رد: نعم ليلة تسليم جلجامش لليهود ياغير مسجل
ليلة تسليم جلجامش لليهود (١١)
الاثنين ٢٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٦، بقلم حسين سرمك حسن
ملاحظة مهمة: هذا الرأي ليس لناجح:
كنتُ أعتقد أنّ هذا الرأي الفلسفي الموفّق هو من استنتاجات الأستاذ ناجح المعموري لكن ظهر لي أنه ليس له، بل للدكتور شكري محمد عياد أيضا من كتابه (البطل في الأدب والأساطير)، وقد نقله ناجح ولم يضعه بين أقواس. وما جعلني أعود لأفتش عن أصله بجهد وعناء كبيرين، هو إحساسي أن هذا المقبوس شبه مقطوع عن السياق في الوقفة التي كان فيها ناجح في هذا القسم الذي حمل عنوان "رسالة البقرة لانقاذ بايتي"، وأنّ من المفروض أن يكون موقع هذا الإقتباس في موضع آخر. كما أنني تنبّهتُ إلى أن ناجح يستخدم مفردة "قمين" لأول مرّة في كتاباته إن لم أكن مخطئاً، في حين يستخدمها شكري عياد بكثرة في مؤلفاته.
وأجد لزاما عليّ أن أنقل للسادة القرّاء النص الكامل للإقتباس الذي "نقله" ناجح عن د. شكري عياد دون ذكر اسم الأخير، وأن أؤكّد على أن د. شكري عياد كان يعالج موضوعة التراجيديا اليونانية في القسم المعنون "الشكل الخارجي والحياة الداخلية"، وهو القسم الأول من الفصل الثالث وعنوانه "تناقض الذات والموضوع" من كتابه "البطل في الأدب والأساطير":
(وهكذا بقى الشكل القديم: الحياة التي تنبعث من الموت، البطل الذي يموت ليبعث في عالم أرحب، المجتمع الذي يتخلص من بطله النائي ليجدد حياته بروح فتيّة، روح الخير التي تُموت أو تُدفن لتظل حيّة وتؤتى ثمارها الطيبة. ولكن في داخل هذا الشكل المستقر المحافظ كان المضمون يثور ويتجدّد: فحين شعر الإنسان بفرديته أصبحت تضحية الفرد فاجعة، وشحب المعنى الإجتماعي الكوني لهذه التضحية وهو تجديد حياة الجماعة وحياة الطبيعة. وبعد أن اكتشف الإنسان فكرة الخير والشر لم يسترح من القلق، ولم يقبل أن يكون نصيب الملك الخيّر – إله الزرع ومعلّم المدنية – هو القتل والتمزيق، فحكم بها على عدوه. ثم اشتبه عليه الخير والشر نفسهما. فالحكم بالخير والشر – كما أسلفنا – ثمرة من ثمار العقل الفردي الذي لم يعد ذاتياً في الجماعة، وهذا هو الفرق بين الأعمال التي يُقبل عليها الإنسان نتيجة لحكم خُلُقي باستحسانها وبين الأعمال التي يُقبل عليها لأنها طقوس أوشعائر. ولكن الأحكام بالخير والشر يجب أن تُجسد سريعا إلى معايير اجتماعية، لتكتسب صفة الثبات، ويستطيع الفرد ممارستها وهو مطمئن إلى نتائجها، وبهذا تقترب من طبيعة الطقوس أو الشعائر التي لا يسأل الإنسان نفسه عن أسبابها. أما إذا مضى الإنسان في تحكيم عقله الفردي في الخير والشر فإنه قمين أن يقع في التناقض، لأن الأشياء لا تبدو له دائما في صورة واحدة. من ثم فقد يحكم بخيرية فعل ما، ويقدم على فعله على هذا الاساس ؛ ثم يتبيّن – بعد فوات الأوان – أنّه شرّ. ولأن مضمون التراجيديا كان مضمونا ذاتيا، ثائرا، فقد عبر عن اهتزاز فكرة الخير والشر، فأصبح في الملك الخيّر بعض الشر، واصبح في الملك الشرير كثير من الخير. ويوشك أن يكون الإنسان قد وجد نفسه في ذلك الملك الشرير أكثر مما وجدها في الملك الخيّر - ص 140 و141) (81).
ولاحظ كيف أن ما يقوله شكري يأتي متسّقا مع السياق الذي يحلّل فيه تحوّلات التراجيديا اليونانية، في حين أن نقل ناجح لهذا المقطع جاء وكأنه "ملصوق" لصقا بالسياق السردي ولا صلة له به. ولو أكمل ناجح المقطع المقتبس كاملا لوجد أن ما "نقله" عن شكري عياد لا ينطبق على تحوّلات باتا التي جرت كنقلة من سلوك خيّر إلى سلوك خيّر آخر، بل ينطبق بصورة أدق على التحولات التي انتابت المرأة (زوجة باتا) بعد انقلابها على زوجها المُحب وتحوّلها من مخلوقة إلهيّة خيّرة إلى كائن يقترف الممارسات الشريرة المروّعة بحقّ أقرب الناس إليها.
طريقة غريبة في الإقتباس:
وهذه الإشكالية المتعلّقة بـ "نقل" هذا المقطع تحيلني إلى مسألة أخرى مهمّة، وهي طريقة ناجح الغريبة في الإقتباس من الكتّاب الآخرين. فقد اعتدنا على أن يكون الإقتباس في البحوث العلمية والأدبية على حد سواء هو أن يوضع المقبوس بين قوسين يحدّدان بداية الإقتباس ونهايته، ثم يوضع رقم في نهاية المقبوس يشير إلى رقم الهامش الذي سوف يشير فيه الكاتب إلى اسم المصدر الذي اقتبس منه. ولكن طريقة ناجح غريبة فهو يذكر عدة كلمات من الإقتباس بدون قوس يؤشّر البداية، ثم يضع علامة نجمة صغيرة يشير بها إلى اسم المؤلف والمصدر في الهامش، ثم ينطلق في السرد فلا تعرف أين ينتهي الإقتباس، وما هو القول الذي لناجح والذي لغيره، إلى أن تأتي نجمة صغيرة جديدة تؤشر لاقتباس جديد.. وهكذا. فمثلاً هذا الإقتباس الذي تحدّثتُ عنه، كان متصلاً باقتباس آخر من كتاب "ألف ليلة وليلة وسحر السردية العربية) للباحث داود سلمان الشويلي، ولكنك لا تعلم اين ينتهي رأي الشويلي، ولا أين يبدأ رأي ناجح، ولا أين ينتهي هذا ليبدأ رأي شكري عياد!
واقتباسات غير مناسبة من روبرتسون سمث:
وليست طريقة تأشير بداية ونهاية الإقتباس وحدها هي الخاطئة والمُربكة لدى ناجح، ولكن اختيار المقبوس المناسب ووضعه في سياقه الملائم لتعزيز آرائه خاطئة ومُربكة ايضاً. وساضرب هنا مثالين آخرين على ذلك من خلال مراجعة مقبوسين أخذهما عن الباحث الإسكتلندي روبرتسون سمث من كتابه الشهير "ديانة الساميين":
أولاً: يتحدّث ناجح عن العُري كعلامة من علامات الألوهة الشابة المُذكرة وكهنتها وخدمها، طبعاً لا علاقة لهذا الموضوع بـ "باتا" لأنّ الأخير فلّاح مصري وكان يرتدي ملابسه دائماً، ولكن ناجح يجب أن يذكر كلّ شيء عن الإله القتيل ما دام قد اقتنع بأن باتا يمثل نموذجاً للآلهة القتيلة:
(وعلى الرغم من ان حكاية الاخوين لم تشر لعري "بايتي" لكننا نجد في الطقوس المماثلة وجود العري، علامة من علامات الالوهة الشابة المذكرة وكهنتها وخدمها، ولذا كان المخصي يطوف عاريا لخظة قيامه بالطقس الديني لانه لا يجوز الابقاء على ثوب المخصي بل يجب استبداله، ويكون الثوب النسوي تعويضاً له، بعدما تغيرت عناصر الرجل الذكورية، ويبدو بان ذلك له علاقة مباشرة بالقداسة والدناسة. ولم (من هنا يبدأ إقتباس ناجح من روبرتسون سمث) يكن للعبد او لغيره من غير المقدسين* أن يدخل موضعا مقدسا دون ان تخلع عنه ثيابه لان الثياب باكتسابها القدسية بمجرد دخولها نطاق الموضع المقدس لن يكون لها اي نفع من بعد في حياته العادية. وفي حالة الثوب الذي كان ملطخا بدم تقدمة الخطيئة نجد ان الحرمات الناتجة عن الاتصال بالاشياء المقدسة يمكن ازالتها بالغسل كنظيرتها الناجمة عن الاتصال بالنجاسة – ص 90).
لنعد إلى النص الأصلي لروبرتسون سمث لنعرف ضمن أي سياق جاء، وهل هو موافق لحديث ناجح وسياقه. يقول روبؤتسون سمث:
(وفي مكّة في عصر الوثنية كان البدو يطوفون حول الكعبة إما عراة أو في ثياب مستعارة من أحد الحُمس، أي الجماعة الدينية بالمدينة المقدسة (...) وتُفسّر العادة المكّية بأنهم ما كانوا ليقيموا الطقس الديني وهم في ثياب ملطّخة بالخطيئة، إلّأ أن السبب الحقيقي مختلف تماما (ولاحظ كيف سيبدأ اختلاف التحليل من هنا – الباحث). فيبدو أن البعض كان يطوف بثيابه العادية أحيانا، ولكن في هذه الحالة لم يكن يستطيع أن يلبسها أو يبيعها مرة أخرى. بل كان عليه أن يتركها على بوابة الحرم. وقد اصبحت "حريما" (كما يدل البيت الذي يورده ابن هشام) بدخولها للمكان المقدّس. ولو بقي هناك أي شك في صخة هذا التفسير فهو يزول بالاستشهاد بفقرة وردت بكتاب "المناطق الجنوبية في نيوزلنده" لشورتلاند، وقد قدمها لي الاستاذ فريزر. يقول شورتلاند: (وهنا سوف يبدأ اقتباس ناجح أي من سياق مُرتبط بنيوزلنده !) "
(لم يكن للعبد أو لغيره من غير القديسين أن يدخل موضعا مقدسا دون أن يخلع عنه ثيابه، لأن الثياب باكتسابها للقدسية بمجرد دخولها نطاق الموضع المقدّس لن يكون لها اي نفع بالنسبة له من بعد في خياته العمليّة)
وفي حالة الثوب إن كان ملطخا بدم تقدمة الخطيئة نجد أن الحرمات الناجمة عن الاتصال بالأشياء المقدّسة يمكن إزالتها بالغسل كنظيرتها الناجمة عن الاتصال بالنجاسة. وبنفس الصورة نجد إن الإتصال بكتاب مقدّس أو تميمة عند اليهود "كان ينجس اليدين" ويقتضي الغسل، وكان كبير الكهنة في يوم الغفران يغتسل بالماء ليس قبل ارتداء الثياب المقدّسة وحسب، بل حين يخلعها أيضا. ويؤخذ مثل هذا الغسل عند الشعوب البدائية على أنه يُقصد به الإزالة المادية الحرفية لمبدأ الحرمة المُعدي، وكل تأويلاته الرمزية لم تكن إلا محاولة بُذلت في المراحل المتأخرة من تطور الدين لتبرير التمسك بالطقوس القديمة – ص 498 و499).
من خلال القراءة السريعة قد يقول أحد السادة القرّاء: وأين الفرق بين ما يقصده ناجح وما يقصده روبرتسون سمث؟
لكن القراءة الذكية الجدلية الخلاقة التي تغوص في أعماق النص وتضع الأشياء ضمن سياقاتها وداخل صورتها الكلية تقول خلاف ذلك. إن ما يقوله سمث هو جزء من نظريته لتفسير موضوعة "الحرمة" التي – أي النظرية - ترى استحالة فصل عقيدة القدسية عن النجاسة عند الساميين بسبب نسق "الحرمة" هذا الذي يراه متساويا في القداسة مع النجاسة. وعليه فإن العبد الذي يدخل الموضع المقدّس "مكّة مثلا حسب قول سمث" تصبح ملابسه مقدّسة ومحرّمة ولن يستطيع استخدامها في خياته اليومية اللاحقة، لا يلبسها ولا يبيعها، ولهذا فهو إمّا أن يدخل عارياً ويترك ثيابه عند الباب، أو يستعير ثياباً من المجموعة المقدّسة التي تشرف على الموضع. وهو – أي سمث – يرى أنّ الإزالة المادّية الحرفية (تشبه كشط النجاسة عن الجسد) لمبدأ الحرمة المُعدي هي السبب في خلع الثياب، وأن أي تأويل رمزي هو محاولة متأخرة لتبرير التمسك بالطقوس الدينية. أي أنّ هذا الخلع للملابس وغسلها من آثار الخطيئة (خطيئة بفعل مقدس أو نجس) هو حالة يومية "هادئة" وطقسية لا يمكن أن تكون ضمن طقوس شخص مبتور القضيب ويركض نازفاً، فيمكن منح هذا الشخص ملابس ذكورية جديدة مثلا، ولكنه يُمنح ملابس أنثوية لإستكمال الطقس حسب الهوية الأنثوية الجديدة ليصبح من "بغايا" المعبد إذا جاز التعبير. وحتى الثوب المُلطّخ بالدم – مثل دم التقدمات الحيوانية وهي مقدّسة أو دم الإخصاء – يمكن غسله وإعادة استعماله. ويمكن لأي شخص أن يدخل بملابسه العادية النجسة على أن تُصبح محرّمة عليه بعد أداء الطقس.
ثانياً: يتحدّث ناجح عن الإخصاء، وكيف يمكن اعتباره بديلا جزئياً للتضحية الآدمية، فيقول:
(ويمكن اعتبار الاخصاء "قطع الذكورة" بديلا جزئيا لطقس التضحية الادمية،، والاكتفاء بالجزء تعويضا عن الجسد الكلي الذي كانت الاقوام السامية تقدمه الى الالهة. ومن (ومن هنا سيبدأ اقتباس ناجح من روبرتسون سمث) منظور مجرد* يبدو ان العرب لما كانوا يقبلون بالاستعاضة عن الانسان بحمل (الصحيح بجمل أي بعير ولاحظ كم تغيّر النقطة الواحدة المعاني في اللغة العربية) وتطور مبدأ الاستعاضة واحلت الشعوب ما يماثل بنيتها الفكرية والدينية. – ص 93).
ولنعد – كعادتنا – إلى النص الأصلي الذي خُلع المقبوس من سياقه. يقول روبرتسون سمث:
(ومن منظور مجرّد يبدو أن العرب لما كانوا يعترفون بالاستعاضة بالغريب عن ابن القبيلة ربّما كانوا يقبلون الاستعاضة عن الانسان بجمل. وكانت عملية الاستعاضة بتقدمة سهلة المنال عن الفدوّ الأكثر كلفة الذي يتطلبه الطقس التقليدي تطبّق على نطاق واسع في العالم القديم، وهي تندرج ضمن النسق العام للإيهام الذي كانت الشعوب الأولى تتغلب به على صعوبة التنفيذ الدقيق للأحكام المتوارثة في ظل خضوعها التام لحكم السوابق. فإذا كان أحد الطقوس الرومانية يتطلب ذبح أيل وكان الحصول على الأيل صعباً، كان يُستعاض عنه بشاة مع التظاهر بانها أيل، وهو ما يُعدّ احتيالا بلا شك، لكنه احتيال كانت الآلهة تتغاضى عنه تأدّباً حتى لا يخفق الطقس كلّه. – ص 397).
أوّلا أعتقد أن ناجح قد اقتبس هذا المقطع من مقتبس آخر لأن جملة (وتطور مبدأ الاستعاضة... والدينية) غير موجودة في المقبوس الأصلي.
وثانياً فإن سمث يتحدّث عن الإستعاضة (أي أن نستعيض عن شيء بشيء آخر، أي أن نجعل في مكانه شيئاً آخر) أي أن البشر البدائيين – كما يقول سمث – كان عليهم التضحية بإنسان من أجل الآلهة فيلتفون على الأمر ويستعيضون عن هذا الإنسان بحيوان، أو يستعيضون عن حيوان ثمين أو نادر بحيوان آخر أرخص أو شائع. والعرب – كما يقول سمث – كانوا يستعيضون بالجمل بديلا عن الإنسان.. فهل الجمل "جزء" من كل يا ناجح؟
رد: نعم ليلة تسليم جلجامش لليهود ياغير مسجل
الكتاب:
http://omferas.com/vb/t58559/#post225099
شكرا لهذا الجهد المبذول والمشكور.
رد: نعم ليلة تسليم جلجامش لليهود ياغير مسجل
ليلة تسليم جلجامش لليهود (١٢)
عودة إلى زوجة باتا:
لقد «اختارت» هذه المرأة؛ زوجة باتا، وكذات فريدة، أن تفعل الشر – طبعا هي «تراه» خيراً، وهنا نتحوّل إلى الفلسفة المدوّخة – مثلما «اختارت» المرأة؛ زوجة الأخ الأكبر، قبلها، أن تزني بمحارمها. وهي قرارات ليست بسيطة أبداً. لقد اختارت كلٌّ منهما طريقا أوصلهما إلى الخراب – وأقول الخراب لا الموت لأن نهاية زوجة أنبو واضحة وصريحة في الحكاية حيث قتلها ورمى جثتها للكلاب، أمّا نهاية زوجة باتا، فغير واضحة لأسباب سوف نناقشها في حينه - وكانتا مصرّتين بعزم على طريقيهما، و«مسؤولتين» عن أفعالهما. والحالة بالنسبة لزوجة باتا أشد ثراء بالمعاني. فقد خلقتها الآلهة وفيها (من جوهر كلّ إله) كما يقول النص الأصلي للأسطورة، وهذا يعني أّنّها مجبولة من روح آلهة التاسوعاء الخيّرة كلّها مع حيّز ضئيل جدّا للشر(رع الشمس، شو الهواء، تعنوت الرطوبة، جب الارض، نوت السماء، اوزوريس الخضرة والنهار، إيزيس الفجر، نفتيس الشفق، وأخيرا ست الصحراء والفوضى والشر). فهل كان وجود "جوهر" الأخير الذي هو جوهر شر في المرأة التي كان فيها من جوهر كل إله خيّر، هو العامل الكامن الذي فجّر نوازع الشر والعدوان في ذاتها؟ هذا التفجّر الذي ساعدت عليه البيئة الفرعونية الجديدة المستبدة والفاسدة؟ هل هذا الإخراج الأسطوري هو تعبير عن موقف فلسفي من الحياة يعكس تصارع دوافع الخير والشر في داخلنا، ودور إرادتنا معزّزة بالعوامل الخارجية في اختيار أيّ منهما؟ من المؤكد أن هذا واحد من دروس الأسطورة، فالأسطورة نتاج للاشعور وفي العادة تضرب حصاة اللاشعور عدة عصافير في وقت واحد.
ناجح ينقل رأياً لا يتفق مع آرائه!:
والغريب أن ناجح يعود لينقل لنا الرأي الدقيق لشكري محمد عياد على الصفحة 106 من كتابه، ولكن بطريقة لا تتفق مع تحليلاته هو (أي ناجح)، بل تتفّق مع تحليلات شكري عياد التي لا يقرّها ناجح. ولنقرأ - أولا - ما ذكره شكري من وجهة نظر هي أصلا وقفة في مسار تحليل التراجيديا اليونانية بصورة رئيسية. يقول شكري عياد:
(وكان البطل هو نموذج الإنسان الذي يخرج من عالمه الصغير – عالم الأم – إلى عالم القبيلة الممتد في الماضي والمستقبل، المرتبط بقوى كونية أكبر من القبيلة وأوسع في معنى الإنسانية نفسه. ثم حين وُجد نظام الملكية المقدسة كان البطل هو نموذج الإنسان الذي لا فضل له في نفسه ولكن كل فضله هو اتصاله الأوثق بهذه القوى الكونية التي تحدّد حياته وموته. ولم يستطع الإنسان قط أن يخرج من هذا النطاق الذي فرضه عليه وجوده نفسه، ككائن يعيش في جماعة ويخضع لظروف مادية خارجة عن إرادته، ولكنه استطاع فقط – حين شعر بفرديّته – أن يعيش في صراع دائم مع هذا النطاق الاجتماعي والكوني، ومن خلال هذا الصراع استطاع أن يحقّق كل مبتكراته، بل استطاع أن يعدّل في هذا النطاق نفسه، وإن لم يستطع أن يحطمه تحطيما تاماً - ص 140) (82).
ولنقدّم الآن ما اقتبسه ناجح والتغيير "البسيط" الذي أحدثه فيه متوهّماً أنه بهذا سوف يجعل سياق تحليله لسلوك باتا متماسكا مع باقي أطروحاته، وإذا به يقع في مصيدة ارتباك كبير ومشوّش يُربك استنتاجاته ويطيح بفرضيّاته. يقول ناجح ناقلا كلام شكري عياد السابق:
(وكان البطل – بايتي – نموذجا للانسان الذي يخرج في عالمه الصغير الى عالم القبيلة الممتد - ص 106) (83).
ولاحظ أن ناجح حذف تعبير (عالم الأم) الذي هو أساسي جداً بالنسبة لتحليل شكري عياد كما سنبيّن ذلك. ولنسأل ناجح الآن بحَيْرة: أي قبيلة هذه التي خرج إليها باتا؟
ويواصل ناجح اقتباسه بنفس المفردات إلى نهاية المقطع وهي:
(ومن هذا الصراع استطاع أن يحقق كل مبتكراته... وإن لم يستطع أن يحطمه تحطيما تاماً - ص 107) (84).
حذف ناجح – كما قلت – تعبير (عالم الأم) الذي يخرج منه البطل حسب تحليل شكري عياد إلى عالم القبيلة. فماذا يقصد شكري عياد؟
لن نستطيع فهم وجهة نظر شكري عياد إلّأ إذا عدنا إلى الأسطر القليلة التي تسبق هذا المقطع، وضمن سياقها، والتي يقول فيها:
(ولعلنا نستطيع الآن أن نفهم جوهر التراجيديا اليونانية بعد أن وضعنا هذه التراجيديا في مكانها من تاريخ التطور الإنساني. فقد ظهر هذا الفن – حسبما نتصوره – في عهد نشوء الفردية، وهو نفس العهد الذي ظهرت فيه بواكير الدين والعلم والفلسفة الأخلاقية، كانت هذه كلها ثمرات لبدء شعور الإنسان الزراعي بذاته ومجتمعه وعالمه على أنها مفاهيم مستقلة، وقبل ذلك كان "الدين العتيق"لا يعني إلّا وحدة الإنسان مع جماعته وعالمه، وكان البطل هو نموذج الإنسان الذي يخرج من عالمه الصغير – عالم الأم – إلى عالم القبيلة الممتد في الماضي والمستقبل... إلخ) (ص 139) (85)
فانظر ما الذي فعله اقتطاع ناجح للنص، ليلائم وجهة نظره، من نقل تحليل شكري عن التراجيديا اليونانية إلى أسطورة وحكاية خرافية من سياق آخر غريب عنها. فبعد أن يحلل شكري تراجيديتين يونانيتين معروفتين هما "الباكحاي" ليوربيدس و"أوديب ملكا" لسوفوكل، اللتين يختلف في نموذجهما، الشكل الخارجي المُستمد من ألأسطورة الجماعية وفي حياته الداخلية التي تبعثها الثورة الإنسانية على هذا الشكل، وفي الدافع النفسي الذي يسيّر البطل في ثورته واصطدامه بالشكل الخارجي. وبعد أن يفصّل تمظهرات الشكل الخارجي (الملك المقتول)، والحياة الداخلية (الملك المقتول هو الذي يبحث عن أصل البلاء الذي حل بمملكته ويلح في ذلك وهو أصل البلاء)، والدافع النفسي (السبب الذي يوقع البطل في الصراع مع القوة الخارجية)، يوصلنا شكري إلى الإستنتاج الذي يتسق مع مسار تحليله ومصير بطله وطبيعة ماساته، ولا يتفق – أبداً - مع مسار تحليل ناجح ومصير بطله باتا:
(إن أساس الدوافع – عقدة أوديب في هذه الحالة - هو حبّ الذات، الذي ينتهي بجعلها مركزاً للكون. فالملك أوديب في اتهاماته العنيفة لتيزياس وكريون يكشف عن حبٍ لذاته ليس الإلتصاق بالأم (والزواج منها) إلّأ مظهرا حادا له. والنهاية الفاجعة لأوديب، وهي نفيه ثم موته، معناها انتصار القوى الخارجية ثم تصالح البطل معها، وهذا يقابل من الناحية النفسية، تركّز الليبيدو حوله بالذات، ثم اتجاهه إلى الكون ثم فناءه فيه - ص 144 و145) (86).
وواضح أنّ نهاية أسطورة باتا ومصيره مختلفة تماما عن نهاية التراجيديات اليونانية التي يتحدّث عنها شكري عياد كما سنرى قريبا، مثلما تختلف طبيعة المرحلتين التاريخيتين والبنيتين الإجتماعيتين اللتين أوجدتهما.
التناص الحيّ ؛ تحليل مشابه لتحليل شكري عياد عند "برونو بتلهايم":
وقد وجدتُ تحليلا لحكاية الأخوين مطابقا لتحليل شكري عياد وذلك في كتاب "التحليل النفسي للحكايات الشعبية" لبرونو بتلهايم (ترجمة طلال حرب – صادر عن دار المروج في بيروت عام 1985) (والكتاب تمّ تأليفه في عام 1976 ). يقول برونو بتلهايم:
(القصص التي تركّز على مسألة "الأخوين" تضيف إلى الحوار الداخلي بين الهو والأنا والأنا الأعلى تفرّعات أخرى: الميل إلى الإستقلال وتأكيد الذات وعكسها، الميل إلى البقاء بطمأنينة في المنزل العائلي بالقرب من الوالدين... في أغلب الحكايات التي تركز على هذه المسألة: الأخ المغامر الذي يغادر المنزل (وقد يطرده أخوه منه) هو الذي يتعرض لأخطار مميتة.. هذه الحكايات يبدو أنها تقول لنا:
إذا لم ننشر أجنحتنا كي نترك العش، لا نحطم الروابط الأوديبية التي حينئذ تدمرنا. الحكاية المصرية القديمة تنمو انطلاقا من موضوع أساسي هو الطبيعة المدمرة في الروابط الأوديبية والتنافس الأخوي أي من الحاجة إلى الانفصال عن منزل الطفولة وتأسيس حياة مستقلة. حتى ينتهي كل شيء بشكل حسن، يجب على الأخوين أن يتحررا من الغيرة (الأوديبية والأخوية) وأن يسند كل منهما الآخر... تؤكّد الحكاية بوضوح أن الشاب [= باتا] ليس لديه أفضل من مغادرة المنزل العائلي في تلك الفترة من حياته كي يحمي نفسه من المشاكل الأوديبية... بهذا الشكل، الحكاية أساسا مخصصة للتحذير: إنها تنبئنا أن علينا أن نتحرر من روابطنا الأوديبية وأن نعلم أن الطريقة المثلى لتحقيق ذلك هي أن نتدبر حياة مستقلة بعيدا عن المنزل العائلي. منافسة الأخوين هي أيضا معروضة في هذه الحكاية كمحرك قوي. ردّة فعل الأخ الأكبر الأولى هي أن يقتل أخاه بسبب الغيرة. الجزء الأفضل من طبيعته يقاوم غرائزه السفلى وينتهي به إلى التغلّب عليها - ص 126 و127) (87).
وإذا لم يكن الكاتبان يمتحان من مصدر واحد – وهذا هو الإحتمال الأكبر -، ولأن كتاب شكري عياد لم يُترجم إلى الألمانية مثلا لنقول – وهو الأسبق – أن برونو بتلهايم هو الذي اقتبس منه أو سطا عليه، فإن الأمر يكون هنا "تناصّاً" أصيلاً. وهذا هو معنى التناص العلمي الحيّ.
رد: نعم ليلة تسليم جلجامش لليهود ياغير مسجل
ليلة تسليم جلجامش لليهود (١٣)
من أين يأتي ناجح بهذه المعلومات التي لا أساس لها؟:
يقول ناجح عن باتا:
(عوضته الآلهة / وحصرا الاله حورس عن قضيبه المقدم قربانا للاله اوزوريس لان نص الحكاية يعلمنا بان الشاب "بايتي" قد نجح في اتصال ادخالي مع الزوجة التي خلقتها الآلهة وقدمتها له) (ص 76) (88).
ولا أعلم من اين أتى ناجح بهذه المعطيات التي بنى عليها مثل هذه الاستنتاجات؟!
فالآلهة التسعة - وحصراً الاله حورس - لم تعوّض باتا عن ذكورته المفقودة بذكورة جديدة، وقد قال باتا – كما رأينا - للفتاة بعظمة لسانه: "أنا مثلك امرأة".. أي أنه مازال فاقد الأعضاء التناسلية.
ولا أعلم كيف عرف ناجح أيضاً أن باتا قد ضاجع الفتاة باتصال ادخالي. فلا توجد - لا في القصة كما صاغها سليمان مظهر ولا في النص الأصلي للأسطورة - أي كلمة أو إشارة إلى ذلك الإتصال الإدخالي المزعوم. وحين يثبت عدم وجود دليل علينا أن نتحوّل إلى تحليل شخصيّة الباحث ومحاولة الإمساك بالعوامل الخفية التي لم تدفعه إلى هذا "التخييل" حسب، بل إلى الحماسة المفرطة في اعتبار الإخصاء طقسا اوزيريسيا بخلاف كل الأدلة الأسطورية والتاريخية، وفي اندفاعته المستميتة لجعل كل الرموز الذكورية في الشرق – وفي مقدمّتها التوراتية – نماذج يجمعها الإخصاء والإتصال الإدخالي وهجران الإلهة الأم، وفي التعميم الشامل للدافع الجنسي على أغلب الأساطير والحكايات، وغير ذلك الكثير من القسر والإكراه التفسيري الذي قد يعكس مكبوتات لاشعورية فاعلة في اللاوعي الفردي للباحث، وهي مكبوتات – حين تتحكّم وتتسيّد – تبدأ بإرباك النظرة الصافية التي يجب أن يتمتع بها الباحث، وتوصل إلى طغيان العوامل الذاتية على العوامل الموضوعية مع إيماننا بأن حضور العوامل الذاتية أمر محتم في البحث العلمي خصوصا في المباحث الإنسانية، وأن لا وجود للناقد الموضوعي الحديدي.
وفي موضع آخر يعود ناجح للتأكيد على نفس المسألة، مسألة تعويض الآلهة لباتا عن ذكورته فيقول:
(هناك تعويض إلهي [في بعض الحالات] للذكورة المقطوعة، ومكافأة الشاب الذي مارس فعل الاخصاء، وقد تحقق تعويض في حكاية الاخوين لذكورة الشاب "بايتي" ومنحته الالهة زوجة جميلة جدا، واعادت له ذكورته، وطاقته الجنسية - ص 93) (89).
والمشكلة أن حتى الشكل الأدبي للأسطورة الذي صاغه سليمان مظهر لم تكن فيه إشارة إلى تعويض الآلهة ذكورة باتا المقطوعة، ولا إلى الإتصال الإدخالي المزعوم. ألا تعكس هذه الإضافات الشخصية جانباً من المكبوت الشخصي الذي يمكن أن يضيف إلى الأسطورة الأصلية ليخلق اسطورة جديدة؟!
حول تاريخية حكاية الأخوين وأهميّتها في فهمها:
في القسم الرابع من الفصل الثاني الذي يحمل عنوان (حكاية الأخوين وأساطير الشرق القديم) يقول ناجح المعموري:
(إن تاريخية تدوين حكاية الأخوين بـ 1300 ق. م، وانتشارها في العالم عام 1852 - ص 113) (90).
وهذا نقلا عن (فردريش فون ديرلاين) صاحب كتاب (الحكاية الخرافية) وليس (فريد رسن) كما ذكره ناجح في موضعين.
وسأتوقف عند هذا الجانب التاريخي قليلاً لأهميته في تأويل الحكاية كما سنرى. وبدلا من أعود إلى (فريدريش فون دير لاين)، وهو باحث ألماني في مجال الأدب الشعبي، أعود إلى إلى الباحث البريطاني "فلندرز بيتري - W.M. Flinders Petrie" (1853 – 1942) المُختص بالمصريّات، والذي قام بالإشراف على ترجمة وتحقيق برديّة هذه الحكاية، ومحرّر كتاب "حكايات خرافية مصرية:
مترجمة من البرديات – السلسلة الثانية الأسرة الحاكمة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة" - كما ذكرتُ سابقاً - والذي قال إنّ هذه الحكاية تعود إلى حكم الفرعون (سيتي الثاني) الحاكم الخامس من الاسرة التاسعة عشر، والذي حكم مصر من عام 1200 ق.م إلى عام 1194 ق. م. والإحالة واضحة في البيانات المُثبّـة في نهاية المخطوطة والتي تشير - ولأول مرة - إلى لعنة تقع على من يتكلم ضد هذه البردية بدلا من عبارة المباركة التي كانت تنتهي بها الكتابات التي تسبق هذا العصر، وهذه سمة كتابات عصر الرعامسة، ومنهم "سيتي الثاني".
وقد امتازت مدّة حكم سيتي الثاني بكثرة المؤامرات والمكائد. وأهم تلك المؤامرات التي انشغل بها لمدة أربع سنوات من الست سنوات التي حكمها، هو الصراع المرير ضد أخ غير شقيق له هو (أمون مس) الذي يُقال أنه اغتصب العرش منه لمدة من الزمن.
ومن الملاحظات التي تلفت الإنتباه، والتي طرحها بيتري، هي أن الحكاية غير متجانسة فنّيا أو سرديّاً. فالقسم الأول متماسك وجميل وفيه الشخصيات متناسقة وحوادثها واقعية ومعقولة، أمّا القسم الثاني فهو مرتبك ومتناقض ومليء بالخرافات والمعجزات مما يدل على أن القسم الأول يعود إلى عهود أقدم من عصر المملكة الحديثة (الأسرة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة) في حين أضاف أحد الكتّاب المتطفّلين أحداث القسم الثاني. واعتبر بيتري – وهذا رأيه الشخصي – أنّ اللعنات التي صبّها الكاتب على من لا يبارك هذه الحكاية حين يقرؤها هي أصلاً موجّهة للكاتب بفعل إحساسه بتطفّله وسوء تلاعبه بها.
هل هذا معقول يا ناجح:
حكاية باتا (1300 ق.م) قبل أسطورة تمّوز (3000 ق.م)؟:
ومن جديد، يفاجؤنا ناجح برأي متطرّف ومتحمّس يعتبر فيه هذه الحكاية هي أصل كل عقائد الخصب والإنبعاث في الكرة الأرضية !! فهل هذا معقول؟ حكاية تعود – كما يقول هو نفسه – إلى سنة 1300 ق. م تكون أصلا لعقيدة الخصب العراقية مثلا التي تعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد؟! هل هذا استنتاج منطقي؟!. يقول الأستاذ ناجح:
(واعتماداً على تاريخ المدونة نستطيع الإشارة إلى أن هذه الحكاية هي الأصل لكثير من الحكايات الخرافية المماثلة لها في بعض من عناصرها وهي أيضا الينبوع الذي تغذّت منه الأساطير الخاصة بعقائد الخصوبة والانبعاث وأضفت ملمحاً أو أكثر على عدد من الآلهة في الشرق وخصوصاً الآلهة الشباب الذين وردت إشارات لهم في متن الدراسة - ص 113 و114) (92).
هكذا بجرة قلم واحدة، واستنتاج متحمّس سريع، نشطب على تاريخ مثبّت وعظيم يفوق حكاية الأخوين آلاف المرّات.
يتحدّث العلّامة الراحل "طه باقر" عن الكيفية التي عُرفت بها الأسطورة العراقية (نرجال وإيريشكيجال) التي تدور حول وصف عالم ما بعد الموت بالقول:
(وتنحصر معرفتنا بهذه الاسطورة فيما جاء إلينا مدوّنا على كسرتين من لوحين طينيين عُثر عليهما في مصر، في الموضع المسمّى "تل العمارنة" (عاصمة الفرعون اخناتون في مصر الوسطى)، من العصر الذي يسمّى في تاريخ وادي النيل بعصر العمارنة (القرن الرابع عشر ق. م)، وقد سبق أن ذكرنا أن بعض النصوص الأدبية الأخرى من حضارة وادي الرافدين عُثر عليها في مصر، حيث يرجح كثيرا أن مدرسة خاصة أُنشِئت هناك لتُعلّم الكتبة المصريين مبادىء الكتابة المسمارية بلغتها البابلية، يوم أصبح الخط المسماري واللغة البابلية لغة الدبلوماسية والمراسلات الدولية في أقطار الشرق الأدنى والأقاليم المجاورة - ص 234 ) (93).
والمشكلة الأخطر هي أن ناجح له في كل فصل رأي، ويبدو أيضا أنه حين يكتب لا يراجع ما يكتبه لكي يقارن اللاحق بالسابق كما هي عادة الباحثين الثقاة، كما أنه لا يمتلك فرضيات ثابتة يتمسك بها لكي لا يناقضها بين صفحة وأخرى. كما أنّه ينقل الإقتباسات من كل المصادر بشرط أن يكون فيها مصطلحات إخصاء وألوهة شابة وسلطة بطريركية وثور سماوي وبقرة مقدّسة وقضيب واتصال إدخالي وغيرها. وهذا يوقعه في التناقضات من ناحية، وفي التكرار الغير مُمحّص من ناحية أخرى.
رد: نعم ليلة تسليم جلجامش لليهود ياغير مسجل
ليلة تسليم جلجامش لليهود (ظ،ظ¤)
تناقض غريب.. واعتراف وتصحيح
لقد قال ناجح – كما أشرت قبل قليل - إن حكاية باتا هي الينبوع الذي تغذّت منه الأساطير الخاصة بعقائد الخصوبة والانبعاث وأضفت ملمحاً أو اكثر على عدد من الآلهة في الشرق وخصوصا الآلهة الشباب الذين وردت إشارات لهم في متن الدراسة (يقصد طبعا تموز/ دوموزي وديونيسس وآتوس وغيرهم).
هذا ما قاله ناجح على الصفحة 113، فتعالوا نستمع الآن إلى ما قاله على الصفحتين 110 و111، أي قبل صفحتين من استنتاجه المفرط السابق. يقول ناجح:
(ويمكننا الإشارة إلى أن شخصية الشاب بايتي تمثّل امتداداً طبيعياً لعدد غير قليل من الحكايات والخرافات، وكذلك الأساطير وتتبدّى من خلاله عناصر عدد من الآلهة الشباب في الشرق مثل أوزوريس /أدونيس/ديونيسيس/أتيس - ص 110) (94).
ماذا يعني "الإمتداد الطبيعي" الذي وصف به ناجح شخصية بطله باتا؟
يعني أن باتا امتداد لآلهة قبله، آلهة هم الأنموذج السابق عليه، وهو – أي باتا - امتداد للآلهة الشباب الذين سبقوه مثل أدونيس وأتيس وغيرهما.
ثم يستعير وجهة نظر من المفكر الفرنسي "مرسيا إيلاد" في كتابه "العود الأبدي" ليسند وجهة نظره هذه فيقول:
(وأقدم أسطورة تتحدّث عن عذاب إله وآلامه هي أسطورة موت الإله تموز وانبعاثه. وقد عرفت هذه الاسطورة تكرارا وتقليدا في جميع أنحاء الشرق القديم تقريبا وظلت آثار سيناريو هذه الأسطورة باقية حتى ظهور المذاهب العرفانية - الغنوصية - التي عُرفت بعد نشوء المسيحية - ص 111) (95).
هذا يعني – باعتراف ناجح وبعظمة لسانه كما يُقال – أن أقدم أسطورة لإله قتيل كانت أسطورة تموز العراقي وليس أوزوريس المصري كما كان يكرّر، وأن أسطورة باتا ليست هي الأصل والينبوع الذي تغذّت منه الأساطير الخاصة بعقائد الخصوبة والانبعاث وأضفت ملمحاً أو أكثر على عدد من الآلهة في الشرق وخصوصاً الآلهة الشباب كما قال بعد صفحة واحدة من قوله هذا.
يواصل ناجح طرح وجهة النظر الصحيحة التي سينقضها بعد صفحة واحدة:
(لقد مات "بايتي" واستعاد حياته سحريا وظل الموت يتكرر، ولكنّه تكرّر غير موسمي محكوم بعناصر البنية السردية لنص حكاية الأخوين - ص 111) (96).
أي أنّ حكاية باتا تفتقر إلى أهم ميّزة من ميّزات أسطورة الألوهة القتيلة الشابة، وهي التكرار الموسمي. فكيف سيصير أصلا وينبوعا لأساطير الخصوبة والإنبعاث للآلهة الشابة في الشرق التي تتميّز بطقوسيتها وتجدّدها وتكرارها السنوي؟؟
تناقضات جديدة
ثمّ يواصل ناجح القول:
(وقراءة الحكاية [= حكاية الأخوين] عبر المدلول الرمزي لبنية الحياة / والموت، ستجد تناظرا مع الألوهة الشابة المذكرة، والاختلافات معها طفيفة مع ضرورة ملاحظة العود الانبعاثي الحلولي في جسد آخر حيواني / نباتي والمهم هو استمرار حياته من خلال منظوم (هكذا وردت!) الخصوبة وعقائدها في الشرق لذا أشرنا إلى أن هذه الحكاية امتداد طبيعي لعدد غير قليل من الأساطير والآلهة، واستطاعت التوحيد بين السحري / الديني، الالهي وبين الاجتماعي / السياسي - ص 111 و112) (97).
وهكذا يناقض ناجح نفسه من جديد عبر صفحتين أو ثلاث.
لكن هكذا نعود – وهذه هي النظرة الموضوعية الغير منفعلة – إلى اعتبار حكاية باتا امتدادا لأساطير الآلهة الشابة القتيلة في الشرق بدءاً من اسطورة الإله تموز العراقي، وليست أصلا وينبوعا لأساطير الخصوبة والإنبعاث للآلهة الشابة في الشرق، كما سيقول ناجح بعد قليل في مناقضة صريحة لنفسه وللوقائع الموثّقة.
وناجح نفسه قال ذلك بصورة مبكرة، ولكنه نسي ما قاله. لقد قال:
(واندفاع الشاب "بايتي" لقطع ذكورته يفضي به إلى محيط الألوهية الشابة التي عرفتها ديانات الشرق الأدنى القديم - ص 76) (98).
وبعد أشواط من الكتاب يعود ناجح ليناقض نفسه مجدّداً حين يقول:
(وانطلاقا من هذه التوصّلات الجديدة، فان الشاب "بايتي" حاز على بعض من عناصر الالوهة الشابة في سوريا / واسيا الصغرى، ومصر. وهو أكثرها قرباً للاله اوزوريس لانهما يمثلان نتاجا واحدا للبنية الذهنية الاسطورية في مصر القديمة، وهذا لا يلغي خاصية التماثل مع الالوهة الشابة المذكرة الاخرى، والتي تسيدت في ديانات الشرق القديم - ص 142) (99).
وما يعنيه السطر الأول هو أن الفعل "حاز" يجعل باتا في موقع من يأخذ لاحقاً من أنموذج موجود سابقاً ؛ أي أن محيط الألوهة الشابة في ديانات الشرق الأدنى القديم كان موجودا ومؤسّساً ومعروفاً، ثم جاء باتا لينتمي إليه عبر فعله الإخصائي الذاتي كما يرى ناجح. إذن باتا لا هو منبع ولا هو أصل لعقائد الألوهة الشابة في الشرق الأدنى القديم.
وفي موضع آخر يقضي ناجح من جديد على حكمه السابق – وهو في كل الأحوال حكم متحمّس وسريع – حين يقول:
(وتاكيدا لما ذكرناه سابقا (ولاحظ أنه لا يدري أن ما ذكره سابقا يناقض ما يذكره حاليا ولا يؤكده !!)، فان الشاب بايتي انموذج مرتحل للاله الشاب القتيل - ص 145) (100).
ومن المفروغ منه أن (المرتحل) هو من ينتقل من مكان إلى آخر، وبذلك يكون باتا نتيجة وافدة، لا سبباً منتقلاً، وناجح نفسه يؤكد ذلك ليقضي على رأيه السابق حين يكمله بالقول:
(وما يعزز هذه القراءة كون بايتي زارعا للحنطة والشعير. واقترن الاله الشاب القتيل بالقمح الذي يظهر وينمو ويحصد ومن ثم يعاود ظهوره مرة ثانية - ص 145) (101).
# هل باتا إله للخصب؟:
والمشكلة أن ناجح "يندفع" لإثبات فرضيته المسبقة هذه في أن باتا من الآلهة الشابة القتيلة حتى لو كلّفه هذا الموقف ليّ عنق الحقائق وتحريفها. يقول ناجح:
(وأهم التناصات الموجودة بين حكاية الأخوين وأسطورة الاله "أوزوريس" هي خاصية الخصاء وقطع الذكورة الدالة على قوة الرجولة والمعبر عنها بافعال جنسية / تخصيبية، وفقدان الالوهة الشابة المذكرة لقضيبها يعني رمزيا تعطّل الاله عن مجاله الحيوي في نظام الخصوبة الكلي وبذلك تتوقف الحياة بشقيها الانساني / الحيواني – النباتي - ص 75) (102).
ثم يعود ليكرّر الاستنتاج نفسه فيقول:
(وكان الفرق بينهما هو أن اخصاء "بايتي" فعل ذاتي، واخصاء "اوزوريس" خارجي نفذه الاخ الشرير "ست" ولهذا الاخصاء دلالة واسعة لها صلة كبيرة بتعطل الحياة وايقاف عجلتها والقضاء عليها تماماً على نظام الخصب فيها - ص 105) (103).
وأنا أسأل القرّاء الآن:
هل تعطّلت حركة الحياة، وتوقّفت عجلة الخصب في الطبيعة، عندما قام باتا بإخصاء نفسه؟
هل هناك أدنى إشارة في الأسطورة إلى ذلك؟
والجواب هو: كلّا.
لقد كان فعله أشبه بحالة فرديّة ذات تأثير شخصي لم يتعد دائرة وجوده ووجود أخيه الأكبر وزوجته. ولكن الباحثين المتحمّسين أوديبيّاً، وأحيانا حدّ الإنعصاب، هم الذين يوسّعون دور الشخصيّة ويضخّمون الأفعال الفرديّة ليرفعوها إلى مستوى الظواهر الطبيعية أو الكونيّة. الباحث (فراس السواح) – على سبيل المثال – من الباحثين الأبناء المنحازين بحماسة مفرطة إلى الإلهة الأم – يعلّق على مقطع لا يقبل اللبس من أسطورة هبوط إنانا هو:
(اضطجع الرجل وحيداً في غرفته
ونامت المرأة على جنبها وحيدة)
علّق السوّاح على هذا المقطع بالقول:
(يُفهم مــن ذلـك أنّ الرجال والنسـاء قـد تباعدوا جنسياً، فعشتـار هي القوة الإخصابيـة في الإنسـان والنبات، قـد غابـت عـن الوجود وغـابت معهـا كـل مظاهــر الإخصاب التـي تعكسهــا في الحياة - 23) (104).
فهـل كـانت هنـاك أدنـى إشـارة الـى مـوت القمـح وجفــاف الأرض والـزرع والضرع في المقطـع السابق؟
رد: نعم ليلة تسليم جلجامش لليهود ياغير مسجل
ليلة تسليم جلجامش لليهود (١٥)
الثلاثاء ٢٨ شباط (فبراير) ٢٠١٧، بقلم حسين سرمك حسن
التسرّع في إصدار الأحكام:
كيف تكون فتاة شريرة مساوية للإلهة "إيزيس" الطيّبة ؟:
وهذه السرعة في التشبيهات وإطلاق الأحكام تسم مشروع ناجح بأكمله.
لنقف عند نظرته إلى الفتاة، زوجة باتا التي خلقها الإله (رع – حوراختي) لتسكن معه وتداري وحدته. سرعان ما جعلها ناجح مساوية لـ "إيزيس" الإلهة المصرية. دعونا نتوقف عند أفعال إيزيس، ثم أفعال هذه المرأة، لنرى هل هما متشابهتين كما يقول ناجح، أم أنه يُطلق الأحكام بحماسة وبلا قرائن، وكأنه يلهج بأشياء حفظها عن ظهر قلب سواء توفّرت شروط انطباقها على الحالة الراهنة أم لم تنطبق!.
من هي إيزيس ؟
إيزيس هي واحدة من الآلهة التاسوعاء، هي ربة القمر والأمومة لدى قدماء المصريين. وكان يرمز لها بامرأة على حاجب جبين قرص القمر، عبدها المصريون القدماء والبطالمة والرومان. صارت إيزيس شخصية بارزة في مجموعة الآلهة المصرية بسبب أسطورة أوزوريس. كانت شقيقة ذلك الإله وزوجته. واستعادت جثته بعد أن قتله "ست". وبمساعدة نفتيس وتحوت أعادت إليه الحياة بعد رحيله إلى حياة جديدة محدودة في العالم الآخر, ربّت ابنها حورس الذي أنجبته من زوجها الراحل أوزوريس في أجمة مستنقعات خيميس بالدلتا. وقد كان خيال عامة الشعب مُغرما بتأمل صورة الأم التي أخفت نفسها في مستنقعات الدلتا، والتي قامت فيها بتربية حورس طفلها حتى إذا ما شب واشتد ساعده، صار قادرا على الانتقام من قاتل أبيه "ست". كانت إيزيس أشهر الربّات المصريات جميعا، وكانت مثال الزوجة الوفية حتى بعد وفاة زوجها، والأم المخلصة لولدها. امتدت عبادة إيزيس في عهد البطالمة واليونان إلى ما بعد حدود مصر، وكان لها معابدها وكهنتها وأعيادها وأسرارها الدينية في كافة أنحاء العالم الروماني حيث صارت تمثل ربة الكون: "أنا أم الطبيعة كلها، وسيدة جميع العناصر، ومنشأ الزمن وأصله، والربّة العليا، أحكم ذرى السماء ونسمات البحر الخيرة وسكون الجحيم المقفر..." (105).
فما الذي فعلته هذه المرأة، زوجة باتا التي خلقها الإله (رع – حوراختي)؟
لقد خلقتها الآلهة وفيها "جوهر من كل إله" كما قلنا. ولكنها بعد ذلك بدأت بخرق كلّ ما قاله لها باتا الطيّب، فقد خرجت من المنزل وكاد البحر يخطفها بالرغم من تحذيرات باتا. ثم سقطت في مصيدة الإغواء عندما أرسل الفرعون امرأة مع فرسانه ومعها زينة أخّاذة، لتهجر باتا الذي أحبّها حبّاً عظيما، ووفّر لها كلّ شيء. رحلت طوعيّاً إلى الفرعون لتصبح زوجته. وقد أحبها الفرعون حبّاً جمّاً كما تقول الأسطورة، ورفعها إلى مكانة عالية جدا. وطلب منها أن تحدّثه عن زوجها، فقالت له أن الأكاسيا يجب أن تُقطع، وأن عليه أن يُرسل من يسحقها !. وهي تعرف أن هذا التصرّف معناه موت باتا زوجها السابق الذي أحسن إليها. أرسل الفرعون جنودا مسلّحين إلى الوادي فقطعوا زهورها التي كان عليها قلب باتا فسقط ميتاً في الحال.
أليست هذه المرأة هي الأنموذج الصارخ لإلهة الشرّ والموت والخيانة؟!
لقد خانت زوجها الشاب وغدرت به ثم دلّت الطاغية على طريقة قتله.. وطاوعت السلطة الأبوية البطرياركية في قتل ممثل الألوهة الشابة كما اعتبره ناجح.. فبربّكم هل هناك أي صلّة – ولو واحدة – بين هذه المرأة والإلهة إيزيس الأم إلهة النور والخير والحب والوفاء؟!
ومع ذلك، دعونا نُكمل القصّة:
كان باتا - عندما هرب من أخيه أنبو بلا رجعة - قد قال له أنّه إذا فسدت الجعة في كأسك وتعفّنت عندما تريد شربها، فتلك علامة على أنني أُحتضر، ويجب عليك أن تأتي إلى وادي الأرز لتنقذني، ولتفتش عن قلبي وتنعشه كي أحيا من جديد. وقد فسدت البيرة في كأس الأخ الأكبر أنبو في اليوم التالي لموت باتا، فأخذ سلاحه وذهب إلى الوادي، وهناك وجد أخاه الأصغر ميتاً، فأجهش بالبكاء (لاحظ أن الأخ الأكبر يحبّ أخاه الأصغر ولا علاقة له بالإله الشرير "ست"، كما طابق بينهما ناجح بصورة خاطئة سابقاً ). ثم أمضى ثلاث سنوات يبحث عن قلب أخيه ليجد بذرة في السنة الرابعة هي قلب أخيه. وضعها في كوب ماء بارد، فارتعشت كل أطراف بايتي، وحين شرب ماء الكوب عاد إلى الحياة، واحتضن أخاه. قال باتا لأخيه بأنه قد خطّط ليأخذ بثأره من زوجته الخائنة. ولذلك فإنه سوف يصبح غداً "ثوراً مقدّساً" يحمل أهم علامات القداسة، وعلى أخيه الأكبر أنبو أن يقوده إلى قصر الملك حيث تسكن زوجته الخائنة بعد أن تزوّجت بملء إرادتها من الفرعون. وهناك سوف يكون هذا الثور معجزة عظيمة، وسيقيمون له الإحتفالات في قصر الفرعون وفي كل البلاد، وعلى الأخ أن يعود إلى القرية بعد ذلك. قام الأخوان بتنفيذ الخطّة، واقتاد أنبو الثور المقدّس (أي باتا بعد تحوّله) إلى قصر الفرعون الذي فرح بهذه الهدية فرحاً كبيراً، وأحبّه كثيراً جداً، ومنح الأخ الأكبر الذهب والفضة، وأعاده إلى القرية.
عاش الثور المقدّس مكرّماً مهاباً في قصر الفرعون، ويتحرك بحريّة واحترام. وذات يوم دخل قسم الحريم، ووقف أمام الأميرة/ زوجته السابقة، وأخبرها بأنه زوجها السابق باتا، وأنّه لم يمت، فذعرت وخرجت هاربة. بعدها جلست مع الملك على مائدته، وكان الملك مسروراً، وطلبت منه "كبد" الثور كي تأكله. ومعروف أن الشعوب القديمة تعتقد أن الكبد هو مستقر الروح.
الآن دعونا نتوقّف، قليلا، لنتأمل ما يقوله ناجح عن جلسة الأميرة مع الفرعون:
(يبدو بان الجعة باعتبارها نتاجا زراعيا متطورا، هي الوسيط في نظام السرد الاسطوري، وهذا ما سجلته الاسطورة عن طريقة الاعلان عن موت الشاب/بايتي واعادته للحياة، لكن القدرة الكامنة في الجعة وما تثيره من نشوة وتخيلات مثلت في هذا النص، الاصول الاولى لمجال الام الكبرى في التاريخ، لانها هي التي اخترعت النبات المخدر وعرفته وكذلك ساهمت بانتاج الخمور لانه من وظائفها الحضارية/الدينية الاولى والمصاحبة لعقائدها الخاصة بالانبعاث والتجدد - ص 169) (106).
لم يصدّق الأستاذ ناجح وجود بيرة / جعة على المائدة ليربطها بالإلهة الأم ومبتكراتها عبر التاريخ. لكن ستأتيه المفاجأة قريبا بعد أن نستمع إليه، وهو يصف تأثير الجعة التي جعلت الفرعون يسكر، ويستجيب لطلب الأميرة الخبيثة. يقول ناجح:
(لذا استعانت بها زوجة فرعون من اجل سلطتها الانثوية، ووظائفها الدينية لان الفرعون استجاب لها في كل المرات، بعد ان لعب المسكر براسه ووافق على الذي تريد - ص 169 و170) (107).
وأسأل ناجح الآن: ما هي الوظائف الدينية التي قامت بها الأميرة الخائنة ؟؟
ولنقدم له – الآن - المفاجأة التي ستطيح باستنتاجاته، وتثبت - للأسف - أن شروحاته هذه ليس لها مجال هنا. فهذا ما تقوله الأسطورة الأصلية عن جلسة الأميرة مع الفرعون:
And his majesty was sitting, making a good day with her: she was at the table of his majesty, and the king was exceeding pleased with her. And she said to his majesty, "Swear to me by God, saying, ’What thou shalt say, I will obey it for thy sake.’"
He hearkened unto all that she said, even this. "Let me eat of the liver of the ox, because he is fit for nought!" thus spake she to him. And the king was exceeding sad at her words, the heart of Pharaoh grieved him greatly. And after the land was lightened, and the next day appeared, they proclaimed a great feast with offerings to the ox.(108).
فهل يجد القارىء الكريم أي ذكر للجعة في جلسة الفرعون مع الأميرة؟
هل يتضمن هذا النص، وهو الأصلي، أي كلمة تشير إلى سكر الفرعون وأنه استجاب – تحت تأثير الخمرة – لطلب الزوجة الخائنة بأن يهبها كبد الثور المقدس لتأكله؟
من ناحية ثانية، وعلى العكس مما تورّط فيه ناجح - بسبب اعتماده على نسخة أدبية من الأسطورة – نجد أن النص الأصلي يشير بوضوح إلى أن الزوجة الخائنة طلبت من الفرعون أن يقسم لها بالإله بأن ينفّذ كلّ ما تقوله، فأقسم لها. وأصبح قلبه حزينا بدرجة عظيمة بسبب استجابته لطلب الأميرة بذبح الثور، ولكنها ورّطته بالقسم بالإله "رع" بأن يستجيب لكلّ ما تقوله. المهم أنه أقسم بكامل وعيه وليس تحت تأثير الخمرة.
رد: نعم ليلة تسليم جلجامش لليهود ياغير مسجل
ليلة تسليم جلجامش لليهود (١٦)
الجمعة ٢٤ آذار (مارس) ٢٠١٧، بقلم حسين سرمك حسن
باتا الذكر يتحوّل إلى رمز أنثوي!:
وفي صباح اليوم التالي تمّ ذبح الثور، ولكن - والثور الذبيح يُحمل على أكتاف الناس - أدار عنقه، ورمى قطرتي دم ؛ قطرة عند كل باب من بابي جناح الملك، تحوّلتا إلى شجرتي لبخ - Persea، وهي شجرة دائمة الخضرة يتكرر ذكرها كثيراً في الميثولوجيا المصرية، والمصريون القدماء يعتبرونها: "شجرة إيزيس"، أي أن باتا الذكر تحوّل إلى رمز أنثوي من رموز الإلهة الأم!!
يُخبر أفراد الحاشية الفرعون بالمعجزة الجديدة، فيذهب بحلته الملوكية ليجلس تحت ظلال إحدى الشجرتين تتبعه الأميرة. وهنا يقول باتا – مرّة ثانية - لزوجته الخائنة، بأنه زوجها باتا، وأنها هي التي خططت لقتله.. إلخ. فتطلب الأميرة – مرّة ثانية هي في الحقيقة الثالثة بعد حادثة قطع الأكاسيا - من الفرعون من جديد أن يقسم بالإله "رع" بأن يستجيب لكل ما تطلبه منه، فيُقسم لها، وتطلب منه، هذه المرّة، أن يقطع الشجرتين، ويصنع لها خزانة جميلة. استجاب الفرعون، وبينما الملكة واقفة تراقب – بتشفّ ٍ - ما يفعله النجارون الماهرون بالشجرتين، استجابة لطبها، طارت قطعة خشب ودخلت فمها، وابتلعتها، وبعد عدّة أيام (وليس كما يقول ناجح: أيام وشهور)، ولدت الأميرة طفلاً. أُخبِر الفرعون بأنه قد وُلِد له طفل، وجلبوه له، وخصّصوا له ممرضة وخدما، وأقيمت الإحتفالات في أنحاء المملكة كلّها. ثم جلس الملك، وأقام يوما مقدّسا لتسمية الطفل الوليد، وكان يضعه في حِجره. وقد أحبّه الملك كثيراً، وربّاه ليكون نائب الملك على مملكة كوش - King’s Son of Kush أو The Viceroy of Kush (وسنرى بعد قليل أهمية هذه الإشارة التي لم يذكرها ناجح ولا سليمان مظهر). ثم – بمرور الأيام – جعله وصيّاً على البلاد كلها. وبعد أن رحل الفرعون إلى السماء (وهو تعبير فرعوني عن موت الفرعون)، دعا الوصي كل أعيان مصر كي يمثلوا أمامه كي يقص عليهم كل ما حصل له، فحضروا وأحضروا زوجته (أمّه) أمامه أيضا، وقاموا بمحاكمتها، واتفقوا معه في الحكم الذي أصدره عليها.
ما أهمّية منصب "نائب الملك على كوش"؟:
الآن أعود إلى ما وعدت القارىء به قبل قليل، وهو مراجعة معنى أن ينصّب الفرعون، باتا، نائبا له على مملكة كوش.
(مملكة كوش تُنسب إلى كوش بن حام، واتخذت هذا الاسم إبان تتويج (الارا النوبي) أول ملوك الأسرة الخامسة والعشرين النوبية الذي غزا مصر وضمّها إلى دولته.
والمنطقة من حوض نهر النيل التي تُعرف بالنوبة والواقعة في الحدود الحالية للسودان وأجزاء من مصر، كانت موطن ثلاث ممالك كوشية حكمت في الماضي، الأولى بعاصمتها كرمة (2400 - 1500 ق.م.)، وتلك التي تمركزت حول نبتة (1000 - 300 ق.م.)، واخرها مروي (300 ق.م. - 300م).
وما يهمنا هنا أنّ هذا اللقب (نائب الملك على كوش) استخدم في وقت الأسرة الثامنة عشرة (1570 – 1293 ق. م )، وتحديدا في عصر الفرعون تحتمس (1527 – 1515 ق. م) (109)، حيث بدأ تنصيب شخص على مملكة كوش ليكون نائبا عنه ومسؤولا أمامه عن شؤون إدارتها. ولم يكن شرطاً أن يكون هذا الشخص من أقارب الفرعون (اي من نسل مقدّس)، بل قد يكون من عامة الشعب. ولهذا استخدم كاتب الحكاية هذا اللقب كي يبرّر تنصيب الفرعون لباتا على مملكة كوش لأنه لا يحمل أصلا ملوكياً فهو فلّاح بشري بسيط.
من مخاطر المنهج الواحد الجامد:
وهنا علينا التنبيه على واقعة مهمة جدا، قبل أن يقع المحلّلون منّا المتحمّسون والمنحازون أصلاً لمفاهيمهم، في مصيدة الـتأويل الأوديبي. فقد حبلت الأميرة بقطعة خشب طارت من جسد باتا الشجرة وهي تُقطّع، وابتلعتها، لتنجب طفلا كان هو باتا نفسه. هذه ليست من تمظهرات العقدة الأوديبية، بل هي تعبير عن الدور المزدوج الذي كانت تلعبه المرأة في الحياة الفرعونية: فقد كانت زوجة وأم في وقت واحد. وهذا الأمر يثير في أذهاننا ضرورة أن لا نتمسّك بتفسيرات أحاديّة مهما كانت ونغفل العوامل الإجتماعية والثقافية. وهنا، أيضاً، يتجلى دور عامل مهم آخر جرى في الحكاية، وهو الأصل المقدّس للزوجة حين قامت الآلهة بخلقها، فهو تمهيد لتوفير شرط أساسي كي يكون باتا من أصل مقدّس، وبالتالي صالحاً لوراثة الفرعون خصوصا أنه لم يكن الإبن الحقيقي للفرعون. أضف إلى ذلك علاقة باتا بالآلهة التاسوعاء في منتصف القصة، فالقداسة التي تضفيها الآلهة ساعدته في وقت حاجته إليها.
وهناك إشارات كثيرة في القصة تحيلنا إلى انفصال مصر القديمة إلى قسمين، فخلال كل تاريخ مصر القديمة، وحتى في الأوقات التي كان فيها القطر موحّداً سياسياً ومستقرّاً، كان من المعروف أن مصر تنقسم إلى منطقتين:
مصر السفلى وهي التي في الشمال وتشمل دلتا النيل،
ومصر العليا التي في الجنوب.
وفي بداية القصّة كان يُشار إلى باتا بأنه فريد لا يوجد مثله في البلاد لأنّ فتوة الآلهة فيه. أضف إلى ذلك أنه كلّما غضب واحد من الأخوين كان يوصف بأنه تصرّف مثل "نمر من مصر العليا"، وفي ترجمة أخرى "مثل فهد من الجنوب".