-
كان متشوقا لمعرفة ذلك النوع من الفضول يتصل بحاجته إلى الهرب ,ما من شيء مستحيل بالنسبة له,في المرة السابقة اهتدى رجال الشرطة إليه .أما في المرة القادمة فليهتدوا إذا كانوا حقا رجالا,كان يهيئ خطته سلفا للانتقال إلى مدينة أخرى ,وربما إلى لبنان.
فلما وضع المدير الأوراق أمامه ,ويداه ما تزالان تمسكان بها ,وجد صقر في المدير وجها عاديا,من الصعب أن ينم عن طبيعة خاصة :
رأس أصلع وحاجبان كثيفان وعيناه لا تسمح النظارتان القائمان عليهما بأن يصفهما ,كانت النظارتان سميكتين.
أما قامة المدير فكانت مديدة ,نم عن ذلك نهوضه عن مستوى مكتبه كثيرا.
وعلى كل حال ,فإن صقر لم يلمس طبعا قاسيا أو نشاطا فوق العادة ,مانعا له من تنفيذ خطة هرب جديدة.
ترك المدير أوراقه من يده على المكتب وحدق في هذا الفتى ذي الخمسة عشرة أو الستة عشر ربيعا.
وتذكر ما ذكره له القاضي على الهاتف حين قال:
-أرنا كيف ستوفق إلى ترويض هذا النمر.
كان صقر في الضوء الخابي جالسا لا يتحرك,ناكس الرأس ,وقال له المدير:
-إرفع رأسك لأتبين ملامحك.
وبعد لحظات قال له:
-لماذا أنت جهم الوجه عابس؟
ولكن صقر لم يجب بكلمة,وبحركة عفوية أخرج من جيبه ورقه رقيقة من ورق اللفائف وجعبة فيها طباق,ثم جعل يلف بيد واحدة, كما يفعل رعاة البقر في أفلام السينما ,ثم أشعلها ونفخ الدخان على سطح المكتب الذي يفصله عن المدير.
وقال المدير:
-مرحبا بك يا صقر في هذا المعهد,أنت تعلم أن زمام إدارته هي في أيدي الفتيان من نزلائه فمنهم الخازن, ومنهم الحارس,ومنهم أعضاء مجلس الإدارة, ومنهم مدير الشرطة.
فدمدم صقر:
-وأين السجن؟
كان صقر يريد أن يصل بسرعة إلى استجلاء حقيقة الوضع هناك,يريد أن يصل إلى السجن ليعاينه ويكتشف مأخذه , خفايا نقاط الضعف فيه.
إنها فكرة الهرب التي تسيطر عليه تملي عليه الرغبة في هذه المعرفة.
وفاجأ المدير بقوله:
-ليس عندنا سجن ,فاذهب إلى الحمام الآن ,ثم عد لتناول الطعام ,وفي غد تبأ دراستك.ففي وسعنا أنا وأنت,إذا كانت ليدك الرغبة أن نصير صديقين حميمين.والأمر في ذلك بيدك أنت.
ورجائي معقود على أن أفسح لك مكانا في قلبي يوما ما, فأنا واثق أنك فتى كريم. ص 80
وإذا جواب صقر ينطلق مندفعا بكل ما في نفسه من حقد كالرصاصة في جملة بذيئة:
-عليك أنت وهذا المعهد القذر..
ونظر المدير إلى صقر نظرة هادئة ثابتة وأدام النظر إليه,وكأن صقر لم يتلفظ بكلمة مما قال.
ثم ضغط جرسا كان إلى جانبه ,فإذا باثنين من فتيان المعهد ونزلائه يطلان من فرجة الباب فأمرهما بالدخول,فلما مثلا أمامه وجها إليه التحية برفع الأيدي إلى حذاء الجبين هو معهود منهما,وقال صقر في سره:من هذان المهزولان؟.
أهكذا يتصرف الرجال ,يا للذل يا للعار.
واتجه الفتيان نحو صقر فإذا هو ينطلق مثل قذيفة مدفع في وجه أحدهما فيرفسه ويوقعه أرضا,وقام الفتى إلى رفيقه فالتقت نظراتهما ,ثم هجما كأنهما رجل واحد على صقر وبحركتين متسقتين بدأ ونهاية أمسك به أحدهما من يديه والثاني من رجليه ,فإذا هو مجمد لا يكاد يستطيع حراكا,وخرجا به في هدوء وثقة وكأنهما يحملان الفضلان ليرميا بها ,بينما انصرف المدير إلى دراسة التقرير المنظم عن صقر والمرسل مكن قاضي التحقيق,فلم ينظر فيما يفعله الفتيان, وعاد الهدوء إلى غرفة المدير.
فلما دقت الساعة الثانية فتح باب مكتب المدير ودخل منه فتى اسمه صقر يختلف هيئة ولونا عن صقر.
دخل مختالا فقد قص شعره وسرحه وصار نقي اللون والإهاب.
وألقى الفتى الذي يرافق صقرا على مكتب المدير مذكرة من أحد المعلمين فقرأها المدير على مسمع من صقر فإذا فيها:
-سيدي المدير ,لقد سمعناك مرارا تقول أن ليس في الدنيا ولد شرير,فهل لك أن تذكر لنا ما هو وصف هذا الفتى عندك؟.
ونظر المدير في وجه صقر ,فإذا به وجه متعظم لا تند عنه نظرة ولا حركة ,الإصرار والتحدي مرتسم بشكل واضح فيه,هناك ألفى الجو ينذر العاصفة.
ووصف المعلم للمدير كيف ظل صقر ساكتا في مقعده ساعة أو نحوها,ثم إذا به نهض وجعل يختال بين صفي المقاعد جيئة وذهابا ويتفوه بأـلفاظ مثل:
-يلعن أبوكم وأبو الذي خلفكم .ديوسين,ثم يقذف إلى الأرض بكل ما تصل إليه يده من ؟أشياء,ثم يتناول زجاجة حبر ويقذف بها فتصيب وجه أحد التلاميذ فتنسكب عليه.
فأعاد المدير صقرا إلى مقعده واعتذر للمدرس وقال:
-الخطأ خطئي ,فإنني لم ألتفت إلى وجوب تنبيهه ونهيه عن قذف المحابر,وستجري عليه قوانين معهد الأحداث ,كما تجري على غيره,ولكن ينبغي له أن يعرف أولا ما هي هذه القوانين, وينبغي أن لا ننسى
أن صقرا فتى كريم النفس.ص 82
كان متشوقا لمعرفة ذلك النوع من الفضول يتصل بحاجته إلى الهرب ,ما من شيء مستحيل بالنسبة له,في المرة السابقة اهتدى رجال الشرطة إليه .أما في المرة القادمة فليهتدوا إذا كانوا حقا رجالا,كان يهيئ خطته سلفا للانتقال إلى مدينة أخرى ,وربما إلى لبنان.
فلما وضع المدير الأوراق أمامه ,ويداه ما تزالان تمسكان بها ,وجد صقر في المدير وجها عاديا,من الصعب أن ينم عن طبيعة خاصة :
رأس أصلع وحاجبان كثيفان وعيناه لا تسمح النظارتان القائمان عليهما بأن يصفهما ,كانت النظارتان سميكتين.
أما قامة المدير فكانت مديدة ,نم عن ذلك نهوضه عن مستوى مكتبه كثيرا.
وعلى كل حال ,فإن صقر لم يلمس طبعا قاسيا أو نشاطا فوق العادة ,مانعا له من تنفيذ خطة هرب جديدة.
ترك المدير أوراقه من يده على المكتب وحدق في هذا الفتى ذي الخمسة عشرة أو الستة عشر ربيعا.
وتذكر ما ذكره له القاضي على الهاتف حين قال:
-أرنا كيف ستوفق إلى ترويض هذا النمر.
كان صقر في الضوء الخابي جالسا لا يتحرك,ناكس الرأس ,وقال له المدير:
-إرفع رأسك لأتبين ملامحك.
وبعد لحظات قال له:
-لماذا أنت جهم الوجه عابس؟
ولكن صقر لم يجب بكلمة,وبحركة عفوية أخرج من جيبه ورقه رقيقة من ورق اللفائف وجعبة فيها طباق,ثم جعل يلف بيد واحدة, كما يفعل رعاة البقر في أفلام السينما ,ثم أشعلها ونفخ الدخان على سطح المكتب الذي يفصله عن المدير.
وقال المدير:
-مرحبا بك يا صقر في هذا المعهد,أنت تعلم أن زمام إدارته هي في أيدي الفتيان من نزلائه فمنهم الخازن, ومنهم الحارس,ومنهم أعضاء مجلس الإدارة, ومنهم مدير الشرطة.
فدمدم صقر:
-وأين السجن؟
كان صقر يريد أن يصل بسرعة إلى استجلاء حقيقة الوضع هناك,يريد أن يصل إلى السجن ليعاينه ويكتشف مأخذه , خفايا نقاط الضعف فيه.
إنها فكرة الهرب التي تسيطر عليه تملي عليه الرغبة في هذه المعرفة.
وفاجأ المدير بقوله:
-ليس عندنا سجن ,فاذهب إلى الحمام الآن ,ثم عد لتناول الطعام ,وفي غد تبأ دراستك.ففي وسعنا أنا وأنت,إذا كانت ليدك الرغبة أن نصير صديقين حميمين.والأمر في ذلك بيدك أنت.
ورجائي معقود على أن أفسح لك مكانا في قلبي يوما ما, فأنا واثق أنك فتى كريم. ص 80
وإذا جواب صقر ينطلق مندفعا بكل ما في نفسه من حقد كالرصاصة في جملة بذيئة:
-عليك أنت وهذا المعهد القذر..
ونظر المدير إلى صقر نظرة هادئة ثابتة وأدام النظر إليه,وكأن صقر لم يتلفظ بكلمة مما قال.
ثم ضغط جرسا كان إلى جانبه ,فإذا باثنين من فتيان المعهد ونزلائه يطلان من فرجة الباب فأمرهما بالدخول,فلما مثلا أمامه وجها إليه التحية برفع الأيدي إلى حذاء الجبين هو معهود منهما,وقال صقر في سره:من هذان المهزولان؟.
أهكذا يتصرف الرجال ,يا للذل يا للعار.
واتجه الفتيان نحو صقر فإذا هو ينطلق مثل قذيفة مدفع في وجه أحدهما فيرفسه ويوقعه أرضا,وقام الفتى إلى رفيقه فالتقت نظراتهما ,ثم هجما كأنهما رجل واحد على صقر وبحركتين متسقتين بدأ ونهاية أمسك به أحدهما من يديه والثاني من رجليه ,فإذا هو مجمد لا يكاد يستطيع حراكا,وخرجا به في هدوء وثقة وكأنهما يحملان الفضلان ليرميا بها ,بينما انصرف المدير إلى دراسة التقرير المنظم عن صقر والمرسل مكن قاضي التحقيق,فلم ينظر فيما يفعله الفتيان, وعاد الهدوء إلى غرفة المدير.
فلما دقت الساعة الثانية فتح باب مكتب المدير ودخل منه فتى اسمه صقر يختلف هيئة ولونا عن صقر.
دخل مختالا فقد قص شعره وسرحه وصار نقي اللون والإهاب.
وألقى الفتى الذي يرافق صقرا على مكتب المدير مذكرة من أحد المعلمين فقرأها المدير على مسمع من صقر فإذا فيها:
-سيدي المدير ,لقد سمعناك مرارا تقول أن ليس في الدنيا ولد شرير,فهل لك أن تذكر لنا ما هو وصف هذا الفتى عندك؟.
ونظر المدير في وجه صقر ,فإذا به وجه متعظم لا تند عنه نظرة ولا حركة ,الإصرار والتحدي مرتسم بشكل واضح فيه,هناك ألفى الجو ينذر العاصفة.
ووصف المعلم للمدير كيف ظل صقر ساكتا في مقعده ساعة أو نحوها,ثم إذا به نهض وجعل يختال بين صفي المقاعد جيئة وذهابا ويتفوه بأـلفاظ مثل:
-يلعن أبوكم وأبو الذي خلفكم .ديوسين,ثم يقذف إلى الأرض بكل ما تصل إليه يده من ؟أشياء,ثم يتناول زجاجة حبر ويقذف بها فتصيب وجه أحد التلاميذ فتنسكب عليه.
فأعاد المدير صقرا إلى مقعده واعتذر للمدرس وقال:
-الخطأ خطئي ,فإنني لم ألتفت إلى وجوب تنبيهه ونهيه عن قذف المحابر,وستجري عليه قوانين معهد الأحداث ,كما تجري على غيره,ولكن ينبغي له أن يعرف أولا ما هي هذه القوانين, وينبغي أن لا ننسى
أن صقرا فتى كريم النفس.ص 82
-
ومع هذا ,فقد امتنع صقر عن توثيق أواصر الود مع أي من الفتيات أو المدرسين,فإنه لفي الباحة في اليوم التالي,يداه في جيبه ,عابس الوجه جهمه,حين جاء إليه زاهر الغلام الخفيف الظل على كل نزلاء المعهد تتلقفه الأيدي بالرفق والتدليل,لأنه لا يسيء إلى أحد ويخدمكل شخص بلا استثناء وهو صغير السن اعتبره نزلاء المعهد أخا صغيرا لهم.
يتناقلون تدليله والتلطف به النزيل عن التخرج,جاءه زاهرا يأخذ بيده ومسح عليها تحببا,وإذا بصقر يرفع اليد ويلطم الصغير على خده لطمة أدمت شفته.
ولحسن حظ صقر كان المدير ساعتئذ يخرج من غرفته ,فشاهد الحادث ,وأحس بنذير العاصفة,فلقد بدأ الفتيان بالتجمع حول صقر وهم يهمون بالاقتصاص منه لزاهر الصغير.
إلا أنعم حين لمحوا المدير يقترب ,عادت الخ
وات منهم للوراء.
وجاء المدير بكل هدوء فأخذ بيد الاثنين صقر وزاهر ودخل بهما غرفته ,وهناك أجلس زاهرا أمامه على المكتب وصار يمسح على رأسه ويهدئ من روعه وأخرج منديلا فمسح قطرة الدم التي سالت من شفته.
وقدم له علبة فيها أنواع السكاكر ,فانتقى منها واحدة ,ونظر إليه المدير وقال:
-أعرفك يا زاهر مضيافا وكريما ,أليس في الغرفة سواك؟
ونظر زاهر إلى المدير ثم نظر في خوف في وجه صقر ,ولبث على ذلك لحظات,يردد بصره في الاثنين ,وكانت نظرات المدير وبسماته تشجعه على المضي قدما,ثم دنا كفه شيئا فشيئا من العلبة,وأخذ منها قطعة ثانية ناولها إلى المدير وقطعة ثالثة ظلت في يده بضع لحظات,وظل بصره منكسا يتدبر أمره وقد عذبه التردد والخوف من مفاجأة جديدة من صقر,وإذا به وبشكل فجائي يمد يده بقوة إلى صقر بقطعة السكر ولما لم يجد من هذا الأخير استجابة وضعها على المكتب أمامه.
كان بصر صقر مسمرا على زاوية من الغرفة لم يطرف له جفن ولم يتحرك فيه عضو ,ووجهه مازال متجهما,ثم نهض بحركة مفاجئة وسريعة وغادر الغرفة.
وقال المدير يخاطب زاهر بعد خروج صقر:
-لا تزعل يا زاهر ,سوف يحبك صقر ,على كل حال حصلنا على تقدم لا باس بقدره ق=فإنه لم يمسك على الأقل بأذى حين قدمت له قطعة السكر,وحين دلفت الشمس من سمتها تميل إلى الأفق ,جاء وقت الرياضة ودروس الموسيقى.
كانت القواعد في المعهد تقضي بتجنب إلزام أي واحد من نزلائها بممارسة العزف على الآلات الموسيقية,ووقف صقر يشهد أداء الطلاب للحركات السويدية ثم عبثهم على الآلات الموسيقية,وسمع قول وهو يبتعد:
-هي ألعاب للأطفال..
وحانت من المدير التفاتة,فإذا بأحد المدرسين يخرج من الفصل فاستوقفه وسأله عما إذا كان صقر يتعلم شيئا في الفصول,وقال المدرس:
-إن صقر يتعلم أكثر مما يظهر عليه,إلا أن الذي لا مراء فيه هو أن البغضاء تنهش قلبه.ص 84
-
ومع كل ذلك فقد سمع المدير يقول مرة لقاضي التحقيق الذي حضر يتفقد أحوال المعهد:
-لا يبدو أن صقر يستمتع بما أوثر هبه أو يخصه به المدرسون ,بطلب من الرعاية والعطف,كما لا يبدو على قسماته مايشير إلى أنه مغتبط بما يصنع من عزف على الموسيقى,انتهى أخيرا إلى الاقتناع بممارسته بعد تمنع طويل,حتى إنه في المرحلة التي قام بها نزلاء المعهد والتي أحطناهم فيها بكل الاحتياطات اللازمة,لم تند عنه بسمة أو صيحة حين مارس صيد السمك وعلقت سمكة بشصه,فكان أن ضج الآخران من لدائه بالصياح والسرور بينما ران على نفسه نفور من كل شيئ,من كل فتى ,وصار ألوذ بالصمت مما كان.
وأضاف المدير :
-إن في نفس هذا الفتى فسادا بعيدا عن منالنا,ومع هذا فإن الغاية تبرر الذهاب إلى نهاية التجرية.
ومع كل الأناة التي اتصف بها المدير ,فقد ساوره حزن عميق,كاد يتحول إلى يأس من إصلاحه,حين دخل عليه في صباح اليوم التالي وكانت عيناه تتقدان حقدا.
كان الفتى قد برح به شوق لا يقاوم إلى حياته الأولى, وهو ينزع بكل كيانه ,وفي كل لحظة إلى الهروب من المعهد الذي وصفه بالقذارة في أكثر من مناسبة,إن قام أو قعد أو أكل أو شرب أو نام أو استيقظ,تجلت له فكرة الهرب جذابة لا تقهر.
وانصب سخطه على المدير فهو في عينيه أصل البلاء والعائق الضخم بينه وبين ممارسة حريته,نسي تماما أنه محكوم من المحكمة بالبقاء في المعهد سنتين من الزمن.
هو لا يرى رأي الآخرين بأنه شرير ,سلوكه هو المنطق بعينه.
كل إنسان له دأب في الحياة يعيش بوسيلة وهو له وسيلته.
ليس هناك شخص خير من شخص,كل الناس سواسية,خلق يعيشون يأكلون ويشربون..وما ألفاظ الاستقامة والخير,التي سمعها ,سوى لغة من لا هم لهم في الحياة.
شاهد في حياته صنوفا من البشر,فاعتقد أن هذه الصنوف التي اعتاد التعامل معها هي كل من في الحياة,رجل الأعمال صاحب المحل الذي يتجر بالحشيش,ويطلب النائب رضاه ويثني على جهوده
والغلام الذي يفترس الطفلة القاصرة والحي المزري الذي نشأ فيه.
هذه هي الحياة فلماذا يقولون أن هناك شرا أو خيرا؟.
ما هو الشر وما هو الخير؟
ذلك النائب كان ولده قاطع طرق معتد على طفلة ومع هذا ترك يسرح ويمرح.
فلماذا ينكس رأسه ليختفي عن العيون؟.
ليس هو جبانا فهؤلاء الناس المهازيل,هو يشعر بأن عناده وإصراره على أن يكون ما كان انتصارا
وإذلال لأولئك الذين يفخرون بغير حق,بأنهم خير منه.
ليكن شريرا ولكنه سيكون شريرا بعناد وإصرار.
طافت كل هذه الأفكار في رأس صقر واستعرضها مرة ثانية فانتشى ورفع رأسه عاليا وقال يخاطب المدير:
-مازلت تتوسل بكل حيلة لكي تستملني,ولكن حيلك لم تنطل علي,ولو كنت حقا تطلب لي الخير,لكنت مع ذلك مغفلا لو انقدت إليك ,وقد كدت أنقاد,ولكنني جعلت أتفكر أمس في كل ذلك واليوم عرفت السر
.ص 86
-
كان في لهجة صقر وقوله معنى الجد الصارم والرجولة ,فليس هذا القول قول فتى وقح بائس, فترات للمدير شعاعة من رجاء ساعة رأى اختلاجة لطيفة على شفتي الفتى.
قال صقر:أنت رجل دجال.
وقال المدير:إما أن تقيم الدليل عل ما تقول وإما أن تلقى معللة مذلة من اليوم فما بعد..
فقال صقر:
-إليك إذن الدليل :لقد رفست أنا اليوم أحد المدرسين ,فماذا تقول عني الآن؟
-مازلت أرى فيك فتى كريم النفس اسمه صقر.
وقال صقر:
-إن قولك هذا مصداق لقولي,فأنت لا تكف عن ترديد هذه الأكذوبة ,وأنت بذاتك تعلم أنها ليست سوى أكذوبة ,أليس هذا دليلا على أنك رجل دجال...فلماذا لا تجعني وشأني وتفتح لي باب المعهد فأذهب في سبيلي وأكفيك شري؟
فأجاب المدير:
-من ذا الذي يغلق دونك الباب؟أنت حر يا صقر ..حر صدقني إذا قلت لك أنت حر..
-وهذا دليل جديد على أنك تكذب.
وبدا المدير كمن يجول في حنايا قريحته لعله يجد في زواياها ما يقهر منطق هذا الفتى المتوحش.
إن هذه اللحظة هي حد الفصل فإما أن يخفق وإما أن ينتصر ويريح الفتى إلى الأبد.
وقال المدير:
-اسمع يا صقر ,أنت فتى ذكي ,وتدرك حق الإدراك صحة القول تى قام الدليل عليه.
فقل لي من هو الفتى الكريم النفس ؟الفتى الكريم هو الفتى الطيع .أليس ذلك صححا؟
وقال صقر :نعم هذا صحيح.
وقال المدير:هو الفتى الذي يصنع ما يطلب منه معلموه.
-نعم بكل تأكيد فهل تراني أطعتك في شء حتى الآن؟
-لا تعجل سآتيك بالبيان والبرهان.
عندئذ تنفس المدير ولاح كأنه استراح من نصف عبء ثقيل حين شبك أصابع يديه ببعضها ,وقال وهو في ذروة ثقته بنفسه.
-كل ما صنعته أنت يا صقر حتى الآن إنما كان ذلك غير ,وكل ما في الأمر أنك لم تلق سوى أفسد المعلمين أمثال أبي معروف وأبي لبادة,وهم المتشردين والصعاليك,ولكنك أطعتهم ,لا ريب في ذلك أبدا.
ص 87
-
وقد صنعت كل عمل فاسد علموك أن تصنع ,فلو كنت تطيع المعلمين الصالحين الذين في هذه المدينة,كما كنت تطيع أولئك المعلمين,لكنت كخير الناس.
أتم المدير كلامه هذا وهو يتوقع تأثيرا مباشرا وأكيدا على هذه الكتلة الصخرية القاسية,وقد كان حدسه في محله.
فإن هذه الكلمات البسيطة والقليلة وهي تنطوي على حق لا نزاع فيه,فعلت في نفس صقر فعل السحر وصاغت للمدير نفسه كأمهر ما تصوغ يد صناع نفسية طفل غرير.
وبالفعل فقد ذهل هذا اللغز الإنساني أول الأمر ثم تألقت عيناه ,فدنا من حافة المكتب حيث سقطت أشعة الشمس,وفي تلك اللحظة أيضا كانت نفس المدير قد استجابت للانقلاب المفاجئ الذي حدث في نفس الفتى ففتح ذراعيه,فارتمى صقر فيهما ثم ألقى برأسه على على قلب المدير وذرف دمعا سخيا.
عندئذ دخل المراقب غرفة المدير فلم ينتبه إليه صقر ,ولكن المدير شاهده فأشار له إشارة خفية بالتواري,فاختفى.
وكان أن أرسل إلى المراقب بالفتى صقر ليتم ما بدأه هو من صياغة جديدة لهذه النفس الإنسانية غير العادية,وهكذا.
أوعز المدير إلى صقر ليتصل بالمراقب وليذكر له كل ما يفكر بالحصول عليه ,وهذا ما كان فإن صقر وقد امتلأ قلبه ثقة بالمدير,ذهب حيث أراد له المدير أن يذهب.
كان من تقاليد المعهد أن لايلجأ في معاملة الأحداث الجانحين إلى التدبير التالي مالم يستنفذ التدبير الأول.
وعندما وصل إلى المراقب ,تعاقب هذا عليه هو والمحلل النفسي,فبدأ المراقب ووضع أمام الفتى ألواحا من البلاستيك الهش المثبتة جيدا وقال:
-هذه الألواح لك ففجر كبتك فيها ..حطمها,لقد تراكم في نفسك ياصقر كبت أعوام طويلة فنفس عنه.
رفع الفتى إلى وجه محدثه نظرا مستريبا وظن أن الرجل يسخر منه إلا أن إلحاح المراقب جعل نظراته تعود وقد أذبلها الاقتناع,فقام على الأثر بتوجيه ضربات من قبضته القوية إلى هذه الألوح واحدا بعد واحد حتى حطمها فأتى على عشرة منها.
كان الدكتور جابر المحلل النفسي حاضرا ينظر إلى الفتى وهو يفعل باهتمام,يرقب مايرتس على وجهه من أسارير ,كان عابسا في بادئ الأمر,ثم مالت عقد حاجبيه إلى الانرافج ,وبدون أن يلفظ بكلمة تحرك من مكانه واتجه إلى صقر الذي كان ينظر إلى قبضته وهو معجب من قوتها قبضته التي مازالت منكمشة ووجهه أحمر فأخذ بهذه اليد قائلا:
-تعال.
ومشى به إلى غرفته التي اتخذ فيها عيادته النفسية في المعهد.
ص 89
-
جلس الطبيب وراء مكتبه بعد أن أجلس ضيفه الصغير على كرسي يختلف عن الكراسي العادية بمسنده العالي الذي يخفي رأس الجليس إذا ما نظر إليه من الخلف,وبذراعه المكسوين باللباد والمخمل ,وقد غطس صقر في نوابض المقعد الوثير وبانت عليه الراحة والدعة,وراح الطبيب يوجه إليه نظرات مستطيلة صامتة,والفتى يتطلع إليه بنظرات متسائلة,ثم قام الطبيب من وراء مكتبه فتناول كرسيا عاديا من الخيزران وجلس ملاصقا له وانحنى عليه واضعا ذراعه على مسند المقعد وقال:
-أنت يا صقر مستريح في مقعدك هذا؟
-نعم
-أنت في غاية الدعة ,نفسك راضية أتم الرضى وتفكيرك محرر من كل قيد ,أنت مستريح..مستريح أتفهمني؟
-نعم نعم
-أنت مستريح تماما عضلاتك مسترخية ليس في ناحية من جسمك أي تقلص أو تشنج.
-نعم
-أنت الآن صفحة مكشوفة أنت مستعد لأن تفيدني بكل ماجرى لك في ماضي حياتك.
-...
-أنت مستعد لأن تفيدني عن تلك الحياة منذ اللحظة التي وعيت فيها على الدنيا ,لا تترك شاردة ولا واردة إبدأ تذكر لك ذاكرة قوية وأنك ستبدأ من أول لحظة وعيت فيها على الدنيا ,صقر أنت معي أليس كذلك صحيحا؟
-نعم نعم
-إذن فابدأ
كان الفتى مع كل يتلفظ بها الطبيب المحلل يشعر باسترخاء وأحس بأنه راغب في تسليم قيادة برضى,
ثم غشيه سدر في عينيه وخدر في أعضائه ,يساعد على ذلك هذا المقعد الوثير الذي لم يجلس في حياته على مثيل له ثم استشعر بأن المقعد يشبه أما رؤوما تلمه في حضنها وهو غاطس فيه يحتويه ويحنو عليه,وفتح عينيه مرة أخرى على الطبيب,فلم يجد ضرورة لأن يستعدي على الطبيب بأي بادرة عدائية ,وتوارد إليه من هاتين العينين الموجهتين إليه كمنبعي ضوء شديد دفء ,فرغب رغبة شديدة بالاعتقاد بأن هذا الطبيب صديق ,لابل إن كل من في المعهد أصدقاء ,ودغدغة هذا الشعور واستجابت نفسه لأسئلة الطبيب,يريد أن يتكلم الكلام الجاهز لديه وراء هذا الجبين لا حاجة لبذل أي جهد لإفراغ حمولته منه:
-فتحت عيني في بيت أم محمد كانت أم محمد.
كان يتفوه بكلامه هذا وصوته يسمع وكأنه صادر من بئر عميق ,وقد ذبلت عيناه وظل يقص ببطء وأناة, واكشف أخيرا بأنه يثرثر يتكلم كثيرا ويلذ له أن يتكلم كثيرا ,أن يثرثر حتى إذا مضى عليه نصف ساعة زاد ذبول عينية فنام.
وضغط الطبيب زرا فجأة احد مستخدمي المعهد , فأوعز له بأن يلقي على الفتى غطاء خفيفا ويراقبه حتى يستفيق ويسوقه إلى غرفة الطعام. ص 92
-
في اليوم التالي بينا كان صقر في المهجع يهم بالنهوض من فراشه صباحا,جاءه مستخدم المعهد وقال له:
-حضر نفسك للاجتماع بالدكتور جابر.
وتنفس نفسا عميقا أمام النافذة المطلة على البستان .كان الزمن في شهر أيلول,وبرودة محببة ترد من فجوة النافذة المفتوحة الدرفة وتئاءب وتمطى وابتسم..
ما أجمل أن يعيش المرء ثم أسرع فغسل وجهه وارتدى ثيابه.
كان الطبيب ينتظر في عيادته حيث أوعز له بالجلوس على المقعد الوثير ذاته وقال له:
-هانحن نأخذ أهبتنا للحديث ,أنت مستريح في مجلسك هذا أنت مسترخي العضلات,أنت صافي المزاج ,وعلى استعداد للحديث عن نفسك ,عن صفحات حياتك المطوية.
-نعم
-إذن ابدأ من النقطة التي انتهيت بها أمس أو أي نقطة أخرى تريدها.كنت قد التقيت بأبي لبادة.
-نعم ,وقد قال لي أبو لبادة..
واستمر صقر في تصريحاته ,إلا أنه لم ينم في هذه المرة,وبعد مضي نصف ساعة اكتفى الدكتور جابر وقال:
-يكفي هذا اليوم ,والآن إلى غرفة الطعام..ولا تنس أن تحضر إلى غدا صباحا كالعادة.
-حاضر
***********
عندما خرج صقر من عيادة المحلل النفسي في اليوم الثامن ,كان رواد المعهد منتشرين في الحديقة الفسيحة,وقال زاهر يخاطبه بصوت عال ومن بعيد:
-صقر..تعال نقطف التفاح,لقد أمر مدير المعهد بذلك.
ولمع في مقلتي صقر شعاع لماح..وهرول متجها إلى زاهر وحمله على أكتافه وقال له:
-زاهر ..هل وصلت إلى شجرة التفاح؟
-نعم..ابق هكذا...
ص 93
-
-سأظل حاملا لك حتى تستنفذ ثمار الشجرة.
كانت ضكات الأحداث ,وهم يجوسون خلال البستان ويقطفون الثمار ,وهم في نشوة مما يفعلون,تسمع من بعيد.
وقال واحد من رفاق صقر في ذلك اليوم يخاطبه:
-لقد كان حظك عاليا يا صقر,إذا استصحبك المدير وأخذك كصديق فإن من عادة رعاة هذا المعهد,إذا استعصى عليهم أحد النزلاء الجدد أن يحبسوه في غرفة مظلمة ثمانية أيام بلياليها,لا يقدمون له فيها سوى الخبز والماء,لقد كان هذا دأب المدير السالف ,لقد جئت أنت في اليوم الذي وفد فيه هذا المدير ليحل محل سلفه المنقول مديرا لإحدى المدارس.
لقد جئت يا صقر وجاء معك حظك السعيد,أنت لا تعرف ما هي الغرفة المظلمة,أتعلم ماذا جرى هنا؟لقد خرج الفتى الذي عزل في تلك الغرفة في اليوم السادس زاحفا على يديه ورجليه,فسجد بين يدي المدير,كانت الغرفة المظلمة تصوغ للمدير في ستة أيام ما صاغه المدير الحالي في ثلاثين يوما.
وعندما سمع صقر ما فاه به لرفيقه ذبلت عيناه ونظر نظرة مشبعة بالرضا والتفكير الجدي إلى المدى القصي وبقي على هذا الحال بضع دقائق.
بدا على صقر في الأيام التالية أن غشاوة ارتدت عن بصره ,فلقد بدأ المعهد مرحلة جددة هي مرحلة التعليم الجدي,وبإرشاد المدير انصب اهتمام المدرسين على تنشئته كعضو متضامن في مجتمع هو مجتمع هذه المدرسة,فقد قال لأحد المدرسين:
-أريد أن أقطع كل سبب بينه وبين حياته السابقة الفردية في بنيتها ,الخالية من كل تسامح ورحمة واستقامة حتى لا يعود إليها مرة أخرى.
ونظر المدرس إلى المدير مليا وهو يتكلم ,واستمر على ذلك حتى من بعد أن انتهى المدير من جملته فقال له هذا الأخير وقد لفتت نظره هذه الحركة.
-في فمك كلمات تأبى الانطلاق.
وتردد المدرس قليلا ثم قال:
-لا أدري إذا كان ما أفكر فيه مما أجده في صقر خيالا ووهما أو أنه حقيقة,إنه تراودني أحيانا أفكار ربما يساء فهمها.
-ما هي؟
-قل لي قبل أن أفصح لك هل تجتمع السذاجة والذكاء في مخلوق واحد؟
-لا أدري ولكني أعتقد أني عثرت في الماضي من الأيام على أشخاص من هذا النوع,واعتقدت أنهم الشذوذ بعينه,إنهم شذوذ في مجتمع من الأذكياء.
-هذا ما أريد أن أصل إليه,إنه الشذوذ الذي يعنيني..إنه شذوذ من نوع متفوق وهذا ما أجده في صقر.
فالسذاجة تكاد تكون صفة
أساسية فيه بمعنى أن الأمور تنتهي إليه معقدة,فإذا به يبسطها إلى أدنى درجات التبسيط,وإذا بها تجد لديه حلولها المنطقية المعقولة بأهم وسيلة دون أية مضاعفات ,أليست هذه السذاجة سهما مسنون الرأس نفاذا للأعماق؟ذلك إلى جانب صفة أخرى هي أنه شعلة ذكاء.
ص 96
-
ثم صمت الأستاذ قليلا وعاد فقال:
-إذا أعطي هذا الفتى عمرا فلسوف تجد ..آه إن للأطفال المحرومين نصيبا مما للنوابغ وهو نصيب من قدرة العقل الرحب الذي لايعيقه عائق ولايقف دونه حد.
وبان للرجلين بعد هذا الحديث أنه آن الأوان لعقد مؤتمر المعهد الدوري.
*********
لما كان اليوم الأول من شهر حزيران انعقد المؤتمر في غرفة المدير حضرة قاضي التحقيق والمشرفان الاجتماعي والمراقب ,وأرسلوا بطلب صقر واثنين آخرين من الأحداث الجانحين.
لقد اعتاد هؤلاء كلما خرجت فئة من الأحداث الجانحين من المعهد أ، يلتئم شملهم لبحث أمر هذه الفئة وحساب كل ما يمكن أ، -يصطلح على الحدث من صعوبات ونكسات في حياته الجديدة.
وقال المدير:إن التسمية هنا ذات أثر لهذا اتجنب,التفادي من تسمية مغادرة الحدث للمعهد بأنها إنجاز لتنفيذ حكم قضائي فامحضوها تسمية جديدة تزيل عن الحدث العطل الذي يلصقه بذهن الآخرين عنه كونه حدثا جانحا.هذه التسمية هي:التخرج.
إن النكسة بالنسبة للحدث أقسى عليه وعلى القاضي وإدارة المعهد من وفادة هذا الحدث لأول مرة مهما كان شريرا.
وقال القاضي في معرض البحث:ليس العجب أن تجد الجانحين يتفجرون نشاطا وذكاء.
ودخل صقر فلم ينتبه إليه القاضي والمدير ,فقد منصرفين إلى حديث طويل,وظل واقفا بضع ثوان,فأشار إليه أحد المراقبين فجلس.
كان يسمع ما يتردد بين الرجلين من حديث ولكنه لم يكن يفهمه.
وقال القاضي:
-إن من ندعوهم "أوادم" ممن لاهم لهم سوى اتباع الطرق الصوفية والذين انعدم فيهم الجمود بعينيه,أخذون مانعون,غير فعالين.
ولايمكن لآدميتهم إلا أن تكون الحياة اللينة الهينة المستعدة للخضوع لكل فاتح همهم الحرص على السترة" و"العيش" .
إنهم المساكين في عصر الصواريخ ,خير من ألفهم مغامر واحد.
إن الأزمة هي أزمة مغامرين وليس أزمة "أوادم" هل يستطيع "آدمي"أن يصاول عدوا مغامرا؟.
وأجاب المدير:
-أعتقد أن ثمة وسيلة لملء هذه الثغرة.
-ماهي؟
ص 98
-
-لو اهتدينا إلى وسيلة لتخرج جيل أو جيلين من الجانحين ذوي الحماس الذين تم إصلاحهم.
-أراك تذهب بعيدا..
-يحق لي..إنك تذكر أنه كان لتونس والمغرب بعد القرون الوسطى ,أساطيل حربية قوية.
-بالتأكيد.
-من ترى قضى عليها في مطلع عصر النهضة؟.
-من؟
-جانحون من الغرب.. جيل من المغامرين.. وبالطبع ,كانت الحوكمات الغربية راضية عنهم سرا,وإن كانت تحاربهم ظاهرا.
هنا انتبه القاضي لوجود صقر في القاعة فقال له:
-أهذا أنت؟,لماذا لم تشرنا بدخولك؟.
فقال المراقب يعتذر عنه:
-أنا أوعزت له بالجلوس ريثما ينتهي الحديث.
وقام صقر احتراما وحيا تحية رجل واثق من نفسه يعرف موضعه.
وقد توضحت أمامه سبل معاشرة الآخرين,كلا حسب مقامه..فمشى بضع خطوات ووقف ,فقال له القاضي:
-اجلس يا مولود.
تلفت صقر يمينا ويساره فلم يجد أحدا ,ورغم ذلك ظل واقفا..
وعاد القاضي يقول له:
-اجلس يا مولود..هل هنا غيرك في الغرفة يا مولود؟
جلس,وقد فهم ما يعنيه القاضي,فقد سبق لمدير المعهد أن قال له:ستخرج من المعهد باسم جديد
وقال القاضي:
-أذكر لنا مراحل نشاطك اليومي.
وراح مولود يسرد على أسماع الحاضرين مراحل ذلك النشاط, وهو يتلمظ بسرده هذا,والمهنة التي أرادها لنفسه إلى جانب الدراسة,وهي الطباعة.
وكانت نظرات القاضي تغطي كل حركة من حركاته.
ثم سأله:
- هل لك أهل تسكن إليهم يا مولود؟
ولما أجاب مولود نفيا قال له:"
-لابد من أن تتخذ مقاما لك في المدينة,إننا نمنحك الحرية المراقبة,بمعنى أنه,ولو بقي عليك ستة أشهر من مدة الحكم,وهي سنتان,إلا أنه يجب أن تمضي منذ الآن يومك في المعهد لتتم دراستك وتنال شهادتك وتتابع ممارسة مهنتك,ثم تعود في المساء فتبيت في مقامك في المدينة ولك الخيار بالعكس,لأننا سنعينك على إيجاد عمل فيها وإذا كنت تبغي إتمام دراستك في كلية,فلسوف يكون لك هذا ..هو النظام عندنا.
ص 100
-
لن يتاح لرواد هذا المعهد أن يغادروه إلا بالتدريج.
ونظر مولود إلى القاضي طويلا وعبث بثنيتيه, وهو يطرب للفكرة التي يتضمنها هذا الحديث. لقد كان دائما في شوق إلى مغادرة المعهد وألفى نفسه يتفوه بقوله:
-حسنا ..إني أهوى هذا النظام.. متى أبدأ؟.
-منذ اليوم , اذهب إلى مختار محلة أبي جرش فلقد كلفته بأن يهيئ لك محل إقامتك الجديد, وسيزورك فيه مراقب من جمعية حماية الأحداث, ليساعدك على الاستقرار.
وظل نظر القاضي معلقا بمولود, وانتبه هذا وبادله نظرا متسائلا فأضاف القاضي:
-انتبه لنفسك يا مولود, تسلم قيادك بشجاعة وإدراك ولا تسلمه منذ اليوم إلى أحد غيرك, فتنزل بك قدمك مرة أخرى, في هذه المرة ستختلف المعاملة, لأنك أصبحت في السادسة عشرة من عمرك ,فإذا اقترفت جرما لم يكن أمامك سوى السجن, لن تعود إلى هذا المعهد , وانا أربأ بك أن تصل إليه, أنت فتى كريم النفس ولا أظنك ستصل إلى هذا الحد أنت الآن حر.
لم يرد مولود بكلمة ,بل نظر إلى المجتمعين بعينين مزدهرتين ملؤهما الأمل, ثم شكر وخرج.
-
3-
لا, ما أنت بالحالم ,لقد آن لك أن تصدق عينيك, أو ما تشعر باعتزاز وأنت مولود من جديد وقد ردتك إلى الحقيقة سنتان عشتهما بين جدران معهد كنت تحقره أول ما ولجت فيه, فإذا به يهديك حياة جديدة مفعمة بالأمل في مستقبل تملك فيه هدفك من الحياة.
بينما كنت أنأى ما تكون عن موقعه؟.
والآن تخرج إلى الأرض الفضاء, حيث الهواء نفسه مشبع بفرض النجاح والفتح.
هذا ما ناجى به مولود نفسه, وإنه ليخرج من ديوان المعهد الصناعي العالي وقد سجل اسمه في عداد طلاب هذه الكلية ويمشي في الدنيا وكأنه مالكها.
وللمرة الأولى ,منذ بدأ يعي ذاته ,شعر بقوة إرادته التي تعصف بوجوده في أن يولد من جديد, إنه يريد أن ينسى حداثته ومن عرفهم من قبل, إنهم بضعة أفراد عبروا حياته بغموض وفي ساعات ضعفه ,ليبدأ من أول الطريق إنسانا جديدا, وهو لا يجهل أن طريقه مازال مظلما وموحشا, ولكن الهام هو الخطوة الأولى, ألم يخط هذه الخطوة؟ إن لديه الهمة لإزالة كل عقبة أمام قدميه.
ومع هذا فقد أعجزه آخر الأمر أن يرسم لنفسه صورة متميزة الأبعاد واضحة المعالم, مازال يتصور نفسه وعاء لم يكتلئ بعد, إناء يعوزه الامتلاء والكثافة, وماذا في ذلك؟
ص 1013-
لا, ما أنت بالحالم ,لقد آن لك أن تصدق عينيك, أو ما تشعر باعتزاز وأنت مولود من جديد وقد ردتك إلى الحقيقة سنتان عشتهما بين جدران معهد كنت تحقره أول ما ولجت فيه, فإذا به يهديك حياة جديدة مفعمة بالأمل في مستقبل تملك فيه هدفك من الحياة.
بينما كنت أنأى ما تكون عن موقعه؟.
والآن تخرج إلى الأرض الفضاء, حيث الهواء نفسه مشبع بفرض النجاح والفتح.
هذا ما ناجى به مولود نفسه, وإنه ليخرج من ديوان المعهد الصناعي العالي وقد سجل اسمه في عداد طلاب هذه الكلية ويمشي في الدنيا وكأنه مالكها.
وللمرة الأولى ,منذ بدأ يعي ذاته ,شعر بقوة إرادته التي تعصف بوجوده في أن يولد من جديد, إنه يريد أن ينسى حداثته ومن عرفهم من قبل, إنهم بضعة أفراد عبروا حياته بغموض وفي ساعات ضعفه ,ليبدأ من أول الطريق إنسانا جديدا, وهو لا يجهل أن طريقه مازال مظلما وموحشا, ولكن الهام هو الخطوة الأولى, ألم يخط هذه الخطوة؟ إن لديه الهمة لإزالة كل عقبة أمام قدميه.
ومع هذا فقد أعجزه آخر الأمر أن يرسم لنفسه صورة متميزة الأبعاد واضحة المعالم, مازال يتصور نفسه وعاء لم يكتلئ بعد, إناء يعوزه الامتلاء والكثافة, وماذا في ذلك؟
ص 101
-
مرور سريع ولي آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآ عودة
استمتعت بالقراءة , لكم التحية
غالب الغول
-
ما أجملها من رواية , أشكرك أختي ريمه على هذا النقل المفيد . لك كل التحايا
-
هب أنني قطار فلقد وضعت نفسي على السكة وسأسير إذا تابعت جهدي إلى غاية,, وأثناء الرحلة لابد أن أنتهي من حياة الصدفة الجوفاء الملقاة على رمل الشاطئ ,ولابد لهذه الصدفة أن تمتلئ بمعاني الحياة.
على أن مولود لم يهمل الحقائق ,فقد شعر بأنه غارق في موجة رهبة.. من الوحدة, إنه وحده تبعه قبل أن تكون امتيازا ,فقد تكون وحده بحر اختفت شطآنه, فالهام هو اكتشاف هذه الشطآان, كان جانحا ولكنه كان مطمئنا إلى جو يعيش فيه ,له قواعده خاطئة, هذا أن يستحدث جديدا من العيش. العيون كانت ترقبه حين كان سادرا في الخطأ غير هيّاب الفضيحة.. مغامرا ,أما الآن فإن العيون ترتقبه لأمر آخر لترى إذا كان جديرا يحمل تبعة نفسه.
تذكر نصح قاضي التحقيق: ليس أسهل من الانزلاق.
وانتبه لنفسه فقال: ما بالك عالقا بذكرى الأمس ..يجب أن تفهم أن ماضيك سقط إلى الأبد.
وكان جده حسنا ,فإنه بمجرد أن خرج من المعهد علق بالعمل الذي هيأه له المشرفون الاجتماعيون, فأقام في في الغرفة التي استأجرها, مختار محلة الشيخ محيي الدين, وثابر على الدراسة في المدارس الخاصة والمدارس الليلية, فلما نال شهادة البكالوريا كان معد له وسطا, ولقد ساعده مدير المعهد عندما زاره طالبا مساعدته ,فحصل له هذا الأخير ,على مقعد في المعهد العالي الصناعي, عند ذلك فقط شعر بالراحة والرضى يملأ جوانحه, إنه وفق إلى فتح عظيم, لم يعد بحاجة إلى الإقامة في المدينة, الآن إقامته في المعهد الصناعي العالي إقامة مجانية وداخلية.
وسره أن يغدو مكفول الرزق لينصرف إلى الدراسة وحرص على أن يعطي جوارحه جميعا للدرس وعلى حضور المحاضرات.
كانت أسعد أويقات حياته عندما يجلس وراء مجهره ليلقنه الأستاذ طريقة الاستفادة من المجهر وأسلوب استعماله, وعندما فاه الأستاذ قائلا:
كل واحد منكم وراء مجهره ,تقدم من المنضدة التي أقيم عليها المجهر وضعت إلى جانبه, وكان يتبع كل إرشاد يصدر عن فم الأستاذ بحرص ودقة, وينظر في المجهر إلى تماسك ذرات المادة, ويعطي علامة لتماسك كل مادة تعرض عليه.
وبدا لمولود أن درس المجهر ليس أجمل ما في هذه الدراسة..
فهناك البحث عن وسائل جديدة...وسائل جديدة لاستحداث تماسك أفضل في المواد ووسائل لأحداث التطابق ..وهو إن ينس ,لا ينسى تعليمات الأستاذ الذي قال:
-إحرص على أن تكون أبدا يقظان لمأتى الخواطر ,فإذا بصرت أو أحسست بإحداها يحوم على منافذ صدرك فافتح له الأبواب وأكرمه, وليكن لك بصر من حديد, إن البصر الحديد يكتسب بالمران...
ص 103
-
كان يستشعر بأنه في كل يوم يكتسب جديدا, إن في الدنيا مجالات للسرور لا يمكن أن يحصيها على أحدها هذا المجال.
وقال أستاذ آخر:
-أنتم أناس مكفولو الرزق فعبوا في دراستكم ما استطعتم فإنها فرصة لات عوض إن ذهبت, إن الحاجة إليكم وإلى مواهبكم منبثة في كل ثقب من الأرض أنتم المهندسون الصناعيون ,القطع النادرة أبدا لن تنجب الأرض العدد الكافي من المهندسين الصناعين.
****
كان إلى جانب مولود في الرحلة فتى مثله في قاته ومنكبيه العريضين,, أشكل العينين جعد الشعر أشقره هو مصباح ,مازال يلا زمه حتى انعقدت بين الاثنين زمالة.
وقال مصباح يحدث مولودا في إحدى الاستراحات التي تتخلل الدروس عندما لاحظ عينيه تدمعان.
-إنك يا صاحبي "محدور" فهل طلبت استراحة؟
فأجاب مولود:
-ليس عندي متسع من الوقت من أجل المرض ,فإن المستقبل ينتظرني وهو بحاجة إلي.
خير لي ألا أفكر بأني "محدور" فذلك أدعى إلى أن أسلو المرض ,هذه الحمى الصغيرة فتنتهي.
وظل مصباح ينظر إلى مولود متعجبا ,وكأنه أعجب بما جاء على لسانه فتأبط ذراعه وسارا في باحة الكلية.
وفي المساء اجتمع الطلاب في المقصف, فقلد أزفت ساعة الاستراحة التي تسبق الدخول إلى صالة المطالعة: هي ساعة ينفض الطلاب فيها عناء العمل أثناء النهار عن أذهانهم بالحديث والمشوبات.
كانت شفتا مولود تتلمظان بالمثلجة التي طلبها وهو ينظر إليها في شهية ورفقاه منحوله: مصباح وحامد وأنيس و أنيس وكاظم ونعيم ,كل منهم عاكف على ما طلبه ,والصمت يرين عليهم, كأنما هم في استحمام وفترة تخفز ,وفجأة علا صوت كاظم يصيح:
- ما بالكم يا جماعة صامتين, بعد غد يوم الجمعة ويصادف السبت يوم عطلة, وغدا ظهرا يطلقنا المعهد في إجازة فيذهب كل منا على وجهه, فليذكر كل منا ما الذي سيفعله في هذه الإجازة الطويلة.
وقال أنيس:
-أما أنا فبلدي بعيد ولن يتاح لي أن ألقى أهلي في هذه العجالة ولابد أن أجد وسيلة لتمضية هذه الفترة ,وإلا أصبحتم أنتم مسؤولين عن النتيجة.
وإجابه حامد:
-لماذا لا تأتي إلينا في بيتنا سيرحب بك والدي, إنه مضياف ويحب الحديث مع الآخرين. لسوف يسر مني إذا أحضرت له محدثا بارعا مثلك, إنه متقاعد وليس له عمل سوى المطالعة, هلا حضرت إلينا.
ص 106
-
وأجابه أنيس:
-إذا كان الأمر ما تقول فلست أفضل صحبة أخرى على هذه الصحبة الحلوة ,ولكن بشرط.
-و ما هو؟.
-أنت تعلم أني لا أستطيع أن ألبث دقيقتين دون أن أمزح فيجب أن تحتملوني.
وأجاب حامد وهو يبتسم:
--هذا من حقك ,وفي مقابل ذلك لي أخ قاض, سيكون بيننا وأظن أن لا مانع لديك إذا أنت أثقلت المزاح أن يقيم عليك الدعوى أمامه فيحكم عليك مع تعجيل التنفيذ .
وضحك الجميع دفعة واحدة, وقال نعيم:
-أما أنا ,فأعشق الرحلات, ولسوف أخرج على دراجة أنا وأخي في نزهة إلى نبع بردى.
وحانت التفاتة من مصباح إلى مولود, فألفاه جامد القسمات يشارك في الضحك والابتسام ولكن التكلف باد عليه, ولما يعرف من أمره أكثر في الضحك والابتسام ولكن التكلف باد عليه, ولما يعرف من أمره أكثر من غيره, فقد جد في تغيير الحديث ,فقال:
-هل انتهى اليكم هذا الخبر؟.
والتفت الجميع إليه فقد نسوا الموضوع الذي أفاضوا في الحديث عنه, وقد تجلى على محيا كل واحد منهم الاهتمام والتساؤل, وتابع مصباح:
-لقد استحضرت إدارة المعهد مجموعة من الكتب عن الصناعات الالكترونية وهي تبيعها بثمن مناسب.
وصاح مولود:
-أصحيح هذا؟.
وأجاب مصباح:
-وألف صحيح ,يبدو أن الموضوع يهمك.
-أي واله ,إن نفسي تنزع إلى هذا النوع من المعرفة والاختصاص.
وعندما خرج مصباح ومولود من المطالعة كان الصمت ثالثهما.
وأدرك الأول ما يجول بخاطر زميله, فأسرع لكسر جدار الصمت وقال:
- لماذا لا تزورنا غدا يا مولود؟.. ستجد أهلي يرحبون بك.
وكان مولود يتوقع مثل هذا السؤال مفاجأة.. ولطالما أراد أن يتجنبه ,و ها هو يستهدف له,و لئن لم يكن السؤال مفاجأة إلا أن الجواب متعذر, لك يكن كارها الاجتماع وبوده لو يجيب وقد اعتاد الحياة مع الآخرين, وسبقته كلمات رنت في ذهنه:
-إذا كان هذا ..لا يثقل عليك فليس أحب إلى من نفسي. ص 108
-
لكن مصباحا لم يسمع هذه الكلمة لأنها لم تنطلق من فم مولود, وحاول الأخذ بيدها في سبيلها إلى فمه ولكنه أخفق.
وأمام نظرات مصباح المتسائلة قال:
-سأزورك يا مصباح في وقت آخر, هذه الإجازة طويلة مرصود لها عندي عمل آخر أريد أن أنجزه.
ونظر مصباح طويلا إلى مولود واكتفى بأن قال:
-هذا عهد؟
-هذا عهد.
قالها مولود وهو يتنفس فقد انزاح عن كاهله في الوقت الراهن حمل ثقيل, وافترق الصديقان وجاء من أعماق مولود سؤال:
-لماذا خذله بهذه الغلطة؟.
وارتسمت علة جبهته غضون وأجاب نفسه:
-لا أدري كيف أجبته ولماذا أجبته بهذه الكلمات.
ومشى كأنه يحمل تحت إبطه شيئا مكتوبا عزيزا عليه يخشى أن يفضحه, وتلفت إلى الوراء فلم يجد وراءه أحد ,كان مصباح قد ابتعد ثم اختفى, ومع هذا ظل مولود يتلفت إلى الوراء ويرقب, وأدرك إذ دهش لهذه الحركة, أن التلفت ليس في عنقه ورأسه ولكنه في أعماق نفسه.
إنه يتلفت إلى الماضي وقد ود لو أن هذا الماضي يختفي للأبد كما اختفى مصباح.
**********
قال شاكر لمولود وقد اجتمعا في ردهة المعهد الصناعي العالي ظهر يوم الخميس بينما كان مولود يتأهب لمغادرته:
-لقد أخذت لكل شيء أهبته, فإن الباص مهيأ وهو ينتظر في طريق قرية, قريبة من المدينة هذه, و ما علينا إلا أن نتجه إليه, والمكان كما تعلم قريب.
وقال مولود يجيبه: حسنا وأنا لدي خبر هام ,فإن واحدا من أترابنا الذي كان قد سافر إلى الأرض المحتلة قبل أشهر أي بعد تخرجه من معهد الأحداث كما كنت أخبرتك به, قد حضر قبل يومين وأعطاني تفاصيل ما تصنعه السلطة المحتلة هناك, لهذا صار بوسعي أن أفصل لك ماكنت أجمله أول أمس ليكون كل واحد منا على علم بالمهنة التي أخذنا بها أنفسنا ,انك لتعلم أن الصحف في العالم ومنها العربية مضى عليها سنون وهي تطلع علينا بأخبار الأحكام التي تصدرها المحاكم في الأرض المحتلة, منها المؤبد ومنها العشرون سنة ومنها ,,ومنها,
والحقيقة التي لم تنشرها الصحف والتي تجلت لنا بعد العثور في الأرض المحتلة على بعض هؤلاء المحكومين هي أن السلطة هناك تمارس عليهم بعض أساليب التعذيب المؤذية التي قد لا يكون لمن تعرض لها خلاص منها أو من آثارها فيما بعد.
حتى إذا أصبح من بعد ذلك عاجزا أو ذا عاهة ,لا يرجى منه نشاط. ص 109
-
أطلقته قبل نصابه الزمني ليبقى كلا على أهله ولمآرب أخرى .
-ألا تخشى هي تألب الرأي العام الدولي؟.
-وهل يرجى كبير أمل من هذا الرأي العام.؟
وسكت شاكر وهو يفكر ,وأضاف مولود:
-إن مشروعي هو تلقف هؤلاء وتدبير أمرهم ,وقد ألهمتني إياه حادثة مؤلمة, إذ كنت قد عثرت يوما على واحد نم هؤلاء التعساء وصل الى هذا البلد بأعجوبة, لقد وصل كدا مرهقا فوقع, فإذا به كفيف البصر, كان قد مشى أياما وليال يتكفف الناس فيجودون عليه بكسرات الخبز والدراهم.
وهذا ما حفظ عليه رمقه.
لقد أخبرني أن همه كان الوصول إلى هذه المدينة لأنه لم يبق له هناك أهل, والآن تفاصيل المشروع أرسمها لك في فرصة أخرى ,هيا.
ومشى شاكر ومولود, فلما أصبحا على مسافة مئة متر من المكان ,لاح لهم باص أحمر اللون, حين اقتربا منه وجداه فارغا, كان سائقه مكبا على المقود, ويبدو أنه شعر بصوت وطء أقدام على الحصى, رفع رأسه وبدأ بمعالجة المحرك.
وأثناء سير الباص عاد مولود يتم قصته.
-كانت هذه فكرة الاسرائيلي عاموس ابراهام, وقد نشرت بعض الصحف هناك ريبورتاجا بالعبرية عن هذه الطريقة, وجاء فيه أن أحد أعوان عاموس هذا ,في سبيل الاستزادة من شرح الخطة التي طبقها على من سمتهم مجرمين من المقاومين سأله قائلا:
-ترى من يتولى حراسة هؤلاء المجرمين؟
فأجابه عاموس بسرعة عنف:
-رجال أشد منهم إجراما.
وقال: وصار هذا هو القاعدة المتبعة على الأيام, ولما كانت هذه الخطة متعبة لأعصاب منفذيها, كما تبين عمليا ,وبما أن السجون هناك موجودة في الصحراء بعيدة عن العمران ,فقد كان حكام هذه السجون يسمون لسنتين فقط بنقل واحد هم بعد قضائها الى مركز آخر.
وكان منهم رجال حسنت نيتهم وعظم رجاؤهم ,فحملوا معهم في عودتهم مشروعات معاكسة ضخمة, بيد أن رجال الإدارة الكبار. الادارة الدائمة هناك احبطوا اعمالهم قبل أن يبدؤوا ,فكانوا –على ما تسرب الينا-يلفقون تهما توجه اليهم حتى تستدعيهم الحكومة فتوصم حياتهم السياسية بالعار ,عار مساعدة الضعيف ةالاشفاق من تلك الاعمال, وأما سلطانهم هم فماض الى ما شاء الله .
لقد حكى لنا هذا ناج من سجون اسرائيل وقال: إن الذين يفرج عنهم من سجون الأرض المحتلة هم أشقى ممن يبقون فيها طرا, وأحقهم بالرثاء, فقد قضى هؤلاء الرجال في غياهب السجن طول المدة التي حكم بها عليهم,إلا أنه كان مفروضا عليهم بحكم قانون المحتل أن يظلوا في إحدى المستعمرات مدة أخرى تعادل مدة سجنهم إذا كانت أقل من ثماني سنوات, ثم كان عليهم أن يدبروا أمر معيشتهم أو يدبروا المال لرحلة العودة إلى مسقط رأسهم ,ولما كان من المستحيل على الرجل هناك أن يكسب أكثر من ليرة في اليوم عند أرباب العمل في المستعمرة تعطى لهم بصورة مواد غذائية .
ص 112
-
فقد كان الحكم بالسجن في هذه السجون حكما مؤبدا, هؤلاء الذين أفرج عنهم كانوا يظفرون بالمأوى والمأكل والملبس يوم كانوا في السجن, فصاروا بعد الإفراج عنهم يهيمون على وجوههم في المستعمرات ,فتراهم في أسمال بالية ووجوه هزيلة ,لم تحلق ذقونهم ولا قص شعرهم منذ أسابيع, وهم يتلمسون فتات الطعام ليأكلوا, وقد كان القول الشائع بينهم: "تبدأ مدة عقوبتك ساعة تسترد حريتك, وفي أحد السجون على مدينة ساحلية, حاول كل المسجونين تقريبا أن يفر, فنجا بعضهم ولكن فئة قليلة من هؤلاء الفارين بلغت ما أرادت, أما البقية فقد قضت عليها قروش البحر, وغوائل الرمال المتحركة أو الجوع .
وسأل شاكر مولود:
-وماذا تنوي أن تفعل بمن ستتلقفهم.
-في رأسي مشروعات كثيرة ,أول ما ينبغي فعله هو إعادة تأهيلهم من جديد للحياة العادية, لقد حطم السجن التعذيب معنوياتهم أي تحطيم, ثم لا تنس أن حديث هؤلاء حديث شيق.
فاه مولود بهذه الجملة وهو يغمز بعينيه ,وقال شاكر:
-فهمت قصدك ولكن أليس هذا من عمل الحكومات.؟
-لا أعتقد ,أحر بالأفراد أن يقوموا بهذه الأعمال.
-وهل مهدت لمشروعك هذا بموارد كافية.؟
-كل مشروع يبدأ يكفي له القليل الأقل من المال ,فإذا كان وراءه تخطيط جيد اكتفى بنفسه أو بأكف المحسنين.
-فهمت مشروعك جيدا, صنف ما تتوصل إليه من معلومات ستستفيد منها يوما ما.
ونظر مولود إلى شاكر طويلا ثم قال له:
-أتدري ما الذي جعلني أشركك بمشروعي يا شاكر؟.
-ما هو؟.
- أننا نشترك معا في خصيصة واحدة.
-قل لي ماهي؟.
-أنت تدركها ولكنك لا تستطيع الإفصاح عنها ,إنها الخصيصة التي دلنا عليها عاموس إبراهام عندما وصف بها رجاله .فأنا بالنسبة لرجال عاموس في شوق وتلهف لأتمتع بمثل صفاتهم ولكن لسبب وحيد وغرض وحيد هو أن أقوم أمامهم أنفا لأنف ,ما قولك؟.
-لقد ترجمت يا مولود شعوري .نحن خريجو معهد الأحداث, ولكن قل لي ما الذي حدا بك فملت إلى مثل هذه المشاريع.؟
-لست أذكر تماما ,أكانت مقالة في مجلة فرنسية أو صورة شمسية معروضة في دكان أو ملاحظة عابرة وقعت في سمعي هي التي حفزتني, ولكن كل ما أعرفه أن ما قرأته أو سمعته ,كان على الشكل التالي :
تحرك فرد بذاته ولوحده أوقع دولة بذاتها,
كانت هذه الجملة تدوي في أعماقي تتردد كأنها رنين ناقوس ضخم .ص 114
-
واستولت علي شيئا فشيئا رغبة ملحة في عمل من هذا النوع, لعل عملا لم ينتبه له أحد يفضي إلى نتائج كبيرة الأثر.
وسكت الرفيقان شاكر ومولود, وبدا هذا الأخير غارقا في التفكير وساوره شعور بالقلق, وكان يشعر بأن دنياه تضيق به وبدا له أن من يصادفهم لا ينطقون إلا هراء ,ماذا يجري لو أخفق في مهمته, إذن يكون جنى على شاكر الذي أسلم قياده إليه.
ولكنه عاد ليقول إنه هو وشاكر يحيون حياة لا طعم لها ولامعنى, وأخيرا تأتي لحظة فتفيق ,تفيق في جوف الليل وتظل بلا حراك, وعيناك مفتوحتان في الظلام وتشعر أن شيئا يوشك أن يكون ,ثم يكون فعلا لقد أجمعت رأيك وعلى كل حال إنك تقوم بعمل صغير الحجم على قدك تماما, فأنت سائر في الأرض المحتلة لا يشتبه بك لأنك من سكانها ,تقود بيدك ضريرا أو عاجزا.
واستيقظ مولود من تفكيره مع وقوف السيارة في المكان المقصود, وكانت شمس نيسان قد أذنت بالغيب, وتنفس نفسا عميقا فهاهنا هواء منعش بليل ,وقد فاح عبير شجر الشربين العطري ,وعلى الأفق الممتد أمام عينيه هضبة متوسطة الارتفاع, وكان يعلم أن شاكر سيدهشه ما سيشاهده يرافقه فيها.
كان الطريق أمامهما "آدوميا" يدور حول الهضبة إلى غابة هناك ثم يعرج كأنه أفعى أو سكران يترنح, وفي أكثر من تقاطع واحد تقوم أشجار بلوط تقف أو شربين تقف كأنها جندي مرة فوق منصة خضراء ,وقال شاكر:
-لأول مرة أشاهد هذه البطاح وهي من أراضينا في الجمهورية العربية السورية, وإني لأعتقد أن كل ما في الدنيا من شعر وسحر تقاليد, وقدم وغرابة وخشونة محفوظ ومختزن في هذا الوادي الجميل المكسال وفي الهواء العليل ,هنا يدب إلى القلب هدوء ساحر مبهم توحي به عزلة هذا المكان واتساع الفضا من حوله, وتغشاه برودة محببة, وقد أحدقت به الكثبان الخضر وحملتها برفق كأنها قدح يحتوي سائلا غالي الثمن, ومن فوق ذلك سماء ضاحكة تسبح فيها السحب كأنها سمك براق في بحر بعيد الغور.
ونظر مولود إلى شاكر مذعورا, فقد هاله أن يسمع هذه اللغة التي لا يفهمها في مثل هذا الموقف, فجرى على لسانه الكلام بأسرع من لمح البصر:
-إيه إيه...إي....ه لا أعتقد أنك ستنظم قصيدة شعرية هنا, فتأتي إلى هؤلاء المحتلين بالحجة التي لا تدفع على أننا لانصلح إلا للأحلام, والمهمة التي جئنا من أجلها؟
وضحك شاكر ثم قال:
-والله ماكنت في يوم من الأيام أنظم الشعر ولن أنظمه أبدا, ولكنني أردت أن أعلم إلى أي مدى أنت ذاهب في مشاريعك, والآن بعد أن اطمأنت نفسي أمضي معك بدون تحفظ, اسمع يا مولود.. لقد أصبنا في الصميم. كما يعلم الجميع ,ونريد أن نشكو إلى الله هذا الكرب المهلك.
واليوم وقد صح عزمنا من جديد نريد أن نشكو إليه الضيق ونسأله أن يزيل هذا الكرب.116
-
كان شاكر يتكلم بلهجة رجل وإن كان مازال فتى, لا بلهجة صوفي يتحدث حديثا دينيا, وسأله مولود:
-وما فائدة الصواريخ إذن في هذا المقام؟
وأجاب شاكر:
-إن الله يسمع ضوضاءنا ,ونريد أن تطمئن قلوبنا إلى أنه يسمع بأجود مما كان.
لم يضحك مولود مما قرأه شاكر من كتاب أفكاره ’فلقد أدرك بنافذ بصيرته أنه مشترك مع شاكر بهذا المنطق, منطق الدعاء المعدني ,وفجأة توقف وشخص بصره إلى الأفق وفمه مفتوح ثم ابتسم وهدأ وقال هاهم مقبلون من وراء الحدود.
وظل الركب المتجه إليهما يدلف, ويدلف, حتى صار أدنى ما يكون أشار مولود إلى سائق السيارة فهفوا دفعة واحدة إلى الركب وأخذ كل واحد منهم بساعد فرد منه يساعدونهم .
كان هناك واحد يتحسس الطريق وقد شخص ببصره وهو مازال شابا وآخر يمشي على عكاز, وكان في الركب رجل يعرج له وجه أسمر وكأنه خلاسي وقد طالت لحيته وتشعث ,وقرأ مولود هول مصير هؤلاء الرجال في آيات القلق والتعاسة المخطوطة على جباههم عندما أقبل يلف ذراع أحدهم على عنقه وينهض فيدب به دبيبا إلى السيارة.
وقال الرجل لمولود:
-إنك لتراني في حالة لا رجاء فيها.
وسكت مولود, سكت سكوت المتحير ,بماذا يجيب هذا الرجل المحطم الذي يضرع في طلب الماء, واكتفى بأن وضع كفه برفق على خد الرجل يشجعه ثم يسقيه حتى بلغا الباص وقد ظهر عليه بعض الانتعاش.
كان في رفقة هؤلاء التعسا خمسة شبان من الأرض المحتلة, ما إن أبصروا أن أماناتهم من هؤلاء قد وصلت إلى السيارة سالمة ,حتى انكفأوا فمالوا إلى طريق آخر بجانب هضبة ثانية ملوحين بأيديهم من بعيد.
وحين تحرك الباص عائدا في طريق ماتزال معالمها واضحة بعض الوضوح ,ارتسمت على محيا مولود آيات الرضى ,فمن قريب لا يتجاوز الساعة سيلج الباص في طريق تحفة أشجار البساتين من كل جانب ويغدو الجميع في أمان ,وقال مولود في سره:
-إن السعادة في نجاح هذه المهمة لا يعادلها سوى السعادة في نجاح هذه المهمة.
******
وكمركب فقد ربانه,بعد أن تسلمت الهيئة المخصوصة الأمانة المعهودة من تلك المخلوقات التعسة,سار مولد على غير هدى ,وقد أسلس قياده لقدميه,وإذا بهما تقودانه إلى معهد الأحداث.
كان كل واحد من الرجال يشغل باله,ويريد أن يتحدث بأمره مع المدير.
ص 118
-
إنه صغير السن ,إلا أنه لم يجد في المعهد من المسؤولين أحدا, كان الوقت عند المغيب ,وحين هم بالخروج لمغادرة المعهد لمح من بعيد فتاتين اكتملت أنوثتهما ,كانت كل واحدة منهما تحمل وعاء كبيرا حوى ملابس مغسولة معدة للنشر, كانتا متجهتين إلى سطح البناء تهمان بوضع قدميهما على أول درجة من السلم المؤدي إليه, وتسمرت خطاه ووقفت الفتاتان ,وفكر:
-إنه يعرفها ولكن في أية مناسبة تعرفها.
وبدأ يسترد صور الماضي شيئا فشيئا ,إحدى الفتاتين هي بدور ذات المأساة المروعة, لقد كانت مصابة بالتهابات بالغة الخطر نتيجة إساءة بعض الغلمان التصرف معها باستمرار. أما الثانية نهلة فقد كانت أحد أفراد عصابته, وتذكر مع ذلك أنهما كانتا سنتئذ أصغر منه بعشرة سنوات.
وقف ووقفتا تنظران إليه ,فلقد عرفتاه فوضعتا حمليهما وقال مولود:
-هل التقينا قبل اليوم؟
وقالت بدور:
-بالطبع.
وقالت نهلة:
-لقد كنت رئيسنا.
وقال مولود:
-ما كان لك أن تقولي هذا ونحن الآن..
وعضت نهلة على شفتها السفلى بشدة واحمر وجهها ,ونظرت إليها بدور نظرة خائفة, وشعر مولود بأنه لئن كانت نهلة تستحق هذا اللوم فلقد كان قاسيا جدا معها ,وابتسم بسرعة وقال:
-لابأس ,لم يحصل ضرر أليس كذلك؟
وانفرجت الأسارير وعادت الوجوه إلى لونها.
في هذ الوقفة القصيرة تذكر مولود كل شيء عن الفتاة الأولى:
بدور ,لقد وصلت إلى معهد الأحداث حين كان هو موقوفا فيه لليوم العشرين, مساء حاملة متاعا زريا مؤلفا من قطع قماش وسخة فألقت ما حملت ونظرت إلى المائدة التي تحلق حولها الأحداث وصاحت دهشة:
-ما هذا ؟أتأكلون لحما؟ وسرعان ما قدم لها الطاهي طبقا مملوء باللحم والخضار فاغترفت الطعام بيديها والتهمته التهاما بغير تكلف نفسها مؤونة البحث عن ملعقة.
ولكنها مع ذلك لم تستطع أن تحتفظ بما أكلته إلا دقائق معدودات ,قذفت يعدها معدتها بكل ما أدخل عليها ولما طال إعياؤها استدعي لها طبيب المعهد فقال: إنها تكاد تموت من قلة الزاد ,ونصح بإعطائها ملعقة من خبز المغموس باللبن الساخن مرة كل ساعة إلى أن تتمكن من الاحتفاظ بالطعام في معدتها.
ثم أودعت الفراش بعد أن لبست قميصا نظيفا بدا على هيكلها العظمي متهدلا فضفاضا رغم أنها في السابعة من عمرها .
وقد برزت ضلوعها كقفص الطائر, وظهرت عظام الكتفين كأجنحة من الورق المقوى التي يلهو بها الأطفال في الأعياد. ص 12
-
ولم يمض وقت طويل حتى عادت إليها قواها ,فاستطاعت أن تأكل ثلاث مرات في اليوم ,ولكنها ظلت غربية في منظرها وبات بياض بشرتها كريها تبدو عليه صفرة الموت, وكان فمها مترهلا تعافه العين كما كانت تتعمد الحول في عينيها حتى يتجعد جبينها وتسعل سعالا عميقا كأنها كلب ينبح بالدرن ,كما سمعوا يقولون أن قناة الأذن مسدودة بالألياف, ولكنهم وجدوا الصدر صحيحا والعين سليمة ولم الحول والسعال إلا نتيجة لحدة المزاج.
وتذكر مولود أن هذه الفتاة لم تمكث في معهد الصبيان سوى كان مزدحما ,فلما أوشكت هذه المدة أن تنتهي عاودها القيء ,وظنت هذه البنت الصغيرة التي تقف الآن أمامه, ظنت إذ ذاك حين سمعت بأنها ستغادر المعهد ,أن أولي الأمر سيلقون بها في الشارع, فتوغلت في سريرها أكثر فأكثر ,وهي تستعطف المراقب بكل حماس مسترحمة أن يبقيها في المعهد ,وتعهدت بأن تقوم بكل ما يراد منها فقال المراقب على سبيل الجد الممزوج بالهزل ,وكيف ذلك وأنت في شجار مع الأطفال ,تلجأ ين إلى الغش في اللعب فيمنعونك عن الاشتراك معهم فيه وتعتمدين الكذب في القول, فلا ندري متى تصدقين ؟.
وأجابت بدور وهي خائفة :
-لن أفعل شيئا من هذا إذا بقيت هنا ,فأرجو ألا تبعدوني ,دخيلكم لا تبعدوني.
عندئذ فقط أفهمها المراقب وهو يمسح على رأسها أن إخراجها من هذا المعهد يعني إيداعها في معهد آخر مماثل ومعد للبنات فقط, عندها بكت هذه الطفلة فرحا.
تذكر مولود كل هذا وتذكر معه نفسه كيف ألمت به غشية من غشيات عله مرضية كاد يشفي منها على التلف, وكيف أبل منها بفضل سهر مراقبي المعهد.
وعندها ما وصل مولود إلى هذا الحد من ذكرياته كان قد ودع الفتاتين واتجه إلى الباب فغادر المعهد بعد أن علم منهما سبب وجودهما فيه فإن معهد الأحداث الذكور احتا إلى من يعتني بشؤونه الداخلية من خدماته لا تتقنها إلا الفتيات مثل الغسيل والكي, فاستعان على ذلك بهما وأن هاتين الفتاتين تدخلان المعهد للمرة الثانية.
وعادت صورة الفتاة الثانية نهلة ترتسم في مخيلته من جديد.
لقد كانت وهو يودعها تنظر إليه نظرات من نوع خاص وقد احمر وجهها فجأة وخطفت عينيه جانبيا منظرها وهي تتبعه بنظراتها تلك حتى من بعد أن استدار لينصرف ,لقد وجد نفسه مدفوعا لمغادرة معهد الأحداث, هكذا بسرعة, أراد أن يستنشق الهواء ,الهواء الجديد يبدد الضباب وبالأخص الضباب الذي يتجمع حول منافذ النفس فيرهقها ,وأحس كأنما هو ينزف دما, هكذا تصور وبشكل عفوي امتدت يداه تتحسس جسمه, عبثا حاول أن يكتشف موضوع هذا النزف ,ولكن أين الدم؟, إنه ليعجب من أين مأتى هذا التخيل, التصور بانه ينزف دما منذ متى بدأ , إذا كان مصدر الدم موهوما فلا ريب أن منطلق النزف الزمني أيضا موسوم.
وعاد لنفسه فقال : غنها جروح لا ترى , جروح موهومة ننزف الدم, وهي سريعة العدوى ,لأنها جروح في الأعماق ,انتقلت إليها من بدور ,ألهذا عجل بمغادرة المعهد لئلا يطيل وجوده معها, ربما وشيئ آخر مع موقف بدور تلك الأسوار التي كانت تحيطه حين كان في تخرجه ,ولكن له أيضا صورته البشعة وهي الأسوار.
توقف عن التكفير عند الحد ,فلقد وصل إلى مدير المعهد وأشفق أن يمسه بسوء في تفكيره وتذكر مافاه به المدير في أحد أيام إقامته في المعهد كيف يستطيع الإنسان بفضل حريته الباطنية أن يحرر نفسه من أعظم قوة في العالم وهي المال وكيف يستطيع أن يعايش الناس من غير أن يكتسب عدوا واحدا تلك هي المشكلة الوجود المزدوجة ,وليس يستطيع حل هذه المشكلة إلا بالتعاون ,هنا جاء ذكر العنصر النسائي ,فاكتشف أنه بحاجة في مشاريعه إلى هذا العنصر وأن هاتين الفتاتين اللتين التقى بهما اليوم هما ضالته المنشودة.
أهو هذا الذي تنشده حقا ,أم أن أعماقنا ارتفعت لتنطرح مرة أخرى تحت أشعة الشمس ,لقد تتعاطف مع هذه البنت الصغيرة نهلة تعاطفا فيه محبة, فلو صحبتك معها استمرت مدة أطول ماذا كان يكون مصير هذا التعاطف ,كان سيلتهب أليس كذلك؟, أليست نظرتها الغريبة اليوم متجهة إليه وهي خير دليل على ذلك.
وقلب كل سيء يمكن ومشى مسرعا ,كأن سرعته في مشيته هرب من الفكرة, ولكن كل شيء يمكن الفرار منه إلا الفكرة إنها الجزرة التي تتدلى أمام عيني دابة تحفزها على الجري لإدراكها دون أن تدركها أبدا.
ص 123
-
-4-
ستكون منذ اليوم الجليس المفضل لهم, أو ما ترى حريتك التي يهرتهم ,وأن عيونهم لمتطلعة إليك؟.
في كل مجلس ينعقد بين معارف تلتقي عيون الحاضرين عند نقطة واحدة كأنها شعاعات استقطبي نهاياتها عدسة شفافة ,هي هذا الشخص الغريب الجديد الوافد عليها, ترود حوله وتتلمس نقاط ضعفه وقوته.
تحاول أن تغمز فناته آنا وأن تؤانسه أحيانا ,كل ذلك في سبيل استكشاف مجهولة واكتناه مكنونه, تلك هي الظاهرة:
روح المجتمعات ,فإذا كنت ذكيا مستيقظ الجوارح في تلك اللحظة تصرفت ببراعة: إن الحكم الذي يصدره عليك من حولك ,هو في النهائي الذي قلما يطرأ عليه تعديل.
حيويته فائضة هذا اليوم, ولكن مازال يشعر بأنه يركب بحرا يلذ له أن يسخره لمشيئة ,ولكنه لا ينسى أن البحر خداع وغدار.
وليس بمعجز أن يتغلب على موجه ولو أن أغلالا ثقيلة تربطه بذلك الماضي. إن عذابه بمقاومة هذه الأغلال هو الذي ينشئ معنى الحياة ,ينبغي أن تتعذب ,أن تصهرك المحن, وإلا فلم لم تبق هناك, يجب أن تتبلو الحياة وتجربها في أعمق مجالاتها.
مصباح عالم بهذا الماضي فلماذا تحمل السوط لتجلد نفسك؟.
أبداً ينبغي أن لا تفسد هذه الذكرى في يومك هذا. إنك الآن في هذا المجلس و كفى.
جرى ذهن مولود بالحيوية ذاتها التي يتحرك بها فتساءل : و كيف راق له أن يلبي دعوة مصباح في هذه الليلة بينما ضاق صدره و اعتذر في ليلة سابقة.. لعله الرضى عن النفس، لقد قام قبل أسبوع بالواجب غير هياب، إنه لنوع من الجرأة- ولا يقول البطولة- أن يوفق إلى تهيئة كل شيئ لاستقبال دفعة من المسجونين في الأرض المحتلة ، و إذن فليس إسفافا أن يثرثر ، مادام قد أدى مقدما حسابه.
سيسمي هؤلاء منطقه تزمتا إذا سمعوه يجهر بهذا المنطق أو يسمونه سذاجة. إنه يفهم روح الشباب العابث. كان هو عابثا في يوم من الأيام ، و بشكل من الأشكال.
حاول أن يؤكد أمام نفسه أن هذا المجلس ذو صفة عارضة في حياته. إن ما يتحدثون به هو أفكارهم يعكفون عليها وحدهم و يستغرقون فيها، يلوكونها المرة بعد المرة.. و ليس هو ذاته سوى بعض هذه الخواطر التي يحصرون فيها أفكارهم.
كانت فائزة شقيقة مصباح تجلس في موضع مقابل لموضعه، فتاة عذبة ساجية الطرف، بيضاء البشرة، مقبولة الشكل، ليس في أعضائها مبالغة و لا عدها فضول.. لا ينقصها طول القوام و الهيف. و قد بدت عليها برودة الطبع فهي لا تتحمس لشيء. أما المرأة الناضجة التي تجلس عن يمينها، فقد كان نظرها يتلظى.. تنتقد كل شيء و لا يرضيها شيء.
و لئن جلس مولود جلسة غير الحافل بما يدور حوله من حديث، كأنه لا يعنيه، فقد اشرأب بسمعه عن بعد، لقد تطرق الحديث إلى أحد زملائه في المعهد. إنه يعرف هذا الزميل حتى ما خفي من أحواله الداخلية، فهو رقيق الحال و من عائلة مغمورة، فما بال والدة مصباح تغمز من خفضه لمجرد أن ابن أختيها قد خطب شقيقته.
آه.. ها هو الحديث يتجه اتجاها آخر، الهدف الآن فتى آخرمن عائلة مرموقة.. و برغم ماذكروه عن تفاهته، فإن والدة مصباح كانت تمتدح شمائله و تشير بطرف خفي دون أن تصرح أن الفتى طوع بنانها، هي التي انتقت له زوجته فلانة، وهي..
و عندما خرج مولود من دار صديقة كان رأسه يدور، أحس بأنه كان في كن مشبع برائحة البخور التي توحي بلزوم القبول بكل شيء..أليس هذا مفعول البخور في المعابد؟.. أن السدر الذي تحدثه هذه المادة المحترقة في الأعصاب يشل الإرادة..أما هو، فإنه نبيذ خرج الآن من زجاجته.الآن فقط يستطيع أن يمارس مفعوله في الحياة أو في الرؤوس إنه لا يريد أن يظل حتى يموت محتبسا في الزجاجة، و لو أن هذا ما يسمى بالتعتيق.
و قال مولود :
- ما هذا المجتمع؟ إنه مفتوح مغلق : مفتوح لأنه يرحب بأي مخلوق على وجه الأرض، يرحب به ويحييه، و يبسم له ، يحدثه، و يضيفه ثم يودعه..، مغلق لأانه كل طبقة فيه تمارس طقوسها الخاصة بها ، و ترفضالتزاوج، و النتيجة هي : مجتمعات متعددة بل هائلة العدد، يتميز بعضها عن بعض، قطع مرصوفة بعضها إلى جانب البعض الآخر. إذا نزعت منه قطعة سارت القطع الباقية سيرها الطبيعي في الحياة كأن شيئا لم يكن.
- فلو تعاقبت قوى بعدد هذه القطع و اختطفت كل واحدة مننها قطعة منه لم يبق منه شيء، لأن التفاعل العضوى بين القطع المرصوفة مفقود. و هو إلى ذلك مجتمع مكبوس في المعلبات، لا حرية فيه، لا يتزوج امرؤ إلا بالفتاة التي يوافق عليها الجميع و عندها تكون هذه الفتاة في الفتاة المثالية، أما إذا تخيرها لنفسه ضاربا صفحا عن رضى الجميع، سقطت و سقط من أعينهم.
- و روض قسوة هذه الصورة في ذهن مولود ملامح فائزة، برزله هنا الوجه الوديع مضيئاً باسماً محاطاً بهالة. كيف نسي هذا الوده؟ إنها لديرة بالمودة و بشيء أكثر منه أيضاً.. لماذا تباطأ تفكيرك أخشيت تلك الكلمة الكبيرة الصغيرة؟.. و عبثا حاول أن يلقي دون ملامحها حجابا صفيقا.
- و ابتسم، خجل بينه و بين نفسه، حين وسوست له أن فائزة ليست من هؤلاء الناس. لماذا كانت تبسم له و تستنسخ الفرصة لتنظر في عينيه.
- أتراها تعني بسمتها هذه؟ أم هذا من تهاويل هذه المجالس التي لا حقيقة وراءها؟..
- و تساءل : كيف؟.. و هل يمكن تجريد هذه البسمات من وجودها.. لقد كانت ابتسامات لا ريب فيها و لا هم، ذات لحم و دم.. أترى فائزة تردك أعماق ذاته و ما يجول في دخيلته من هزء بهذه المجتمعات؟.. أتراها توجه نارها إليه لتحرق مقاومته؟.. و لتخضعه لإرادتها؟.. كل شيء ممكن في مجتمع مائع زنبقي تجري المؤامرات فيه تحت الأرض كما تسري المياه الجوفية.
- أأنا ذلك الجيولوجي الأريب الذي يخطط و يحفر ليستخرج هذه المياه من مكانها؟..
- ليس لدي الوقت الكافي.. ثم مالي و لهؤلاء. خير لي أن أصرفهم عن تفكيري. إلى أين وصلنا؟..
- - ما هو الفتح الذي يعد بيه الفرع الالكتروني. ها ..هنا عقدة البحث. ذلك سيمكنه من أن يصنع شيئا لأولئك الذين يرزحون هناك في الأرض المحتلة من إخواننا.
- و فاجأ نفسه و قد عادت فائزة تتسلل إليها مرة ثانية :
- حسناً.. و ما لفائزة هذه أيضاً؟.. أتعتقد بأنها ستتحرك إليك، أتعتقد بأن المبادرة ستكون منها..؟ المرأة لا تبادره أبداً، يجب أن تبادر أنت..
- و لماذا أبادرها.. هل أنا محب لها. بما نعم، و بما لا و لكن لا أنكر أن حديث المرأة غذاء في غالب الأحيان. كسب، هو وحده غذاء. إذا شاهدتها في الطريق سأستغل الفرصة و أكلمها.. إلا أن أيه علاقة لم تنشأ بيننا.. من يدري ما يخبئه المستقبل؟.
- بدأ اليوم التالي و ضيئاً مصقول الحواشي كثمرة ناضجة شقت لساعتا و تهيأت.. و عندما التقى مولود بمصباح في استراحة المعهد العالي جذب انتباهه جذباً عنيفاً السبه الماثل في وجده مصباح لشقيقته فائزة، إنه شبه صارخ تجاوز قسمات الوجه ليشمل حركات اليد و انحناءة الرأس و جرس الكلمات الصاعدة من الفم، و أراد مولود أن يتفادى من النظر في وجه زميله، و لكنه ألفى نفسه ينتزع بصره من انتزاعا..
- لماذا لم يدرك هذا التماثل بينهما أمس في المجلس الذي ضمه و إياهما؟.. هل معنى ذلك أن صوت فائزة سكن في أذنيه فلا يغادرهما ..و هل معناه أن حركات يديها ما زالت تلوح أما عينيه حتى الآن؟.. و هل معنى ذلك أيضا أن صورتها انطبعت في مخيلته فهي أبداً أما ناظريه؟..
- و حاول أن يتبرأ من كل هذا. قال في سره : أليست الذاكرة الحركية و الصوتية أقوى لدى الأنسان من أي ذاكرة أخرى ساكنة صامتة؟.
- هذا ما تعلمه في الكتب المدرسية.. كتب علم النفس.
- قاوم ما شاءت لك المقاومة، و حاول أن تمهد الأرض وراءك لتمحو آثار أقادمك، فلست فائزاً إلا بخداع النفس. أوما تشعر بدقات قلبك تتسارع كلما التقيت مصباح؟.. إن عقلك يشر عليك بوجوب الابتعاد عن مصباح و لكنك لا تفعل سوى أنك تجد نفسك حيث يكون. هكذا بالصدفة أليس كذلك؟.
- و تمتد يده لمصافحة مصباح برغبة كلما التقى به. و يشعر أن ترحيبه به يصادف محله. هو ترحيب بصديق و أكثر قليل.. و تشتبك الذراعان، و يدخل الرفيقان الفصل.
- بعد لحظة دخل الأستاذ و صعد المنصة فوقف الطلاب و ظلوا واقفين حتى أشار لهم بالجلوس و راح يصفف على المنصة أدواته من عدادات و كماشات و مجهر.. كان أما كل واحد منهم مجهر، فقد كانت المحاضرة بحثاً في الخلائط المعدنية. و في سبيل ذلك قام المحضر مسبقا فوزع على الطلاب "عينا" من خلائط معينة لوضعها تحت المجهر.
- بدأ الأستاذ يشرح مبدأ الخلائط و يرسم على اللوح بعض المعادلات ثم قال :
- - أعطيت كل خمسة منكم مادة واحدة موزعة على خمس "ع ينات " و على كل واحد من هذه المجموعة أن يعطي صفة واحدة للمادة بعد رصدها بالمجهر لتطبيق المبدأ عمليا. و انكبت الرؤوس على المجاهر.
- فوجئ مولود بعد بضع دقائق بيد تربت على كتفه، فإذا به الأستاذ و قال له : كل الطلاب أكبوا على مجاهرهم، إلا أنت.. ماذا هناك..
- و ارتبك مولود و أحمر وجهه و أجاب :
- لا شيء.. لا شيء. سوى أنني أردت التريث لاستعد.ص 130
-
وابتسم الأستاذ بينما كان مولود يكب على مجهره وابتعد..
وحين انتهى الفصل تذكر ان النهار هو الخميس وهو نهار مشكوك فيه بين ان يكون نهار وقفة عيد الأضحى او اليوم السابق له.
وكاد يتساءل عن سبب تخلف الفتى الموعود حينما خرج إلى الباحة فبادره خادم المعهد يخبره أن في صالة الانتظار فتى ينتظره ..وادرك من فوره من هو.
-أهلا يا معاذ .
-جئت حسب طلبك.
-حسنا تنتظرنا مهمة ,فالعطلة تبدأ غدا ووقد اعتقدت اننا نستطيع ان ننجز خلالها عملا لها.
-هو ذلك ,ففي هذه العطلة متسع ..هات مشروعك.
-اسمع يا معاذ لقد كنا نحاو العثور عليك ,ويجب ان تذهب حالا لتستغل هذه العطلة المستطيلة, فلقد أعددت لك مهمة الاتصال بسامح ورفاقه هناك وراء الحدود.
وناول مولود معاذا ورقة وقال:
-هذا عنوانه فاحفظه عن ظهر قلب وأتلف الورقة من بعد ذلك ,ويجب ان تعلم أننا لسنا في مهمة استخبارية ,فنحن أبعد ما نكون عن ذلك وإنما أنت ولا ريب مطلع على أن رسائل اولئك الرازحين وراء الحدود إلى ذويهم التي تسمعها في الإذاعة العدوة أمر أبعد ما يكون عن الحقيقة ,فهي ما ان تكون محكية عن لسانهم حالة كونهم لم يسألوا عما يريدون إذاعته أو أنها محرفة عن حقيقة ما يجري لهم هناك, إن مهمتك التي ننفذك إليها هي الاتصال بالعائلات ممن تخلفوا هناك ولهم أقارب هنا وسؤالهم عما يريدون إنهاءه إلى أقاربهم, ثم الحصول على إحصاء عن أحوالهم وما يشكون منه على أن يكون هذا العلم دقيقا ومستندا إلى وقائع وأرقام.
وسكت مولود لحظه ثم أردف قائلا:
-هل تشعر بأنك على استعداد للتحرك ضمن حدود المهمة؟, إن أول أمر هام في مثل هذه المواقف هو حرية التحرك لصاحب المهمة.
وأجاب معاذ:
-ولم لا, لم أشعر بمثل هذه الحرية في وقت من الأوقات كما أشعر به الآن.
-حسنا ,كنت أتوقع ذلك, وينبغي أن تعلم أن دوريات العدو تعترض طريقك, فإذا وقعت في مأزق ,فلن يكون في وسعنا أن ننجدك, فلا تتورط أبدا, ويجب أن تذكر أنه لا يدخل في هذه المهمة الغوص على المعلومات عن العدو, فاترك ذلك للصدفة وانقشه في ذاكرتك.
وكاد معاذ يودع مولودا, إلا أن هذا الأخير ابتسم له ابتسامة عتاب وقال:
-لم يحن بعد وقت مغادرتك.
وبسط له خريطة وقال له:
-هذا طريقك ,وبالطبع هذه تقع تحت طائلة الحفظ عن طهر قلب والإتلاف ,لا تجبر أحدا على التعاون معك, فقد تكون له مبرراته وظروفه.
وصافح مولود معاذا بعنف وتركه وابتعد ,وتأثر مولود من عنف مصافحة معاذ له وأقلقه ذلك في الوقت نفسه, فإنك لتصافح من لا تتوقع أن تراه قريبا, ثم أخرج من جيبه مثيلة الخريطة التي سلمه إياها ,وراح يتبصر فيها ويقول: في وسع معاذ أن يأخذ بالطريق الصغير إذا احتاج إلى الهرب, أما إذا أخذ بالطريق الرئيسي فلا بد من واسطة نقل, وعسى أن لا يطلق عليه أفراد العدو النار تسلية كما اتفق ,أن فعلوا.
وسرح طرفه في القصي البعيد وظل على ذلك يضع دقائق ,ثم هتف عاليا وكأنه يخاطبه:
-الله معك يا معاذ.
كان مولود قد اعتاد في كل يوم خميس أن يصطحب رفيقه شاكر في سيارة هذا الأخير إلى مكان ما حيث يرجى أن يصل أفراد ممن تحدروا من سجون كانوا يعذبون فيها, ولقد أصبح يوم الخميس موعدا مقيما يعلم كل من الرازحين وراء الحدود والراغبين في التداوي ,ماذا يعني بالنسبة لكل منكوب هناك يوم الخميس.
وهكذا بدأ مولود وشاكر مغامرتهما التالية, لكن هدفهم في هذه المرة كان مختلفا ,فقد كان مشروعهما المرسوم يقضي بالتوغل في الأرض إلى بقعة يغلب عليها أنها أهملت وصار وضع نقطة تستقطب نشاطا أبعد مدى هناك أمرا مرغوبا فيه, كما يحتمل أن تصلح هذه النقطة كموضع للتلاقي. ص 134
-
و قال مولود يخاطب شاكر :
- الذي يستهوي نفسي إلى هذه المغامرة هو تصوري أن نشاط الرجال فرادى أقرب إلى النجاح من عمل الجماعي ، و كل ما يجب عمله هو إفهام هؤلاء الأفراد أن هناك من يعمل إلى جانبهم في الوقت ذاته ، و هذا ما يعضدهم و يأخذ بساعدهم.
- و نظر مولود فجأة إلى رفيقه من حيث انشغل هذا الأخير بإصلاح قطعة حديدة في السيارة و قد تجلى فيه كل ما ينبئ عن طيب النفس و السذاجة و خاطب نفسه قائلا :
- إنك يا مولود سعيد الحظ بمثل هؤلاء الرفاق و لكن ألست ترهقهم في أمرهم ؟ زز هذا شاكر سائق سيارة عمومية و قد جاء بك إلى الحددون إذن صاحبها الذي يعمل هو لحسابه و ستترك السيارة في مخبأ هنا يعرفه شاكر ، فليس لكما أن تستخد ماها هناك وراء الحدود لأن رقمها ليس رقما فلسطينيا ، فكيف يكون حال شاكر لو سرقت أو دمرت ؟ زز
- و هنا التفت شاكر إلى مولود فقضى بذلك على تصور مولود.
- كان برنامج الرحلة أن لا تصاحبهما السيارة لهذا سلك مولود و شاكر سبيل كل مسافر أخر في باص عادي في قرية على الحدود يعرفانهما جيداز و حين غادرا الباص كانا قد بلغا أكثر من نصف الطريق إلى هدفهما و كان عليهما الاختيار بين طرق متعددة. و دلت معرفة مولود بالجبات الأربع على أن أقرب طريق و أقصره هو الذي يتجه جنوبا بغرب مخترقا بعض مراقي هضبة وعرة، وقال شاكر :
- أتعلم يا مولود أن هذا الطريق قد أعفانا من أكثر من خمسة آلاف متر ؟ ..
- - زكيف علمت ؟ ..
- - أتذكر يوم عدنا بالكوكبة الأخيرة من المنكوبين ؟ .. إذن فاعلم أن منطلقنا اليوم كان نهاية الأوبة غير هذا و أطول . لقد دلني الزمن القصير على ذلك. وقال مولود سائلا :
- - أعتقد أنك رام ماهر.
- -هذا ما أعتقده ، فقد كان تدريبي شاقا ، و لكنه أنتج أيما إنتاج و أنت ؟ ..
- - أما أنا فلا تزال عندي بقية من إجادة الرمي ..
- و تراجع مولود بذاكرته آخر نشاطه قبل دخول معهد الأحداث ، فلقد كان سرق مسدسا و مقدارا كبيرا من الذخيرة ، و دأب في مكان خال في ظاهر المدينة يتدرب في ثبات و إرادة حتى خيل إليه أن الطاثر المنقض لا يفلت طلقاته .
- وقال شاكر :
- - أظنني سمعتك تقول : إذ خلقنا سلاحنا ورائنا وجئنا بلا سلاح كان ذلك آمن.
- هو ذلك . و لكن إنما أردت المعرفة لأعرف كيف سنتصرف في المستقبل .
وطالعتهما أرض ذات وعورة ,فلما بلغا ساقية هناك, أبصرا حقلا أدهشتهما نظام الزرع فيه وفجأة وقع بصرهما على بقايا طعام معلبات ,فاجفلا واستقر رأيهما على اتخاذ اتجاه مضاد إلى الجنوب حيث يبدو أن الأرض لم تستصلح بعد, إلا أنهما اجتنبا الوديان, فعاجا خلال الهضاب ,وكان عليهما أن يشقا كل ميل شقا في هذه السباسب ,وأخيرا اجتازاهما جميعا ولكنهما سلخا إحدى عشرة ساعة ليقطعا عشرين كيلو مترا وكادت مؤونتهما من الزاد قد تقلصت ووجب أن يحسبا للعودة ,إلا أن الماء لم ينقص من مطرتهما كثيرا, فلقد ملآها من ماء ساقية أثناء سيرهما, والجو الرطب كان يساعد على السير بدون تعرق, إلا أن الوهج أصبح ساطعا فيما بعد والجبال البعيدة تبدو وكأنها تنأى عنهما وسخر منهما السراب ورأيا نفسيهما مرة بادين في صقال ما يشبه مرآة هائلة, وحدقا في صف جانبي, فإذا هو مؤلف من عشرين صورة لهما تحكي حركاتهما ثم قارب الماء الذي معهما على النفاد وكابد عذاب الظمأ, وبينهما كان النهار قائظا ,كان الليل بالعكس من ذلك مقرورا, مما الزمهما بالالتصاق التماسا للدفء.
ولاحت لهما بيوت منتظمة عن بعد فتجنبا الاتجاه إليهما وساعدهما على ذلك أن من مروا بهما من مزارعين يرتدون الخاكي ,لم يلقوا بالا لهما, ومع أن مولود وشاكر لم يكونا من أبناء البر في الأصل, إلا أنهما كانا يتمتعان بحس صادق, وقد وفق مولود إلى زيارة الأماكن ,أماكن الخطر بخاصة, ومرا بفتاة شقراء قد شمرت عن ساعديها ,وهي ترتدي بنطلونا مما يلبسه رعاة البقر, وتستاق أمامها بغلا موقرا بالأخشاب المنشورة, واكتشفا فيما بعد أنهما في رحلتهما هذه لم يستريحا إلا مرة واحدة, وكان طعامهما نزرا لأنهما تفاديا من أن يعرفا أحدا في هذه المناطق.
وأضنت المشقة نفسيهما ,وبدت عليهما مشية المكدود, ولكنهما صابرا حتى وصلا إلى الهدف فخفت البهجة لنجدة هاتين النفسين المكدودتين.
والان أصبح أمام مولود متسع من الوقت للتفكير, فلقد شاب بهجته حزن غامر ,وسرعان ما غاصت الابتسامة عنده ليحل محلها برم بهذا الوجود ,فإنه قبل سنوات بالطبع كان الناس الذين يراهم غير الناس, نالوا وحل محلهم اناس آخرون بدأت هجرتهم سلسالا ضخضاخا لم يلبث أن أصبح سيلا متبطحا وهو الآن يستريح ويستقر.
وبينما كان الرفيقان يجوسان خلال دغل صغير, لاحظ مولود أن النبات قد انحسر بشكل اسطوانة من الأعلى إلى الأرض كأن جسما ضخما ألقي من عل فقص النبات قصا منتظما, وتوقف قليلا ,أما شاكر فلم يلتفت إلى ذلك وخطا ,إلا أنه لم يستطع أن يتابع خطوه لأن مولود انقض عليه فجأة وأوقعه على يمين ذلك المكان بعنف ووقف أمامه منتصبا واضعا يديه في خصره.
جاءت هذه الدفعة على شاكر وصاحبهما كشك ألقي في نفسه جارح تجاه شخص مولود. ص 138
-
جارح تجاه شخص مولود . و بقي شاكر على الأرض ينظر مذعورا إلى رفيقه فأشار إليه مولود أن يقوم متراجعا و كان إعازه له بصوت صارخ. و تمالك نفسه قليلا ثم قال بصوت ضعيف خائف :
-مالك يا مولود.. لماذا هذا التحرك و بهذا الشكل ؟..
وكان مولود قد تمالك وعيه أيضا فأجابه و وجهه لا يزال ممتقعا :
- الم تشاهد ما شاهدته أنا..
- لا لماذا ، ماذا هنالك؟..
- قنبلة لما تنفجر بعد غارقة في الأرض ، فلو خطوت خطوة أخرى لكنت الآن في عداد الأموات.
و أطل شاكر على المكان فوجد قاعدة القنبلة.. فتردد بصره بسرعة بينها و بين مولود ، و قد ارتد إليه كامل وعيه و هجم على مولود يقبله ، و هو يقول :
- أنا مدين لك بحياتي يا مولود ..
- أنا لا لأهم هذه اللغة .. والآن لنداعب هذه القنبلة.
و صاح شاكر بأعلى صوته كأنه مجنون :
- ماذا تقول؟.. هل انت جاد؟..
- كل الجد ، فإن الصهاينة يأملون من ورائها أن يزهقوا روح جملة أفراد من العرب ، فلنخيب أملهم.
قالها مولود دون أن ينظر إلى شاكر. ثم أخرج من جيبه أداة حديدية و بدأ يحفر عن القنبلة، و يزيل عنها الحشائش حتى أصبحت عارية تماما. وقام من فوره يدور حولها و هو قائم على أربع يتفرس في كل إصبع من جسمها. و طال تفرسه هذا ثم أخرج من جيبه مكبرة بعدسة و عاود فحصها بها. كل ذلك و شاكر فاغر فمه و عيناه متسعتان و وجهه أصفر من الفزع وقال لمولود :
- هل أنت جاد بهذا العمل ؟..
- -ماذا تراني أفعل إذن؟..
- لا يقوم بهذا العمل سوى مجنون.
- صدقت ، وهذا هو أنا..
و توقف شاكر عن الكلام و ابتعد بنظر بزعر ظاهر .. و قال له مولود :
-تمدد على بطنك على هذه الأرض إذا كنت خائفا.
و فعل شاكر ما أشار به عليه مولود و جعل من مكمنه بنظر إلى مولود و قال هذا :
-إن المتطوعين للبحث العلمي في القنابل يعدون هذا البحث ملهاة لذوي الغيرة من طلاب الانتحار. و لكنني أنا أرى خلاف ذلك.. إني أرى أن يقامر فريق من الخبراء بحياتهم في سبيل الكشف عن أفضل الطرق للتخلص من القنابل التي لم تتفجر، و بذلك يسلم الآخرون.
و تابع مولود عمله يفحص القنبلة من جميع جهاتها و يقرعها و يصفي إلى ما يصدر عنها من رنين ، و يخاطبها بألفاظ تستوقف النظر :
دليني على مكان الكبسولة يا حبابة. دليني على الأقل على مكان الجهاز الإلكتروني الخاص بك. هيا ..هيا يا قنبلتي اللطيفة.. إنني أحبك و لهذا أريد أن تبقي سالمة و أريد أن أنزع مفجرك.
و فجأة قال مولود لشاكر :
- إبتعد يا شاكر إلى مكان مأمون.
ثم انبطح على بطنه و وضع يده على قطعة معدنية بارزة بعض الشيء يفتلها بكل حذر و ببطء شديد إلى أن برز من جسم القنبلة قسم منها ، و تابع عمله و العرق يتصبب من حواجبه على عينيه إلى أن أمسك بهذا الجسم و ارتفع به العنف عن كيان القنبلة. فلما أصبح في يده أطبق يديه بعنف إلى أن أزاحه عن باقي الجزاء و اندفع واقفا و هو يبتسم ، ثم ضحك ضحكة مدوية كأنه مجنون. و عندها فقط سمع صوت رقاص بسرعة يدور في هذا الجزء من القنبلة و قال مولوج :
-بإمكانك يا شاكر الآن أن تقترب لقد كسرنا مخلب هذه القنبلة الصغيرة المدللة..
و ظل شاكر في مكانه، إلا أنه سأل مولودا :
-كيف تسنى لك أن تعرف ما تعرف عن القنابل؟..
قل كيف تسنى لك أن تعرف عن الجهاز الإلكتروني ..هذه حصيلة دراستي في الإلكترون .و الآن تم شطر الرحلة فقد بقي أشق الشطرين، ذلك أن البيت الذي طرقوه كان يأوي على ما تبين بعد ترحيب أهله بهما، عائلة فقرة ، وقد خف ربها لنجدة فتى نزلت به نازلة ، فقد قدرتهما على التمييز و تعطلت ملكاته العقلية، فجاء به إلى بيته حيث أضافه إلا أنه عجز عن معالجته ، و عندما نظر إليه مولود أشفق حينئذ أن لا تجدي معه المعالجة فيكون هذا الرجل كشجرة اقتلعت من منبتها ، فإنها متيبسة لا محالة و ساوره من ذلك قلق شديد.
و نظر الرفيقان شاكر و مولود كلٌ إلى صاحبه / و قد ارتسمت على محيا كل منهما إمارات التساؤل و الحيرة ، فها هنا مشكلة حالة آنية تتطلب حلا سريعا. إن عطلة مولود تنتهي في اليوم التالي ، و ليس لديه متسع يفكر فيه.. كما لا يعرف أشخاصا كثيرين هنا ، ليتفق معهم على حل. أما شاكر فجعل يروح و يغدو في أرض الكوخ عله يستلهم من مرونة عضلاته ما ينهض به و برفيقه من الوهدة التي وقعا فيها .و أخيرا توقف و قال :
-أرى أن اصطحاب هذا الشاب ضرورة، فإن بقاؤه إلى جوار المكان الذي حصلت فيه النكبة حائل بينه و بين الشفاء. ذلك ما توحيه هيئته ..و لقد سمعت منك يا مولود شيئا من هذا القبيل في مناسبة سابقة.
-هذا صحيح فإن رأيي متوافق مع رأيك. ولا بد من نقل الشاب إلى أرض مأمونة فيها حرية التحرك.. و لكن كيف لنا بنقله.
و لم يكن بوسعهما أن يستنجدا بأحد، فإن ذلك خليق بأن ينبه إليهما نواظر السلطة المحتلة. و قال رب البيت :
-لقد أحضرنا هذا الشاب عندما وجدناه وحيدا في فضاء لا شحر فيه و لا مأوى بعد غارة ألقت فيها طائرات السلطة المحتلة أطنانا من المتفجرات تريد بها تتبع الفدائيين و ضربهم .. و قد حسبناه في بادئ الأمر أخرص، إلا أنه ما عتم حين سمع ضجة أن صاح : طيارة.. طيارة....ثم سكت، و عبثا حاولنا استنطاقه فقد كان جلسته هذه ينظر إلى نقطة ثابتة في الأرض لا يحيد بصره عنها .
و سأل مولود :
- هل يعاند اذا أشير عليه بالعسير..؟
و أجاب صاحب البيت :
- لم يعاند حين جئنا به إلى بيتنا. إلا أنه بقي كما ترى. إن من يرقبه يرميه بالجنون أو الخبال . صار للرحلة الآن في نظر مولود عالة مجسمة في لحم و دم. و برغم من أن ما حكي عن الشاب قد صدق عليه فإنه كان يسير حيثما يراد له أ يسير ، حيثما يراد له أن يسير ، إلا أن الوضع النفسي لمولود و شاكر كان متعبا .فهما بالدرجة الأولى قد تركا المهمة التي جاءا من أجلها لاستنفاذ هذا الشاب الذي لو ترك و شأنه في مقل هذه الظروف و في منطقة عزلاء.. ليس فيهما سوى يتيمين لعائليتين قرويتين .
- لقد هورت حالته الصحية و لأودى به ما هو فيه. قم إن الحكمة كانت تقضي بسلوك طريق عودة غير طريق الذئاب.. أو التحرك ليلا. غير ان السرى لم يكن محمودا في أيام كهذه و ظروف كالظروف.
و قال مولود : و مع كل يمارسه هذا الوضع على اكتافنا من ثقل ، فقد وضح أن علينا توطيد النفس لرحلة شاقة.
و عندما بدأ مسير هؤلاء الثلاثة كان مولود يشبك ذراعه بذراع الشاب. و كان شاكر يستطلع الطريق سائرا أمامهما بحذر.فلما استعصى على شاكر أن يتبين مالاح أمامهما على مسافة مئة متر من سهل فسيح ، جاء مولود على صيحته ليجرب حظه في تبيان ذلك الشيء البعيد. و عندما عاد لم يجد الشاب في موضعه . و قال مولود :
-لقد شرد الشاب .
و أجاب شاكر :
- هذا طبيعي بالنسبة لإنسان يملك نفسا متلاشية كهذا الشاب. في مرة قادمة لن تفلته من يدك و لو ناديتك.
و ذهب الفريقان يبحثان بين الزروع الطويلة السوق. و طال البحث و تعرقت الجبهتان و كاد ينفذ الصبر و لعن شاكر الساعة التي صاح فيها برفيقه و فضل لو أنه واجه الموت وحدة ، على ما هما فيها من عنت و نصب.
كان بين الواحد و الآخر مسافة عشرين مترا حين صاح مولود :
-وجدته.. وجدته..
و عندما اقترب شاكر من صاحبة الواقف هناك و هو ينظر إلى الأرض شاهد الشاب مضطجعا على جنبه في وضع مستريح و بصره شاخص إلى الأرض.
و استأنفا السير حثيثا في هذه المرة، و قال مولود :
- لن ينفعك ذراعي عن ذراعه مهما حصل.
و بدا الشاب أليقا يؤمر فيطيع.. و بدا التعب بعد نصف ساعة على مولود ، فأسرع شاكر قول :
-بدا التعب عليك يا مولود.. هلم فسلمني ذراعه هلم فسلمني ذراعه ..لتناوب..لم يجب مولود بحرف بل فعل ما طلبه شاكر .. الذي ما إن مضى نصف ساعة أخرى على مسيرة حتى صاح :
-يبدو أن قدمي ارتطمت بصخرة عنيدة خفيت علي أثناء الطريق ..
و خف مولود فأخذ بذراع الشاب و وقف ينظر إلى شاكر و هو يجلس على العشب فإذا به مصاب بجرح رغيب. كان الجرح يخزه آنا بعد آنا، حسبما أفاد ، وقال مولود :
- هذا خفض يسير من الأرض لنستروح فيه ،اضطجع انت ، لعلي غفوة تريحك من الألم.
- و فعل شاكر. إلا أنه لم ينم إلا غرارا.. ثم نهض و سار الجميع .. شاكر يعرج و مولود ذراعه دائما مشتبكة بذراع الشاب.و في اليوم التالي كان شاكر قد أصبح ناقه امن جرحه. و مع كل هذا فلم تند عن صرخة.
فلما انتهى طريقهم إلى مجاز للعربات مضوا فيه، فلقد أدرك الرفيقان بشيء من توارد الخواطر أنه أقصر طريق. و إذا بهذا المجاز يتأدى إلى فضاء عرفاه للوهلة الأولى، إنه الفضاء الذي ولجا فيه مع رفيقهما أول يوم من مهمتهما. و لئن كان واسعا سعة استغرقت منهما ساعتين ،إلا أنهما ما لبثا أن وجدا نفسيهما وقد لفتهما المنطقة المألوفة.
و هكذا انتهت مغامرة أصاب فيها مولود- على ما شافع بس شاكر- نصيبا وافرا من التجربة و الثقة بالنفس، و قال مولود معقبا :
-و قد عدنا أيضا بصيد غالي الثمن.
وقال شاكر لمولود حين أدركا من ضيفهما المسكين الباص :
-ما الرأي في المسكين؟..
و أجاب مولود و عليه إمارات الرجال المستريح :
- اتركه لي فقد تدبرت أمره. .لي صديق، طبيب نفساني سأعهد أمره إليه.
و سكتت مولود و قد ارتسم على وجهه الهم و فكر : لقد ك1بت يا مولود فما تعلم من أمر الطب النفساني و لا الأطباء النفسانيين شيئا . و لكن ما فكرت به غير مخصص لأن يعلمه الآخرون، إنه أثير لديك لأنه يكشف جانبا من نشاط لا يجب أن يعرفه حتى شاكر الذي لم يتخرج من معهد الأحداث. فأنت الآن مولود بن مخلص من عائلة النابلي و هي عائلة و أن تكن مجرد لقطة و لكن يبدو أنها توافقك تماما و لا غبار عليها . أنت تعلم دون شك خلق الله جميعا أنك ستلجأ إلى مدير معهد الأحداث ذلك الصديق الذي تكن لد أصرح الود و أعمق الاحترام . هذا الشاب يحتاج علاجه إلى أناة لا تملكها أنت.. و يملكها مدير المعهد.
و بعد أن ودع شاكر مولودا ، لدى توقف الباص في المدينة. تحرك هذا الأخير مع الشاب ذراعا بذراع. و هناك في معهد الأحداث الجانحين كان المدير غائبا. فهتف له إلى داره، و أبلغه ما هو في سبيله، و سأله عما إذا كان يصح له أن يطمع في عونه، و أجاب المدير بالهاتف :
-يجب أن تعلم يا مولد بأن لك الحق دائما في عون المعهد ساعة تشاء ، و تستطيع بملء هذا الحق أن تحصل على ما تريد من مساعدة.
و جلس مولود – و إلى جانبه الشاب- ينتظر وصول المدير من داره ، و هو في مد غامر من الغبطة ، و اذا بالمدير يدخل فيهب مولود واقفا فينحني و يحييه تحية حارة.
كان الشاب الذي أحضره مولود أسود الشعر جعده. و قد ذبل جفناه و قوف بجانب النافذة ، بصره جامد لا يطرف، يتجه إلى القصي البعيد و يداه مقبوضتان بجانب النافذة ، بصره جامد لا يطرف ، يتجه إلى القصي البعيد و يداه مقبوضتان بشدة ، كأنما قد طواهما على شيء ثمين ، لا يستطيع أن يدعه يفلت منهما. و أسر مولود إلى المدير ببضع كلمات فهز هذا رأسه جزعا و قال :
- هذه حالة مستعصية و قد مربي مثلها و فيها مشقة.
و قال مولود :
- أنا آسف على أنني سأسبب لك المتاعب ، ربما لا تسمح أنظمة المعهد بذلك.
و قال المدير :
- سواء سمحت الأنظمة أم لم تسمح ، فأني سآخذ الأمر على تبعتي. ما كنت لأرفض طلبا استجابته لها مثل هذه القيمة عندك. إن الأمر على ما أرى يستحق المشقة و المخالفة. و لكن قل لي يا مولود : بماذا تعمل اليوم .. أتراك تركت الدراسة و الكلية التي بذلت جهدي في عونك على الانتساب إليها .
- - ما كان لي يا سيادة المدير أن أكفر بمعروفك ، فأنني في الصف المنتهي الآن . و أنا المبرزين في الفصل. و لكن مثل هذه المهمات من الهوايات عندي.
- ما شككت لحظة واحدة بمعدنك الطيب يا مولود ، إنما أردت أن أستعلم، و ها أنا أجد نفسي قد كوفئت على جهودي.
و قام المدير من مقعده و اتجه نحو الشاب و لمس كتفه برف و قال له :
- كيف حالك أيها الشاب؟ ..
و كطائر بلغ كف الصياد عش انتفض الشاب و نظر في ذعر في وجه المدير ثم لاح عليه أنه اطمأن قليلا لأجاب :
- عم مساء يا سيدي.
و كان صوت الشاب على خلاف ما كان قبل ذلك. ود بيعا مهذبا.. و ظل ينظر إلى المدير لحظة ثم خفض بصره و أدراه إلى النافذة.
-ما قولك في عشاء لذيذ؟..
-كلا يا سيدي ، و شكرا.
- أتحب التدخين؟..
-كلا يا سيدي و شكرا.
-و ما رأيك في قليل من القهوة و بعض الشطائر؟.
-كلا يا سيدي و شكرا.
و عاد المدير و هو يتكلف الابتسام :
-أتفضل من ي أن أسكت ؟..
-كلا يا سيدي و شكرا.
و هكذا كان جواب الشاب على أي سؤال يوجه إليه. و قال المدير لمولود :
- أنت ترى وضع هذا الشاب. إنه لا يسعني أن أنصرف و أدعه – وحيدا مكتئبا و يداه مقبوضتان. إن رجلا مثلي عانى الكثير ، ليس من السهل أن يقنط . اطمئن يا مولود لن أتركه. الآن سأنفذ إليه من يهيئ له سبل الراحة و سنلتقي غدا . اذهب أنت إلى دراستك ، و لك أن تعود إلي كل يوم أو يومين بعد الظهر.
- و المعهد ؟..
- ستحصل ولا شك على إجازات خروج لمدة ساعة في كل يومين و إذا صعب عليك الأمر ، فأنا أستطيع أن أعينك عليها من أولي الأمر في معهدك. إن وجودك عنصر هام في شفاء هذا الشاب. ستكون جلسات المعالجة بحضورك. و لن نحتاج فيما أرى لأكثر من يومين. سأهيئ كل شيء قبل البدء.
- حسنا. لا أعلم كيف أستطيع ، و بأية وسيلة أشكرك على صنيعك هذا؟..
- دعك من هذا يا مولود ، فإنك لتعلم جيدا أنني لا أفهم بهذه اللغة.
و انصرف مولود و قد شعر بأن الله أتاح له سببا من رحمته , فلقد داء بإنسان.. بكيان و عبر به الحدود. إنسان من لحم و دم ، إذا هو أخفق في علاجه فم الذي سيصنع به. ليس هو علبة دخان حتى يخفيها في جيبه و لا بقلم يعلقه في حاشية جيبة. إنه أنشان يحتاج إلى مأوى و غذاء و علاج . ثم إنه أنسان لا كالأناس معتل الصحة النفسية مسكين يجر معك علة قد لا تجد لها علاجا . ماذا ، إذا عرفت السلطة بأمره؟.. سيكون للأمر ذيول غير مستحبة .
و مع أن هذه المغامرة قد شغلته عن التفكير موقتا بمغامرته النفسية في دار رفيقه مصباح ، إلا أنه عندما صحا و تذكر ، شبه نفسه بتلميذ بطرف عينه إلى الوراء ، حيث هناك طفل يلعب بسلحفاة صغيرة..
بأنه كالمقرور دخل جوا دافئا ، فبينما كان مرفوع الأكتاف مشدود الأعصاب ، شعر بالغبطة تغمره حين شاهد مصباح متمددا على فراشه ، فانفرطت سلسلة أفكاره جميعا و أدرك أن لا سبيل إلى نظمها من جديد.
و قال مولود لمصباح :
- ألا تزال مستيقظا ؟..
- كنت على وشك أن أنام ، فأيقظني دخولك.
- ألا تود أن أقض عليك مغامرتنا اللذيذة في العطلة.
- أرجو يا عزيزي مولود أنر ترجئ هذا إلى الغد . إن النعاس يقتلني.
و رأي مصباح مولود يخلع ملابسه و يرتدي منامته على عجل ثم يستلقي على سريره و هو يزفر زفرة طويلة. و انفجرت الساعة الحادية عشرة ...
كان يتقلب في فراشة طويلا قبل ان يدركه النوم. و ندم على ما فاه به . كيف تأتي له أن يفضح ما يحرص على ستره. و لكن الغبطة على ما يبدو استخفته. و مع أنه نام متأخرا ، فأنه استيقظ مبكرا عن رفاقه فمصباح ما يزال راقدا فاقترب من سريره و مرر رأس إصبعه و برفق شديد عند طاقتي أنفه ، حيث الزغب ، فارتجف مصباح قليلا و مر بيده على أنفه كم يفعل حين يشك بوجود ذبابة. و ارتد مولود ، و حين سكن مصباح ، أعاد الكرة ففتح مصباح عينيه هذه المرة و أدرك أنها كانت فعله مولود فانطلق فمه ببعض الكلمات المناسبة ، ثم انفجر ضاحكا و استمر ضحك الاثنين . و قال مولود :
- لم يكن بد من إيقاظك و قد دق الجرس.
و خلال خمس دقائق كان الشابات قد أتما ارتداء ملابسهما ، و خرجا من المهجع مسرعين يلتمسان السبيل إلى قاعة الطعام ، فإذا هي حافلة بطلاب المعهد ، و أخذا مكانهما والتهما طعامهما . ثم التحقا بالفصل .
و عاوده ضيقه في قاعة الدرس ، إذ انتبه لنفسه فإذا هو جاف اللهجة مع جاره الذي وجه إليه سؤالا خافتا مسترتقا انشغال الأستاذ بالكتابة على اللوح الأسود . و تساؤل عن سبب ذلك ، و لم يدرك كنه هذا الضيق . إلا أنه بدا و كأنه عجز عن منح عقله لثلاثة موضوعات في آن واحد : الدرس و الذكريات الجميلة و الشاب الفلسطيني.
أما الدرس ، فإنه لم يستوعبه ، فلديه الكتاب و رفاقه يقرأ فيه ، و يستوضحهم عما غمض منه عليه. و أما ذكرياته الجميلة ، فهي لم تصبح حتى الآن ملكا خالصا له ، و ما زالت عزلاء من كل ما يغلفها . و أما الشاب الفلسطيني فإنه يجب أن يشفى ، إذا شفي أمكن إعادته إلى وسطه الأول سليما معافى .. و لسوف يستطيع أن يكسه للقضية فيحمله كتبا و كراسات تطلع أهل الأرض المحتلة على ما يبذل للقضية ليظلوا على الخط صامدين.
رحب مولود بالشطر الثاني من النهار ، فلقد حصل على إجازة غياب ساعتين ، كان ذلك توفيقا، فإن للمعهد حياة داخلية إجبارية لكل طالب صعب خرقها لأي سبب . و اهتدى إلى أن مدير معهد الأحداث حصل على وعد من الإدارة بأن تمنحه هاتين الساعتين.
و عندما وصل إلى معهد الأحداث دخل على المدير فبادره هذا بقوله :
- صاحبك اليوم في حال حسن ، و أقصد أن تشنجه العصي بدأ بنحل و ذلك بنتيجة مواد مهدئة رزقناها تحت جلده ، و اتسعنا على ذلك بأربعة من الحدم الأشداء جمدوا حركته لمدة حقيقة. و كان مفعول الزرقة حسنا ، فقد هدأ دوءا نسبيا. و لكن هذا لا يعني أننا سنصل إلى مكامن ص 152
-
شعوره الباطني بسهولة، فما زالت أمامنا مشقة . بالأمس كان هنا أما الآن فسنذهب إليه.هلم بنا..
عندما وصلا كان الشاب ما زال جالسا ساهما. قال المدير :
- ست ساعات مضت عليه و هو بهذه الجلسة.
و اصطنع المدير حديثا مع مولود ،قال له :
- لقد نشأت أنا في نابلس و لا أزال أذكر بالفخر جبل النار.
و لاحظ الرجلان أن الشاب أعطى سمعه لهما.. و أن عينيه تتحركان و جسمه ينتزى حركة ، يريد أن يقول شيئا . فسأله المدير:
-من أي مدينة أنت في فلسطين ؟
- أنا من نابلس.
- آه ما أجمل مغاني نابلس و ما أشد نكبة أهلها؟..
- هذا صحيح يا سيدي..
قال الشاب هذه الجملة ثم عاد إلى وضعه السابق دون أن يدفع بالحديث إلى أبعد مدى. و عاد المدير فأخذ بيد مولود و انتحى به جانبا و أسر له ببضع كلمات.ثم عاد فاعتذر للشاب عن مقاطعته لحديثه. بينما أن الشاب لم يكن يتحدث حقيقة. و قال المدير للشاب :
- اسمع يا بني..إنك تطوي ضلوعك على هم عميق ، و أي إنسان يستطيع أن يرى ذلك، و لست فضوليا و لاأريد أن أنقب عن أمرك ، و لكن تبدو لي و كأن النوم لا يؤاتيك فهل هذا صحيح؟..
- - نعم يا سيدي.
- هذا بطبيعة الحال لأنك لا تجد راحة العقل . و كثيرا ما يحدث أن تخف وطأة الهم إذا أطرحه صاحبه عن صدره .و نحن وحدنا الآن فلماذا لا تدلي إلي بشجونك؟..
و ظل الشاب على حاله و بدا أن التوتر لم يخف،و كانت نظرته إلى المدير واشية باليأس الذي يعتمل في نفسه و لكنه أفاد:
- حسنا سأخبرك.
ثم زفر زفرة وقعد على كرسي آخر من الطراز الذي يطوى و ينشر و وضع قبضيته على ركبته، وصوب نظره إلى بقعة صغيرة على الأرض،و كان صوته ذو طبقة واحدة كطالب صغير يسمع الدرس لأستاذه. وقال :
- نشأت في نابلس ، و كان لنا جيران لهم فتاة جميلة اسمها لينا كان بين أهلي و أهلها ود و بيني و بينها حب ، فلما بدأ العنف يخيم على تلك الربوع ، و كنت أنا قد أتممت دراستي الثانوية بقي علي أن أجتاز فحص نهاية الدراسة الثانوية، فانتقلت إلى مدرسة ثانية في القدس. و في يوم من الأيام ، بعد أن أدركت أنني ناجح لا محالة ، كتبت إلى أهلي أبلغهم و أطلب منهم أن يخطبوا لي لينا ، و علمت فيما بعد أن أهلي رتبو الأمر على هذا . و أخيرا عدت إلى مدينتي بعد أن كنت التحقت بوظيفة في بلدية القدس ، و قضيت خمسة أيام في إجازة. و كان الاحتفال بزواجنا بديعا، و كان الترتيب أن نأكل الخروص المحشي و نشرب اللبن الحليب بعد الاحتفال. ثم نذهب أنا ولينا وحدنا بقية الإجازة. و لكن كان عليي أن اؤدي مهمة و ذلك بأن أخابر رئيس البلدية راجيا منه تجديد إجازتي يومين آخرين لأن الأيام الخمسة قد استهلكت جميعا. و كانت تلك هي أول فرصة أتيحت لي بعد أن تم الاحتفال . و عندما عدت من مكتب البريد و الهاتف ارتددت إلى دار لينا . و لكن البيد لم يعد قائما هنالك ..
و لاحظ مولود عندما وصل الشاب إلى هذا الحد من قصته أنه يسمع دقات ساعة يدع على رسغه ، في فترة الصمت التالية. و بلع الشاب ريقه و مضى في كلامه بنفس الصوت الرتيب النغمة :
- لم أصدق عيني في بداية الأمر. و لم يكن ثمة سوى حفرة في الأرض. و سمعت أزيز الطائرات و هي تبتعد و كان الدخان لا يزال يتصاعد في الموقع و بعض شعلات من النار هنا و هناك ..و أدركن عندها ما تصنعه الطائرات بحجة ملاحقة رجال المقاومة .. فلقد ذهل بيت لينا و ذهبت لينا و ذهب أهلي و أهلها .. و لم يبق منهم شيء يستحق الدفن.
عندما وصل الشاب إلى نهاية حديثه ، نازعت مولود نفسه إلى أن يطوقه بذراعه . و لكنه كان يعلم أن هذا ما لا يحسن صنعه ، فإنه خير أن لا يلمس المرء جرحا قاتلا. و تساءل في سره : ماذا كان يستطيع أن يقول؟.
يجب قبل كل شيء أن يكون هناك ما يمكن قوله في مثل هذه البلية. و لكن أرتج عليه فلم تتحرك شفتاه بكلمة ، فظل مولود و المدير قاعدين في البهو أما الشباب تحت شوء ساطع من النور في أظلم ساعات المساء و كلاهما ينظر إلى الأرض.
و أخيرا خرج المدير عن صمته و قال مقترحا :
- أتحب أن ترافقني إلى بيتي؟.. يمكنك أن ترقد في غرفة ابني فإنه غائب عن الدار لأنه مجند ، و لن يزعجك أحد و سيكون ذلك من دواعي سرورنا.
- كلا يا سيدي ، و شكرا .
- إذا شئت فإني مستعد أن أنزع هذه الملابس فنذهب معا إلى أحد الملاهي تحيي الليل بالسهر ، فقد يسليك هذا.
- كلا يا سيدي ، و شكرا.
و انتحى مولود بالمدير ناحية و قال همسا و هو ينظر في ساعة يده :
- لا أدري إذا كان يحق لي أن يدركني اليأس. فإني أرى أن مجهودنا غير مثمر . و أنا امرؤ أخشى أن أخسر ثقة مدير الكلية ، فقد اعتم
- الرجل على مرؤتي فمنحني ساعتين من الغياب و أنا حريض على هذه الثقة فإن مشواري طويل و قد استنجد بهذه الثقة في مشروع آخر. و ها أنذا أرى طأني أكملت الوقت أكلا لما.
- لا يحق لك أن يدركك اليأس.. فإني لأبصر انفراحا مؤكد و نحن نتقدم مافي ذلك ريب ، و إن كان تقدمنا بطيئا. امض إلى مدرستك و سنتابع جهدنا في جلسة ثالثة.
و هكذا كان و افترق الرجلان فعاد مولود إلى فصله.
في تلك الليلة آوى مولود إلى سريره في المهجع. كان مصباح غائبا حضر بعد دقيقتين ، و إذ تطلع فوجد مولودا متممدا على فراشه و يداه مشتبكتان تحت رأسه ، و عيناه تتفرسان في السقف. فقال مازحا و هو يخلع ملابسه :
- أرى أن عادة السهاد قد تمكنت منك يا عزيزي مولود.. فهل تتفضل بأن تدلني على الطريقة التي اهتديت بها إلى هذه العادة؟..
- و لكن قل لي ألست "شيطانا" الليلة ، على غير عادة حتى تظن بي الظنون.
- و هل هو ظن سيء الاعتقاد بأنك عاشق؟..
- بالنسبة لتلاميذ مساكين أمثالنا نعم..
- سيت غنى ولا صيت فقر يا رجل.
و انفجر مولود ضاحكا ، و لكنه مالبث أن لملم شفتيه ، فقد عاد إليه قلقه و كأن مصباحا لاحظ فقال :
- أنت يا بني ....إلى آخره.
- إبق على اعنقادك هذا بأني...."لى آخره".
و جاء دور مصباح فانفجر ضاحكا ، ثم لم يلبث حين تمدد في سريره أن استغرق في نوم عميق. و نظر مولود إليه في سكينة ، و قال في سره :
- يا للطفل الغيرير ، ينام ملء جفنيه : ذهن خال من كل تبعة. لو كان لي مثل هذا الذهن لكان من المرجح إما أن أعيش طويلا سعيدا أو أن يذهب عقلي..
في اليوم الثالث استطاع مولود أن يظفر بإجازة غياب ليلة. و حين حضر إلى معهد الأحداث الجانحين كان المدير إلى جانب الشاب الفلسطيني يحاول معاجلته. و قال المدير يخاطب الشاب :
- كيف تجد نفسك لايوم يا بني؟..
- ...
ظل الشاب صامتا و نظره معلق في نقطة ثابتة في الأرض لا يبرحها.. و نظر المدير إلى مولود و قد بدت آثار التعب عليه . و قال له :
- لم أجد في حياتي شابا أصعب مراسا ولا أقوى طبعا..
- و كيف ؟..
- لقد رصدت له من يراقبه : إنه لم ينم حتى الآن لحظة واحدة منذ يومين. قليل من الناس من تتحمل أجسامهم هذا التعب.
- و ماذا يجري إذا استم على ذلك..
- يستطيع أن يستمر يومين آخرين و لكنه سينهار بعد ذلك لا محالة.. و عندها يكون علينا أن ننفض أيدينا من شفائه نهائيا. و من الآن حتى انتهاء هذه المهلة لن أقنط و سأوالي المحاولات . مزاجه العليل قفل له مفتاح بالتأكيد و يبدو أننا لم نضع يدنا على هذا المفتاح . إن ثقافة الشاب من النوع الرفيع ، حصل على معظمها بجهده الشخصي. و أنا زعيم بأن طريقنا يجب أن يمر عبر هذه الحقيقة.
و عاد المدير فأقبل على الشاب الفلسطيني و ربت على كتفه في حنو و قال له :
-
ان صوتك يا بني ينبئ عن أنك مولع بالموسيقى
هنا رفع الشاب رأسه و قد ومضت عيناه بنور جديد ، و ظل يحدق في المدير ، ثم أجاب :
نعم ، لقد كنت عضوا بارزا في الفرقة الموسيقية التي ألفها أستاذنا في المدرسة.
هل تعرف العزف على البيانو..؟
نعم..
هلم بنا ،
و دخل الثلاثة يتقد مهم المدير إلى قاعة جثم في إحدى زواياها بيانة ضخم بلون بني و جلس أمامه و بدأ يعزف لحنا لبيتهوفن :
رب لم أشقيتني وحدي و لم أشق أحدا غيري من عبادك .. و قال المدير لمولود هامسا : لقد وصلنا. ثم التفت إلى الشاب و قال له :
كن معي وردد..
و تصاعد صوت الشاب شجيا رائعا ، فما كان أعذا هذين : صوت المدير المضطرب المتعثر من الكبر و صوت الفتى الثابت و قد ارتفعا معا في انسجام يرددان نغمات الموصيقي العظيم.
و قوي صوت الشاب و ازداد عمقا ، و اكتسب قوة جديدة و إجساسا لم يكن للعبارة عنه من سبيل إلا بالموسيقى . و اتسعت عيناه ، ثم ضاقت فتحتهما كمن يفعل من يحلم . و بدا كأنه يرى من خلال الجدران المدهونة للقاعة ، و يجتلي فيما وراء الزمان و المكان مدرج الغناء و الموسيقى في المدينة التي تعلم فيها.
و انتهى النشيد ، فالتفت الشاب إلى المدير و سأله : هل تعرف يمفونية شوبرت غير الكاملة.. إني أعزف نشيدها المرافق للموسيقى.
نعم بالتأكيد ، كن معي مرة ثانية..
و مرت ساعتين و الثلاثة في غفلة من مرها ينتقلون من نشيد حزين إلى آخر حزين حتى إذا رغب الشاب في بعض الألحان الكنيسة أخلى المدير المقعد له لأنه لا يعرف من هذه الألحان شيئا و قد استبان أن الشاب كان مسيحيا. و اخيرا بدأ الليلل يتحسس طريقه في الشارع بأصابع من أبنوص فنظر المدير إلى الشاب فألفى عينيه تومضان ، فخاطبه قائلا :
تظن أنك تستطيع الرقاد الآن ؟..
نعم يا سيدي ، و شكرا..
و ودع مولود المدير شاكرا و قد انتشى بعد هذا الانتصار ..و هو علىيقين بأن الشاب سيغط عما قليل في سبات عميق.
كان الطريق الذي سلكه مولود، موليا وجهه نحو معهده ،يعرج على سوق تميزت بحوانيت مبيع " النوفوتيه". و رغم أنه كان ما زال مأخوذا بالنتيجة التي آل إليها مسعاخ في سبيل إعادة تأهيل الشاب الفلسطيني ، إلا أن زجاج هذه الحوانيت في استوقفه مرات عديدة .. و طفق ينظر المعروضات خلال الزجاج و يطيل النظر.
الحقيقة أن مولود لم يكن يرى شيئا مما أتقن أصحاب المحلات عرضه و إن كان ينظر و ينقل البصر. و هو مفتون بما حققه و ما زاد ثقته بنفسه أضعافا مضاعفة. الآن يصح له أن يلهو ، أن ينظر إلى محتويات الشارع ، فهو قد أعظى عطاء محمود الأثر . و مدير الأحداث ، هذا الرجل النبيل، ذو الشيبة الكريمة المحترمة ، هل هناك من يدانيه طيبا و نبلا ؟.. من المؤكد أنه ضحى بمركزه أو عرض هذا المركز لمضاعفات في سبيل إرضائي..
و استوقفته الفكرة الأخيرة طويلا ، فتساءل : هل هذا الحرص على إرضائي جزء من العلاج الذي مارسه علي المدير حين كنت جانحا؟.. ولماذا يفعل ؟ أنا الآن ناقه مافي ذلك ريب.
لماا تبدي أنت من كل شيء جانبه المتشائم؟.. لم تعد متشائما فما يليق بك أن تذهب بتكفيرك ها الذهاب .كثير من الأسباب تنتقص بحق من هذا النظر إلى الأمور. فالرجل لم يبد من أثناء اعوجاجك ما سيؤك حتى يقصج الآن الإساءة إليك ، و قد غدوت امرءا سويا..لقد بان ، بما لا يدع مجالا للريب ، أن هذا المدير أخذك كصديق ، أو ما تراه يتباسط في حديثه معك أنسب الحلول لعلاج ذلك الشاب الفلسطيني..؟
و راقت لمولود الفكرة الأخيرة ، و انبلج بين أعطافه صيح أشهب.. أنا الآن رجل له كيانه و قيمته . أصدقائي طلاب المعهد الصناعي العالي ، و صديقي مدير معهد الأحداث . فلأنعم بهذه البحبوحة .. بنتظرني مستقبل مشرق يجب أن أسعى إليه.
بالتأكيد لم ير مولود من هذه المعروضات شيئا ، أضواء و ألوان فحسب. لا تعنيه هذه المعروضات أصلا ، إنها للمتزوجين و النساء ، ليس له فيها سوى صابون الحلاقة و كريم الأسنان . و هو الآن ليس بحاجة إلى أي قد منها . و نظر في ساعة معصمه : لا يزال أمامه متسع من الوقت ، لماذا يهدره ؟.. لن يؤوب إلى المدرسة قبل استنفاد آخر ثانية من الوقت .. هي حقه الذي لا مراء فيه. كانت الأيام أواخر أيام رمضان ، الباعة و المحلات تسهر حتى منبلج الفجر لتصريف البضائع . و على كل حال فالوقت الآن أصبح في أولى ساعات الصباح.
و فجأة نقرت من أحد المحلات ظبية رعبوبة ساجية الظرف. أفي هذه الساعة المكبرة؟ ..آه؟..الم تعرفها؟.. لقد أعشى النور و الألوان ناظريك ..إنها فائزة. وقف و إياها وجها لوجه . و طال الوقوف.. هو موقف صياد و غزال. تسمر في مكانه لا يتحرك، استقطبت في كل تفكيره فجأة. و ليس له هو أن يتحرك و إلا أصبح تفسير حركته الفرار ، و هو لا يريدأن يهرب/ أما هي ، فتحيرت، تعرفه ، جلس إليها مجلسا ما ، إذا نفرتو ذهبت على مجهها فلسوف يمتعض ، إنه صديق أخيها مصباح.
و ابتسمت فابتسم.. جاء دوره :
صباح الخير يا آنسة.
أهذا أنت أيضا؟..
لماذا أيضا هذه ؟..لعلها ظنت أني أتبعها ..يعلم الله والثقلان أنها لم تكن في بالي. فأجابها بسؤال سريع :
أتكون مفاجأة غير سارة .
فترددت لحظة قبل أن تقول :
لم أقل ذلك .. أعني لم أقصد إلى هذا القول ، و إنما..
و تعلق نظره بشفتيها ، ينتظرها أن تتما ما بدأتا به..و لكن هذا لم يتم ، و احمر وجهها ، إنها محرجة غاية الإحراج.. ما أحيلى الغادة المحرجة. يتلخص في وجهها المتورد و عينيها المستنفرتين حرصها على أن لا تغصبه ، و أن تبقى مرغوبة منه ، هي و ترددها و رفضها و قبولها و انتظارها و خجلها دفعة واحدة..
و شعر بدوره بأنه قد أرتج عليه ، فهو يتجه بكل كيانه لإخراجها من الدائرة التي حوصرت فيها ، إلا أن ذهنه خانه في تلك اللحظة ، ماذا يقول ؟.. و ما الذي يناسب الموقف ؟.. هل يعرض عليها خدماته؟. إذن تكون خاتمة الحديث الذي لم يكد يبدأ بينهما بعد.. و فجأة ، وجد نفسه بنطق بهذه الكلمات ..يبجة أن السوق منتعش اليوم
و ازدهرت عيناها ، فقد شعرت بأنها خرجت من حصارخا ، فردت قائلة :
فعلا ، فها هو العيد قد اقترب..
جعل الله كل أيامك أعيادا
و القائل أيضا
و شعر مولود بأن عينيه تدوران حولها كما تنجذب قطعة معدنية صغيرة لمغناطيس كبير.. و نظراته متمركزة على ما تتأبطه و هو علبة حسنة التغليق. و صاحت :
آه .. هذه العلبة فيها ، فيما عدا شيء لي ، بعض الأشياء لمصباح إنه مهمل ، فلقد اكتشف أمس صبحا أن معجون أسنانه قد نفد و أنا أعرف الماركة التي يفضلها . فتداركت له واحدة ، كما راقت لي آلة حلاقة حديثة ، أريد أن أفاجئه بها في العيد ، لأنه من بعد انتسابه إلى المعهد العالي صار عليه أن يتخلى عن الحلاق..
يجب أن يكون ذا حظ ألبج حتى أرسل الله له أختا مثلك..
لا أدري .. و لكن يجب أن يتكل علي و يهمل نفسه.
يا آنسة ، يجب أن تعذريه، فإنه لا يكاد يجد متسعا من وقتهليهتم بنفسه. لا تنسي أن ما قتله عنه أنت يمسني أنا أيضا .. كلنا بالهوى سوا ..
فارتفع حاجباها و غضت طرفها خجلا ، و جاءت الكلمة الأخيرة تفتح جوا بهيجا ينخفض فيه مستوى أكثر فأكثر ، و ابتسم بدوره بمعدل مناسب و أكثر بقليل .. و سمعها تقول :
عفوا ، ما قصدت أن أمسك بشيء ، إنما أردت أن أبين أنكم أنتم..
و أعجب بنفسه ، فلقد اكتشف أن لديه قدرا من الروح الاحجتماعية يكفي ليجول في المجالس و رأسه في وضع طبيعي لا خجل منكس و لا مرفوع بغرور ، و كأنه لمس أن هذه الروح ما يروق للنساء ، فانتشى و أرادها أن ترقى بنظراتها إلى مستوى ضحكة أو مشروع على اٌل . فقاطعها قائلا :
قوليها و لا تخجلي : " أنتم معشر الشباب الله يعيننا عليكم"..
و استضحكت ضحكة بريئة و لكن بقدر يسير ، و أدرك هو أن في هذا الكفاية اليوم . فإن التعارف بينهما حديث و لا يسوغ له أن يوغل في اسثتمار استجابة فتاة خجولة بشكل يؤذيها ، إذا تحلقت حولها عيون تعرفها ، و أن قد حان الوقت ليقول :
هل من خدمة أؤديها لك يا آنسة؟.. و هل تتعبك هذه العلبة؟..
أشكرك شكرا جزيلا ، فليس لدي بعد أي مشروع ، و أنا متجهة إلى الدار.
و وقف لا يتكلم ، ينظر إليها لعله يجد في عينيها ما يشجعه على أن يعرض عليها مرافقته لها إلى الدار ، و لكنه لاح أن الحذر يطل من عينيها حين لمحها تدير ناظريها يمينا و يسارا ، فأدرك أن وقفتها الحرة هذه بدأ يشوبها الارتباك ، و أسرع حين استأذنت و صافحها و انصرف.
عندما أصبح مولود منفردا خيل له أن قد سمعها تتكلم بصوت ضعيف قائلة : خلينا نشوفك.. إلا أنه عاد فقال في سره : و لماذا هذا الغرور؟ ..الفتاة لم تنفرج شفتاها عن كلم من هذا النوع عندما صافحتك و ربما كانت عيناها قد تلفظت بذلك.
و نظر إلى معصمه فإذا الساعة تشير إلى أن الزمن مر بسرعة هائلة .. و هو الذي كان يعتقد بأن لديه الوقت ليضيعه في استطلاع زجاج المحلات. فخطى خطوات واسعة و سريعة يريد إدراك المدرسة ، فإن زملاءه الآن في قاعة المطالعة. كان صباحا رطبا و الشمس تغمر الدنيا بحنان ذهبي سائل و قد سرى نسيم بليل رفت له أغصان الأشجار في الشارع رفة جفن يتذوق السعادة و الرضى.
و عندما لحق برفاقه هناك في القاعة ، اندس بجانب مصباح ، فقال له هذا هامسا :
اتصلت بك عدوى الغياب عن المعهد مني.
فأجابه مولود من روح مزاحه هامسا ، و كأنه يتلذذ بشعور انتصارا ما :
يا له من عدوى لذيذة..
أخفى مصباح رأسه بين دفتي كنابه و هو يضحك ضحكات صامتات أما مولود فقد أكب على كتابه و هو يشعر بأنه ينبغي له أن يتفوق ليستحق ها الوجود الذي يحياه . و عاد يلتهم الكتاب التهاما ، و يبدو أن مصباحا أراد أن يداعبه فنظر إليه و لكن مولود عبس و عيناه مستمرتان بالكتاب . و اكتفى مصباح بهذا و انصرف هو الآخر إلى كتابه . ثم دخلا الفصل.
و عندما التقيا في المهجع صفر مصباح صفرة قوية بفمه و هو يخلع ملابسه ليدخل في منامته ، ثم قال :
أنت لك عقدة حواجب يا لطيف . قطعتني هذه العقدة نصفين.
و ضحك مولود ، فما كان يسعه إلا أن يضحك . و أجاب مستهزء :
إي نعم . أنت ما شاء الله من النوع الرقيق الذي يؤثر فيه حاجبان عاقدان.
و أنت شو بعرفك. طيب والله العظيم لو كنت تراني و أنا بين يدى المزين و بيده موسى الحلاقة يحلق لحيتي؟..
في هذا المجال أنا أصدقك تمام ، فإنك ما أن يصل الموسى إلى ما تحت ذقنك .. إلى "الجوزة" حتى تتجمد كالتمثال أمامه و تستسلم فضحك مصباح و قال :
و ماذا تريديني عندئذ أن أفعل؟..حبيبي ، ها موسى ما معه لعب..خصوصا إذا وصل إلى "جوزة الحلق"..
و حين انصرف كل واحد إلى سريره تمدد. أم مصباح فقد غط في نوم عميق من اللحظ الأولى و أما مولود فقد بقي مفتوح العينين ، يداه متشابكتان وراء رأسه. و قال في سره :
هل حان الوقت لأطلع مصباحا على مشروعاتي. و هل ترجى منه المساععدة فيها؟..
و جاء جوابه سريعا :
و لكن هناك سؤال يسبق ها السؤال : هل مصباح من النوع الذي يؤتمن على مثل هه المشروعات ؟.. نعم إنه في غاية الظرف :
شاب وسيم أنيق يسيطر بسهولة على الصالة و لا تمل صحبته ، و هو إلى ذلك مخلص لأصدقائه و يحبهم و نفسه خالية من التعقيد ، و لكن ها كله شيء و المشروعات شيء آخر. هنا يكمن خطأؤنا نحن في ها الشرق ..
هل أنت جاد حين تقول إن مصباح لا يؤتمن على مثل هذه المشروعات ؟.. و أنت تعلم علم اليقين أنه بما يتميز به من حب التضحية لرفاقه أجدر الناس بأن يسلم مهمة؟.. لماذا تمهد الأرض وراءك لتمحو خطواتك ..قل انك تخاف على مصباح و كفى هذا هي الحقيقة..قلها بصراحة ، إذا كنت لا تريد أن تعترف بالمحرك الكامن وراء هذا الخوف ، لماذا توارب و تدور ثم تدور لتصل إلى النقطة التي كان يمكن أن تصل إليها بدون هذا اللف و الدوران ؟..
عندما وصل مولود إلى ها الحد من تفكيره كان قد ولج الباب الواسع لتداعي الأفكار. ماذا ؟.. فائزة..كيف تسنى له أن يراها في غير دار أخيها..أليس هذا كسبا؟.. و لكنه لم يستغل هذا الكسب كما يجب..
كيف أستطيع أن أستغله على هاي ، ألا يخشى أن أخسرها إذا تماديت أكثر من ذلك ؟.. الدنيا فيها أناة و فيها صبر. ثم إن فائزة ليست من الأوانس الطائشات..و..و مصباح؟..إنه صديق .. لقد فتح الوم لي صدورهم و كنت أنا حسن التصرف .. فائزة حقا فتاة بديعة و هي ناعمة بما فيه الكفاية.
و ظل يتناغم مع تصوراته و أحلامه المورد حتى غلبه النعاس فنام..
و في اليوم التالي عاوده التفكير بمعهد الأحداث ، و تشوق إلى الحديث عنه مع رفاقه.. هكذا بدون سبب، كان يكره أن يتحدث واحد منهم عن معهد الأحداث ، فإذا جهلوا وجود مثل هذا المعهد كان ذلك خير. و عندما سمح له القائم على البرنامج بساعة الغياب ،أدرك أن توصيته مدير معهد الأحداث ما زالت تعطي ثمارها. و لقد سره كثيرا أن أي واحد من القائمين على الكلية التي ينتسب إليها لم يفاتحه بأي موضوع يتصل من قريب أو من بعيد بمعهد الأحداث و قال لنفسه :
يا الله ..ما أشد ذكاء هذا المدير ، لا بد أن حرص أن لا يذكر شيئا من الماضي.
و تذكر عند ذلك قول المدير :
إن إحدى الدعامات التي يقوم عليها كيان هذا المعهد، هو كتمان كل شيء عن نزلائه ، حتى من بعد أن يكونوا قد تخرجوا .. هنا يموت سرهم . إذن كيق برر المدير وساطته هذه ؟ لقد انتحل وجود قرابة بينه و بيني.
عندما وصل إلى المعهد اتجه مباشرة إلى غرفة المدير ، كانت الغرفة تفضي إلى غرفة داخلية، حرص المدير منذ القدير على أن ينصب فيها خزائن "الأرشيف" الخاص بالمعهد. فوجد غرفة المدير حاوية ، و التفت فوجد الشاب الفلسطيني في غرفة الأرشيف ، و هو منهمك في ترتيب مقدار عظيم من البطاقات في مواضعها من الخزائن . و لاحظ أن الشاب لم يلتفت لدخوله ، لهذا عاد من حيث أتى بسرعة ، ثم خرج من الغرفة و جعل يتمشى في الردهة ذهابا و إيابا ، و إذا بالميرد مقبل من ناحية الباحة العمومية..و منذ شاهد مولودا رفع يده كأنما يريد عناقه و ابتسم له فلما وصل ليه صافحه مولود بحرارة. و قال المدير و ملء أعطافه اليحوية التي لا تفارقه :
كنت في غرفتي؟
نعم ، و شاهدته.
فابتسم المدير ابتسامة ظافرة..و أضاف :
جاء الدهان فطلى جدران الغرفة بالدهان ، و الجأ الآذنين إلى إزاحة الأرشيف من أمكنتها فوقعت محتوياتها في فوضى ، فعهدت إلى عاصي بإعادة ترتيبها ..لن يخيب أملك إذا ما أدخلته في مشروعاتك .. سيكون أقوى عنصر من عناصرها .
و قال مولود فرحا :
صحيح؟..
و نظر المدير نظرة طويلة إلى مولود ثم قال :
هذه هي النتيجة الرائعة لجهدك يا مولود.
هي جهودك يا سيدي المدير ، لو لم ألجأ إليك كيف كانت تكون حال هذا الشاب.
سأستخدمه عندي في أعمال كثيرة .. لقد هيأت له برنامجا حافلا :
هذا يؤخر عودته إلى الأرض المحتلة .
ما آن الأوان بعد لعودته . إن تأهيله لم يتم بعد ، و لا بد إن عاد الآن أن يعرج على مكان دار أهله و أهل خطيبته و عندها يعود سيرته الأولى و نخسر كل الجهود التي بذلناها. يجب أن يبقى هنا مدة أطول و كلما كان برنامج العمل الذي نكله إليه مكثفا ضمن المعقول طبعا كان ذلك أحسن.
حاولت أن لا يراني ، اعتقدت أن ذلك سيساعده أكثر.
بالعكس تمام ، تعال نطلب ثلاثة كؤوس من الشراب ، يجب أن تزورنا من وقت لآخر ، و يجب أن يراك و أن تتحدث معه أطول مدة ممكنة.
و دخل مولود الغرفة مع المدير ، و سمع الشاب صوتهما فجاء يحييهما .. وقال لم مولود و هو يجلس :
ماذا تعمل الآن ؟
أنظم أرشيف هذه الدار..إنه عمل دقيق للغاية.
هل سبق لك أن مارست هذا العمل؟..
و ، و لكنني أشعر بأني قادر على إنجازه.
و قال المدير ، مخاطبا مولود ، و هو ينظر إلى عاصي :
اقترحت على عاصي برنامج عمل شغل وقته ، و ربما فاض عن وقته هنا في المعهد و اضطر إلى حمل الفائض معه إلى داري حيث يرافقني كل يوم. نحن كما تعلم بحاجة منذ زمن لمن ينجز لنا هذا البرنامج ، و قد عرضنا في السابق تعويضا مغريا لمن يتقدك .. و الآن أرى أن هذا البرنامج أصبح من نصيب عاصي .. لقد وقعنا على خير عنصر يمكنه أن يسعفنا..أعتقد أن الهدوء متوفر هناك في غرفة ابني في الدار..أليس الأمر كذلك يا عاصي؟..
و أجاب عاصي باسما مغتبطا :
بالتأكيد سيادة المدير.
أنت الآن في غجاز من عملك في بلدية القدس ، فهمل يمكنك البقاء هنا بلا حركة حتى لا ..
و فتح عاصي فمه يتكلم ، فسبقه المدير و قال :
على فكرة ، أنا آيب الآن من عند أحد إخواني الأطباء الجسمانيين..حصلت لك يا عاصي على تقيرير طبي ، سترسله إلى رئيس البلدية لمنحك إجازة صحية.و بهذا نكون قد سوينا كل المشكلات التي تعترضنا.ما رأيك؟..
و قال عاصي :
سترسله هكذا من هنا إلى الأرض المحتلة؟..
و تصدى مولود ، فاستبق الإثنين و قال :
بالطبع لا ..بل سنرسله من الأرض المحتلة إلى القدس. أتعتقد أننا نعدم الوسيلة؟..
و قال المدير :
فكرة مدهشة لم تخطر على بالي . من ذا الذي تتذلل له الصعاب ليقضي فترة إجازة و استجمام ، ثم يرفض؟..
و بدا عاضي كمن خوثر فلا يدري كيف يتخلص. كا بدا عليه أنه غير راض تاما عن بقائه. و لكنه سكت سكوتا مشوبا بالقلق.. و جاءت كؤوس الشاي ، فقد وجب أن يصاحبها حديث من نوع جديد. و تحدث الثلاثة عن الخريق الذي جاء مبكرا هذا العام.
و حين بدا لمولود أن كل شيء يجري على ما يرام ودع و خرج.
و كالطيار الذي النتهى من مهمته في الجو ، لم يعد له سوى أن يحط في قاعدته حيث يجد الأمن و الراحة و الذة ، سارت قدماه بشكل عفوي في الطريق نفسه الذي سارت فيه بالأمس. ثم تمشى قليل أمام المحلات ذاتها و نظرت عيناه الزجاج نفسه و حملقت بالبضائع ذاتها ثم وقفت في المكان ذاته الذب كان وقف فيه و انتظر..
ما أشبه اليوم بالأمس لولا فارق واحد و هو أن فائزة لم تظهر..
-5-
كيف وددت السهر عندنا في ذلك اليوم يا مولود؟..
أها سؤال يسأل يا مصباح ، و هل يمكن للمرء إلا أن يكون مغتبطا في داركم؟..
وود لو لم يتلفظ بالكلمتين الأخيرتين..خاف أن يكون قد باح بمكنونات صدره..فعض على صفته.. و لكن ارتاح حين جاء رد مصباح :
إذن تعال الليلة لا سيما و أن غذا يوم عطلة ، فاسهر عندنا صدقني أننا نسر بودوك.
أأنت واثق تمام الثقة أن ليس لكم خصوصيات يمكن أن يعتبر وجودي هجوما عليها ..كل امرئ له خصوصيات أثيرة لديه.
لو كان لما دعوتك ، كن واثقا .. أنا صريح ، لقد آن لك أن تعرفني.
حسنا ، و في أية ساعة تريدني أن أحضر؟..
الدار مفتوحة لك في أي وقت .. و سأكون أنا بانتظارك ليس لي شأن لأخرج له .. أنا في الدار على طول .. تى، و لو لم أكن ، فإن أخي موجود.
حسنا سأحاول جهدي للحضور حوالي الساعة التاسعة مساء.
أهلا و مرحبا.
صار ما فكر فيه حقيقة..و لم يكن بين رفاق مولود من هو منفتح البيت على العلاقات الاجتماعية سوى مصباح. لهذا لم يلتق دعوة لسمر إلا منه. و في هذا المردة كان في شوق إلى دعوة من هذا النوع . كان بنتظرها بصبر و تكتم. الواقع أن أحب هذا المجلس ، إنه يرتاح إلى وجوده فيه ، فهو لم يشعر بكلفة ، كان بتصرف على سجيته و قد جعله ودوده أما أناس ذوي مزاج طبيعي نجم الملس بهذا التحرك المستملح . لقد حرص دائما على أن لا يستهدف أحدا منهم بمزاحه حتى و لوو أثاره لئلا يعتبر ذلك تعريضا به ، كما حرص على طرح المزاج كلما فترت حرارة المجلس ، و بذلك فإنه ضمن أن تتجه النظار كلها إليه في شغف.
بدأ مولود مشروعه في الساعة الثامنة ، فقد أطل على محل المزين الذي غسل له رأسه و قص شعره و طيبه ثم مر على صالون مسح الأحذية فصبغ حذاؤه .. و أدرك أن ياقته لا تصلح لمثل هذا المجلس فأسرع في وقت حرج..نعم إنه لوقت حرج ، لماذا لم يذكر ذلك من قبل؟ إن بائعي "النوفوته" يغلقون محلاتهم في مثل هذه الساعة . طاف بسرعة حتى وجد بائعا يعرض ياقات مستحسنة فابتاع واحد و لم ينتظر و اصطنع السبب على الففور ، قال له : ليس لدي الوقت الكافي لنزعها ، خلها..فغلف له البائع الياقية القديمة.فدسها في جيبه.
قال في سره : إن النساء يبحثن في الرجل أول ما يبحثن عن الياق و الحذاء..فإذا جاز الامتحان فيهما فاز فوزا عظيما.
بالطبع ، ليس هذا القول قولك في الأصل هو قول مصباح ذاته أول ما تعرفته في الكلية حين كان الجميع في المقصف يشربون. قالها لرفيق قديم له و سمعتها أنت..لقد رسخت هذه الكلم في ذهنك منذ تلك الساعة..
و طرب مولود لهذه الفكرة و حمد ذاكرته التي احتفظت بهذا القول الحكيم لحين الحاجة..
الآن يسير راضيا عن نفسه إلى غايته..
لقد رأيت ، ولا تزال ، أنك ستبقى الجليس المفضل لهم ، أو ما رأيت جيويتك التي بهرتهم و أن عيونهم متطلعة إليك؟.. إحرص على أن تكون أبدا يقظان لمأتى الخواطر الجيدة التي تطري المجلس. فإذا أبصرت بأحدها يحوم على منافذ صدرك ، فافتح له أبوابها و أكرمه. إن كثيرا من الناس تنزع بهم مواهبهم إلى التأمل فحسب و التفلسف أكثر مما تنزع بهم إلى إطاعة أول حافز ، إذ من المجرب أن أول حافزهو أجود الحوافز ، و هذا ينأى بهم عن حسن الترتيب و ضبط إيقاع الكلام و المزاج.. و لهذا يخفقون.
و أقنعه هذا المنطق و سره و تطلع إلى فائزة.
كانت فائزة في تلك الليلة ، و هي رزقاء العينين ساجي الطرف ، كأنها ملكة في سمتها و شمائلها ، و بانت شديدة الاعتزاز بهذه الشمائل بغير أن تكون ملدة بها . ظهر من تلفتها الذكي . و كانت فيها تلك المسحة الخالدة التي يخيل لرائيها أنها مسحة لا تبليها الأيام و التي يمتاز بها جمال فاتنات الغيد.
أما هو ، فكان مرهف الإحساس أكثر من أي وقت مضى ، فياض الصبابة ، معتزا بأناقته . ولاحظ أن المرأة التي إلى جانبها امرأة رابية الثديين ثقيلة الأرداف. و هذه عناصر من الجمال الذي كان مستهدفا في الزمن القديم ، كان صقال وجهها مقدار زائد عن الحد المقبول من مواد التطرية . أما زوجها فكان على النقيض من ذلك تماما : ضامرا صغير الجسم لا يبدو فيه شيء مبالغ فيه غير شاربيه.
و تقارب الجميع يتطلعون إلى لوحة زيتية كان ابتاعها مصباح من أحد المعارض و هي تمثل رجالا رافعي الرؤوس فارعي الطول ، أقوياء العضلات ينصبون جسرا حديديا ضخما في شروط جوي سيئة ن و وقف أحدهم يواجه هذه الشروط و قت اتسعت فتحة فمه دلالة على التحدي و الجلد ، و الصمود..
و سأل مولود :
أين وجدت هذه اللوحة يا مصباح ؟..
و أجاب مصباح ببساطة :
في معرض أذربيجان السوفياتية. أنت تعلم أن هذه الجمهورية تقيم معرضا الآن في جناح المعارض في المتحف. و لقد أعجبت بإنتاج فناني هذا المعرض أيما إعجاب. لا تظنن أنني استطعت الحصول عليها بسهولة ، فلقد بذلت جهدي مع صانعها ، و هو وحده مرافق المعرض ، حتى اشتريتها منه و بثمن مرتفع : ما يعادل ثلاثمئة ليرة سورية . و اسمها له معنى خاص. إن معناها " اقتراب العاصفة".
و من هو الفنان الذي صنعها؟
إنه لطيف فيولاييف.
آه ..لقد تذكرت ، لإنني شاهدت هذا المعرض فهو قد أقيم قبل شهرين تقريبا.
هذا صحيح..
معك حق ، فإن هذا المعرض من أجود المعارض التي شاهدتها
إذن فأنت مثلي من مدمني مشاهدة المعارض.
و ماذا في ذلك؟.. لماذا يجب الانتقاص من شأن هواية رفيعة الشأن مثل هذه؟..
و بينما كان الحديث يسير بهذا الاتجاه جخل ضيف إلى القاعة و لم يكن قد انتبه إليه أحد و سمع يقول :
الـ سـ سـ سـ لا م م م م.... عليـ..عليـ ..كم..
و اشرأب مولود برأسه إلى هذا الوافد بعد أن سمع ما سمع ، بينما بدا الآخرون بوضع طبيعي جدا ، حتى المرأة ذات الأرداف الثقيلة لم ترفع بصرها عن اللوحة ، و رد الجميع السلام..و ظلت تشير بإصبعها إلى بعض الأشخاص الموجودين في اللوحة ، و تتكلم عنها مع فائزة..و صافح الرجل الجميع و قال مصباح مخاطبا مولود :
أعرفك على صادق ابن خالتي ، و هو ابن شديد آغا صاحب شركة الـ..المعروفة ، و قال مولود :
فرصة سعيدة.
ثم قال مصباح مخاطبا صاجق :
أعرفم بمولود رفيق الدراسة و نعم الصديق.
و قال صادق :
تشـ شـ شـ ـرففنا
و نظر صادق إلى اللوحة و قال :
يا مصصباح .. الا تز تزال عـ عـ عـلى هوايتك .. المفضـ المفضلة؟.. تذ تذ تذهب بدر ر راهمك كل مذاهب؟..
و تدخلت فائزة تقول :
لماذا تعتقد بذلك؟.. إنه بالعكس يجمع ثروة هي لوحات لها قيمتها..
أم م م م..ما أنا فلا أجـ..جد لزوما للـ للـ للوحات از..ازيتية و أفضل عليها لو لو لوحات فوتوغرافي..ما الفارق؟..
و أدرك مولود أن لهذا الفتى الفأفاء التمتام الملوي اللسان منزلة ما في هذا البيت ، و عجب لنفسه كيف اتصل عقله هو مع لسانة هذا الاتصال الرسيع إذ أن لم يبد عليه سوى إمارات الجد و هو يستمع إليه ، و لم تبدر منه بادرة هزء. كان يستمع استماعا متعبا مثيرا للأعصاب، كأنه ذو نطق سوي . و زاد ذلك فوجه إليه بعض الأسئلة التي يوجهها لأي واحد من الموجودين .لقد كان يضغط على مزاجه ضغطا متواصلا ، و لاحظ عند ذلك ، أن فائزة أخذت توجه إليه نظرات الارتياح و الإعجاب..
و غادرت فائزة القاعة و أغلقت وراءها الباب بهدوء ، و خيل إليه بأن المكان أصبح عندئذ فضفاضا..فقد نقص منه وجود هام..
و عاد يسأل كيف تأتي له أن يحتمل .. و هو الذي يصير ضجره سؤال غير ذي جدوى يطلع به عليه أحد زملائه.لقد مال لحظة إلى اتهام نفسه بأنه يمالئ..ثم عاد فبرر سلوكه تبريرا أعجب به..قال لنفسه، إن آداب المجتمع تقضي بذلك..و ماذا فيه؟.. إنه لا يخسر من ذات نفسه مثقالا.
و غياب فائزة هذا الغياب المفاجئ؟..أنت معجب بها ، هذا ظاهر على سلوكك و قد تحبها يوما فما في ذلك عجب.
أنا لا يعنيني أن تكون ثرية أو أن تكون عالية الكعب في المجتمع ، إنها إنسانة..هذه لقاآت ثلاث معها تكفي للحكم عليها.
طال غياب فائزة و أوحى له غيابها بأنه ربما كانت العائلة قد عرض لها شغل شاغل ، فما ينبغي له أن يطيل زيارته أكثر من هذا ، و لو أن مصباح بقي على وتيرة واحدة ، في حديثه معه ، منذ دخوله حتى الآن. لا بل لقد حميت حرارة الحديث و البسمات حتى ليخال أنهما أخوان .. و لكن ..
و تأدى إلى سمع مولود صوت كأنه صادر من العماق، عرف أنه صوت زوج السيدة الذي أقحم نفسه في الحديث المتبادل شجبا جارحا لذوي النشاط الذي سماه متطرفا .. و وجد مولود نفسه مهيأ تماما للانقضاض على هذا الشجب لو أنه طمح إلى كشف هويته. إلا أن زوج السيدة ظل محجوبا عن مولود وراء لفظة المتطرفين المجردة.
ولاحظ مولود ان جميع الموجودين كانوا يشايعون الرجل في ما رمى إليه واحد يهز رأسه و الصاني بابستامة و آخر.. إلا أن الأمر وقف عند هذا الحد فلم تسعفهم الفرصة في الوقوف وراء ها اللحن لأن جرسه لم يبلغ من الحدة مبلغا يتنادى الجميع للوقوف في صف واحد وراء الكورس..
و تساءل : أي مجلس هذا الذي يجلس فيه هؤلاء القوم؟ وأحس بالضياع . و ألفى جلسته هذا قد اقتصرت على ابتسامة مرسومة بقلم و ضحكة تنطلق من الحنجرة فحسب..و أن أي لوحة في القاعة تحركت فيها الصورة لتغادر إطارها بحيث أن اللوحة أصبحت هي الإطار وحده.أما الرجل الفأفاء التمتام فلا حاجة للحكم له أو عليه، فإنه خارج المحاكمات جميعا.. لقد اختار و انتهى، فالحياة كلها عنده تنحصر في حكمة جمع فيها كل منطقه حين قال : إن اللوحات الزيتية لا قيمة لها و لا حاجة إليها ، مادام لا معنى لها أمام الصور الفوتوغرافية . أليس ها نموذجا للتفكير السائد عند أمثال هؤلاء القوم؟..
في تلك الأثناء عادت فائزة فدخلت القاعة.
و قال مصباح يخاطب الجميع :
لو رأيتم مولودا اليوم و قد استنجدت به إدارة الكلية عندما جاء المزارعون المحيطون بالمبنى بعد انتهاء الغارة العدوة على قرية هناك.
و سألته فائزة التي دخلت في تلك الأصناء :
ما هو الموضوع؟.. خبرنا يا مصباح.
ورد مصباح :
ذلك أن هؤلاء المزارعون جاؤوا و قد ملئت قلوبهم رعبا من قنبلة ألقيت من طائرة و لم تنفجر. كان المزارعون يعتقدون بأنه لا بد أن يكون من اختصاص الكلية و هي مخصصة للتعليم الصانعي إبطال مفعول القنابل. لقج كان الجميع يرون أن الحرص على الاتصال بالمختصين ينذر إذا ما طال الزمن بانفجار هذه القنبلة. و ذهب مولود بحماسه إلى الموقع ، حيث وفق إلى إبطال مفعول القنبلة.
و تصدى الرجال الضامر و كان كأنه يتكلم من بئر عميق.
و هل هناك إرغام على مثل هذا العمل ؟
و ضحك مولود ، و نظر الجميع إليه و هو يضحك . و قال المرأة البدينة :
يا لطيف ..كيف تقدم على عمل من هذا النوع؟..إذا انفجرت ، يا لطيف..
و قال مولود و هو ما زال يضحك :
أسمع يا مصباح ..قد يجئ فيطرق بابك في مساء يو مما "إصبع صغير" أو " أذن" ليسمر عندك، فكن كريما معه ، لإنه سيكون الشيء الوحيد الذي سيبقى من مولود.
و زعقت المرأة البدية و خبأت وجععا بيديها..
و حانت التفاتة من مولود إلى فائزة ، فوجدها شاحبة اللون تنظر إليه و قد تملكها القل. و لكن نظراتها لم تكن تخلو من حنو. و إذ بمولود ينظر إلى السقف و يغيب و كأنه في حلم ، و قال ، و هو ما زال على هذا الحال :
إذا غشيتك غاشية يا مصباح تركتك تتساءل "ما الفائدة" فارجع إلى صحائف التراجم ، التي أراقت عليها السني قصص غير المبالين بالحياة الذين آلوا لتكونن للروح الكلمة العليا و ليكونن الجسم أداة طيعة ، و اذكر قول ابكتيتوس :" تذكر أن في كل وليمة ضيفين كريمين الجسم و الروح ، و ان ما يعطاه الجسم لا يلبث أن يفقده، أما ما تعطاه الروح فيبقى على الزمن".
و انتهى مولود من كلماته فساد صمت طويل و عميق . و حين أطال الصمت أكثر عد مولود في سره إلى العشرة ثم قال ينبغي النجاة ، فقام مصباح مشدوها و هو يقول :
مغادرتك منذ الآن غير معقولة.. أنا دعوتك لنبقى السهرة كلها، إن سهرنا يستطيل عادة حتى الساعة الثانية عشرة، انظر ساعتك إنها لم تتجاوز بعد العاشرة.
و عندما أصر مولود ، بدا على مصباح أن عتبه شديد ، فقد أمسك بأكتاف مولود و هو يقول :
ما معك حق تعاملنا هكذا يا مولود ، نحن إخوان و إنك لترى ..أفبعد أن زالت الكلفة بيننا تريد أن تغادر؟.. و الله لن تغادر..أننا و إياك نتسلى..إجلس يا رجل، لن تذهب والله لن تذهب..ما هذه الواجبات الملحة التي تركب أكتافك؟.. انت رجل فرد الآن.ما من واجبات تنتظرك.
و بينما كانا في أخذ و رد، وقفت و قال بضع كلمات أسرتها في أذن أخيها الذي صاح :
لئلا يثقل الطعام على المعدة إذا تأخرنا به ، هانحن بكرنا فلنتجه جميع إلى المائدة.
و بينما كان مصباح يعلن ذلك ، كانت نظرات فائزة الناعسة تغوص في عيني مولود الذي لم يخف عنه أن الطريق أغلق دونه ، فما كان له أن يرفض الضيافة ، كما أدرك أن الصلة بينه و بين مصباح و فائزة خرجت عن نطاق الصداقة المجردة لتدخل في طور جديد يلعب فيه الاستلطاف خير أدواره.
و بينما كان الجميع حول المائدة ، كانت فائزة مقابلة لمولود من الناحية الثانية بوجهها الفتان فعاوده القلق يا يعرف مأتاه، إنه يعرف وضعه حق المعرفة و لكن هؤلاء لا يعرفونه.. و تأدى إليه من ظلام الماضي خيال معهد الأحداث و تساءل : ألم يكن من الخطأ إخفاء الماضي عن زملائه أو بالأحرى عن هؤلاء يجالسهم و الذين يفتحون له صدورهم. لقد عطل لهم اختيارهم، لعله لو كانوا على علم أن يحدد موقفه أو يحددوا موقفهم ..ألم يظلمهم بذلك؟..لئن علم هؤلاء بماضيه الآن خير من أن يتراخى الزمن حتى يبلغ نقطة اللارجوع، و عندها تقع المأساة و لكن الوقت الآن قد فات.
هل هذا مصدر القلق عندك؟؟..يا مولود أم أنه أمر آخر تأمل و انظر وجوه المتحلقين على المائدة ، ألا ترى هذا الفأفاء التمتام..الجالس إلى جانب فائزة إنه ابن خالتها ، إنه ينظر إليك نظرات ليست ودية..هل فهمت؟..إنه يرى فيك منافسا لعله يطمع بها..و لعله يرى أن أحق بها منك..لا يخفى عليه ما يتردد بين طرفك و طرف فائزة من تيارات سحرية و كهربائة..لئن كان ناقص التكوين إلا أنه من "عظم الرقبة"..من الطينة ذاتها ، لا تنس أن والدة فائزة تدللـه ، و لا تنس أنه ما زال عزبا..و لا تنس و لاتنس..
و إنه ليحاكم الأمر بهذا المنطق .. و إذا بهذا الشاب ابن خالة فائزة ينفجر ضاحكا بصورة مفاجئة حين عن له أن يعود إلى سيرة المغامرة في فك القنبلة..هنا تكهرب الجو..جمد مولود في مكانه و تجمدت على فمه كل بسمة و في عينيه كل نظرة..و انفجرت كل عواطفه انفجارا صامتا، و إذا بمحاكمته العقلية تتجه بينه و بين نفسه هذا الاتجاه :
إن أشخاص هذا المجتمع ليسوا إلا علامات مزروعة على طريق يخفي قناة تحت الأرض ، تجري فيها معتقدات و تراكيب عضوية ، تشكل تيارا يهدر هديرا كريها ، و يجرف بكل عفوية كل شيئ أمامه متى كان مضادا لاتجاهه. و يفترض بكل كائن أن يظهر ماضيا و حاضرا لا مستقبلا ، فإذا ما اكتشفت ماضيه عن تكتمه على هذا الماضي إهانة منه فاقتص منه.
-
و ألفى مولود كفه يرتفع إلى فمه تلقيائيا كأنما يخشى أن يتسرب شيء من هذه الرؤية إلى شفتيه ، فيترجم مالا يليق أن يجهبر به فيزل به لسانه أما الناس خلطوا أنفسهم به و فتحوا قلوبهم له. و استقر الفكر على أن البديل من كل هذا لن يكون إلا معجزة تستبدل بهذه الرؤية صورة أخرى مختلفة.
و لقد جاءت هذه المعجزة على الأثر ، فقد لاحظ مولود بشكل واضح لا لبس فيه أن فائزة نظرت طويلا في وجه أخيها مصباح الذي يجلس إلى جانبه و غمزته ، فإذا مصباح يقول : أنت لا تأكل يا مولود..ما هكذا يأكل الشباب ..خذ..ثم يكدس له في قصعته أنواع المآكل..و تبدل مزاج مولود فجأة لهذه الحركة..فجاء بنكتة قال :
ضع ما شئت يا مصباح من المآكل في صفحتي فإني مثل ذلك الأعرابي هنا انفرجت شفتا فائزة عن ابتسامة عريضة ، و قالت في مرح :
إحك لنا القصة يا أستاذ مولود :
و قال مولود :
كانت العشائر الجاهلية يغزو بعضها بعضا و قد نمى إلى أحداها ليلا أن جارتها سوف تغزوها عند الفجر فطوى كل فرد في العسيرة مضربه و ما احتواه و حمله على ظهره لترحل العشيرة كلها قبل أجل الغزو ، و بقي رجل مسن بدأ إخوانه يساعدونه في تحميل أشيائه على ظهره و هو مقرفص ، ثم قالوا له أخيرا : بقي المهباج الضخم هل نضعه على ظهرك يا شيخ.. فأجاب الشيخ :
ضعوا ما شئتم ما دمت لن أستطيع النهوض أبدا..
و عصفت بالجميع الضحكات و تبدل جو القاعة..
و حانت منه التفاتة فوجد فائزة تنظر إليه نظرة طويلة ناعسة ، فتلاشت الرؤية الأولى و حل محلها شعور بأن هذه الفاتة تحيل النيران إلى جليد و الجليد إلى نار. و تنصهر في النفس بأكثر سرعة من الخمر.. و خيل إليه عندما تلاقت نظراتهما أن يسمع خفقة قلبه فيعيش في عينيها الزرقاوين.و كان يقرأ في ابتسامتها قصة خد يبحث عن صدر يندس فيه و يتمرغ..
و تكلف بعد مغادرة المائدة الابتسام و الامتنان. فلما حان وقت الانصراف خرج من الباب مودعا بالحفاوة..فما إن أدرك الشارع حتى شعر بنسمة باردة تلفح وجهه فتنعشه ، و تنفس نفسا عميقا ، فقد أدرك أن الجو في دار مصباح كان ساخنا. و شعر بألم حفيف في رئتيه و عندها صاح :
ويل لمن سيتزوج منك يا فائزة...
كان الصمت حول المبنى مثل وحش مختبئ بين الأدغال ، أمسك أنفاسه لئلا يجفل من صوتها الصيد الحرون و الجو مقرور ثقيل الأنفاس و قد انسدل ستار الظلام بغير انتظام تاركا هنا و هناك حدبات ظهرت من تحت هذا الساتر. و الندى بارد تكاد تشعر ببرود الرئتان.
ففي الساعة الثانية عشرة من الليل ، بينما كان القائمون على شؤون اللاجئين الفلسطينيين ساهرين يدرسون ما يجب عمله تلك الهجمة الهمجية التي شنها العدو على بلدة... في فلسطين المحتلة، و يدبرون ليتغلبوا على صعوبة استنقاذ عدد من الشيوخ و النساء و الأطفال الذين هاموا على وجوههم أمام الطغيان ، و تدبير المأوى و الكساء لهم.. دخل مولود يحمل حقيبتين مهشمتين و يعلوه القذر و الطين الذي انتثر بكثرة على رداءه الطويل ، غير النافذ لمياه المطر. و كان عيناه ترسلان نظرات ملتهبة، زاد من حدتها أنمها غائرتان في وجه ذي لحية كثيفة لم تحلق منذ أيام.و كان يخيل إلى الناظر لسراويله المبقعة المصنوعة من الفانيلا و معطفه الرث و غطاء رأسه الأسود العريض ، أنه قاطع طريق من شيكاغو.. ، ممن يرون في أفلام رعاة البقر الأمريكية.
و بدون مقدمات قال للمجتمعين :
في الباب سيارة كميون كبيرة امتلأت بثمان و أربعيم عاجزا و امرأة مسنة ممن استهدفوا للعدوان . ماذا أصنع بهم؟..
فأراد الرئيس أن يعرف من أين هم و من هم ، فأشار مولود بيده و فيها يسجارته نحو الفلسطين المحتلة . و بعد أن استرد الرئيس المدهوش رباطة جأشه أرسل جماعته فاستقبل هؤلاء التعساء ليتدبر أمرهم.. و لكن مولود بقي واقفا كمن ينتظر أن يفسح له المجال للبوح بما بقي عنده فقال :
أرفقوني الآن بمفرزة إلى بقة .. حيث هناك ثلاث كميونات للعدو و ملئت بالبقية.
و قال الرئيس :
و كيف جرى ذلك ؟
و أجاب مولود :
إنه أمر في غاية البساطة و السخف..فإنه ، من بعد أن بدأ العدو يكتسح البلدة تشريدا و تقتيلا ، هام العجائز و النساء على وجوههم ، فوضعنا أنا و رفاقي المسدسات في نقرة ثلاث من سائقي الكميونات العدوة ، كانت هناك واقفة بعد أن أفرغت حمولتها من الجنود ، و أجبرناهم على السير و هكذا التقطنا المشردين واحدا واحدا على الطريق . و بإمكانكم أن تستلموا هؤلاء السائقين أسرى لأنهم ما زالوا تحت رحمة رجالي.
و كاد الرئيس يصعق لما يسمع و هو فاغلر الفم ينظر كالمخبول إلى مولود و هو يتحدث بلا مبالاة. بصحبته واحد من رجال مولود . و عندها بدت الراحة على وجه هذا الأخير ، ففتح إحدى الحقيبتين و أخرج منها جدولا طويلا و قال : هذه أسماء أطفال البلدة لأنني قررت إعادتهم إلى الأرض المحتلة بطريق من الطرق ، و هذا أصلح . لقد نظر رجالي هذه الجداول مأخوذة من أفواه الآخرين.
و قال الرئيس :
فهمت جيدا ما تقصد.
و ساد صمت طويل قطعه مولود بأن قال :
و الآن اذهبوا بي إلى أولي الأمر ليعلموا ماذا يحاك هناك.
قال مولود ذلك و أشار إلى الأرض المحتلة.
و هناك ماج السخط في صدور المستخدمين.. فالدخول على الرئيس لا يكون على هذا المنوال ، و بخاصة أنه كان منهمكا حينئذ بموصوع هؤلاء الذين يفدون لاجئين خوفا من أن يكون قد اندس بينهم آخرزن.
و قد وقف الرئيس أولا موقف الذي لا يبالي بمظهر زائره الشاذ – و قصته الغريبة ، و قال في جفاء : إنه لا يستطيع أن يصدق أخبارا تبحث عن العنقاء . و أظهر رغبته في إنهاء المقابلة . و لكن مولود فتح إحدى الحقيبتين اللتين أتى بهما و وقف ينظر إلى الرئيس دون أن يتكلم..
و ما مضت ثوان حتى بدا الجد و الاهتمام على الرئيس ، و قال :
إنك تحمل شيئا هاما فمن أين أتيت به؟..
هو من صنعي..
بماذا أن متخصص؟
بالصناعات الألكترونية.
نريد أن نتعاون معك.
أنا هاو و لن أكون محترفا.. إن الاحتراف يقضي على المواهب..
إذن نكوت على حق إذا راقبناك منذ الآن.
لكم ملء الحق أما أن فأعمل ضمن الخط المستقيم و هذا لا يمنعني أن أزودكم بما تشاؤؤون و بكل ما يقع تحت يدي.
ثم ودع مولود و خرج بين دهشة الموجودين و هو يسمع الرئيس يقول :
ما أحلى جنون هذا الرجل .. ليت كل المجانين مثله..
كان مولود قد انتهى من دراسته و تخرج بتفوق . و في يوم توزيع الشهادات اعتذر من إدارة الكلية عن حضور حفلة التخرج بسبب مرض قال إنه ألم به . فلما سأله مصباح عن سبب عزوفه عن حضور الحفلة و نوع مرضه أجاب :
إن مرضي هن هذه الحفلات ذاتها..
و حين عينت له إحدى الشركات الصناعية المؤمنة ليتولى الإدارة الفنية فيها سر سرورا بالغا لأنه أصبح مستقرا و مكفول الرزق ، و بذلك يستطيع أن ينصرف إلى مغامراته أيام العطل و الإجازات. و لكن لم يفته أن مربوط بعمله تسع سنوات و هي ثلاث أمثال المدة التي انفقت الدولة عليه لتخريجه من المعهد الصناعي العالي. لهذا أسرع فاتخذ له محل إقامة في حي مغمور هو زاوية في خي أبي حرض.
و في الأيام التاية حرص مولود على الدوام في الشركة المؤمنة التي ألحق بها . و قال مولود يخاطب مصباح حين التقيا في صباح أحد الأيام و هو يهم بوداعه لينصرف إلى عمله :
إني لأشعر بأن خطأي قد شدت إلى خطى هذه المؤسسة و أنها ستسلك لا محالة الطريق الفني الذي سأحدده لها .. و هذا ما يعطيني أضعاف القوة اللازمة لهذه المهمة.
و أجاب مصباح :
إن اختصاصك نادر يا مولود.
إلا أن لي علة أخفقت في التغلب عليها. إنه لتمر علي أيام أفقد فيها الشهية لأتحرك ، فأعكف في داري منعزلا أعاني أزمة نفسية من نوع الجدب النفسي و الضجر.. و الأرق. و قد يأتي علي صباح عبقري فأجد نفسي و كأن بيدي إزميل نحات يضرب به الصخرة فتنفجر فيها الحياة.فأهب فورا و قد همت علي الفكرة الفذة جاهزة للتنفيذ فما هو إلا أن تذهب نومي حتى أجدني رائحا غاديا في غرفتي متوفز الأعصاب أنعي الليل و ساعاته البيطئة ، و أرقب الفجر بصبر ذاهب ، و ما أن يرسل الفجر خيزطه الخجولة حتى اكون قد أتممت هندامي و خرجت من الدار ضاربا في الشوارع ، أسعة لتنفيذ الفكرة التي كانت تراودني طول الليل.
إني لأتصور دارك فندقا بالنسبة لك لا يراك إلى في الساعات الخمس الأخيرة من الليل فأنت غائب طوال النهار..
هذا ما يجري حقا ، و قد يستمر غيابي يومين أو ثلاثة و أنا مطمئن إلى أن كل مافي البيت سيكون على ما يرام ما دامت أم كامل جارتنا تعني به و تتقاضى لقاء ذلك الجعل المعلوم..أسبوعيا، أقول هذا لك يا مصباح لا تدل أحدا على بيتي لأنني أهوى العزلة.
أما أنا فلا أستطيع أن أعيش على هذه الوتيرة.. فإذا انقطعت عني أخبار الناس أصبحت في دوامة و فراغ..و على كل حال ، فإني لن ادعك في هذه العزلة إني لأجد نفسي مسوقا بقوة لا أستطيع تفسيرها تدعوني إلى إخراجك منها.
إذا كنت بطلا فافعل..
سنرى
و افترق الصديقان.
عندما عاد مولود من عمله في وقت العصر وجد على غير انتظار رجلا ذا هندام أما باب البيت ، و توقف مولود على مسافة بضعة أمتار من البيت ، ثم تقدم ببطء يتظاهر بأنه يبحث عن دار أحد اصدقائه. و سأله الرجل عن بيت مولود..فأجابه مولود :
هو هذا على ما أعتقد ولا أدري إذا كان مولود في بيته.
و تقدم مولود يطرق باب داره هو فلم يرد أحد بالطبع. فوجه كلامه إلى الرجل قائلا :
أنت ترى أن مولود غائب عن داره.
و أين أستطيع أن أجده ؟..
هلم بنا نفتش عنه ، فإني أعرف الأماكن التي يرتادها في العادة ، ما هي مهنتك؟..
أنا صحفي و قد عرفت بالمغامرة الرائعة التي نفذها أول أمس ، و أتيت لأحصل منه على حديث يكون بالنسبة لجريدتي سبقا صحفيا.
حسنا..تفضل.و إذن فقد وجب علي أن أجد و أبحث عنه معك بحثا جديا.
إذا فعلت فلسوف يكون لك نصيب في الريبورتاج الذي سأنشره في صحيفتي اللبنانية.
نعم.. أرجوك فإني أحب ذلك من كل قلبي.
و راح مولود يبحث عن مولود مع الرجل في أماكن مختلفة من المدينة في المقاهي و أماكن اللهو. و أخيرا نفخ نفخة كبيرة و هو يقول لمرافقه :
أخطأت يا صاحبي اليوم الذي حئت به ، و قد ذهبت كل محاولاتنا سدى . لأن مولود في أيام السبت و الأحد من كل أسبوع و لن تستطيع العثور عليه حتى يصحو من سكره. و أنا إن آسف على شيء فأسفي على أنك لن تستطيع الحصول منه على حديث و إذن لن ينشر اسمي في الريبورتاج و سأله الصحفي :
متى أعود؟..
و أجابه مولود بكل برود :
أأنا خليق بأن أعرف؟..
ثم ودعه الصحفي مصافحا و قد بان اليأس على وجهه ، فلما ابتعد زفر مولود زفرة من تخلص من عبئ ثقيل . و نظر إلى الصحفي و هو يبتعد موليا ظهره و ابتسم و قال كمن يخاطب نفسه :
إن المرض كل المرض يكمن في هؤلاء.. فلو عرفوا أنهم يهيئون الطريق للأعداء و المستعمرين لكانوا جديرين بأن..إن السبق الصحفي هو السائل اللزج الذي تطلي به القوى العدوة مآخذ الآلات الطابعة..
و عندما غاب الرجل عن ناظريه اتجه مولود إلى بيته و معه صرة.
كان الصرة آلة دقيقة صغيرة وقع عليها أحد رجاله الذين سلطهم على باصات العدو و المستولى عليها.
كانت الآلة من نوع ألكتروني دقيق جدا . لذا كانت سعادة مولود بها عظيمة ، فأكب عليها انكباب الجائع على قظعة من طعام لذيذ . رغم أنه كان كدا مرهقا . و كان يحرص على أن يكون عطه سرا مكتما . و قال في نفسه : أرجو أن أنتهي من أمر هذا الجهاز قبل أن يخطر ببال الصحفي أن يعود للبحث مرة ثانية عن مولود . لهذا أسدل الستائر السود على نوافذه و ألسقها باللاصقات "بوينز".فلما انتصف الليل كان مولود لم يزل على باب هذه الآلة المستعصية ، و كان يدرك في ضوء دراسته أن مثل هذه الآلات يؤذيها فتحها بالعنف و الضغط ، فهو يريد أن يصل إليها من مأخذها الطبيعي . و رغم أن ميعاد النوم قد أزف ، فلقد لعبت هذه الآلة في تحريك كزازة نفسه و صمم على الوصول إلى سرها و لو كلفه ذلك إحياء الليل بكامله..
و عند الفجر قام مولود عن الآلة مفكك المفاصل منهوك القوى ، و لكنه كان يبتسم لأن الآلة استسلمت في النهاية إلى أنامل الصناع . و أدرك أنها مما يوضع في حفر الأرض يجانب أساس عمود هاتف حسب المبدأ القائل إن الأجسام الصلبة توصل الصوت بأسرع و أوضح من الهواء. فقد استبان له أن العدو يسرق أسرار المخابرات عن طريق مثيلات هذه الآلة و أنه لا يبعد إذا عني القوم بمراقبة التربة جول أعمدة الهواتف في أراضينا أن يتكشف الأمر عن آلات من هذا النوع مدفونة في الأرض ترسل لا سلكيا هذه الأخبار إلى مواردها هناك ..
عندما دخل مولود مكتبه في المؤسسة صباحا وجد نهلة مكبة على ترتيب أرشيف مكتبه . فتبسم دون أن تلحظ نهلة من ذلك شيئا . لقد كانت منصرفة إلى عملها في جد و إتقان بكل جوارحها ، قوست ظهرها و انحنت على الأرشيف تعالجه بعينين متعبتين ، و تلكأ هو الدخول : لقد أخذ بمنظرها هذا ..إن للمرأة العاملة الجادة منظرا مسكرا..و ظل يتمتع بمنظرها و هو يتسرق على أطراف قدمه ، حتى فاجأها ، فرفعت بصرها إليه في وداعة طفل ، و ابتسمت و استبقت فحيته بجملة : صباح الخير ..أستاذ مولود.
صباح الخير آنسة نهلة..كيف تجدين عملك؟
إن عملي في غاية من الدقة . إن يلذ لي و يستغرقني.
ذلك ما لاحظته.
فنظرت إليه نهلة ، بعد هذه الكلمة ، نظرة طويلة مستفسرة ، و حين راته ينصرف إلى عمله بدون تعليق عادت إلى عملها.
و بدات ذاكرة مولود تعمل ، فتذكر أن :
هذا هو اليوم السابع على التوالي الذي مضى على نهلة في هذه المؤسسة . أما انتسابها إليها فقد جرى على يده هو . كانت نهلة أول من فكر فيه مولود لتشغيل هذه الوظيفة حين شغرت. كان قد سمع من مديرة معهد الأحداذ البنات مديحا عنها. و قالت المديرة إنها تضمنها سلوكا و عملا و خلقا إذا ضمت إلى موظفي و مستخدمي أية مؤسسة. كانت المديرة تقول هذا و مولود يقرأ آيات القلق مسطورة على جبينها . ذلك أن مصدر قلقها ، كما قالت ، هو ضرورة تدارك العمل لهذه الفتاة المتخرجة من المعهد . لقد أصبح ذلك مهمة القائمين على معاهد الأحداث الجانحيت أي تأمين العمل لمن يوشكون على التخرج . ذلك لأن العمل للدائم الماجور هو خاتمة علاج هؤلاء الأحدااث ، و هو حد الفصل في قطع دابر الجنوح . و مهما جهد المعهد في الإصلاح ، فإن جانحا متخرجا بلا عمل هو كتلة صخرية على رأس منزلق إلى الوادي ، لا يلبث أن يقع ثانية في الجنوح . يتذكر مولود أنه سأل المديرة إذا كان يمكنها الاحتفاظ بنهلة أياما ، فأنه لقمين بأن يحل هذه المشكلة ، و كيفأشرق وجه المجيرة آنذاك .. و ها هو مولود قد بر بوعده و ها هي نهلة الآن مكفولة الرزق.
و استمر مولود أذنا و عينا على عطه و أذانا و عينا على نهلة ، ينتظر أية بادرة يراها فيها تتعصر بعطها ليقوم هذا العثار ، فهو سبب توظيفها و هو المكلف بانجاحها .. و قال لنفسه : يجب أن تتفوق على قريناتها ، ليست قريناتها بأشد ذكاء منها ولا بأكثر استعدادا للاقتباس و المران .. إن للفتيان و الفتيات نصيبا مما للنوابغ و هو نصيب من قدرة العقل الرحب الذي لا يعوقه عائق.
و أدركته على هذه الفتاة شفقة عارمة ، فلقد علقت بذهنه صورتها و هي مكبة على مكتبها ، إنها تجاهد ..تكسب ضياء عينيها لكي ترضي رئيسها أو رؤساءها .إنها تكافح في الحياة لكي تعيش ، لكي تأخذ حقها في الحياة تحت الشمس مثل كل مخلوق آخر.. تصورها لا تزال مهلهلة الثياب صغيرة جائعة مشعثة الشعر قذرة الجلد ..حافية القدمين ، عيناها قد عششت فيهما جراثيم التراخوما تخطف كسرة الخبر لتأكلها.. معرضة لأن يسيء الغلمان التصرف معها فيؤذونها ..ثم عاد الآن-فشاهدوها و قد أصبحت أملك لزمام الحياة ، لزمام نفسها و مرشحة لحياة كريمة نظيفة.
يا الله ..إنها صورة تحلب اللب.
و جاؤه من يليه في المركز يشكو له افتقار اللوائح التي تنظمها نهلة إلى الدقة ، فارتعش لدى سماعه ذلك ، و كان ثمة فرصة للتفكير و كسر حدة هذا الانتقاد و هي غياب نهلة في غرفة أخرى من غرفة المؤسسة ، بحثا عن بعض الأوراق . قال مولود للشاكي :
ألا تعلم أن الآنسة نهلة جديدة في هذا العمل؟ ..هل تريد أن تقطع رزقها منذ اليوم الأول..؟
إن تهيينها مؤقت و دوامه رهين بجودة عملها.
هذا ما لا شك فيه و لكنني أسألك : ألم تمر أنت بهذه المرحلة؟
و سكت الشاكي يا يحير جوابا .. و أدرك مولود ما يجول بخاطر الشاب. فأجهز على شكاه بقوله :
إذن ، فالخير هو أن ننتظرها و نعطيها فرصة أخرى ، أليس كذلك..؟
و ذهب الشاكي على وجهه ، فزفر مولود زفرة من يدرك أن لم ينتصر الانتصار كله ، و أن الهجمة التالية لا بد آتية . و لكنه لا يريد أن يصدم هذه الفتاة من الأسبوع الأول ، فكان هذا مصدر قلقه.
عندما عادت نهلة إلى مكتبها قام مولود فوقف أما النافذة ينظر إلى الشارع و قال لها و نظره عالق هناك في الشارع :
سأملي عليك فتكتبين .
و تهيأت نهلة على الفور و أملى عليها مولود رسالة لم يكن له بها حاجة .. و حين انتهى أخذ بيده ما كتبت و قراه تحت سمعتها . و قال :
حسنا ، يمكنك يا آنسة نهلة أن تكوني خيرا مما أنت عليه أيضا.
أرشدني كيف يجب أن أتصرف و ستجدني صاغية مستوعبة.
بهره جوابها هذا ، فإنه دل على استعداد منقطع النظير.. و أرشدها إلى ما يقطع شكوى الموظفين من عملها ، و عندها شعر بالطمئنان و عاد إلى مكتبه يوالي عمله .
و هكذا كان كل يوم يمضي عليه و نهلة إلى جانبه تجد و تعمل تنغرز في أحد أحداقه صورتها كعاملة نشيطة ، و يأنس بها فيشعر بأنه يجاور مخلوقا ذا مزايا.
الأرجح أن يقال أن ثمة خاظرا يحيك في صدرك ، فإنك إنما تحاول ان تقنع نفسك بان العمل هو القاسم المشترك بينك و بين نهلة . و لكن أليس هناك أكثر من قاسم مشترك واحد؟..أليس ثمة مثلا استلطاف و لو في درجة دنيا؟..أليس في نهلة رشاقة و هيف..يستحقان أن يقف قطار النظر عند محطتها الصغيرة طويلا؟..صحيح أنها الآن محطة صغيرة و ربما لا تقف القطارات عند المحطات الصغيرة..و لكن كل صغير يكبر..
إنك لا تعرفحتى الآن سوى الدأب و العمل. ألا تنوي أن تسري عن نفسك قليلا؟..قليل من اللهو..ألست تحب المرأة.و إذن ها هي اماك قريبة المتناول ليس لها رقباء . أعتقد أن احدنا على كل حال لا يبلغ استغلال إمكانياته كلها أو أكثرها إلا إذا احتك بالمرأة ، فعندها تعطيه حاجاته جميعا ..هذا أمر طبيعي ام أنك شاذ عن سائر خلق الله أجمعين؟..
عندما وصل مولود من تصوراته إلى هذا الحد احمر وجهه فجأة و شعر هو بارتفاع حرارة إهاب وجهه : كيف تسنى له أن يفكر بهذا الأسلوب ..قبل قليل أثلج صدره حين كفل لنهلة رزقها لكي يجنبها الوضوع من جديد..ما بله يفكر في أمور اخرى .. و لكن نظراتها كانت قبل قليل حبلى.
و أقنع نفسه بضرورة الكف عن مثل هذا التفكير .. و لكنه لم يستطع ، وجد فرصة لتصعيد ميوله :
إن مشروعاتي تحتاج إلى عنصر لطيف..إلى امرأة .. و قال بينه و بين نفسه :
و ماذا في ذلك؟..
و أجاب نفسه "
إن مشروعاتك الطر كله عليها.
نعطيها دورا ىمنا.
لن تنتفع بها بهذا الشكل أبدا.
على كل حال يبقى شيء واحد هو إقبالها من نفسها على رفده بعنصر ضروري.
و تعب من تفكيره الذي عاقه عن الاستمرار بالعمل ، فزفر زفرة طويلة ، و غادر مكتبه دون أن يودع أحدا .
ما إن خرج من مكتبه حتى وجد نفسه وجها لوجه مع مصباح..
وجده قد وقف و أغمض عينه و فتح ذراعيه . و ضحك مولود و دخل بين ذراعي مصباح مداعبا . ز قال مصباح :
هل حقا أشاهد مولوج؟ ..
معك حق
لا أدري سببا لهذه القطيعة .. فهل عندك سبب لها؟
اتظن أني أقل شوقا إليك منك إلي يا مصباح . نحن زملاء و أكثر أيضا.
صدقت .. ما زالت دارنا مفتقرة إلى البهجة بغيابك . ثم إن فائزة سألت عنط طويلا.
و أحس مولود فجأة لدة سماعه الكلمة الأخيرة بنار تشب في جنبات جسمه..فائزة تسأل عنك طويلا.. هو الذي ما انفك عن التفكير فيها.. إذن فهي تفكير بي طول هذا الوقت. ما أحلا فائزة إنها الفتنة بذاتها .. و نهلة : إن جمال فائزة لأخاذ .. و لكن جهاد نهلة يخلب اللب . و سارة المحادثة بينه و بين مصباح في مجرى هادئ قلل من تأججه.. فعاد إلى طبيعته و عاد يفكر بين فترات الصمت بينه و بين مصباح :
إن حاجته إلى المراة حاجة قائمة ، و لكن هذا لا يعني أنها همه الأول .. إن له هموما كثيرة أخرى ليست المرأة إلا واحد منها و ليس ينكر أنها تعينه على مواجهة سائر هذه الهموم .. و لكن يجب أن يحسب حسابا للهموم التي تواكب المرأة ز و هو الان لا يملك وقته و لا جهده ، موزع بين مشروعات عديدة كل واحد منها يحاول أن يستغرقه بمفرده.
و اقترنت في ذهنه صورة فائزة و صورة نهلة ، و بغته الشبه القائم بينهما ، ليس في الشكل و لكن في تلقيهما ضغوط الرجال من أصدقائهما .. و ما تبديان من جهد في سبيل العيش الكريم ، الثانية في المكتب و الأولى أمام ضيوفها لتتخير زوجا تسعد بقربه .
الواقع أن كل واحدة منها تستدر شطرا من عاطفته . و هو لا يرى ، هنا في البلد ، فارقا بين الاثنين ، برغم الفوارث بين منبتيهما .. إن فائزة أيضا فتاة تستدر العاطفة فهمي لاصقة بالجرل تنتظر عطفه..
هذا ما هيأ مولود لتقبل مداعبة مصباح المبطنة بالجد قبولا وديا ، فابتسم وسار متأبطا ذراعه .. و عاد يأنس بصحبته و يستردع معه ذكرياتهما الحلوة في المعهد الصانعي العالي.
و اقترح مولود أن يجلسس مع رفيقة في مقهى يتناولان فنجانا من القهوة .. و هناك تبادلا الأحاديث عن أعمالها و تندرا ما شاء لهما التندر ..فلما قاربت الجلسة نهايتها قال مصباح :
سنذهب الآن إلى الدار و هناك سنتم ما بدأناه هنا .. أتعلم أنني لا أكتفي بهذه الجلسة المختصرة .
حاول مولود التخلص ، إلا أنه كان في دخيلته يأمل أن يجد من نفسه عونا على نفسه و مقنعا لها بان يستجيب لطلب مصباح . و كان الطبيعي أن يغلب مصباح حجته .. و هكذا وجد مولود نفسه وجها لوجه مرة أخرى مع فائزة التي مدت له يدا حارة متلهفة مرحبة . هذه المخلوقة يا مولود ناعمة ، يتمتع جمالها الهادئ الوادع بسطلنا مكين على من حوله حتى يغله و يجعله طوع بنانه.
و ظلت فائزة تبتسم له في حنان كلما صادف نظره حتى وجد نفسه أخيرا يبادلها هذه البسمات. كانت متباسطة معه أكثر من أي وقت مضى و زادت الآن فمزجت حديثها ببعض المزاح البريء الذي أضفى على الجو بعض الضحكات.
و ظل الأمر على هذا المنوال حتى جاءت مناسبة الزواج . فسأل مصباح مولودا :
مادمت قد بلغت الاتسقرار لماذا لا تتزوج؟
أنا أسألك السؤال ذاته.
و مد مصباح يده اليمنى فلمع في بنصره ختام ذهبي و قال :
ها أنا خاطب.
و أرتج مولود ، فلا يدري بماذا يجيب .. و قامت فائزة فورا – فخرجت من الغرفة . و قال مولود :
المسألة في في الاهتداء إلى الزوجة.. و الفتاة التي تقبل بالزواج.
ما عليك إلا أن تطلب الفتاة التي ترزوق لك و لا أعتقد إلا أن طلبك سيكون مقبولا.
و كمثل كل شاب غرير في مثل هذه الشؤون أطبق عليه الحصار من حيث لا يدري .. و كمثل أي شاب آخر يصل إلى حافة حادة من مسبح و يدرك أنه لا بد سيهوي في الماء فيقول في سره : فلأهوي و أستريح .. و لح مولود بكلمات غامضة بأنه راغب.. ثم صحا و قال لنفسه : ماذا فعلت ؟.. و لماذا تفوهت بهذه الكلمات؟.. إلا أن الأمر كان قد انتهى فعاد راضيا عن نفسه لأنه كان قد قذف بنفسه في الماء..
عادت فائزة إلى مكانها .. و أصبح الحديث بعد ذلك ذا روح وزنها النوعي حفيف جدا. و بانت فائزة على سجيتها ، و تجرد اسم مولود في فمها فأصبح " مولود" بعد أن كان الأستاذ مولود..و تبعا لذلك فقد غدت في فمه" فائزة "أيضا..
و قال مصباح لمولود :
هل وصل إليك الصحفي اللبناني؟..
و بغت مولود بهذا السؤال فأجاب :
إذن ، فأنت من أرسله الي..
بالطبع ، الرجل متلهف على معرفة تفاصيل المغامرة الرائعة التي نفذتها يا مولود.
و نظر مولود إلى فائزة ثم إلى مصباح متحرجا فقال له مصباح :
فائزة تعرف .. أنبأتها بمغامرتك.
مصباح ، أنا اكره الدعاية ، يا ليتك لم تنبئه .. إذا ذكر اسمي في الصحف انتهيت كمغامرة..
عفوا إذا أخطات ، لم أكن أعرف..
على كل حال لم يحصل ضرر ، فإنه لم يعرفني بعد.
تعني أن لم يصل إليك..
بلى وصل وطفت أنا و إياه في المدينة و لكنه لم يعرفني.
و قالة فائزة :
أما إن هذا لعجيب .. كيف جرى؟..
و قص مولود بالتفصيل ما صنعه بالصحفني اللبناني ، و إذا بمصباح و فائزة يكاد يغشى عليهما من الضحك..
و قال مصباح ، بعد أن انتهت عاصفة الضحك ، و قد اتخذ لهجة الجد الممزوج بالاهتمام و الحرص :
هل تظن يا مولود أني لا أعرف مغامراتك منذ زمن طويل ، لكنني أشفقت أن يصيبك مكروه ، و لولا أن هذا الصحفي أسكرني بما سكبه في سمعي من ضرورة تشجيع المغامرين لما انصعت له.
و أدرك مولود أن تالي الحديث سيكون طلبا من مصباح بان يشركه في هذا المغامرات .. لقد بان ذلك في وجه فائزة. فسكت و لم يجب ، و لماذا يعقد الموقع؟.. و حاول تغيير الحديث فلم يوفق . تابع مصباح حديثه قائلا :
أتحسبني يا مولود أقل منك شهية للمغامرة؟.. لماذا لا تشركني فيها؟..
أنا نفسي أسعى لإيقافها لهذا لا أنصحك..
لا أصدقك أبدا .. المغامرة في دمك ، و إلا فلماذا تكره الدعياة ؟
مصباح..يجب أن تكون عاقلا.
لماذا لا توجد لنفسك هذه النصيحة؟..إذا زدت في بيانك هذا اتهمتك بانك تهينني ..
لا أهينك و لن أهينك إذا كنت خالص النية..
أنا حالص النية فعلا..
بيننا فائزة و لها رأي..
ليست هي التي ستشترتك في المغامرة بل أنا..اطمئن.
كانت فائزة طوال هذه المحاورة صامتة شاحبة الوجه. فشعر مولود بقلق و حرج . فقال مخطابا مصباح و هو يردد نظره بين فائزة ة أخيها :
أنت محرج يا مصباح. أرجوك أن تؤجل الحديث .
بعد أن تعدني
سأفكر بالأمر.
حسنا..
و بانتهائ الحوار عاد الجو إلى بهدته ، فلما صدح الراديو بالأغاني لبست الموسيقى لبسا جديدا لما يكن لها قبل ، و أصبحت ذات محتوى كله طرب مهما كانت نوعيتها ، فإذا خاطلتها نظرات متبادلة بين فائزة و مولود بلغ الأمر حد النشوة و دارت كؤوس الشراب فأعطت للحلوق مرزونة لم تعدها و خرجت الضحكات للنوادر المستملحة ممزوجة بالرضى و الأنس ، و زاد في رزنق الوجوه ، فتشهت الشفاه القبل لولا أن المجلس ما زالت ترين عليه ذرة من كلفة . و ارتاعت فائزة فجأة للسهوم الذي سيطر على مولود :
و الواقع ان مولود ، و كأنه استيقظ فجأة ، خاطب نفسه قائلا : وسع كل ما يبدو و أنني حفضت جناحي فما زلت محتفظا بعنفواني ، فالواقع أنه إذا بلغت بي سعادة الجد أن أرى العقاب و هي تهوي هويا من جو السماء علمت عندئذ لم صارت العقبان ملوك الجو بلا منازع ، عندها تكون قد رأيتها تحلق في السماء و تحوم و تدوم ، ثم تذهب مرتفعة حتى تسمو و تسمو ثم تعتدل و تذهب إلى مراقيها ..
و كان مولود قد نحا في حديثه منحى المشتكي من السوق . و أبان أنه يضجر من الشراء لا يعرف نفسية البائعين..فهو ، ما إن يقسم البائع قسما واحدا بالله العظيم يريد أن يقنعه بالسعر ، حتى يمد يده إلى جيبه و يخرجها ملأى بالمال إلى البائع.
و سألته فائزة عما إذا كان يبغي الشراء .. فأجاب بالإيجاب ، فإ ذا بها تواعده لتخرج معه فيشتري ما يشاء ، فإنها بعالمه بموارد السوق و مصادره.
و خرج مولود مودعا بالابتسامات و النظرات الناعسة و قد ظفر بموعد.
يا الله لقد امتصت فائزة ما دار في خلده من أفكار ، فالواقع أنه هو صاحب الفكرة ، إلا أن تردده في طرحها كان أجدى ..كان يود لو يدعو فائزة إلى مصاحبته في جولة في السوق ليتدارك لنفسه بعض الحاجيات ، و لكنه تردد و خشى أن يعتبر ذلك هجوما لم يحن أوانه بعد ..فإذا بمصباح ينهي و يثبت الأمر بنكته .قال :
روحو يا عمي ، روحو شو على بالكم ، لا تتذكروني.
و ردت فائزة قائلة :
إنك تنكر دائما ..كم من المرات خرجت لأتاردك لك بعض ما تحتاجه..
و ضحك مصباح و ضحكت فائزة و ضحك مولود.
كل هذا تذكره مولود و أشنأت ذاكرته تعيده مرارا.. و لكنه تساءل هل يتم هذا "المشوار" إلى نهايته ، و هل يمكن أن يكون تودد القوم له مصطنعا؟.. لا يمكن أن يكون الأمر كذلك ، إنه في كل مرة يلتقي بفائزة يكتشف في شعوره نحوها أفقا جديدا ، و الشعور مرآة..ففي المرة الأولى ، التي شاهد فيها فائزة ، كانت مخلوقة تملأ الصالون بوجودها.. و في المرة الثانية ، أحس بأنه يكلم مخلوقا ، الحديث معه ذو قيمة . أما الآن ، فهو يشعر بشعور جديد كل الجدة..إنه الدفء. هو يشعر بدفء شخصيتها ، و عبيرها المعطر . يا الله أي عطر سكبته على نفسها ؟.. و خيل إليه أنه يناقض شعوره إذ يعبر عنه بهذا التعبير ، إن العطر في بشرتها نابع من كيانها ، و ليس دخيلا عليه و لا مضافا إليه . إنه لا يستطيع أن يتصورها مجردة من هذا العطر .. و لقد خلقت معطرة ، مطيبة..
و إذ خرج من دارها بعد أن تواعدا ، كان لا يزال وطأة ذلك الطيب الذي يحيط به أينما مشى . لقد خلف وراءه في الدار كائنا ليس كالكائنات ..كائنا خلق ليعيس و ليظل معشوقا ليظل مبتسما ناعس الطرف . و هو يحاصره فوق ذلك .. يحاصره كل جوارحه . و فكر و قد روتني لو أن الموعد كان قريبا : بعد دقائق ، بعد ساعات ، لا..خير لي أن يكون الموعد في الغد لالتقط أنفاسي لأنعم بالنتظار..بالحلم.
في تلك الليلة هرب النوم عن جفنيه ، و برغم أن ضغط جفنيه العلويين على جفنيه السفليين بغية إغراء النوم ، فالنهار التالي يتطلب منه يقظة و أعصابا مرتاحة ، إلا أن عينيه بقيتا منفتحتين . و لم ينم إلا وقتا يسيرا نوما متقطعا..
على انه تعجب ، في صباح اليوم التالي ، حين حضر صباحا إلى عمله ، فألفى نفسه مكبا على العمل في نشاط ، و جاءت نهلة فلم يلتف إليها ..حيته فرد التحية و هو مطرق :: نظرت إليه نظرة مستطلعة ، فلم يرفع رأسه إلا بعد أن أكبت على عملها ، فنظر إليها :
يا لهذه الفتاة ..إنها فتاة وادعة مطيعة. وادعة مثل طفل . و هذه الوداعة هي التي تجعلها محبوبة . و لكن اليد تشفق من القسوة عليها أو إيذائها و لو بكلمة ، إنها تجاهد تكد و تسعى . لو كانت متزوجة لكان زوجها من أسعد الناس . فهي من النوع الذي يأنس بقربهن الرجل ، برغم ما يبدو من خشونة ملبسها ، هذا "الصداري" يبتلع نسف أنوثتها ..لا سبيل للمقارنة بينه و بين الشفوف التي ترتديها فائزة ، لا ، لا ..كل فتاة لها ميزاتها و خصائصها ..
و ارتد بصره عن نهلة ..ثم عاد ثانية يلقي عليها نظرة عابرة.
وقال لنفسه :
إن اتجاه نهلة إلي أمر لا ريب فيه ، أجابتها المليئة بالحنو و بسماتها..ونظراتها ذات المعنى .و لكن ..لا تمس من إنسان موضعا يمكن أن تحدث فيه جرحا .. و لا تمني هذه الفتاة إذا كنت لن تستطيع أن تهبها نفسك..و لا تنس أن عيني فائزة كان يتجلى فيهما الأنس بك و الرغبة في لقائك ، و قد واعدتها بالفعل و الموعد اليوم مساء.
و انكب على عمله كأنه وحيد في المكتب..
لقد واعدتها لما بعد نسف ساعة ، و ها أنك تتأنق في ملبسك لملاقتها ، قلبك في وجيب ، و عيناك تطل منهما الرغبة ، و جفنك مثقل بالرؤى . و كفك فيه النار تتلظى ، و قد ماك كمن فيهما عداء ماكر لا تزال تكبح جماحه لتتزن خطواته ..بماذا تصف شعورك هذا ؟..
إنها المغامرة ، المغامرة تنشر أعماق الإنسان تحت الشمس فتتنزى منه قوة خارقة قوة الرغبة في الوجود ، في الحب ، في العطف ..ما ألذ الطعام غصا و ألذ الحب سرقة . تلك خصائص طبيعية في كل كائن حي إذا خلا منها أصبح ترابا في تراب ..هذه القوة هي التي تصنع وحدة وجود ككائن حي. و هي هي أحدثت كل ما نراها من حضارات. و هي هي مقياس الصحة النفسية للإنسان.
و تساءل مولود كيف سيكون موقفه منها؟..يجب أن أبدو متماسكا لا ينبغي أن أفقد نفسي أمام جمالها. و أراد أن يقيس موقفه هذا على موقفه حين لقيها في السوق أول مرة. و لكن ذلك الموقف مختلف عن هذا . كان وليد مفاجأة ، و المفاجأة لها حكمها و عناصرها . أما الآن؟..الآن ، من الطبيعي أن إلقاء المرء نفسه في الماء أسهل من انتظار ملامسة الماء . و أي ماء؟..
عندما أقبلت من بعيد نسي هذا "الكوكتيل" من الفلسفة و اتجه بكل كيانه إليها . حيا مبتسما ، وردت التحية بصوت فيه جرس مستحب و مدت إليه يدا عاجية طرية ، ضغط عليها ، فنظرت إليه تشعره بأنها فهمت معنى ما فعل .. فشعر بدوار في رأسه ، دوار من انتشى من خمرة قوية المفعول.
و لكي لا يجعل للصمت أن ينهض فاصلا التيار الرائح الغادي بينه و بينها قال :
من أين نبدأ.
و سمعها تجيب :
من ربطة العنق .
و طرب لجوابها طربا بالغا ، فلقد تهدم كل حاجز بينهما. و سارت الأمور من بعد ذلك بشكلها العادري ، و هدأ وجيب القلب ، و اعتدلت اللهجات ، و انصرف الاهتمام إلى نوعية " المشتروات" ، و حرص مولود على ان يكون موقفه موقف المتسائل على الدوام فلقد شعر بأن مرافقته تعتز بذلم و تتجاوب معه.
هل ترين أن هذا النوع أجود من ذاك ، و هل .. و هل ..
و كانت فائزة تدلي بآرائها كشخص خبير و بلهجة واثقة وودية. و تقارب الرأسان أكثر من مرة للتشاور بصوت منخفض ولئلا يسمعهمها البائع . و كأن كلا منهما كان من صميم كيانه راغبا في إطالة أمد التشاور. حتى لقد أصبح شعر فائزة عند أنف مولود فراح يتشمم ذلك العبق العطري و يستزيد و تعالى برأسه على البائعين و أن لم يبد من حديثه شيئ من ذلك ، فهو إنما يصحب إنسانا ذا قيمة لا تقدر بثمن.
و تعمد أن لا يرضى بسهولة.. لا بالألوان ولا بالنوعية. و الألوان هي المجال الوحيد الذي يأذن له الموقف بأن يستقل بتقديره ، و الذي لا تسطيع فائزة أن تملي إرادتها فيه .. و تعددت مغادرة المخازن – و الولوج فيه من أجل ذلك .
ألا يمكن أن نردف هذه الجولة بجلسة في مكان؟
و ترددت فائزة و شاهدها تعض شفتها ثم تجيبه في حياء و بصوت منخفض :
إذا كان هذا لا بد منه و كان يسرك فمالي إلا أن أفعل..
و ساد صمت قصير قطعته فائزة بأن استدركت :
و هل تصر على ذلك ؟..و هل لا بد منه.
و لم يشأ أن يزيد في إحراجها ، فقال :
فلنترك ذلك إلى فرصة أخرى.
ولاحظ أن فائزة استراحت إلى قوله الأخير ، و قدر قائلا لنفسه لعلها محرجة أو غير متمكن من وقتها..
و برغم أنه كان يشعر بان فائزة امتلكت في هذا الجولة وحدها زمام المبادرة ، إلا أنه أدرك بأنه ربح قضيته تمام.. و مرت أثناء عودتهما فتاة جميلة الطلعة و لكنها مصابة بشلل الأطفال ، كانت رجلها في الحديد و هي تضلع بشكل مؤلم ، فارتسمت على وجهه إمارات الألم . ثم أشاح بوجهه و أخد بزند فائزة و اقترب بها من واجهة إحدة المحلات ، يريد أن يصرفها و يصرف نفسه عن هذا المنظر. و جعل يشرح لها عن موجودات ما عرض في تلك الواجهة ، فنظرت إليه طويلا و بصره ما زال يتضع التفرس في تلك المعروضات ، إلى أن وجد لا مناص من أن تلتقي نظراتها بنظراته ، فخجل و ابتسمت ثم قالت :
أنت رقيق الشعور يا مولود ، فالواقع أن النظر إلى هذه المخلوقة المسكينة يؤثر في النفس.
و أدرك هو مستوى الذكاء الذي به فائزة ، و اكتشف فجأة أنه ما زال بذراعها الدافئ ، و لاحظ أنها لم تتملص منه ، فسرت في جسمه كهربائية تدغدغه .. و تحرك في نفسه الرغبة ، فكبحها بالتفكير أن فائزة تتمتع بشخصية فريدة ، فهي رغم أنها شعرت بيد مولود تطوق ذراعها إلا أنها ما ماعت و لا بدا عليها أنها تستجيب بشكل منحرف لتحركه هذا.. و ما زالت هي..هي الفتاة الرزينة التي تتكلم و تحت ألفاظها عقل هادئ و إن كان كسولا.
و بسبب من تداعي الأفكار عاد بذاكرته إلى الأماسي التي وجد فيها في دارها بدعوة من أخيها مصباح . تذكر وجه والدتها المستدير الممتلئ و نظرت تلك الوالدة القوية المركزة فيه . و برغم أن فائزة فارعة الطول ، فقد كانت عندما تتكلم معها والدتها و تأمرها بلهجتها الأموية الخاصة تتحول إلى فتاة أصغر منها سنا فكأنما كان يحلو لها أن تعنو لسلطان هذه الوالدة بطواعية محببة . لقد كانت الأم ذات شخصية قوية آسرة ، تفرض هذه الشخصية على ولديها فرضا غير مستمد من العنف ، فرضا لا ثقل له و لكنه مستجاب ، و تذكر أن سمه مصباح أنه يتيم الأب فأدرك عندها أية شخصية تتمتع بها هذه المرأة.
و تذكر أن الوالدة لم تكن تجلس مع السامرين طول الوقت ، فلقد غادرتهم إلى مخدعتها بعد ساعة من الزمن ، كانت خلالها تتطلف كثيرا مع ذلك الفأفاء التمتام الذي كان يناديها بكلمة "ماما".
و اشتد مقته لذلك الشاب ، فإنه لواضح تمام الوضوح أن والدة فائزة تدلله لأمر ما .. و توصل عنئذ إلى أن خروجه مع فائزة هو ترجيح له..ترجيح جاء من تلطف فائزة ، ولا شك ، مع والدتها لتستجيب الوالدة إلى نزعة ابنتها فائزة ، و لقترها على اختيارها ، و عندها تساءل :
ترى إلى أي حد توغلت فائزة في إلحاحها على والدتها ، حتى انصاعت هذه لرغبتها ؟..
و شعر عنئذ بنشوة عارمة .. استغرق فيها و لم ينبهه إلا صوت فائزة تقول :
أتعتقد أن مصباح جاد في طلبه إليك و اشراكه في المغامرة؟..
جاء هذا السؤال يثير في نفس مولود فجأو معاني عديدة : فائزة لا تجهل أن علم ما تسأل عنه عند مصباح و ليس عنده . ثم أن نظراتها أصبحت فجأة يرين عليها حزن واضح.. و أخيرا ورود هذا السؤال في لحظة الافتراق . و قال مولود :
لقد رأيت يا فائزة أنني أخفقت في ثني مصباح عن عزمه . فإذا أصر لم أملك أن أستمر في صده.
و جاء حوابه منهيا لمحاول خيل له أن فائزة ربما باشرتها . و إذا هي تطرق برأسها ، فنظر إليها نظرة متطلع إلى ما وراء الحجب ، عيناه متسعتان يريد أن يسبر غورها و ما يرتد . و ظن أنه فهم فأضاف :
سيعود مصباح إليك سالما يا فائزة مهما كلفني ذلك. أؤكد ذلك.
و انتفضت فائزة لدى سماعها هذه الكلمات و بان عليها أن لو أمكنها لأخذت وجهه بين يديها و نظراتها مركزة بشدة عليه ، و بادرت فقالة بسرعة كالخائفة :
لا..لا..لا تظن..لا تظن أن مصباح أعز منك عندي يا مولود ، أريدكما أنتما الاثنين أن تعودا سالمين..
و غنه ليتطلع إليها بعيني ملؤهما الحنو و يمسك بيدها في لطف و هو يربت عليها . قال :
أعلم ذلك يا فائزة ..ما شككت بما تقولين لحظة واحدة ، و مع هذا فاعلمي أنني قطعت على نفسي عهدا و سترين أنني سأفي بهذا العهد..
و قطالت رفة الهدب في نظرات طويلة ، طويلة ناعسة على باب فائزة و أبة مولود الدخول ، فقد كان على موعد مع مدير معهد الأحداث ، و استغرقت مصافحة اليدين وقتا ما . ثم اقتلع كل منهما يده من الآخر قتلاعا.
كان طريق مولود إلى معهد الأحداث يمر أمام سينما سوريا. و بدا له المكان معتما . و تذكر أن وقفته على هذا الرصيف تعددت في يوم من الأيام قبل عشر سنوات . و أدهشه أنه لم يتغير فيه شيء ، فالجدران الكائنة هناك و المبينة من لبن و طين و كلس قد اسودت لكثرة ما شربت من دخان "الشوا " "بائع" "المعاليق و الحلويات " ، و تلك الدكان المحدثة من صفائح التوتياء لا تزال قائمة هناك تضحك . و لم يتغير فيها إلا البائع ، فقد كان رجلا مسنا ذا طربوض على حافته الزفت. أما الآن فهناك فتة يافع ، يخل المرء سمرة وجهه مصنوعة من الدخان . و الصبية المتشردون لا يزالون يحومون حول المزدحمين أما بائع بطاقات دخول السينما.
شباك التذاكر لا يزال كما هو ولم يختلف فيه سوى قضبانه التي كانت من نحاص فأصبحت من ألمنيوم . كان الصبية بشعورهم المشعثة و أرجلهم الفريعة الضعيفة و أسمالهم البالية و نظراتهم الفارغة هناك..فهم الصبية المتشردون الخالدون ..و وقفن مولود ينظر إليهم بعيني نصف مطبقتين ، و قد انقبضت أساريره .
هذا الركن هو الذي كان يقف فيه مولود ، و هذا ..يا الله ها هو الشرطي قد القى على أحدهم..على واحد من الصبية قبضته الحديدة وجره من ياقة سترته. و حين حاول التملص لطمه لطمة خال مولود أنها لنترتفع إلا عن جزء من الجلد المسلوخ . و بكى الصبي و سار ذليلا مع الشرطي .. و أغمض مولود عينيه لا يريد أن يرى بقية المشهد . و فجأة نبت فكرة في ذهنه فألفى نفسه يسير متتبها خطوات الشرطي. حتى إذا وصل الشرطي بالغلام إلى المخفر أسرع مولود إلى معهد الأحداث ، حيث قابل المدير و أسر بكل ما رأي.. و قام المدير بما عليه ، فاتصل برجل الضابطة الذين اهتمو للأمر و أحضروا الغلام إلى المدير حيث بدأت معاجلته.
و التفت المدير إلى مولود فرآه ساهما كأن هما يساوره فناداه.
عندها فقد انتبه مولود و قال المدير :
مالك يا مولود هل يهمك أمر؟..
و نظر مولود إلى المدير و ابتسم له ابتسامة مغتصبة و قال :
لا ..لا.. لا شيء ، أنا أعلم أنني على موعد..
يرى صورته و هي تتكرر ممثلة في هذا الغلام .. ما زال منبع هذه النشاطات الماسة بالكرامة موجودا يورد ما شاء من غلمان على هذه الشاكلة ، إلى متى ؟.. هذا النبع لا يجف ، و إذن فما الت نشأته ، هو مولود ، موجودة كائنة في ذلك المكان ، فهي لا تمحي بل تتكرر في كل يوم . و إذن فإن صيرورته إلى شاب مالك لصحته النفسية و الاحتماعية موضع شك..
و قال المدير :
نعم ..نحن على موعد ، لقد طلبت منك الحضور لأنني قررت إقامة حفل سمر و تمثيل عناصرها هؤلاء الأحداث. يكون كقائمة حساب تقدم إلى أولي الأمر في هذا المجتمع عما بنيناه طيلة السنوات العشر الماضية ، فما رأيك ..
إذن تكون أروع حفلة تقام في هذه المدينة تجمع النفع من أطرافه و ترتفع بهؤلاء الأحداث . و تظهر مدى لفرد واحد ذي إيمان جبار أن يفعله إذا صحت الإرادة . و صورة الآخرين في ماء مستنقع.
و ابتسم المدير ابتسامة أومضت فيها عيناه اللتان أحاطت بهما تجاعيد سنيه الستين ثم قال :
لا تنس أنها تكون لي بمثابة حفلة وداه لأني في مطلع الغام التالي سأتقاعد..
سيكون ذلك خسارة لا تعوض يا سادة المدير . إني لأحاول-فلا أوافق- ان أتصور هذا المعهد محروما من إدراتك..
و ربت المدير على كتف مولود و قال :
بغمكاني أن أتوقع للمدير الجديد نجاحا مماثلا لنجاحي أو أكثر منه إذا حاول أن يكتسب نزلاؤه كأصدقاء له. لقد كنت حريصا على كسب صداقتك يا مولود – و أنت تعلم ذلك – قبل حرصي على أن أنجح كأستاذ أو كمرب. و لن يتوصل خلفلي إلى ذلك إلا إذا أحبهم بقدر كاف. إن المحبة تخلق الأعاجيب ، و أنت واحدة من هذه الأعاجيب ، صدقني.
إني كلما فكرت بأويقات الأولى من ولوجي هذا المعهد أضحك من نفسي ملئ فمي. و بالطبع أنت تسمح لي بأن لا ألوم نفسي على ما فرط مني ، فقد كنت في ساحة اللاوعي.
هذا بالضبط ما كان. و هذا ذاته الذي يجب أن يدخله في حسابه كل من قرن مستقبله بهذا المعهد. و لسوف يقف معهم لينزر إلى الماضي و البهجة مرتسمة على وجوه الجميع.
ثم طفق الاثنان في همة و نشاط يصممان و يخططان للحفلة المقبلة .
و عندما خرج من معهد الأحداث كان حزينا فلقد ساوره هم : كيف سيكون موقف المدير الجديد من مشروعاته .. إنه ما زال بحاجة لعون هذا المعهد . و تذكر فجاة ما جرى بينه و بين نهلة .. كانت قد فاتحته فجأة في المكتب بأنها سمعته ، و هي مقبلة يوما.. يحادث ندا له عن عملية يعزم القيام بها في الأرض المحتلة و سمعته يقول إن العنصر النسائي لابد منه لتنفيذ هذه العملية ، فمن له بهذه العنصر ، و قالت نهلة :
إغر لي تطفلي و تسمعي ، فلست أنا هكذا دائما ، و لكن حديثك جعلني أتجاسر و أتدخل و أندب نفسي لهذه المهمة.
نظر مولود في وجه نهلة صامتا ، و ظل على هذا الحال ثوان ، ثم نظر إلى الصي البعيد ، كأنما يفكر بنتائج العملية و ما ستجره على الفاتة من ويلات ، فيكون هو سبب هذه الويلات لها . و يكون قد قضى عليها من حيث أراد هو أن يحميها و أن يوفر لها العيش الكريم.
تذكر كل هذا و هو غاد إلى مكتبه . إذ ما زالت نهلة تنتظر موافقته ..الموقف صعب جدا ، هذه فتاة تصنع مستقبلها ، تدأب الآن لتعيد بناء حياتها من جديد على أحسن وجه و أمتن أساس . و قد أستقطب العمل كل نزاعتها فصعدها . و لا شيء يؤذي تصعيد الميول مثل تشتيت النزعات. فهل يكون اشتراكها في عمليات على هذا المستوى عاملا على تشتيت عناصر شخصيتها من جديد؟..
أن تكون هذه المهمة عاملا على التشتيت فهذا لا سند له من المنطق . الأمر بالعكس تمام ، فإن مثل هذه المهمات تحيل الشتات إلى وحدة لاريب فيها.
لقد قطع بهذا الرأي في ضوء ما جرى له و ما يجري منذ أن تخرج من معهد الأحداث . و كان في كل مرة يعود من مهمته إلى عمله كأتم ما يكون العامل تفكيرا و نشاطا. إنما الصعوبة في أمر آخر هو أن نهلة تصر على اصحطاب رفيقتها بدور .. و على كل حال فإن مولود بحاجة إلى هذا العنصر النسوي في المهمة .. و ما عليه إلا أن يرضى لكي تتحرك الفتاتان فتصبحان رهن إشارته. إن الحماس الذي يطفو على سلوكهما لحماس عجيب.
و شعر براحة عندما وصل من معالجته هذا إلى هذا الحد.. و عاد يعب في خمرة الفكر التي تنهض عليها المهمة القادمة حتى سكر.. و مصباح؟.. هل يوفق إلى ثنيه عن عزمه؟ أمس جاءه يسأله عن موعد العمل..كأنه فرد طبيعي في المهمة.
شاكر لم يحر جوابا عندما استشاره مولود في أن يحل محله مصباح في هذه المهمة ، أجابه بعد صمت :
أنا حاضر في كل وقت . لا مانع من اصحطاب مصباح هذه المرة.. لن تستطيع منعه و إلا ذهب لوحده..القضية إرث المناضلين و هي أيضا إرث كل مغامر..هل في وصع إنسان أن يحجب الإرث عن آخر دون أن يوصف باللا أخلاقية؟..
لم يكن يخفى على مولود ثقل المهمة التي يقوم بها اليوم و خاصة على العنصر النسوي المشترك معه إن أمر مصباح يشغله أقل من ذلك العنصر .. الفتاتان و دائما الفتاتان ..إنه موزع الفكر : يجب أن يختطف تلك الكاتبة العربية ذات الإنتاج الذي يتمتع بمفعول أخاذ على الجماهير و التي جمدها العدو في الأرض المحتلة..لقد عمل قبل ذلك كثيرا في سبيل تهريب آثارها خارج تلك الأرض . غامر أكثر من خمس سنوات ..أما الآن فإن الكاتبة أصبحت في خطر. لقد احمرت العيون عليها بعد الذي علمه العدو من تسرب ما تنتجه إلى خارج الأرض المحتلة.
مثل هذا الاختطاف لن يكتب له النجاح إذا لم يتول أول مراحله امراة ، إذ أن ذلك خليق بأن يبدد شكوك الرقباء هناك.. و قال مولود في سره : صحيح تذكرت الآن : لقج أخبرت تلك الكاتبة العربية بأن فتاة سوف تدخل عليها و تعطيها كلمة السر ، و حذرتها من أن تنصاع إلى أي شخص آخر يغريها بالخروج و مصاحبته. على كل حال ثمو توزع في المجهود لا ينجو هو من عاقبته و لا ينفعه سوى سرعة العمل . المهمة يجب أن تنجز بشكل خاطف.أما القاسم المشترك لكل هذا فهو الشجاعة .فبدونهما ، يبطل كل عمل.
و خيل له ان التفاؤل أو حب الذات ، حب النصر لا ينقصه .صحيح أن الطيش و انعدام التفكير في اللحظة الحاسمة من صفاته و هو ضروري للتنفيذ. إلا أن هذا مالا يعيبه ، فكل مشترك في مباراة ، يريد أن يوصف بالشجاعة ، يجب أن يتصف بهذه الصفة . و هو إلى ذلك قد تدرب في المرات السابقة التي اقتحم فيها الأرض المحتلة ، و قد امتلأت نفسه حقدا على العدو مع الرغبة في الانتقام منه. و أي محارب لا تحركه مثل هذه الشعلة المقدسة : الحقد على العدو؟..
و انتهى مولود من تفكيره إلى القول بأنه لا يبالي بشيء، و لسوف يقدم على مغامرته الجديدة الصعبة ، وليكن ما يكون.
و قال مصباح يخاطب مولود :
أهي الخطة ذاتها التي سلكتها أنت في المرات السابقة ، نسلكها هذه المرة .
و جاء رد مولود حازما لا لبس فيه :
يلوح لي – إذا لم أكن مخطئا – أنه- في الحرب كما في المغامرات الفردية – يرتكب المنفذ خطأ فادحا إذا كرر نفسه في كل مرة في كل مغامرة ..لقد رسمت خطة جديدة.
و سأل مصباح :
لماذا ذكرت الحرب و لسنا الآن في سبيلها ؟..
أنت لا.. هذا مفهوم و أما أنا فهذه آخر مغامرة لي ، فلسوف ألبي نداء الخدمة الإلزامية التي دعيت لها..فإلى اللقاء منذ الآن ، بعد إنجاز أداء نصاب هذه الخدمة.
و كان مولود قد وضع الفتاتين و مصباحا في مؤخرة سيارة قديمة ، مهرها بإشارة معروفة كان قد شاهد مثلها في السيارات الكائنة في الأرض المحتلة ، و قد جثم مصباح وراء الجميع بجسمه الممتلئ. و كانت عينا مولود لا تبرحا تستطلعان وحدات الاستكشاف العدوة تمر عن كثب ، فيخفف سيره و يوعز إلى أصحابه بأن يترنحوا و يصيحوا و يضجوا . و في إحدى المرات تمادوا فهللوا و أشاروا بأيديهم إلى إحدى هذه الوحدات قائلين :
هاللو..فما كان من الوحدة إلا أن أشاح رجالها عنهم فمروا بسلام.
و قد عجب بنفسه كيف أنفذ السيارة عبر الحدود ، و لكن مم لا ريب فيه ان المكان كان خاليا.
و سألت بدور :
لماذا لا يكون معنا أسلحة و ذخائر حتى إذا التحمنا مع العدو فعلنا أفعالنا المجيدة ؟..
و ابتسم مولود ، كما ابستم مصباح .. و قال مولود : ليس حمل السلاح أمرا وطنيا أو مسألة يستثار بها الحماس. و إنما هي مسألة عسكرية صرف ، ماردها على الجند النظاميين أو العصابات و أدوات الحرب ليس غير. فحملها الآن مجبلة للشبهة.
و عاد مولود يفكر :
هذه المهمة في هذه المرة مهمة أوكلها إلينا أولو الأمر من ذوي تلك الكاتبة . و لم تكن من تلك المهمات الفردية. فليست مما يطيب للمرء أبدا فهو فيها مقيد. و لئن كان معي ثلاثة أفراد ، إلا أن علينا أن نتفحص كل شبر من الأرض التي وراء السيارة و على الجانبين . و كان انتباه دوريات الإستكشاف أسوأ ما يمكن أن يمر بهم وهم في سيارتهم ، التي تلوح أنها سيارة خنافس لاهين راقصين سكارى..
و قال مصباح :
مما لاريب فيه أن هذه السيارة سيارة مجدودة لم يلم بها حادث منذ انطلاقها رغم اصطدامها مرارا بالحجارة.
و عندما هبط الظلام بعد جهد بذلوه للعودة إلى الطريق الصحيح وجدة بإجماع الآراء من المناسب المبيت في السيارة التي أدخلوها طريقا فرعيا.
في صباح اليوم التالي كان كل واحد منهم يشكو من تفكك أعضائه فلقد كانت نومة مرهقة..و قد تخلى كل منهم عن عاداته و هو أصعب ما يمر بالإنسنا : حلاقة اللحية .. غسل الوجه..الخ.
و بلغت السيارة الموضع الذي يجب أن تقف عنده إذ نشر مولود خريطة صغيرة راح يطالع فيها موضع الدار تسكن فيها الكاتبة العربية .. و لكنه لم يشأ اتلاف الورقة خشية أن تضل الفتاتان عن الموضع ، فيضطر إلى الرجوع و استشارة الخريطة..لتبديد الوهم الذي يمكن أن يقعوا فيه. و افهمت الفتاتان مهمتهما فهبطتا من السيارة و تغلغلتا في المنطقة.. كانت منطقة سهلة لا وعورة فيها ، و أوصاهما مولود برباطة الجأش و التصرف بصورة طبيعية . و قال :
إن سر نجاحكما في سرعة التنفيذ ، لأن السيارة لا تستطيع التوقف وقتا طويلا دون أن تثير الشكوك.
و جلس مولود و مصباح في السيارة ينتظران.
كانت كل ثانية تمر كأنها ساعة صقيلة صقيلة..العينان ترقبان المكان الذي اختفت فيه الفتاتان . و أدرك هو أن القلق الذي يساوره ، ليس أكثر من ذلك الذي يساور مصباحا عندما يسأل هذا الأخير :
ما هي المسافة التي على الفتاتان أن تجتازاها تى تصلا إلى الدار المقصودة.
و تلكأ في الجواب ليمنع نفسه فرصة التفكير و إيجاد الوسيلة ..ثم أجاب :
أعتقد أن المسافة تستغرق عشر دقائق .
و خطفت عينه مصباحا و هو ينظر في ساعته . و قال ليطمئنه :
لا تظن أن ألنساء يساوين الرجال في الزمن.. إن لهن مشاكلهن التي لا تماثل مشاكلنا أبدا ..ثم ضحك ضحكة خفيفة. أما مصباح فلم يرد بكلمة أو بضحكة و ظل صامتا يترقب . ثم قال :
يبدو أن الفتاتين من الذكاء في المكان الذي صنفتهما فيه ها هما آتيتان مع الكاتبة.
هذا صحيح.
و أسرعت النساء فامتطين السيارة على عجل . و سارت السيارة في طريق العودة . و قال مولود مخاطبا الكاتبة :
يبدو أنك تعرضت للمتاعب في اليومين السابقين.
و أي متاعب. لقد ظل الرقباء على أنفي ليل نهار ، لم يتركاني سوى لحظات قليلات أثناء النهار. إن حظي لعظيم لأن وصولكم صادف تلك اللحظات..
أصحيح هذا؟.. رائع..
هذا الرجل الذي أرسلناه إليك لا خطارز هل أدى مهمته جيدا.
سأل مولود هذا السؤال و هو يرجو أن يتبين درجة ذكاء تلك الكاتبة ، و إذا بجوابها يتاخر. و لاحظ مولود بطرف عينه أن الكاتبة تتفرس فيه جيدا ثم سمعها تقول بتردد :
ألست أنت الذي جئت إلي تخطرني ؟..
وضحك و تبسمت الكاتبة ، فلقد كان ظهره لها إذا كان يسوق المركبة.
و قال مصباح مخاطبا إياها :
هل انت مريضة؟
آلام في المعدة.
ألم توفقي إلى طبيب؟
و هل يدع هؤلاء العتاة احدا يدخل علي..
و ضاعف مولود من سرعته و هو واجف ، فالسرعة في مثل هذه الظروف نمامة. و قال :
آسف لأننا لا نستطيع أن نقدم لك ما يليق من الطعام ، فلسنا نملك شيئا ما يليق و مما لا يليق ، لقد استهلكنا الطعام أمس إذ لم نتصور أن هذا المكان بمثل هذا البعد ، شيئ واحد أسعفنا هو الوقود الكافي.
و قالت الكاتبة :
لا بأس سنجرب الصيام في غير أوقات الصيام.
ثم ضحكت و انتبه مصباح إلى أن في السيارة صفيحة وقود فارغة فهم بإلقائها و هو يقول :
لا مكان لهذه الصفيحة في السيارة
و النتفض مولود و هو يقول :
لا ترمها يا أخي ، أتظن أنني ترتكتها في السيارة عبثا. إذا رميناها أخذ العدو علامات طريقنا . لا أعتقد أننا سنسلم من مطاردة ، الرقباء سيكتشفون إختفاء كاتبتنا الكبيرة ، ليجلس أحدكم على الصفيحة. و تشددوا على التعب صابرين.
و تبين لمصباح أن مولود أصبح ضيق الصدر.
عذرا يا مصباح إن قيادة هذه الساعات الطويلة أثرت على أعصابي، و جاء جواب مصباح :
نحن في مهمة ، و يجب أن يتحمل بعضنا البعض الآخر ، أتراني قد ساءني ما خاطبتني به؟..
و تحركت الكاتبة للكلام فقالت :
إن المسافة التي قطعتموها حتى الآن و المتاعب التي تجشمتموها من أجلي كفيلة بأن تتعب الأعصاب بل تتلفها .. و البدن يستطيع أن يحتمل ضربا شديدا و أذى أليما ، و هو يكاد غير قابل للتلف ، و لكن الأعصاب لا تستطيع الاحتمال إلا إلى الحد المعقول ، فإذا كلت و جاوزت ما تكلفه به من جهد ، في فترة ما ، حد الطاقة ، فإن المرء يصبح شخصا ضجورا و هذا لا يعيب فيه ابدا . و لا يقدح هذا في شدة قلبه و جنانه ، فإن رد الفعل هنا لا يعيب فيه أبدا . و لا يقدح هذا في شدة قلبه و حنانه ، فإن رد الفعل هنا خارج عن الإرادة كل الخروج .
و بعد فترة من الصمت قال مصباح يخاطب مولود :
إستبان الأمر أصعب مما قدرنا أليس كذلك ؟..
و تنفس مولود نفسا عميقا و قد آتاه الخطر قوة و شد من متنه ، فأجاب :
نعم.. أصعب مما قدرنا.
ثم أردف قائلا :
لقد علمتنا هذه المهمة كثيرا مما سينفعنا في أعمل مقبلة.
و عاد الجو النفسي لهؤلاء الخمسة مشحونا ، فإذا طريق العودة كان أشد على النفوس من طريق الذهاب . كان الجميع يشدون على أسنانهم و يرتعدون ..لقد كانت سمة مهمة يجب أن تنجح ، و لم يكن يمسك مولودا في موقفه سوى خيوط من عزة النفس. كل دقيقة تمر تقطع خيطا من هذه الخيوط و لكن الصمود ..إرادة الصمود هي التي كانت تمسك بهم.
في هذا الجو انطلق صوت رفيع يحاكي نقيق الضفادع فتردد في سمع الجميع ، و كان صوت بدور و فهي تقول :
هل لأحد منكم رغبة في أن يشتري ساعة جيدة ؟..
ضحك الجميع لهذه الدعابة ، و ارتفع رنين حكاتهم و تجاوب صداه .. و لم تكن – على ما فكر فيه مولود – هذه الدعابة طمأنينة للنفوس فحسب ، بل كانت انتصارا لكل منهم على نفسه ، و تذكيرا بشيء نسوه . و كان حريصين عليه في طريق ذهابهم و هو الصخب و الضحك و العبث ليتظاهروا أما فرق الاستكشاف باللامبالاة و اللهو ، و بأنهم قوم لا نفع فيهم.
على أن هذه التعلة لم تكن سوى موقوتة ، لحيم لمحت الكاتبة ، و هي تنظر إلى الخلف ، دراجة نارية مسرعة ، قالت في يأس :
إنه الرقيب الذي يخفر بيتي قد انتبه.
و قال مولود يخاطبها :
لا تهبطي من السيارة ..لا تهبطي أقول لك مهما جرى.
و ضاعف مولود من سرعة السيارة ، لكن الدراجة كانت أسرع منه ، و ما أن مضت خمس دقائق حتى كانت تستعرض الطريق أما السيارة ، فلم يجد مولود بدا من الوقوف ، لأن الانخفاض الذي يحد الطريق من جانبيه لم يمكناه من الإفلات . و نزل الرجل عن دراجته يوعز للكاتبة بالهبوط من السيارة ، فبقت حيث هي صامتة تنظر إليه :
في تلك اللحظة كان مصباح و مولود قد هبطا من السيارة و رمى الثاني نفسه على الرجل يريد لن يستخلص منه سلاحه و دارت بينهما معركة تغلب فيها رجل الدراجة و نهض و سلاحه بيهد . و في لحظة واحدة أبصر مولود فوهة السلام موجهة نحو مصباح ، فما كان منه إلا أن قذف مصباح بكل ثقله فرماه على الأرض ، و خرجت الرصاصة من المسدس و سمع صوت جسم يسقط في أرض السيارة ..لم يتبينه مولود إلا حين انكب نهلة تصيح :
بدور..بدور..
أصبحت هينا مولود حمرتين متقدتين.الفتاتان في عهدته و ها هي واحدة منهما تفلت من يده بالغدر و الخيانة . و أصبح فجأة كوحش كاسر ، و اتسيقظ فيه المجرد القديم الذي كابه قبل أن أودع معهد الأحداث الجانحين. ثار هذا المجرم و حطم كل حد و كل عرف ، ثارت فيه عادة – الإجرام الأولى و إذا به بكل قوته يمسك بالرجل من عنقه فانكفأ ..و مع هذا فقد ظل مولود يضغط حتى تلاشى الرجل من عنقه و سقط بلا حراك ، و التقط مولود مسدسه فوضعه في جيبه ، ثم أخرج سكينا به رأسه حتى فصله عن جسده و أمسك به من شعره و هو يقطر دما و رمى به في السيارة يريد أن يتوثق من أنه لم يتركه و انه مات فعلا . ثم ارتقى مقعد القيادة و سارت السيارة بسرعة جنونية لم يفتح أحد ممن فيها فمه ..صمت مطبق ..و لم يكن يسمع إلا نشيج نهلة الخافت و تحتضن جسد بدور ..حتى اجتازت السيارة الحدود.
الذي ينظر إلى مولود الآن لا يعرفه ، فهو إذا كان ذا وجه صاف ، فلقد أصبح ذا وجه محتقن ، حاجبها يكادان يتصلان بعينيه ،و الأسنان تعض على الشفة السفلى حتى لتكاد تخزها ، و الأذنان حمراوان كأنهما مصبوغتان بدم .
و منذ توقفت السيارة أمام المستشفى هبط مصباح أول من هبط من السيارة و تلاه مولود و هنا هجم مولود على مصباح و أخذ رأسه بين يديه و قبله في خده و هو يقول :
مولود ، أنا مدين لك بحياتي.
كانت علامات التأثر البالغ بادية على مصباح الذي كان هو الآخر أحمر الوجه . و لم يرد مولود بكلمة و أنما ربت على كتف مصباح . و اتجه إلى حمل الفتيلة و أسرع مصباح فساعده في حملها إلى المشرحة ..بعد اسئذان إدارة المستشفى و إعطاء المعلومات الكافية إلى الضابطة . هناك أخذ عنوانه و اتسجوب و طال استجوابه و قيل له إبق في مقرك سنستدعيك ، كما ستجوب الجميع.
كان مصباح في كل هذه المراحل هو الذي يتكلم . أما مولود فبدا كأن وراء عينيه إناء يموج بالدم يريد أن ينفجر و لكنه يستعصي..و عندما تمت كل الإجراآت و عاد الجميع إلى السيارة هرعت نهلة إلى مولود تصيح به :
مولود أنت لم تفعل شيئا أؤكد لك يا مولود ..مولود..كان المفروض ان يكون هذا مصير واحد منا.
كانت نهلة تتفوه بهذه الكلمات و هي تبكي . لكن مولود كان صامتا صمت التماثيل لا ينظر إلى احد ، و قد أغضى طرفه . و عادت نهلة تقول :
لماذا تصر على تقدير الحداث بعكس ما يجب أن تقدر به ؟. و اعرض الأمر على أهل السماء و الأرض ، فلسوف يقولون لي.. ما زلت أنت مولود الذي تعرفه لم ينتقص منه شيء.
على ان مولود بقي صامتا..و بإيماءة من مصباح و بإيماءة من الكاتبة العربية سكنت نهلة. و تابه مولود قيادة السيارة حتى أوصل كل واحد إلى مقره و ذهبت الكاتبة إلى الفندق ..
و قال مصباح بصوت خافت :
لو تدخل معي بضع دقائق يا مولود.
و لم يرد مولود على هذه الكلمات . و بعد فترة سمت فتح فمه قائلا :
أريد أن أخلو إلى نفسي . أعذرني .
كما تشاء..
و افترق الجميع.
في اليوم التثاني حضرت نهلة إلى المكتب . كانت عيناها غائرتين في ظل أزرق ارتسم عينين حمراوين..و عبثا حاولت أن تنصرف إلى عملها فقد كانت قد حضرت لتوها التشييع من المعهد لأن بدور كانت لم تزل قبل أن يوافيها أجلها خاضعة لنظام الحرية المراقبة. لكن مولود لم يحضر إلى المكتب كعادته. و هي – أي نهلة – لم تكن تعرف مقره. و عندما حضر أحد زملائهما يسأل عنه اضطربت و لم تعلم بماذا تجيبه و فجأة تذكر ما فاه به أثناء الرحلة أن هذه آخر مغامرة لأنه سيلبي عما قريب الدعوة لأداء خدمو العلم. فأسرعت و أبنأت الزميل بذلك قائلة :
ربما هو الآن في سبيله إلى تهيئة نفسه لأداء الخدمة الإلزامية..
و أجاب الرجل :
معقول. سمعت منه مثل هذا القل.
و لم تمض ساعة حتى حضر مولود فخفق قلب نهلة..إذن فمولود لا يزال بخير. كان مضطربا بدا كمن سهر ليلا بأكمله .حيا نهلة و قال لها :
كيف أنت يا نهلة اليوم.
بخير و الحمد لله
الحمد لله
و أدركت نهلة ما يجول بخاطره ، فإنه تلفط بتلك الكلمات كمن يريد أن يقول :
الحمد لله الذي أبقى لنا الزميلة الثانية..
و صارت نهلة تسرق بين الفنية و الفنية نظرة إلى مولود المكب على مكتبه ، تريد أن تستعلم عن حاله . و كان الصمت مخيما بينهما ، فليست تجرؤ يعلى أن تكلمه ، بينما كان هو ساكنا . و يبدو أن المناسبة حضرت ، فلقد تعثرت يده بملف كان على مكتبه فوقع.
و هبط يريد التقطاه في اللحظة ذاتها التي هبطت نهلة بسرعة للتقاطه ، و التقت يداهما على الملفز و حين ارتفع رأساهما كانت العينان في العينين ، و لم يكن بين أنفه و أنفها سوى مليمترات .. و طالت النظرات و صمدت عينا نهلة. و لكن مولود أغضى و عاد إلى مكانه بشكل عادي.
و ساد بينهما صمت طويل قطعته نهلة بان خرجت من الغرفة و غابت لبضع دقائق ثم عادت ، و حاولت أن تظهر بمظهر طبيعي فقالت :
سأل عنك سامي .. فأخبرته أن ربما كنت تتهيأ لأداء خدمة العلم.
أحسنت . و هذا ما فعلته صباحا.
ثم عاد الصمت يستحكم على محاورة مولود لنفسه : إذن فإن نهلة..و هل يستطيع أن يمنها؟.. و هل من قه أن يمنعها لأول مرة يكتشف ذلك..لم يخطر على باله أبدا . نهلة جميلة مافي ذلك ريب ، من ذلك الجمال ذي الحركة الدائمة و اللفتة الحاضرة كيف لم يتذكر لقد فكر يوما حين كانت عضوا في عصابته أنه يودها و لكنه لم يمسسها ، كان في شغل شاغل عنها. كان من أولئك الذين لا يدخل الماء بدل الهواء في قصبات رئاتهم.تذكر الآن أنه جعلها إلى قربه إذ لك دون أفراد العصابة جميعهم ..أشار إليها بإصبعه ..أيكون هذا محض صدفة أم أن العقل الباطني كان يعمل دون علمه؟
و فجاة عادت صورة بدور إلى ذهنه : كيف سقط جسدها في – أرضية السيارة تلك السقطة ثم سكتت إلى الأبد . و كيف ثار ثورة وحش و خنق القاتل .. ثم حز رأسه و شعر بأن قواه تنهد فجلس ، ثم قام من فوره دون أن يتكلم و اتجه إلى معهد الأحداث و كمثل من يركع أمام الكاهن ليعترف صافح المدير ثم أنهد على المقعد و هو يبكي .. و بغت المدير ، فهب من مقعده و جلس إلى انب مولود و وضع يده على كتفه و عانقه قائلا :
ماذا هناك يا مولود ..أبدا ما رأيتك على هذا الحال . لا بد أن هناك أمرا خطرا.
و لكن مولود كان مكبا على ذراع الكرسي ينشج نشيجا .
أنا أخ لك يا مولود فصارحني.. أرح ضميرك و حدثني.
و لما لم يجد ذلك نفعا أخذ المدير برأس مولود بين يديه و رفعه قليلا قليلا. و نظر في عينيه مركزا نظراته فيهما .. فأغضى مولود في انكسار و اختفت الرجولة من تقاطيعه و ظهر الطفل جليا من طلعته و قال و هو مغض :
لقد قتلت..أنا قاتل ..أتعلم؟..أنا خنتك..أنا غير جدير بصداقتك. المدير يتفرس في وجهه بضع ثوان . عيناه متسعتان .ثم يقول فجأة :
لا أعتقد يا مولود ..لا أصدق ..و لو أقسمت لي ..لا أصدق..مستحيل ..مستحيل.
و نظر مولود في عيني المدير يريد أن يستزيد مما قاله . و أضاف هذا :
أقول لك مستحيل..أنت انعطفت و انتهى المر..انت لا تقول الحقيقة الآن .
قال مولود :
كانت من الأحداث الجانحات. و قد صحبتني في مغامرة في الأرض المحتلة . كانت في حمايتي و تمثلت في نظري جهد زمن طويل في خلق إنسان سوي. أهدر في في لحظة واحدة فقتلها ، سقطت بلا حراك أمام عيني..لم أستطع أن أتحمل سيادة المدير لم أستطع أن أتحمل ، صدقني / كان التحمل فوق طاقتي فقتلته ، و لم أعد أع ماذا أفعل ، و فجأة وجدت رأسه في يدي مفصولا عن جسده.
من هو؟..
أحد أفراد حرس العدو.
و اصطنع المدير ضحكة قصيرة و قال :
أهذا ما يزعجط؟..الذي يسمعك يظن أنك قتلت عن سابق تصور و تصميم..قم يا مولود..هلم بنا إلى المشرب أنا عطشان. و أنت؟..
و هز مولود رأسه موافقا و قد توقفت مدامعه عن السيلان. و لكن حجليه ما زال مقطبين ، و مشى متثاقلا ، كان بصره مثبتا في كأسه فلم يطرف و لم يصعد إلى وجه المدير..تذكر موقفه في الشهر الأول من دخوله معهد الأحداث لأول مرة ، و كيف بكى في النهاية على صدر المدير .. الموقف يكرر نفسه..هذا المدير ذو قلب يا يحده شيء..
كان الإثنان صامتين صمتا أبلغ من الحديث..و أخيرا قال المدير :
هل لديك فكرة عما يجب أن يكون عليه الاحتفقال.
و هكذا ألفى مولود نفسه ينجرف في تيار الحديث حتى اندمج اندماجا تاما. و قال المدير في النهاية :
اسمع..يجب أن تغتبط الآن لأن النفس الإنسانية وحدة لا تتجزأ ، فإذا كانت في حالة صحة نفسية كاملة ، فإنها لن تتكفئ أبدا..
هذا هو المبدأ العملي الذي هداني و يهدينا سواء السبيل ..لا تقف بنفسك حائلا دون تفجر عفويتك ، فأنت على الطريق السوي ، لقد خرجت من نطاق الجاذبية الدنيا و انتهى الأمر ، العدو عدو و المواطن مواطن ، و لا يمكن أن يخلط بين الإصنين إلا امرؤ مريض بالشخصية المزدوجة . المغامرون هم الذين يرثون المكلوت . أنا لن أخشى عليك شيئا ، أما إذا وجد أمثالك كثيرون فهناك النفع العظيم و لو سقط آخر خندق في حط الدفاع فأنتم الخندق ما بعد الأخير.
كان يسمع ما يفوه بد المدير و لكنه لم يفهم منه شيئا و تساءل لماذا يقول للناس أشياء لا يستطيع هو أن يعبر عنها. و هل من الخير أن تقال أو أن لا تقال. و هل من يقولها في وضع أرفع مستوى ممن لا يقولها..هل يجب ان يتعلم أن يقولها. كل ما يعلمه أن من بعد أن بلغ هذه السن يتمتع بعزة نفس لا يدانيه فيها أحد و هو من الأناسي الحراص على إروائها في كل مناسبة بل و مبالغ في هذا الحرص . ثم إنه لا يرى في ذلك أي خطأ .. إنه لأمر طبيعي جدا و هو مؤمن بأنه مطلق اليد ، و يجب أن يبقى مطلق اليد في رد الإعتداء بالأسلوب الذي يختاره .
و وجد نفسه مسوقا بقوة لم يعرف مأتاها ، فقال :
لم أفهم تمام ما تقصد .
انت و من مثلك نموذج لما يجب أن يكون عليه كل مواطن : سلام في الداخل و حذر من الخارج ..سلام في الداخل لذلك آراك مصرع بدور.. و حرب على العدو و لذل جززت رسه..إن موقفك لا غبار عليه البتة فلماذا أنت مكتئب.
و نظر المدير في وجه مولود فإذا به لا يزال متسائلا ، فأضاف :
لا يستعذب طعم الحرية مثل الذين حرموا منها ، و ليس من معصوم عن الجريمة أو الرذيلة غير ذاك الذي لامس بأجنحته سطح مستنقعاتها الراكدة الآسنة ثم لم ينغمر فيها بل زنق في الجو مبتعدا. ليست البطولة في أن يعتكف الراهب في رأس جبل جيث يغدو في منجاة عن إغراء غادة مغناج..و لكن البطولة في أن يستعصم و هو في زحمة شارع طرزت حواشيه الأرادن الزاحفة و الخصور العارية المتمايلة..و ما أكثر الذين يختالون تيها بماض نظيف ، سلخوه تحت وصاية رقيب أو مرب شديد الماراس ، ثم ينطرحون في الرذيلة بعد زوال هذه الوصاية .
و عندما انتهى اللقاء قام مولود يودع المدير و قد ارتسمت على شفتيه ابتسامة هانئة.
كان الاحتفال الذي أقيم في معهد الأحداث الجانحين مهيأ أحسن تهيئة . فقد صفت أصص الأزهار و النباتات المختلفة في أطراف الباحة الواسعة التي تداني في سعتها مرتع سباق الخيل . و بدت على أرض الباحة نظافة تبهج النفس . و كان الأحداث قد طلوا خشب النوافذ المطلة على الباحة بدهان جميل . و قد امتدت شرطان متعارضة بعدد كبير من كل جدار إلى الجدار المقابل بارتفاع مناسب يفوق قامة الإنسان . و تدلت فنارات من الورق مختلفة الألوان مصنوعة على الطريقة الصينية ، صنعها الأحداث ، و اختبأ في كل فنار منها مصباح كهربائي صغير و توقد جميعها بسلك واحد رفيع. و يتناوب كل كوكبة من هذه المصابيح إضاءة و انطفاء بشكل رائع و بآلية فنية.
و قد قام في فناء الباحة مسرح صغير و لكنه غني "بالديكور" دل على سلامة ذوق المصم..كما قامت في أماكن متعددة من الباحة أعنمدة متوسطة الحجم كسيت بورق ملون و مزخرف من "البلاستيك""اللاصق" ، و بذلك خفي على الناظر أنها غرزت بخاصة لتحمل في رؤوسها عاكسات قوية للنور المسلط على المسرح ، كما عرشت عليها سوق نباتية رفيعة اصطناعية أطلت منها أكمام تفتحت فيها أزهار مختلفة الألوان.
أما مكان النظارة فكان مقابلا للمسرح في الفاناء الآخر . و قد استعار المعهد مقاعد شبيهة بمقاعد دور السينما بحيث أن الراحة المتوفرة فيها لا تسمح للجالس بالشكوى أو التململ.
و لكي يحافظ الإحتفال على نظامه و سكونه ربطت المقاعد ربطا متينا بعضها مع بعض بحيث لا يمكن زحزحتها . و أكثر المصممون من الممرات بين صفوف الكراسي ، كما وسعوا الفرجة بين الصف و الصف الذي يليه من المقاعد ، فكات المرتادون يمرون أمام القاعدين ليصلوا إلى مقاعدهم التي أعدت لهم في يسر دون أن يصطدموا بأحد. كما تركت فرجة حول الكتلة الضخمة التي تصنعها المقاعد مجتمعة حتى الجدران بحيث أنالندل يستطيعون بلمح البصر أن ينتقلوا من مكان إلى آخر لتقديم ما يلزم.
و قد حرص مصمموا الاحتفال على تقديم المشروبات إلى المدعويين ، و كثر عدد الندل بحيث أصبح في وسع كل مدعو أن يسر إلى أي واحد منهم بما يريد في اللحظة التي يريد. و طاف بائعون للفافات التبغ و آخرون..
و لكي يستكمل الاحتفال رونقه ، طبعت بطاقات و ذكر فيها ساعة بدء الاحتفال كما أثبت فيها رجاء ، لمن تصله البطاقة ، أن يجيب عما إذا كان راغبا في الحضور ، أم عازفا ليمكن إحصاء المستجيبين للدعوة ، و تهيئة أسباب الراحة لهم.
كان كل ذلك منظما أجمل تنظيم و معدودما من الأسباب التي انبثقت عنها فكرة قيام هذا الاحتفال ، و هي رغبة القائمين على المعهد بأن يضعوا في يد المشاهد ملمس فائدة هذه المعاهد.
و كان مولود أول من حضر فدخل أولا غرفة المدير العام فلم يجده فيها و وجدها حاشدة بمراقبي المعهد و هم الذين تولوا تنظيمه.
و مال عليه أحدهم يقول :
كيف ترى ؟
كل شيء على ما يرام.
أليست فكرة هذا الاحتفال رائعة؟..
لو لم يكن للحظة سوى نتيجة واحدة في تكريم مدير المعهد لكفى ذلك سببا للحرص على إقامتها . هذا المدير يمثل الذروة في الإخلاص لفكرة إصلاح الأحداث . فتكريمه و الدعاية للمعهد أمران متلازمان.
و تقاطر المعدوون و حرص المدير الذي حضر في تلك الأثناء ، على استبقاء مولود لديه إلى أن يكتمل العدد. و في لحظة ما خرج مع مولود ، فتجاوزا المقاعد من أحد الممرات التي تركت بين الصفوف و جلسا في المقدمة .
و بينما كان مولود يميل طرفه في الحاضرين كان المشهد قد بدأ ، فبلغت منه الدهشة مبلغها حين لمح بين المدعويين مصباحا مع والدته و شقيقته و ابن خالته الشاب الفأفاء .. فخفق و شعر كأن غصة قد صعدت إلى حلقه.
لقد حرص في كل أوقات صحبته مع مصباح أن يخفي عنهم الأمر ، فإذا انكشف الآن ماذا سيكون؟..ثم أدرك ، و قد التقت العيون بالعيون ، و هزت فائزة رأسها محيية مبستمة ، أن لقاءه معهم لا بد منه..فاستأذن- المدير و هرع إليهم فحياهم ، و حيوه مبتسمين منشرحين.
و قالت الوالدة :
هذا أنت هنا يا مولود ، قل لنا من أية جهة جاءتك الدعوة ؟..
و شعر بقلبه يهبط من مكانه و لكنه تماسك..و كعادته حول مجرى التيار عنه ببراعة فأجاب :
لا ، بل اذكري لي أنت يا سيدتي من أية جهة جاءتكم الدعوة ، فإن أمر حضوركم أدعى للدهشة .
و أجابته كعادتها ، و هي تنظر بعينين مستريحتين و بلهجة هادئة و بطيئة ، متعاظمة :
الأستاذ أحمد المراقب في المعهد من أقربائنا.
صحيح؟..
يجب أن يتابع صرف اتجاهها إلى معرفة مصدر دعوته. و لكن كيف؟
في هذه الأثناء سمع صوت إناء ينكسر على بلاط الباحة قريبا من السيدة ، فأسرع متلطفا و صاح :
هل حصل ضرر ؟
لا..لا أعتقد،
و عل كل حال كان هذا حادثا سعيدا قضى على التساؤل..
و انصرف الجميع إلى المشهد بأعينهم ، و لفت نظر مولود أن مصباحا ساعد على ذلك ، فإنه لفت نظر والدته إلى ما يجري في المسرح .. و ذلك ما أنقذ الموقف .
دعته فائزة ليجلس إلى جانبها فنهض ابن خالتها عن الكرسي بتثاقل ، و تكاسل ظاهرين.
مولود الآن أقرب إلى والدة فائزة ، موضعه الجديد يشعره بالدفء من جديد..الدفء الأنثوي الذي يشع من فائزة..شعور في داخله يدغدغه ..دغدغة محببة.
أرهف أذنيك جيدا ، و انظر حيث نظر مصباح ، تجد شابا عريض العظام جهم الوجه ، كأنه صاعد من أعماق الأرض ، يرمق جماعتك بنظرات غير مستحبة. ها هو مصباح يميل على والدته و يفوه بكلمة .. هذه الكلمة ربما كانت اسم :حبيب. من هو حبيب هذا؟.. هو ذاك الرجل الواقف عند الباب يرسل نظراته الغريبة الممقوتة..الوالدة امتقع لونها أصبح وجهها بلون أصفر يخالها الناظر عما قريب ستغيب عن وعيها..تتماسك و تسر إلى ولدها مصباح ببعض كلمات ، ثم تفتح محفظتها و تناوله كدسة من الأوراق المالية ..يأخذها مصباح و يسرع إلى ذلك الشاب ..ينهره..الرجل يجيبه بحركات من الشفاه لا يسمع ما يتلفظ به ، و لكن موقفه المتعالي البارد يذكر بأولئك المجرمين الذين يستعملون برودة الدم في سبيل السيطرة على خصومهم قبل لحظات من استعمالهم لمسدساتهم في أفلام الكوو بوي الأمريكية . و أخيرا يقحم مصباح الشاب و يخرج به و يغيبان عن الأنظار بضع لحظات. يعود بعدها مصباح لوحده فارغ اليدين من الأوراق النقدية .. و جهه محتقن ، الاضطراب باد عليه. يجلس في مقعده دون أن يفوه بكلمة..يرين الصمت بعض الوقت . ثم يعود الجو إلى ما كان عليه بصعوبة يحاول مصباح بشيء من التعب العودة إلى المزاح.
صورة ذلك الشاب ما زالت في ذهنك تتوضح أكثر فأكثر ، الشبه بينه و بين مصباح و فائزة قائم.. الشبه لا ريب فيه أصبح حقيقة واقعة. لا فارق بينه و بينها سوى أن مصباح و فائزة ذوي لون أبيض و ذاك الشاب ذو وجه محروق بأشعة الشمس.
حبيب؟..أنت كذلك تعرفه..لعله..أي والله ، ذلك الحدث الجانح الذي اعتدى على بدور في صغرها..إسمه أيضا حبيب ، والده نائب في المجلس النيابي..والد مصباح أيضا نائب في المجلس النيابي..شاكر ذكر ذلك لك يوما ما ، قال إنه سمع مصباح يقول ...لا تسئ إلى هذه الجلسة بهذه الذكرى المشؤومة..خل حبيب لحاله. يبدو أن شعورك اليوم غير واضح فأنت تحبها و لكنكتخشاها..بين خجنبيك شيء غالي الثمن تحرص عليه لا تريد التخلي عنه.أهي من النوع يفرض وجوده فلا تميله الزعزاع؟..لا أدري..
أنت مولود في هذه اللحظات كمن يمشي على صراط أحد من شعرة ،فإن كلمة واحد يتفوه بها احد الندل أو المراقبين يسمعها جماعتك تثير تساؤلهم ..فإذا جاءك مراقب فاستشارك في شأن ما يتصل بالاحتفال أدركوا أن لك نصيبا من تنظيم الحفلة ، و إذن فما علاقتك بها؟.. الأمر الوحيد الذي تحمده للقائمين على الاحتفال هو استمراره بدون توقف ، أليس هذا صحيحا؟..
ما زالت الغصة تصعد إلى حلقه..
و لكن استمرار المشهد منح مولودا فرصة ليلتقط أنفاسه..
ثم ساء الموقف حين شاهد نهلة تخرج إلى المسرح لتشترك في التمثيلية..سيضطر في النهاية إلى تهنيئتها على حسن أدائها لدورها.. و عندها سنكشف النقاب..أليس في الوسع الهرب من هذا الاتزام الأدبي؟
و قالت له فائزة :
مالك مولود ساكتا؟..لست طبيعيا اليوم.
و اصطنع الابتسام و أجاب /
لا شيء ، أنا طبيعي جدا..
و لكنه لم يكن طبيعيا ..بماذا يجيبها؟..أيقول لها أنه مذب ،ن و إذن يجب أن يوضح سبب عذابه..حاول كثيرا أن يتحدث أن يثرثر هذه هي الطريقة الوحيدة التي يثبت لفائزة عكس ظنها و لكنه لم ينجح.
لا بد من تهنئة نهلة..لأم تسمع عريف الحفلة يعلن منذ البدء أن رواد المعهد الأحداث و رواد معد الأحداث البنات و المتخرجون منهما هم عناصر تمثيلية؟..
غاب النور الأبيض الباهر عن المسرح و بقي النور الأصفر ثم غاب هذا أيضا و حل محله النور الأزرق. في تلك اللحظة بان قسم من الماثلين على المسرح بشكل غير الذي كانو عليه . كان معهم أناس من مستخدمي المعهد الكبار في السن ، فظهرت جباههم مخددة لأن النور الأزرق يأتي من الأسفل ..هكذا يملي المشهد يجب أن تظهر نهلة في هذا النور..
حين ظهرت نهلة كانت في دور الساحرة الشريرة ..كانت متقنة لدورها بحيث استجلبت مقت الحاضرين على الساحرة الشريرة.
و حانت التفاتة من مولود إلى والدة فائزة ، فإذا هي مشمئزة من المنظر .. و قد زادها اشمئزازا قول واحد من جوارها : إنهم كلهم أحداث جانحون.
و مع أن نفس مولود بدات تمور إلا أن ما عدل الموقف كان وضع فائزة فقد كانت على خلاف عادتها مسترسلة في حديثها و منطلقة في ضحكها ،و سألته سؤالا عابرا عما إذا كان يعلم شيئا عن معهد الأحداث هذا ، فإن العلم به خليق بان يكسبها معرفة جديدة ، لقد كان السؤال موجها إليه بالذات فكان الإحراج باديا ، فهو يريد أن يسترسل مع فائزة بالحديث بعد أن مضى وقت على غمته ، و سيكون كمن يصرم حبلا إذا هو أنكر معرفته بمأتى نشاط هذا المعهد . و في الوقت نفسه ، ما زال يوجف إذا هو استرسل في الحديث أن يسمعه واحد فيدل عليه أو أن ينم عليه عمق معرفته.
و قال مولود :
أذكرى لي قبل ذلك ما هي الفكرة عندك عن هذا المعهد ؟
أحسب أنه سجن للأحداث الذين يرتكبون الجرائم.
هذا الاعتقاد سائد ولده أسلوب قديم في معالجة هذه المشكلة .
أما الآن فإن معاهد الأحداث هي – كما يبدو من تسميتها – مدرسة كبيرة و أكثر قليلا تعني بتنشئة الأحداث الذين وجدوا – بنتيجة تبعة النظام الشعي – في شروط سيئة أثرت على سلوكهم ، فهي تفترض فيهم معدن الخير الذي يسعف في قيادتهم برشاد إلى جادة الصواب ، ليعودوا أفرادا أصحاء في هذا المجتمع ، قد جب عنهم ما اقترفوا دون أن يترك في سمعتهم أثرا سيئا . فمثلهم مثل أي غنسان آخر.
و سكتت فائزة فلم ترد بكلمة و استبان لمولود أن فائزة و قد ابتهجت بما حدثها به و تبسمت ، تقلب الفكرة على وجوهها في صمت بينها و بين نفسها ..ثم سمعها تقول :
هذا جميل
فانتعش مولود و بدأ يعلق تعليقات متنوعة على ما يراه.
و بينما كان مولود يتدفق فصاحة ، كان ابن خالة فائزة يميل على أخيها مصباح و يسر له ببعض الكلمات ..
كانت التمثيلية – على ما يبدو – سخيفة الموضوع و إن كان تمثيل شخوصها جيدا ، كان إطارها أجمل منها و أغنى.. و كان من المحزن أن ترى هذه المخلوقات و هي تجهد لأن تجعل نفسها وسيلة للنهوض بمهمة المعهد .
و نهضت الوالدة و هي تقول :
من الخير ان ننهض و ننصرف إلى دارنا ، فلقد وفى الاحتفال على نهايته . و نهضت فائزة و هي تقول لاخيها مصباح على مسمع من والدتها :
أرجوك يا مصباح أن ترافق والدتنا و تسبقنا إلى الدار . فإني سأبقى هنا لألتقي بمولود ثانية و اوافيكم معه الدار فقد سمعت عنه أن سيطلبني هناك من والدتي للزواج.
و كان آخر ما قامت به والدتها :
لقد سررت فعلا يا مصباح حين وافيتني أنت بقصة حياة مولود باكملها إنه لفتى رائع.
-
مرور وتحية مع جل الاحترام. رحمه الله
-
قاص وروائي ومحكم دولي من مواليد 1921م عارك القضاء 50 عاما
يبلغ من العمر 80 ونيف حتى تاريخ نشر الموضوع :
http://omferas.com/vb/showthread.php?...
يتيم وعصامي كون نفسه وحده بعون الله -درس الحقوق بجامعة دمشق/الدكتوراه في جامعة سان ميشيل/باريس/ بفرنسا/وبقي حافظا لقيمه الاسلاميه حافظا للقران رغم بعد المنهل .
رسام لم يترك لديه ولا لوحة وأثرا يدل على مواهبه المبكوتة التي مارسها في الظل/فوزعها جميعا.
ولم يلفت النظر اليه..لتواضعه الشديد...
قامت رابطة المحامين بدمشق بتكليفه بمحاضرات للطلاب فبها ،وقام بانشاء جريدة الاستقلال الوطنيه أيام الاحتلال الفرنسي
حيث قام خلاله بتنظيم المظاهرات بحذق وتلقى العقاب بصدر رحب.
قامت الاذاعة السورية بلقاءات عديدة من خلال مذيعها عبد الرحمن الحلبي مشكورا
قام التلفزيون السوري بإخراج بعض قصصه القصيرة مثل الأرغفة الأربعة، واليد الخضراء.
كان رئيس مجلس الدولة السوري للقضايا الجزائية ومحامٍ سابقا.
اشتهر بنظافة يده وجديته في العمل
اشتهر بالقبض على الجواسيس وذكائه بفي لتعامل معهم.
شاعر مغمور لم يصنف ولم يظهر للنور ماكتب..وماخرج للنور من كتاباته غير القضائية:
رواية:
الخندق بعد الأخير
من:
سلسلة من مذكرات قاضي تحقيق:
ارغفة الخبز الاربعة
سجناء الجليد الازرق
ومسرحيتان:
الملك نقمد
لأثر تاريخي أوغاريتي لم يفطن له أحد غيره
لعبة ديمقراطية
له مؤلفات اختصاصية لطلاب للجامعة السورية للماجستير والدكتوراه والتي تدرس حاليا.
نظام الطوارئ والأحكام العرفية ، دمشق ، مطبعة الطرابيشي 1971
القانون الاداري علما وعملا ومقارنا
المجلد الاول:مقدمة ( 600) صفحة
المجلد الثاني التنظيم الاداري ( 600) صفحة
المجلد الثالث: القضايا الادارية ( 600 صفحة)
المجلد الرابع:العقود الادارية ( 600 صفحة)
ندعو له بالعافيه فقد اعتزل الحياة الاجتماعيه حديثا
http://www.mediafire.com/file/tqtdk9h...
مازال كتاب :نظام الطوارئ والأحكام العرفية ، دمشق ، مطبعة الطرابيشي 1971
يعتبر مرجعا هاما للباحثين الحقوقيين،وقد وصل المرجع إلى العراق مؤخرا.
الشكر الجزيل للدكتور كاظم علي الجنابي دكتوراه في القانون العام , والدراسة حديثة 2015 :
عنوان الكتاب والدراسة:سلطات رئيس الدولة التشريعية في ظل الظروف الاستثنائية ، دراسة مقارنة.
رابط الكتاب:
https://books.google.com/books?id=44...%D9%8A&f=false
https://omferas.com/vb/t3526/
https://www.mediafire.com/file/1fbceohjbhnsrhc/%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25AE%25D9%2586%25D8%25AF %25D9%2582_%25D8%25A8%25D8%25B9%25D8%25AF_%25D8%25 A7%25D9%2584%25D8%25A3%
https://www.mediafire.com/file/4j5wt...أخير2.pdf/file
للتحميل مع الشكر لكل من يقراها
https://www.goodreads.com/book/show/61391908