحديداً؛ لأنها تقود المقاومة الفكرية ضد الهيمنة الاستعمارية الأمريكية والغزو النازي اليهودي لفلسطين وما حولها.
ومن المؤكد أن الصحافة الإسلامية تقوم بدور مهم للغاية في التعريف بموقف الإسلام من القضايا المطروحة، وتدافع عما يراد بالإسلام والمسلمين، وفقاً لإمكاناتها المادية والتحريرية.
وبالنسبة للأدب الإسلامي، فقد كانت تنشر بين حين وآخر، بعض القصائد أو القصص، وقد أسستُ في "لواء الإسلام" المحتجبة باب "أدبيات" للعناية بالأدب الإسلامي وقضاياه، وكان في أول الأمر صفحتين، ثم امتد إلى أربع صفحات، وظلّ حتى احتجبت المجلة بفعل ظروف قاهرة، وهناك الآن في معظم المجلات الإسلامية التي تصدر في العالم العربي صفحات مخصصة للأدب الإسلامي، وإن كان المأمول أن تزداد هذه الصفحات عدداً، وترقى إعداداً، وتعظم مادة؟
*سأحاول أن أصل إلى نهاية الحوار بسؤال أو سؤالين، حتى تستريح بعد هذه الجلسة الطويلة التي يبدو أنها أرهقتك، وأقول لنتوقف عند الجامعة.. كيف تراها بصفتك أستاذاً جامعياً ورئيس قسم اللغة العربية سابقاً، وعازفاً عن أي منصب جامعي كما أعلم؟
ـ الجامعة مثلها مثل المجتمع، أصابها ما أصابه من ضعف وخلخلة وأمراض، تراجعت التقاليد الجامعية، وصارت القوانين والقرارات تحاصرها وتحاصر هيئة التدريس بقصد إبعادها عن أداء دورها تجاه المجتمع والأمة، وأعداد الطلاب الكبيرة تفوق طاقتها وقدراتها. هناك أكثر من مليون طالب جامعي أو في المرحلة الجامعية، بعض الكليات لا تتسع لنصف عدد طلابها، بل لربع عددهم، وهيئة التدريس أقل من العدد المطلوب بكثير، وعضو هيئة التدريس اليوم ـ في الغالب ـ لا يملك مقومات التدريس وتقاليده وقيمه، وبسبب التدخل من خارج الجامعة، ازداد الصراع بين الأساتذة على المناصب الإدارية، وسقط البعض في فخ العمل لحساب السلطة قبل العمل لحساب العلم، وأشياء أخرى كثيرة تثير الكثير من المواجع، قد أكتب عنها في يوم ما، وأمر الدراسات العليا سيء وأكبر من أن نعالجه هنا، ولكن شيئاً واحداً يجب أن نذكره، وهو أنَّ الجامعة التي كانت مستقلة وفاعلة في عهد الاستعمار البريطاني، فقدت اليوم استقلالها وفاعليتها، وصارت مطية لأصحاب الهوى الذين لهم أذرع غليظة وقبضات حديدية وقلوب حجرية!
*اسمح لي أن أوجه إليك آخر سؤال حول أخبارك الأدبية الجديدة؟
ـ يا سيدي أنا لست رجلاً مهماً يُسال عن أخباره، فأخباري التي يجب أن تسألني عنها تتعلق بالأمل في الله أن يرحم المسلمين من الهزائم والآلام المتلاحقة، وأن يوفقهم ولو إلى عمل واحد من أعمال الخير التي تهمهم جميعاً وتقرِّب فيما بينهم.
أخباري ـ إن صحَّ أن يكون لي أخبار ـ تتمثَّل في رغبتي أن أنشر بعض الكتب الخاصة بالثقافة الإسلامية، والنقد الأدبي في الرواية والشعر، ولديَّ مشروعات كثيرة، لا أدري هل سأكتبها أم لا؟ أسأل الله أن يعينني على تنفيذها، أو تنفيذ بعضها.
-
"الحداثة تعود.."
تأليف: د. حلمي القاعود
عرض: د. حسين علي محمد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ارتبطت الحداثة العربية ـ في بعض تجلياتها ـ بالمُخالفات العقدية، والجرأة في استخدام اسم "الله" ـ جل وعلا ـ فيما لا يليق، ومن ذلك ما يقوله "نزار قباني" في قصائد عديدة، مجترئاً على عقيدتنا في وجوب تكريم الله وتنزيهه، فيصفه بما لا يليق في مثل قوله:
(والله مات وعادت الأنصاب).
وبقوله:
(بلادي تقتل الرب الذي أهدى لها الخصبا).
وقوله:
(حين رأيت الله مذبوحاً في عمان).
وقوله:
(من بعد موت الله مشنوقاً على باب المدينة).
وقوله:
(ويتزوج الله حبيبته).
يدور كتيب الحداثة تعود للدكتور "حلمي محمد القاعود" (56 صفحة من القطع الصغير) حول ظاهرة الحداثة في حياتنا الفكرية والأدبية، وهذا الكتيب موجّه لمخاطبة القارئ العادي "ليحذره من مغالطة شاعت في أوساطنا الثقافية فحواها أن الحداثة مرحلة من التطور والتجديد ضرورية لفكرنا وأدبنا جميعاً، وأنها أمر طبيعي يتسق مع تطور الحياة والمجتمعات".
والحداثة كما يراها الغرب مصطلح term "يضم عدة اتجاهات خاصة ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين… ويعني عدم التواصل أو الانقطاع عن الماضي تاريخيا وجماليا، أو رفض كل القيم المرتبطة بالماضي". وهذا ما جاءت تُنادي به الحداثة العربية على أيدي عرّابها أدونيس (في مجلته "مواقف"، العدد 6 ، 1969) حيث يقول:
"ما نطمح إليه ونعمل له كثوريين عرب (!) هو تأسيس عصر عربي جديد. نعرف أن تأسيس عصر جديد يفترض ـ بادئ ذي بدء ـ الانفصال كلية عن الماضي. نعرف كذلك أن نقطة البداية في هذا الانفصال ـ التأسيس ـ هي النقد: نقد الموروث، ونقد ما هو سائد وشائع. لا يقتصر دور النقد هنا على كشف أو تعرية ما يحول دون تأسيس العصر الجديد، وإنما يتجاوزه إلى إزالته تماماً".
"إن ماضينا عالم من الضياع في مختلف الأشكال الدينية والسياسية والثقافية والاقتصادية. إنه مملكة من الوهم والغيب تتطاول وتستمر، هي مملكة لا تمنع الإنسان العربي من أن يجد نفسه وحسب، وإنما تمنعه كذلك من أن يصنعها".
والدكتور "حلمي محمد القاعود" في تتبعه لـ "أدونيس" ومن لف لفه من الحداثيين يرى تعسر محاولة التفريق بين الحداثة الفكرية التي تعنى بإلغاء الماضي والانفصال عن التراث ومحاربة الإسلام من جهة والحداثة الأدبية، يقول:
"لقد حاولت أن أُقنع نفسي باستخدام مصطلح "الحداثة الأدبية"، وإن كان داخلي غير مقتنع أصلاً؛ لسبب بسيط، وهو أن أية نظرة أدبية لا بد أن تنطلق من مفاهيم فكرية أو أسس أيديولوجية، أيا كانت هذه الأسس أو تلك المفاهيم".
لقد ازدهرت الحداثة العربية ووراء ازدهارها:
* الإلحاح الدؤوب والمستمر الذي جعل القيمة الأدبية للشكل الأدبي (النقد الشكلاني من البنيوية إلى الأسلوبية) وإغفال الإشارة ـ عمداً ـ إلى الموضوع الأدبي حتى لو كان إلحاداً صارخاً، أو جنساً مكشوفاً، أو شذوذاً فجاً.
* التزوير والتزييف الذي يمارسه نقّاد الحداثة حيث يفسرون النصوص الحداثية التي لا تلتزم بأي تقليد فني تفسيرات غريبة وعجيبة، بل مضحكة في بعض الأحيان.
* جذب أصحاب المواهب الضحلة وطلاب الشهرة ـ وهم كثر ـ وجواز مرورهم الإيمان بالحداثة أو الماركسية.
ويختم المؤلف بحثه الموجز بسؤال:
ـ وما العمل؟
ويجيب:
"لابد من التوعية والمتابعة: التوعية بخطورة الحداثة منهجاً فكريا، والمتابعة لمسيرتها تطبيقاً بشعاً يرفض الحرية والدين والجمال".
لقد جاء كتاب الدكتور "حلمي محمد القاعود" في وقته فهو يكشف عن ظاهرة الحداثة الفكرية التي استشرت في حياتنا الأدبية، وأصبحت مرضاً لا يُمكن البرء منه، وظهرت تجلياتها واضحة في العديد من الأعمال الأدبية (كالشعر والقصة والرواية والمسرح)، وقُدِّمت الدراسات المطوّلة عن أصحابها الذين أصبح لهم منابرهم وإصداراتهم في العالم العربي من الماء إلى الماء (أو من الخليج إلى المحيط).
لكننا لا نُوافق الدكتور "حلمي محمد القاعود" في أن "الحداثة الأدبية هي الحداثة الفكرية"؛ فقد جاء في آخر المعاجم الأدبية "معجم مارتن جراي" martin gray حول "مصطلح الحداثة":
" تعتبر الحرب العالمية الأولى 1914-1918م بصفة عامة مستهل الفترة الحديثة في الأدب، و"الحداثة" هي التي تُميِّز بعض خصائص كتابات القرن العشرين فيما يتعلّق بمدى اختلافها عن الأعراف الأدبية الموروثة من القرن التاسع عشر … وأهم الملامح المميزة خاصية التجريب التي يُعتقَد أنها استجابة للحياة في عالم يتبنّى الطرائق العصرية، وقد حدثت الابتكارات التقنية الجذرية في جميع الأجناس الأدبية الرئيسة"
وطبقاً لهذا التعريف لمصطلح "الحداثة" فنحن نختلف مع الدكتور "حلمي محمد القاعود" في جعله الحداثتين الأدبية والفكرية مصطلحاً واحداً "يضم تحت ردائه نخبة من أصحاب الفكر ومحترفي الأدب الذين يتفقون فيما بينهم على قطع صلة العربي المُعاصر بماضيه تماماً… سواء أكان هذا الماضي العقيدة الإسلامية أو التاريخ أو التراث، اللهم إلا ما اتفق من هذا التراث أو ذلك التاريخ مع مناهجهم، سواء تمثّل في الحركات الشعوبية أو الباطنية أو الإلحادية (الزنادقة)، أو غير ذلك ممّا يتناقض مع الإسلام وتصوُّره الصحيح"
إنّ الحداثة في تصوّرنا حداثتان:
الأولى: حداثة فكرية، وهذه نرفضها؛ لأنها تريدنا أن ننخلع عن الماضي، فأي ماضٍ لنا نخجل منه ونريد الانخلاع عنه؟!
إن ماضينا الإسلامي بإشراقاته وانتصاراته مازال ماثلاً للعيون، ومازلنا نعيشه ونتمثله حتى لو امتلأت حياتنا بالإحباطات والمثبِّطات، فكيف ننخلع عن هذا الماضي الذي نعيشه بكل ذرة من كياننا؟
الثانية: حداثة أدبية، وهي التي تُريد التجديد في أشكال الكتابة، فكيف نرفضها ونُلحقها بالحداثة الفكرية المرفوضة؟
صحيح أن كثيراً من أهل الحداثة الأدبية يُمكن أن نُلحقهم بأهل الحداثة الفكرية، وهؤلاء مَن يملؤون الساحة ضجيجاً وصخباً
لكن في المقابل هناك من يرتبط بالإسلام، وينطلق منه لمواجهة العالم وإشكالاته، بفنه "الحداثي"، ومن هؤلاء في الشعر: صابر عبد الدايم، وأحمد فضل شبلول، وعبدالرحمن العشماوي، ومحمد بنعمارة، وحسن الأمراني، ومحمد علي الرباوي، وجميل محمود عبد الرحمن، وعبد الله السيد شرف، ونشأت المصري، ومحمد سعد بيومي، ومحمود مفلح … وغيرهم.
هؤلاء يكتبون قصيدة التفعيلة ـ وهي شكل حداثي للشعر ـ بجودة واقتدار، ويكتب بعضهم ـ نشأت المصري ـ قصيدة النثر، فلماذا نُلحقهم بركب المُعادين للأمة، من الحداثيين الفكريين، وهم منهم براء؟!
-
الشخصية الإسلامية في أدبنا الحديث
بقلم: أ.د.حلمي محمد القاعود
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعرضت الشخصية الإسلامية في أدبنا الحديث إلى السخرية والزراية بطريقة غير مسبوقة في أدبنا العربي على امتداد تاريخه الطويل، وقد تفنن المعادون للتصور الإسلامي والموالون للتصورات المادية والاستعمارية في تصوير الشخصية الإسلامية تصويراً بشعاً وقبيحاً وفصامياً، يقوم على التناقض بين القول والفعل، والكلام والعمل، لدرجة أن المرء - من أي ملة كان - يعتقد من خلال هذا التصوير أن الشخصية الإسلامية لا تتفق وطبيعة الحياة، وأن الإسلام - وهذا هو الأهم - لا يصلح ليكون منهجاً وطريقة سلوك، فعلماء الدين ورموزه الذين تصوّرهم الأعمال الأدبية منافقون وكذابون وزناة ومرتشون ومصالحهم تسبق معتقداتهم! بل إن هذه الأعمال أسرفت في تصوير المسلم بصفة عامة، حين جعلته "يطبع" علاقاته مع الانحرافات السلوكية التي تتناقض مع العقيدة والشريعة، لدرجة أننا نرى البيت المسلم مثلاً، لا يخلو من "بار" لتقديم الخمور، أو قاعة للرقص الغربي أو الشرقي، أو أن هذا البيت لا يعرف أفراده الوضوء ولا يقيمون الصلاة، ولا تسمع منهم تحية الإسلام، ولا ذكر الله، ولا تعبيراً يدل على انتمائهم للعقيدة والشريعة.
وإذا كان الشعر العربي الحديث، قد حفل بمضامين غير إسلامية تدعو إلى أيديولوجيات غربية وأفكار فلسفية بعيدة عن الإسلام، أو حاول أن يشوه بعض الرموز والقيم الإسلامية، فإن الفنون الأدبية الدرامية، وبخاصة المسرح والقصة والرواية، ويتصل بها المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية المأخوذة عنها، قد أحرزت تأثيرات أكثر خطورة في تشويه الإسلام بعامة، ورموزه وقيمه بصفة خاصة؛ وذلك لقدرتها على غزو الوجدان والمشاعر لدى المتلقين بطريقة سهلة وبسيطة وغير مباشرة، بحكم أن الإنسان بطبيعته يستلذ عملية القص والحكي، ويستريح إليها فيما يشبه الحذر اللذيذ؛ لأنه يتابع أحداثاً وشخوصاً وعلاقات تتسلسل أمامه، وهو مسترخ، فيتقبلها غالباً دون عناء أو تفكير أو إعمال عقل بطريقة يقظة.. ويمكن القول بأن الأعمال الدرامية، قد جعلت صورة المتدين مرفوضة لدى قطاعات كثيرة من الناس، وجعلته رمزاً للزيف والانتهازية والسلوك الرخيص.
وفي السنوات الأخيرة، استطاعت بعض الحكومات المستبدة في العالم العربي (الإسلامي) أن تستغل الدراما مكتوبة ومصورة ومشخّصة، في تشويه صورة الإسلام والمسلمين، من خلال استغلال بعض الحوادث والخلافات التي وقعت بين هذه الحكومات، وبعض الجماعات الإسلامية، فأشاعت الأعمال الدرامية التي أنتجتها حكومات الاستبداد أو ساعدت عليها أن ترسم صورة مقزّزة للإسلام ولكل من ينتمي إليه، بل إن هناك أعمالاً أغرقت في عدوانيتها وبجاحتها ضد الإسلام، فلجأت إلى التاريخ وزورته، وزيفت حياة بعض الشخصيات التاريخية وصورتها في حالة من الانحلال والمجون والزندقة، لتقول بعدئذ إن هذا هو الإسلام المطلوب، الذي يتوافق مع "الاستنارة" و"التقدم".
خطأ كبير
ومن المؤسف أن بعض المثاليين الذين يقاومون الفساد والانحراف والظلم، قد وقعوا في خطأ كبير، عندما انبهروا ببعض الأعمال الدرامية التي تصوّر علماء الدين في صورة فصامية متناقضة، وتحوُّل بعض الشخصيات من الاستقامة والطهارة إلى الانحراف والدعارة، وعدّوا ذلك فضحاً للفساد ومقاومة للظلم ونضالاً ضد الاستبداد والطغيان! والحق أن تعرية الفاسدين والظالمين والمستبدين والطغاة أمر محمود بل ومطلوب، بل وفرض على كل قادر ومستطيع، ولكن هل يأتي ذلك على حساب تشويه صورة الإسلام والمسلمين.. وإيهام الناس أن الإسلام منبع الظلم وأن علماءه والمنتمين إليه ليس فيهم رجل رشيد؟
هناك شيء في الأعمال الأدبية والفنية يسمى بالمعادل، والمعادل يعني أن نضع النماذج الخيّرة في مواجهة النماذج الشريرة، قد يكون المعادل حدثاً أو فكرة أو شخصية أو غير ذلك، وهمة هذا المعادل نسف الفكرة التي يرفضها الكاتب أو الفنان وترسيخ الفكرة التي يدعو إليها وينشغل بها، فإذا خلت الأعمال الأدبية والفنية من المعادل، فمعنى هذا أن صاحب العمل يؤكد الفكرة المطروحة ويؤمن بها، وإلا ماذا يقصد الكاتب وهو يجعلنا نتعاطف مع عاهرة كانت من قبل امرأة شريفة ومستقيمة ومتدينة؟ لا ريب أنه أمر مقصود، وخصوصاً إذا كانت قيمة الشخصيات من عمل الكاتب معوجة ولا تعرف الطهارة فضلاً عن الله!
دعك من حكاية الظاهر والباطن التي يسوّغ بها البعض قصور كاتب معين وعدم تقديمه للمعادل المسلم الصالح، فالعمل - حتى لو كان رمزياً- لا يستطيع أن يغفل هذا المعادل أو يتجاهله.
ويصبح الأمر مثيراً للتساؤل والدهشة والغرابة، عندما تنظر حولك فلا تجد شخصية إسلامية سويّة، لا على مستوى الأفراد العاديّين، ولا على مستوى الصفوة التي يمثلها علماء الدين في تخصصاتهم المختلفة، تتضمنها رواية أو مسرحية أو عمل تلفزيوني أو فيلم سينمائي، إن الأعمال التي تضمنت شخصيات إسلامية قليلة بل نادرة، ولعل هذا كان من أسباب الدعوة إلى أدب إسلامي ينصف الإسلام من معظم الكتاب الذين أغرقوا في كراهية الدين الإسلامي، أو ابتعدوا عنه، أو فهموه فهماً قاصراً!
واقع الحياة
إن واقع الحياة يحفل بالشخصيات السوية والمنحرفة، والطيبة والشريرة، ومن غير الإنصاف، أن نزيّف الواقع، فلا نرى فيه إلا الشر والقبح والدمامة، وأن نصوّر الشخصيات الإسلامية تصويراً يتسم بالمغالاة والبعد عن الواقع، فلا نرى المسلم إلا صاحب وجهين ومنافقاً وانتهازياً وأفاقاً، وإذا كان بعض المعادين للإسلام يتسقون مع أنفسهم في هذا الاتجاه، فإن المسلمين الذين يسايرونهم يضعون أنفسهم في موقف الريبة والشك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
عن (موقع لها أون لاين ـ 15/4/2002م)
-
كامل أمين.. شاعر الملاحم الإسلامية
بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبل ربع قرن تقريباً، رأيت رجلاً أبيض الشعر، متواضع الهيئة، يدخل مكتب رئيس التحرير لإحدى المجلات الأدبية، ويتحدث حول أعماله الشعرية، وقصائده التي يرشحها للنشر، كان متحمساً حماسة الشباب، مع أنه كان في ذلك الحين يبدو قد جاوز الستين بسنوات، عرفت أن الرجل هو الشاعر "كامل أمين"، واسمه الكامل: "كامل أمين محمد"، وكان له موقف من الحياة والمجتمع، يقوم على التصور الإسلامي، ويرفض التصورات العلمانية والماركسية التي كانت سائدة في الواقع الثقافي آنئذ، وهو ما جعل القوم المهيمنين على الصفحات الأدبية في الصحف والمنابر الثقافية ودور النشر الرسمية، يقفون منه موقفاً سلبياً، ويرفضون نشر إنتاجه الشعري والأدبي.
وفي مرحلة تالية، أتيح له أن يجد فرصة مناسبة لنشر بعض أعماله، سواء في الصحف أو المجلات أو دور النشر الرسمية، ولكن عودة الماركسيين والعلمانيين إلى الهيمنة مرة أخرى حجبه عن القراء وعن الساحة الأدبية بصورة شبه كاملة!
وقبيل وفاته في الأسابيع الماضية اشتد به المرض، فتوسطت له كاتبة إسلامية عند بعض ذوي النفوذ من مثقفي السلطة وكتابها كي يعالج لدى المستشفيات المتخصصة على نفقة الدولة، ووعد هؤلاء بعلاجه، ولكن مر الوقت والمرض يرعى جسد الشاعر المسن الفقير، وتجاهل ذوو النفوذ من مثقفي السلطة وكتابها أمر الرجل، حتى قضى نحبه، دون أن تكلف الصحف الرسمية وغير الرسمية نفسها عناء نشر خبر في سطرين عنه، ولم تستطع أسرته أن تنشر نعياً له!! وبالطبع لم يكتب أحد عنه شيئاً، لا مقالاً، ولا تحقيقاً ولا متابعة، مما يحظى به صغار الأدباء اليساريين والعلمانيين، عندما يصابون بالكحة أو الأنفلونزا!
وسمعت أن الكاتبة الإسلامية التي توسطت من أجل علاج شاعرنا الراحل، أعادت الكرة مرة أخرى من أجل نشر إنتاجه الشعري والأدبي الضخم، ولكن القوم لن يسمعوا لها لسبب بسيط جداً، وهو أن كامل أمين "ليس يسارياً ولا علمانياً"، وقبل ذلك وبعده، فهو يعبِّر عن تصور إسلامي يرفضه اليساريون والعلمانيون جميعاً!
نشأته
ولد كامل أمين، في مدينة "طنطا" عاصمة مديرية الغربية، في الخامس من يوليو سنة 1915م، وقد تلقى تعليمه في المدارس الفرنسية أولاً، وواصل دراسته بعدئذ في المدارس المصرية، واشتغل موظفاً في وزارة الري "الأشغال"، وعاش حياة متواضعة حتى أحيل إلى التقاعد، وقد منح تفرغاً لبعض الوقت من وزارة الثقافة.
نشر الشاعر قصائده في المجلات الأدبية والإسلامية، وكانت "الرسالة" تتزين بقصائده، وبمطولاته، وفي المرحلة الساداتية كان ينشر في "الأهرام"، و"الثقافة"، و"الهلال" وغيرها، واتسم شعره بقوة السبك، ووضوح العبارة، وقرب الألفاظ، وإيثار الموضوع الإسلامي، والدفاع عن الفكرة الإسلامية في مواجهة خصومها.
من بناة الملاحم في الشعر الحديث
ويعد كامل أمين من الشعراء البناة للملحمة في الشعر العربي الحديث، وكما نعلم فالملحمة لم تكن معروفة في شعرنا العربي الذي تغلب عليه صفة الغنائية، أي المقطوعات والقصائد التي يعالج من خلالها الشاعر موضوعه أو تجربته. الملحمية كانت من سمات الشعر اليوناني القديم، والشعر الروماني القديم أيضاً، والشعر عند اليونان والرومان كان وسيلة للتعبير المسرحي والملحمي، بحكم معتقداتهم وتصوراتهم، حيث كانت تقوم على الوثنية وتعدد الآلهة، وصراع هذه الآلهة مع البشر، وخاصة أبطال وقادة اليونان والرومان. لقد امتزجت الوثنية عند هؤلاء بالأسطورة والخرافة، وهو ما عبر عنه شعراء الإغريق والرومان في أعمال ملحمية شهيرة ترجمت إلى معظم لغات العالم، ومنها: أجا ممنون، ألكترا، حاملات القرابين...
ومع أن العرب قبل الإسلام كانوا وثنيين، وكانت لهم أساطيرهم وخرافاتهم، إلا أن طبيع تهم وبيئتهم ورحلتهم في المكان والزمان، جعلتهم ينتمون إلى القصيدة الغنائية دون المسرح والملحمة، وفي بدايات عصر النهضة، سعى "محب الدين الخطيب"، ليكون للعرب والمسلمين ملاحمهم التي تقوم على تاريخهم الحقيقي، وفيه من الصراع بين الحق والباطل، ما يفوق أساطير اليونان والرومان وخيالاتهم، وقد ذهب إلى "أحمد شوقي" أشهر شعراء العصر الحديث آنئذ، وعرض عليه فكرة نظم الملحمة إسلامياً، ولكن "شوقي" صمت ولم يعلن قبوله أو رفضه، فذهب الرجل إلى "أحمد محرم" وعرض عليه الفكرة، فقبلها على الفور، وبدأ في النظم ونشر الملحمة "الإلياذة الإسلامية" أو "مجد الإسلام"، في مجلة "الفتح"، على أجزاء، وكان محرم بذلك أول من راد هذا الطريق وعبّده لغيره من الشعراء العرب المحدثين، المفارقة أن "شوقي" فاجأ الناس بعد ظهور "إلياذة محرم" بنشر "مطولته" ولا أقول ملحمته المعروفة باسم "دول العرب وعظماء الإسلام"، ترصد حركة الإسلام منذ فجر الدعوة حتى أيامه، ولكن لم تكن لها قوة ملحمة "محرم".
جاء "كامل أمين" ليحقق أول ملحمة عربية إسلامية مكتملة فنياً، ولم يكتف بملحمة واحدة فقط، ولكنه كتب أكثر من ملحمة، وساعده على ذلك قدرته الكبيرة على النظم وطواعية اللغة، ودراسته الجيدة للسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي.
كانت أول ملحمة يكتبها هي ملحمة "السماوات السبع" عام 1957، وكانت بداية متواضعة من حيث المستوى الفني، تلتها ملحمة "عين جالوت"، وإني لأعدها أعظم ملاحمه على الإطلاق، ليس لضخامتها أو تعبيرها عن معركة خالدة في حياة الإسلام والمسلمين، حيث كان الانتصار كبيراً ورائعاً وفريداً على التتار الغزاة، ولكن لأنها استطاعت أن تبني فنياً لحظة من أروع لحظات التاريخ الإسلامي، وتثبت بحق أن تراثنا التاريخي فيه ثروة هائلة من الأحداث والوقائع الباهرة التي تفوق خيال اليونان وأساطيرهم، كما تفوق ما لدى نظرائهم من الرومان.. ومع أن الشاعر أنجز هذه الملحمة عام 1968 (العهد الناصري)، فإنها لم تنشر إلا عام 1975م (المرحلة الساداتية).
تابع الشاعر كتابة ملاحمه التاريخية، فكتب ملحمة "القادسية" عام 1978م، عن المعركة العظيمة التي خاضها المسلمون ضد الفرس، وانتصروا عليهم فيها.
وهناك ملحمة أخرى هي الملحمة "المحمدية" عام 1979م، وترصد السيرة النبوية، وقد تناولتها في كتابي "محمد صلى الله عليه وسلم في الشعر العربي الحديث".
إن "كامل أمين" في احتشاده لكتابة الملحمة التاريخية الإسلامية ليعد صاحب جهد فريد وكبير ونادر، نقل الشعر العربي من الغنائية إلى الملحمية، وأغناه بهذا التراث، فضلاً عن توظيفه في ميدان جديد يبعده عن كثير من السلبيات التي تصاحب الشعر الغنائي.
مجموعة دواوين
ومع ذلك، فإن "كامل أمين" أصدر مجموعة من الدواوين التي تضم قصائد غنائية معظمها يدور حول الدفاع عن الإسلام واستنهاض الأمة وشحذ عزيمتها لمواجهة المحن والأزمات والصعاب والتغلب عليها.
أصدر عام 1947م ديوانه "نشيد الخلود"، وفي عام 1964م أصدر ديوانه "المشاعل"، وأصدر عام 1979م ديوانيه: "مصباح في الضباب"، و"عندما يحرقون الشجر".
ومن المؤكد أن أوراقه التي تركها بعد رحيله، تضم كما علمت شعراً كثيراً لم ير النور، في ظل الحصار المفروض على التوجه الإسلامي بصفة عامة، سواء كان شعراً ملحمياً أو غنائياً.
ويحسن أن نتناول نموذجاً من شعره، قبل ختام هذه السطور؛ لعلنا نرى فيه بعض خصائص شعره، يقول في إحدى قصائده "صيحة مسلم"، مدافعاً عن اللغة العربية "لغة الضاد" وربط الهجوم عليها بالمؤامرة الكبرى على الإسلام والمسلمين:
رحمة الله والسماء عليها / كانت الضاد للكتاب لسانا
وبها كان يهبط الروح جبريل / ويوحى للمصطفى القرآنا
أيها المفلسون من كل شيء / فارقونا وهرّجوا في سوانا
كل تاريخنا ديون عليكم / لا تظنوا استرداده إحسانا
كل وجه لكم بألف يهوذا / ألف قابيل واغلٌ في دمانا
قد تركنا كتابنا فضللنا / بعد أن كان في الكتاب هدانا
أيها المسلمون في كل أرض / التقوا حول دينكم حيث كانا
ولعل تسمية القصيدة "صيحة مسلم"، تتناغم مع صوت الجهارة الذي يسودها، واللغة المباشرة التي لا تلجأ إلى المجاز كثيراً، والتعبير القوي العميق عن القضية التي يدافع عنها، ويستبسل في سبيل المنافحة عن حماها، فهو مستمسك بالضاد التي صنعت مجداً، وكانت وسيلة الخير الإلهي الذي أصاب المسلمين وهو القرآن الكريم، وبالإضافة إلى ذلك، فهو يرى أن الضاد طريقنا لاستعادة المجد، وتقدم الصفوف، أما الذين يحاربون اللغة، فهم "يهوذا" و"قابيل"، ويدلل على خسارة الأمة وضلالها بترك كتاب الله، ويوجه نداءه إلى المسلمين كافة بالالتفاف حول الإسلام والتمسك به؛ لأنه طوق النجاة.
رحم الله "كامل أمين"، فقد استمسك بإيمانه وكرامته حتى مات في صمت، مؤمناً زاهداً كريماً.
-
توابع نجاح الإخوان المسلمين
بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود
...................................
أصاب نجاح الإخوان المسلمين في المرحلة الأولى للانتخابات التشريعية الراهنة؛ كتائب الدعاية الحكومية بصدمة عنيفة أفقدتهم صوابهم ، وجعلتهم لايحترمون المنطق ولا المنهجية في مخاطبة الجمهور الذي يخاطبونه عبر الإذاعات المرئية والمسموعة والمقروءة، ولم يتورعوا أن يكذبوا على الناس دون خجل أو حياء بادعاء أمور غير حقيقية على الإخوان المسلمين والتيار الإسلامي بعامة .. يتربع خادم السلطة على كرسيه في التلفزيون مثلا ويأخذ في الهجوم على الجماعة المحظورة ، ويركز على كلمة المحظورة ليلفت الانتباه إلى أنها ليست قانونية ويجب معاقبتها على مشاركتها في الاهتمام بقضايا الشعب البائس وهمومه ، ثم ينتقل إلى الحديث عن شعارهم الغامض " الإسلام هو الحل" ، ويتحفنا بالكلام عما يحدث في أوربة من عدم الخلط بين الدين والسياسة مع أن ملكة انجلترا رئيس الكنيسة البروتستانتية ، وجورج بوش يرى أن السماء أرسلته ليحرر بلاد المسلمين من الإرهاب ويحول دون قيام إمبراطورية إسلامية من إندونيسيا إلى إسبانيا .... الخ
أفراد كتائب الدعاية الحكومية يحاكون البهلوانات في دفاعهم عن النظام البوليسي الفاشي الذي يستخدمهم ويفتح لهم أكياس العطاء ، فهم يدعون أنهم مع التعددية واحترام الآخر وإتاحة الفرصة للجميع في منافذ التعبير والحرية ، ولكنهم في حقيقة الأمر يحاورون أنفسهم ، ولا يسمعون إلا صوتهم وصوت سادتهم المستبدين بدليل أن اللقاءات التلفزيونية والإذاعية والصحف الحكومية لاتتيح فرصة لوجود أي طرف إسلامي يدافع عن الإسلام أو أفكار التيار الإسلامي ، وإذا حدث ووجد هذا الطرف فهو واحد من اثنين إما مهمش في الحوار أو ساخط علي التيار الإسلامي لأسباب شخصية .. وهكذا تسقط دعاواهم ببساطة شديدة !!
مشكلة السلطة وكتائب الدعاية التي تدافع عنها وعن حزبها المتسلط أنها تصادم الشعب المصري في أخص خصائصه الحياتية والإنسانية وهو الإسلام ..لقد تناسوا أن الدين بصفة عامة مكون أساسي من مكونات المجتمع ، وأن كل المحاولات المحمومة التي بذلت منذ احتلال نابليون لمصر والشام حتى اليوم لإبعاد الشعب المصري عن دينه وإسلامه قد باءت بالفشل الذريع ، وكلما ظنت السلطة وخدامها من التغريبيين وأشباههم أن الشعب يمكن أن يتخلى عن إسلامه، فاجأهم الواقع بغير ما يتوقعون .. وقد فاجأ الشعب المصري سلطته المستبدة وكتائب دعايتها بانتخاب أكثر من أربعين نائبا في ظل الحملة الشرسة التي شنتها السلطة المستبدة وأجهزتها المهيمنة .
من المؤكد أن شعار "الإسلام هو الحل "ليس غامضا كما يتوهم رجال الدعاية السلطوية ، بدليل هذا الانتصار الكبير الذي حققه الإخوان في المرحلة الأولى من الانتخابات التشريعية الحالية ، وهو ما أثار الذعر في أوساط النظام الحاكم وتابعيه من كتائب الدعاية الكاذبة ، مما دفع بعض المراقبين إلى توقع تدخل السلطة في المرحلتين الثانية والثالثة بصورة أكثر شراسة وفجاجة لتزوير الانتخابات لحساب مرشحيه، وإسقاط مرشحي الإخوان المسلمين ومن يتعاطف معهم من مرشحي المعارضة ..
إني هنا لاأدافع عن الإخوان ؛فهم أقدر على الدفاع عن أنفسهم ، ولكن ما أريد قوله هو أن الإسلام حقيقة واحدة لايمكن تجزئتها ، وهو ما يعني أن الشعار الذي يرفعه الإخوان أو غيرهم من الحركات الإسلامية ليس غامضا ، لأن التصور الإسلامي يؤسس لرؤية تناغي الحياة وتعمل لها كما تعبد الله وتعمل للآخرة ..
وإذا كان الشعب المصري اليوم يجد في هذا الشعار حلما جميلا يمكن أن يعبر عن طموحاته في مواجهة القهر السياسي ، والفساد الشائع في كافة المرافق الاجتماعية ، والنهب المنظم الذي يقوم به كبار رجال السلطة تحت مظلات قانونية (!!) وخراب التعليم ، وضعف الرعاية الصحية والاجتماعية ، وازدياد الفوارق بين الأغنياء ( ومعظمهم من أهل السلطة وأشياعها ) والفقراء ، وانهيار الطبقة الوسطى التي كانت عماد المجتمع ، فضلا عن تفشي البطالة بدرجة غير مسبوقة في تاريخ الشعب المصري في العصر الحديث .. فهو يعود إلى فطرته التي يعبر عنها دينه خير تعبير ،ويعلم أنه دين العدل والرحمة والعفة والمساواة والأخوة والكرامة الإنسانية والمستقبل المضيء ..
وأظن أن كتائب الدعاية للسلطة لاتلفت إلى أحلام الشعب وتطلعاته وأمانيه.. ولكنها تلتفت إلى مصالحها الخاصة وأنصبتها من المال العام ، الحرام عليهم وعلى مستخدميهم ؛ ولذا فهم يستميتون في الدفاع عن النظام البوليسي الفاشي وينحدرون في دفاعهم إلى درجة مشينة ومرفوضة من صاحب كل حس إنساني نقي ونظيف!!
في السبعينيات رفع صديقي المرحوم "جابررزق" شعار " المسلمون قادمون"، وجعله عنوانا على غلاف مجلة الدعوة ، مما أغضب الرئيس الراحل أنور السادات .. وقد آن الأوان أن يأتي المسلمون ليحلوا مشكلات أمتهم ، وينتهي عصر استبعادهم من الحياة العامة ، ويكون لهم حق ارتفاق فهم ليسوا أبناء الجارية على أية حال !
.................................................. ...
*المصدر: المصريون : بتاريخ 18 - 11 - 2005 م.
-
جديد القاعود:
وجوه عربية وإسلامية
....................................
الطبعة ألأولي 2009م، المؤلف : د. حلمي محمد القاعود
الناشر : دار العلم والإيمان – دسوق ( مصر )
.................................................. ..............
يتناول الكتاب عددا من الأعلام المعاصرين من خلال التركيز على أهم ملامح حياتهم الفكرية والأدبية والشخصية ، وهم في الغالب ممن خدموا الأمة خدمات جليلة ، وأهملهم الإعلام أو تجاهلهم تماما . وفي صفحات الكتاب تجلية لعناصر مهمة صنعت هؤلاء الأعلام ووضعت أقدامهم على طريق العمل العام ، نرى ذلك عند الشهيد أحمد ياسين والعلامة أبو الحسن الندوي والكاتب محمد حسنين هيكل والمؤرخ أنور الجندي .. كما نراه عند غيره من الأعلام مثل عمر التلمساني ورجب الطيب أردوغان وتيسير علوني ووديع فلسطين .
يهدف الكتاب إلى تقديم الايجابيات إلى الأجيال الجديدة التي يجب أن تتعرف عليها وتستفيد منها ، والتحذير من السلبيات التي تعطل مسيرة الأمة ، ويعد الكاتب بتقديم وجوه أخري لم يتضمنها هذا الكتاب .
ظهر الكتاب في المعرض الحالي 2009 مع مجموعة جديدة من الكتب للمؤلف من بينها : الورد والهالوك ، شعراء وقضايا ، الرواية التاريخية ، الرواية الإسلامية المعاصرة ، الحداثة :المفهوم والمصطلح ..
-
العصا الغليظة!
بقلم : أ.د.حلمي محمد القاعود
..........................................
كالعادة؛ أبت السلطة البوليسية الفاشية أن تتوب عن سلوكها القمعي الإرهابي ضد كل من يخالفها أو يحكم القانون والعقل والمنطق ؛ فأشهرت عصاها الغليظة في وجه قضاة مصر الشرفاء الذين أبرءوا ذمتهم أمام الله والناس ، وأعلنوا أن جريمة التزوير قد حدثت في دائرة بندر دمنهور الانتخابية ، وأن المرشح الخاسر قد أعلن فوزه في سابقة غير مسبوقة ولا مقبولة..كان إعلان القضاة من الجرأة والشجاعة مما جعل الأمة تحتفي بهم وتلتف حولهم، وأيضا كان إعلانا لتنقية ثوبهم الأبيض الذي يحرصون على بقائه ناصع البياض أيا كان الترهيب أو الترغيب الذي يمارسه النظام الديكتاتوري الحاكم !
لقد أعلنت السلطة من خلال مجلس القضاء الأعلى التابع لها عن إجراءات عقابية ضد القضاة الذين تحدثوا عن التزوير ، وأبلغوا الأمة حقيقة ماجري في الدوائر الانتخابية عامة ، وبندر دمنهور خاصة ، ورأى المجلس أن قلة من القضاة دون العشرة تحدثت إلى الفضائيات ووصفت الانتخابات بأوصاف رديئة –يعني بالتزوير –مما يعرض البلاد للفتن ويعصف بالاستقرار ، وطلب المجلس تحويل القضاة المذكورين إلى التحقيق الفوري أمام النائب العام .
هذا هو المضمون العام لبيان المجلس المذكور الذي جاء ليؤكد حرص السلطة على الاستمرار في ممارساتها الاستبدادية، بدلا من الرجوع إلى الحق والتحلي بفضيلة الاعتراف بالخطأ ، وتصحيح الوضع المقلوب الذي أعلن خسارة الفائز ، وفوز الخاسر.
إن المستشار نهى الزيني التي بدأت الإعلان بضمير حي عن جريمة التزوير ، وتلاها نادي القضاة الذي أعلن من خلال لجنة متابعة الانتخابات التي شكلها عن شهادة سبعة وثلاثين ومائة قاض قالوا في شهادتهم بالأرقام أن هناك مايقرب من ستة عشر ألف صوت هي الفارق بين الفائز الرسمي والخاسر المظلوم.. لقد احتكم القضاة إلى الشعب وحمايته ، لأنهم رأوا أن السلطات المختصة تقر التزوير وتؤيده ، وأن الشكوى إليها هي من قبيل الحرث في البحر بل إن عواقب الاستعانة بها ستكون تنكيلا وحصارا ومطاردة!!
كان من المفترض أن يهب المجلس لمعاقبة من شاركوا في جريمة التزوير ، ومن قبلوا إملاء السلطة المستبدة لإرادتها التي أهدرت كرامة القضاء ، وأزرت بنزاهة القضاة وحيدتهم ، ولكن المجلس آثر تهديد القضاة بالعصا الغليظة إن لم يغلقوا أفواههم متهما إياهم بالعمل السياسي !! في حين أنهم يعلنون رأيهم فيما وصلت إليه الأوضاع الانتخابية من استهتار بالقضاء ، واعتداء على القضاة، ومحاولة تحميلهم وزر التزوير الذي يجب فضحه وإعلانه على الملأ لأن ذلك من صميم عملهم واختصاصهم .. أليسوا المشرفين على سير العملية الانتخابية والحريصين على نزاهتها وشفافيتها ؟!
لقد استنكرت ثماني منظمات لحقوق الإنسان بيان المجلس المذكور ، وحذرت أن يكون ذلك مقدمة لمذبحة جديدة للقضاة ، كما أعلنت قلقها من لغة التهديد التي تغلف البيان .. وهو مايعني أننا بصدد حملة تخويف لكل قاض يتحرك ضميره في اتجاه الحق والصدق والعدالة التي هي من صميم عمل القضاء في كل الظروف والأحوال .
من المؤكد أن نادي القضاة قد أزعجه بيان العصا الغليظة ، ومن المؤكد أيضا أنه سوف يتخذ موقفا يناسب مضمون البيان ودلالاته ، ومن المؤكد كذلك أنه لن يرضخ للتهديد أو التخويف .
أما مايخص الأمة فيجب أن تكون على مستوى الحدث ، وهى كذلك بالفعل لأنها تساند القضاة الذين يعبرون عن ضميرها وإرادتها ، وقد قدمت الأمة كثيرا من التضحيات في سبيل حريتها وكرامتها ، وهى لن تدخر جهدا في سبيل تقديم المزيد من هذه التضحيات.
ولعل السلطة تتسق مع نفسها فيما تقول وتفعل ، فإذا كانت حقا تريد حياة ديمقراطية حقيقية فعليها أن تقبل بتبعات الديمقراطية الحقيقية من نزاهة وشفافية ، وقبول للفوز والهزيمة في الانتخابات ، وتداول سلمي للسلطة .. أما إذا كانت مصرة أن المسألة لاتعدو ديكورا ينصب ليراه العالم الخارجي ويعتقد أن لدينا ديمقراطية ؛ فلتعلن ذلك على الملأ . . وبعدها فليكن لشعبنا قراره الذي يراه ملائما سواء بالمشاركة في اللعبة أو التعبير عن إرادته الحقيقية بانتزاع الحرية من بين أنياب النظام المستبد الفاشي.
تحية لكل صاحب ضمير في هذا الوطن سواء كان من القضاة أو من غيرهم .. والنصر للشعوب الحرة !
............................................
*المصدر: المصريون : بتاريخ 28 - 11 - 2005م.
-
وداعاً عميد الأدب الإسلامي المقارن
بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
............................................
ودّعَنا يوم السبت الثامن والعشرين من شوال 1425ه، الموافق الحادي عشر من ديسمبر 2004م، علم من أعلام الأدب الإسلامي ودراساته المقارنة، وهو الأستاذ الدكتور "حسين مجيب المصري" عن عمر ناهز الثمانية والثمانين عاماً، قضاها في البحث والدرس والتعليم والإبداع.. وقد رحل الرجل كالعادة دون أن يذكره أحد في المجال الإعلامي والصحفي باستثناء "خبر صغير" نشرته إحدى الصحف مدفوناً وسط أخبار أخرى موسعة تتحدث عن أشباه أدباء وكتاب يهتمون بالدعاية أكثر من اهتمامهم بالتجويد والإخلاص.
عرفت الرجل قبل ثلاثين عاماً أو يزيد، ولعل الذي عرفني به صديقه الأديب الكبير الأستاذ "وديع فلسطين"، ولكنه شكا إليه ضعفاً في بصره، الذي فقده فيما بعد، مما اضطره إلى استئجار من يقرأ له ويكتب.
كان يرحمه الله يتحرك في غرفته نشطاً، يطلعني على بعض الكتب ويحدثني في بعض القضايا، ومع أني لم أمكث طويلاً، فقد خرجت ببعض كتبه القيمة ودواوينه الشعرية، وانطباع بتواضع الرجل وإخلاصه للعلم والبحث والأدب، دون أن يهتم بعرض الدنيا ومتاعها الزائل.
لم يكن الرجل يتقن فن العلاقات العامة الذي صار يتقنه أشباه الأدباء والكتاب، ولذا لم يرشح لأية جائزة ثقافية في بلده لا تشجيعية ولا تقديرية، مع أنه بمنطق العلم والأدب يستحق أن ينال أعلى جائزة يمنحها الوطن، ومن المفارقات، فإن دولاً إسلامية عديدة منحته جوائزها الكبرى ودرجة الدكتوراه الفخرية كما فعلت جامعة مرمرة في تركيا، والحكومة الباكستانية، ودولة قازاخستان وغيرها.
وفي الوقت الذي نرى فيه أدباء وكتاباً محدودي القيمة الأدبية والثقافية، على خريطة الأبحاث في الدراسات العليا بالكليات المختلفة، فإن حسين مجيب المصري لم يُطرح موضوعاً لرسالة ماجسيتر أو دكتوراه، والأمر نفسه فيما بتعلق بالحياة الثقافية، فلم يتناوله أحد من الكتاب أو النقاد، باستثناء بعض المقابلات القليلة القصيرة والمقالات وكتاب وحيد، أصدره صلاح حسن رشيد بعنوان: حسين مجيب المصري، تجربة فريدة في الشعر العربي الحديث، أصدرته مكتبة الآداب في القاهرة عام 2004م.
لقد تعرض لظلم كبير في عمله في الجامعة أيضاً ويبدو أن هذا قدر الذين يعكفون على العلم والبحث، فيظلمهم أهل "الفهلوة" والباحثون عن الدنيا والوجاهة والمناصب، ولا ريب أن ذلك كله قد أصابه بالإحباط وخلف في نفسه كثيراً من الأسى نراه عبر مقطوعات شعرية تقطر ألماً ومنها:
أنا من خبت في سعي
أنا من حرت في أمري
غثاء ضاع في سيل
وطير ضل عن وكر
هباء بين أرواح
ودمع سال في البحر
كلامي رجع أوتار
ولكن أين من يدري؟
وشعري نفح أزهار
ولكن من يرى شعري؟
ولد "حسين مجيب المصري" في مدينة القاهرة عام 1916م، وجده لأمه "محمد ثاقب باشا"، كان وزيراً للري في عهد الخديوي إسماعيل، وكان جده لأبيه حسني باشا المصري من كبار الأعيان في القطر المصري، التحق بالمدرسة الابتدائية ثم الثانوية وفيها قرأ كتب الرافعي وجبران ودواوين شوقي وحافظ وزهير وغيرهم من الشعراء، وسطعت موهبته الشعرية في مدرسة السعيدية الثانوية في الجيزة عام 1932 فنشر أولى قصائده بعنوان "الوردة الذابلة"، وكانت مرثية لابنة عم له توفيت، وكان رحمه الله يعتز بهذه القصيدة اعتزازاً كبيراً.. ويذكر أن حلاقاً كان بجوار بيتهم أثر فيه تأثيراً كبيراً، حيث كان يحفظ كثيراً من عيون الشعر العربي، ويلقيه على مسامعه وهو فتيً يافع، فحببه إلى الشعر وحبب الشعر إليه، مما أحدث نقلة كبيرة في حياته، فجعلته يعيش بالتنغيم والنظم والإيقاع، وهي ظاهرة واضحة في أشعاره التي نشرها، وضمتها دواوينه الستة.
لقد نظم الشعر بالفرنسية، وترجم الشعر عن الإنجليزية، وكانت مسيرته مع اللغات حافلة بالتفوق والجهد الكبير، لقد أجاد ثماني لغات إجادة تامة، وساعده على ذلك انتسابه إلى معهد اللغات الشرقية الذي درس فيه الأردية والإيطالية والألمانية والروسية، وكان يترجم منها إلى اللغة العربية ما يروق له من شعر ونثر.
وقد استخلص من دراساته المقارنة لآداب الشعوب الإسلامية أن الأدب العربي ركيزة أساسية ورصيد يستمد منه شعراء وأدباء هذه الشعوب كثيراً من المعاني والقيم، وهناك تشابه واضح بين الأدب العربي وآداب هذه الشعوب من حيث التأثر بالإسلام وقيمه، والحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، فنجد مثلاً في الشعر التركي ما يسمى بالرمضانيات يصف فيها الشاعر مظاهر الاحتفال في هذا الشهر، وكذا الحال في الشعر الأوردي والفارسي... وهو ما ينطبق على موقف هذه الآداب من قضية فلسطين والقدس.
إن اهتمام "حسين مجيب المصري" أستاذاً جامعياً وأديباً وشاعراً بآداب الشعوب الإسلامية، واطلاعه عليها في لغاتها الأصلية التي يجيدها، وكونه أول من اشتغل بالأدب الإسلامي المقارن جعله مرجعاً، ويعود إليه الأساتذة والطلاب، وجعل منه عميداً للأدب الإسلامي المقارن، فقد أخلص له، وبذل جهداً مادياً في البحث والتنقيب والاطلاع، في الوقت الذي كان زملاؤه وغيرهم يفضلون الطريق السهل، وهو التوجه نحو الآداب الأوروبية الأكثر رواجاً، والأفضل عائداً مادياً، ولكن "حسين مجيب المصري" آثر أن يشق طريقه في ميدان صعب ومجهد ومكلف، يبتغي من ورائه خدمة دينه وأمته الإسلامية، وكان هذا الطريق هو "الأدب الإسلامي المقارن"، الذي صار علماً عليه. وقد أنتج الرجل عشرات الكتب التي زادت على السبعين كتاباً.
وظل حتى آخر أيام حياته يعمل بجد ودأب وكان آخر كتاب ينوي نشره هو "بدائع إقبال في الأوردي"، وآخر كتاب كان ينوي أو يعمل في تأليفه كان حول المقارنة بين المدائح النبوية في الآداب الثلاثة: العربية والتركية والفارسية، ولا أدري هل انتهى منه أم لا؟
فوجئت به ذات يوم في العام الماضي يرسل إليَّ على عنواني البريدي رسالة رقيقة طلب فيها كتابي "محمد صلى الله عليه وسلم في الشعر العربي الحديث"، لأنه بصدد المقارنة بين المدائح النبوية في الآداب الثلاثة، لم أكن في مصر وأخبرتني الأسرة بمضمون الرسالة، فحمل له ولدي النسخة الوحيدة لدي وذهب بها إلى مسكنه واستقبله الرجل استقبالاً كريماً، والأهم بعد ذلك أنه أرسل إليَّ رسالة مليئة بالعاطفة الحارة العميقة، وكنت أود نشرها لكنها ليست تحت يدي الآن.. وهي في مجملها تدل على إخلاصه للعلم، والأدب، وتواضعه الجم، وزهده في الدنيا ومتاعها الفاني.
-
محاكمة الأستاذ الجامعي!
بقلم: أ.د حلمي محمد القاعود
أقصد محاكمة المدرس الجامعي الذي سطا على الإمام القرطبي ، واستباح تفسيره العظيم ، وأغار على أجزاء منه قصها ولصقها وباعها لطلابه في جامعة كفر الشيخ الوليدة ، ولم يجد حرجاً أو غضاضة في الزعم أنها دراسة مستخلصة من تفاسير القرآن ، وعنونها بعنوان ضخم ومثير " في النص القرآني " ، ومع أن الزميلة جريدة " وفد الدلتا " نشرت عن ذلك فى عدد أغسطس 2007م تحت عنوان صارخ : " أستاذ جامعي يسرق الإمام القرطبي" ، فإن رئيس جامعة كفر الشيخ المحترم ، حتى يومنا هذا لم يتخذ قراراً ، ولم يُسائل المدرس الجامعي الذي ينتمي إلى الحزب الوطني ، وينوب عنه في مجلس الشعب الموقر .. لماذا يا معالي رئيس الجامعة لم تتخذ قراراً حتى اليوم ؟ وما الذي يُخيفك من مساءلة المدرس المذكور الذي يفترض أنه يخضع لعدة رؤساء بعدك : رئيس القسم ، الوكيل ، العميد ، النائب ؟ هل تمنعك الحصانة البرلمانية من مساءلته إدارياً ، وإخلاء ساحته إن كان بريئاً ؟ أو إنه يملك حصانة القرب من وزير التعليم العالي الذي شرّفه – كما يتفاخر – في بيته ، وشرب لديه الشاي بعد أن تناول الغداء لدى زميله الآخر نائب الدائرة ؟
ليس المقصود الآن هذا المدرس ، وإن كانت لنا عودة إليه إن شاء الله تعالى ، بعد أن نتناول المحاكمة الهزلية التي انعقدت للأستاذ الجامعي ، وسادها التخليط والمغالطة والمكايدة ، على شاشة تلفزيون الريادة – رحمه الله – ذات ليلة من ليالي البؤس في المحروسة !
ضم العرض أو المحاكمة الهزلية للأستاذ الجامعي المصري عضواً في لجنة السياسات ومسئولة جامعية تنتمي إلى الحزب الحاكم ، بالإضافة إلى مجموعة طلاب أتوا بهم على طريقة برنامج المذيعة التي أعدت فتيات بائسات ليعترفن أنهن فتيات ليل ، نظير مبلغ تافه .. وكان الطلاب في برنامج المحاكمة قد لقنوا – كما هو واضح من السياق – الأسئلة وطريقة عرضها بحيث يبدو الأمر متقناً وطبيعياً .. ولكنى وغيري من المشاهدين لم يُصدقوا ما رأوه ..
تحدث الطلاب عن عدم التواصل بين الأستاذ وطلابه ، واستعلاء الأستاذ عليهم ، وعدم وجود وقت لديه كي يُجيب على أسئلتهم ، وأشياء أخرى طريفة منها على سبيل المثال أن أحد الأساتذة رفض أن يشرب أحد الطلاب ماء إلا بعد أن يردد دعاء قبل الشرب ، بالإضافة إلى القضايا المعروفة حول الكتاب والزحام في القاعات والمدرجات وعدم استقبال الأساتذة للطلاب الجدد ..
كان مقدم البرنامج الذي لا يُجيد غير هجاء " المحظورة " ، ومدح " المحظوظة "، و الإشادة بأزهى عصور الديمقراطية ، يُثير من خلال الثرثرة موضوع العمل السياسي في الجامعة ، وليته ما أثاره .. فقد كان الكلام حوله سخيفاً لا يغنى ولا يُسمن من جوع !
لقد سبق أن تناول أساتذة جامعيون وغيرهم مشكلات الجامعة ، وحقوق الأساتذة الضائعة ، وأيضا السلبيات التي تجرى من بعضهم ، وكاتب هذه السطور سجل عشرات المقالات في هذه الصحيفة وغيرها على مدى ربع قرن من الزمان ، أملاً في إصلاح الحال ، ولكن الحال كانت تسوء أكثر فأكثر لأسباب لم يستطع صاحب العرض المهزلة أن يعالجها أو يُشير إليها ، واكتفى باستعراض ما يقوله طلاب " لاظوغلي " على الشاشة ، وتصفيق " الكورس " عند جمل بعينها ، وعبارات بذاتها .
إن تطاول الطلاب على أساتذتهم في برنامج تلفزيوني لا يعنى إصلاح حال الجامعة ، ولا يؤدى إلى معالجة الخلل الكبير الذي جعل الجامعة المصرية تحتل المراكز الأخيرة في ترتيب الجامعات الإفريقية ولا أتكلم عن الترتيب بالنسبة للجامعات العالمية ، فأمره معلوم للكافة . وهو لا يسرّ إلا الأعداء !
والذي لا يريد أن يقتنع به المسئولون عن أمر التعليم في بلادنا ، أن المرحلة الأساسية سبب انهيار المرحلة الجامعية ( المناهج ، والمدرسون ، والإدارة ، ووباء الدروس الخصوصية ) ، وتشترك هذه العناصر أو بعضها في تعميق الضعف الجامعي .. يُضاف إليه التدخل الأمني الذي لا يوجد له نظير في العالم باستثناء دولتين عربيتين أو ثلاث .. وهو ما يدفع كثيراً من أساتذة الجامعة إلى الانضواء تحت " الرضا الأمني " أو القبول الأمني ، كي يجدوا لأنفسهم مكاناً يُحقق طموحاتهم ويفي بالتزاماتهم المادية حتى لو كانت سرقة الكتب كما فعل أساتذة كثيرون ، ومنهم المدرس القديم الذي يتمتع بالحصانة في كفر الشيخ وسطا على الإمام القرطبي ، ولم يُسائله رئيس جامعته حتى الآن !
والعجيب أن القوم يعنيهم هجاء الإسلام والمنتسبين إليه أكثر من المعالجة الحقيقة لأمراض المجتمع ، وعلى رأسها ضعف الجامعة وتخلفها . إذا افترضنا جدلاً أن أستاذاً في رحلة أو لقاء خارج المحاضرة ، مع طلابه ، ورأى أن يُعوّد طلابه على الارتباط بالله في سلوكهم وأعمالهم ، وطلب من تلميذه أن يدعو ربه قبل أن يتناول الماء .. ماذا في ذلك ؟ وما هي الجريمة الكبرى التي ارتكبها الأستاذ الذي لم يسرق الإمام القرطبي ولم يُعكر مزاجه أحد حتى هذه اللحظة ؟
لقد ذكرتني هذه الواقعة بأمر آخر حدث منذ سنوات ، حيث صنع وزير سابق للتعليم أسطورة خرافية روّجت لها صحف النظام وعملاؤه . فقد ادعى أن هناك متطرفين في المدارس يُحرّضون التلاميذ أو يمنعونهم من تحية العلم في بدء اليوم الدراسي . وحاولت أن أعثر على ظل من الحقيقة لهذا الأمر فلم أجد ، ولا أظن أن متطرفاً أيا كان يستطيع أن يمنع التلاميذ من تحية علم الوطن ، حتى لو افترضنا وجود حالة شاذة ، فهي استثناء لا يُقاس عليه . ومع أن القوم يُرددون كثيراً أن هناك غزواً وهابياً لمصر ، فإني أروى لهم قصة طريفة تتعلق بأحد أبنائي قبل عقد أو أكثر من الزمان ، فقد كنا عائدين من السعودية ، وفى المدرسة الابتدائية طلبوا من ابني أن يتقدم ليُحيى العلم بوصفه مندوب المدرسة ، فنسي وبدأ يُردد النشيد الوطني للسعودية الذي تعود عليه منذ طفولته :
سارعي للمجد و العلياء
مجدي خالق السماء .. حتى وصل إلى المقطع الأخير :
وارفعي الخفاق أخضر / يحمل النور المسطر / ردّدي الله أكبر / يا موطني عاش الملك للعلم والوطن "
وضجت المدرسة بالضحك ، حتى الغزو الوهابي كما يُسمونه " يُحيى العلم " .. فمن أين نبتت الأسطورة والخرافة ؟
اسألوا الوزير الأمني أو الجستابو ، الذي لا يعنيه أمر الوطن ، بقدر ما يعنيه التشهير بالإسلام والمسلمين .
إن معالجة ضعف الجامعة وتخلفها معروف لجميع من يعنيهم الأمر ، وتتمثل في الارتقاء بالأستاذ الجامعي مادياً ومعنوياً ، وتحقيق الاستقلال الذاتي للجامعة ودعمها بالمعامل والمكتبات والميزانية المحترمة لتمويل البحوث ، وتحريرها من قبضة الاحتلال البوليسي الفاشي ، وتخليصها من أشباه الأساتذة والمدرسين الذين أهدروا كرامة الجامعة وهيبتها بالتصفيق للحزب الحاكم والقوانين الاستثنائية المقيدة للحريات بالإضافة إلى اللصوص الذين يسرقون جهد غيرهم جهاراً نهاراً ولا يجدون في ذلك منكراً أو عيباً ، والذين تحولوا إلى سماسرة للكسب غير المشروع بالوقاحة والبجاحة .. أما محاكمة الأستاذ الجامعي على شاشة تلفزيون الريادة – رحمه الله – بهذه الطريقة الهزلية ، فهو أمر لا يحتاج إلى تعليق ، بقدر ما هو عنوان على فجاجة الدعاية الرسمية وتسطيحها للوعي ، وتغييبها للعقل . ولله الأمر من قبل ومن بعد !
................................
*المصريون ـ في 30/10/2007م.
-
أخطر من جلد الصحفيين !
بقلم:أ.د. حلمي محمد القاعود
....................................
آثرت الانتظار حتى ينجلى غبار ما سمّى فتوى جلد الصحفيين التى أثارت جدلاً كبيراً وخلطاً أكبر ، واستغلها بعض خصوم الإسلام للتنديد بما يُسمى " الدولة الدينية " التى يُؤيدها النظام الحاكم ويُشجعها !
وهو أمر لو تعلمون عجيب . فما كان النظام الحاكم يوماً موالياً للإسلام وتشريعاته ، وما كان الإسلام يوماً منشئاً لدولة دينية فيها كهنوت وغفران وحرمان .
ويجب أن نعلم أن المسلم يجب أن يؤمن بما نزل به الوحى إيماناً مطلقاً ، حتى لو أزعج الغزاة الصليبيين الاستعمارين أو الغزاة النازيين اليهود . وحين يقرر الحق سبحانه وتعالى أن حدّ قذف المحصنات المؤمنات الغافلات ثمانيين جلدة ، فيجب أن نقول : سمعنا واطعنا . ولا نقول : " إنها دولة دينية " تُعيدنا إلى القرون الوسطى المظلمة فى أوربا . فالمرأة المحصنة البريئة يجب أن تظل سمعتها فوق التشويه والتجريح والادعاء الباطل ، والحدّ لردع من تُسوّل له نفسه العدوان على الأبرياء .
والخطأ في الفتوى المذكورة هو قياس حدّ القذف على الصحافة والفكر ، واستغلاله لتصفية حسابات سياسية أو تنافسية ، وهو من التأويل الباطل الذى يدخل تحت مسمى " التدليس " حيث يُجيز للسلطة أن تأخذ بتلابيب أصحاب القلم الحرّ ، لإسكاتهم وقطع ألسنتهم ، وترك الفساد يخرج لسانه للشعب المظلوم فى وقاحة غير مسبوقة .
ويبدو أن فريقاً من خصوم الإسلام ، وجدوها فرصة مناسبة للتركيز على مسألة جلد الصحفيين ، وهم الذين سبقوا أن وصفوا من تحدث عنه أو أشار إليه ، بالشيخ المستنير ، لأنه أباح ربا البنوك ، واستقبل الغزاة فى رحاب الجامع العريق ، وأقر الصهيونى المتوحش على خلع حجاب المسلمات فى فرنسا بقوة القانون .
ونسى هؤلاء وغيرهم ، أن ما جرى للأزهر المؤسسة والتعليم والمستقبل ، يمثل كارثة من أخطر الكوارث التى تفوق كارثة جلد الصحفيين وأصحاب الفكر . فالمعهد العريق أُصيب بنكسة خطيرة عقب تطويره بالقانون 103 لسنة 1961 ، حيث فرّ منه الطلاب بسبب ضخامة المقررات التى تجمع بين مقررات التعليم العام ومقررات الأزهر السائدة .. وكاد يفرغ من الطلاب تماماً ، مما اضطر بعض المسئولين إلى قبول نفايات الشهادة الإعدادية والشهادة الابتدائية من طلاب أميّين لا يحفظون القرآن الكريم الذى هو أساس التعليم فى المؤسسة العلمية العريقة ، ولا يملكون حداً أدنى من الوعى يؤهلهم للدراسة الحقيقية التى تخرجهم أئمة وخطباء ومعلمين ، وكانت النتيجة على عينك يا تاجر ، حيث صار " الضعف المشين " سمة عامة ، تحكم خريج الأزهر الذى لا يُحسن قراءة ولا نطقاً ولا فهما فى الغالب الأعم ، واشتكى الناس من الواقفين على المنابر والمتقدمين لإمامة الناس ، ومن صاروا معلمين لأبنائهم فى معاهد الأزهر المعمور !
وعندما أسفرت المؤامرة الصليبية الصهيونية ، وكشفت عن وجهها البشع لتدمير الأزهر تحت مسمّى تغيير الخطاب الدينى ( الإسلامى وحده ) ، تطوّع علماء السلطة وفقهاء الشرطة بتقديم خدماتهم مقابل فتات لا يغنى ولا يسمن ، مثلما فعلوا بالتطوّع لتقديم حيثيات جلد الصحفيين وإسكاتهم وفقاً لقياسهم الخاطئ .
لقد بدأت الكارثة بتقليص سنوات الدراسة فى الإعدادى والثانوى حتى صارت سنوات الأزهر فى التعليم مثل سنوات التعليم العام ، ثلاث فى الإعدادى وثلاث فى الثانوى .
وبعد أن كان الطالب الأزهرى يدخل المرحلة الإعدادية حافظاً للقرآن ، اكتفى القوم بحفظ أجزاء منه يمتحن فيها الطلاب امتحاناً صورياً ، وكأنه لم يحفظ ، ويعللون لذلك بأنه سيتم حفظه مع تخرجه إن شاء الله ، ولكن النتيجة على أرض الواقع تقول شيئاً آخر يعرفه كل من له أدنى صلة بطلاب الأزهر ومستواهم التحصيلى .
ثم تدفقت التنازلات التى قلّصت المناهج والمقررات الأزهرية فى علوم اللغة والشريعة كما وكيفا ، فتم دمج مقررات مع بعضها ، وإلغاء كتب عميقة وإحلال كتب سطحية يؤلفها بعض المشايخ " الموظفين " من أجل مكافآتها السخية . واقترب الأزهر من التعليم العام فى المناهج والمقررات مما جعل التحويل إلى الأزهر ومنه أمراً سهلاً وهيناً لتحقيق غايات الطلاب الفاشلين هنا وهناك .
فى الوقت ذاته كانت تجرى عملية تضييق واسعة النطاق على مكاتب تحفيظ القرآن ، وحرمان المحفظين من مكافآتهم ، صحيح أنه تعرض كل عام على شاشة التلفزة وبمناسبة ليلة القدر عملية توزيع جوائز ضخمة على الفائزين فى مسابقة حفظ القرآن – وأغلبهم من الدول الإسلامية – ولكن التحفيظ داخل الوطن البائس متروك أمره لأهل الخير فى الغالب ؛ لأن القوم يريدون التوفير فى ميزانية الأزهر المعمور ، وردّ الوفر إلى خزينة الدولة ، والحصول على نسبة منه بحكم القانون ، وهو ما أدى إلى تقليص ميزانية الأزهر بصورة غير مسبوقة ، جعلت بعض الغيورين فى المجلس النيابى يطالبون بزيادتها ، دون أن يدركوا السرّ الذى يحتفظ به بعض طلاب المال !
ثم كانت الكارثة الأكبر ، وهى إلغاء فقه المذاهب من أجل توزيع كتاب اسمه " الفقه الميسر " يُقدم صورة أولية للفقه الذى يفترض أن يدرسه متخصصون . وبالتالى فإن صاحبه يحصل على مكافأة ضخمة بعد أن يُلقى بفقه المالكية والشافعية والحنفية والحنابلة فى عالم النسيان ، ويخرج بعض " المطيباتية " من فقهاء النظام ليقولوا : من يُريد الاطلاع على فقه المذاهب فليرجع إلى كتبها !!
إذاً ما الفرق بين الأزهر والتعليم العام ؟ بين التخصص والدراسة العامة ؟
القوم لا يعنيهم ذلك ، ربما يعنيهم دون أن ندرى ، ولكن الأمر فى كل الأحوال ، يُهيئ لما قيل من قبل عن اعتزام السلطة إلغاء الأزهر وضمه إلى وزارة التربية والتعليم ، حتى لا يكون هناك تعليم إسلامى من الأساس ، وتتكرر التجربة التونسية التى نفذها الشيوعى السابق المتأمرك الحالى المدعو " العفيف الأخضر " حين كان وزيراً للتعليم العالى التونسى ، وألغى جامعة الزيتونة العريقة التى كانت معنية بدراسة العلوم الشرعية واللغة العربية ؛ إرضاء للسادة الذين يُزعجهم الإسلام ويعملون على اسئصاله بكل الوسائل والسبل .
الجريمة الأخطر وهى تدمير الأزهر التاريخ والمستقبل وحصن الإسلام ، لا يلتفت إليها السادة المنزعجون من الدعوة إلى جلد الصحفيين ، ولكنهم لو فقهوا لعرفوا أن جلد الصحفيين مجرد عرض لمرض سيفتك بالأمة كلها وليس بالصحفيين وحدهم . والله غالب على أمره .
................................
*المصريون ـ في 6/11/2007م.
-
التغيير الديموغرافي فى مصر !
بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود
......................................
هذا التعبير استخدمه رجل أعمال طائفي متعصّب في التدليل على تديّن الشعب المصري ، وميله إلى الحجاب والالتزام .. وربما كان يقصد بالتغيير الديموغرافي تزايد الأغلبية الإسلامية في العدد .. وقد نقل عنه أنه سيبث قناتين فضائيتين بجوار قناة قائمة تبث حالياً ، وذلك لمواجهة الحجاب والتديّن ، ومع أنه نفى أنه سيحارب الحجاب أو يضيق به لأنه حرية شخصية ، فقد أعرب عن قلقه من تغيّر الواقع في مصر ، والاتجاه نحو الفرز الطائفي ، سواء في ملابس النساء ، أو المدارس ..
لم تكن هذه أول مرّة يتحدث فيها الرجل الطائفي المتعصب عن المظاهر الإسلامية التي تؤرقه ، فقد وقف موقفاً غير مفهوم من المادة الثانية في الدستور ، وطالب – مع العلمانيين والشيوعيين ومثقفي الحظيرة وكتاب البلاط – بحذفها في التعديلات الدستورية ، على أساس أن مصر دولة علمانية ، ويجب الفصل فيها بين الدين والدولة .
ثم إنه لم يكتف بذلك بل استغل المناقشات الجارية حول برنامج الحزب الذي يتصور الإخوان المسلمون أنه يمكن تشكيله والاعتراف به ؛ فقال : إننا لا ننتظر من الإخوان أن يسمحوا لنا بترشيح " قبطي " لرئاسة مصر .
وواضح أن الرجل الذي يدعى أنه يفهم في المواطنة جيداً ، يتكئ على قوة راسخة تجعله يجرح مشاعر الأغلبية الساحقة الكاسحة ولا يُبالى بمواضعات المجتمع ، ويُخرج لسانه لأكثر من 96% من الشعب المصري متحديا ومتعجرفا .. فهو يملك الآن أكثر من عشرة مليارات دولار ، مما يجعله واحداً من أغنى أغنياء العالم ، ويحظى بدعم الدولة الكبرى في المعمورة ؛ التي سمحت له أن يذهب إلى العراق ويستثمر فيها تحت القصف والتفجيرات وفوق أنهار الدم والرماد ، ثم إنه ينتمي إلى الطائفة التي تشعر أنها فوق الأغلبية ، وأن لها أنيابا وأسنانا ، وأنها صاحبة البلد ، ونأمل ألا يزاحمها اليهود في هذا الادعاء بأنهم أسبق وأنهم أحق بملكية هذا البلد التعيس البائس !
السيّد المتعصّب ، يمنّ على الناس بأن موظفيه أغلبيتهم من المسلمين أو كلهم من المسلمين ، وهذا أمر حسن ، والأحسن منه أن أكثر من سبعين مليوناً من المسلمين في هذا البلد موضع اسثتمار وربح وكسب بالمليارات لشركاته ومؤسساته ، وأنهم لو توقفوا عن التعامل معه وقاطعوا بضاعته ( الهوائية ) لما وجد مليماً واحداً يدخل جيبه أو يضاف إلى رصيده في البنوك المحلية أو الأجنبية .. ثم إنه يعلم أن شركاته الكبرى تعتمد على البنوك المصرية التي تموّله بالمليارات وأصحابها كما يعرف مسلمون من الذين يلبسون الجلاليب والسراويل الطويلة والشادور الإيراني أو الأفغانى الذي غيّر الديموغرافية السكانية فى بلده !
كنت أتمنى من السيد المتعصب أن يراجع طائفته ، ويقنع الغلاة فيها ، بأن التمسك بأهداب العدوّ الصليبي الاستعماري المتوحش ممثلاً في الولايات المتحدة وأوروبا لن يُفيدهم ولن يحميهم ، وسبق لأمثالهم أن تمسكوا بأهداب السفاح الفرنسي " نابليون بونابرت " وحاربوا معه بقيادة الخائن " يعقوب " الذي كرنك في الرويعى – كما يقول جدنا الجبرتى – وأطلق البارود على أهل المحروسة منحازاً إلى الغزاة الفرنسيين المتوحشين . وكانت نهايته عبرة لمن يعتبر .
وكنت أتمنى من السيد المتعصب أن يفقه أن فرنسا العلمانية مثلا أو حتى اليونان ترفض أن يكون رئيسها من غير المذهب الكاثوليكي أو الأرثوذكسي الذي يعدّ المذهب الرسمي في البلاد ، فما بالك لو كان مسلماً ، علما أن عدد المسلمين في فرنسا يفوق عدد طائفته في مصر .
ثم وهو اللبيب الذكي يعلم علم اليقين ، أن الإخوان لو صنعوا " عجين الفلاحة " فلن يسمح لهم بقيام حزب ، لأسباب محلية وخارجية ، ويعرفها أدنى من له علاقة بحركة السياسة فى البلد البائس التعيس 1
إن السلطة تسمح بحزب يعمل فى وضح النهار داخل الكنيسة ، وبرعاية المسئول عنها ، ويتدخل فى سياسة الدولة " عمال على بطال " ، يسانده حزب فى الخارج يقول فى السلطة ما قاله مالك فى الخمر ، ومع ذلك تهدهده السلطة وتتودد إليه ، وتسمح بالوساطة بينه وبينها من خلال بعض الشيوعيين الذين تأمركوا ؛ وتطلبه ليعقد مؤتمراته داخل البلاد ، وليكون هجومه عليها بعيداً عن الدعاية العالمية ، فى الوقت الذى تقبض فيه يومياً أو بصورة شبه يومية على الإسلاميين قبيل الفجر ، وتروّع أهليهم ، وتعبث بأثاثهم وبيوتهم ، وتصادر أموالهم ، وتغلق محلاتهم ومكتباتهم ومؤسساتهم ، وتنزع عنهم وسائل التعبير والنشر التى يمكن أن تسيطر عليها .. فهل يظن السيد المتعصب حقاً أنه يمكن للنظام أن يسمح بقيام حزب للإخوان أو غيرهم من الإسلاميين ، يمارس حريته وحركته مثل حزبى الكنيسة فى الداخل والخارج ؟
ومن غير الغريب وأمره كذلك ؛ أن تكون القناة التلفزيونية التى يبثها صادمة للأمة جارحة لمشاعرها فيما تذيعه وتنشره على الناس ..
فهى تعتمد اللهجة العامية دون اللغة العربية الفصحى ، انطلاقا من مقولة طائفية تدعى أن العامية المصرية هى اللغة الهيروغليفية القديمة – لغة أهل البلد الأصليين ، وليس الغزاة من أمثالنا .
ووصل استخدام العامية المبتذل إلى نشرة الأخبار التى تذاع من حين لآخر تحت عنوان سخيف .
ثم إنها تذيع أفلاماً صادمة للذوق العام والفطرة الإنسانية ( جنس وعنف ورعب ) مما يأباه المسلمون وغير المسلمين .. ووصل بها الأمر إلى إذاعة أفلام تكتب عليها بالعامية ما معناه أنها " للكبار فقط " ! هل من المقبول فى بلد تؤمن جميع طوائفه بالحياء أن تتحول قناة تلفزيونية – يُفترض أنها عربية – إلى سينما للكبار فقط؟
ثم وهو الأدهى ، تقدم القناة الطائفية المتعصبة ، أفلاماً تدعو إلى الشذوذ والمثلية ، وتجعل ذلك مسألة عادية لا غرابة فيها ، فهل هذه تجليات العلمانية الطائفية ؟
ثم وهو الأكثر بشاعة ، الحرص على أن تكون القناة بدءًا من مذيعيها ومذيعاتها وضيوفها – فى معظمهم – متغربة وداعية تغريب ، مع أن الناس يُحبون الانتماء إلى أصولهم الشرقية – وبلاش الإسلامية – وليسوا فى حاجة إلى أن يكونوا غراباً يقلد حمامة !
لو أن السيد المتعصب فقه حركة المجتمع المصرى المسلم ( وكله مسلمون بالعقيدة أو الثقافة ) لعرف أن احتشام الفتيات مسلمات وغير مسلمات ، وازدياد الداخلين فى سلك الرهبنة ، هو نوع من المقاومة الشعبية لمن يريدون تغيير هوية الأمة ، ويُصرّون أن تكون تابعاً حقيرا ، للمستعمرين الصليبيين المتوحشين ، ولعرف أن هذه المقاومة الشعبية استجابة فطرية لبواعث داخلية نفسية ترفض الاندماج فى الانحلال والسطحية والفجور ..
أيها السيد: عد إلى رشدك ، ولا تتجاوز خطوطك الاقتصادية إلى اللعب بالنار ، فذلك خير لك وللوطن .. حتى يقضى الله أمراً كان مفعولا .
................................
*المصريون ـ في 3/11/2007م.
-
جائزة الشجاعة المدنية
بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود
.......................................
ذهب الكاتب المصري الشيوعي ( سابقا ) " على سالم " إلى مقر السفارة الأمريكية في لندن ، وتسلم من السفير يوم الأربعاء 19/11/2008م جائزة الشجاعة المدنية ، وقدرها 50 ألف دولار أمريكي .
في الوقت ذاته كان الغزاة النازيون اليهود يًحكمون حصارهم بمساعدة بعض العرب المسلمين حول قطاع غزة ، حيث لا يجد أهل القطاع وقوداً ولا كهرباء ، ولا دواء ولا غذاء ، ولا يستطيعون الخروج من المعابر ولا يدخلون ..إنهم ينتظرون الموت الجماعي أو الإبادة الجماعية على يد الغزاة النازيين اليهود !
كان " على سالم " صاحب أغنية " على الممر " منتشياً بالجائزة ، وسعيداً بمن سلموها له من الأمريكان والصهاينة ، وقال مفاخراً ومباهياً : " إن الجائزة مهمة جداً من الناحية المعنوية ، لأنني سعيد أن الناس ترى ما أفعله " ، وأعرب على سالم عن سعادته بأن هناك أناساً يمكن أن يقدروا عمله ، وقال إن الجائزة التي تمنحها مؤسسة ترين في الولايات المتحدة ، اعتراف بكل دعواته إلى السلام مع الكيان النازي اليهودي الغاصب في فلسطين المحتلة ، ومعارضة من جانبه لما أسماه التطرف الإسلامي ، حيث إن هناك – كما يرى – ارتباطاً بين غياب السلام والتطرف !
من حق على سالم ، أن يعتقد بالأفكار التي تناسبه حتى لو تناقضت مع مواقف سابقة كانت تبدو أساسية وعضوية ، ومن حقه أن يؤيد الغزاة النازيين اليهود ، وهم يقتلون الشعب الفلسطيني ويسحقونه ويحاصرونه حتى الموت ، ومن حقه أن يؤيد جيش الغزو الصهيوني وهو يطوّر القاعدة العسكرية الصليبية الاستعمارية المتوحشة في فلسطين ، ويهدد الدول العربية والإسلامية بالدمار والخراب والهلاك ، من حق على سالم أن يؤيد ويبارك ما يفعله العدوّ الصهيوني ، والأب الروحي المتوحش في واشنطن وعواصم الغرب ..
من حقه أن يفعل كل شيء ، ولكن ليس من حقه أن يفرض على الأمة أفكاره ورؤاه التي تقضى بالتفريط في عقيدتها وأرضها وكرامتها ومقدساتها .. ليس من حقه أبدا ، ما معنى معارضته لما يسمى " التطرف الإسلامي " ؟ هل يقصد المقاومة الإسلامية للقتلة الغزاة اليهود ؟ هل يقصد التمسك بالدين الإسلامي مثلما يتمسك بدينهم الغزاة النازيون اليهود ؟ ويمنحون دارسي الدين اليهود امتيازات مادية ومعنوية ؟ إن كان يقصد ذلك فنحن نرفض أفكار على سالم في هذا السياق ونؤكد على أن الأمة الإسلامية مهما تعرّضت للقهر والذل والهوان لن تبيع إسلامها وعقيدتها وأرضها ، وستقبض عليها كما تقبض على الجمر !
إن على سالم ، السعيد بالخمسين ألف دولار ، يجب أن يتذكر أن الرئيس السادات ذهب إلى القدس المحتلة قبل ثلاثين عاماً أو يزيد ، وخاطب القتلة الغزاة في عقر احتلالهم ، وقدم لهم كل التنازلات الممكنة كي ينزلوا عند إرادة السلام ، ويسلّموا الحقوق التي اغتصبوها إلى أهلها ، ولكنهم رفضوا ، وحوّلوا الأمر إلى مفاوضات تعقبها مفاوضات ، تليها مفاوضات دون جدوى وفى الوقت نفسه ، لا يتورعون عن قتل الشعب الفلسطيني واللبناني والسوري بالطائرات والمدفعية والدبابات والصواريخ ، ويزرعون الضفة والقدس والجولان بالمستوطنات وحواجز التفتيش والإرهاب ، وتشديد الحصار على الشعب الأعزل ، ويتحدثون – يا للفجور – عن الإرهاب والتطرف ، فهل هذا هو السلام يا علىّ ، يا صاحب جائزة الشجاعة المدنية ؟
ثم ما معنى الشجاعة المدنية .. هل تقابل الشجاعة العسكرية ؟ وهل الشجعان العسكريون الصهاينة والصليبيون يؤسسون للاستسلام والانهزام أمام جبروتهم الاستعماري باسم الشجاعة المدنية ؟
أليس غريباً يا على أن يكون الشجعان المدنيون الذين يؤسسون للهزيمة وقبولها ورفض المقاومة وتكاليفها ، من اليساريين التقدميين الاشتراكيين ؟ سبقك إليها أهل كوبنهاجن وجمعية السلام ، بل إن غلاة رافضي المقاومة الفلسطينية في منظمة التحرير الفلسطينية هم من اليساريين ( المدعو عبد ربه على سبيل المثال ! ) ، ثم إن الشيوعيين المصريين والعرب كانوا أول من نادي بالتعاطف مع الغزاة النازيين اليهود في فلسطين ، ووصفوا حرب الإنقاذ والنجدة للشعب الفلسطيني التي شاركت فيها الدول العربية بأنها " حرب قذرة " ! وتضامنوا علناً مع حزب " المابام " – العمال - اليهودي بقيادة بن جوريون - ؟! وأخيراً اختزلوا الصراع مع الغزاة النازيين اليهود في " التطبيع " ! لقد نجح " هنري كورييل " في اللعب بالمخ العربي عن طريق اليسار العربي لصالح العدوّ الصهيوني ، وحوّل عداءه من المقاومة للغزو النازي اليهودي ، إلى عداء للإسلام ، وكل ما يمت للإسلام بصلة !
ومع ذلك – يا علىّ – فهناك شيوعيون محترمون – كانوا ينفقون على التنظيمات الشيوعية من جيوبهم وأملاكهم ، لأنهم كانوا يعتقدون بصحة النظرية الشيوعية ، وأن غايتهم مقاومة الاستعمار والاستبداد ، وللأسف فقد رحل كثير منهم ، أو صمتوا ، أو أصيبوا بخيبة وصدمة في الرفاق الذين صاروا على استعداد لبيع أي شيء من أجل مصالحهم الخاصة ومنافعهم الذاتية ، وانظر حولك في الصحافة والإعلام وحزب السلطة والتنظيم الطليعي !
تمنيت يا على سالم – يا صاحب "أغنية على الممرّ " ، أن تدين مرّة واحدة ، حصار غزة أو قتل الفلسطينيين في الشوارع والحواجز وغرف نومهم ، أو إقامة المستوطنات أو الهجرة غير المشروعة إلى فلسطين التي يقوم بها اليهود من أنحاء العالم .. ولكنك لم تفعل أبداً ، بل تكررت زياراتك لفلسطين المحتلة ومدنها وكتبت عن الغزاة النازيين معجباً " بتحضرهم " وحياتهم ومعيشتهم ، حتى منحوك درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة بن جوريون عام 2005م !
لاشك أنهم مدينون لك يا على بأكثر من جائزة قيمتها خمسون ألف دولار ، فأنت تستحق أكثر من ذلك ، فقد كنت شجاعاً في قبول الهزيمة ، ورفض المقاومة والموافقة على تسليم المقدسات ! مثلك كثير .. ولكن المقاومين أكثر ، وأحباب الإسلام بلا عدد ، وتلك الأيام نداولها بين الناس !
.........................................
*المصريون ـ في 25/11/2008م.
-
يُعدُّ نجيب الكيلاني (1931-1995م) الروائي الإسلامي الأوَّل في اللغة العربية، حيث قدَّم للمكتبة العربية عدداً كبيراً من الروايات والقصص القصيرة، وهي غالباً محمومة بالتصوُّر الإسلامي وصادرة عنه، ومن خلال هذا الإنتاج القصصي الغزير استطاع أن يقدِّم النموذج الإسلامي في الرواية والقصة.
وقد مرّ إنتاجه الأدبي الروائي بمراحل ومستويات عدة، يمكن أن نضعها في أربعة إطارات:
ويمثِّل الرّواية الرومانسية، ويضم العديد من رواياته، وقد عبّر من خلالها عن هموم النَّاس والعلل الاجتماعية المتفشية بينهم، مثل الفقر والجهل والأمراض المتوطنة والسلبية والتخلف، ومزج ذلك بالعواطف المشبوبة والخيالات الحالمة والآمال المجنِّحة، ويمكن أن نرى أمثلة على ذلك من رواياته: الطريق الطويل، الربيع العاصف، الذين يحترقون، في الظلام، عذراء القرية، حمامة سلام، طلائع الفجر، ابتسامة في قلب الشيطان، ليل العبيد، حكاية جاد الله..
ويمثِّل الرواية التاريخية، التي تستلهم السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي بصفة عامة، وقد استدعى التاريخ واستلهمه ليقدِّم النماذج الإنسانية المشرفة من حضارتنا، ويرصد جهاد الآباء في شتى جوانب الحياة، دفاعاً عن الدّين وسعياً لتأسيس مجد غير مسبوق، وفي بعض الأحيان كان يستدعي التاريخ ليعالج من خلاله قضايا راهنة أصابت الأمَّة بالإحباط واليأس، ويوقظ به الأمل في نفوس الأجيال الجديدة عن طريق إحياء الهمَّة وبعث العزيمة والإصرار، وفي كل الأحوال فإنَّ استلهام التاريخ في الرّواية عند "نجيب الكيلاني"، كان إبرازاً لمعطيات الإسلام العظمية، وإمكاناته الهائلة في تحويل الإنسان المسلم إلى صانع حضارة وباني مجدٍ وجندي ظافر في معاركه ضد الشرّ والتوحُّش، ويمكن أن نجد عدداً كبيراً من رواياته التي عبَّرت عن ذلك، مثل: نور الله، قاتل حمزة، أرض الأنبياء، دم لفطير صهيون، مواكب الأحرار (أو نابليون في الأزهر)، اليوم الموعود، النداء الخالد، أرض الأشواق، رأس الشيطان، عمر يظهر في القدس.
ويمثِّل الرواية التي يمكن أن نسميها بالرواية الاستشرافية التي عبَّر فيها عن هموم المسلمين خارج حدود العالم العربي (دول آسيا الوسطى التي كانت أو ما زالت تحت الستار الحديدي الشيوعي من الاتحاد السوفييتي والصين-إثيوبيا- إندونيسيا-نيجيريا)، واستطاع أن يكشف للعالم مأساة داميةً أصابت ملايين المسلمين المنسيين الذين لا يتحدَّث عنهم أحد إلاَّ نادراً، ولا يعرف عنهم المسلمون في العالم العربي إلاَّ القليل، وفي الوقت ذاته توقَّع انتصارهم وتحرّرهم، وهو ما حدث بالفعل في أكثر من مكان وبخاصة في الدول الإسلامية التي استقلَّت أو تحاول الاستقلال بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وتعدّ رواياته: ليالي تركستان، الظل الأسود، عذراء جاكرتا، عمالقة الشمال، من أشهر رواياته في هذا الإطار.
ويمثِّل الرواية عند نجيب الكيلاني في المرحلة الراهنة، وهي التي نُطلق عليها الواقعية الإسلامية، ويعبِّر فيها عن القضايا الاجتماعية التي تهمّ جموع المستضعفين في الوطن، ويبرز فيها ما يلقاه النَّاس من ظلمٍ وقهرٍ واضطهاد، ويتخذ من تفاصيل الحياة اليومية والاجتماعية عناصر أساسية يرتكز عليها في بناء هذه الروايات، وأيضاً فإنَّه يطرح عبر سطورها رؤية الجيل الجديد للأحداث، وموقفه من قضايا الحرية والعدل والأمن والرخاء والمستقبل، وتُعدُّ روايات الأربع أو رباعيته التي أنتجها على مدى عامين تقريباً، ونشرت على مدى شهورٍ متقاربة ـ وهي: اعترافات عبدالمتجلي، امرأة عبدالمتجلي، قضية أبو الفتوح الشرقاوي، ملكة العنب ـ من أفضل النماذج وأبرزها في الدلالة على هذا الإطار، وهي موضوع دراستنا.
والواقعية الإسلامية تختلف بالضرورة عن الواقعية الأوروبية (الانتقادية والطبيعية)، والواقعية الاشتراكية (الماركسية)، وإن كانت هنالك أسس موضوعية وفنية قد تجمع بينها جميعاً..
فالواقعية الأوروبية واقعية نقدية تعنى بوصف التجربة كما هي، حتى لو كانت تدعو إلى تشاؤم عميق لا أمل فيه، في حين تحتّم الواقعية الإسلامية أن يثبت الكاتب في تصويره للشرّ دواعي الأمل في التخلُّص منه فتحاً لمنافذ التفاؤل حتى في أحلك المواقف، ولو أدَّى إلى تحريف الموقف بعض الشيء.
أمَّا الواقعية الإسلامية، فإنَّها ـ مع انتقادها للواقع ـ تنطلق في انتقادها من التصوُّر الإسلامي الذي يكون دائماً منصفاً، فلا يبالغ ولا يهوّل، أيضاً لا يتحامل بسبب المغايرة في الانتماء، ولا يحبِّذ الصراع بين الطبقات كما يبتغي الواقعيون الاشتراكيون، فضلاً عن أنَّ الأمل في الواقعية الإسلامية، هو أمل إيماني يقوم على أساس نُصرة الحقِّ في كل الأحوال، حياة وموتاً. إنَّها باختصار ترفض التشاؤم كما ترفض التفاؤل الذي يقوم على الخداع أو التزييف، ثم إنَّها تستقي مادتها من الحياة الاجتماعية، ومشكلات العصر على إطلاقها، وتختار شخوصها من عامة المجتمع وجميع طبقاته؛ لأنَّها تعتقد بأنَّ الخيرَ والشرَّ ليسا قاصرين على طبقة بعينها، ولكنَّهما موجودان في النفس البشرية، ايّاً كانت طبقتها أو انتماؤها الطبقي، وأنَّ الإنسان يمكن أن يكون خيِّراً أو شرّيراً ِوفقاً لاختياره، وعوامل أخرى مؤثِّرة في هذا الاختيار من قبيل التربية والتوجيه والقدوة والظروف المحيطة...إلخ، لذا؛ فإنَّ الطبقة ليست هي العنصر الحاسم في الصراع بين الخير والشرِّ، وإنَّما الإرادة الفردية ومكوناتها.. وهو ما يتسق مع التصوُّر الإسلامي:}فَألهمها فُجُورها وتقواها*قد أفلحَ مَنْ زَكَّاها*وقد خَاْبَ مَنْ دَسّاهَا{[سورة الشمس: 9،8].
وإذا كانت الواقعية الانتقادية والواقعية الاشتراكية توجهان سهام نقدهما للطبقة الوسطى (البرجوازية) لأنَّها ظلمت الطبقة الدُّنيا، وأنزلت بها أسوأ أنواع القهر والغبن، عندما وصلت إلى السلطة، فإنَّ الواقعية الإسلامية، ومن خلال روايات نجيب الكيلاني، تنتقد الفئة الظالمة والأفراد الظالمين أيّاً كان انتماؤهم، إلى الطبقة العليا أو الطبقة الوسطى أو الطبقة الدُّنيا، على السواء، فهناك من يوجّه إليهم الانتقاد ممَّن يُعدّون في الطبقة العليا أو الطبقة الوسطى (الحكام-الضباط-رجال الأعمال)، وهناك من يوجِّه إليهم الانتقاد من الطبقة الدُّنيا (العمال، الفلاحين، صغار التجار)، وهكذا فالشرُّ موجود في كل الطبقات، والخير أيضاً.
والواقعية الإسلامية من هذا المنطلق تمثل الصياغة الفكرية والتطبيقية لمفهوم الأدب الإسلامي، في صورته المقبولة والمؤثِّرة في مجال الرواية والقصة على وجه الخصوص، حيث تحقِّق الغاية الخلقية والفنية لعملية الإبداع الأدبي، وإذا كانت بعض التيارات الأدبية تعارض أن يكون للأدب غاية خلقية، فإنَّ الواقعية الإسلامية لا يمكنها أن تتخلّى عن هذه الغاية التي ألحّ عليها كثيرون في الماضي والحاضر. لقد أكدّ "أوسكار وايلد" على الرسالة الخلقية للفنِّ بالمعنى الواسع، وتعني هذه الرسالة لديه: مساعدتنا على فهم الحياة، وقد آمن بهذه الرسالة أفلاطون وأرسطو من قبل، ثم مونتاني وموليير من الفرنسيين، وبن جونسون ودكتور جونسون من الإنجليز.
إنَّ التعبير عن هموم المظلومين والمقهورين والمستضعفين من عامة النَّاس يمثِّل لبّ الرسالة الخلقية للواقعية الإسلامية، وهو ما ألحَّ عليه كثيراً أدب نجيب الكيلاني بعامة، ورواياته بخاصة، فالطبقة الدُّنيا المظلومة المقهورة المستضعفة، حاضرة في رواياته حضوراً مستمراً دائماً، ونماذج المظلومين والمقهورين والمستضعفين تملأ صفحات كثيرة في أدبه، إلى جانب الاهتمام أيضاً بالنماذج العادلة والقوية والظافرة وفق المفهوم الإسلامي. وهذا الاهتمام بقضايا المجتمع من خلال هذه النماذج أو تلك يأتي استجابة لتوجيه إسلامي كي نهتم بأمور المسلمين اليومية والاجتماعية.
ولعل اهتمام نجيب الكيلاني بحياة الفلاحين في القرية المصرية وما يجري لهم، وأيضاً تعبيره عن بسطاء المدينة وما يعانونه، يُمثِّل ملامح استجابته للتوجيه الإسلامي بالاهتمام بأمور المسلمين الذي يترجم عنه في واقعيته الإسلامية ذات الرسالة الخلقية، وإذا أضفنا إلى ذلك تصدِّيه بالانتقاد للفئة المتحكِّمة وفساد رجالها والمحيطين بها، وأيضاً انتقاده لانحراف الأفراد من العامة مع بيان سبب هذا الانحراف، فإن الصورة تكتمل في أذهاننا لأسلوب الأدب الإسلامي ومنهجه في معالجة هموم المجتمع وقضايا الأمَّة ومشكلاتها.
ومن الجدير بالذكر أنَّ نجيب الكيلاني بذل جهداً تنظيريَّاً مهماً في هذا السياق، للتعريف بمفهوم الأدب الإسلامي وأبعاده، في عديد من الكتب والبحوث المنشورة، أهمها كتابان، أوَّلُهما "الإسلامية والمذاهب الأدبية"، وثانيهما "مدخل إلى الأدب الإسلامي"، وفيهما يوضِّح علاقة الأدب بالدين، ومفهوم الالتزام الإسلامي في الأدب، ويقارن بين المذاهب الأدبية السائدة، ويعرض لمناقشة بعض القضايا التي تتعلَّق بالأدب الإسلامي وتثير العديد من التساؤلات، سواءً من المؤيِّدين للأدب الإسلامي أو المعارضين، مع إشارة لبعض الأدباء الإسلاميين في العصر الحديث أمثال: أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ومصطفى صادق الرافعي، وأحمد محرَّم، وتقديم نماذج معقولة للأدب الإسلامي. كما ركَّز على الدعوة إلى الاهتمام باللغة العربية الفصحى في الكتابة والتعبير بوصفها البيان الأدبي الأرقى للأسلوب.
إنَّ كفاح نجيب الكيلاني لتقديم الرواية أو القصة الإسلامية، يمثِّل انعطافة كبيرة في مسيرة الأدب الإسلامي، ليس في مواجهة أعدائه فحسب، بل في مواجهة بعض ضيقي الأفق الذين يرون في الأدب عموماً ترفاً يجب أن يترفَّع عنه المسلمون، وما علموا أنَّ العلاقة بين الأدب والدين علاقة حميمة، أو كما صوَّرها (هنري برجسون) بأنَّها علاقة نسب، عندما قال: إنَّ الفنَّ ابن الدين. ونسوا أو تناسوا أنَّ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم كان يستجيد الشعر ويستنشده، وكان يحثُّ حسّاناً على استخدام شعره في معركته ضد المشركين، وأنَّ عمر بن الخطَّاب رضى الله عنه يُعدّ أوَّل ذواقةٍ للشعر وناقدٍ له من الخلفاء الراشدين.
ومهما يكن من أمر، فإنَّ دخول نجيب الكيلاني إلى مجال الواقعية الإسلامية في الرواية، يعد نقلة أكثر تطوراً وعمقاً؛ لأنَّه يواجه المجتمع بمشكلاته المزمنة والمؤرِّقة مواجهة جادة ملتزمة، مع ما قد تجرُّه عليه هذه المواجهة من متاعب شخصية واجتماعية تعوّدها منذ مطلع شبابه.
ثمة ملمحٌ أخيرٌ تختلف فيه الواقعية الإسلامية عن الواقعية الانتقادية والواقعية الاشتراكية، وهو الناحية الأسلوبية، فالواقعيون - بعامة- لا يحبون المبالغة في العناية بالأسلوب؛ لأنه وسيلة لا غاية، والأهمية كلها للمنطق، وللطريقة التي تسود بترتيب الأحداث والتعبير عنها.
والواقعية الإسلامية ـ فيما أتصوَّرـ تحرص على الأسلوب وتعنى به؛ لأنَّه يمثل ـ بطريقة ما ـ عناية باللغة وارتقاء بها وسموّاً ببيانها، وهو ما يعني في حقيقة الأمر الحرص على قيمة جمالية كبرى من قيم البيان العربي، ولعلَّ التفوُّق الأسلوبي لدى بعض المشاهير، كان سبب شهرتهم في المجال الروائي، سواءً كانوا مخلصين للواقعية الانتقادية أو الواقعية الاشتراكية أو الرومانسية أو غيرها، بدءاً من مصطفى لطفي المنفلوطي حتى نجيب محفوظ، مروراً بآخرين من أمثال علي الجارم، محمد فريد أبو حديد، محمد سعيد العريان، محمد عبدالحليم عبدالله، عبدالحميد جودة السحَّار، فتحي غانم...
وقد اهتم نجيب الكيلاني بأسلوبه الروائي، الذي تحدَّثنا عنه في موضع آخر، اهتماماً كبيراً، ولعلَّ ذلك يرجع إلى كونه شاعراً أيضاً، يملك القدرة على الأداء اللغوي الجيِّد، كما يملك معجماً غزيراً يتيح له فرصة للتعبير الدقيق والمتسامي عن مختلف المشاعر والأحاسيس، والصور والمشاهد.
يبقى بعدئذ، أن نشير إلى أنَّ الواقعية الإسلامية عند نجيب الكيلاني، تظلُّ وفيّة للقضايا الإنسانية الكبرى التي تعني الإنسان المسلم في حاضره ومستقبله، وتترفع في الوقت ذاته عن القضايا المبتذلة والرخيصة التي تتسافل به أو تهبط به إلى درك الحيوانية حيث تبحث عن الإشباع الغريزي وحسب.
-
«لويس عوض: الأسطورة والحقيقة»
للدكتور حلمي محمد القاعود
بقلم: أ.د. حسين علي محمد
.....................................
«كان قدري أن أسبح ضد التيار في معظم ما أكتب إن لم يكن فيه كله، مع ما في هذه السباحة من متاعب ومصاعب، وأن أدخل إلى مناطق ملغومة، مليئة بالأشواك التي تُدمي وتجرح. وكان هدفي في النهاية هو كشف الحقيقة وتقديمها للناس دون من ولا أذى محتسباً ما ألقى عند الله».
بهذه الفقرة يقدم الدكتور حلمي محمد القاعود كتابه الجديد: "لويس عوض: الأسطورة والحقيقة" للقارئ في ثلاثمائة وثماني عشرة صفحة من القطع المتوسط، والذي صدر مؤخرا عن دار الاعتصام بالقاهرة.
إن الاقتراب من عالم لويس عوض مغامرة محفوفة بالمخاطر والمحاذير، فالرجل رغم رحيله منذ خمسة أعوام مازال يُمارس سيطرته القاهرة؛ فتلامذته وأتباعه من العلمانيين والمراكسة يُسيطرون على وسائل الإعلام، ويمثلون مركز قوة خطيراً، كما كان الراحل يمثل منذ ثلاثين عاما، حينما كان المستشار الثقافي لأكبر جريدة في الشرف الأوسط، ألا وهي جريدة "الأهرام".
لكن الدكتور حلمي محمد القاعود توكّل على الله، واقتحم وكر الأفاعي، وأمسك رأس الأفعى! فهل يتركونه؟!
ليس بعيداً عن الذاكرة ما جرى للعلامة محمود محمد شاكر حينما أراد أن يتصدّى لجهالات لويس عوض التي كان ينشرها في الناس، فكتب أكثر من عشر مقالات في "الرسالة" (الإصدار الثاني في عامي 1964و1965م)، جمعها شاكر بعد ذلك في كتابه القيم "أباطيل وأسمار".
لقد أراد شاكر التصدِّي لجهالات لويس عوض، فكتب مقالات بدأها بعنوان "ليس حسناً"، وفي الأسابيع التالية "بل قبيحا"، "بل شنيعا"، فكان جزاؤه السجن وإغلاق مجلتي "الرسالة" و"الثقافة" (1965م).
يقع الكتاب في ثلاثة أبواب:
الباب الأول بعنوان "السير والسلوك"، ويقع في ثلاثة فصول، في الفصل الأول يتناول المؤلف نشأة لويس عوض، ومفتاح شخصيته، وعلاقته بالآخر، وفي الفصل الثاني "المكونات والمرجعية، والفصل الثالث الحضور الثقافي والأدبي (ص ص21-97).
والباب الثاني بعنوان "الوصف والإنشاء"، ويتناول المؤلف فيه مؤلفات لويس عوض من خلال فصلين: الفصل الأول بعنوان "الوصف" ويتناول فيه جهود لويس عوض في النقد، والأدب المقارن، واللغة، والترجمة. والفصل الثاني بعنوان "الإنشاء"، ويدرس فيه رواية "العنقاء" وديوان "بلوتولاند" ومسرحية "الراهب" (ص ص99-188).
والباب الأخير (الثالث) بعنوان "الرؤية والفكر"، وفيه ثلاثة فصول، هي: السلطة والسياسة، والتشويه والتجميل، والإسلام والعروبة ( ص193-182).
ثم تأتي الملاحق وفيها خطاب من رمسيس عوض ضد غالي شكري، وملخص أخطاء لويس عوض (صفحة من كتاب العلامة محمود محمد شاكر "أباطيل وأسمار")، ومقالة لعبده بدوي، وأخرى لمحمد جلال كشك، ويتلو ذلك ثبت الأعلام، فالمصادر والمراجع، فالفهرس التفصيلي.
إن هذا الكتاب يكشف القناع عن ناقد ذاع صيته، بينما إمكاناته متواضعة، جد متواضعة، ويكفي ما قاله عنه العلامة محمود محمد شاكر: "إن إحساس لويس عوض باللغة ضعيف جدا، وأجنبي جدا، ومع ذلك فهو يعمد إلى النصوص الأدبية في لغة العرب، فيدرسها بمخرقة شنيعة، وبلا حياء".
لقد كان لويس عوض أكذوبة كبرى في حياتنا انطلت على الكثير، مما جعل ناقداً معروفاً مثل الدكتور جابر عصفور يقول عنه: "إن حياة لويس عوض كانت كلها جهداً متصلا وكفاحاً دائماً لتغيير الواقع الذي ظل يرفض ما فيه من تقاليد جامدة، وظلم اجتماعي، وغياب للحرية" (الأهرام 13/9/1990م).
ولقد ظلّت هذه الأكذوبة تستشري في حياتنا حتى جاء هذا البحث للدكتور حلمي محمد القاعود ليضع لويس عوض ـ بالدليل والبُرهان ـ في حجمه الحقيقي، بعد أن يتناول جوانب الهالة الأسطورية التي أحاطته، بأسلوب علمي أكاديمي موضوعي، يعتمد على مقولات لويس عوض وكتاباته بالدرجة الأولى، وما كتبه من كتب نقدية وإبداعية، فيُظهر أن كتابات الرجل متهالكة علمية، ويسرق كتابات الآخرين (كما فعل في كتابه عن جمال الدين الأفغاني)، وكتاباته الفنية متواضعة، ولا تصنع منه مبدعاً كبيراً.
أما كيف أخذ الرجل هذه الهالة، وكيف صار نجماً ذا سطوة على مُخالفيه في الرأي والعقيدة، فهذه تحتاج إلى شرح وإبانة يقوم بها الكتاب خير قيام.
تحية إلى الدكتور حلمي محمد القاعود وهو يسلك الطريق الصعب، ويقتحم وكر الأفاعي لينشر الحقيقة، ويدحر الأكاذيب.
-
«زهرة الصباح»: البحث عن الأمل.. والحلم بالنجاة
بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود
............................................
1. تمهيد
يعد محمد جبريل (المولود عام1938) من أغزر الروائيين المعاصرين إنتاجاً، وخاصة فى السنوات الأخيرة، حيث قدّم للمكتبة العربيى عدداً من الروايات والمجموعات القصصية والدراسات الأدبية، منها: "إمام آخر الزمان" 1984، "من أوراق أبى الطيب المتنبى" 1988، "قاضى البهار ينزل البحر" 1989، "قلعة الجبل" 1991، "الخليج" 1993، "إعترافات سيد القرية" و "السحار" و "رحلة إلى السيرة النبوية" و "آبات الستينان" و "زهرة الصباح" 1995، وقد انتهى مؤخراً من كتابه رباعية روائية عن منطقة رأس التين فى الإسكندرية،حيث ولد وعاش طفولته وصباه، ولعلة أراد أن يقابل رباعية الإسكندرية التى كتبها "لورانس داريل" قبل عده عقود من السنين، ولكن من خلال منظورة المصرى العربى الإسلامى الذى يظهر فيه دور مساجد "أبى العباس المرسى" و "البوصيرى" و "ياقوت العرش"، وغيرها من معالم المنطقة وآثارها.
وقد تخصّص جبريل، فى رواياته الأخيرة تقريباً فى استدعاء التاريخ، ليقدّم من خلاله قضايا معاصرة تصعب معالجتها مباشرة فى بض الأحيان، وخاصّةً ما يتعلق بالقيم الراسخة التى صارت غاية مشتركة تنشدها البشرية عامة، والعرب والمسلمون على وجه الخصوص، مثل الحرية والعدل والمساواة والشورى والكرامة والإنسانية وتوسّل إلى ذلك بالتاريخ الإسلامى والتاريخ الفرعونى والتاريخ الحديث، ثم استفاد فى روايته الجديدة "زهرة الصباح" بمعطيات "ألف ليلة وليلة" والتراث الشعبى الأسطورى فى إطار التاريخ المملوكى بمصر، ليناقش العديد من القضايا الكبرى.
ولا ريب أن الإطار التاريخى يستدعى مهارة فائقة فى الوعى بلغة الحقبة موضوع المعالجة الروائية، سواء على مستوى المعجم، أو مستوى المفردات الاجتماعية والإنسانية، أو القيم السائدة والعادات والتقاليد التى كان يعيش بها المجتمع آنئذ، ليتحقّق الإحكامُ الروائىّ، أو الصياغة الفنية الجيدة، وقد حقق محمد جبريل كثيراً من هذه المهارة فى روايتيه: "من أورا أبى الطيب المتنبى" و "قلعة الجبل".
وقد سبق جبريل نجيب محفوظ فى استعاره إطار "ألف ليلة وليلة" وشخوصها فى رواية له تحمل عنوان " ليالى ألف ليلة" ولكنة آثر استخدام لغته العصرية المألوفة التى يكتب بها رواياته، وركز على بعض القضايا من خلال مفاهيمه وبنائه الروائى الخاص، أما "زهرة الصباح" فتدخل فى إطار "ألف ليلة وليلة" بشكله الموروث، وتتقنع به بصورة شبه كاملة، لتنقل القارئ إلى عصر قديم، له نكهته الخاصة، ومذاقه المتميز.
2. المرأة المتسلحة بالمعرفة
تعالج رواية "زهرة الصباح" قضايا الصراع بين الحق والباطل، والشجاعة والخوف، والعدل والظلم، والتمرد والقمع، والإصلاح والإفساد، وتحاول أن تقد الدواء الشافى لهذا الصراع الذى يذهب ضحيته كثير من الناس قهراً وغدراً وانتقاماً، ومن خلال الحكاية المشهورة بين شهريار وشهرزاد تتّضح معالم هذا الصراع وأبعاده، سواء ما يتق شهريار وأسلوبه وتفكيره، أو تفكير الناس من خلال شهزاد وأبيها وزهرة الصباح وأبيها، وطوائف الشعب وطبقاته المختلفة.
"شهريار" مولَعّ بقتل الفتيات اللاتى يتزوجهن بعد ليلة الدُّخول بهنّ، ويقف طابور طويل من الفتيات فى انتظار مصيرهن، من بينهن "زهرة الصباح" ابنه "عبد الملك المتبولى" كاتب سرّ الدولة، ولكن شهرزاد تحكى للملك حكاية متتابة على مدى الليالى الألف، فتغير من طبيعته القاسية، وبتحول إلى الأستقامة والعدل، وما بين قسوة شهريار واستقامته، يعيش الناس بلاءً عظيماً، وقهراً لا حدّ له، ويصاحب ذلك خراب وعنف ودم وجاسوسية ووحشية وفساد وشذوذ وتشهير، وفى ظلّ هذا الوضع تحدث أحياناً بعض محاولات المقاومة والرفض، ولكنها تقابل بوحشيو وانتقام شديدين، حتى ترسخ الخوف فى النفوس، وصار الخوف فى ذاته عنصر قهرٍ داخلى يمارس سطوته على الناس كباراً وصغاراً، حتى شهريار نفسه لحق به الخوف أيضاً، وها هو ذا يقول لشهرزاد: "أيه السعادة" وأنا لا أطمئن إلى الرقاد فى قصرى؟!"، ومع ذلك بقى الحلم بالعدل قائماً فى الصدور والنفوس، وفى الخطب والمواعظ، وظلّ الناس يتساءلون عن الفارس المنقذ الذى يتحدى الخوف ويحقق الأمل الموعود أو المنتظر، وفى الوقت ذاته هناك لجوء إلى الله واستجارة به ليرفع البلاء ويكشف الغمّة، " واجتمع الفقهاء والوجهاء وعامة الناس فى الجامع الأزهر، يتضرعون إلى الله أن يكشف الغمّة، عَلَت دعوات الناس إلى الله بأن يكشف الغمّة.."
وقد انكشفت الغمة بفضل الله، ثم بفضل شهرزاد تلك الفتاة التى تشير إلى دلالتين أراد الكاتب فيما يبدو أن يوصّلهما إلى القارئ:
الأولى قيمة الثقافة والعلم والمعرفة فى تغيير الطبيعة البشرية وتحويلها من خانة الشر إلى دائرة الخير الرحيبة، فلولا ثقافة شهرزاد ووعيها العلمى والفكرى وحسن استخدامها للأفكار والقصص التى تحمل هذه الأفكار، ما استطاعت أن تغير شهريار وتحوله من حال إلى حال، وقد حرصت زهرة الصباح، أو حرص أبوها على تلقينها الثقافة والعلوم المتاحة فى ذلك الحين، بالإضافة إلى القصص والحكاات التى جمها من الرواة والكتب، كى تتسلح بها عندما يأتى عليها الدور بعد شهرزاد.
الدلالة الثانية فى تركيز الرواية على دور المرأة فى التغيير الإيجابى والفعال، ففى الوقت الذى تقع فيه رؤوس الكثير من الرجال عند محاولتهم للتغيير، فأن المرأة تحقق ما يعجز عنه كثير منهم، ولذا تستدعى الرواية عدداً من مشاهير النساء فى التاريخ للتذكير بقدرات المرأة وطاقاتها، مثل "تودد" الجارية التى همت العلماء بعد مناظرتها لهم، و "البدوية" التى آثرت زوجها على أحد الخلفاء، و "صفية" بنت ملك القسطنطينية، و"إبريزة" بنت نلك قيسارية، و "نزهة الزمان" بنت صفية وعمر النعمان، وغيرهنّ، ثم إن شهرزاد نفسها تمثل المرأة التى هزمت شهريار.
ومع تقدير الرواية لدور المرأة فى التغيير، فإنها لا تُلغى دور المجتمع تُعدّ المرأة جزءاً أساسياً فيه تشارك فى حركته، وتسعى لتحريرة ورفع الظلم عنه، وهو ما نرته عبر سطور الرواية.
(يتبع)
-
(القسم الثاني)
3. "التوازى" مع حكايات "ألف ليلة وليلة".
يقوم بناء الرواية على فصول تحمل أرقام الليالى الألف، وما بعدها، ليست هذه الأرقام فى تسلسل الليالى الموروثة، وإنما تأخذ أرقام بعض الليالى وتترك بعضها الآخر، بل إنها تبدأ بالليلة الثانية قبل الليلة الأولى، ويشير الكاتب إلى أن ذلك بسبب اعتبارات الحكى، تُرى هل أراد الكاتب أن يزيد من أقتناعنا بالإطار التاريخى الذى يكتب من خلاله؟ أم ماذا؟ فى الحقيقة فإنى لم أر مسوّغاً ضرورياً للتقديم أو التأخير.
يقوم الراوى فى "زهرة الصباح" بدور مهم جداً، حيث يتولى تقديم الأحداث والأشخاص، ويقطع سردَهُ فى العديد من المواضع أو الفصول حديث الشخصيات نفسها من خلال الاسترجاع أو المونولوج، ولكن الراوى يبدو هو المهيمن الأول على البناء الروائى، والمتحكم فى مسارة بصورةٍ تقيه من الترهل والفضلات الزائدة على الحاجة، ومن هنا رأينا فصولاً تطول، وأخرى تقصر حتى تحتوى على فصل واحد فقط، وثالثة تحمل تضميناً فقط، لقصةٍ شعبية أو موّالٍ أو حدثٍ من الأحداث الروائية.
وتبدأ الأحداث بالعقدة الروائية فى تشابهٍ واضح م الراية القديمة "ألف ليلة وليلة"، حيث يتم إعدام البنات بالتتابع، كل بنتٍ فى ليلة، حتى تأتى شهرزاد وتوقف عمليات الإعدام انتظاراً للفراغ من قصّ حكاياتها المتداخلة والمتنوعة، "يأتى الصباح بنبأ إعدام فتاة جديدة" ولكن الجديد هنا، أن الناس يتألّمون لأنهم لأنهم يساعدون فيما يحدث ويباركونه.
هناك أيضاً تشابه آخر فى اعتماد البناء الروائى على الحكايات الداخلية الكثير، تقوم شهرزاد بروايتها، أو يحكى أشخاص أخرون، وتتنوع هذه الحكايات ما بين موروث أسطورى أو شعبى أو من حكايا "ألف ليلة وليلة" نفسها، مع دلالاتٍ معاصرة بالطبع، وبعض هذه الحكايات يتيح فرصة التمدّد الروائى فى أكثر من أتجاه، وخاصة تلك الحكايات الأسطورية التى تعتمد على الحيلة السحرية مثل الاستعانه بالخاتم المسحور.
يبدو أن البناء الروائى بصفةٍ عامة يحرص على صفة التوازى فى أبعادٍ شتى، وذلك لإبراز المفارقة السلوكية أو الفكرية، فعلى سبيل المثال يتوازى سلوك المتبولى (الحانق على شهريار، بسبب ابنته التى سيأتى عليها الدور فى الإعدام) مع سلوك شهريار نفسه، وخاصّةً بعد أن آلت له الأمور كلّها تقريباً منذ انشغال شهريار بشهرزاد، وعلى سبيل المثال أيضاً، يتوازى الواقع الروائى مع الحكايات التى ترويها شهرزاد، ففى الوقت الذى يشعر شهريار بأن بعض مساعدية ينوى الغدر به تقصّ شهرزاد حكايةً مماثلة هى "الحمّال والبنات" على أن التوازى بالقصص الشعبى من الواقع الروائى يبدو مهيمناً على بناء الرواية، كما يبدو أكثر تأثيراً فى الدلالة، وذلك لارتباطه بالوجدان الشعبى العام، ومن ذلك أيضاً ما تواجهه "زهرة الصباح" عند زواجها السرّى وتَوازيه مع قصة خضرة الشريفة، أسرها وعذابها فى ديار الأعداء، ثم تحريرها على أيدى الدراويش.
ولا ريب أن هذا التوازى فى البناء الروائى، قد ساعدت علية الحكايات الداخلية الكثيرة، وهو بدوره أسهم فى كسر رتابة السرد، وتخليصة من الترهل، كما أضاف إلية حيوية وتنوعاً ملحوظين، وإنْ تسبّب فى إصابته بتضخّم ملحوظ فى عدد الشخوص أو أسمائها، فقد كثرت أسماء الشخوص كثرةً ملحوظة أدت فى بعض المواقع الروائية، إلى ما يشبه الإرباك للقارئ فى تتبعه للشخوص الرئيسية.
لقد خضع انسياب الأحداث وحركة الشخوص إلى وعى هندسى حاد، مما أخضعها جميعاً للنهايات التى أرادها الكاتب، وأرادتها "ألف ليلة وليلة" ـ النصّ المستدعى ـ فقد انتصرت شهرزاد على شهريار، الذى تحول من وحش يعشق الانتقام ولا يبالى فى سبيل ذلك، إلى رجل وديع مسالم يعشق العدل، ويغدق على الجميع ويعطف عليهم، وبذا نجت "زهرة الصباح"، وإن كان والدها، قد تحول إلى زاهد يعيش أيامه الأخيرة فى خانقاه شيخو، ويقنع بما يأكل طَلَبَتُها من طعام وخبز وحلوى، وكان يوزع ما يتبقى من طعامه علىهؤلاء الطلاب، وقد أقنعه زوج ابنته بالعودة إلى القصر، ولكنه عاد مذهولاً، فاستحق الشفقة والرثاء والبكاء.
النهاية المهمّة فى الرواية هى الحلم، الذى يحلم به شهريار لإقامة مجتمع يسودة العدل وألمن والنظام والمساواة،وقد استدعى الكاتب نهايةً موازية لها، وهى اعتراف قبيلة "عَبْس" بأبنها الذى أستعبد طويلاً وهو "عنترة بن شداد"
على كلّ، فإن النهاية ـ كما صرحت ـ تهدف إلى أن يعود الناس إلى ممارسة حياتهم الطبيعية فى أمنٍ وسلام وطمأنينة، دون خوفٍ أو قهر أو رعب.
4. بيئة حافلة وزمان متدفق
تستدعى الرواية بيئةً مكانية وزمانية مطابقةً للمرحلة التاريخية، وهى المرحلة المملوكية فى مصر، وهو بيئة مختلف إلى حد ما للبيئة فى "ألف ليلة وليلة" حيث يتسع فيها المكان والزمان جميعاً.. أما "زهرة الصباح" فقد تحركت على رقعةٍ وادى النيل، ومدينة القاهرة تحديداً، فى أواخر العصر المملوكى، ولهذة المرحلة طابعها وملامحها، فقد شهدت الكثير من الصراعات والأحداث على أكثر من مستوى، وفى الوقت ذاته عَرفت تقاليدَ متنوّعة وطريفة فى شتى المناسبات، ومن ثم يمكن القول، إن البيئة المملوكية فى آواخر زمانها بيئة حافلة وحية، وتتيح للعمل الروائى فرصة العرض الحىّ الشائق الذى يَحُضُّ على المتابعة، ويير لدى المتلقى رغبة الاكتشاف.
تحفل الرواية بوصف الأماكن والطرقات والمعالم، التى تتميز بها القاهرة، أو مصر فى ذلك الزمان، وما أكثر الحديث عن القصور والبيوت والمساكن والمساجد والدواوين، ديوان الجيش وقاعة الإنشاء، ودار الوزارة وبيت المال والزردخانة، وديوان البريد، ودور كبار الأمراء، والقصر الأبلق، وقاعات البيسرية والدهيشة والبحرة، وألسواق والحدائق وغيرها، وإن كانت القلعة، بأبهائها وحجراتها وطوابقها ومداخلها وحراسها وسكانها، هى المكان الأبرز فى البيئة الروائية المكانية، حيث كان يعيش شهريار، يلفة عالم من الغموض والألغاز والأسرار، وخاصة ما يتعلق بمصير الفتيات اللائى يلقَيْن حتفهنّ، والسجناء والمذنبين الذين يواجهون الإعدام.
القلعة تبدو سجناً لشهريار، لا يخرج منه إلا نادراً فى المناسبات، ويَرهبه الجميع ولا يقترب مه إلا رجلان: ضائع أو مضيَّع، وتدور معظم الأحداث فى القلعة وما تضمّة من قصور وبيوت، أما بقيها فتجرى فى الشوارع والأسواق والميادين (حيث يجلس الرواة والحكاؤون) والمساجد.. وقد دخلت المقابر إلى المجال عندما تم التضييق على الرواة ومراقبة ما يقولون.
وتبدو البيئة القاهرية فى ذلك الزمان أقرب إلى البيئة التجارية فى عمومها، وإن كانت تضم أصحاب المهن والحرف المتواضعة، وهذه البيئة هى التى تنبت فيها الشخصيات الإيجابية بحكم أنها ألقرب إلى التأثر بما يقوله شهريار ويسلكه، حيث تنعكس عليها قراراته قبل أن تنعكس على غيرهم، فهى على كل حال تمثل ما يعرف الآن بالطبقة الوسطى التى تُعد عماد المجتمع وأساسه الفعال، ,على جانب ذلك فهى عنصر رئيسى من ناصر الصراع الروائى تدفعة إلى الذروة، وتتحكم فى نهاياته.
أما الزمن الروائى فى "زهرة الصباح" فيبدو متدفّقاً أفقياً فى تتابع مسلسل، ولكنه يعود إلى الوراء فى أحيان كثيرة ويتجاوز الفترة الزمنية الروائية التى تمتد إلى ما بعد "ألف ليلة وليلة"، وذلك عن طريق الراوى أو الاسترجاع، فالراوى يملك قدرة واسعة على عبور المكان والزمان من خلال الحكايات الشعبية والتاريخية والأسطورية العديدة، فيمكنه مثلاً أن يعود مئات السنين ليتحدث عن الهلالية والزناتى وسيف بن يزن، وعنترة وكليب، وبذا ينفسح الزمان وتتّضح آفاق جديدة، ورؤًى مختلفة تعطى للزمن الحقيقى طماً متميزاً، وتكسر رتابة السرد الروائى، خاصة وأن الحكايات تأتى ـ كما سبق القول ـ لتوازى الأحداث الروائية فى السرد، ولنتأمل مثلاً، مايقوله الروائى فى بداية الليلة الخامسة بعد التسعمئة :
قال الراوى عن الصحصاح بن جندية، فى سيرة "ذات الهمّة" :
ـ لو عاش فى عصر عنترة، لجعله من رجاله، ولغدا عنترة بن شداد من غلمانه..
وقالت زهرة الصباح للجارية نسيم :
ـ ماذا لو بدَّلتِ اسمك إلى عُنيترة؟
قالت نسيم:
ـ وأنى لى أن أصل إلى عُنيترة! لقد قادت أخوتها بعد وفاة أبيها!
استطردت فى دلال
ـ أليس "نسيم" أجمل وأرقّ؟
قال زهرة الصباح:
ـ لكن عُنيترة صارت ـ بعد إسلامها ـ واحدة من المسلمين الغزاة الأوائل!
ويقوم الاسترجاع بالعودة إلى تاريخ الشخوص وسيرتهم الذاتية، أو إلقاء الضوء على الأحداث الروائية، كما نرى فى سيرة "عبد الملك المتبولى" وهو يقارن بين ما انتهى إليه من مكانةٍ وجاه عند شهريار، وكيف بدأت حياته منذ زمان بعيد:
"الرحلة طويلة، منذ أن أنهى حفظ القرآن فى الكتاب، وجلس إلى إمام المغاربة فى عموده بالجامع الأزهر، ثلاث سنوات وأربعة أشهر، أفادته حياة المجاورين، اختلاف المشارب والاتجاهات، والمناطق التى قدموا منها، دلّ على متأمرين فى طائفة البهرة، جعلوا من جامع الأقمر وكراً لنسج مؤامراتهم، بلغ شهريار ما له، فطلب استدعاءه، أدناه منه، وسأله عن اسمه وبلدته وأحواله، خلع عليه، وأمر بإلحاقة فى طباق القلعة"
ثمة ملمح آخر فى الزمن الروائى فى "زهرة الصباح" هو انتماء اللغة إلى زمن الرواية الأصلى، فى العصر المملوكى، وكثيراً ما نجد معجم هذا العصر حاضراً فى عملية القصّ والوصف، بحيث يتشكل أمامنا العصر القديم بملامحه وأحداثه، ولنتأمل هذه العبارة مثلاً:
"قضت زهرة الصباح وأمهّا اليوم كلّه عند جدتها فى المغربلين، جرى فى القصر تطويش خمسة من العبيد السود، ليقوموا بحراسة حريم القصر، وخِدْمتهنّ، مع أنّ التطويش كان يجرى فى مداراةٍ داخل السراديب السفليّة،فإنّ عبد الملك المتبولى كان يشدَّ على الأم والابنة فتغادران القصر" .
و "التطويش" يعنى إخصاء الذكور بما يجعلهم غير قادرين على ممارسة الحياة الجنسية، مما يؤهلهم إلى خدمة النساء فى قصور السادة والحكام دون خوفٍ عليهنّ، وكان التطويش سائداً فى الفترة المملوكية وما بعدها، حتى انتهى بإلغاء الرق فى القرن الماضى تقريباً.
يمكن القول: إنّ لغة الرواية لغة تاريخيّة أو زمنيّة، تنتمى إلى التاريخ، وإن كتبت بصياغة العصر، وبذا يحقق الكاتب تناغماً ملحوظاً بين الأحداث والبيئة واللغة جميعاً فى إطاؤ تاريخىّ يتحدث عن عصرنا بصورةٍ ما.
(يتبع)
-
(القسم الثالث)
4. ابطال الرواية.. والتغيير.
تحفل "زهرة الصباح" بكثيرٍ من الأشخاص، لدرجة يصعب معها تحديد الشخصية الرئيسية التى يمكن أن نتوقف عندها، فلا شهريار، ولا شهرزاد، ولا دنيا زاد، ولا عبد الملك المتبولى، ولا ابنته زهرة الصباح، ولا غيرهم، يمكن أن ينفصل فى دورة عن الآخر، وخاصّةً أن بعضَهم الواقعىَّ يقوم بدور موازى لبعضهم التاريخى (أو المستدعى تاريخياً) أيضاً فإنّ أرباب الحرف والمهن والتجار يقومون بدور رئيسى فى أحداث الرواية، وكأن الكاتب جعل منهم شخصية قائمة بذاتها فى مواجهة شهريار، وسكان القلعة، كذلك فإن هنالك نوعية أخرى من الشخصيات مجهولة الأسم والملامح تقوم بدور الرواة الذين يقصّون الحكايات الشعبية على العامة، فى صورة موازية لأحداث الرواية الواقعية، وهؤلاء يمثلون نوعاً من المقاومة يزعج شهريار وأتباعه، لأن قصصهم تشير إلى ما يجرى فى القلعة وتُعلَّق عليه، ولعل الرواية أرادت أن ترمز بهم إلى نوع من المثقفين يختلف عن عبد الملك المتبولى مساعد شهريار، ويملك فى الوقت نفسة القدرة على العمل الإيجابى مهما كان الحصار شديداً والمقاومة دائمة، أمّا من يفتقر إلى الفعل الإيجابى أو الصدق فيما يقول، فإن الناس ينفضون من حوله بل ينقضون عليه، وهو ما حدث عندما خاض الراوى فى حارة الجودرية، فيما لا صلة له بقصص العرب، وحكايات الأيام الغابرة، وأخترع حكايات أخرى تخدم المتبولى وأعوانه.
ومع ذلك، فإن الكاتب قد أعتنى ببعض الشخصيات على وجه خاص، ورسمها بصورة معينة لتمثل حالةً ما، أو نموذجاً ما، يشارك فى الآداء الروائى المشترك.
أول هذه الشخصيات بالطبع "شهريار" وقد جعلته الرواية شخصية متحولة، حيّة، نطالع أعماقها، ونقرأ أفكارها، ونشاهد عملية تغيّرها على يد شهرزاد، من إنسان قاسٍ متوحشاً، يجد لذة فى اإنتقام ومتعة فى القتل، إلى شخصية أخرى تسعى إلى العدل وأحترام آدمية الإنسان والحفاظ على كرامتهم.
وفى البداية تطرح الرواية أسباب شهوة "شهريار" للانتقام وقسوته فى معاملة الناس، فتخبرنا أن الخيانة الزوجية كانت سبب كرهه للمرأة، وانتقامه من النساء، وقتله لكل فتاة بعد أن يدخل بها، ويبدو حين يطلب عروس اليوم التالى إنساناً آخر غير الذى كان أمس، إنّ شهريار يبدو شخصية مزدوجة، وخاصةً حين يجتمع إلى شهرزاد ويستمع إلى قصصها فينسى وحشيته، ويتحول إلى إنسان رقيق، وكأنه لم يأمر بالقتل أبداً! بل أنه إنسان محب للثقافة والمعرفة، ولعل حبه هذا اتضح بعد تأثير شهرزاد عليه، فقد أمر بإعادة تأسيس مكتبة لقصر، وتزويدها بما تحتاجه من الكتب بعد أن عانت طويلاً من الإهمال ونهب الخدم والحراس معظم ما فيها، وخصص المكافآت لمن يزوّد بما فى حوزته من نفائس المخطوطات وكتب القدامى والمحدثين،وعين للمكتبة خُزّاناً وخَدماً وفراشين، ووفر ما يحتاج إليه النساخ والمطالعون من الأقلام والمحابر والورق، وأمر النساخ أن يكتبوا بعض المؤلفات القيمة بماء الذهب، وغير ذلك من مظاهر العناية بالمكتبة ورعاية القراء والاهتمام بالعلماء والأدباء والشعراء..
تصور الرواية شهرذاد وقد غيرت شهريار حتى زهد فى الدنيا، وندم على ما فرط فى قتل النساء والبنات، وتوبته إلى الله عن ممارسة الظلم، مما حداها على أن تُعلَّ على حديث له بأنّ طبيعته تختلف عما يظهره، ثمَّ تظفر شهرزاد بالعفو والحياه، لأنه رآها عفيفةً نقيّة، ومن أجل أن ترعى أولادها الثلاثة.
وبدأ شهريار مرحلة تغييرٍ شاملة فى أرجاء الدولة، فغاب الخوف بعد أن غابت اليد الباطشة، وسادت العدالة والمساواة والرحمة لدرجةٍ أدهشت الناس، حيث نظروا فى البداية إلى الأمر بشئ من الريبة، ثم أطمأنوا بتوالى الأحكام الصائبة فى حكمه، وأيقنوا أن الله أذهب ما فى نفسه من مشاعر غاضبة، وشفى صدره.
لقد حققت الرواية، من خلال تغيُّر شهريار بالثقافة والفكر، صورة الحاكم/ الحلم، والإنسان/ المثال، بدلآً من أت تجعله عرضةً للعقاب على يد المظلومين الذين أوذوا، وصبوا طويلاً على القهر والكيد، وكأنها تطرح حلاً لما يعانيه الناس يتمثل فى تثقيف المسؤول وملء رأسه بالمعرفة حتى يعود إلى جادة الصواب، وإن كان هذا الحل ليس ناجحاً دائماً، فكثيراً من الطغاة كانوا من المثقفين الأذكياء، ولم تمنعهم الثقافة أو الذكاء من التوحّش وقهر العباد.
أمّا "شهرزاد" فهر رمز المرأة المثقفة الجسور، التى تواجه الخطر بصبر وإيمان، رباها أبوها الوزير "رندان" أحسن تربيّة، وعلّمها وثقّفها، فاستفادت بكل هذا فى ترويض شهريار وتحويله عن الطغيان والقتل، وكشفت عن مشاعره الإنسانية الطيبة، وأحبته، وأنجبت منه، وافتدت أختيها "دنيا زاد" و"زهرة الصباح" وبقية بنات جنسها، ومثلت "الفتاة القدوة" للأخريات وخاصةً "زهرة الصباح" التى راح أبوها يلقنها ما يصل إلى سمعه من معلومات وحكايات حتى تتسلح بها فى مواجهة شهريار حين يأتى الدور عليها.
لقد تطابقت صورة شهرزاد فى الرواية مع صورة شهرزاد فى "ألف ليلة وليلة" ولكنها هنا تحولت إلى رمز أكبر، بحكم موقعها الصعب المتأزّم الذى يجعلها بين الحياة والموت، يطلع الصباح كل يوم ويتوقع الناس أنها قتلت بيد شهريار، ولكنهم يكتشفون أنها مازالت على قيد الحياة، حتى انتصرت فى النهاية، وكأن الرواية تبشر بانتصار الشعوب وعودة السلام إلى جنباتها، وفى الوقت نفسه تؤكّد على قدرة المرأة المثقّفة فى وقت التدهور والمأساة، "من كان يتصوّر أن الحدّوتة وحدها هى التى أفلحت فى وقف مسلسل الإعدام؟! " .
وتبدو "زهرة الصباح" فى الرواية ظلاًّ واقعياً لـ "شهرزاد" أو موازياً واقعياً لها، فهى تقتفى خطاها، فى العلم والمعرفة والثقافة، وتعيش محنتها حين تنتظر دورها، بعد أن يقضى شهريار عليها، فتقوم بقصّ الحكايات عليه أملاً فى أن تطيل عمرها بعض الوقت أو تَفْلِت من مصيرها المؤلم، لذا تتحلّى بقدر من الشجاعة وحبّ الحياة فى قلب المحنة، وتوافق على الزواج سرّاً من الشابّ التاجر "سعد الداخلى"، ابن التاجر "الداخلى الملوانى" وهو من التجار المرموقين الذين حققوا أموالاً كثيرة وأقتنوا الدوابّ والأراضى فى الريف، ويحرص دائماً على أن يرعى الله فى كل أعماله والتمسك بأحكام الدين، ويبتعد عن أهل الخلاعة والفسوق، ومن أجل "زهرة الصباح" قَبِلَ أن يكون مجرّدَ خادم فى قصر المتولى والدها، حتى لا يكتشف أمره، وتعيش معه "زهرة الصباح" حياةً يظلَّها الخوفُ وعدم الأمان، وكأنها تحتمى بالزواج ممّا تتوقعه وتراه! بيد أن نجاح شهرزاد فى تغيير شهريار، يحقق لها أمان كما حققه لبنات جنسها وأبناء جنسها جميعاً.
وكما بدت "زهرة الصباح ظلاً موازياً لشهرزاد، فإنّ عبد الملك المتبولى والدها، يبدو كذلك ظلاً موازياً لشهريار مع الفارق بين الرجلين، فإذا كان شهريار يهوى الزواج بالفتيات ثمّ يقتلهنّ، فإن المتبولى يحب ابنته ويحرص بكل السبل على أن تبقى حيّةً ولا تتعرّض لمصير الأخريات، ويجمع الرجلين، بعدئذ وقبله، التصرف بقسوةٍ ووحشية وقمع العباد، وإن استطاعت شهرزاد أن تغيّرهما بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة، فينتهى الأول إلى إقامة العدل، ويتحول الثانى إلى زاهد فى الدنيا مذهول كأنه نسى نفسه والناس!
ومع تضخّم الرواية بالشخصيّات، خاصّةً الجوارى والعبيد والضحايا، فإن هناك بعض الشخصيات الثانوية المهمة، لأنها تقوم بالتوصيل أو التواصل بين الشخصيات الرئيسية، وتلقى الضوء على سلوكها وفكرها، وخاصّةً فى الأماكن المغلقة أو المستعصية على العامّة،وأولها "القلعة" وقصورها وغرفها، ويمكن أن تُعدّ الدلاّلة "حمدونة" أو الجارية "نجوى" من الأمثلة الدالة على ذلك، أيضاً فإن بعض هذه الشخصيات تمثل الآداه الفاعلة أو التى لا بد منها مثل شخصية "مسرور" السيّاف، الذى يتحرّق شوقاً فى كل آن لتنفيذ أوامر سيده بقطع الرؤوس على النطع، وهو هائل القامة، أسود البشرة، يغطّى الشعر الأكرت رأسه إلى الأذنين، وأهم ما يميز سحنته شفتان غليظتان كأنهما منفصلتان عن بقية الوجه، وقد جعلته شهرزاد يقضى شهوراً دون أن يؤدى واجبة اليومى المتمثل فى الإطاحة برأس الفتاة التى تُزف إلى شهريار.
وتقدّم الرواية نماذج عديدة للضحايا، وإن كانت لم تتوقف أمامهم كثيراً ولعل ذلك يرجع إلى كثرتهم، مثل: "معروف خضر" و "بهاء زينهم" و "عقيل البابلى" و "طاهر العجمى" و "جعفر الوزان" وغيرهم.وواضحّ أن كثرة الشخوص فى الرواية تبير عن طبيعتها التى تعالج قضية عامة تهم جميع الأفراد فى المجتمع، لذا جاء بعضها جاهزاً ومرسوماً من الخارج، باستثناء الشخصيات الرئيسية فى أثناء القراءة من الداخل أو الخارج معاً، كما يتبدّى فى شهريار "شهريار" وظلة الموازى عبد الملك المتولى، وشهرزاد وظلها الموزاى زهرة الصباح.
5. لغة تاريخية.. فى سياق عصرى :
تتميز الصياغة لدى محمد جبريل بخصائص مشتركة، تكاد تنسحب على معظم رواياته، فهمو حريص على أن تبدو الجملة الروائية قصيرة وبسيطة قدر الإمكان، كما يحرص على إسقاط أدوات الربط بين الجمل تبعاً لذلك، ولعل هذا يعود إلى تأثره بلغة الصحافة التى تحرص على الإيجاز، ومن علائمه تقصير الجلة من حيث التركيب وإسقاط الرورابط، ولكت لغته فى مجموعها ـ كما قلت فى مناسبة أخرى ـ نقيّة، وبعيدة عن الترهلّ والمفردات الزائدة.
الجديد، هنا، هو استخدام اللغة التاريخية الملائمة للإطار التاريخى فى الرواية، ولا نعنى باللغة التاريخية أنها لغة قديمة سادت فى هذا الزمان الذى جرت فيه أحداث الرواية، ولكنها تستخدم مفردات المعجم الذى يشير إلى تاريخية اللغة فى سياق عصرىّ، وقد أشرنا إلى فى الفقرة الرابعة، فمفردات العادات والتقاليد والمسميات والتقسيمات الإدارية والوظائف والرتب والألقاب.. الخ، كلها نجدها ائمة فى لغة السرد الروائى، يذكر الكاتب بدقةبل أنه يأتى أحياناً بفقرات مسجوعة على غرار الأسلوب المسجوع الذى كان شائعاً فى ذلك العصر، ولنقرأ، مثلاً الفقرة التاريخية التى تصف "مريم الزنّارية" مع ما فيها من طرافةٍ عصرية أحياناً:
"كأنها فضّة نقيّة، أو بلطية من فسقيّة، أو غزالة من بريّة، بوجةٍ يُخجل الشمس المضيئة، وعيونٍ بابلية، ونهودٍ عاجية، وأسنان لؤلؤيّة، وبطن خماسية، وأعطاف مطويّة، وسيقان كأطراف ليّة، كاملة الحسن والجمال، ورشيقة القدّ والإعتدال.." .
بيد أنّ الرواية تحرص على أن تقد ذلك العصر من خلال وصفٍ حرّ ينقلنا إليه وإلى معالمه، تأمّل، مثلاً، وصف مسيرة أحدِ المواكب التى أشتهر بها :
"سار الموكب من حىّ الطبّالة، على الجسر الطويل بين بركة الرطلى والخليج الناصرى، فى المقدمة حملة المشاعل، ثمّ المئات من فرس الديلم، يرتدون الثياب الموشاة بالقصب، ويحملون الحراب، ثم حملة العصىّ، يتقاذفونها فى الهواء، فراكبوا الجمال، يضربون كؤوساً معدنية، وركب الآلتية ظهور الحمير، يضربون على الطبل، أو يعزفون على آلات النفخ، يتبعهم الصُّحبجيّة وأولاد عبد السلام، بثيابهم الواسعة، الملوّنة المزركشة، يتقدمون ويحيطون بالهودج، الذى جلست "شهرزاد" فى داخله، تنثر عليه خائف الذهب والفضة ".
والأمر يسير على هذا النحو فى وصف الأماكن والمجالس والقصور، بما يتلاءم مع الصورة التاريخية التى تنبض بالحياة من خلال اللغة الحية أيضاً، فإنّ الحوار ينطبق عليه ما ينطبق على الوصف، وتعبّر اللغة عن دلالاتٍتاريخية خاصةً بذلك العصر، وأنماط السلوك فيه، فضلاً عن الحوار فى البناء الروائى وقيامه بدوره ى عملية الكشف والنفسير والشرح، وربط الحاضر بالماضى، وتوقع الأحداث الآتية، مثلاًُ، أن نقتطف الجزء التالى من الحوار الذى دار بين زهرة الصباح وزوجها سعد الداخلى، حيث كان يتهيّأ للخروج من البيت وهى تبدى إشفاقها عليه:
ـ أظلّ فى خوف عليك، منذ خروجك من البيت، حتى عودتك إليه!
تلاعب بأصابعه شأن المتحيّر:
ـ جعلنى أبوك خادماً فى قصره.. لكننى كذلك أشرف على أعمال أبى.
فوّتت المعنى:
ـ وبماذا تقدّم نفسك للمحتسب؟
وهو ينزع الشارب الأسود من فوق شاربه المائل للاصفرار:
ـ كما تعلمين.. أغادر القصر متخفيّاً، وأعود إليه متخفيّاً..
استطرد وهو يتهيأ لاحتضانها:
ـ أنا عند أبى مشرف على أعماله. أما هنا، فأنى سعيد بأن أكون خادماً لمحبوبتى الجميلة.
وكما نرى، فإنّ الحوار، مع كفه لطبيعة العلاقة بين الزوجين، وظروف الزوج الذى يتخفى للوصول إلى زوجته، بالإضافة إلى التعريف بطبية عمله، فإنه يشير إلى الوظيفة التاريخية الهامة التى كانت سائدة فى عصر الرواية وهى وظيفة المحتسب، وكانت مهمّته مراقبة الأسواق، والآداب العامة، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، من خلال مساعديه الذين يختارهم من بين المؤهلين لهذه المهمّة.
وعلى هذا النحو يمضى الحوار فى المواضيع الأخرى حاملاً الدلالة التاريخية، وقائماً بمهمّة الكشف والإيضاح، تؤازره فى ذلك عملية تضمينٍ واسعةُ النطاق تعتمد عليها الرواية، ويتنوع التضمين ـ الذى ينتمى إلى الموروث ـ ما بين موّال، وحكايةٍ شعبية، وأسطورة، وإن كان الموّال أكثرها حضوراً من حيث الإبقاء على صيغته الأصلية.. أما الحكاية أو الأسطورة فقد تتعدّل صياغتها اللغوية لتكون أقرب إلى القارئ المعاصر..
إنّ الموّال، وهو صورة من صور الزَّجَل، يبدو أقرب إلى روح الشعب ووجدانه، فضلاً عن لهجته الدارجة القريبة من الفصحى، وقد أكثرت الرواية من تضمينه بحكم تسجيلة لأحزان الناس ومعاناتها فى واقعها وحياتها، فاهتمّ به الرُّواة الذين يقصّون الحكايات الشعبية فى المقاهى والميادين والحارات، واستدعته الرواية، ليؤكّد على اللغة التاريخية، ويتوازى مع الأحداث ودلالاتها، لذا نجد بعض فصول الرواية تقتصر على موّالٍ واحد فقط، لتكثف من دلالته، ولتؤكد على الأمل فى النجاة وعبور المحن، ولو بالموت، ففى الليلة الثامنة بعد الثلاثمئة مثلاً، يقول الراوى:
الـدنـيـا غـازيـّة مـا داِمـتْش للـنّاس ولا لـيـّهْ
ولا دامِتْش لمصرى ولا للرُّومى اللى نشا سور اسكندريّهْ
ولا دامتش لسيدنا داود اللى فتل الحديد، ولان لما بقى مَيّهْ
ولا دامتش لـسيـدنا سليمان اللى طاعـه الإنس والجنيّهْ
ولا دامـت لسيف اليزل اللى سعى وجـاب كـتاب المِيّهْ
ولا دامتش لأبو زيـد وديـاب أيـام حـروب الهلاليّةْ
والموّال هنا هو كلّ الفصل الروائى، واعترض المجال السردى ليؤكد على حقيقة الموت التى تطال الجميع بلا تفرقة ولا تمييز، وكأنّ الرواية بهذا الفصل الموّال، تؤكد مسبقاً على مصير شهريار المحتوم مهمه علا فى الأرض وجعل أهلها شِيَعاً.
ولا يقتصر التضمين بالموًال على هذا الفصل، ولكنه يتكرّر فى مواضع أخرى تشى بالحزن والألم، ولعلّ أكثرها توفيقاً الليلة الثامنة والثلاثون بعد الثمانمئة، حيث أنشد الراوى موّالاً، منه هذه الأبيات:
وكـلً سـاعَهْ نقـولْ بكرَهْ حا تتعدّلْ
ومهما نسعى نـلاقى الـزهر بَـهْدلْنا
ظـروفنا هيّـه كِـدَهْ حلفتْ ما تتعدّلْ
مـا دام معاهْ حَـظّ.. أحـوالُه بتتعدّلْ
وصاحب العقل فى الدنيا عايشْ مظلوم
والتضمين بالحكاية الشعبية قد يشمل القصة كاملةٍ، مثل حكاية القديس الذى ذبح الوحش وانتصر عليه، كما فى الليلة التاسعة بعد الأربعمئة، أو إشارات تستدعى الشخصية الشعبية مع ملمح من قصتها، كما نرى فى استدعاء عنترة وكليب والهلالية وغيرهم على مدى صفحات الرواية، ممّا يعطى المذاق التاريخى للرواية بعامّةٍ وللغتها على نحوٍ خاصّ.. وإن كان الحصاد فى النهاية عصرياً وقائماً بالقرب منا.
6. رواية الحلم بالنجاة:
وبعد..
فإن "زهرة الصباح" حلقة جديدة من حلقات البحث عن الأمل، والحلم بالنجاة من خلال إقامة العدالة والمساواة والرحمة، ورفض الشرّ والقسوة والانتقام الأعمى، ليعيش الناس فى أمن سلام وطمأنينة.
-
قضية التماثيل .. ووطن الأماثيل!
بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود
..................................
كتب مكرم محمد أحمد في الأهرام يوم الثلاثاء الماضي 4- 4- 2006م ؛ مقالا حول موقف مدير الجامعة الأميركية بالقاهرة ، من مواد الثقافة العربية التي قرر المدير إلغاءها من مقررات الدراسة بالجامعة ، وهي المواد المتفق عليها في " بروتوكول " بين الحكومتين المصرية والأميركية . ولم يستجب المدير لمناشدات الأساتذة والطلاب بالإبقاء على مواد الثقافة العربية مع هامشيتها وبساطتها ، وتخلى عن منهج الجامعة الذي يقوم على الحوار والتفاهم ..
واضح أن السيد مدير الجامعة الأميركية يتحرك وفقا لسياسة بلاده الصليبية الاستعمارية التي أعلنت الحرب على الإسلام ( وليس الإرهاب لأنها أول من صنعه ورباه وغذاه) ، وراحت بالصلافة والعجرفة تأمر الحكومات العربية والإسلامية بإلغاء الإسلام من إعلامها وتعليمها ، وثقافتها وفكرها ، تحت مسمى تغيير الخطاب الديني .. ولم تعبأ أميركا الصليبية الاستعمارية – وهى التي لا تتمسك بقيم المسيحية ولا تعاليم المسيح – بأية قواعد قانونية أو مواثيق دولية في حق الدول المختلفة في المحافظة على ثقافتها وهويتها ، ومن ثم جاء قرار مدير الجامعة الأميركية ، صادما للأمة بوقاحته واستفزازه وعنصريته..
هذا الحدث الجلل الذي يعبر عن هوان الأمة على نفسها ، لم يستوقف كتاب المار ينز في بلادنا ، ولكنهم هاجوا وماجوا لأن فضيلة المفتي أصدر فتوى تحرم التماثيل ، وتطوّح بعضهم في حلقة الذكر " الاستعماري" تعبيرا عن كراهيته للإسلام وثقافته، وراح يصف المفتي بممالأة السلفية ، والانتماء إلى طالبان ، ووصل الأمر بواحدة من إياهن إلى المطالبة أن يغلق شيخ الأزهر والمفتي فمهما ، ولا يتكلمان بل لا ينطقان بأية فتوى طالما هناك قانون ودستور يحكمان البلاد !
كتاب المار ينز موتورون من الإسلام وثقافته ، يتعاملون مع شرائع الأرض والسماء بود وتسامح ما عدا الإسلام . يعلموننا ليل ونهار أن الغرب ليس واحدا ، وأن اليهود الغزاة ليسوا واحدا ، ولكنهم يضعون الإسلاميين جميعا في تصنيف واحد، يطلقون عليه كل ما يحمله القاموس اللغوي من معان سلبية وشريرة ورديئة وبذيئة .
قبل فترة رفض الأنبا شنودة تزويج المطلقات والمطلقين من النصارى الذين تحكم المحاكم بانفصالهم ، لأن ذلك في رأيه مخالف للإنجيل ، ولم ينبس واحد من كتاب المار ينز ببنت شفة ، ولا أظنه يستطيع .. لسبب واحد ، وهو أن غير المسلمين يحمون شرائعهم ،ويستطيعون الرد المؤلم والموجع على من يتعرض لها . أما الإسلام فهو الحائط الواطئ الذي يقفز عليه كل سفيه وعميل وبائس دون أن يخسر شيئا ،أو يتأثر بشيء !
وكنا نتصور أن كتاب المار ينز – ومعظمهم من اليسار المتأمرك ومرتزقة النظام – يمكن أن يكون لديهم حد أدنى من الخجل والحياء ، فيوجهون أقلامهم إلى معالجة القضايا الحيوية التي يضج الناس منها على المستويات المختلفة كافة .. ولكنهم للأسف لا يستطيعون مواجهتها مواجهة جادة ومخلصة وصادقة . فهم يعملون لحساب من صنعوا مشكلات الوطن ومن فاقموا من أزمته ومتاعبه وآلامه.. والعبد لا يستطيع أن يرفع رأسه في وجه سيده.
لقد أصبحنا أمثولة بين أمم العالم في التخلف والعجز وقبول الذل والاستسلام لما يفعله الآخرون بنا ، وصرنا نخرج من مأزق إلى آخر ، ومن محنة إلى أخري ، وانظروا ما ذا جرى لنا على مدى شهرين فقط: موت ألف مصري في عبارة الرجل المحصّن- كارثة الطيور التي أذهبت الثروة الداجنة وأوقفت حال الناس وحرمت الفقراء من طعم اللحوم – اشتداد الغلاء وكان السكر في مقدمة السلع والتليفونات في مقدمة الخدمات ، ولن يكون الوقود الذي أعلنوا عن قرب رفع أسعاره آخر السلع ، لأنه سيشعل الأسعار تلقائيا – امتداد طابور البطالة – تبديد أموال الدولة في المظهريات وإنفاق المليارات فيما لا يفيد وفقا للجهاز المركزي للمحاسبات ...
القوم لم يتوقف سعارهم المحموم في حملتهم على فتوى المفتي بسبب التماثيل ، ولكنهم تجاهلوا ما يعانيه المصريون من قهر واستبداد ونظام فاسد ينتفش فيه الفاسدون والمنافقون ويستأسدون ..
إننا نتساءل : هل يأخذ كتاب المار ينز بكل الفتاوى في الأمور الإسلامية أساسا ؟ إن بعضهم لا يفيق من الخمر ، وبعضهم لم يركع ركعة واحدة .. وبعضهم لا يقبل أن يعطي فقيرا قرشا واحدا بدعوى أن الدولة مسئولة عنه، وبعضهم لا يهتز ضميره وهو يمارس الرذيلة أو يأخذ ما ليس له من أموال المسلمين .
لقد صرنا أمثولة الأمم .. بل أماثيل في سياستنا واقتصادنا وثقافتنا وواقعنا وأخلاقنا وحاضرنا ومستقبلنا .. ومع ذلك فالقوم مشغولون بقضية التماثيل التي أثاروها في العام الماضي ، وصنعوا من أجلها مناحة ملأت الدنيا لأن رئيس حي أو مدينة لم يضع تماثيل لآلهتهم المزعومة في إحدى الحدائق ..
ويا وطن الأماثيل .. لابد من فجر جديد.
-
عبدالمنعم سليم جبارة.. رجل لا يحبّ الضجيج
بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
.................................
كنت كلما دخلت عليه مكتبه أداعبه بالآية الكريمة، "ومزاجه من تسنيم" (المطففين/27).. وكان يبتسم ابتسامة هادئة، ولكنها تعبِّر عن فرح عميق، فقد رزق بفتاة سماها "تسنيم" بعد ولد سماه "زياد". كان اسم "تسنيم" نادراً، ولكنه اسم قرآني جميل، صارت صاحبته اليوم عروساً في الدراسات العليا بعد أن تجاوزت العشرين.
مرَّ الزمان سريعاً مذ قابلته لأول مرة في مقر مجلة "الدعوة" بالتوفيقية عام 1976م، كان هادئ السمت، قليل الكلام، يهتم بما هو مفيد، لا يحفل بالثرثرة، ولا يبدي انفعالاً، ولكنه يتجه نحو العمل، العمل فقط، وحوله كوكبة من الشباب، صاروا اليوم مبرزين في أعمالهم، "صلاح عبدالمقصود"، وكيل نقابة الصحفيين، "بدر محمد بدر" مدير تحرير "آفاق عربية"، "أحمد عز الدين"، مدير تحرير "المجتمع"، وغير هؤلاء من جيلهم والجيل التالي بعدهم أعداد أخرى حققت نجاحات في ميدان عملها الصحفي والثقافي والفكري، تعلمت من "عبدالمنعم سليم جبارة" وعملت معه.
تعرفت إليه بواسطة صديقي الراحل "جابر رزق"، وكانا يديران مجلة "الدعوة" في ظل الأستاذ "عمر التلمساني" والأستاذ "صالح عشماوي" ـ رحم الله الجميع ـ وكانت "الدعوة" آنئذٍ تصدر شهرية، وتغطي مع مجلة "الاعتصام" التي كنت محرراً بها نشاط الحركة الإسلامية، وتعبِّران معاً عن رؤية إسلامية لأحداث تلك الفترة التي أعقبت حرب رمضان، والإفراج عن المعتقلين من التيار الإسلامي، والسماح بهامش من الحرية التعبيرية.. كان لي شرف الكتابة في الدعوة، وخاصة بعد إعلان مبادرة الرئيس الراحل "أنور السادات" بزيارة القدس المحتلة، والتفاوض مع الكيان الغازي اليهودي الغاصب في فلسطين المحتلة.
توطدت معرفتي بعبدالمنعم سليم جبارة بعد ذلك، وكان هناك مفارقة طريفة، وهي أننا تزوجنا في عام واحد (عام1 978)، ثم تعاونت معه فيما بعد حين أعيد إصدار مجلة "لواء الإسلام" التي صار رئيساً لتحريرها، وكنت أتولى تحرير القسم الأدبي فيها، حتى سافرت إلى العمل بالخارج، وجاءت حرب الخليج الثانية (احتلال الكويت من جانب العراق)، فأغلقت "لواء الإسلام" تحت ضغط الأحداث ومضاعفاتها، فلم أقابله إلا لماماً، ولكني كنت أتابع مقالاته المستمرة والدؤوب في العديد من المجلات والصحف: "المجتمع، الأحرار، الشعب، الحقيقة، آفاق عربية، وغيرها". وكان فيما يكتبه ملتزماً بالرؤية الإسلامية النقية التي لا تتأثر بالدعاية السائدة، ولا تنخدع بالأقوال التي تصدر عن خصوم الإسلام، كان يرى الأشياء كما يوجب الإسلام أن تُرى، لا كما يريد الآخرون أن نراها. ثم إنه يصوغها في عبارات علمية دقيقة بعيدة عن الانفعال العاطفي أو الهجاء السياسي.. فقد كان يرصد ما يراه، ثم يبدي رؤيته الإسلامية في وضوح، لا يراوغ ولا يخاتل ولا ينافق، وكانت مقالاته في معظمها تتجه نحو معالجة القضية الفلسطينية ومستجداتها على الساحة السياسية والعربية، منطلقاً من فهم محدد يؤمن أنَّ الجهاد هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين واستعادة بيت المقدس.
لقد تخرج عبدالمنعم سليم جبارة في كلية الآداب، وكان تخصصه في "الجغرافيا"، وهو ما ساعده في تحليلاته السياسية على استيعاب أحوال العالم الإسلامي، بل العالم كله، فقد كانت الدنيا تحت ناظريه يعرف تضاريسها الجغرافية كما يعرف تضاريسها السياسية، ولذا جاءت كتاباته عميقة، تشير إلى وعي جاد بما يدور على خريطة العالم.
وكانت تجربته الإنسانية زاخرة وعامرة، مع قسوة بعض جوانبها ومراراته وبشاعته، فقد ولد في الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1930م لعائلة ميسورة في مركز فاقوس بمحافظة الشرقية، ومكّنه المستوى المادي المرتفع لأسرته من دخول جامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً). وانضم وهو طالب في ا لجامعة إلى جماعة الإخوان المسلمين، وشارك في عمليات الفدائيين ضد المستعمرين الإنجليز بمنطقة قناة السويس في أوائل الخمسينيات، واعتقل عام 1955 وظلَّ بالمعتقل حتى أفرج عنه عام 1974م بعد أن قضى نحو عشرين عاماً ذاق فيها مرارة السجن وبشاعة التعذيب وقسوة الظلم، وقد عبَّر "نجيب الكيلاني" ـ رحمه الله ـ عن هذه المحنة في روايته المؤثرة "رحلة إلى الله"، وكان صديقاً لعبدالمنعم سليم ورفيقاً له في السجن، بعد محاكمات 1965م، وقد أشار "نجيب الكيلاني" إلى علاقته بعبدالمنعم مذ كانا طالبين في الجامعة، الأول كان طالباً في الطب، والآخر في الآداب، وسجلها في كتابه الضخم الذي ترجم فيه لنفسه "لمحات من حياتي"، وأذكر أنني حين ذكرت له بعض الوقائع التي وردت في الكتاب، وحكاها لي نجيب شفاهة، ضحك، ولم يعلق، كعادته، وكأنه يستحي أن يشير إلى ما تعرَّض له في المعتقل، على العكس من صديقه "جابر رزق" الذي سجَّل ما جرى وحدث بصراحة بالغة، وكان الهدف منها كشف الممارسات الوحشية لبعض البشر الذين ماتت قلوبهم، وهو ما عبَّر عنه أيضاً الكاتب الراحل "مصطفى أمين" في كتابه المشهور "سنة أولى سجن" وأشار فيه إلى ما أصاب المعتقلين السياسيين من تعذيب بشع!
لقد خرج "عبدالمنعم سليم" من غياهب الظلمات وهو في الرابعة والأربعين من العمر، لم يتزوج، ودون وظيفة، فعمل في وزارة التربية والتعليم موجهاً بالتعليم الثانوي، وفي عام 1976م انضم إلى مجلة "الدعوة"، ثم أعير إلى الإمارات العربية المتحدة ليعمل في مجال التدريس، ويؤسس مع آخرين مجلة "الإصلاح"، ثم ترك الإمارات وعاد إلى مصر بعد سنوات.
الميزة الرئيسية التي تميز عبدالمنعم سليم، هي أنه لا يحب الضجيج، بمعنى أنه يريد أن يخدم دينه ودعوته إلى الله في صمت، فلا يسعى إلى الأضواء، ولا يجري وراء البريق، ولا يستشعر "الأنا" التي تعبِّر عن حب الذ ات أو النفس، إلا في مواقف التضحية والبذل، حينئذٍ يقدم نفسه وروحه، في صمت ودون ضجيج. إنَّ بعض العاملين في مجال الحركة الإسلامية والدعوة إلى الله تتسلل إليهم آفة "النرجسية" أو "حب الظهور" أو "الانتفاخ الكاذب". ولكن رجلنا كان متواضعاً، أو حريصاً على التواضع الذي يدخله في دائرة الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. هو يريد أن يقول كلمته في هدوء ثمَّ يمضي، وكأنَّه لا يريد أن يعرف أحد أنه هو الذي قال، ولعلَّ ذلك كان من وراء كتابته مئات المقالات بأسماء مستعارة، حيث كانت بعض المطبوعات تحمل له أكثر من مقالة، فيوقع بأسماء مثل: أبوزياد، أبوطارق، د. سيد الفضلي، د. أحمد عبدالحميد البنهاوي، وغيرها..
وأذكر أنَّ كاتباً يحمل اسمه ـ وهو من تيار آخر ـ احتج كتابة بأنَّ تشابه الاسمين يوقع صاحبنا في مآزق مع التيار الذي ينتمي إليه، فأضاف الراحل الكريم إلى اسمه لقب العائلة "جبّارة" دون أن يجد في ذلك غضاضة، ليفرِّق الناس بين الاسمين.
إنَّ تواضع "عبدالمنعم سليم جبّارة" في الحياة والدعوة الإسلامية، يجعله نموذجاً للداعية الإسلامي، الذي تمكن الإيمان من قلبه، فلم تشغله زخارف الدنيا ولا عرضها الزائل، وفي الوقت نفسه يقدم درساً حياً وبليغاً إلى "المغرورين" أو "السفيانيين" الذين يدورون حول أنفسهم وذواتهم، ويتناسون أنَّ الخدمة في ميدان الدعوة الإسلامية تقتضي التواضع أو إنكار الذات، ليكون عملهم خالصاً لوجه الله، وأشهد أني ما رأيت الرجل يوماً يضع نفسه في مستوى فوق مستوى المسلم البسيط الذي يرجو رحمة ربه وعونه.. مع أنه كان في مواقع تتيح له أن يتيه وينتفش ويزهو ويفاخر.. ولكنه كان ينظر إلى الآخرة متخلقاً بأخلاق الإسلام والسلف الصالح.
ولعل ذلك كان من وراء التكريم الإلهي له، وهو التكريم الذي تبدَّى عند وفاته، فقد ظلَّ واقفاً عل ى قدميه، يصلي ويتهجَّد ليلة السابع والعشرين من رمضان الماضي، وهو الليلة المباركة التي يرجح العلماء أن تكون ليلة القدر، فقد اختاره الله وهو يصلي، وتمَّ دفنه يوم الجمعة، ورأى من رافقوه إلى مثواه معالم كرامات تدل على أنَّه من المقبولين إن شاء الله.
هذا الرجل الطيب والداعية الذي ينكر نفسه، كان مثالاً للمسلم الذي يعرف القناعة والرضا بقدر الله، تقول عنه زوجته: "كان زوجي نسمة لطيفة في حياته ومماته، كان معلماً منذ أول لحظة ارتباطنا، منذ أن ارتضينا هذا الطريق نقطعه معاً إلى الجنَّة، فبدأنا بشقة صغيرة في شبرا الخيمة، ولم اشتر فستان زفاف، بل استعرت فستان أختي، وعقدنا زواجنا بمسجد صلاح الدين بالمنيل في حفل عائلي صغير، ثم فتحت علينا الدنيا أبوابها، فتدفق المال، ولكن كل هذا كان في يده لا في قلبه. لم يغيره فيض العطاء بعد طول الحرمان؛ لأنَّ قلبه قد تعلق بأمل آخر.. الجنة، رغم حياته الزاخرة لم يكن يذكر ما حدث له إطلاقاً، بل كنت أعرفه من الكتب ولا أحدثه فيه، كان يشعر بأن ما يقدمه لدعوته هو كنزه، فكان أحرص ما يكون عليه، وعلى ألا يطلع عليه أحد، فلا أذكر أنه روى لنا ما حدث معه في السجن إلا مرة واحدة، كنا نشكو من شدة الحر، فشرد ببصره قليلاً ثم قال: سبحان الله، لقد كانت تأتي على الأخوان أيام في سجن قنا نظن فيها أنَّ الموت يكاد ينالنا من شدة الحر. وإذا بالمولى عزَّ وجل يرسل ما يلطف به الجو فيخفف عنا والجنود حولنا في ذهول. وحينما كنت أرى إصابات جسده من أثر التعذيب وأسأله عنها كان ينكر بشدة ويتهرب من أسئلتي..".
وأكتفي بهذا القدر من شهادة الزوجة الصابرة، وما تضمنته من حفظه للقرآن الكريم ودأبه على قراءته وتلاوته باستمرار.. لأقول: "إنَّ عبدالمنعم سليم جبّارة" يقدم أنموذجاً لخدمة الإسلام في صمت ودون ضجيج ودون رياء أيضاً.. رحمه الله، وجعل مست قرَّه في الفردوس الأعلى.
-
لغة عصام الغزالي الشعرية
لا تستعصي على بحر أو قافية .. وتقوم على معجم إسلامي
بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
..........................................
لغة الشعر عند عصام الغزالي تتميز بالسلاسة واللين والمطاوعة، وهي مثل العجينة في يده، يشكّلها كيف يشاء، دون تكلف أو عناء، ولا تستعصي على بحر ولا قافية، وهي بصفة عامة تقوم على معجم قرآني، إسلامي يلحظه القارئ بوضوح عبر قصائده، منذ بداياته حتى الآن، وذلك يعود بالطبع إلى رؤيته الإسلامية للكون والحياة، وثقافته القائمة على الوعي بالتراث الإسلامي.. إلى جانب ثقافة التخصص التي كوَّنت حياته العلمية والعملية.
والمعجم الإسلامي يتدفق عبر المفردات والتراكيب، بل الصورة والبناء الشعري جميعاً، ويستطيع القارئ أن يطالع في معظم القصائد مفردات الطهارة والتسبيح والتوبة والتقوى والاستغفار والترتيل والصلاة والجنة والحور العين والفتوى والنور والتكبير والصبح والاغتسال والابتهال والصبر والعفة والرزق والبراءة والقضاء والشهادة والزكاة والصحابة والمنابر والبدر، والرسول { والقرآن الكريم والحرام والحلال والهلال والسلام والوضوء والكوثر والمسك والآيات والتوحيد والرق المنشور، والشفاعة والبشارة والاعتصام والفجر والصيام... إلخ.
وهذا المعجم يعطي بلا شك إشعاعاته الإسلامية في القضايا التي طرحها الشاعر عبر قصائده أو التجارب الشعرية التي يعالجها بصفة عامة، كما أنه يعطي مذاقاً خاصاً للغة الشاعر وصياغته الشعرية، يختلف بالطبع عن المعجم العادي أو المعجم المخالف الذي يلجأ إليه شعراء آخرون، لا يؤمنون بالتصور الإسلامي، أو يؤمنون به ولكنهم لا يطبقونه في تجاربهم الشعرية لسبب أو لآخر.
إن المفردة الإسلامية في القصيدة لدى عصام الغزالي تعطيها خصوصية من حيث البناء أو التركيب فضلاً عن الرؤية، ولعل قصيدته "عدالة الطين"، تعد من أفضل الأمثلة الدالة.. يقول فيها:
أقاضيكم أمام الله فاحتفظوا بحجتكم إلى حين
فلا التزيين يقنعني بموقفكم ولا التخويف يثنيني
ولا الأوراق تجعلكم على حق بأصباغ وتلوين
ولا العدل الذي أرجوه عندكم فأطلب منه تمكيني
@@@
أحاسبكم أمام الله فانتظروا سيحييكم ويحييني
ويوقفنا ويسأل وهو علاَّمٌ.. ويفصل في البراهين
@@@
أقاضيكم وحسبي اليوم أن خاصمتُ في رفق وفي لين
وحسبي الله في تأجيل مظلمتي وفي إهدار تأميني
أقاضيكم.. وحسبي الله في عجزي أمام عدالة الطين.(1)
إن القصيدة تطرح فيما يبدو مظلمة خاصة وقعت على الشاعر، ولكنها في الإطار العام تناقش قضية أوسع تتعلق بالعدالة المطلقة، والعدالة العرجاء أو العدالة الظالمة التي لا تشفي غليل المظلومين، والشاعر يعلن هنا ثقته في العدالة المطلقة التي تتم أمام الله سبحانه، ويسحب هذه الثقة من العدالة العاجزة التي يكنِّى عنها بعدالة الطين، وبين "الثقة" و"سحب الثقة"، نجد المعجم القرآني أو المعجم الإسلامي يحكم البناء الشعري، مفردة وتركيباً وتصويراً.
إن الشاعر يبدأ قصيدته بجملة "أقاضيكم أمام الله"، والظرف "أمام" يحسم المسألة ويعطينا ما نسميه بثقة الشاعر في العدالة الإلهية، وبالتالي "سحب ثقته" في العدالة الدنيوية العاجزة عن الوفاء بالحقوق. ولفظ الجلالة المضاف إليه يؤكد وجوده في التركيب على انتماء الشاعر واعتقاده، لذا فإن ثقته المطلقة في ربه تقول لخصومه "فاحتفظوا بحجتكم إلى حين"، كأنه ينبههم إلى أن العدالة الدنيوية وإن حكمت لصالحهم فلن تلغي بحال العدالة الآخروية التي تتم بين يدي الله. ثم نرى الشاعر يؤكد على ثقته بالعدل الإلهي من خلال رفض الخوف والتزييف والتزوير.. ولا "الأوراق تجعلكم على حق.."، بل إنه يكرر أن العدل الذي يرجوه ليس عند هؤلاء الدنيويين الذين يستخدمون الترهيب والترغيب.
وفي خطاب الشاعر لظالمه ما يؤكد أيضاً على إيمان واثق بالبعث والحساب الدقيق يوم الحشر، "فانتظروا سيحييكم ويحييني"، وهو إيمان واثق بأن الله علاَّم الغيوب يعلم السر وأخفى: "ويوقفنا ويسأل وهو علاَّم.." وهو إيمان واثق يدل عليه تكرار لفظ الجلالة أربع مرات، وتكرار الضمير العائد عليه أكثر من مرة، والإتيان بوصفه الدال عليه "علاَّم".. هذا الإيمان الواثق يزرع الأمل في نفس الشاعر التواقة إلى العدل الحقيقي، والرافضة للعدل الخادع الذي يصنعه التخويف والتزوير والتزييف... ومن ثمَّ، فإن مخاصمة الشاعر لظالميه في رفق ولين لا تعني أن حقه قد ضاع، وإنما سيأتي في يوم مشهود.. وفي هذه المرحلة، فإنه يكتفي بربه... "وحسبي الله في عجزي أمام عدالة الطين".
إن الإيمان الواثق بعدالة الله يختلف عن غيره من السلوكيات والمعتقدات، ولو تصورنا شاعراً غير واثق بالعدالة الإلهية، يواجه هذه المظلمة، فإن المرجح أنه سينتقم من الظالمين الذين "أهدروا تأمينه"، أو على أحسن الفروض سينخدع بتزييفهم ويستسلم لهم، وكلا الأمرين لا يتفق مع الرؤية الإسلامية.
شفافية وطهر
وفي قصائد "عصام الغزالي" معجم يفيض شفافية وطهراً، وصفاء، ولعل قصيدته "تركة تاجر مسك"(2) من خير الأمثلة على ذلك، وهي تنقلنا إلى أجواء الزهادة والطيبة، وتأمل دلالة "المسك" على رائحة من نوع خاص، ترتبط غالباً بالمسجد وروَّاده، وأذكر ونحن في زمن الطفولة البعيد، كان هناك من يأتون إلى مسجد القرية ويوزِّعون علينا عطر المسك، أو يحملون صناديق خشبية لها باب من الزجاج، تضم أنواعاً مختلفة من العطور، أبرزها المسك، يعرضونه للبيع، وكنا ونحن أطفال نمد أيدينا للبائع كي نصيب شيئاً من روائحه مجاناً، وقصيدة "تركة تاجر مسك" رثاء لراحل عزيز هو والد الشاعر، ويمكن أن تحمل دلالة رمزية دون افتعال بدءاً من مطلعها الذي يقول فيه:
يا تاجراً للمسك لا في السوق بالمال
خلَّفت ريح المسك في الذكرى وفي الآل
فارقتني والدمع في عيني محتبسٌ
لكن ريح المسك حولي أصلحت بالي
كما أن القصيدة تحمل معجماً دالاً على الشفافية والطهر والصفاء، ويتردد في جنباتها مفردات: الآيات، القرآن، البعث، المصحف، صوت الحق، التنزيل، النور، الترتيل، ظل الله، العفو، الإقبال، الربح الإلهي، الدين، الخروج من الضيق، المحراب، بيت العلم والقرآن، فضلاً عن العطر والمسك وحاملهما... وتأتي أهمية هذا المعجم من أن الشاعر يطرح من خلاله مفارقة التركة التي تشمل متاعاً دنيوياً، والتركة التي تحمل ميراثاً من القيم والمثل العليا، فضلاً عن الدين، وهذا ما تركه الراحل العزيز:
يا حافظ التنزيل في صدر وفي شفة
يرقى بك الترتيل من حال إلى حال
والنور حول الوجه من رفق ومن دعة
والظل ظل الله من عفو وإقبال
خلّفت ما خلَّفت من دين وتربية
أحن على الأبناء من عمٍّ ومن خال
أغنيت من قدَّرت أن الله مخرجهم
من كل ضيق نالهم من غير إذلال
يا تاجراً للمسك إرث المسك ثروتنا
تربو مع الإنفاق من علم ومن مال
ثراء لغوى
وتبرز أهمية المعجم الإسلامي في الشعر هذه الفترة خاصة، حين نعلم أن المنشور على الساحة الأدبية أو معظمه، يبدو بعيداً عن هذا المعجم، بل معادياً له، بل معادياً للذوق العام، ولست في حل الآن من إيراد نماذج له، ولكن الشاعر مع اهتمامه بالمعجم الإسلامي في الإطار الشامل، يستفيد بالمعجم الشعبي والمعجم العلمي، وكلاهما ليس نقيضاً للمعجم الإسلامي، بل داعم له، وصانع مزيداً من الثراء اللغوي والشعري.. ويلاحظ أن كمية المستخدم من المعجمين تبدو قليلة..
ويبدو المعجم الشعبي في أفضل استعمالاته مقروناً بالحديث عن الوطن، والتعبير عن حبه، وتظهر مفردات وتركيبات "ترعة الكفر"، وروضة التوت" و"حظيرة الدواجن"، و"الشطوط"، و"الطبلية"، و"القلة"، و"الموت في الوطن".. عبر قصيدته "مصر 1970م"(3) لتقدم نوعاً من المقاومة في وجه الهزيمة والضياع السائدين في تلك الفترة، يقول الشاعر:
أنا فيك يا بلدي أموت.. فلا أموت ولا العشيرة
أنا من ترابك زهرة مالت عليه لكي تنيره
@@@
أنا ترعة الكفر العجوز وهامة البرج الشهيرة
وأنا المآذن والنخيل ودوحة التوت الكبيرة
أنا حين تجمع أسرة "طبلية" عند الظهيرة
أنا في تماثل من يخفُّ إذا القلوب أتت سريره
في "قلة" الماء التي يطفي الظميّ بها الهجيرة
أنا في عيون هريرة.. وعطاء سنبلة فطيرة
أنا مصر تشرق في ابتسامة طفلتي ذات الضفيرة
إن المعجم الشعبي يشير إلى تجذّر الانتماء الوطني، وتداخله في النسيج الشعوري، لدى الشاعر، فالمفردة الشعبية ليست مجرد ديكور يزين به أبياته، ولكنها دلالة على عمق نفسي وروحي يربط ما بين الشاعر والوطن.. تأمل "قلة الماء" التي يستخدمها المصريون، وخاصة في القرى، لتبريد ماء الشرب منذ آلاف السنين، ودلالتها في التعبير عن خصوصية الوطن، تجد أنها نقلت القصيدة مع مثيلاتها من المفردات والتركيبات الشعبية من تعبير مجرد إلى تمازج واندماج بين الوطن والمواطن، أو بين الشاعر والوطن.
مفردات عصرية
أما المعجم العلمي أو العصري، فقد ورد في قصيدة واحدة يحمل عنوانها دلالة علمية عصرية أيضاً، وهو "سوق اللدائن"(4)، واللدائن هي المصنوعات البلاستيكية التي ظهرت في عصرنا، وهي مرادف لمفردات شتى، مثل التضخم والأشعة والكهرباء والشرائط والمعارض والسرعة والأضواء، والشاعر يستخدم المفردات العلمية أو العصرية للمقارنة بين نوعين من القيم.. قيم الخير وقيم الشر، والقصيدة في مجملها إدانة للعصر وتقلباته التي تكون غالباً ضد الإنسان، يقول في مطلعها:
يا عصر فلسفة "البلستك" والغثاء
من لي بعودة فلسفات الأقوياء؟
عصر التضخم، والصراخ، طغى على
القيم الجميلة ضاحكاً في كبرياء
عصر اللدائن، والأشعة، والجنون
والانتحار تقدماً، والكهرباء
هل عالم هذا الذي أحيا به
أم غابة الإنسان: حقد واعتداء؟
وإذا كانت "سوق اللدائن" تحمل دلالة عصرية، فإن العديد من عناوين قصائد عصام الغزالي تحمل الدلالة ذاتها، ويكفي أن نطالع مثل هذه العناوين في مجموعة شعرية واحدة من مجموعاته: رقص بالقنبلة، أوراق اعتماد، شد الرحال، قصيدة بقلم كاتم الصوت، كتابة التاريخ بالأرجل، مرثية رجل في جهنم، فات ميعاد العمل، خواطر مواطن في حديقة الحيوانات(5)، والعناوين في مجموعها تنبئ عن معايشة شاعر لمجتمعه معايشة حميمة، كما تخبرنا عن معاناته القاسية في بعض الأحيان مما يجري في هذا المجتمع.
الهوامش:
..............
(1) هوى الخمسين، ص89.
(2) أهددكم بالسكوت، ص102 وما بعدها.
(3) لو نقرأ أحداق الناس، ص40 41.
(4) دمع في رمال، ص 38 39.
(5) انظر صفحات 12 14 20 65 84 103 104 على التوالي في مجموعة "دمع في رمال".
-
عصام الغزالي.. هارب من الأضواء!
بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود
...................................
هذا شاعر من طراز خاص، درس الهندسة، وتخرج في جامعة القاهرة، 1972م، ثم درس علوم الدين والشريعة الإسلامية، وتخرج في كلية أصول الدين بالرياض عام 1398هـ 1978م، فهو يمزج في ثقافته بين العلم والدين، وبين التجربة والوحي، ويملك بهذا أفقاً عريضاً ومتسعاً للرؤية والتصور، وإذا أضيف إلى ذلك حس فني مرهف وموهبة شعرية ساطعة، أدركنا لماذا هو شاعر من طراز خاص.
وأحمد عصام الدين الغزالي خليل، أو عصام الغزالي، كما يعرف بين الأدباء والشعراء، من شعراء السبعينيات في مصر، وينتمي إلى الشعراء الذين سميتهم "بالورد" في مقابل من سميتهم "بالهالوك"، وكان بودي أن أخصص له فصلاً في كتابي "الورد والهالوك" ـ صدرت منه طبعتان: 1993م، 1994م ـ لولا ظروف حالت دون أن تكون دواوينه تحت يديَّ.
وقد أنتج عصام الغزالي شعراً كثيراً ضمته خمس مجموعات طبعها جميعاً على نفقته الخاصة وهو من المميزات التي تجعله طرازاً خاصاً مع أن هناك من دور النشر فيما أعلم من يرحب بنشر إنتاجه، ولكنه آثر أن يوزع شعره من خلال دار الوفاء في المنصورة، وهي المدينة التي ولد فيها عام 1945م، ويعيش فيها حتى الآن.
ومجموعاته الخمس هي "الإنسان والحرمان" 1970م، "لو نقرأ أحداق الناس" 1978م، "أهددكم بالسكوت" 1994م، "دمع في رمال" 1995 (إصدار ثان) ثم "هوى الخمسين" 1999م.
وعصام الغزالي يأخذ موقفاً من الحركة الأدبية، أو تأخذ منه الحركة الأدبية موقفاً، فهو يعيش مثلي بعيداً عن أضواء القاهرة وصحافتها ونقادها، ويستشعر تبعاً لذلك أنه مظلوم، ومعه حق، مع أن كاتباً صحفياً كبيراً كتب عنه في عموده اليومي، ولكنه يحتاج مع ذلك إلى ناقد متخصص يغازل شعره أو يطارحه الدرس والنقد، ثم إن رؤيته الإسلامية التي تتضح في شعره تجعل الحركة الأدبية
ومعظمها مشدود إلى تصورات مغايرة تتجاهله ولا تحتفي بموهبته، وفي داخل هذه الحركة من لا يلتفت إلى التصورات أو القيمة الفنية أساساً، بل يعتمد على ما يمكن تسميته بالعلاقات العامة وخاصة في مجال النشر والتعريف، وعصام الغزالي من النوع الذي ينفر من هذه العلاقات... فهو يعتز بذاته اعتزازاً كبيراً، يجعله يترفع عن استجداء الاهتمام بشعره وطلب التعريف به.. هذا وغيره من الأسباب جعل شعر عصام الغزالي بعيداً عن قطاعات عديدة من الجمهور، وإن كانت القطاعات التي قرأته وعرفته قد تمسكت به شاعراً مرموقاً له خصائصه الشعرية، وسماته الفنية.
وبصفة عامة، فإن شعر عصام الغزالي يدور حول محاور عديدة، منها ما هو تقليدي مثل الغزل والرثاء والإخوانيات والتوبة والاستغاثة والهجاء والغربة، ومنها ما هو مستجد ومستحدث مثل المواجهات الثائرة الغاضبة الحالمة ضد عناصر القهر والاستبداد والطغيان ثم مطالبته بالعدالة الاجتماعية، ورفض العنصرية، ولا ريب أن الشاعر يعالج محاوره معالجات متفاوتة، منها ما هو أقرب إلى الرصد والتسجيل، ومنها ما يتجاوز ذلك إلى طرح الحلول والإجابات، ولكن الرؤية بشكل عام محكومة بالتصور الإسلامي، الذي يصل بالشاعر أحياناً إلى حد الزهادة في الحياة. ويصوغ الشاعر تصوره أحياناً في إطار يذكرنا بشعراء الزهد في العصر العباسي، خاصة شعر أبي العتاهية، في قصيدته "قالت لي الريح" يقول:
لا شيء تحميه البيوت
الكل: من يحيا يموت
المد يتبعه انحسار والبريق له خفوت
الحال ظل، يستحيل له دوام أو ثبوت
في آخر اللحن المغرد سكتة.. قبر صموت
الرزق في بحر تصارع فيه ملاح وحوت
وكلاهما في البحر مبتلع وللأمواج قوت
والرؤية الإسلامية في شعر عصام الغزالي تستوجب دائماً الاستعانة بالحق سبحانه وتعالى، والتوبة والرجوع إليه، وما أكثر القصائد التي يبتهل فيها الشاعر إلى البارئ سبحانه أن يعينه ويلطف به، وأن يحميه من الفتنة، وأن يساعده على العفة، وأن يتمم له ومن معه النور:
غريبان طوبى لنا يا أبي
وفي عالم الظفر والمخلب
تعبنا وجئنا نريح الخطى
ونستاف عطراً بأرض النبي
فيا رب أتمم لنا نورنا
بأيماننا ساطع الكوكب..
وفي قصيدته "في نور التوبة" يقف أمام ملك الملوك، ويهرول ملبياً ويقول:
ملك الملوك أتيته ومهرولاً لبيته
من سار في طلب الهدى فالله هذا بيته
ألقٌ توضأ بالجلال من المهابة سمته
إنا يبشرنا كتابك، والكتاب تلوته
ودنوت للحجر الذي لولاك ما قبلته
وغمرت صدري من تدفق زمزم وعمرته
فاقبله سعياً في سبيلك دون ذنبي سقته
وانفحه نوراً ملء قبر موحد.. لك موته
واجعله عوناً للضعيف على صراطك فوته
ولا يعني ذلك أن الشاعر يعتزل الناس أو المجتمع، فزهده والتزامه باب الله، لا يمنعانه أن يغوص في أعماق الواقع غضباً وسخطاً وتمرداً وثورة، ولعل مجموعته "لو نقرأ أحداق الناس" تعطينا دليلاً على هذا الغوص، فقد كانت قصائد المجموعة قبل حرب رمضان 1393ه، تضج بالرفض للهزيمة العسكرية في جبهات القتال، والهزيمة الداخلية في الوطن، فضلاً عن هجاء المهزومين وتعرية سلبيتهم، وفضح تخاذلهم، ولنقرأ على سبيل المثال قصيدته: "برقية إلى ربان سفينة تغرق" التي كتبها ضمن منشورات اتحاد طلاب هندسة القاهرة عام 1972م يقول فيها:
زميلك وسَّع شرخ القنوط
و"مات" وعقّد كل الخيوط
وخلَّى الحمولة وشك السقوط!
إذا كان يمكن فتح الخطوط
توجّه سريعاً لأدنى الشطوط
تماسك.. تحرك قبيل الهبوط
أخاف عليك من "الأخطبوط"
وبالطبع، فإن الشاعر يعيش مثل جيله، غربة زمانية حادة، قسوتها تفوق قسوة الغربة المكانية، ويزيدها قسوة غربة الشعر أيضاً في "زمان غريب" فالشاعر يمزج بينه وبين الشعر حتى يصيرا كياناً واحداً:
أنا الشعر، أرخوا عليَّ الستارا
فإن الزمان الجميل استدارا
غريب أنا، في زمان غريب
كطفل رأى وجهه المستعارا
فبيني وبين المرايا قناع
وبيني وبين العيون الحيارى
فهذا زمان "الجناة الضحايا"
وهذا زمان "البغايا العذارى"!!
ولعل في النماذج السابقة، ما يكفي لبيان رؤية الشاعر وتصوره للعالم والكون من حوله، حيث يقدم لنا الشاعر القابض على الجمر الذي يدفع ثمن قبضة حريقاً وألماً، ولكنه لا يتراجع، في الوقت الذي نجد فيه من ينكرون شيئاً اسمه الوطن أو القيم، تفتح لهم أبواب النشر والمؤتمرات الخارجية والداخلية، ويحظون أيضاً بالدعاية الإعلامية!.
-
المآذن الكيدية !
بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
..................................
مشكلة كتاب المارينز وأشباههم من كتاب اليسار المتأمرك وكتاب لاظوغلي ، أنهم لا يستطيعون إخفاء مشاعرهم العدوانية ضد الإسلام والمسلمين . هم ليسوا علمانيين ولا ليبراليين ، ولا يساريين حقيقيين ، ولكنهم عدوانيون وكفى ! عدوانيتهم لا تتجاوز الإسلام والمسلمين إلى آخرين ، لأنهم لا يجرءون ، ويعرفون ماذا سيحدث لهم لو فعلوا ، ومهما ارتدوا من أقنعة الموضوعية والاستنارة والحرية ، فهم لا يسمحون أبدا للإسلام أن يكون شريكا، مع أنه صاحب البلاد ، ودين الأغلبية الساحقة ، ودين السلام والتسامح الذي يقبل جميع المخالفين الذين لا يقبلونه ولا يترفقون به بل لا يعاملونه بالمثل ، أو كما يعاملون اليهود والنصارى والبوذيين والصابئة والهندوكيين وغيرهم !
لقد استغل بعضهم حادثة الإسكندرية , وخروج متطرفي النصارى بالسيوف والسنج في الشوارع ، وقتلهم مسلما عجوزا استجارت به امرأة لحمايتها ، فراحوا يكيلون الاتهامات للمسلمين وللإسلام ، ويرددون الاسطوانة المشروخة التي تتحدث عن الدولة الدينية (!!) التي نعيش فيها ، ويلعب فيها البعض باسم الدين أو يستخدمه وفقا للهوى ، مع أن دستورنا كما يقولون يؤكد أننا دولة مدنية !ثم راحوا يكررون حديثهم عن بناءا الكنائس وتكافؤ الفرص في الوظائف بين المسلمين والنصارى والتمييز ضدهم في وظائف المحافظين ، ثم يشيرون إلى ما يسمى أشرطة الكاسيت " الحقيرة " في الميكروباص وسيارات الأجرة التي تشكك في عقيدة النصارى الدينية وتسخر منها ، ومناهج التعليم التي غيرت الأسماء المشتركة في كتب القراءة من عادل وسعيد التي يتسمى بها المسلمون والنصارى إلى أسماء إسلامية صريحة حاسمة .. ثم يدعى هؤلاء أن تحويل المسلم من دينه إلى النصرانية يدفعه إلى تغيير المكان بل إلى الهجرة من مصر ، وينتهي هؤلاء الكذابون إلى ضرورة مواجهة ما يسمى كتب الفقه الشعبية ذات الطابع الوهابي .. حتى يتم القضاء على تعصب المسلمين ضد النصارى وتحقيق المواطنة الحقيقية .
واحد من كتاب المارينز المتحول عن اليسار المتأمرك يرتدي مسوح الشجاعة ليقول آن الأوان أن نتحدث بوضوح ونسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية ، وقد أثمرت شجاعة المذكور عن اقتراح قانون موحد لدور العبادة بدلا من هذه " المآذن الكيدية " (!) التي ترتفع فورا ، وتسابق الزمن كلما بنيت ولماذا لابد أن يكون الجامع مواجها للكنيسة على هذا النحو الاستفزازي – حسب تعبيره؟؟
المآذن الكيدية مصطلح خسيس دنيء صعقني ، لا يقوله إلا عدو للإسلام ، أو لا يسكن هذا الوطن ، أو ينتمي إلى شرائح خونة المهجر الذين يرتزقون بمعزوفة اضطهاد النصارى المزعوم في مصر !
" المآذن الكيدية !" في بلد سكانه كلهم مسلمون بالعقيدة أو الثقافة عدا فريق التطرف النصراني ، وفريق الخونة الذين يرفعون الأجندة الأميركية ، وفريق العملاء الصرحاء أو المستترين ! وهم بحمد الله قلة قليلة ، ولا قيمة لهم ، ولو استقووا بأميركا أو لاظوغلي ، وكتبوا في الصحف وتكلموا في أجهزة إعلام ينفق عليها المسلمون أو دافعو الضرائب .
كيف تكون المئذ نة كيدية ، والمسلمون يرفعونها في بلدهم ، في الوقت الذي يرفع فيه المتطرفون النصارى أبراج كنائسهم ببساطة متناهية مع دعم حكومي ودعم أميركي أيضا؛ مع أن الكنائس تفيض عن حاجة النصارى ، ولا تمتلئ بروادها حتى في أيام الأعياد والمناسبات ، وبعضها في المدن الجديدة ما زال مغلقا لعدم وجود رواد !! هل صارت قضية بناء الكنائس قضية القضايا ، أما المآذن فهي " كيدية " حسب زعم كاتب المارينز؟؟ !!إن الكاتب الذي يتملق النصارى ليحصل على منصب صحفي غير مرموق في جريدته الماركسية المتأمركة يسب الإسلام والمسلمين ، ويتهم المجتمع المصري بالتمييز ضد النصارى من خلال الأسطوانة المشروخة ؛ وينسى أويتناسى أن القلة النصرانية المتطرفة وهى تتحرك مستقوية بأميركا الصليبية الاستعمارية ،قد تجاوزت حدود المواطنة ، بعد أن أطمعها النظام البوليسي الفاشي ، فراحت تدعي أنها صاحبة الوطن ، وأن المسلمين غرباء، وأن اللغة القبطية يجب أن تحل محل اللغة العربية ( لغة الغزاة !).
لو أن الكاتب المغمور الذي يريد أن يصعد على سطح الشهرة بسب الإسلام والمسلمين ، طلب الحقيقة ؛ لعرف أن حكومة الولايات المتحدة تدعم التطرف النصراني ،وتحارب الإسلام والمسلمين في التعليم والإعلام والصحافة ، وتفرض على حكومة القاهرة عدم تعيين أي مسلم – يعرف دينه وليس شيوعيا أو أرزقيا أو لاظوغليا – في الإذاعة أو التلفزيون أو الصحف القومية أو القضاء أوالجامعة أو الجيش أو الشرطة .. بل تمنعه من دخول النقابات والنوادي ..
هل تقدر حكومة القاهرة أن تعتقل نصرانيا في الفجر كما تفعل مع العشرات بل المئات من الأخوان المسلمين والحركات الإسلامية والناشطين السياسيين في الأحزاب وحركات المعارضة الأخرى ؟
ليت الكاتب المنافق الأفاق المغمور في الصحيفة الحكومية الميتة يبحث عن طريق آخر للشهرة غير طريق الكذب والادعاء ، لأن مثقفي الميكروباص من أمثاله لا قيمة فكرية أو أدبية لهم ، فهم أبواق تردد ما يملى عليهم من دهاقنة الشر والكيد ، ولو كان كذبا صراحا ، دون أن ينظروا حولهم ، ويعرفوا الحقيقة التي يزعمون التحدث باسمها ، وكنت أتمني أن يقارن فقط بين شرائط الميكروباص " الحقيرة " التي يزعم أنها تهاجم النصرانية – وهو كذاب أشر – مع ما تبثه القنوات الفضائية الصليبية التي يقوم عليها متعصبون عملاء ، يفترض أنهم ولدوا على أرض مصر . ولكن الكذاب أعمى ؛ يرى القشة في عين غيره ، ولا يرى العمود في عينه وعين من يدافع عنهم . ولنا عودة إن شاء الله .
-
أزمة القضاة .. وكتاب لاظوغلي!
بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود
....................................
شاهد العالم جموع الشعب المصري وهي تتعرض للضرب والسحق على أيدي جيوش الأمن المركزي وفرق الكاراتيه الأمنية التي ترتدي ملابس مدنية . وشاهد هذه الفرق وتلك الجيوش وهي تسحل الناشطين وتضربهم بالجزمة ! كما شاهد شوارع وسط القاهرة، وقد أغلقتها لوريات البوليس وملأتها خوذات الجنود ورشاشاتهم وبنادقهم ! كل ذلك لمنع الشعب المصري من مؤازرة القضاة الشجعان ، ومساندتهم ضد النظام البوليسي الفاشي الذي حول مصر إلى عزبة خاصة يتحكم فيها ، وفي مقدراتها كيف شاء ، دون أن يدرك ما يدور حوله في العالم ،وما يدور داخل الشعب المصري من سخط وغضب وثورة .. ويظن أن " النبّوت " سيحميه ويبقيه إلى أبد الآبدين .
لقد انتصر القضاة الشرفاء في المرحلة الأولى من نضالهم الوطني ضد النظام البوليسي الفاسد ، وانتزعوا براءة أحد المستشارين ، وبدءوا مرحلة جديدة لإثبات استقلال القضاء ، وحفاظه على القانون واستعادة كرامته التي أهدرها الجلادون في الانتخابات ، وشوارع وسط البلد بضرب القضاة في اللجان الانتخابية أو سحلهم في الشوارع .
القضاة ميزان العدالة ، والعدل صفة من صفات الخالق سبحانه وتعالى ، ونظام الكون ، لا يستمر إلا إذا قام على العدل، وهناك عبارة خالدة نحفظها جميعا ، وهى : العدل أساس الملك – أي أساس الحكم ، وأساس الحضارة – ولكن النظام البوليسي الفاشي يصر على أن يقوم بناء الوطن على الظلم والمحسوبية والفساد والاستبداد ، ولا يعنيه أن يهان قاض أو أستاذ جامعي أو محام أو مهندس أو طبيب أو طالب أو مواطن عادي.. الوحشية التي يوجهها النبّوت هي القول الفصل في منهج النظام البوليسي الفاسد ، وبعدئذ لا يهم أن يكون الوطن مستباحا للصوص الكبار والمنافقين والأفاقين وشهود الزور وأبواق البهتان والغرباء الطامعين .. بل لا يهم أن يقدم الوطن بثرواته ومعتقداته وأناسه هدية للأعداء والمتربصين تحت مسميات شتى!
بيد أن ظاهرة شاذة وغريبة فجعت الأسماع والأبصار ، وهي قيام كتاب لاظوغلي ومثقفي الميكروباص بإهانة القضاة في الصحف والقنوات التلفزيونية ، دون خجل أو حياء ، واتهامهم بأنهم قلة خالفت القانون(!) وتحدثت في وسائل الإعلام ، واشتغلت بالسياسة ، وهو محض كذب وافتراء لا أساس له من الصحة بدليل براءة أحد المستشارين المحالين إلى مجلس الصلاحية بهذه التهم . ثم كان الاتهام البوليسي الذي ألح عليه كتاب لاظوغلي وأبواقها في الصحف والتلفزيون ، وهو تحرك القضاة بناء على تخطيط الإخوان المسلمين ودعمهم ! وكأن القضاة دمى يحركها الأخوان دون إرادة أو رغبة !!
ألح كتاب لاظوغلي في الصحف الحكومية ، وفعل مثلهم مثقفو الميكروباص من خدام السلطة في القنوات التلفزيونية الأرضية والفضائية ، على علاقة الأخوان بالقضاة ، مما يوحي بأن الأخوان يحركون الأحداث في كل اتجاه ، حتى القضاء يحركه الأخوان ليحصدوا مقابلا لهذا التحريك ، أو الدعم !وكأن القوم يدارون بهذه الاتهامات عار القبض والضرب والسحل للأخوان في شوارع وسط البلد .. ياله من نفاق ، ويالها من وحشية !
إلى هذا الحد وصلت إهانة كتاب لا ظوغلي ومثقفي الميكروباص للقضاة ، وما دروا أن القضاة يملكون إرادتهم ملكية كاملة ، وأنهم في جمعيتهم العمومية ، وناديهم ، وهم يكافحون منذ عشرين عاما من أجل استقلال السلطة القضائية ، وإبعاد هيمنة السلطة البوليسية الفاشية عن مقدراتها ، وقد قام الشعب المصري بدعم القضاة ومؤازرتهم ، لأنهم قاموا بواجبهم في الدفاع عنه ، وعبروا عن رغباته وأمانيه في إلغاء قانون الطوارئ والقوانين سيئة السمعة ومحاسبة المزورين في الانتخابات التشريعية الأخيرة ولو كانوا من بينهم ، وأيضا محاسبة الجلادين الذين اعتدوا على بعض القضاة وحبسوهم مثل الدجاج ، سواء في لجان الانتخابات أو أمام ناديهم بالقاهرة ، فضلا عن المطلب الأساسي ، وهو إصدار قانون السلطة القضائية الذي أعده القضاة بأنفسهم ، وليس الذي أعدته الحكومة . إن كتاب لاظوغلي ومثقفي الميكروباص تجاهلوا اعتداء الجلادين من أفراد البوليس الفاشي على القضاة في لجان الانتخابات وسحلهم لأحد القضاة ووضع الحذاء على وجهه أمام نادي القضاة ، وشحنه في " بوكس " الجلادين ، ولم يشفع له أنه مستشار ورئيس محكمة!
إني أتمنى من نقابة الصحفيين أن تحاسب كتاب لاظوغلي ومثقفي الميكروباص الذين أساءوا إلى القضاة ، وشاركوا في الحملة البوليسية الفاشية ضد أشرف رجال الوطن؛ الذين تعتز بهم مصر وتفخر منذ زمان بعيد أثبتوا فيه قدرتهم على قول الحق وإحقاق العدل ، ولو كان بيع السلطان في المزاد ، كما فعل العز بن عبد السلام رضي الله عنه .
-
مسألة بقاء ، وليست مسالة سلام!
بقلم: د. حلمي محمد القاعود
................................
شغلنا القاعدون عن الجهاد ، والموالون لأميركا واليهود، وكتاب المارينز ،وكتاب لاظوغلي ؛ عن النظر إلى المستقبل الذي يستعد فيه الغزاة النازيون اليهود لجولة أخرى من القتال ضد العرب والمسلمين في لبنان وخارجه، تعيد لجيشهم هيبته المحطمة وقدرته المكسورة .
شغلونا بنظرياتهم وأفكارهم وأحكامهم بتكفير هذا الحزب أو ذاك ، وعدم شرعية مساندة هؤلاء المقاتلين أو أولئك ، والدخول إلى معمعة التنقيب عن العدو الحقيقي للأمة ؛ هل هو إيران الصفوية أم أميركا الصليبية ؟ وأخذوا يحدثوننا عمن ساند الأميركا ن الغزاة في حربهم ضد العراق وأفغانستان ، وتناسوا من جعلوا أراضيهم ومياههم وسماواتهم قواعد عسكرية وممرات جوية وبحرية للغزاة المجرمين ..
وتباروا في تحديد من انتصر ومن انهزم ، وأقسم بعضهم بالأيمان المغلظة أن حزب الله جلب العار والشنار للأمة ، لأنه ظل يدافع عن لبنان ، ويضرب اليهود في أعماق معاقلهم 34 يوما تحت قصف الفانتوم 15، 16 ، 18 ، وبوارج ساعر 4، 5 ، ومدفعية الميركافاة ، ولم يهرب من الميدان .. ونسي القوم أن شعبية حزب الله ورئيسه حسن نصر الله ؛ فاقت كل التوقعات على امتدد العالم الإسلامي بسنته وشيعته و،ومسلميه ومسيحييه ، باستثناء تحالف 14 آذار ، وحكومات العرب ، وخونة المهجر ..
ومن غرائب هذا الإشغال أن القوم كانوا مهمومين بقضايا فرعية ونشرها على أوسع نطاق في الوقت الذي كانت طائرات العدو تدك فيه الضاحية الجنوبية لبيروت وبنت جبيل وبعلبك ومرجعيون وغيرها ، فأي عقلية تلك التي تترك دماء الشهداء ، وأطلال الدمار وقوافل المهجرين ، وتهتم بحكم فك السحر بالسحر ، وإلغاء خانة الديانة في البطاقة الشخصية والوثائق الرسمية ، وفتوى المفتي حول التماثيل وسرد الشتائم والسخرية التي وجهت له ، ونشر ثقافة السلام في ربوع الأوطان المهزومة المنكوبة بالفساد واللصوص الكبار والصغار ، الموعودة بالنكبات وحوادث الطرق والعبّارات والقطارات ؟
ويدخل تحت هذه الغرائب ما ينقله كتاب لاظوغلي بلا خجل من ملفات زملائهم المخبرين حول تحركات هذه الجماعة الإسلامية أو تلك ، مما يعد سقطة مهنية وخلقية بكل المقاييس .. أما سخريتهم من الحديث عن التطوع والقتال بجانب الأشقاء في لبنان ضد الغزاة اليهود فحدث ولا حرج .. لقد ذهبت بهم سخريتهم إلى حد الصفاقة والوقاحة حين جعلوا من رغبة التطوع ، وجودا فعليا لميليشيات مسلحة تستعد للانقضاض على الحكم وسرقته ، وتناسوا أن لا ظوغلى لم ولن تسمح بهذه المليشيات المزعومة ، فهي تعلم دبة النملة في كل مكان .. وحاشا لله!
شغلونا وتناسوا أن القضية الأكبر والأعظم؛ هي قضية الوجود المستباح ، مما يتطلب أن ينهض الناس جميعا لحماية وجودهم وأرضهم وحاضرهم ومستقبلهم .
شغلونا ، وتناسوا أن الشيطان الأكبر ، يقود بنفسه عملية استباحة البلاد والعباد ، وتأكيد الحصار على لبنان جوا وبحرا وبرا ، ليخنق الشعب الذي يزعم أنه يحميه ويحرره ويحافظ على استقلاله ، بعد أن أخفق الشيطان الأصغر في تحقيق أهدافه ، ثم إن الشيطان الأكبر يساوم الدول الكبرى لتقوم بجوانب محددة من هذه المهمة كي يفرغ للمهمة التالية التي أعلنت عنها الآنسة كوندي ؛ وهي بناء الشرق الأوسط الجديد ، بدءا بضرب إيران وتمزيقها إلى دويلات تستدعي بالضرورة تمزيق العراق والسعودية وسورية رسميا ، وانتهاء بالجائزة الكبرى حيث تتمزق أم الدنيا والسودان الشقيق!
وأسأل هؤلاء الأشاوس والنشامى الذين يرون في أميركا واليهود ملاذا وملجأ : من الذي سلطكم على أمتكم في هذا الوقت الحساس وهذه الظروف الحرجة لتساعدوا الشيطان الأكبر والشيطان الأصغر ؟
من الذي خدعكم كي لا تروا أبعد من أنوفكم ، وتغدروا بأمتكم ، وتطعنوها من الخلف ؟
إنكم بوصفكم عربا تحت الاحتلال وتحت الهيمنة النازية اليهودية لا تساوون شيئا ، ولا قيمة لدمائكم وأعراضكم وكرامتكم .. تقول عميرة هاس ؛ مراسلة ها آرتس ، في مقال لها يوم 23/8/2006/ :
" حسب قوانين الاحتلال ( اليهودي طبعا ) ونظمه ؛ لا يعد الجنود الذين يقتلون المدنيين الفلسطينيين مجرمين ومشبوهين أو متهمين أو مدانين إطلاقا..".
ومعنى هذا يا قوم أن إنسانية النازي اليهودي تستبيح المهزوم ، وتفعل به ما تشاء لدرجة الموت ، وما يحدث في فلسطين يحدث في لبنان ، وحدث في مصر والأردن وتونس . النازي اليهودي يقتل العربي والمسلم دون رحمة ولا شفقة ،ولا تثريب عليه ، وأنتم تتشحون بالعقلانية والمغامرات المحسوبة ، والتخطيط الاستراتيجي لتنفذوا عملياتكم " يوم القيامة " ، وتستخلصوا حقوقكم عندما " تقوم الساعة "!
بئس ما تفعلون ، وبئس ما تفكرون ، أيها الموالون لأميركا ن واليهود؟!
ما رأي الذين يتحدثون عن قاعدة "الولاء والبراء "؟ ما حكم من يوالي الأمير كان واليهود، ويري فيهم إلّها من دون الله ، وناصرا من دون الله ، وملجأ من دون الله ؟
لقد جاء اليهود الغزاة إلى بلادنا ليكونوا قاعدة عسكرية للصليبيين الهمج ، تضرب بلا عقاب ، وتنسف بلا حساب ، والذين يتصورون أن مجلس الأمن الدولي سيعيد إليهم حقوقهم ؛ واهمون ، أو قاعدون بمعنى أدق. إن مجلس الأمن الدولي لم يعد حقا للعرب والمسلمين منذ إنشائه ، بل أسهم في ضياع حقوقهم ، وصار مجرد إدارة من إدارات الكابيتول ( الخارجية الأميركية ) يأتمر بأمره، ويسمع ويطيع لمن يجلس فيه ، ولو كان الآنسة كزندي .. فإلى متى أيها السادة تنتظرون السلام وعودة اللاجئين وتحرير القدس ؟
لقد لخص كاتب يهودي نازي الموقف باختصار شديد وعميق ؛ جين قال :
نحن أمام صراع متواصل ومستديم . ومن سيكون أقوى في عقيدته وحقه ؛ هو الذي سيبقى ، المسألة هي مسألة بقاء وليست مسألة سلام لشدة الأسف " ( ليمور سمينيان درش- معا ريف http://www.azaheer.com/vb/images/smilies/72_72.gif3/8/2006م).
نعم مسألة بقاء وليست مسألة سلام !
فهمها النازي اليهودي ، وعمل من أجلها ، مع أنه ليس صاحب حق ، ونحن مشغولون بخلافاتنا وتفاهاتنا ، تاركين جوهر الأمور تسويغا للقعود عن الجهاد ، ورغبة في التخلف عنه :
" فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ؛ وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر ، قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون . فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون " ( التوبة:81-82).
ماذا نقول لربنا وقد امتلكنا الرجال والسلاح والمال ( دماء الشهداء رفعت دخول كثير من العرب القاعدين! )، ولم نواجه العدوان النازي اليهودي ، ولم ندعم المجاهدين بالمال والسلاح والقول الواضح الصريح؟
أيها السادة :إن المسألة مسألة بقاء .. وليست مسألة سلام..
وبقاء العرب جميعا مرهون بالجهاد ، وليس غيره.
-
الأنـــــــــــــــــــــــــدال
أ.د. حلمى محمد القاعود
............................
هو صمت القبور . دلالة الموت الأبدى .. تطبق على العواصم العربية والإسلامية . لم ينطق أحد ، والغزاة النازيون اليهود يدمرون لبنان ويحاصرونه ، بعد أن دمروا غزة وحاصروها.... مئات القتلى والجرحى من المدنيين البسطاء فى غزة ولبنان ، يلقون حتفهم أو ينزفون الدماء ، دون أن تهتز عاصمة عربية ، أوتصدر بيانا يستنكر أو يشجب – كما كان فى الزمن القديم! – إبراء للذمة على الأقل ، وكأنهم يوافقون ضمناً ، بل يساعدون ضمنا ، حكومة الغزاة النازيين اليهود على حرب الإبادة ضد الفلسطينين واللبنانيين الذين يقودون المقاومة الوحيدة ضد الإجرام النازى اليهودى ..
حكومة موسكو استنكرت العدوان النازى اليهودى على الفلسطينيين واللبنايين ، كما استنكرت استخدام اليهود للقوة المفرطة ، ولكن الأشاوس والنشامى العرب والمسلمين لم يستنكروا أبداً ، بل لم ينطقوا أبداً ، واكتفى بعضهم بالقيام بدور ساعى البريد بين العدوّ النازى اليهودى والمقاومة الإسلامية فى غزة ولبنان .. وفى سياق هذا الدور لا يخافت ولا يخجل من طلب إلى المقاومة أن تستسلم للعدو وتسلم بمطالبه !
لقد قامت المقاومة الإسلامية فى غزة بعملية " الوهم المتبدد " ، فقتلت جنديين من الغزاة ، وأسرت ثالثاً ، وقامت المقاومة الإسلامية فى لبنان بعملية " الوعد الصادق " ، فقتلت سبعة من الغزاة ، وأسرت اثنين . وكان ذلك تحولاً بارزاً فى أداء المقاومة أذهل العدو ، وأربك خططه العدوانية ، وحطم كبرياءه وصلافته ، وأتاح الأمل لتحرير الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين من قبضته .
الغزاة النازيون اليهود فى فلسطين تعودوا أن يأمروا فيُطاعوا ، وقد أمروا الأنذال فأطاعوهم منذ بدء غزوهم لفلسطين ، لدرجة أن الخونة الأوائل كانوا يطلبون منهم مبالغ مالية قليلة لإحياء ليالى شهر رمضان المعظم فى قصورهم المنيفة ! ( راجع ما كتبه المؤرخون اليهود الجدد عن الخيانات العربية ) ولكن الأمور تغيرت بعد بدء المقاومة والانتفاضات واعتماد الشهادة سبيلاً إلى استخلاص الحقوق وتحرير الأوطان وتخليص المقدسات .. وإذا كان الغزاة اليهود قد انزعجوا لهذا الأسلوب الذى تبناه الشعب الفلسطينى والعربى ، فإن المفارقة تكمن فى أن الأندال توافقوا مع الغزاة فى هذا الرفض ، وصارت المقاومة ذات الصبغة الإسلامية خطراً داهماً يجب عليهم التصدى له ووأده وسحقه واستئصاله من الوجود !
بماذا تفسرون قسوة الأنظمة العربية الحاكمة ضد شعوبها عامة ، والمقاومة الإسلامية خاصة ، فى الوقت الذى تطأطئ فيه رءوسها وتصمت صمت الحملان عن إجرام الغزاة اليهود وعدوانهم واستهانتهم بالعرب والمسلمين ، فضلاً عن القوانين الدولية وما يسمى الشرعية الأممية ؟
أليس من العار أن تصمت الأنظمة على تدمير لبنان وقتل ابنائه ، فى الوقت الذى لا تتسامح فيه مع كاتب أو ناشط سياسى كتب أو قال كلاماً لا يُعجبها أو لم يرق لها؟
أليس من العار أن تصمت المدافع على الجهات المحتلة ، ولكنها لا تتردد فى دك المدن والقرى التى يفترض أن بها معارضين لهذه الأنظمة ؟
أليس من العار أن تتفرغ بعض الأنظمة لمحاربة الإسلام والحجاب وتخصيص بطاقات ممغنطة لمن يدخلون إلى المساجد أو يخرجون منها ؛ فتضع الأولين تحت المراقبة وتترك للآخرين حرية الحركة ؟
إن الأندال هزموا الشعوب العربية والإسلامية من الداخل قبل أن يهزمهم الغزاة النازيون اليهود ، ومع ذلك فإن هذه الشعوب بدأت تستيقظ وتأخذ زمام المبادرة ؛ وستنتصربإذن الله بعد أن تقدم الدم والمال والجهد والصبر الجميل .
المقاومة الإسلامية فى غزة ولبنان تقلق العدوّ النازى اليهودى وتقض مضجعه ، والعدو يتمادى فى عدوانه مدعوماً بالصليبية الاستعمارية المتوحشة بقيادة الولايات المتحدة ، وصمت الأندال ، وتواطئهم أيضاً .
شعوبنا بعيداً عن الأندال ، تستطيع أن تقدم الكثير لدعم المقاومة وإيلام العدو وداعميه ، يستطيع التجار فى البلاد العربية والإسلامية أن يوقفوا صفقاتهم مع الدول الاستعمارية الصليبية طالما هناك بديل فى أماكن أخرى . يستطيع المواطنون أن يُقاطعوا البضائع القادمة من بلاد التوحش الاستعمارى الصليبى . يستطيع المواطنون أن يُقاطعوا الشركات والهيئات والأفراد التى تتعامل مع العدو النازى اليهودى أو تمالئه ، أو تمالئ الصليبيين الاستعماريين . يستطيع المواطنون العرب والمسلمون أن يفعلوا الكثير ، ولهم فى تجربة الدانمرك أسوة حسنة ، وعلى علماء الدين أن ينهضوا بدورهم فى هذا السياق لقيادة الأمة مهما كانت الضرائب التى ينبغى دفعها .. وألا يعتمد ا على علماء السلطة وفقهاء الشرطة ، الذين باعوا الآخرة بالدنيا ، وآثروا رغد العيش على شرف الدعوة والجهاد ..
(( فاصبر صبرا جميلاً . إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا )) ولا عزاء للأندال !
.....................................
*مصر الحرة ـ 16/7/2006م.
-
ضد التعصب أم ضد الإسلام؟ 1 من 6
بقلم: أ.د. حلمى محمد القاعود
.........................................
في مشروع مكتبة الأسرة الذي ترعاه السيدة سوزان حرم الرئيس مبارك، لعام 2000م، صدر كتاب بعنوان "ضد التعصب" للدكتور جابر عصفور، وهو كتاب كبير الحجم نسبياً يقع في 464 صفحة من القطع المتوسط 14-19.
والدكتور جابر عصفور، كاتب معروف، وهو على صلة بالتراث العربي، خاصة التراث النقدي، وله فيه إسهام من خلال رسالته حول الصورة الفنية لدى النقاد القدماء، ثم إنه بالنسبة للعمل العام، قد اقترب من النظام في عهد عبدالناصر، الذي عيَّنه معيداً بكلية الآداب، بعد أن كان مدرساً في منطقة نائية، إثر رسالة تلقاها منه، كما اقترب من النظام في عهد السادات عن طريق السيدة جيهان رؤوف حرم الرئيس، وكانت طالبة في قسم اللغة العربية الذي ينتمي إليه الدكتور جابر.
وفي العهد الحالي، ارتقى الدكتور جابر سلَّم القيادة الثقافية الرسمية من خلال المجلس الأعلى للثقافة ونشاطاته المتنوعة "اللجان ـ الجوائز ـ الندوات ـ المؤتمرات ـ النشر ـ المسابقات..."، ومن بداية التسعينيات تقريباً صارت مقالاته، "مانيفستو" حركة الحداثة ثم ما يعرف بالتنوير بعدئذ!.
علاقتي بالرجل على المستوى الشخصي طيبة، وعلى الصعيد الفكري عاصفة، إلى الدرجة التي يمكنني أن أصفه بالصديق اللدود!، وفي أعماقي أهتف دائماً: اللهم اجعل جابر عصفور جندياً من جنود الإسلام، أو أقول: اللهم انصر الإسلام بجابر عصفور، فهو يملك القدرة والطاقة على الدفاع عن الدين، ومواجهة خصومه.
ولعل كتابه "ضد التعصب" يمثل أوضح الأمثلة على الفارق الشاسع بيني وبينه، في الرؤية وتناول القضايا، حيث ينحاز عبر صفحاته، إلى الخطاب الرافض للمرجعية الإسلامية، بل الحانق عليها، المعادي لها، من خلال قضايا ثقافية طارئة ذات صلة وثيقة بمفاهيم إسلامية راسخة، ومن هذه القضايا: قضية نصر أبوزيد، وما يسمى تكفير حسن حنفي، ورواية وليمة لأعشاب البحر.
إن جابر عصفور ينحاز إلى هذه القضايا انحيازاً عاطفياً غير عقلاني، ويناصر أصحابها بلا تحفظ، وفي المقابل لا يرى إيجابية واحدة لدى الخصوم ـ أعني الإسلاميين ـ بل يؤاخذهم جميعاً بما يفعله السفهاء، ويرتب على ذلك أحكاماً بظلامية الفكر الإسلامي وإظلام الإسلاميين!، ثم ينتهي بصورة ما إلى أن التعصب سمة ملازمة للإسلام، وبالتالي فهي مفارقة لغيره من العقائد والأفكار.
كان الدكتور جابر ـ للأسف الشديد ـ طرفاً أساسياً في أهم هذه القضايا، وعنصر تصعيد لها، على حساب الآخرين أو الوطن، ولم يجد غضاضة ـ وهو المسؤول التنفيذي للثقافة والمؤثر الفعال في وسائط الدعاية ـ أن يشعل النار ضد الإسلاميين وفكرهم، وأن يصمهم جميعاً بالظلامية والإرهاب! وأن يستثمر مناخ العنف والعنف المضاد الذي ساد البلاد عقب مقتل الرئيس السادات ـ رحمه الله ـ ليؤلب السلطة التي ينطق باسمها، والرأي العام الذي يخاطبه ضد الإسلام والإسلاميين بوصفهم قتلة ودعاة تخلف وخرافة.
لو أن الدكتور جابر التقط قضية واحدة من القضايا المطروحة، وعالجها بمفهوم إسلامي، ومرجعية إسلامية، لكنا معه على طول الخط، حتى لو أخطأ، لأن الخطأ حينئذ يمكن تصحيحه وتوضيحه وبيانه، ولكنه للأسف الشديد، ظل طوال خصومته ينطلق من مرجعية غربية لا تتفق مع الإسلام في معظم منطلقاتها.
وأبادر إلى تحفظ بأن مرجعية الإسلام تتمثل في القرآن الكريم والسنة المطهرة، واجتهادات العلماء الثقات، ولا يصحّ أن يأتي بعض الناس الذين لا يحفظون قرآناً ولا يفقهون حديثاً، ولم يدرسوا فقهاً أو شريعة لنجعلهم علامات على الإسلام أو مرجعية لأحكامه وقيمه، وتشريعاته، فهذا هو الضلال بعينه، إن الإسلام يحكم على المسلمين، والمسلمون لا يحكمون عليه.. وكل يؤخذ منه ويرد عليه، إلا المعصوم ص.
ومن العدل والإنصاف أن نتابع بعض القضايا التي عالجها الدكتور عصفور، لنرى إلى أي مدى كان اتهامه للإسلام والمسلمين بالتعصب صائباً أو غير صائب.
ترويج الكتـاب
فور نزول كتاب "ضد التعصب" إلى الأسواق، رافقته حملة واسعة لعرضه والتعريف به في كبريات الصحف الحكومية والحزبية بأقلام تهاجم الإسلام صراحة، أو تهاجمه نفاقاً سعياً لمكاسب مادية آنية، في الوقت الذي تظهر فيه عشرات الكتب الجادة دون أن تحظى بأي اهتمام ولو بسطرين على امتداد عمود عرضه خمسة سنتيمترات في صحيفة سيارة.
وهذا يقودنا إلى قضية خطيرة ومهمة بدأ بها الدكتور جابر عصفور كتابه، وهي قضية الحرية والتعصب، وقد صدرها بمقولة لأستاذه طه حسين ملخصها أن الحرية لا تتحقق بالتمني، ولكن تؤخذ عنوة "فقد أراد الله أن تكون هذه الحرية حقاً للعلم، وقد أراد الله أن تكون مصر بلداً متحضراً يتمتع بالحرية في ظل الدستور والقانون"، وقد جعل جابر عصفور هذا المعنى في استهلاله لكتابه الذي هو مجموعة مقالات سبق نشرها في صحف بقوله: "إن حرية التفكير والإبداع هي جزء لا يتجزأ من حرية الإنسان الاعتقادية والسياسية والاجتماعية. وهي مسؤولية عقلية وأخلاقية واجتماعية وسياسية"، ومضى يفسر هذه المسؤولية بإسهاب، ونحن معه في تفسيره، وإن كان لنا بعض التحفظات على مصطلحاته وتصوّراته في هذا المجال.
بيد أن المفارقة في موقف طه حسين تكمن في إصراره على أن يقول هو ما يشاء، ويحرم غيره من الرد عليه، وذكر بعض معاصريه أنه كان يذهب إلى الصحف التي تنشر ردوداً مغايرة لما يقول، ويطلب من أصحابها عدم نشر هذه الردود، ولم يؤثر عنه أنه وقف موقفاً واضحاً إلى جانب حرية الشعب أو الأمة، بل إنه قبل رشوة من انقلاب يوليو 1952م حين وضع اسمه رئيساً لتحرير جريدة "الجمهورية" قرابة خمسة عشر عاماً دون أن يكتب كلمة واحدة في هذه الجريدة، بل دون أن يذهب إليها، وكان يتقاضى مرتبه دون عمل مقابل.. أين هذا من موقف العقاد الذي دخل السجن وتعرّض للجوع بسبب مواقفه من أجل الحرية؟
إن الكلام عن الحرية جميل، ولكن تطبيقه أجمل.. ويصبح هذا الكلام قبيحاً وبشعاً وشنيعاً حين نطبقه بالنسبة لأنفسنا ونحرّمه على غيرنا من المخالفين، وهذا ما فعله طه حسين وكثير من تلاميذه الذين يرون الحرية حقاً لهم وحدهم دون غيرهم. كان طه حسين لا يرد غالباً على مخالفيه، بل كان يهجوهم ويكنِّي عنهم دون أن يذكرهم، وهذه فصامية عجيبة من رجل يدعو لأخذ الحرية بالقوة.
وجابر عصفور تلميذ طه حسين، يفعل الشيء نفسه للأسف، فهو يحمل علــى المتعصبين ـ كما يسميهم ـ ويقصد بهم التيار الإسلامي، ويصمهم بالإرهاب والقمع والأصولية ـ بالمفهوم الغربي ـ وينفي عنهم العقلانية والإبداع والاجتهاد، ويؤسس على ذلك نتيجة خطيرة وهي تقويضهم الدولة المدنية والمجتمع المدني باستبدادهم الديني، ورغبتهم في إقامة الدولة الدينية، وسيطرتهم على المؤسسات التضامنية للمجتمع المدني، مثل نقابات المحامين والمهندسين والأطباء وغيرها.
بل هو المتعصب
هذه الحملة من جانب جابر عصفور تحمل مغالطات تؤكد تعصبه ضد تيار مخالف يمثل الأغلبية الساحقة، ويتكرر مفهوم هذه الحملة على امتداد مقالاته في كتابه "ضد التعصب". وإذا كانت الحرية ـ كما يقول ـ مسؤولية عقلية وخلقية واجتماعية وسياسية، فمن واجبه أن يدافع عنها بوصفها حقاً للآخرين، وما لا يعجبه في مفاهيمهم وتصوراتهم يرد عليه بالمنطق والحجة مع المرجعية الواضحة التي تحدد منطلقاته وأفكاره.. ولكن الذي نراه لديه ولدى تيار العقلانيين ـ كما يسميهم ـ هو هجاء لا يستند إلى منطق أو حجة، وتحريض رخيص ضد هؤلاء الإرهابيين الظلاميين الأصوليين الذين يقوضون المجتمع المدني ومؤسساته التضامنية، حتى لو أتت بهم انتخابات حرة نزيهة إلى مقاعد القيادة في نقابات متعددة أو مؤسـات مختلفة.
والغريب حقاً، أن يعتقد الدكتور جابر عصفور أن الدولة المدنية نقيض الدولة الإسلامية، وكنت أظنه في البداية يقصد بالدولة المدنية، الدولة النقيض للدولة البوليسية أو الدولة العسكرية أو الدولة التي تحميها الطوارئ وتأخذ فيها الديمقراطية الحقيقية إجازة مفتوحة، وللأسف اكتشفت أنه يقصد بالدولة المدنية الدولة التي لا تبقي للإسلام على أثر، بل تستأصله من حياتها تماماً، وإذا أبقت على أثر فهي دولة دينية بالمفهوم الكنسي، على غرار الدولة الدينية في العصور الوسطى المظلمة بأوروبا.. وبالتأكيد فإن جابر عصفور لا يرى غضاضة في تدخل الفاتيكان في الشؤون السياسية الدولية، ولا تدخل البطريرك الأرثوذكسي الروسي في حرب الشيشان ومباركته لتدمير جروزني وسحق المسلمين، ولا تدخل البطريرك الأرثوذكسي الصربي في تأييد ميلوسوفيتش وكاراديتش ومباركتهما لذبح المسلمين في البوسنة والهرسك وكوسوفا، ولا تدخل البطريرك نفسه في تأييد مرشح المعارضة الصربية لرئاسة الجمهورية، وعدّه الفائز في الانتخابات... ولا... ولا...
بيد أن الدكتور عصفور يقيم الدنيا ولا يقعدها لأن المصريين أو العرب أو المسلمين يريدون إقامة دولة إسلامية على أسس العدل والشورى والمساواة والأخلاق والرحمة، فهذه الدولة دينية كهنوتية في مفهومه، وهي أخطر من دولة صلاح نصر وحمزة البسيوني وصدام حسين!.
لقد أرسى الإسلام الحنيف قيمة التسامح بصورة غير مسبوقة في التاريخ، ورفض العنصرية والاستعلاء المرذول والكبر في صورها المختلفة، وجعل المنتمين إليه أحراراً تحت راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، ودوت مقولة عمر في أرجاء الأرض "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، ودعا القرآن الكريم إلى الدفع بالتي هي أحسن، وحرّض على العفو الذي هو أقرب للتقوى: فهل يحق لنا بعدئذ أن نتهم الإسلام بأنه ضد الدولة المدنية، ونكفِّر الداعين إليه حين نصفهم "بالتأسلم"، ونخلط ظروف العنف والعنف المضاد، بالدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية لنسحب على الإسلام صفات الدم والقتل والجهل والمؤامرة؟
لا ريب أن الدكتور عصفور يغالط كثيراً حين يستخدم مفهوم الدولة الدينية في مقابل الدولة الإسلامية، ومفهوم المجتمع المدني في مقابل المجتمع الإسلامي، ومفهوم الحرية الغربية مقابل التسامح الإسلامي، ومفهوم التعصب ضد الإسلام، فالتعصب المقيت والخطير كان السمة الأساسية في فكر اليساريين والدنيويين الذين ينافح عنهم الدكتور عصفور .
-
ضد التعصب أم ضد الإسلام؟ (2 من 6)
بقلم أ.د. حلمي محمد القاعود
................................
التيار اليساري الدنيوي الذي ينافح عنه الدكتور جابر عصفور، لا يؤمن بالحرية ولا يتقبلها إلا إذا اتفقت مع ميوله ورغباته، وحققت مصالحه وغاياته، وهو يتاجر بالحرية والليبرالية والاستنارة دون أن تكون مبدأً أو خُلقاً أو قيمة حقيقية، والدليل على ذلك قائم في سلوك هذا التيار وممارساته على مستويات عدّة.
لقد باع هذا التيار نفسه من أجل المناصب والمكاسب التي ينالها من وراء الأنظمة المتعاقبة، بل وصلت الحال إلى أن اختصم الأقارب في هذا التيار من أجل منصب هنا أو هناك، وخاصة في وزارة الثقافة التي استخدمت سياسة المنح والمنع لتجمع أكبر قدر من الأنصار الذين يؤيدون سياستها الفاسدة ومنهجها المريب، وقد تخلّى هذا التيار عن مقولاته وشعاراته ليقبل الاحتفال بالغزاة (ما سُمي بالعلاقات الثقافية مع فرنسا)، وتأييد حكم الطوارئ، واستبداد الحزب الحاكم، والتخطيط الثقافي لاستئصال الإسلام وإقصائه تحت شعار محاربة التطرف والإرهاب.
وفي وزارة الثقافة على سبيل المثال فإن لجان المجلس الأعلى للثقافة تضم في أغلبيتها الساحقة أعضاء من التيار اليساري الدنيوي، ومن شذّ عن ذلك فهو استثناء لذر الرماد في العيون، علماً بأن وزارة الثقافة والمجلس الأعلى للثقافة من الهياكل القومية العامة التي يفترض أنها تمثل الأمة تمثيلاً حقيقياً شاملاً يعبّر عن حقيقة التيارات السائدة فيها، ولكن أدعياء الحرية والليبرالية والاستنارة قصروا هذا الحق على أنفسهم، مع أنهم أقلية ضئيلة جداً تمثل الغرب الاستعماري في مصر، ولا تمثل ثقافة الأمة ولا تعبر عن تطلعاتها بحال.
مجلات وزارة الثقافة لا تكفّ عن الضجيج والصراخ من أجل "فقه الحرية"، ولكنها لا تتقن غير "فقه المصادرة" وراجعوا أعداد هذه المجلات لتروا أنه تيار واحد هو الذي يتكلم ويبدع ويدرس ويترجم، ذلكم هو تيار أدعياء الحرية والليبرالية والاستنارة!، وكأن هذه المجلات من الممتلكات التي ورثوها عن آبائهم وذويهم، وليست ملكاً للشعب كله الذي تمثل الأغلبية الساحقة فيه تياراً آخر مخالفاً يرفضهم.
ومن المفارقات أن وزير الثقافة حين أصدر جريدة بأموال المسلمين، تدافع عنه وعن خطاياه الثقافية، رفع على رأسها عبارة لقاسم أمين تفيد بقبول الآراء المخالفة وضرورة نشرها، ولكن جريدة الوزير بعد عددين أو ثلاثة ـ ولعل ذلك كان للتمويه ـ أحكمت الحصار حول المخالفين، ولم تفسح صدرها وقلبها إلا للأتباع من أنصار الوزير، أعني التيار الدنيوي بفصائله المختلفة!
وجريدة الوزير تكرار لمجلة كانت تصدرها مؤسسة الأهرام اسمها "الطليعة" ورفع محررها على صدرها شعاراً لفولتير يقول: إنني على استعداد أن أدفع دمي ثمناً لإعلان رأيك.
ثم فوجئ الناس أن هذا المحرر يعني دفاعه عن حرية الفصائل الأخرى اليسارية الدنيوية ولا يعني بقية خلق الله من المسلمين وغير المسلمين!
مشكلة الدكتور جابر عصفور والتيار الذي يتحدث باسمه أنهما يؤمنان أن حرية الآخر مرفوضة تماماً، وأن غايتهما الأساسية هي إقصاء هذا الآخر تماماً مهما كان موضوعياً ومعتدلاً ومتزناً، وإلا فلننظر في المؤتمرات والندوات والمنشورات ومعارض الكتاب وغيرها من أوجه النشاط الثقافي، ثم نسأل من الذي يحضرها ويستفيد بها، ومن الذي تدور حوله الأضواء؟!
والإجابة بالطبع: أعلام التيار اليساري الدنيوي، وكأن مصر المسلمة عقمت إلا من هؤلاء، صحيح أن الظروف قد تستدعي أن يتسرب شخص مغاير أو أكثر إلى هذه الأنشطة، ولكن هذا التسرّب يأتي لغاية معروفة سلفاً هي تحسين الوجه الثقافي الذي تظهر به السلطة الثقافية المستبدة.
إن الحرية ـ كما ينادي عصفور وغيره ـ لاتتجزأ، ومسؤوليتها شاملة، ولكنها في واقعهم تتجزأ وتتحدّد، وتلك لعمري آفة التيار اليساري الدنيوي الذي يؤمن عملياً بمبدأ ميكافيللي: الغاية تبرر الوسيلة!
إن الضجة التي أثيرت حول نصر أبو زيد، وحسن حنفي، ومارسيل خليفة، وامرأتين خليجيتين، وحيدر حيدر، كان من المنتظر أن يحدث مثلها إن لم يكن أكبر منها من أجل الذين تقمعهم سلطات الحكومات المدنية ـ كما يسميها اليساريون والدنيويون ـ وتضعهم في السجون بلا محاكمات، أو تحاكمهم أمام محاكمات عسكرية لا يُردّ حكمها ولا ينقض، لأنهم يخالفون هذه السلطات في مناهجها، ويطالبون بالحرية والعدل والشورى والمساواة والإصلاح.. ولكن اليساريين والدنيويين ـ يمضون على منهج الغرب في احتقار العرب والمسلمين، ولا ينطقون بكلمة، ولا يتفوهون بلفظة لأن هذه السلطات ستمنع عنهم الماء والكلأ لو تكلموا، وتستغني عن خدماتهم لو نطقوا، وستبحث بعدئذ عن غيرهم بالضرورة، لذا فإنهم حريصون تماماً على الصمت عند اغتيال الحرية الحقيقية، والضجيج من أجل منتهكي حرمة الإسلام والمسلمين، ويصبح تأويل المحكم من آيات القرآن الكريم إبداعاً واجتهاداً وصنعاً للمستقبل، وغناء آيات القرآن الكريم على الألحان الموسيقية عملاً فنيّاً راقياً، والتوفيق بين الإسلام والحداثة الغربية بحثاً مبتكراً وإنجازاً فكرياً، وسبّ الذات الإلهية والرسول الكريم ص وتشويه صورة الإسلام، وتلويث المسلمين من الإبداع الذي لا يفقهه إلا أعلام النقد المستنير من أمثال اليساري فلان وعلان وترتان!
لو أن التيار اليساري الدنيوي الذي يمثّله جابر عصفور يعبر عن نفسه في وسائط ثقافية يملكها، ما اعترض أحد، ولكنه يعبّر عن نفسه في وسائط قومية يملكها الناس جميعاً ومنهم الأغلبية الساحقة المسلمة، وفي الوقت ذاته يمنع هذه الأغلبية الساحقة المسلمة من التعبير عن نفسها في الوسائط التي تملكها، فهل هذا عدل؟ وهل هذه حرية؟.
-
ضد التعصب أم ضد الإسلام ؟ (3 مـن 6)
أ.د. حلمي محمد القاعود
............................
يبكي الدكتور جابر عصفور في كتابه "ضد التعصب" من أجل الدكتور نصر أبو زيد الذي رفضت اللجنة العلمية ترقيته إلى درجة أستاذ، ويخصص أكثر من نصف الكتاب للدفاع عن نصر، وسرد محاكماته، وانتقاد الأحكام التي صدرت بردّته والتفريق بينه وبين زوجته نتيجة لتأويلاته الفاسدة لمبادئ إسلامية ثابتة ومعلومة.
والحقيقة أن نصر أبو زيد ضحية لجابر عصفور ومن معه، فقد ألقاه في اليمِّ وحذره من الغرق وهو لا يعرف العوم!
ويعلم جابر عصفور أن اللجنة العلمية، وخاصة لجنة الأساتذة المساعدين التي كان مهيمناً عليها، مع وجود من هم أقدم منه سناً وعلماً ووظيفة قد ظلمت كثيرين، ونكلت بكثيرين، وغدرت بكثيرين، لا لشيء إلا لأنهم لم يكونوا على منهج أهل اليسار والدنيويين، أو لأنهم أرادوا التعبير عن ذواتهم ونهوضهم في وجه المتاعب والصعاب.
هؤلاء المظلومون ـ وما أكثرهم ـ لم يجدوا صفحة للحوار القومي تساندهم، ولا صحافة يسارية تعضدهم، ولا أقساماً أو مجالس كليات علمانية تدعمهم، بل لم يجدوا من يصغي لهم أو يهدهد أحزانهم، وقد سمعت بأذني أحد أعضاء اللجنة يسخط على المهيمنين عليها، ويقول: إنهم يريدون ذلك، أي عدم ترقية فلان أو علان.. فالترقية المزاجية لم تكن ضد "نصر أبو زيد" ولم تكن رغبة "عبدالصبور شاهين" الذي اتهمه جابر عصفور بتهم غليظة، ولكنها كانت ضد المخالفين لليسار وأتباعه، ورغبة المحكمين اليساريين الدنيويين!.
مشكلة جابر عصفور وجماعته أنهم لا يرون إلا أنفسهم ومصالحهم، وهذه مأساة بكل المقاييس، وكانت الظروف التي تقدم فيها "نصر أبو زيد" للترقية حافلة برغبة جهات خارجية وداخلية للقضاء على بقية مظاهر النشاط الإسلامي، حتى الأنشطة الخيرية، مما أعطى لجابر وجماعته فرصة الانطلاق، ليس دفاعاً عن نصر بقدر ما كانت سعياً لعملية الاستئصال والتشهير بالإسلام، والداعين إليه وإلى تطبيق تعاليمه في الحياة اليومية والعامة، لا شك أن "نصر أبوزيد" كان ضحية لعملية واسعة ضد الإسلام، حيث كان موضوعه مدخلاً لبعث الأفكار الرديئة والكتابات السخيفة والتصورات الفاسدة التي تصب في تقويض مفاهيم الإسلام وأخلاقه، وتخدم الغرب الصليبي الاستعماري وقاعدته اليهودية في فلسطين المحتلة.
فرأينا مقولات الشعر الجاهلي ومستقبل الثقافة في مصر لطه حسين، والإسلام وأصول الحكم لعلي عبدالرازق، والمرأة في الإسلام لمنصور فهمي، وتربية سلامة موسى، ومؤلفات لويس عوض، وغيرهم من الذين استباحوا ثوابت الإسلام وقيم الأمة، يعاد إنتاجها من جديد، أو تطبع مرة أخرى، في الوقت الذي يتم فيه حصار الكتاب الإسلامي والمجلة الإسلامية والصحيفة الإسلامية من خلال أجهزة الدولة.
"نصر أبوزيد" كان شخصاً متديناً، وكان فلاحاً مجتهداً، ولكنه تحول بفضل الهيمنة اليسارية الدنيوية إلى ما اعتقد أنه صواب، فتجرأ على القرآن الكريم والتاريخ الإسلامي بغير الحقيقة العلمية، ودخل في متاهات، ما كان أغناه عنها لو أنه احتكم إلى المفاهيم الصحيحة للتأويل من خلال المنظور الإسلامي، وليس المنظور الغربي "الهرمينوطيقا"، إن القرآن الكريم يضم آيات محكمات وآخر متشابهات، والمحكمات واضحة وضوح الشمس لا يجوز تأويلها لأنها تقنن العقيدة والشريعة في قوانين إلهية لا تحتاج إلى تأويل أو اجتهاد، وقد أجمعت عليها الأمة سلفاً وخلفاً، فما الذي يدعوه إلى اختراق الثوابت واللعب بها؟ إنها الدعاوى التي غررت به وثبت زيفها: حرية التعبير وحرية الفكر، والعقلانية والاستنارة.. وكأن الإسلام لا يعرف شيئاً من ذلك أبداً في مفهوم اليساريين!.
أما المتشابهات من الآيات فمردها إلى أولي العلم الذين يملكون صلاحية البحث والتحري، وهؤلاء هم الثقات الذين تستريح إليهم الضمائر والأفئدة، ولهم اجتهادهم أو تأويلهم الذي يصل بهم إلى الحقيقة والصواب بإذنه تعالى.
لقد أخطأ نصر حامد أبوزيد، ورصدت محكمة النقض ـ أعلى درجات التقاضي ـ عدداً من أخطائه الفادحة والفاضحة، ولكن هذا لم يقنع جابر عصفور الذي بات ينوح على نصر، ويهجو القضاة والمحكمة والحكم، ويستشهد بآراء اليساريين والدنيويين الذين انحازوا إلى التجليات الفكرية الاستعمارية.
مشكلة جابر وجماعته مركبة ومعقدة، لأنهم يرفعون قميص عثمان ويطالبون بالثأر له، ولكنهم في الحقيقة يريدون الانتقام من الإسلام الذي يمثل عائقاً وحائط صد خطيراً في وجه التغريب والعلمنة والهيمنة الاستعمارية.
ترى لو أن نصر حامد أبوزيد استخدم التأويل في تفسير الإنجيل والتوراة، وذهب إلى عكس ما تعارف عليه الكرادلة والحاخامات هل كانوا سيتركونه أو يتركون المؤازرين له؟ وهل كان جابر عصفور وجماعته يستطيعون رفع أصواتهم، بل يتحدون القانون الذي يحظر التعليق على الأحكام الصادرة عن القضاء، وخاصة محكمة النقض؟
هل وصل الأمر إلى أن يكون الإسلام ديناً مستباحاً وأن يكون تسفيه أحكامه وتشريعاته ومبادئها لتي تربط الفرد بالمجتمع وتضع أسس العلاقة بين الراعية والراعي، أمراً مطلوباً من جهات خارجية وداخلية لإذلال العرب والمسلمين، وترسيخ أقدام اليهود في فلسطين. (فلا وربك لا يؤمنون حتى" يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما(65)) (النساء ) .
-
ضد التعصب أم ضد الإسلام (4 من 6)
بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
..................................
محنة نصر أبوزيد، التي أفاض جابر عصفور في الحديث عنها عبر صفحات كتابه "ضد التعصب" تمثل نموذجاً للعب بالنار الذي يقوم به التيار اليساري الدنيوي، حين تلتقي أهدافه مع غايات الاستبداد وقهر الوطن.
خذ مثلاً مصطلح "التنوير"، إنه مصطلح مخادع مخاتل، لأنه يراوغ القراء وخاصة عامتهم الذين يفهمون المعنى الظاهري، المباشر للمصطلح، وهو الإضاءة أو إشاعة النور ونشره، ولكن المعنى بمفهومه الأوروبي ـ كما يعرف جابر عصفور ويقصد ـ يكمن في الإيمان بما هو واقعي وطبيعي فحسب، مما يعني رفض الغيب والوحي والإله.
إن إعلاء شأن العقل دون سواه، يعني رفض الوحي الذي يمثله عندنا نحن المسلمين "النقل" متمثلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة والإجماع. إن العقل لا يتناقض مع النقل في الفكر الإسلامي.. حتى المعتزلة الذين يفخر بهم جابر عصفور وتلميذه نصر أبوزيد، يستخدمون العقل لإثبات النقل.. وإذا كان التنويريون الأوروبيون قد آمنوا بالعقل وحده، فذلك أمر طبيعي، لأن الكنيسة الغربية أعطت لنفسها حق التطهير والحرمان، وقيَّدت العقل، وأفسحت المجال للخرافة، وحاربت العلم والبحث، واستعبدت البشر، ونشرت الظلام في كل مكان، وهو ما لم يحدث في الإسلام، وفي العصور المظلمة كانت بغداد تفخر بأنها تخلو من وجود أمي أو أمية، وفي الوقت ذاته كان "شارلمان" إمبراطور الدولة الرومانية لا يعرف كيف يكتب اسمه.
من مزايا التنوير الأوروبي، أنه أكد على كرامة الإنسان، بصرف النظر عن الناحية العقدية، ولكن التنويريين العرب، يرون التنوير محدوداً بنقطة واحدة هي إلغاء الإسلام، لأن مرجعيته تقوم على النقل، وهي القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع المسلمين، وقد دفعهم هذا إلى الرضا بسحق الإنسان "لأنه مسلم"، وخدمة الأنظمة المستبدة "التمرّغ في خيراتها بالتالي"، والصمت عن ممارساتها في مصادرة الحرية والكرامة والشورى "التي هي أكبر مساحة من الديمقراطية"، والمساواة والعدل والمشاركة في صنع الأوطان.. في أوروبا لا تقتحم الشرطة بيت مواطن في الفجر، مهما كانت التهم الموجهة إليه، ولا يتم تعذيبه بأحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا، ولا يُلقى في السجن دون محاكمة، ولا يُعاد اعتقاله بعد تكرر أحكام الإفراج عنه، ولا يُحاكم أمام قاض غير قاضيه الطبيعي، ولكن هذا كله يحدث في كثير من البلاد العربية، ويؤيده أهل التنوير العرب، ويرونه جزءاً من التنوير!.
ويستخدم جابر عصفور مثلاً مصطلح "التأسلم" و"المتأسلمين" تعبيراً عن كل من يرى ارتباط الإسلام بشؤون الحياة والمجتمع والحكم والاقتصاد والتربية واجباً، وهذا المصطلح سكَّه شيوعي سابق كان تلميذاً لهنري كورييل ـ الصهيوني الهالك ـ وصار مليونيراً حالياً ومتأمركاً بارزاً. وقد أكثر جابر عصفور من ترديد هذا المصطلح على مدى اتساع كتابه ليؤكد على حقيقة أن كل من يدعو إلى الإسلام بمفهومه الصحيح هو دعيّ يطلب الحكم ويسعى إليه.
والتأسلم بهذا المفهوم التنويري يعني أن صاحبه ليس مسلماً حقاً ويتستر بالإسلام، أي أنه كافر، وهو ما يسميه جابر عصفور وشيعته بالتكفير، ويعيبه على بعض المسلمين الذين يكفرون الآخرين، ويفتشون في قلوبهم.. ولكن ما يعيبه جابر عصفور على غيره، يقترفه هو.
وهكذا فإن علماء الدين ورجال الأزهر، وكل من يكتبون أو يدعون إلى الإسلام الشامل هم كفرة عند جابر عصفور وشيعته، فضلاً عن كونهم إرهابيين يستحقون الاستئصال والسحق.
ومثل "التنوير" و"التأسلم" يستخدم عصفور مصطلح "الأصولية" بمفهومه الغربي، وهذا المفهوم يجعل المصطلح مقيتـاً وكريهاً، لأنه ضد الحياة والتقدم والمستقبل، وتطبيقاته عند الأصوليين اليهود والصليبيين في أمريكا وكندا والغرب توحي بالتخلف الشديد والعداء للحضارة والمدنية.. فهل الأصولية عند المسلمين كذلك؟ الحقيقة أن الأصولية عند المسلمين مفخرة لهم ولدينهم ولحضارتهم، فهي تعني القياس والاستحسان والمصالح المرسلة والاجتهاد الذي يحقق صالح الناس.. وإذا كان بعض الأصوليين في الغرب يرفض نتيجة المدنية الغربية الحديثة من آلات ومبتكرات، فإن الأصولية عند المسلمين تسعى لتوظيف هذه المنتجات وتقبلها في الدائرة اليومية الإنسانية.. وبالطبع، فإن أصولية المسلمين دليل على الوعي والتفتح ومعانقة الحياة، وفارق كبير بين من يرفض استخدام المصباح الكهربي، ومن يوظفه ليستفيد منه على أكبر نطاق.. ومن المؤسف أن جابر عصفور في كتابه "ضد التعصب" ظل يلف ويدور حول معنى الأصولية لغوياً دون أن يلتفت إلى دلالتها حضارياً لدى علماء المسلمين، مما أوقعه في التأويل الخاطئ.
لا ريب أن "جابر عصفور" يجد متعة في استخدام المصطلح استخداماً مراوغاً يخدم أهداف التيار اليساري الدنيوي، ويدعم السلطة الشمولية التي تحكم بالطوارئ والمحاكم العسكرية، وما رأيناه في استخدامه للتنوير والتأسلم والأصولية، ينسحب على بقية المصطلحات التي يبثها عبر صفحات كتابه "ضد التعصب" مثل الاجتهاد، والتعدد، ونسبية النتائج، والمجتمع المدني، والدولة المدنية، والاستبداد الديني "يقصد الإسلامي!"، والسؤال والشك، والتجريب والإبداع، ورجال الدين والتعصب الديني، والاتباع والابتداع، والثقافة التقليدية، والدولة الدينية، والخطاب الديني، وجماعات الضغط المتأسلم... إلخ.
-
ضد التعصب أم ضد الإسلام ( 5 – 6 )
بقلم: أ . د . حلمى محمد القاعود
....................................
يُخصص جابر عصفور جزءاً غير قليل من كتابه (( ضد التعصب )) دفاعاً عن (( حيدر حيدر )) صاحب الرواية البذيئة الفاجرة (( وليمة لأعشاب البحر )) ، وجابر عصفور له ولع خاص بالكتّاب (( الطائفيين )) ، فهو يتحدث عنهم كثيراً ويحتفى بهم كثيراً وعلى سبيل المثال ، فقد خصص ل (( على أحمد سعيد )) المشهور باسم (( أدونيس )) عدداً خاصاً من مجلة (( فصول )) عندما كان رئيساً لتحريرها ، ويوم وفاة (( سعدالله ونوس )) خرج عن سياق كلمته فى ندوة كانت مخصصة للاحتفال بمحمد فريد أبو حديد ، ليرثى بحزن وهلع الكاتب النصيرى الراحل بصورة كادت تغطى على المحتفى به !.
ومع (( حيدر حيدر )) فقد ذهب إلى أبعد من ذلك ، حيث كانت مشورته لوزير الثقافة بمصادمة الأمة كفيلة بإثارة القلاقل والاضطرابات ، فبعد أن أعلن الوزير – فاروق حسنى – أن رواية الوليمة ستخضع للتحقيق ، خرج ليعلن – وفقا للمشورة – أنها رواية رائعة وليس بها ما يُسىء إلى الإسلام أو المجتمع ، وتجرأ الوزير على رافضى الرواية بكلام مستفز، فتحرك الطلاب فى جامعة الأزهر ليتظاهروا ، ثم كانت اللجنة التى شكلها الوزير برئاسة (( عصفور )) لدراسة الرواية سبباً آخر من أسباب إثارة التوتر ، حيث غالط أعضاؤها ، ودلسوا على الأمة ، وزعموا أنهم وحدهم أصحاب الاختصاص فى قراءة الرواية وفهمها والحكم عليها ، أى احتكار القول الفصل فى شأنها ، مما يعنى أن غيرهم – ولو كان متخصصاً – لا يفهم الرواية ولا يستطيع تقويمها ...
والرواية ببساطة شديدة رواية ماركسية كتابة وأشخاصاً ، وكما يعلم أبسط الناس ، فالماركسية ضد الإسلام ، ومعادية له ، وهذا ما صنعته الرواية ، فقد سبت الذات الإلهية على لسان شخوصها ، وأساءت إلى النبى – صلى الله عليه وسلم - ، وهو ما أكده حيدر فيما بعد حين تحدث إلى إحدى القنوات الفضائية . . ثم إن الرواية الرديئة فناً وإبداعاً – حافلة بالإباحية والجنس الفج والدعوة إلى الشذوذ ، ومع هذا تخرج لجنة عصفور لتهجو الأمة التى لا تفقه قراءة الرواية ، ولا تفهم تجلياتها الإبداعية الرائعة فى مفهوم اللجنة اليسارية الدنيوية !، ثم – ويا للمفارقة – تتحدث عن دفاع الرواية عن الإسلام من خلال وصف المجاهدين الجزائريين وهم يهبطون من الجبال بعد انتصار الثورة ويهللون ويكبرون !.
وكم رأينا من تدليس وكذب ، فى نقل الأقوال وتفسير العبارات دون خجل أو حياء ، وكانت النتيجة أن تصدت قوات الشرطة لطلاب الأزهر ، وسقط جرحى ، وقبض على عديدين ، وتواترت أنباء عن تعذيبهم ، ثم كانت الطامة الكبرى بإغلاق حزب العمل ذى التوجهات الإسلامية ، وإيقاف صحفه ، مما نتج عنه تشويه صورة الدولة (( المدنية )) التى ينافح عنها عصفور ، حيث ظهرت بمخالب عسكرية شرسة .
ولا يجد (( جابر عصفور )) غضاضة فى قلب حقائق الأشياء ، وهو يسرد قصة الوليمة البذيئة وما رافقها من أحداث ، فيُسميها (( الرواية المظلومة ! )) ويؤكد على أن مظاهرات طلاب الأزهر حركتها قواعد (( الإخوان المسلمون )) فى الجامعة . ثم يقدح فى الأزهر بطريقة غريبة ، ويصف ثقافته بثقافة النقل والتقليد المعادية للعقل (( ولا يُشجع على الاجتهاد والاختلاف ، والنتيجة هى شيوع الجهل الذى يتكاثف كما تتكاثف الظلمة ، والتعصب الذى ينمو أسرع من ورد النيل القاتل ، والاندفاع إلى العنف الذى ينتظر إشارة )) ( ص 412) .
إن ثقافة الأزهر الذى يضم مئات المعاهد وعشرات الكليات فى مختلف التخصصات مستمدة من الشريعة ، وتشمل الطب والهندسة والصيدلة والعلوم ، ويتدرب طلاب الأزهر منذ الصغر على فقه المذاهب ونحو المدارس وآراء علماء الكلام ووجهات نظر المفسرين وروايات المحدثين وأقوال المؤرخين .. فهل يمكن لمنصف بعد ذلك أن يصف الأزهر بالجهل والتقليد والعنف ؟ .
إن جابر عصفور – وحده – هو الذى يستطيع أن يندفع بتعصبه الدنيوى (( غير العقلانى )) ليسوء الأزهر ويهجوه هذا الهجاء المقذع دون أدنى تحفظ ! والمفارقة أن شيعته اليسارية الدنيوية دبجت – ذات يوم – مدائح فى أحد شيوخ الأزهر الذى أحل فوائد البنوك ووافق السلطة فى اتجاهاتها ، ولم تبخل عليه بوصف (( المستنير )) ، ولا أدرى إن كان فضيلته قد أدرك المغزى الفلسفى لهذا الوصف أم لا ؟
إن الرواية البذيئة كشفت حقيقة التدليس اليسارى الدنيوى وتخليطه الفكرى وخطابه (( الديماجوجى )) سعياً لإرضاء الاستبداد وقهر الشعب ، وأيضاً لاستئصال الإسلام وجذوره الراسخة من وطن يعده أهل الأرض المسلمون عقل الإسلام وذراعه القوية فلصالح من يفعل ذلك اليساريون الدنيويون ؟ اسألوهم .
لقد أدان الأزهر الشريف الرواية البذيئة وأكد بيانه الصادر بهذا الشأن أن الرواية كلها (( تحرض صراحة على الخروج على الشريعة وعدم التمسك بأحكامها )) .
فكان غضب عصفور على الأزهر ضارياً ، ولم يحتمل رأى الأزهر فى الرواية ، ولم يقبل الرأى الآخر ، فراح يحرض على الأزهر وطلابه وأساتذته والحركة الإسلامية ، ويصف الرواية البذيئة بالرواية (( المظلومة ! )) ، ويقلب الحقائق مااستطاع إلى ذلك سبيلاً .
-
ضد التعصب أم ضد الإسلام؟ (6 من 6)
بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
................................
يحرص جابر عصفور في كتابه "ضد التعصب"، على مطاردة الثقافة الإسلامية مطاردة أمنية من خلال تحريضه السافر ضد وسائط التثقيف الإسلامي، إنه يسمي الثقافة الإسلامية بثقافة العنف، وهي التسمية الرائجة في الغرب الصليبي الاستعماري الذي لا يرى في ثقافتنا إلا الإرهاب والتعصب والعنف، وهي التسمية ذاتها التي تشير إليها العصابات اليهودية في فلسطين عندما تتحدث عن الإسلام وقيمه.
ثقافة العنف عند جابر عصفور "ثقافة مرجعيتها دينية!، تبدأ وتنتهي بالدين الإسلامي على نحو ما تتأوّله مجموعة من الأفراد أو التنظيمات أو الجماعات أو بعض المؤسسات الدينية"، ثم يستدرك على ذلك قائلاً: "ويعني ذلك أن السند الديني المباشر لهذه الثقافة ليس نصوص كتاب الله وأحاديث الرسول وسنته، وإنما تأويل هذه النصوص بما يشدّها إلى هدف بشري بالضرورة، ويضعها في سياق من العقلنة التفسيرية الموظفة لخدمة بعينها، غاية ترتبط بما يحقق مصالح الأفراد أو الجماعات أو التنظيمات أو المؤسسات التي تجعل من هذا التأويل، أو هذه العقلنة التفسيرية، أصلاً لوجودها، ومبرراً لاتجاهاتها، ودافعاً لمواقفها وأفعالها، والهدف السياسي لهذه العملية هو التمهيد الفكري لإقامة دولة دينية تحل محل الدولة المدنية" (ص441).
مشكلة جابر عصفور أنه يراوغ دائماً في كتاباته ومصطلحاته ليحقق التأثير المطلوب لدى القراء، ولكن القراء الواعين يدركون أنه يناقض نفسه دائماً، فكثيراً ما اتهم الحركة الإسلامية بل الفكر الإسلامي بالنقل والتقليد والجمود، ولكنه في الفقرة السابقة يتحدث عن "العقلنة التفسيرية" التي تملكها ثقافة العنف كما يسميها أو ثقافة الإسلام، كما يقصد في حقيقة الأمر.
إنه يصم هذه الثقافة وأصحابها بعدم العقلانية، ولكنه هنا يثبتها لهم حتى لو كانت في اتجاه مضاد له مما يعني أن الرجل ليس على موقف عقلاني راسخ، بل موقف عاطفي تعصبي لا يطيق وجوداً للثقافة الإسلامية.
إن جابر عصفور يرفض المرجعيّة الدينية أي المرجعية الإسلامية، وهذه رؤية غربية أو رؤية كنسية تحديداً، تختلف بالضرورة اختلافاً كاملاً مع الرؤية الإسلامية التي ترى أن الإسلام يحكم المسلم في كل شيء.
لقد وضَّح الإسلام في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة أحكاماً أساسية وفرعية في العبادات والمعاملات والسلوك والقيم والعلاقات بين المسلمين وغيرهم، وبين الدول الإسلامية والدول الأخرى، وهذه هي المرجعية الإسلامية "لا الدينية كما يسميها جابر عصفور"، ولا أعتقد أن مسلماً مؤمناً بالإسلام حقاً يمكن أن يقبل بالتنازل عن الإيمان بالجانب التطبيقي من الإسلام مكتفياً بالجانب الروحاني، لأن هذا إيمان ببعض الكتاب وكفر ببعضه الآخر.. ويبدو لي أن جابر عصفور يعيد إنتاج مقولة علي عبدالرازق في كتابه الشهير "الإسلام وأصول الحكم"، وإذا كان الرجل قد تراجع في كهولته عن هذه المقولة، فإننا نسأل الله أن يتراجع جابر عصفور عنها هو الآخر، وأن يكون من جنود الإسلام الذين ينصرونه وينافحون عنه، كما تمنيت في بداية حديثي حول كتابه.
إن التأويل الذي يتحدث عنه عصفور، ليس صحيحاً، فالأمة لا تقبل إلا ما يتفق مع القرآن الكريم والسنة المطهرة، وليست هناك قداسة لأحد أو عصمة لمخلوق في الإسلام، فالقداسة لله وحده، والعصمة لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وما عداه يؤخذ منه ويُردّ عليه، وقد تحدث القرآن الكريم عن قضية التأويل بوضوح وحسم:
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب (7) (آل عمران).
إن الدولة في مصر والبلاد العربية والإسلامية لن تكون إلا دولة إسلامية (وليس دينية!)، مرجعيتها الإسلام شئنا أم أبينا، لأن جماهير الأمة ليست على استعداد لمفارقة الإسلام واللهاث وراء الغرب الصليبي، ولو أراد بعض حكامها.. بل إن الغرب الصليبي يعد الدول العربية والإسلامية جميعاً "دولاً أصولية" أي إسلامية، حتى تلك التي تستأصل الإسلام وتحاربه في إعلامها وبوساطة "مثقفيها المستنيرين".
والدولة الإسلامية هي الدولة المدنية الوحيدة في العالم ، لا شأن لنا بما هو واقع؛ لأنها نقيض الدولة الدينية (الكنسية واليهودية)، وهي الدولة الوحيدة التي تجعل من تمام الإيمان، بل من أسسه رفض العنصرية والظلم والغدر، وتقيم بنيانها على التسامح والعفو والتعاون والحرية والشورى.. وليت جابر عصفور يتخلى عن الرؤية الغربية للإسلام، ويحاول قراءته بعقلانية وحياديّة، بعيداً عن صخب التعصب التنويري، والتعصب السياسي، ورغبة الاستئصال لجذور الإسلام.. ولاشك أنه سيجد ثراءً عقلياً وحضارياً باهراً يفوق ما لدى الغرب والشرق جميعاً.
وأكتفي بهذه السطور متمنياً لصديقي اللدود الخير والعافية والسلامة من كل شر.
-
جابر عصفور.. والطاهر وطار
بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
................................
"الطاهر وطار" كاتب جزائري يساري, كتب إلى وزير الثقافة المصري ينتقد مؤتمر المثقفين الذي انعقد أول يوليو الحالي, ولكن هذا الانتقاد لم يعجب صديقي اللدود "جابر عصفور" وزير الثقافة التنفيذي (أمين المجلس الأعلى للثقافة), وأرجع صديقي اللدود موقف "الطاهر وطار" إلى تحالفه مع الجماعات الإسلامية الجزائرية!! المؤتمر حضره قرابة مئتي كاتب ومفكر معظمهم من الشيوعيين القدامى وبعض الليبراليين, واثنين من المحسوبين علي التيار الإسلامي، أحدهما وزير سابق, والآخر أستاذ قانون.
المفارقة أن "جابر عصفور" كتب قبل أيام في "الأهرام" يشيد برواية "الزلزال" لـ "الطاهر وطار"؛ لأنها تتعمق في شخصية الإرهابي.. أي المتدين المسلم! وعدّه رائداً في هذا السياق.. بالطبع فإن مؤلف "الزلزال" لم يتعاطف مع "الإرهابي" وقدمه في صورة بشعة دون أن يقدم المقابل غير الإرهابي من المتديّنين الصالحين!
-
التوحش الأمنى .. إلى أين ؟
بقلم: أ.د. حلمى محمد القاعود
................................
هل سياسة العنف التى يتبعها البوليس المصرى تأتى فى سياق ظاهرة عابرة أو مؤقتة .. أم تمثل استراتيجية ثابتة ودائمة ؟ دعونا أولاً نقرأ هذه القصة بما فيها من مفارقات تضىء لنا الإجابة على هذا السؤال ..
شيخ الخفر حمدان قريبى ، وكتبت عنه من قبل ، وهو يتصور أنه يحكم القرية التى ننتمى إليها ونعيش فيها ، ويرى أن من واجبه أن يتمم على كل شبر فيها ، ويعلم كل خبر عن أهلها ، ويسرع بإبلاغ ما يعرفه إلى العمدة ، وإن لم يجده فإنه يتصل بالمركز ، ولكى يثبت أهميته وجديته وولاءه ، فإنه عادة يلجأ إلى التهويل الذى يثير الهلع فى القلوب والنفوس ، ويستفز السكون ، ويحرك الكسل والخمول !
كان هناك شيخ طيب ، وإمام مشهور فى مدينة المحلة الكبرى يأتى سنويا ليزور مدينة دسوق حيث مقام الولى الشهير " إبراهيم الدسوقى " ؛ فيصلى الظهر أو العصر ثم ينتقل إلى قريتنا حيث مقام والده " عبدالعزيز أبى المجد " ، فيؤدى الفريضة التالية ، ويبذل الصدقات على الفقراء والمحتاجين هنا وهناك ، كان يصحبه فى زوراته التى بدأت منذ ثلاثة عقود أو أكثر بعض محبيه من كبار تجار المحلة وغيرهم فى سيارات فاخرة ، ويفعلون مثلما يفعل ، ويوجههم أحياناً لاستكمال مشروع خيري فى هذا المسجد أو ذاك .
فى آخر زورة للشيخ الطيب قبل عشرة أعوام تقريباً بدا له أن يحمل كيسا يُشبه " الجوال " مليئاً بأوراق المصاحف المتهرئة ؛ والكتب المستهلكة التى عدا عليها الزمان ، ورأى أن أنسب مكان للتخلص منها حتى لا يدوس عليها أحد أو ينال من قدسيتها أحد ، هو نهر النيل الذى يفصل بين دسوق وقريتنا ، وبوساطة مركب صيد صغير قذف الجوال وسط النهر . كان الوقت عصراً ، ورأى الناس ما فعله الشيخ الطيب الذي عاد لينتظر الصلاة .. ولكن شيخ الخفر حمدان علم بالأمر ، ويا ويل الشيخ ومن معه ، من حمدان الذى كان متأثراً بأحداث العنف بين السلطة والجماعات آنئذ .. فقد جرى حمدان واتجه إلى رؤسائه ، وأبلغ أن الإرهابيين كانوا يرمون سلاحاً فى ماء النيل وأنه تم القبض عليهم واحتجازهم بمركز شباب القرية !
قامت الدنيا ولم تقعد ، وبسرعة البرق كانت لوريات الأمن المركزى وسيارات الشرطة والأجهزة الأمنية والإدارية ،تسد عين الشمس؛ وانقلبت الدنيا فى قريتنا الوادعة .. وتم استدعاء الضفادع البشرية ، وامتلأ نهر النيل باللنشات التى تحمل خفر السواحل ، وجرى مسح لقاع النهر ، لم يُسفر عن شىء !!
كان الشيخ ومن معه قد تعرضوا لاستجوابات ومساءلات ، وما أدراك ما الاستجوابات والمساءلات التى ظلت حتى اقترب منتصف الليل ، وبعد اتصالات ومكالمات بين من يعرفون الشيخ من المسئولين وكبار رجال الأمن فى الغربية ، ونظرائهم فى البحيرة ، تم الإفراج عن الشيخ الطيب – رحمه الله – وصحبه ، وانسحبت الضفادع البشرية ولنشات السواحل ولوريات الأمن المركزى ، وسيارات الشرطة ورجال الأمن والإدارة !
شيخ الخفر حمدان ، يُقال إنه تلقى مكافأة على ما فعله ، لأنه دلل على يقظته وإخلاصه ووفائه للجهاز الأمنى .. ولم يسأل أحد نفسه ، هل هذه العقلية الأمنية تصلح لحماية البلاد والعباد ، وهى العقلية السائدة الثابتة منذ الاحتلال الإنجليزى حتى اليوم؟ !
بالتأكيد ، لم يسأل أحد ، ولن يسأل أحد ، لأنه منطق القوة ، وليس منطق العقل ، هو الذى يحكم حياتنا بصفة عامة ، وأجهزتنا الأمنية بصفة خاصة .
ثارت ثائرة بعض الصحف التى يوالى نفر منها أجهزة الأمن ، لأن كميناً على ساحل البحر الأحمر ، احتجز مواطنا مع أسرته ، وعذبه ، وأذله ، وقهره ؛ وهدده بالاغتصاب ، وأرغمه على تقبيل أحذية الجنود !
ومع أن الأمر عادى فى بلادنا المحتلة " احتلالاً وطنياً ! " ، فقد بدا الأمر لبعض الناس أن المسألة استثناء ، وأنها غريبة ، وأن السلطة يجب أن تتخذ موقفا مما جرى !
الإنسان المصرى ، كما قلت وأقول وسأقول ، هو أرخص سلعة فى مصر، لا كرامة له ولا حرية لديه . هو عبد يفعل به المحتلون الوطنيون ما يشاءون وقتما يريدون بالطريقة التى يحبون .. دعك مما يقال عن الدستور وسيادة القانون ووجود القضاء ، فكل هذا لا يغنى عن المواطن شيئاً أمام سطوة الغزاة الوطنيين الذين يرون أن مصر هى أرض الميعاد للتنفيس عن كل عقد العالم النفسية فى مواطنيها أيا كانوا ، كبارا أو صغاراً ..
ألم تسمع عن القضاة الذين تم ضربهم فى لجان الانتخابات التشريعية الأخيرة ، وشتمهم بأقذع الألفاظ ؟ ألم تر وتسمع عن سحل القاضى المستشار فى قلب المحروسة أمام جموع الخلق وعلى مرأى ومسمع من كاميرات التلفزة ووكالات الأنباء العالمية ؟
ثم دعك من كل هذا ، وتذكر أن سجون مصر ومعتقلاتها تضم عشرات الألوف من المصريين يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب والوحشية التى يعف عن ممارستها الحيوان المتوحش فى الغابة ؟ لقد سجل التاريخ المعاصر أبطالاً وأعلاماً فى التعذيب الوحشى من الجيش والشرطة على السواء ، وأظنك سمعت عن شمس بدران وصفوت الروبى وصلاح نصر وفؤاد علام وحسن أبوباشا وزكى بدر .. الإنسان المصرى لا قيمة فى دولة تسحقه وتدمره لتثبت أنها على صواب ، وأنها تملك العناد الذى يجعلها لا تتراجع عن خطأ أو منهج مهما كان الحق واضحا أبلج !
شعبنا الطيب المسالم ، لا يحتاج إلى مليون ومائتى ألف جندى شرطة كى يحرسوه .. لا يحتاج إلى هذا العدد من السيارات المدرعة والمدافع الرشاشة والخوذات الحديدية ، ووضع الاستعداد الدائم ، والطوارئ المستمرة ..
شعبنا الطيب المسالم يحتاج إلى العدل .. والعدل أمر سهل وبسيط لو أراد الغزاة الوطنيون والمستعمرون المحليون ..
إن القبضة الحديدية أو التعذيب الوحشى لن يحل مشكلة سياسية أو جريمة جنائية ، بل إنه يُضاعف من المشكلات والجرائم ، فمن يدخل السجن مرة ، أو من يُعذب مرة ، لن يخشى السجن أو يخاف التعذيب مرة أخرى . والأمثلة أوضح من أن تذكر .
إن التعذيب خلق العنف ، وضاعف الجريمة ، وأتاح للإرهابيين والمجرمين أن يتكاثروا وأن ينتقموا وأن يُحوّلوا البلاد إلى بيئة للخراب لم تعرفها على مدى تاريخها .
إن احترام كرامة الإنسان المصرى كفيل وحده بتحقيق الأمن والأمان ، أما الاعتماد على القبضة الحديدية والتعذيب الوحشى ، فهو طريق الندامة ، للوطن كله ، بما فيه الغزاة الوطنيون والمستعمرون المحليون .
إن صراخ المواطنين فى أقسام الشرطة لن يحقق هيبة الدولة ولن يُرسى دعائم الأمن ، وإلقاء المواطنين موتى إلى الشارع بعد تعذيبهم فى بيوتهم لا يعنى أن السلطة قوية ظافرة ، وتلفيق التهم والقضايا للأبرياء لن يخلى مسئولية الغزاة الوطنيين والمستعمرين المحليين ، وعشرات المآسى اليومية التى تتحدث عنها الصحف نتيجة للإهانة والإذلال على يد من يحرسون القانون وينفذونه ، لن تجدى فى بناء دولة آمنة مطمئنة !
يظن بعض الطغاة أن الزمان كفيل بالتغطية على جرائمهم .. ولكن هيهات ! هل يمكن أن يفلت قاتل " كمال السنانيرى " مثلاً ؟ إنه لن يفلت من الله ولو أفلت من خلق الله .
وأخشى أن يتحول المظلومون الذين يُلاقون التعذيب والإهانة ، إلى وحوش ضارية لا تنتظر كلمة القانون بقدر ما تنتظر اللحظة المناسبة للثأر الشخصي والانتقام بأيديهم .. ويا ويل مصر .. إذا يئس المظلوم من تحقيق العدالة ، ورأى المجرم يمشى فى الأرض مرحاً ، وتدافع عنه أو تلمعه أبواق مأجورة ، وصحف منافقة ، ودعاية كاذبة ، ووطن صامت !
........................................
*المصريون ـ في 12/6/2006م.
-
معاً .. ضد التوحش الأمنى
بقلم: أ.د. حلمى محمد القاعود
...................................
من المؤكد أن التوحش الأمنى يقود البلاد إلى العنف والفوضى ، ولو تسلح بأبواق الزور ، والأقلام المأجورة ، وبلطجية الفكر والثقافة والإعلام ، وتحويل الموضوع إلى ما يُسمى مواجهة الظلامية والأصولية والرجعية ، فهذا التحويل يدخل فى صلب عملية التوحش الجاهل الأعمى الحقود .
وتعذيب المواطن الذى لا حول له ولا شأن داخل السجون والمعتقلات ، أو قهره وإذلاله فى الكمائن والأقسام والمراكز والمديريات ومقار الأجهزة المرعبة ، أمر يمنع التقدم والتحضر والديمقراطية ، فضلاً عن الحرية والكرامة والإنسانية ، ويؤكد على إجرام السلطة وعدوانيتها ووقوفها ضد مواطنيها وشعبها .
وإذا استمرت " ثقافة الخوف " تحكم جموع الشعب ، فستظل السلطة فى توحشها وهمجيتها ، مالم يقدم الناس تضحيات حقيقية فى مكانها . وأهل بلادى يملكون القدرة على العمل المنظم الجاد الذى يقضى على هذه الوحشية والهمجية إلى الأبد ، ويصنع مجتمعاً يملك أهله الكرامة والحرية والآدمية وسوف أوجز بعض النقاط التى أراها ضرورية فى السطور التالية :
أولاً : ضرورة إشراف وزارة العدل من خلال القضاء والنيابة العامة على السجون والمعتقلات وأماكن الاحتجاز فى الأقسام والنقاط والمراكز والمديريات ومقار أمن الدولة ، وأن تخضع للتفتيش الدائم المستمر ليلاً ونهاراً ، حتى لا يموت مواطن من التعذيب أو يقتله زملاؤه فى الحجز ، أو يقضى نحبه نتيجة الإهمال فى علاجه أو إسعافه .
يُحكى أن الجلاد زكى بدر صاحب المقولة الشهيرة " الضرب فى سويداء القلب ! " التى أسست لعهد من الدم والدموع والآلام ، لم تنمح آثاره بعد ، كان - وهو لما يزل ملازماً تحت الاختبار فى إحدى قرى الفؤادية ( الغربية حالياً ) - رئيساً لنقطة الشرطة فيها ، وكان هناك – على عادة هذا الزمان – عصابات سرقة المواشى ، وكان لإحدى هذه العصابات زعيم شرس ، لم تتمكن منه السلطات ، وإذا بزكى بدر يقبض عليه ، وفى ليلة لم يطلع فيها قمر ، يربطه فى خيل السوارى ويسحله بوساطة جنوده ، حتى يقضى الشقى نحبه فى اسوأ ميتة ، لا يقرها القانون ولا الدين ولا الفطرة .. مهما كانت أفعال الشقى وجرائمه !
ثانياً : ويترتب على أولاً ، لا بد من اختيار وزير الداخلية بموافقة مجلس الشعب ، بعد عرض ملفّه وتاريخه ومهاراته وقدراته على الأعضاء ، وأن يناقش المجلس سيرته الذاتية وسلوكه الشخصى ونسبه العائلى .. فابن الناس ، لا بد أن يكون مع القانون ومع الحق ومع الوطن مهما كانت المرهّبات والمرغّبات .
ويُحكى أن وزيراً رجلاً وابن ناس اسمه " أحمد رشدى " ، تولى الوزارة ، فأفرغ الحالة الأمنية من الاحتقان ، وكان متواضعاً وبسيطاً ، وحارب تجار المخدرات وقد رأيته ذات يوم ينزل من سيارته فى أحد شوارع وسط البلد ، ويُتابع حركة المرور دون ضجيج أو عجيج .. وللمفارقة ، فإن من خلفه كان يسخر منه لأنه يهتم بالمرور وغير المرور ..
بيد أن التاريخ أنصف الرجل " ابن الناس " الذى ترشح لانتخابات مجلس الشعب فى إحدى دوائر المنوفية ، فأغدق عليه الناس حُباً كبيرا ، وفاز بأغلبية ساحقة لم تصنعها الحكومة ، وظل محاطاً بالاحترام والتقدير حتى يوم الناس هذا !
ثالثاً : إن دور الصحافة الحرة – وليس صحافة لا ظوغلى – مهم للغاية فى كشف الانحرافات والتوحش الأمنى . وليس معنى وجود رجال أمن من أبناء الناس ، أن تصمت الصحافة الحرة عن كشف المنحرفين وملاحقتهم .. لم يقل أحد إن رجال الشرطة كلهم مجرمون ، ولم يقل أحد إن الشرطة يجب أن تذهب إلى الجحيم .. ولكن الناس يطالبون بمعاقبة المنحرفين الشواذ ، وإنزال أقسى العقاب بهم ، وعدم تمكينهم أصلاً من ممارسة ساديتهم فى التعذيب والإذلال .
نحن نعرف رجالاً شرفاء بكل معنى الكلمة ، ويقدرون على معالجة الأمور بحصافة وذكاء من أجل الوطن وليس من أجل من يحكمونه ، وهم معدودون بقدرعدد الشرفاء فى البلاد ، ولكن المشكلة فى أولئك الذين نبتوا بلا جذور ، وتمكنت منهم أمراض الشذوذ والسادية فراحوا يعذّبون بوحشية ، ويؤذون بهمجية ، ويغتالون كرامة البشر فى جوف الليل ووضح النهار ، دون وازع من خلق أو دافع من رحمة ! وهؤلاء لا بد أن تتعقبهم الأقلام الحرة بلا هوادة ولا تراخ .
رابعاً : إن كفاءة الأمن لا تكمن فى كثرة الأعداد وحداثة المعدات ، بقدر ما تكمن فى فرد الأمن الكفء الذى يملك القدرة على التعامل الذكى والحازم مع المشكلات ، وهو التعامل الذى يحلّها قبل أن تتفاقم أو تتعقد ، وهو أيضاً التعامل الذى يمنع وقوع الجريمة قبل حدوثها بوعى ودون إفراط أو تفريط ..
ليس من المقبول شكلاً أو موضوعا الاعتماد على مخبر شبه أمّى ، تُحرّكه ورقة نقود تقوده إيجابياً ، وتًمنع عنه فيتحرك سلبياً ! تحكمه نوازعه الشخصية ، أو رغبته فى إثبات الولاء لرؤسائه فيكتب تقريرا ضد هذا أو مع ذاك . وكذلك الحال في الضباط الذين يتوقون إلى إثبات وجودهم على حساب الأبرياء والضعفاء . وما بالك بضابط يكتب تقريراً ليعتقل الشخص السياسي الذى قضى عقوبته مرة ثانية من أجل ترقية أو علاوة ؟
نحن نريد فرد أمن يملك الثقافة والخبرة والتدريب والقدرة .. وآن الأوان أن ينشأ جيل جديد من رجال الأمن يملكون شهادات الحقوق أولاً ، وتتوفر فيهم المؤهلات المطلوبة ثانية ، ولا عيب أن يكونوا برتبة عريف أو رقيب أو رقيب أول ، وتكون لهم الصلاحيات التى تحل مشكلات المواطنين وقضاياهم بدلاً من اكتظاظ المحاكم بقضايا تافهة وهامشية .. ولنتعلم من إنجلترا وفرنسا وألمانيا .. من حيث تكوين رجل الأمن ، وليس بما يملكه من سلاح وأجهزة تجسس وتنصت على عباد الله الأبرياء !
والسؤال الآن : كيف تتحقق هذه الأمانى ؟
لا ألقى كلامى فى الهواء أو البحر . بل أطرحه وأعلم أنه ممكن التنفيذ حين تتحد الإرادة الشعبية العامة من خلال النخب والنقابات والمؤسسات ورجال الفكر والثقافة والصحافة وأساتذة الجامعات وأعضاء مجلس الشعب والشورى ؛ الذين يملكون الضمير والخلق ، وبعضهم ذاق عذاب السجن والاعتقال ، وتعرض للمهانة والإذلال ، فعرف حقيقة النظام البوليسى الفاشى الذى لا يعرف الرحمة ولا يعبأ بالقانون ولا يردعه خلق ، وخاصة فى مجال الأمن السياسى أو أمن النظام .
هناك أكثر من مائة عضو فى مجلس الشعب يمكنهم أن يتبنوا قوانين الإشراف القضائى والتفتيش على السجون والمعتقلات وأماكن الاحتجاز ، ويمكنهم أن يتبنوا عملية اختيار وزير الداخلية ، ويمكنهم أن يؤسسوا لمنهج فى إعداد رجل الأمن الكفء المقتدر الذى يملك الأخلاق والسلوك السوىّ .
أما الصحافة ومؤسسات المجتمع الثقافية والاجتماعية والحزبية فيمكنها أن تتولى الجانب الدعائى الذى يعالج القصور والسلبيات والانتهاكات والإجرام .
وهناك فرصة لمن لديه إضافة أو تعليق لطرح التصورات المختلفة،من أجل الوقوف ضد التوحش الأمنى .
..............................
*المصريون ـ في 21/9/2006م.
-
الست فلّة .. والست تونس !
بقلم: أ. د. حلمى محمد القاعود
..............................
قبل فترة ذهب إلى تونس نفر من الصحفيين والكتاب المصريين الذين يخدمون نظامنا البوليسى الفاشى ، أو يرضى عنهم على الأقل ، وراحوا يبشروننا بالتطور الذى حدث فى البلد الشقيق ، والتقدم الذى أنجزه فى كافة المجالات ، ولم ينسوا بالطبع أن يحدثونا عن " الكسكسى " والأكلات الشعبية التونسية ، وأشاد بعضهم بالإنجاز الهائل الذى حققته " تونس الخضراء " فى مجال التحديث ، وكان مظهره أنه لا توجد فتاة محجبة فى كلية الآداب التونسية التى زاروها !
وذراً للرماد فى العيون أشار بعضهم إلى ما يُسمّى ببعض السلبيات القليلة التى تجعل من تأثير الإيجابيات ( ! ) موضع تساؤل !
كتاب السلطة المصريون الذين ذهبوا إلى تونس يعلمون جيداً أن النظام الحاكم هناك بوليسى فاشى ، يقوده دكتاتور ، ولاؤه لفرنسا والغرب واليهود ، وهو لا يخافت بذلك بل يعلنه فى كل وقت وحين ، وكان وزيراً لداخلية سيّده الراحل " بورقيبة " ، وجلاداً له ، ثم انقلب عليه وعزله وعيّن نفسه ديكتاتوراً بديلاً له يحكم بالحديد والنار ، وصنع نظاما ديكورياً ، يعتمد على مجموعة من الأحزاب الكارتونية التى تشبه أحزاب مصر الرسمية ، وفى الوقت نفسه راح يستأصل الإسلام ، ويغتال الإسلاميين ويعتقلهم ويعذبهم بلا رحمة ، ضارباً عرض الحائط بالأخلاق والقيم والقوانيين المحلية والدولية ، وضم إلى الإسلاميين مجموعات أخرى من المستقلين والشيوعيين ، ولم تكن النساء بمعزل عن ذلك .. فقد " شرّفن " السجون التونسية ومعتقلاتها ، وفى الوقت نفسه ، فقد اختار عالم سلطة وفقيه شرطة جعله وزيراً للأوقاف – مثلما يفعل نظراؤه فى دول أخرى ، وراح هذا الوزير يُفتى بأن الحجاب ليس من الإسلام ، وأنه زى طائفى !! أى إن تونس المسلمة ( 99% من سكانها مسلمون ) يمثلون " طائفة " ، أى أقلية ، ينبغى عليها أن تتجنب الزى الطائفى وتمتنع عنه حتى تكون مستنيرة متسامحة ، لأن الحجاب رمز للتخلف والظلام والأصولية والتطرف والإرهاب ، بمفاهيم سيد البيت الأبيض وخدامه فى المنطقة العربية أو الشرق الأوسط الكبير كما يسمونه !
ولأن النظام البوليسى الفاشى فى تونس يكره الإسلام والمسلمين فقد حرّم الحجاب على الطالبات فى المدارس والجامعات ، والموظفات فى الهيئات والمؤسّسات ، ومن ترتدى الحجاب من هؤلاء أو أولاء ، فإنها تُعامل معاملة عنصرية تضعها فى طبقة أدنى ، ويمكن أن تتعرض لمتاعب لا حد لها . ولم يقتصر الأمر على التونسيات المقهورات المقموعات بقوانين الوحشية البوليسية الفاشية ، فقد امتد القهر والقمع إلى دمية تُباع فى الأسواق على شكل فتاة محجبة تلهو بها البنات اسمها " فُلّة " لذا تفرغ لها النظام البوليسى الفاشى ، وترك القضايا المهمة كافة سواء على المستوى الداخلى أو المستوى الخارجى ، وراح يطارد فُلّة فى المكتبات والمحلات والأسواق ، حتى الحقائب المدرسية المرسوم عليها " فلة " أخذ يُصادرها ، ويشغل قواته البوليسية فى عملية من أغرب العمليات السياسية التى يشهدها زماننا العرب المهزوم .. دولة بكامل أجهزتها تتفرغ لملاحقة " دُمية " حتى لا يُقال إن نظامها يتعاطف مع الإرهاب !
قبل فترة نشرت بعض المواقع الإليكترونية أن النظام البوليسى الفاشى فى تونس الخضراء يفكر فى مشروع يضمن بمقتضاه السيطرة التامة على " المساجد " – أى والله المساجد ! – ويتلخص هذا المشروع فى تخصيص بطاقات ممغنطة يحملها المتردّدون على المساجد ، وكل بطاقة تتعرف على بوابة المسجد المخصص لصاحبها فى الحىّ الذى يسكنه ، فلا يستطيع مسلم تونسى فى صفاقس مثلاً وأدركته الصلاة فى العاصمة أن يدخل أيا من مساجدها ، لأن البطاقة الممغنطة لن تقبل فى بوابة أى مسجد يُريد دخوله ! وكان الهدف كما قال المشروع هو التعرف على المصلين حتى لا يكون بينهم " إرهابى " أو " متطرف " يأتى من هنا أو هناك !
وحين اتسع نطاق النشر عن هذا المشروع التافه الحقير الذى يدل على خسّة أصحابه وتفاهتهم وحقارتهم ، انطلقت ألسنة النظام وأبواقه الكاذبة والمنافقة تنفى وتنفى ..!
وكأنهم يظنوننا بلا عقول ولا منطق .. ويظنون أن هناك أجهزة متفرغة للتأليف والنشر تقدم للناس مثل هذه القضايا والحكايات .. لقد وجد النظام التونسى البوليسى الفاشى ، أن مشروعه سيضعه فى وضع حرج غير مسبوق على المستوى السياسى والمستوى الإسلامى ، فتراجع صاغراً ذليلاً أمام غضب الرأى العام الإسلامى ، وأعلن أن المشروع ليس له أى أساس من الصحة .. وهدأ الناس لهذا الإعلان !
بيد أن النظام الذى اختار إعلان الولاء للعدو النازى اليهودى فى فلسطين المحتلة ، والارتماء على أقدام الشيطان الأمريكى ، فضلاً عن الاستسلام الكامل لفرنسا التى مازالت تقوم بدورها فى فرنسة تونس فكراً وثقافة وإعلاماً وسياسة ، وتتستر على كبار اللصوص من المقربين إلى النظام ، أقول إن هذا النظام لم يحقق إنجازات تُذكر إلا فى إحكام قبضته على الشعب الشقيق ، والعمل على استئصال الإسلام من صدور بنيه ، بعد أن استأصله من الجامعات والمدارس والجامعة الإسلامية العريقة " جامعة الزيتونة " التى ظلت قروناً تحمل شرف دراسة العلوم الشرعية الإسلامية من جيل إلى جيل ، وقد سخرت لهذه المهمة الآثمة والشريرة شيوعيا معروفا ، تامرك فيما بعد ، اسمه " العفيف الأخضر " الذى كان من أولى مهامه عندما تولى وزارة التعليم العالى ، أن يقضى على الشريعة وعلومها فى جامعة الزيتونة العريقة وبقية جامعات تونس ، إرضاء لسادته الصليبيين المستعمرين واليهود النازيين الغزاة !
تونس السلطة البوليسية الفاشية ، تبذل كل جهودها ليرضى عنها سادتها الصليبيون واليهود ، فتعمل على مطاردة الإسلام والمسلمين ، وقد امتلأت سجونها ومعتقلاتها بالمظلومين ، وفى المهاجر الأوروبية والأميركية عشرات بل ألوف التونسيين المنفيين أو الهاربين من قبضة النظام الحديدية ، التى لا تعرف الله ولا تعرف الرحمة .. وقد امتدت يدها لتصل إلى الست " فلّة " .. بعد أن هيمنت على الست " تونس " !وبقي سؤال عن جمعيات المرأة عندنا المشغولة ليل نهار بتحرير المرأة كما تدعي : أين هذه الجمعيات من اضطهاد المرأة المسلمة في تونس ؟ أم إن الإسلام ممنوع من الاهتمام عند هذه الجمعيات ؟
...........................................
*المصريون ـ في 10/10/2006م.
-
النخاسون الجدد !!
بقلم: أ.د. حلمي القاعود
...........................
أعلنت إحدى القنوات الفضائية عن مسابقة لملكة جمال مصر (مس إيجيبت)، وربطت هذه المسابقة بمساعدة الأيتام!
واضح أن هذه المسابقة لا تبغي مساعدة الأيتام في حقيقة الأمر؛ لأن مساعدتهم لا تقتضي هذا السلوك المشين الذي يحوّل الفتاة المسلمة إلى مجرد سلعة تُعرض أمام المستهلكين ليحكموا بجودتها أو رداءتها؛ فمساعدة الأيتام تقتضي مالاً طاهرًا نقيًّا، ونية حسنة خالصة لوجه الله يشعر أصحابها بواجبهم الشرعي والاجتماعي تجاه من حُرموا الآباء والأمهات؛ فيتقدمون عن رضا وطيب خاطر للبذل والعمل لرعاية هؤلاء المحرومين والعطف عليهم حتى يبلغوا مبلغ الرجال والنساء الذين يخوضون معترك الحياة.
مسابقة ملكة الجمال مشروع تجاري رخيص بعيد عن الأخلاق والحياء والآداب العامة، ويتنافى مع الشرائع السماوية التي تحفظ كرامة الإنسان عامة، والمرأة خاصة، وما عرف المسلمون قبلاً هذا التلوث الخُلقي الذي ابتلينا به على يد القنوات الفضائية والأرضية، ورأيناه يحوّل المرأة العربية المسلمة إلى مجرد جسد عار تنهشه الأنظار والأبصار، ويهيئه بعد ذلك لمهمات غير خلقية وغير إنسانية بالمرة.
ولا أدري كيف يستبيح هؤلاء التجار الذين يقيمون مسابقات ملكات الجمال لأنفسهم أن يعيدوا المرأة العربية المسلمة إلى قرون الظلام الأوروبية التي كانت تباع فيها المرأة وتُشترى، أو على أحسن الفروض لا تملك من أمرها شيئًا.
إن ربط قيمة المرأة بجمال الجسد هو عدوان على المرأة بصفة عامة، والمرأة غير الجميلة بصفة خاصة، واختزال لمعنى النسوية في صورة الأنثى التي يجب أن تكون مجرد غانية أو جارية ترضي الرجل وتشبع رغباته وتطلعاته؛ أما المرأة الإنسان.. المرأة العقل.. المرأة العطاء؛ فهذه مسألة بعيدة عن أذهان تجار الأجساد العارية في القنوات الفضائية وغيرها.
بمقاييس هؤلاء التجار؛ الفلاحة المصرية التي تبذل جهدًا مضاعفًا في الحقل والبيت وتربية الأبناء تبدو امرأة لا قيمة لها بجوار الجثة التي تقدمها القنوات التلفزيونية بوصفها ملكة جمال مصر المحروسة.
في حين أن الفلاحة المصرية هي ملكة جمال، وعقل، وتاريخ مصر على امتداد مسيرتها الزمنية الطويلة.
المفارقة أن الجمعيات والمجالس والمؤتمرات والروابط والمؤسسات التي تملأ بلادنا العربية وتتحدث صباح مساء عن حرية المرأة، وكرامة المرأة، ومستقبل المرأة لا تستنكر بيع المرأة في سوق النخاسين الذي يسمى مسابقة ملكة جمال مصر.
النخاسون الذين يطعنون المرأة العربية في شرفها وعفتها، وكرامتها يلقون ترحيبًا من جماعات تحرير المرأة؛ لأن التحرير في نظرهم أن تتعرى المرأة، وتتحول إلى جسد للعرض ثم البيع؛ فلا يصدرون كلمة واحدة دفاعًا عن المرأة ولا حقها في الحياة الحقيقية الحرة!
وتأتي هذه المسابقات الماجنة في وقت تتعرض فيه المرأة العراقية لأبشع أنواع العنف، والوحشية، والهمجية، والاغتصاب من قبل جيش الولايات المتحدة الاستعماري (في الأسبوع الأول من المواجهات بين شعب الفلوجة والهمجية الاستعماري الأمريكية قُتلت مائتا امرأة برفقتهن ستون طفلاً).. هذا في الوقت الذي تبتهج فيه القنوات العربية لتعلن عن مسابقة ملكة جمال مصر أو (مس إيجيبت) بينما (مس إيراك) تُقتل، وتُغتصب، وتشرد في صحارى الفلوجة، ولا نجد شيئًا من الحياء أو مراعاة الحال ومشاعر الأشقاء.
كان دم الشهيد (عبد العزيز الرنتيسي) ينزف ويموت وتشيعه الجماهير الفلسطينية، وتتظاهر من أجله الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، والقنوات العربية تتحفنا بالجديد من ألبومات "البورنو كليب".. حيث تتلوى جثث الفتيات العاريات على مدار اليوم والليلة، ولا تستحيي هذه القنوات ولا تخجل مما تمارسه من فحش وبذاءة واستهانة بمشاعر الملايين.
لا ريب أن العيب فينا نحن الذين تركنا بناتنا للمشاركة في سوق الجواري الجديد.. حيث غاب الأب والأم والمجتمع عن توجيه البنات والأبناء وغابت المدرسة عن التربية والتعليم جميعًا، وتفرغت لمحاربة ما يُسمى التطرف، والفتنة الطائفية، وحضر الإعلام ليدشن بطولات العوالم والغوازي، والطبالين والزمارين، والمشخصاتية، ولاعبي كرة القدم بوصفهم أبطال الأمة وفرسانها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
-
وحشية الأمن.. وثقافة الخوف!!
بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود
.................................
تساءلتُ في مقالٍ سابقٍ عن التوحشِ الأمني الذي تجاوز السجونَ إلى المجتمع.. إلى أين؟ ولا شك أنَّ هذا التوحش إستراتيجية ثابتة ومستمرة في النظامِ البوليسي الفاشي، وقد بدأ مع أواخر عهد السادات، حين تسلَّم هذه الإستراتيجية من النظامِ العسكري الذي بدأ في يوليه 1952م، الذي تسلمها بدوره من "كونستابلات" الإنجليز؛ الذين كانوا يرون الإنسان المصري، مجرد عبد ملعون، لا يُجدي معه غير السوط، والدعس بالأقدام، ثم إلقائه في أقرب حفرةٍ حين يكون جيفةً أو جثةً هامدةً تخلفت عن الجلدِ والتعذيب! وإن كان هؤلاء في وحشيتهم أكثر رحمةً من وحشيةِ الإنجليز السمر، الذين هم أبناء جلدتنا، وتجري فيهم دماؤنا!
وهناك رأي وجيه يُشير إلى ما يُسمَّى بثقافةِ الخوف نبهني إليه الأستاذ حسين راشد، وهي الثقافة التي تربَّى عليها الشعبُ المصري منذ الفراعنةِ الذين حكموا البلدَ بالحديدِ والنار، انطلاقًا من كون الفرعون "ربكم الأعلى" الذي "لا يُسأل عمَّا يفعل"، والذي يدين له البشر والحجر بالولاءِ والطاعةِ العمياء، حتى لو تحوَّل إلى جلادٍ كبير، ولصٍّ أكبر، وخائن أعظم.. وهذه الثقافة تُشجِّع الجلادين الوطنيين على الاستمرارِ في وحشيتهم وهمجيتهم دون خوفٍ من المساءلةِ أو العقابِ.
ولا ريبَ أن ثقافةَ الخوف ترسبت عبرَ آلاف السنين؛ فمن يغضب عليه الفرعون، يغضب عليه الكهنة والجلادون والخدامون والشماشرجية ومَن يُقبِّلون الأعتاب، مما يعني أن الخوف يهبط إلى القلوبِ والنفوس، ويسكنها ولا يبرحها مهما كان صاحبها يملك الحقَّ والصواب والصدق، والفرعون وأشباهه في الرتب الأدنى لا يكتفون بالغضب؛ ولكنهم يُنزلون بالمغضوبِ عليهم أبشع أنواع العقاب؛ أهونها المحاربة في الرزق، وأهمها العقاب البدني الذي ينال من الكرامة والإنسانية والشعور، ويتمثل في الإذلالِ والتعذيب حتى الموت! ومن ثم نشأت ثقافة الخوف التي أنشأت أدبيات خاصة بها: "النفاق, الاستسلام، المشي بجوار الحائط، مَن يتزوج أمنًا نقول له يا عم، داريني يا حيطة، ابعد عن الشر وغني له، إذا لقيت البلد تعبد العجل حش وارم له، وأنا مالي...إلخ".
الأمن في بلادنا قسمان: أمن النظام، وأمن الشعب. الأول هو الأهم، ترصد له الميزانيات، ويُؤتى له بالكفاءاتِ وفقًا لمفهوم الحكام، ويجند له الحراس من كلِّ حدب وصوب، الآخر هو الأهون، لأنه لا يعني الحكام، ولا يشغل بالهم.
أمن النظام، يعني أن تستقر الكراسي، وأن يسود الهدوء، وأن يعم الصمت، يجب على الشعب وخاصةً النخب التي يعنيها أمره من مثقفين ومتعلمين ومهنيين وخبراء ونقابيين وعلماء وباحثين وناشطين، أن يكون في ذهنه دائمًا؛ فكرة البعد عن الحكم والحكام، اللهم إلا بمقدار الولاء والطاعة المطلقة والتصفيق في كل الأحوال، وإلا.. فمَن يخالف يعرف المصير الذي ينتظره!!
لذا فالأمن الخاص بالنظام يعرف كل صغيرةٍ وكبيرةٍ عن المعارضين، أو مَن لا يعلنون الولاء.. كل منهم له ملف، واسمه على الكمبيوتر الشهير أمامه: مطلوب فورًا، أو مطلوب "لاحق".. وأجهزة الأمن تتابعه في بيته وعمله، ولدى أصحابه ومعارفه، ومَن يتعامل معهم، وتعرف ماذا يحمل بريده، وماذا يقول في هاتفه.. وعند اللزوم تأخذه إلى حيث لا ينفع مال ولا بنون، وتستبيح أن تفعل معه كل شيء في زنزانته أو خارجها، ولو أدَّى إلى موته تعذيبًا وقهرًا, ومَن يبقى على قيدِ الحياة فمصيره مجهول، مثل عشرات الآلاف الذين تغص بهم سجون المحروسة ومعتقلاتها من وادي النطرون ودمنهور إلى الوادي الجديد وطره!
لو قلبت الصورة على الوجهِ الآخر لترى أمن الشعب، ستجد عجبًا.. السرقات، الاختلاسات، غسيل الأموال، احتكار الأقوات، المخدرات، الدعارة، البلطجة، القتل، على عينك يا تاجر، والجناة لا يعبأون بحكومةٍ أو سلطةٍ أو شرطة، مَن يطبق عليه القانون منهم؛ قلة قليلة سيئة الحظ، أما الأغلبية من المجرمين، فهم يخرجون مثل الشعرةِ من العجين.. الرشوة والوساطة والمحسوبية والقسمة، كفيلة بإخراج أعتى المجرمين من محبسه، وتوفير الحماية له، ومعاملته لو دخل السجن معاملة اللوردات.. السجين الجنائي لا يُعذب ولا يُهان ولا يُذل, كرامته محفوظة بمقدار سخائه وعلاقاته.. عكس السجين السياسي، أو صاحب الضمير!
في برنامجٍ تُقدمه مذيعة متحررة، استضافت فيه مجموعة من "بنات الليل"- أي العاهرات- ليحكين تجاربهن وقصصهن، قالت العاهرات في مقتطفاتٍ من البرنامج الذي لم يُذع حتى كتابة هذه السطور: إنهن يمارسن الرذيلةَ في حماية البوليس، أي رجال الأمن!! والشهادة تُذاع يوميًا على أكثر من قناةٍ من خلال القمرِ المصري الذي تملكه الحكومة المصرية، واسمه "نايل سات"، أي بالعربي الفصيح "قمر النيل"، ومع ذلك لم تنفِ وزارة الداخلية ما قالته العاهرات، ولم تكذبه، ولم تقل إنه حالة استثنائية! حتى إذا قالت، فالناس يعلمون أن رجل الأمن الجنائي، وخاصةً الجندي مسكين وحاله لا تسر، ولديه قابلية لعمل أي شيء، نظير أي شيء، في المرور، في المحكمة، في النيابة، في القسم، في المركز، في النقطة، في الجوازات، في الموانئ، في المطارات، في السكة الحديد، في السجن، في الترحيل.. إلا ما يتعلق بسجناء الضمير ومعتقليهم.. أي المعارضين، الذين يتكفل بهم أمن النظام، فهم أشد خطرًا من اليهود الغزاة، والجواسيس الأجانب، فضلاً عن عتاةِ المجرمين الجنائيين!!
في إحدى المحافظاتِ المجاورة للقاهرة جنَّد تجارُ المخدرات رئيس مكتب المخدرات ورجاله لحمايتهم حتى يشتروا ويبيعوا، دون خوفٍ أو ملاحقةٍ أو مساءلة، ونشرت صحف السلطة تفاصيل القضية.. أرأيتم أمن الشعب ورجاله؟!
أمن النظام أكد ثقافة الخوف وزرعها- كما قلت- في القلوبِ والنفوس؛ لأنه يتعامل دون رحمةٍ مع الجميع متهمين وأبرياء، فالقاعدة لديه أن المصري متهم حتى تثبت براءته، وحتى ذلك الحين فكل شيء مباح: الكلاب البوليسية المتوحشة، الصعق بالكهرباء، نتف الشعر من الذقونِ والأماكن الحساسة، التعليق كالذبيحة، فضلاً عن الضربِ والسب والإهانة والإذلال (اقرأ على سبيل المثال رواية: رحلة إلى الله لنجيب الكيلاني- وقد وثَّق الشيوعيون المصريون ما جرى لهم من تعذيبٍ في كتبٍ عديدةٍ تكشف وحشية أمن النظام في عهوده المتعاقبة).
ولكن هل يستسلم الناس لثقافةِ الخوف؟ كلا.. فمع قسوةِ الحياة وصعوبتها؛ غلاء وبطالة وزحامًا وانهيارًا في شتى جوانب المجتمع؛ فإن مقاومةَ الخوف والتعذيب ممكنة، إنَّ جمعيات حقوق الإنسان المحلية والعالمية، والنقابات المهنية والصحافة الحرة والإعلام النزيه والمبادرات الشخصية من المظلومين الذين انتهكت حقوقهم وكرامتهم، يمكن لهؤلاء وغيرهم أن يقاوموا وأن يفضحوا الجلادين المتوحشين، وأن يؤلبوا الرأي العام المحلي والدولي ضد المجرمين الطغاة، وأن يطاردوهم في كل مكان.. إن دماء الأبرياء الأطهار وكرامة المجاهدين الشرفاء يجب ألا تضيع هدرًا في ظل ثقافةِ الخوف.
إنَّ هؤلاء الوحوش يصرخون عندما يقوم بعض الضحايا بالردِّ العنيف، ويتنادون على مكافحةِ الإرهاب وملاحقته، ويتناسون ما اقترفت أياديهم الملطخة بالدماء والجريمة، وهو ما ينبغي أن يذكرهم به الشعب كله في المحاكم وعلى موجاتِ الأثير وصفحات الصحف وشاشات التلفزة، وتسقط ثقافة الخوف.. من أجل حياة حرة كريمة وعادلة.