-
رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
رواية الخندق بعد الأخير
**************
الدكتور عبد الإله الخاني
مقدمة:
يبدو الميل إلى إقامة مجتمع متوازن , من خلال رؤية واضحة فحسب, ميلا مسالما بدون شروط,
ليس له سوى معنى حياة عبثية لاوجود لها عمليا في العالم المتصارع اليوم , او جسرا يعلو عن كل الزاحفين.
ربما يكون هذا الميل مقبولا بشرط ان يكون تكتيكا ً او سلوكا ً موجها لداخل المجتمع يولد فيه انسجاما ما محببا , ولكن يستحيل فهمه على انه مصير .
وعندئذ , إذا أريد إقامة المجتمع على أساس الحرب الدفاعية , لاتبدو فكرة الاستنجاد بنزيل السجن أمرا غير معقول لأن المجتمعات الأخرى تلجأ إلى هذه الطريقة ..
وعندئذ أيضا ً يبدو اللامعقول معقولا جدا..
الدكتور عبد الإله الخاني

يتبع
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
1-
لكل واحد من الأولاد الذين يمشون في الشارع متجهين إلى بيوتهم ويأكلون ويشربون ويضحكون , أهل ينتظرون أوبته , إلا أن " صقر" لم يكن واحدا من خلق الله هؤلاء , فقد كان آيبا إلى الدار التي اعتاد المبيت فبها عند المغيب , عندما أطلت مضيفته أم محمد , وصاحت به كما تصرخ لكلب:
-صقر تعال . خذ الجرة وأملأها بالماء من " الفيجة" قبل أن أبطشها برأسك.
" كانت امرأة ذات رأس مثل الكرنب الكبير ( المشرش ) ولكنه رأس كرنب آدمي شديد السمرة أزرقها فيه فم بلا شفاه , مشقوق من الأذن إلى الأذن لأنه خال من الأسنان والأضراس ,ضرب إهاب وجهها الجدري , وقد لفت هذا هذا الرأس بمنديل أزرق عقدته عند نقرتها , زاد شكلها غلظة بهذا وصف صقر أم محمد احد زملائه يوما.
تذكر صقر ما سمعه قبل قليل وهو سائر في الشارع , إذا انفرج باب فجأة وبرز منه صبية بيضاء البشرة ناصعة تنادي:
-سامي ! أين انت يا سامي , تعال كل ! ألم تشعر بالجوع؟نحن بانتظارك.
الفارق بين الندائين واضح تمام الوضوح , بحيث يصدم النفس , وهذا ماجعله يقف بشكل عفوي ويغيب عن نفسه بضع ثوان غارقا في تفكير عميق ؛ كان انفراج الباب قد اتاح له ان يشاهد فناء البيت فاستوقفه ما رأى , غرفة تصدرتها مقاعد مذهبة ومناضد صغيرة ذات زجاج لماع استقرت عليها تماثيل رائعة وتهاويل بديعة , وقد عرشفي ارض الدارنباتات خضراء زاهية , مددت خلال أوراقها شرطان ومصابيح صغيرة كهربائية ملونة , يبرق نورها بين تلك الأوراق ثم ينطفئ ثم يبرق ثم ينطفئ باستمرار, فخلب ذلك لبه ,فأين هذا من خفض العيش الذي يحياه عند أم محمد , لقد كان بيتها , أو بالأحرى كوخها , ذا غرفة واحدة بدون أية فسحة ولابلاط لها بالمعنى الصحيح وغنما أرضها تراب مكبوس , وكان سرير أم محمد عبارة عن ألواح خشبية على قوائم من العيدان الضخمة , وهو مسند إلى الحائط ومرتبته حشوها قشر الذرة , ذلك ظاهر من بعض جنباته التي تفتقت وبرزت من خروقها بعض هذه القشور, والأغطية من الجلود والثياب المنبودة , وقد جعلت أم محمد له مناما على كوم من مثل هذه الثياب ,وكان أثاث الغرفة بضع مقاعد لكل منها ثلاث قوائم , ومائدة منجورة السطح دون البطن , وكانت أم محمد تطبخ الطعام مستعينة بمنصب للطبخ وقدور مكسورة وملعقتين من الحديد, وكان صابونها من صنع البيت الأسود يابسا كالحطب ,لم يوفق صقر يوما ما رغم محاولاته ونزقه ان يجعله يرغو , كما لم يعرف الدفء في الليل مع هذا اللحاف الغاطس في ملحفة وسخة يهرب منها في أكثر آناء الليل , ويبقى الغلام متدثرا بالملحفة دون اللحاف.
تذكر كل هذا ثم عاد لنفسه وهز كتفيه وتابع سيره إلى الفيجة حيث التقى عليها بالغلام درغام الذي كان يعرفه.
كل هذا لم يستوقفه سوى بعض ثوان , ولو انه شعر بثورة داخلية على أم محمد إلا أنها أضافها إلى حساب ثورات عديدة تؤلف قائمة مستطيلة , كانت تفصح عن نفسها بشكل او بآخر و وهاهي الآن تنفجر بدون أن يشعر , إذا ما إن جاء درغام يزيح له جرته عن فم " الفيجة" ليملأ صفيحته حتى أعطت هذه الحركة لثورته دفعا جديدا, فألفى يده ترتفع لتهبط بقوة على يافوخ د رغام الذي اصطدم رأسه بعنف , بنتيجة هذه الضربة بنتوؤ كائن في الصفيحة التنك التي أراد ملأها , فانشق جلد خده " وساح " دمه..
كانت جرة صقر قد امتلأت , فلم يلتفت إلى عواء رفيقه درغام وغادر" الفيجة" بكل هدوء !.. وشعر بأنه ليس من أولئك الغلمان الذين ما إن يضربوا غلاما حتى يفروا خائفين , غنه يضرب بكل جدارة وبكل اقتدار.
وحين عاد إلى أمه أم محمد استقبلته بكمية لا بأس بها من الشتائم قائلة:
-لماذا أطلت الغياب يا حمار؟..
ومع هذا , فإن بصره لم يرتفع في وجه أم محمد , ومشى إلى زاويته وتكوم فيها , هكذا بملابسه المهلهلة الوسخة التي زركشها الطين.
كان هذا آخر المطاف لنهاره ذاك النهار المليء بالمغامرات التي هي على قده : نومه في الزاوية , ليس عليه أن يفعل شيئا أو أن ينتظر شيئا , ليس هناك عشاء ولا غيره, وهل في دار أم محمد عشاء؟..
سمع سماعا بأن الناس يتناولن العشاء قبل ان يناموا .. كان ذلك علما نظريا ولكن كيف وماذا يتناولون ؟, ذلك ما يجهله.
ص 4
************
يتبع
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
تثاءب الصبح وتثاءب صقر في وقت واحد,نهض فورا وقفز من زاويته قفزا ,كان يعرف وظيفته اليومية جيدا, إطعام الدجاجات وتغيير الماء أمامها ..حذار أن تمس البيضات . أم محمد أعلم بها وهي تعرف عددها سلفا,دجاجاتها مضبوطة .. يقل بياضها في الشتاء حتى أواخر شباط حتى يبدأ بالازدياد..يتفقد موضع الرغيف "الحاف" الذي تركته له ام محمد قبل أن تنام , فيجده في مكانه , يتناوله ويقضمه بأسنانه طارحا بعض زواياه التي يبست من تركه في الليل مكشوفا.
وبرغم انه لا يزال في العاشرة من عمره إلا انه واع تماما بان هذا البيت ليس له إنه ضيف فيه.وغن كان ضيفا لأجل لا يعلم متى ينتهي , لم يمسس كأسا بيده ولا قطعة من " المالقي" أو أداة سريعة العطب , هكذا عودته ام محمد.إذا رغب في شربة ماء فأمامه " الكيلة "رقيقة المعدن , فإن أقل حركة تصدمها بأي شيئ آخر تطعجها , فقد أصبح شكلها مثل " العلك" الذي خرج لتوه من الفم,دخل السواد في معظم أجزائها المثناة , ومع ذلك فإنه يعلم انها : هذه "الكيلة" .. ليس له غيرها ولن يكون له غيرها.ويعلم أيضا انه إذا كسر كأسا من البلور فإن كف ام محمد سيهوي على رأسه , وهو كف ش" بالمخباط" الخشبي السسميك الواسع الذي تضرب به ام محمد الملابس عند غسلها على شاطئ نهر تورا في حي الصالحية في موقع بين الدور الطينية القديمة الكائنة هناك.
رافقتها أول أمس وشاهد ما تصنع عندما جاءت وجدت ثلاث نسوة أخريات سبقنها إلى حافة النهر حيث تنخفض الأرض حتى تصبح مع الماء في مستوى واحد.
حيت أم محمد لداتها ثم قرفصت وبدأت تعمل وبدا حديث بين النسوة الأربع كل واحدة تقص قصتها مع زوجها وأولادها وجيرانها.كان مع واحد منهن ابنها ..نفر الولد من صقر منذ اللحظة الأولى وتكوم بجانب أمه التي كانت تجاذبه ألفاظ الأمومة العذبة .. تساءل صقر كيف يكون من له أم وكيف يشعر؟وتساءل لماذا لا يكون له أم وهل ينتقي المرء أما له من سائر خلق الله الذين يراهم سائرين في الطريق ؟ولكنه لم يستطع أن يحصل على جواب إنه لا يعلم .. ليت احد الأشخاص يعطيه الجواب الشافي , على كل حال لو كان الإنسان ينتقي أما له فإنه بالتأكيد لن يختار أم محمد أما له أبدا .. وهو بطبيعة الحال لن يسألها هذا السؤال,ستأتي الأيام ويفكر بهذا الموضوع وينتقي من بين الناس الشخص المناسب لهذا السؤال يطرحه عليه .. الهام أن هذا الوقت ليس هو الوقت الملائم.
بعد مضي بضع دقائق اكتشف أن رائحة النهر رائحة كريهة , فهي رائحة عفن ذات وخم يخدش الأنف , والنسوة اللواتي يغسلن الملابس مستعملة , علب من التنك , ورجلا معروق الوجه طويل القمة , يلبس سروالا و"شحاطة: قال له ابو لبادة:
-ابو معروف .. صقر يريد عملا..
تفرس أبو معروف بصقر طويلا ثم قال بلا اكتراث:
-لا بأس .. علمه يجمع أعقاب السكاير.
يتبع
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
في اليوم الأول طاف صقر شوارع المدينة عدة مرات , مرات كانت عينا, على الأرض دائما وأبدا.. تذكر قول أبي لبادة :
عقب السكاير يجب التقاطه بسرعة لافرق إذا كان سليما او مداسا بالأرجل , ثم أصبحت عيناه مرنتين تغطي الأرض وفي الوقت ذاته تلعب عل الأيدي والأصابع الحاملة للفافات , إذا أحوج الأمر وبان ان النحصول ضئيل , لابأس باختطاف السيكارة من بين أصابع المارة المدخنين في وسط الزحام.
في نهاية النهار عاد صقر بمحصوله إلى الدكان .. دكان أبي معروف فشاهد في داخلها منهمكا بخلط كمية من الدخان , الحاصلة من فك الأعقاب , بمسحوق أبيض .. فأعطاه المحصلة فنقده أبو معروف قطعة نقدية من فئة خمسة فرنكات.
لهذا عاد في اليوم الأول إلى دار ام محمد بشعور جديد شعور من هو قادر على الحصول على المال .كان يراقب أم محمد بعينين مفتوحتين من زاويته التي اعتاد ان يتكوم فيها , ولكنه لم بنم فورا كعادته .. أما أم محمد فلم تنتبه له .. ولكنه في تلك الليلة نام نوما متقطعا, كان تفكيره كله منصرفا إلى العمل الذي سلك فيه أمسه, وينتظر يزوغ الفجر بفارغ الصبر.
في اليوم الثاني كان محصوله أكثر : يساوي ضعف ما جناه أمس,لهذا كانت مكافأته من أبي معروف اكبر : نصف ليرة..في هذه المرة عاد إلى دار أم محمد بربع ليرة , لأنه لم يجد الوقت الكافي لإنفاق أكثر من نصف القطعة النقدية التي اكتسبها, وفاته أن يتفقد جيوب بنطاله عندما ما أمرته أم محمد بخلعه لتغسله في اليوم التالي ففعل .. وشعر بوجهه أصبح جمرة حين تحسست أم محمد الجيب فوجدت فيه ربع ليرة.. وجاء إلى ذهنه فتح مبين عندما سألته عن مصدر فأجابها على الفور:
-كلفني صاحب دكان بأن أشتغل له ببيع الخضرة واعطاني إياها.
كان موقف ام محمد غير منتظر , فقد تهلل وجهها , وقالت له:
أكثر من هذا ياصقر . وبقيت قطعة النقد معها .. وانتظر ان تتغير معاملتها له , ولكن أمله ذهب عبثا , فأوعزت له بان بملأ الماء بنفس اللهجة السابقة.
واطرد عمل صقر في الأيام التالية : بتقاضى كل يوم نصف ليرة يشتري بنصفها مما يشاهد في أيدي أترابه ويعطي الباقي لام محمد , فلما مضى عليه شهر كانت مكافاته قد نمت ووصلت إلى مبلغ ليرة واحد.
أصبح لوسعه ان يدخل السينما.
وفي أحد الأيام الساعة الثالثة بعد الظهر جاء إلى شارع الدرويشية فوقف أمام باب سينما سوريا , وكان باب السينما والردهة التي تليه مزدحمة بالأولاد وبالكبار من كل الأعمار..بائع الكعك وعلى رأسه :"القرش" يروح ويغدو امام الباب , وقد جلس على طرفي الباب بائعا الليمون شراب الليمون .. ووقف صقر ينظر إلى أحدهما وقد وضع السطل الأبيض ذا الغطاء البلوري , وتسمرت عيناه على يد البائع وهي تمسك بالساعد الرفيع الطويل الذي هو على شكل " ماسورة" معدنية صفراء والذي ينتهي في أسفله بانتفاخ معدني ضخم , كان يغمس ساعده هذا في السائل الأصفر الذي تخلله قطع الثلج فإذا أراد وفعه سد ثقبا في أعلى الماسورة بسبابته ثم وجه الانتفاخ يسيل في الكأس ورفع سبابته عن الثقب الأعلى فإذا بشراب الليمون يسيل في الكأس حتى امتلأت ثم ناولها إلى الشاري .
يتبع
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
في اليوم الأول طاف صقر شوارع المدينة عدة مرات , مرات كانت عينا, على الأرض دائما وأبدا.. تذكر قول أبي لبادة :
عقب السكاير يجب التقاطه بسرعة لافرق إذا كان سليما او مداسا بالأرجل , ثم أصبحت عيناه مرنتين تغطي الأرض وفي الوقت ذاته تلعب عل الأيدي والأصابع الحاملة للفافات , إذا أحوج الأمر وبان ان النحصول ضئيل , لابأس باختطاف السيكارة من بين أصابع المارة المدخنين في وسط الزحام.
في نهاية النهار عاد صقر بمحصوله إلى الدكان .. دكان أبي معروف فشاهد في داخلها منهمكا بخلط كمية من الدخان , الحاصلة من فك الأعقاب , بمسحوق أبيض .. فأعطاه المحصلة فنقده أبو معروف قطعة نقدية من فئة خمسة فرنكات.
لهذا عاد في اليوم الأول إلى دار ام محمد بشعور جديد شعور من هو قادر على الحصول على المال .كان يراقب أم محمد بعينين مفتوحتين من زاويته التي اعتاد ان يتكوم فيها , ولكنه لم بنم فورا كعادته .. أما أم محمد فلم تنتبه له .. ولكنه في تلك الليلة نام نوما متقطعا, كان تفكيره كله منصرفا إلى العمل الذي سلك فيه أمسه, وينتظر يزوغ الفجر بفارغ الصبر.
في اليوم الثاني كان محصوله أكثر : يساوي ضعف ما جناه أمس,لهذا كانت مكافأته من أبي معروف اكبر : نصف ليرة..في هذه المرة عاد إلى دار أم محمد بربع ليرة , لأنه لم يجد الوقت الكافي لإنفاق أكثر من نصف القطعة النقدية التي اكتسبها, وفاته أن يتفقد جيوب بنطاله عندما ما أمرته أم محمد بخلعه لتغسله في اليوم التالي ففعل .. وشعر بوجهه أصبح جمرة حين تحسست أم محمد الجيب فوجدت فيه ربع ليرة.. وجاء إلى ذهنه فتح مبين عندما سألته عن مصدر فأجابها على الفور:
-كلفني صاحب دكان بأن أشتغل له ببيع الخضرة واعطاني إياها.
كان موقف ام محمد غير منتظر , فقد تهلل وجهها , وقالت له:
أكثر من هذا ياصقر . وبقيت قطعة النقد معها .. وانتظر ان تتغير معاملتها له , ولكن أمله ذهب عبثا , فأوعزت له بان بملأ الماء بنفس اللهجة السابقة.
واطرد عمل صقر في الأيام التالية : بتقاضى كل يوم نصف ليرة يشتري بنصفها مما يشاهد في أيدي أترابه ويعطي الباقي لام محمد , فلما مضى عليه شهر كانت مكافاته قد نمت ووصلت إلى مبلغ ليرة واحد.
أصبح لوسعه ان يدخل السينما.
وفي أحد الأيام الساعة الثالثة بعد الظهر جاء إلى شارع الدرويشية فوقف أمام باب سينما سوريا , وكان باب السينما والردهة التي تليه مزدحمة بالأولاد وبالكبار من كل الأعمار..بائع الكعك وعلى رأسه :"القرش" يروح ويغدو امام الباب , وقد جلس على طرفي الباب بائعا الليمون شراب الليمون .. ووقف صقر ينظر إلى أحدهما وقد وضع السطل الأبيض ذا الغطاء البلوري , وتسمرت عيناه على يد البائع وهي تمسك بالساعد الرفيع الطويل الذي هو على شكل " ماسورة" معدنية صفراء والذي ينتهي في أسفله بانتفاخ معدني ضخم , كان يغمس ساعده هذا في السائل الأصفر الذي تخلله قطع الثلج فإذا أراد وفعه سد ثقبا في أعلى الماسورة بسبابته ثم وجه الانتفاخ يسيل في الكأس ورفع سبابته عن الثقب الأعلى فإذا بشراب الليمون يسيل في الكأس حتى امتلأت ثم ناولها إلى الشاري .
يتبع
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
وانتشى صقر من هذا المنظر حتى انه لكي يفسح المجال للبائع حتى يكرر عمله هذا, ناوله عشرة قروش , وجعل يفتح عينيه ليستمتع بمناظر مراحل العملية التي أتقنها بائع الشراب,واخذ صقر من يد الرجل كأس الليمون , وتساءل هل حقا ملئت هذه الكأس له؟ .. ونظر حوله , فلم يجد أحدا, ووضع الكأس على شفته وتنازل منها مصة قصيرة اتبعها فورا بواحدة أخرى,وشعر براحة , ثم توقف وجال ببصره فيما حوله , فأبصر الاولاد برمقونه بنظراتهم المندهشة الفضولية , فرفع رأسه تياها.
فكر صقر أن الحياة مواتية لمن يريد ان يتناولها , وحين جلس على مقعده في الصالة نظر إلى يمينه فوجد لمن يمينه فوجد رجلا يلف ساقه اليمنى على ساقه البسرى وقد برز صدره وعلقت بين إصبعيه لفافة من التبغ ,وظل يسترق النظر إليه حتى أطفئت الأنوار , فجعل يرفع ساقه اليمنى ليلفها على ساقه اليسرى , ووجد لهذا صعوبة في بادئ الأمر ثم تركزت الأمور من بعد ذلك .
وظل منظر اللفافة بين أصابع الرجل ينهش في نفسه .. إنه هو الذي يجمع الدخان فلماذا لا يحضر لنفسه واحدة من اللفائف .إن بعض ما يلتقطه لا يزال طوله مناسبا يصلح للتدخين بهيئته تلك لك يدخن صاحبها الذي رماها أكثر من بعها..
وصمم صقر على أمر..
عندما عادت الأنوار في فترة الاستراحة خفض ساقه ثم شعر بمنهانة من هذا الخفض .. لماذا يخفضها؟ غيره أعلى مركزا؟ عاد ولف الساق اليمنى على الساق اليسرى وقال في سره . وممن أخاف ؟ ثم قال:
-وإذا كنت صغير السن .. كان الصغير لا يلف ساقا على ساق؟
وبقيت ساقه اليمنى هي التي تصعد فوق ساقه اليسرى , ولم تتوصل اليسرى إلى ان تستريح ولو مرة على الساق اليمنى, فلقد اعتقد أن الأصول هكذا..
أصبح الآن في جلسة مستريحة فلقد أجال بصره فيما حوله , فلم يجد أحدا ينظر إليه جميع الموجودوين تقريبا في مثل وضعه , يتصرفون مثل تصرفه .. الأمر بالنسبة له أصبح طبيعيا .
من يربكه على تصرفاته نفسه , يظلل منغمسا بالتفكير في حنايا ذاته يراقبها , قد يمسح عليها إعجابا بها وقد يضربها بالسوط وهذا السلوك الأخير هو الذي يصبغ معظم تصرفات صقر
يتبع
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
اما إذا استراح فهو بلا جدال منطلق التفكير إلى التطوير وتصعيد الميول .. قد لا يكون الصعود مستقيما , قد يكون منحرفا , ولكنه تطور على كل حال.
الهام الآن هو الرغبة في الحصول على دراهم أكثر .. من أين يأتي بهذه الدراهم؟ التفكير الجديد استلزم مالا . أم محمد تطلب المزيد , قالت له أمس:
-آه يا شيطان يا ملعون , إنك تخفي عني . أنت تكسب من معلمك أكثر لماذا لا تأتني بدراهم أكثر؟
وعندما كرر على مسامعها القسم الغليظ على أنها واهمة قالت :
-غدا سأذهب إلى معلمك وأسأله.
زعق عندما سمع قولها , وتصور تهاويل شتى وتمسك بأهداب ثوبها , دخيلك . لم يدر بخلده أنها لا تعرف معلمه وانه عن لم يخبرها باسمه والحارة التي تقوم فيها دكان معلمه فلن توفق إلى ذلك , لم يدر يخلده شيء من هذا , كل ما أراده هو الحيلولة بينها وبين الاتصال بمعلمه قال لها:
-سوف آتيك بأكثر , سوف آتيك بأكثر.
في اليوم التالي خرج من دار السينما بشعورين يتقاذفانه فإنه كما يتقاذف لاعبان كرة المطاط:
الحياة جميلة فيها سرور , والحياة تحتاج إلى مال يجب الحصول عليه بمقدار أكبر.
عندما استيقظ في اليوم التالي وضع أمام الدجاجات الماء والطعام المعهود وخرج, طاف كالمجنون شوارع المدينة وأزقتها لالتقاط مقدار أكبر , مقدار كبير جدا م أعقاب السجائر , وأثناء تطوافه هذا عثر بين ما التقطه على أربعة أنصاف لفائف , وبرغم أن هذه الأنصاف تعطي نسبة لا بأس بها في المحصلة التي سيسلمها إلى معلمه ,إلا أن رغبته في التدخين جعلته يخبئ هذه الأنصاف في جيب مستور من ملابسه.
وعندما قدر أن الكمية بلغت حدا يسعفه في الحصول على مبلغ اكبر من أي مبلغ آخر كان قد استوفاه من معلمه ذهب رملا..
ما إن أصبح صقر على مسافة عشرين مترا من دكان كعلمه , حتى تمهل في السير ثم توقف ,كان هناك أفراد من الشرطة في الدكان ترفع موجوداتها قطعة قطعة , وتشم ما تحتها وتحملق , قلبت الدكان رأسا على عقب , سمع أفراد الشرطة ولهجتهم الآمرة الحانقة , شاهد وجوههم الجهمة.
لم يرق الوضع لصقر,وأدرك بغريزته ان الوضع غير طبيعي فهناك أمور تجري على شكل مألوف فانكفأ وأثناء سيره اجتمع بابي لبادة الذي بادره بلهجة مستعجلة:
-هل ذهبت إلى دكان معلمك؟
-انكفأت عنها عنها قبل أن أصل إليها .
-حسنا فعلت لا تذهب اليوم ولا غدا ولا بعد غد . يجب أن تغيب عن الأنظار بضعة أيام.
-لماذا؟
-إن الشرطة تتحرى دكانه بحثا عن الحشيش المخدر , فإذا ذهبت قبضوا عليك.
-شاهدته أمس يخلط الدخان بمادة بيضاء تشبه البودرة.
-هس ..هس..س
يتبع
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
اما إذا استراح فهو بلا جدال منطلق التفكير إلى التطوير وتصعيد الميول .. قد لا يكون الصعود مستقيما , قد يكون منحرفا , ولكنه تطور على كل حال.
الهام الآن هو الرغبة في الحصول على دراهم أكثر .. من أين يأتي بهذه الدراهم؟ التفكير الجديد استلزم مالا . أم محمد تطلب المزيد , قالت له أمس:
-آه يا شيطان يا ملعون , إنك تخفي عني . أنت تكسب من معلمك أكثر لماذا لا تأتني بدراهم أكثر؟
وعندما كرر على مسامعها القسم الغليظ على أنها واهمة قالت :
-غدا سأذهب إلى معلمك وأسأله.
زعق عندما سمع قولها , وتصور تهاويل شتى وتمسك بأهداب ثوبها , دخيلك . لم يدر بخلده أنها لا تعرف معلمه وانه عن لم يخبرها باسمه والحارة التي تقوم فيها دكان معلمه فلن توفق إلى ذلك , لم يدر يخلده شيء من هذا , كل ما أراده هو الحيلولة بينها وبين الاتصال بمعلمه قال لها:
-سوف آتيك بأكثر , سوف آتيك بأكثر.
في اليوم التالي خرج من دار السينما بشعورين يتقاذفانه فإنه كما يتقاذف لاعبان كرة المطاط:
الحياة جميلة فيها سرور , والحياة تحتاج إلى مال يجب الحصول عليه بمقدار أكبر.
عندما استيقظ في اليوم التالي وضع أمام الدجاجات الماء والطعام المعهود وخرج, طاف كالمجنون شوارع المدينة وأزقتها لالتقاط مقدار أكبر , مقدار كبير جدا م أعقاب السجائر , وأثناء تطوافه هذا عثر بين ما التقطه على أربعة أنصاف لفائف , وبرغم أن هذه الأنصاف تعطي نسبة لا بأس بها في المحصلة التي سيسلمها إلى معلمه ,إلا أن رغبته في التدخين جعلته يخبئ هذه الأنصاف في جيب مستور من ملابسه.
وعندما قدر أن الكمية بلغت حدا يسعفه في الحصول على مبلغ اكبر من أي مبلغ آخر كان قد استوفاه من معلمه ذهب رملا..
ما إن أصبح صقر على مسافة عشرين مترا من دكان كعلمه , حتى تمهل في السير ثم توقف ,كان هناك أفراد من الشرطة في الدكان ترفع موجوداتها قطعة قطعة , وتشم ما تحتها وتحملق , قلبت الدكان رأسا على عقب , سمع أفراد الشرطة ولهجتهم الآمرة الحانقة , شاهد وجوههم الجهمة.
لم يرق الوضع لصقر,وأدرك بغريزته ان الوضع غير طبيعي فهناك أمور تجري على شكل مألوف فانكفأ وأثناء سيره اجتمع بابي لبادة الذي بادره بلهجة مستعجلة:
-هل ذهبت إلى دكان معلمك؟
-انكفأت عنها عنها قبل أن أصل إليها .
-حسنا فعلت لا تذهب اليوم ولا غدا ولا بعد غد . يجب أن تغيب عن الأنظار بضعة أيام.
-لماذا؟
-إن الشرطة تتحرى دكانه بحثا عن الحشيش المخدر , فإذا ذهبت قبضوا عليك.
-شاهدته أمس يخلط الدخان بمادة بيضاء تشبه البودرة.
-هس ..هس..س
يتبع
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
وضع أبو لبادة سبابته على شفتيه بشكل مستعرض وحملق بعينيه الواسعتين في وجه صقر الذي خرس لساعته, وإذا بأبي لبادة , وبدون تحية أو سابق إنذار يختفي بقدرة قادر وبسرعة جنونية, مما دعا صقر إلى أن يدخل في باب بناية وينتظر فرأى رجال الشرطة يمرون.
كان ذلك يعني بالنسبة لصقر , أن يتفض يده من غشيان سينما سوريا , ومن أن ينظر إلى بائع الشراب يضع سبابته على ثقب الماسورة دون أن يتاح له أن يشرب , وان يتعرض لغضب أم محمد لأنه لن يكون بوسعه أن يأتيها بالدراهم كعادته.
كل هذا ورد على مخيلته دفعة واحدة , فظهر عليه الذهول ومشى مبتعدا رويدا رويدا .. وعاد أبو لبادة فما احتفل به صقر ولا نظر إليه ,فأدرك هذا ما يجول في ذهن صقر الصغير فأسرع وسد عليه الطريق,وأصبح رأسه مقابل رأسه مباشرة ونظراته تغوص في أحداق صقر.. الذي ما عن رفع بصره إليه حتى احس برعشة .. وطال التقاء النظرات بالنظرات..
قال أبو لبادة:
-تريد دراهم؟
-...
-حسنا ..تشتغل لحسابي.
-بماذا؟
-تقف أمام دور السينما وفي مواقف الباصات , تمد يدك إلى الجيوب بخفة متناهية دون أن يشعر بك احد وتأخذ ما فيها .. فإذا وقعت بيد الشرطة خلصتك أنا..
تفتحت أحداق صقر كأن الفرج قد أدركه , وأدرك بقوة بصيرته وتصور يديه ملأ ى بالدراهم , فهز رأسه موافقا وعيناه مزدهرتان فرحا..وأكمل أبو لبادة:
-اسمع .. مقابل تخليصي لك أتقاضى أنا نصف ما تحصل عليه أنت
-كيف أفعل؟
لم يفهم شيئا مما تفوه به أبو لبادة لا يعنيه أن يأخذ منه أبو لبادة النصف .. هو اعرف بهذه الأمور .. المهم ان يحصل على المال..
يتبع
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
كيف؟
ص 15
-هلم بنا ادربك.
ونكس صقر رأسه ثم رفع عينيه إلى أبي لبادة بين مصدق ومكذب .. وقد صعب عليه ما سمع فقال:
-هل الدراهم التي في جيوب الناس لنا؟هل أمد يدي إلى جيب أم محمد التي أسكن معها؟
جاءت هذه الكلمات مفاجئة لأبي لبادة , وحار بماذا يجيب! ثم جاء جوابه بطيئا في بادئ الأمر وقويت لهجته فيما بعد:
-الذي ليس معه يؤخذ منه , والذي معه يعطي ويزاد..
لم يفهم حجر من ذلك شيئا وظل مبهوتا فأصاف أبو لبادة :
-لماذا لايعطوننا ؟ يجب ان نعيش.
وسكت أبو لبادة ينتظر وفعل صقر _ ولكن حجر ظل ساكتا , صراع في نفسه قائم , وعاد أبو لبادة يقول :
-إلا إذا كان معك دراهم .. هل معك؟
لم يجب صقر بكلمة واحدة بل مشى مع أبي لبادة عاقدا حاجبيه , تتقاذفه الفكر , هذا الذي يقوله أبو لبادة شيء صعب , ولكن أصعب منه أن يبقى بلا دراهم .. والسينما؟والمشروبات والألعاب؟
عندما وصلا إلى موقف باص كان الناس ينتظرون وصول ونظر صقر أبي لبادة ,فأشار إليه هذا بالانتظار والترقب..وقفا وكأنهما من خلق الله هؤلاء المنتظرين.فلما وصلت السيارة , تقاطر عليها المنتظرون فاتجهوا إلى بابها الخلفي وكونوا جمهورا متلاحما .
قال أبو لبادة لصقر:
-انظر..
واندس بين الجمهور وراح يناطح ويزاحم إلى صعد ثم انتقل إلى الباب الأمامي ونزل منه , وأخذ بيد صقر ومشى حتى أصبحا في سكان قصي أخرج أبو لبادة ورقة نقدية من ذات الخمس ليرات وقال صقر:
-هذا ما توصلت إليه من حركتي هذه , والآن حاول بدورك , أن تفعل مثلي . حاول دائما أن تدخل يدك وتخرجها بسرعة , لا تفتش فيها إذا لم تعثر فيها على شيء قريب المتناول . ولتصاحب حركة جسمك كل حركة يدك في الجيب.
وهكذا ..
عندما أوفى النهار على نهايته , انتحى صقر قصها حيث أخرج من جيبه حصيلة ماجناه طول النهار فوجده ليرتين ورقيتين وثلاث ليرات فضية وعددا ولفرا من الفرنكات ,ولم ينتظر حتى وافى أبا لبادة في مقره حيث أخرج أمامه كل ما تجتمع لديه دون أن يخفي شيئا فقاسمه أبو لبادة على النصف .
عاد صقر يرقص رقصا ولا يمشي مشيا وإذا به يلتقي بأم محمد وجها لوجه في الطريق , ارتعش لدى رؤيته لها , ولكنه تجلد قالت له:
-أين كنت؟
-كنت ماشيا في الطريق أتفرج.
-ماذا تفعل؟
-لا أفعل شيئا
-رأيتك مع أبي لبادة أنا اعرفه واعرف ماذا يعمل عند المواقف وبماذا يشتغل , تعال.
س 18
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
كيف؟
ص 15
-هلم بنا ادربك.
ونكس صقر رأسه ثم رفع عينيه إلى أبي لبادة بين مصدق ومكذب .. وقد صعب عليه ما سمع فقال:
-هل الدراهم التي في جيوب الناس لنا؟هل أمد يدي إلى جيب أم محمد التي أسكن معها؟
جاءت هذه الكلمات مفاجئة لأبي لبادة , وحار بماذا يجيب! ثم جاء جوابه بطيئا في بادئ الأمر وقويت لهجته فيما بعد:
-الذي ليس معه يؤخذ منه , والذي معه يعطي ويزاد..
لم يفهم حجر من ذلك شيئا وظل مبهوتا فأصاف أبو لبادة :
-لماذا لايعطوننا ؟ يجب ان نعيش.
وسكت أبو لبادة ينتظر وفعل صقر _ ولكن حجر ظل ساكتا , صراع في نفسه قائم , وعاد أبو لبادة يقول :
-إلا إذا كان معك دراهم .. هل معك؟
لم يجب صقر بكلمة واحدة بل مشى مع أبي لبادة عاقدا حاجبيه , تتقاذفه الفكر , هذا الذي يقوله أبو لبادة شيء صعب , ولكن أصعب منه أن يبقى بلا دراهم .. والسينما؟والمشروبات والألعاب؟
عندما وصلا إلى موقف باص كان الناس ينتظرون وصول ونظر صقر أبي لبادة ,فأشار إليه هذا بالانتظار والترقب..وقفا وكأنهما من خلق الله هؤلاء المنتظرين.فلما وصلت السيارة , تقاطر عليها المنتظرون فاتجهوا إلى بابها الخلفي وكونوا جمهورا متلاحما .
قال أبو لبادة لصقر:
-انظر..
واندس بين الجمهور وراح يناطح ويزاحم إلى صعد ثم انتقل إلى الباب الأمامي ونزل منه , وأخذ بيد صقر ومشى حتى أصبحا في سكان قصي أخرج أبو لبادة ورقة نقدية من ذات الخمس ليرات وقال صقر:
-هذا ما توصلت إليه من حركتي هذه , والآن حاول بدورك , أن تفعل مثلي . حاول دائما أن تدخل يدك وتخرجها بسرعة , لا تفتش فيها إذا لم تعثر فيها على شيء قريب المتناول . ولتصاحب حركة جسمك كل حركة يدك في الجيب.
وهكذا ..
عندما أوفى النهار على نهايته , انتحى صقر قصها حيث أخرج من جيبه حصيلة ماجناه طول النهار فوجده ليرتين ورقيتين وثلاث ليرات فضية وعددا ولفرا من الفرنكات ,ولم ينتظر حتى وافى أبا لبادة في مقره حيث أخرج أمامه كل ما تجتمع لديه دون أن يخفي شيئا فقاسمه أبو لبادة على النصف .
عاد صقر يرقص رقصا ولا يمشي مشيا وإذا به يلتقي بأم محمد وجها لوجه في الطريق , ارتعش لدى رؤيته لها , ولكنه تجلد قالت له:
-أين كنت؟
-كنت ماشيا في الطريق أتفرج.
-ماذا تفعل؟
-لا أفعل شيئا
-رأيتك مع أبي لبادة أنا اعرفه واعرف ماذا يعمل عند المواقف وبماذا يشتغل , تعال.
س 18
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
اصفر وجه صقر وشعر بدقات قلبه يصل صوتها إلى أذنيه وصعدت غصة إلى حلقه , وبعد لحظات مر بأصابعه على جبهته فابتلت وسار إلى جوار أم محمد منكس الرأس , تصطك ركبتاه .
عندما وصلا إلى البيت توقع أن تهوي يدها الكبيرة على يافوخه فتقلصت أساريره وغاض الدم من وجهه وأغمض عينيه بانتظار البلاء الأعظم وشد ما كانت دهشته عندما حدث ما لم يتوقع , فقد تناهى إلى سمعه وهو مغمض العينين صوت أم محمد الأجش القوي يقول:
-هات , م معك؟
كانت هذه الكلمات بمثابة نسمة لطيفة باردة على وجه معرض للهيب تنور , وأسرعت يد صقر فدخلت في جيبه وأخرج ليرة دفعها إلى يد أم محمد المفتوحة المنتظرة.
عندما أخذت المرأة الليرة دستها في جيبها الخفي تنفس صقر وهز رأسه وقال بينه وبين نفسه:
-هم م م م.. الآن عرفت ماذا يجب أن أفعل.
في صباح اليوم التالي خرج صقر من دار محمد مبكرا .. فطاف على مواقف الباصات , كان الناس في موقف باص الشيخ محي الدين يتقاطرون على باص واقف وكان هو على مسافة كبيرة منهم ,وحين هم بالاتجاه إلى الموقف شعر بيد تمسك بكتفه بقوة آلمته والتفت وإذا برجل ضخم الجسم أسمر الوجه , وبجانبه غلام تبين أنه " صفي".
وقال الرجل للغلام :
-أهذا هو صقر؟
-نعم إنه هو ..
أجاب صفي.
وقال الرجل لصقر:
-امش
-إلى أين؟..
-الآن ستعرف.
-ارفع يدك عني ...أقول لك ..ارفع يدك عني..يا ..يا..
-امش أحسن ما خربطلك واجهة وجهك.
-من أنت حتى تقول لي هذا الكلام؟
-في مخفر الشرطة تعرف من انا..
تلاشت مقاومة صقر بعد أن كان يقاوم ويشتم ويحاول التملص والفرار ..خصوصا عندما رأى أن سيارة جيب كانت بانتظاره على مسافة خمسة أمتار.
يتبع
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
وبأمر من الرجل رفع صقر وصفي قدميها بغية القفز إلى السيارة من مؤخرتها , تعثر صقر فأسك به الرجل كأنه ريشة طائرة من تحت إبطه وأصعد ه ورمى به داخل السيارة . هناك شاهد أربعة غلمان آخرين شعث غبر الوجوه . كان هو أحسن حالا منهم جميعا , فقد كانت أم محمد قد ألبستهم أمس ملابس مغسولة علامة الرضى عنه.
ألم يأتيها بالمزيد من الدراهم؟
كما ساهد في السيارة رجلين آخرين , وعندما وصلت سيارة الجيب إلى القصر العدلي , شاهد صقر سيارات جيب أخرى تفرغ حمولتها من الغلمان والرجال على السواء . ثم وردت سيارة كبيرة كانت حمولتها أكبر حمولة بين السيارات.
وأوعز رجال الشرطة إلى الأولاد جميعا بدخول القصر , حيث ساقوهم أمام مكتب قاضي التحقيق.
لأول مرة يشاهد صقر هذا البناء الضخم الراسخ الأركان , كأنه الود ذا الواجهة المرتفعة الشامخة وتلك الردهات المترامية الأرجاء , الذي تتجاوب الأصوات في جنباتها بأصداء متداخلة والتي تزدحم بالناس الذين تبدو حجومهم صغيرة جدا بالنسبة لسقوف القصر القصية الذاهبة صعدا في العلاء وبرجال القصر العدلي مثله ؟ وأحس برعشة تغزو كيانه كله وتمنى لو كان يعرف واحدا فقط , واحدا ممن يقفون هناك , لماذا ينظر إليه الناس الواقفون في الردهات , لماذا التفتوا دفعة واحدة إليه وإلى الغلمان الذين الذين يواكبونه ؟. وناجى نفسه قائلا.:
-ماذا يراد بي , ولماذا أتوا بي إلى هذا المكان ؟ يا الله ماذا فعلت , بعض أعقاب السكاير التقطتها واستوفيت عنها أجرا من أبي معروف. هل عرفوا بما نشلته من جيوب الناس المزدحمين على أبواب الباصات ؟ ولكن أحدا من هؤلاء الناس لم ينتبه له , بلى لن واحدة من النسوة كانت تمسك بيد ولدها صاحت سرقت , سرقت اقبضوا على الحرامي فجمد في مكانه لا يتحرك وكأنه لم يفعل شيئا , وبذلك تحولت الشبهة عنه , وصعدت المرأة إلى الباص , وانتهى الأمر.
طال انتظار صقر ورفاقه امام مكتب قاضي النحقيق , فقد كان القاضي يطلبهم واحدا واحدا , حيث يلبث واحدهم زمنا طويلا , ماذا يفعلون هناك؟ لعلهم يعذبون , وشعر بغصة تضعد إلى حلقه.
لم يكن صقر يستطيع ان يتصل بمن يخرج من مكتب القاضي , فقد كان رجال الشرطة يسيرون بمن يخرجون إلى سلم حيث ينحدرون لا يدري أين يغدو مستقرهم.
كانت وجوه الأولاد الخارجين من مكتب القاضي كما كانت لم تتغير وهذا ما أدخل شيئا من الطمأنينة على نفسه. الأرجح أن ليس هناك تعذيب.
نودي لصفي قبل صقر , ولبث عند القاضي قليلا وإذا بصقر يطلب هو أيضا , دخل وقلبه واجف عيناه ذابلتان يقدم رجلا ويؤخر الأخرى دفعه الشرطي في النهاية دفعا وهو يقول له:
-مالك؟ تقدم أقول لك.
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
وإذا صفي لا يزال هناك يجلس على كرسي .. إذن , فالذين دخلوا قبله كلهم جلسوا على كراسي ..كان هناك أيضا أبو معروف , وكان بمواجهة القاضي.
لأول مرة يسأله شخص عن اسمه واسم أبيه واسم أمه ومكان إقامته ارتبت كثيرا حين سأله القاضي عن كل هذه الأسماء , فهو لا يعرف اسم الحارة التي يسكن فيها.
اغتاظ القاضي من نفيه لكل هذا وإنكاره معرفة كل هذه الأيماء وهز رأسه وهو ينظر إليه نظرات ساخنة , وقال القاضي موجها كلماته إلى صفي:
-أهذا هو صقر الذي تكلمت عنه؟
واجاب صفي :
نعم هذا هو .
وقال القاضي موجها كلماته لأبي معروف :
-كيف كنت تتعامل مع صقر؟
-لا أعرفه ولم أتعامل معه.
تساءل صقر في سريته : بماذا أساء لصفي حتى يتكلم عنه القاضي , ظن ان القاضي جاء طوعا إلى قاضي التحقيق وفضحه , ولكنه أدرك بغريزته أن القاضي كان يمهد لانتزاع إقرار من أبي معروف , فدله حدسه على أن مصلحته هو بدوره أن ينكر معرفته لأبي معروف وهكذا فعل.
لم بعد يذكر صقر كيف جرت الأمور من بعد , فقد قام قاضي التحقيق عن مقعده وقال لرجال الشرطة الذين يقفون بين يديه:
-هلموا بنا نكشف على الأماكن ..
أية أماكن ؟ -لم يستطع صقر أن يفسر هذه الكلمات.
في تلك اللحظة دخل موظف على قاضي التحقيق وخاطبه قائلا:
-سيادة القاضي جاء نفر من رجال الضابطة يخفرون سارق السيارات:
وأمر القاضي بإيداع المتهم بسرقة السيارات أمانة في نظارة التوقيف إلى أن تعود هو من الكشف وخرج مع رجال الشرطة الذين أوعزوا إلى صقر وصفي وأبي معروف وإلى أشخاص وغلمان آخرين عدتهم ثمانية للسير معهم.
عاد هؤلاء وأولئك جميعا إلى سيارة جيب كانت تنتظرهم أمام باب القصر العدلي ولما كانت لا تستوعب هذا العدد فقد أتي بسيارة جيب ثانية وتحركت السيارتان وعندما توقفتا , هبط الجميع وأشار ضابط إلى مدخل بناية دخلها القاضي وأربعة أولاد من الغلمان المخفورين ورجلا في الخمسين من عمره برتدي شروالا وميتانا وعلى رأسه طاقية بيضاء مزركشة بخيط أسود , حيث شاهد الجميع مكانا تحت درج لإحدى البنايات طوله متر ونصف وعرضه قرابة متر , ليس له جدار ولا سقف , فالجدار والسقف اندماجا ليكونا ظاهر الدرج من الأرض مباشرة بميل شديد , وقد ركب له باب من الأخشاب المتعارضة غير المنجورة لا من الباطن ولا من الظاهر.
ص23
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
وفرشت أرضه بقطع كرتون متخلفة عن علب كرتونية مما يستورد فيه علب حليب نستلة , وقد اسودت معظم جنباتها وتلطخت بالمواد الدهنية , وخرجت إلى الأنوف من ذلك المكان روائح الرطوبة والعفن الخادشة لحاسة الشم وقال رجل من رجال الضابطة للقاضي:
-هذا المكان ضبطنا فيه أول أمس في وقت الفجر غلمان نائمين هم هؤلاء.
وسألهم القاضي :
-من عين لكم هذا المكان لتبيتوا فيه ؟
وأجاب واحد منهم
- أبو معروف .
وسكت الباقون علامة الموافقة.
وقال القاضي :
-هل تشتغلون لحسابه؟
وأجابه غلام آخر:
-نعم , ننشل ونأتيه بالدراهم فيقسمها معنا.
بعد ان تم الكشف عاد الجميع بأمر من القاضي إلى السيارتين و ولم يمض على ترحكهما بضع دقائق حتى توقفا مرة ثانية وهبط الجميع.
في هذه المرة لم يكن الأمر يعني حجرا ولا صفيا , ولكن صقر لم يعد يذكر كيف جرت الأمور من بعد فقد قام قاضي التحقيق عن مقعده وقال لرجال الشرطة الذين يقفون بين يديه:
-هلموا بنا نكشف على الأماكن .
..أية أماكن ؟ لم يستطع صقر أن يفسر هذه الكلمات ..
في تلك اللحظة دخل موظف على قاضي التحقيق وخاطبه قائلا:
-سيادة القاضي , دخل موظف على قاضي التحقيق وخاطبه قائلا:
-سيادة القاضي , جاء نفر من رجال الضابطة بخفرون سارق السيارات:
وأمر القاضي بإيداع المتهم يسرقة السيارات أمانة في نظارة التوقيف إلى أن يعود هو من الكشف وخرج مع رجال الشرطة الذين أوعزوا إلى صقر وصفي وأبي معروف وإلى أشخاص وغلمان آخرين عدتهم ثمانية , للسير معهم.
عاد هؤلاء وأولئك جميعا إلى سيارة جيب كانت تنتظرهم أمام باب القصر العدلي ولما كانت لا تستوعب هذا العدد فقد أتى بسيارة جيب ثانية وتحركت السيارتان , وعندما توقفتا , هبط الجميع وأشار ضابط إلى مدخل بناسة دخبها القاضي وأربعة أولاد من الغلمان المخفورين ورجلا في الخمسين من عمره يرتدي شروالا وميتانا وعلى رأسه طاقية بيضاء مزركشة بخيط أيود , حيث شاهد الجميع مكانا تحت مطلع درج لإحدى البناسات طوره متر ونصف وعرضه قرابة متر , ليس له جدار ولا سقف فالجدار والسقف اندمجا ليكونا ظاهر الدرج الصاعد من الأرض مباشرة بمبل شديد , وقد ركب له باب من الأخشاب االمتعارضة غير المنجورة من الباطن ولا من الظاهر.
نعتذر هناك خطا في النسخة بين أيدينا وكان النقص في الصفحة 25-26
*********
وجد صقر نفسه ينحدر على السلم لذي شاهد أحدهم ينحدر فيه قبل قليل .. كان بارد الحركة خالي الذهن .. ينظر ما سيكون من أمره في أسفل السلم.
وحين وصل وجد شبكا من الحديد , أسرع واحد من رجال الشرطة فادخل مفتاحا في قفل الشبك فصر صريرا مزعجا وانفتح الشبك الكبير العريض ودخل الأولاد والرجال جميعا. ثم أغلق الشبك ثانية ودار المفتاح فيه بالاتجاه المعاكس.
كان المكان فسيحا وفيه مقاعد طويلة يتسع الواحد منها للعدد الذي تريده .. وكان هناك رجال آخرون يشاهدهم صقر لأول مرة.
هب واحد منهم متجها إلى الشبك وتبعته أنظار صقر , فإذا على الشبك من الجهة المقابلة امرأة مسنة ترتدي ملاءة وهي تبكي:
-يا ولد يا جابر يا ملعون ما الذي جاء بك إلى هنا؟ ألم أنهك عن معاشرة صبيان الأزقة ..لم تسمع كلامي , الذي يخفف رأسه تتعب رجلاه.
" خرجك الله لا يقيمك"
وأجاب الفتى ووجهه متجهم وعبراته تكاد تسقط على خديه:
-لم أفعل شيئا يا تيـ..تة ..أنا بريء ...والله بريء..
-لماذا إذن وضعوك هنا؟..
-دغمروني ..وأنا بريء ..سيرانا القاضي للمرة الثانية ..إحك لي معه ليطلعني..
ص 27
يتبع
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
-أنا أحكي مع القاضي ؟.. ومن أنا حتى أحكي معه؟ قل الآن هل أنت جوعان؟
-ليست لي شهية للطعام , أريد ان اخرج.
-إذا كان لك نصيب ..
ثم ذهبت المرأة وبحث صقر في زوايا ذاكرته , أليس له شخص يسأل عنه هو أيضا؟ .. من ذا الذي يسأل عن صغير مثله لا أم له ولا أب , أم محمد ..؟ في حياتها لم تسأل حتى عن جيرانها ..لا..لا يجب ان لاتعلم وإلا كان مصيره حين يطلق سراحه ..يا لطيف .وارتد بائسا وقد ارتسم على وجهه حزن شديد . إنه فريد من نوعه ولكن من حيث وحدانيته في هذه الحياة .. من أين أتى من أبوه ؟ من أمه , عادت هذه الأسئلة تحفر في دماغه حفرا , ألا يجب البحث عنهما .. ولماذا البحث ؟ لا حاجة لأحد على الإطلاق .
وتذكر فجأة أبا لبادة ..صحيح أنا لم أشاهده أبدا بين هؤلاء الاولاد الذين حشروا معي اليوم في السيارة .. أين هو ؟ إنه حتما طليق . القذر عملها وفركها " والعجيب أنه أفلت من يد الشرطة وعلق يجب أن يكون في موضع هذه الست . هذه الجدة التي جاءت وبحثت عن حفيدها , وانتظر وقال لنفسه لعله يحضر بعد قليل . ومضت الساعات ولكن أبا لبادة لم يظهر.
وتذكر صقر فجاة ان أبا لبادة لا يستطيع ان يظهر او يحضره لعله ملاحق تسأل عنه الشرطة . لإإذن فقد أبو لبادة هو في كل الأحوال لاي ستطيع ان يخلصه , إن صفي قد وشى بأبي لبادة ما في ذلك ريب , كما وشى به هو ولكن يبدو أن أبا لبادة قد اختفى في الوقت المناسب , إنه مثل الزئبق , إنه يعرفه.
إذن فقد علقت وحدك يا صقر , في المرة الآتية كن أخف حركة مما أنت الآن , بماذا أخطات حتى قبض عليك, لقد ذهبت مباشرة إلى موقف الباص , كان يجب ان تلتفت يمنة ويسرة , ان تنتقل بسرعة وسيولة , لقد تعلمت الىن ان منظر سيارة الجيب هو إنذار لك, الملاعين رجال الشرطة سيارتهم الجيب كأية سيارة جيب اخرى ليس لها علامات فارقة.
آه لو أخرج من هذا المكان كنت أفعل الأفاعيل , ام ان من الخير ان أقلع عن كل هذا النشاط ؟ لا أريد المطلوب دراهم .
واحس بيد تمسك بيده والتفت فوجد احد الاولاد الموقوفين معه يبسم له قال له:
-هذه أول مرة تغشى فيها دور التوقيف؟
-اهي دار توقيف ؟ حبس؟
-وماذا تراها إذن؟
-نعم . وانت؟
لم يرد الغلام وإنما نظر إلى صقر نظرة ذات معنى ,واحس صقربأن قلبه قد هبط ثم ضحك الغلام وقال:
-هذه رابه مرة يدخلني هؤلاء الملعوني الوالدين إلى دار التوقيف ثم سمع دقات قلبه وقال الغلام مضيفا :
-لاتحزن , ليس في الأمر مايحزن أبدا ولو بلغ الأمر ذروة السوء فليس امامنا سوى معهد الاحداث . هناك تأكل وتتعلم مهنة.
لايعلم صقر ماهو معهد الاحداث , لهذا هاله الأمر جدا وكأنه لم يسمع الكلمات الأخيرة , وقف سمعته عند كلمة معهد الأحداث الجانحين تعقب قول الغلام هذه رابع مرة.
ظل عقله يردد حديث الفتى :
دار التوقيف . حبس دار التوقيف واخيرا وبعد ان مضى عليه ساعات ينظر إلى الشرطي المناوب يروح ويجيئ امام الشبك من الخارج تعب ذهنه وكانه أغفى , فلما أفاق كانت الشحنة العصبية قد زالت او كادت فلم يعد الهاتف الداخلي يعذبه وتفتح ذهنه قليلا وقال في نفسه:
-انا لاأرى ادوات تعذيب ولا عصيا للضرب ولا ما يشبهها , لعل ماأفادني به هذا الفتى صحيح ؟ والآن ماالعمل ؟ لاشيئ الدنيا هدوء في هذا الليل , نحن في نظارة التوقيف والناس نيام.
مر الزمن بطيئا , بالرغم انه مستسلم لما هي عليه الأمور , يبدو ان الاستسلام لايسعف في استعجال مرور الزمن . ومع ان الفجر قد اقترب , وهذا ظاهر من خيوط الظلام التي تتسرب من نوافذ القبو المستطيلة الرفيعة فإن من الديكة لم يسمع صياحه كما كانت تفعل حين كان ينام دار أم محمد . الأمر مختلف هنا.
ص 31
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
ثم دبت الحياة في القصر العدلي , وأصبح يسمع دبيب الأقدام فوق سطح القبو .. حتى لقد انحدرت الحركة إلى سلم القبو , فهبط احد رجال الشرطة واستلم مكان الشرطي الذي بات هنا طول الليل تبادلا التحية العسكرية , وصعد الشرطي الأول وغادر المكان , ظن ان القاضي سيطلبه مع رفاقه الآن حتى لقد انحدرت الحركة إلى سلم القبو , فهبط احد رجال الشرطة واستلم مكان الشرطي الذي بات هنا طول الليل تبادلا التحية العسكرية , وصعد الشرطي الأول وغادر المكان , ظن ان القاضي سيطلبه مع رفاقه الآن ولكن طال الوقت جدا على ذلك , وانتظر دون فائدة هل سيمضي هنا ليلة ثانية؟
أخيرا جاء موظف فأعطى ورقة صغيرة للشرطي الذي فتح الشبك وأمره مع باقي الغلمان بالخروج , ثم أغلق الشبك وساقهم جميعا أمام قاضي التحقيق.
أما هو فلم يسأله القاضي شيئا , وأما رفاقه فتعرضوا لإعادة استجوابهم مرة أخرى.
وأخيرا لفظ القاضي كلمته ..قال له:
-اذهب إلى بيتك.
الصعوبة الآن في العودة إلى دار ام محمد .. كيف ستستقبله , ستستأله فورا بكلامها الممطوط ولكن الشديد الوطاة على السمع :
-أين كنت ياولد وماذا فعلت طول اليومين السابقين؟
وارتعش وتصورها تقول له:
هذا البيت هل هو خان حتى تعودإليه متى شئت؟ وأردت ثم تغادره متى شئت وأردت ؟
من له بإسكاتها , كيف يهدئ من ثائرتها؟
نعم نعم الدراهم هي التي تسكتها . ماذا ؟ وكيف موقف الباصات , ورجال الشرطة لم يكد يخرج من دار التوقيف , ألم يتذكر ؟ إنك لم تتصرف تصرفا حكيما . كان يجب أن تكون كالعصفور دائم الحركة , دائم حركة الرأس , حذرا غاية الحذر عند أقل إنذار يطير ويختفي .
أما الدراهم فلا غنى به عن اكتسابها , هذا ما لا ريب فيه,وأما أن يكون في الوجود مخلوق له من المروءة ما يكفي حتى يتنازل له عن كل ما يحتاجه منها , فهذا هو المستحيل . ماذا بقي ؟ أن يحصل عليها بطريقة الخاصة,
-موقف الباصات وأبواب دور السينما .
وإذا قبض عليه؟
-الحبس , هو معهد الاحداث ليس فيه ما يحزن , أكل وشرب وتعلم مهنة . يا الله إلى مواقف الباصات .
يبدو ان غياب يومين قد شحذ همته جيدا,فإن جولة واحد ة قد جعلته على عشر لير ات سورية دفعة واحدة مبلغ ضخم ماذا يفعل يه؟
أبو لبادة؟ ماذا؟بعنة الله عليه ر, لو ان القاضي التحقيق اوقفه هو للبث أياما بل شهورا , وعده بأن يحلصه ثم لم يفعل , فلماذا يعطيه ؟ تعب بهذا المبلغ وخاطر وجهد وعرق , هذه الليرات العشر له وحده. أبو لبادة على كل حال لا يعلم بها , وأم محمد ؟ يا الله نجول جولة ثانية أمام الباصات ونهبج لها هبجة ثانية خمس ليرات تكفي .
لم يكن رأس صقر هو الذي يقود إلى دار أم محمد وإنما هي قد ماه اللتان تخطوان في ذات الخط في الطريق وبحكم الاستمرار أين يبيت؟ لو انه وفق إلى مكان لما عاد.
-في المرآب .
-مستحيل روائح تخدش الأنوف , وأبو معروف ..
فجاة أصبحت دار ام محمد ثقيلة الوجود , معتمة حالية حاوية , ليس فيها ما يربطه إليها , وشعر بشيء يكبر داخل إهابه لم يكن من قبل , لم تعد هذه الدار مما لا يمكن الاستغنار عنه . ترامى إليه من ساحة الذكرى قول أب لبادة :
-انام حيث أريد , ربما على عتبة باب , أو في مطلع درج بناية او في بناية على العظم , قيد التشييد في فندق.
آه , سيكون كقره فندقا إذا ما زاد مورده من المال , لاب ل منذ الآن .
عند دخل الفندق وطلب غرفة إليه صاحب الفندق نظرة فيها ريبه قال له:
ص 33
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
-الأجرة خمس ليرات.
-أدفع
-أبن أبوك؟ وأمك؟
أدرك فورا ما ستجره عليه هذه الجملة ..فورا ومباشرة إلى مخفر الشرطة .. أعطى قفاه إلى صاحب الفندق استدار وأسلم ساقيه للريح الآن النوم في الفنادق متعذرة عليه لأنه صغير السن . أيتها الدار الكريهة يا دار أم محمد .. ستفتقد ينني يوما ولا تجدينني..
وهكذا وجد نفسه فجأة أمام باب دار أم محمد , ودهش حين رأى الدار مزدحمة بالناس , هذا هو الجار أبو سعيد وهذه الجارة ام فوزي . وهذا ..وهذا ..ماا يجري؟
حين اقترب , نظرت إليه امرأة كانت هناك وهي دامعة العين , نظرت إليه طويلا , ومسحت على شعره وهي تنظر إليه نظرة إشفاق . قالت:
-مسكين أنت يا صقر.
نظر إليها طويلا نظرة مجردة عن أي معنى وفمه مفتوح , وخرج من الجميع أبو أسعد ونظر إليه طويلا ..لماذا ينظرون إلى هكذا ؟. الجميع استثناء .. قال أبو أسعد:
-تعال يا صقر إلينا ستؤويك داري.
وامسك بكتفه ولكن صقرا انفلت منه وتوغل فلما لمح ام محمد مسجاة على سريرها وهي بلون أصفر وجفناها مسبلان وهي بلا حراك أدرك عندئذ ا نام محمد قد انتهت . ام محمد لم تعد في هذه الدنيا ..هذا ما سمعه من النسوة اللواتي كن هناك, كان أبو أسعد مازال واقفا فقال:
-يا صقر ..تعال إن معيلتك قد ماتت.
وسمعته امرأة فقالت:
-مثلما التقطت أم محمد صقرا ..جاء أبو أسعد يستنقذه .يا محنن يارب , أنت الرحيم .. أنت الرءوف..
في تلك اللحظة فقط أدرك صقر من هو ..هو لا شيء لقيط أم محمد التقطه من الطريق . في تلك اللحظة انقلب سخط صقر إلى بكاء..
انفجر باكيا كطفل , كانت دموعه ترش الطريق وهو يخرج مسرعا من الدار , لا يعلم لماذا تحولت إحساساته فجأة , ولماذا حزن على أم محمد ..لقد شاهدها بلا حراك , بلا كلام بلا صوت, يداها المخباطتان إلى جنبها.
وتساءل ألا يمكن أن نتكلم بعد؟
وتذكر أن إحدى النسوة قالت : إن ام محمد قد توفيت , وهو قد سمع مرة أن الميت لا يتكلم ..ولا يحس ولايتحرك.
ظل بين الفينة والفينة يتذكر كل هذا فيستأنف بكاءه من جديد,لم يعد له بيت . وبيت أبي أسعد؟ أبدا لن يدخل بيت أبي أسعد أبو أسعد قصاب شاهده يذبح الخراف بالسكين بين أسنانه ويده في رقبة الخروف ..منظر بشع,شاهده مرة يربط ولد إإلى جدار شجرة ويهوي عليه بالسوط حتى أدماه , حتى ولو دفعه أبو أسعد ليحصل على دراهم فلن يدخل داره ولماذا يعطيه ؟ المال الذي يتعب في كسبه ويخاطر لماذا يعطيه للغير؟.
شعر بشيء في إهابة , لم يعد غلاما يحتاج لمأوى .. إنه مثل أبي لبادة , قد ينام على عتبة دار, أو في خرابة أو في بناية قيد الإنشاء , أو ..ماذا عليه , إنه أصبح ذا مال , انه أصبح ذا مال..
ص 36
يتبع
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
2-
ظل ليلتين متواليتين , لا هم له إلا مراجعة حياته الماضية .. والآن ترتسم على شفتيه ابتسامة تحار بين السخرية والاعتداد , كان طفلا محميا , أو قل هذا هو المفترض , وإذا به يتحول فجأة إلى كائن قد وكله القدر إلى نفسه ,لا يزال يشعر بشعور ذلك الولد الذي كان يؤوب إلى دار أم محمد خجلا , جوعان , معفرا بالتراب أو بالطين الجرة تنتظره ليملاها , وصوت ام محمد الأجش ذو اللهجة المستهجنة يترامى إلى سمعه , وهو لا يبغي من بعد سوى أن يتكوم في الزاوية من الغرفة وينسى كل شيء وينام.
إن إحساسه بوجوده الآن هو إحساس امرئ قذف به إلى ماء عميق دون سابق إنذار فتحركت يداه وقدماه تضرب الماء ليعوم , وفجأة اكتشف بدهشة أنه يعوم فعلا فتساءل لماذا لم أغادر دار ام محمد منذ زمن طويل؟ أية فرحة وأية بهجة وأي اعتداد.
ولكن أية قيمة لهذا الإحساس الآن؟ إنه يقف وحده بمواجهة الوجود , كل الوجود من فتيان كاسرين وغلمان في مثل وضعه وناس يجب أن يتنبهوا ويداه في جيوبهم ثم .. الشرطة...
أما اتجاهه فواضح : اقتناص المال , المال هو كل شيء , ثم التواري عن وجه رجال الشرطة .. والخلاصة :الغنيمة والهرب
-هل لديه الذخيره الكاملة والدربة لاستيفاء أوفى نصيب منهما؟بدا له الأمر سهلا للغاية : لقد زوده أبو لبادة دون أن يدري بأول قوة دافعة ذاتية يتغلب بها على ضعفه , قال له:
-هل هناك من يدخل عليك بفرنك واحد؟
وإذن, فعلى الناس , الناس كافة أن يفسح كل منهم مكانا ليد صقر في جيوبهم , هذا الأمر يبدو طبيعيا للغاية , كما زود الغلام الذي التقى به في نظارة القصر العدلي ببرود الدم واللامبالاة اللازمتين في المواقف الحرجة:
-وماذا في معهد الأحداث غير الأكل والشرب والتدرب ؟
وختم صقر حججه جميعها بان قال بينه وبين نفسه :
-هذا حال كل الناس غيري كثيرون مثلي , لا يكترث بي احد , وأنا لن اكترث بأحد.
وكانت الشدائد , التي واجهها في حياته حتى الآن , قد أرهفت دهاءه وإرادته , أما الأزمات النفسية التي عاناها فقد أورثته تلبدا في الحس يأتي بالتدريج , وبرغم أنه كان قد بلغ العاشرة حديثا فقد كان يقف مع أبي لبادة وأتباعه وقفة المستريب , نعم لقد عاد أبو لبادة ولكنه في نظر صقر ثعلب مستغل متسلط لا يستحق ما يطلب , وقفته ونومته في نظارة القصر العدلي مما لا ينسى , أين كان أبو لبادة ؟ ..نحن نشقى وهو يتناولها لقمة سائغة!؟.
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وأهنؤك على وفائك وهمتك وجهودك الواضحة
رحم الله الوالد
محمد نضال صلاح الدين
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
وفكر فيه كثيرا لا يملك من أنين أو عينين ماالفرق بينه وبيني .. ولكن ليس لي أتباع حتى أؤلف عصابة , حسنا سأضربه ضربة تدحرجه عن مسرحنا وأتناول عصابته .
في بادئ الأمر تابعه أينما ذهب وذهبت عصابته يستسنح منه فرصة, وإذا بالفرصة تاتي , قال أبو لبادة:
-هلموا يا أولاد ليتوجه كل منكم إلى موقف باص أو سينما ويأتيني بنصف ما يجنيه مقابل حمايتي له.
-وكيف تحمينا؟
قالها صقر وقد وقف تجاه أبي لبادة عاقد الحاجبين , أما أبو لبادة فأمسك بيد صقر وقال:
-لماذا تكلمني بهذه اللهجة ؟ صار لك لسان تحكي به؟
-إترك يدي احسن لك .
وترك أبو لبادة يد صقر وفضل معاملته بالحسنى , كان قد حنكه الزمن , ومست يد أبو لبادة كتف صقر علامة الإشادة له بالانصياع للأمر, فامسك صقر بيد أبي لبادة وأبعدها عنه في حركة عصبية التفت لها كل الغلمان , غلمان العصابة , فتوقفوا بعد أن تحركوا لتنفيذ الأمر ’ إذ أدركوا أن في الأمر مواجهة محتمة , وقال أبو لبادة :
-مالك اليوم يا صقر , يبدو أنك عصبي.
ص 39
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
وقال صقر وحاجباه دائما معقودان . وهو بهيئة المتحدي المهتيئ للضرب:
-الم يعد عندك سوى هذه الخطط الفاشلة؟
وضحك أبو لبادة , فخشي صقر أن يذهب أثر تحديه هذا فأضاف :
-أنت لا تصنع شيئا بيديك , فأنت لست زعيما..
وصلت الأمور إلى حدها .. وجاء جواب أبو لبادة يضع حدا سريعا لم يكن لمصلحته , حدا لمواجهة خصمين لم تدم سوى دقائق .
-أرنا براعتك إذن.
وقال صقر:
-سوى ترى .. سأصنع شيئا لم تجرؤ أنت على مثله , سأسطو على مصرف.
جاء هذا الكلام مفاجأة مذهلة لأبي لبادة , قال متحديا:
-ننتظرك جميعا إذهب فتفذ..
وقال باقي أفراد العصابة مرددين بصوت واحد , وصار على صقر إما أن ينفذ أو يعنو وينحدر إلى آخر درجات السلم في العصابة أو ينسحب.
كان المصرف في دار قديمة في سوق العصرونية .. فلما كان ميعاد غداء الكتبة دخل صقر دون أن يراه احد , وعبر البهو على أطراف أصابعه , ومد يده القذرة , فأخذ رزمة من أوراق النقد وضعها الصراف في جانب وهو يعد محتويات صندوقه وأخفاها في سترته , وكان مكتب الصراف عاليا فلم يشعر به لأن قامته لاتصل إلى ذاك المستوى إلا إذا استوى على أطراف أصابعه , فلما تم له أراد عاد دون ان يشاهد الصراف.
عند ما عاد الى مكان وقوف جماعته اقتسمها معهم , فلم يعط أبا لبادة شيئا فكان ذلك رصيدا كاملا استوفى فيه صقر من أبي لبادة كل ما أداه إليه,
وسرعان ما اختفى أبو لبادة.
وهكذا بضربة واحدة سددها له, اقتص منه لأعماله حمايته وجرده من عصابته كافة.
وقال صقر للآخرين:
-هلموا يا أولاد .. لا مكان للأساليب العرجاء في نشاطنا ليكن محصول كل واحد منا محصولا محترما.
وشحذت هذه الضربة ذهنه , وصار يغلف نزعاته بستار خفي وراء غاياته وقال لافراد عصابته:
-أنا رجل متواضع , سأنام حيث تنامون.
ومادرى الباقون , ان غايته حجر إنما كانت ليتدارك لنفسه مكانا ينام فيه , وحين أخبروه أنهم ينامون في غرفة رثة كائنة في حديقة دار قديمة مهجورة في سوق محلة باب السريجة, ابتسم ابتسامة عريضة ,فلقد حصل على ما يريد جميعا.
في هذه المرة أصبح ذا رصيد ضخم هو وهؤلاء الغلمان السبعة الذين بدا أنهم عنوا له و؟أسلموه قيادتهم يوجههم كيفما شاء.
على أن انفجار عصابة أبي لبادة بهذا الشكل المدوي بين أتباعه لم يخل من مضاعفات , فلقد نبه شهية أفراد آخرين من العصابة إلى الزعامة , وهكذا وجد بينهم واحد لم يقع ما صنعه صقر من نفسه موقعه المرجو,
وخاف أن يكون رجال المصرف أخفوا نبأ السرقة بانتظار أن يعود الفاعل فيكرر عمله مرة أخرى كما تنبأ بذلك صقر نفسه, كانت هذه الوسيلة الوحيدة لتوريطه فلم يعلم السرقة أحد , وكان أن لذلك العضو العصابة أن يسخر من حجر فقال له:
-إنما تريد أن تستغفلنا , لقد وجدت هذا المال في مكان ما
كان صقر قد حفظ درسه جيدا ,فلم يشأ أن يغامر دفعة واحدة بالغنيمة التي استلبها من أبي لبادة فيفجر العصابة مرة أخرى ,وتجنب السير على غراره ,وطرح شعارا جديدا قال:
-من كان مع مع هذا فليقف إلى جانبه , ومن كان معي فليقف إلى وانبرى منهم أربعة وقفوا إلى جانبه وهم الأكثرية , ومع ذلك كانت شهيته مفتوحة لربح الباقين , وأدرك ببصيرته النفاذة أن خصمه أضعف منه جسما فدعاه للنزال , وهناك لقنه درسا عناصره من الرفس على البطن والعينين ما شاءت لع عضلاته حتى أغمي عليه.
وسرعان ما تبعه الباقون من أشياع خصمه و فأعاد للعصابه وحدتها وسار على راسها يخطط وينفذ.
ذاع صيت العصابه بما نفذته في تلك الأيام التالية , في الأوساط التي تعنيها هذه الأعمال , فبينما كان يسير أمام المحلات التجارية الكائنة في شارع .., التفت إليه صاحب واحد منها اتخذ محله التنباك ظاهرا وقال له:
-تعال يا صقر..
وتوقف صقر في مكانه دون ان يتقدم واجاب :
-هكذا تنادى الناس؟..
وكان في لجهته زغريته واضحة واردف الرجل:
-قابضها والله.
-قف عند حدك.
وضحك الرجل وقال:
-إنما كنت أمتحنك فإن لك عندي شغل سمين.
عندها انفرجت أسارير صقر واقترب منه , وقال الرجل:
-أريد يضعة أفراد من جماعتك ليكونوا عاملين والباقون للاحتياط.
ص43
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
رواية ممتعة استاذنا / فراس الحكيم
يعطيك العافية
تحية وفاء
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
شكرا اخي صديق لمرورك الكريم ونتابع معا:
*********
ولكم جعل محترم.
-ماهي المهمة؟
-الاثنان يحومان حولي في هذا المحل , متى أشرت لواحد منهما ذهب إلى محل آخر ركضا واحضر لي ظرفا فيه بضاعة ,أفهمت ؟
-مفهوم مفهوم.
-فإذا وصل إلى مسافة ما من المحل سلمه إلى آخر وهذا يسلمه إياه ..مفهوم؟
-مفهوم.
-فإذا قبض عليه كان عليه أن يرمي ما بيده بسرعة فائقة دون ان يرى وينفي كل علاقة له معي ..مفهوم؟
-مفهوم يا معلم .وأنا؟
-أنت شريك على الثلث.
-اتفقنا.
وبدأ صقر نشاطه الجديد , منذ اليوم الأول وأحضر جماعته فانتقى منهم اثنين نشيطين وسلمهما إلى صاحب ا لدكان.
كان دوره الإشراف على العملية وضمان سلوك لا شركة فيه.
وجلس صاحب المحل على حشية وضعها على كرسي من الخيزران أمام دكانه التي صفت فيها خشبية كبيرة مملوءة بالشاي وصفت علب اللفافات على الرفوف, وجاء زبون وقف أمام صاحب المحل وأسر له ببعض كلمات ..
فالتفت هذا التفاتة لم يفهم منها الزبون شيئا وقال له:
تفضل لحظة..
في تلك اللحظة انتقل غلام كالسهم وغاب ثلاث دقائق ليعود وليس في يديه ما يظهر حتى إذا صار على مسافة خمسة أمتار من المحل دس يده في كمه فاخرج ظرفا صغيرا سلمه إلى غلام آخر , وهذا ذهب بعكس اتجاه الأول ولف حول جملة أبنية من شارع خلفي ثم جاء من خلف الزبون الذي كان ينتظر وعيناه تتابعان الغلام الأول , وظهر الغلام الثاني من وراءه فناول الظرف إلى صاحب المحل الذي ناوله إلى الزبون.
تمت الحركة بنجاح تام, وانفرجت أسارير صاحب المحل عندما ناول الظرف للزبون وفيه الحشيش المخدر , وفتح الزبون عينيه من الدهشة وسارت الأمور سبرها الطبيعي.
كان صقر يحضر في كل يوم خميس , فيتقاضى حصة كاملة غير منقوصة وهي الجعل الذي يقبضه الغلمان.
وكان قد بلغ الثانية عشرة ولكن من يراه يعطيه سنا يتراوح بين السادسة عشرة والسابعة عشرة ربيعا. وقد استراحت تقاطيع وجهه, وزايله اصفرار وجهه , إلا أنه لم يتخل عن حديقة الدار القديمة الكائنة في سوق باب السريجة , فقد حرص على ان يؤوب كل يوم مساء لينام فيها مع أفراد عصابته , وكان كريما ينفق الكثير على عصابته , ويبدو أن أفرادها شعروا بالفارق الكبير بين معاملة الرئيسين فاخلصوا لرئيسهم الجديد أيما إخلاص.
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
وبالفعل فإنه في أحد الأيام كان صقر يشترك مع الغلام سليم من أتباعه في عملية نشل في صالة سينما , وكان قد أخذ للأمر أهبته فتظاهر قبل ولوج السينما بأنه ضرير وأوعز للغلام سليم بأن يقوده , ذلك أن نور الشمس كان قبل ذلك باهرا فأراد ان تعتاد عيناه على الظلام قبل الدخول حتى إذا دخل السينما كلها ظلام غدا مستطيعا أن يميز فيها فيفتح عينيه هناك ويستطيع ان يميز الجالسين من النظارة في مقاعد هم ويميز ويختار جليسه من الجوار على ان يكون عليه مخايل اليسار والنعمة وهكذا دس يده في جيب أحدهم فاستخر مالا وتفرس في وجوه الجالسين فتخير جوار رجل ثري ,فلما استخرج هذا الأخير في وقت الاستراحة محفظته وابتاع مثلجة كانت عينا صقر تراقبه وتحدد موضع المحفظة في جيبه وانتظر حتى ماتت الأنوار إيذانا باستئناف العرض , فاختال حتى غدا قريبا من موضعها وكان الأمر على غاية من الصعوبة , فاقتضى منه زمنا ولكن يد صقر كانت قد وصلت إلى مكمن المحفظة .إلا أن الرجل أحس بهذه اليد وهي تخرج من جيبه فحاول القبض عليها, ولكن صقر كان أسرع منه, فقد أفلت واختفى,في تلك اللحظة عادت الأنوار إلى الصالة لعطل في العرض ولما كان قد شاهد سليما إلى جانبه وكان قد رآه يحدث صقرا من قبل فقد أمسك به وعبثا حاول تسليمه إلى شرطي لأن الصالة كانت خالية من الشرطة , فتلقى سليم من الرجل وممن جاء لنجدته عددا ضخما من الضربات , أدمت جانبا من جسمه . ومع هذا فإنه لم ينطق بكلمة ولا شيء بصقر الذي كان في تلك اللحظة يجلس في مكان بعيد في الصف الكائن خلف الرجل ينظر إلى ما يفعله بزميله سليم.
ص 46
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
كان كل يوم يمر على صقر يترك في ذهنه تسجيلا لواقعة جديدة عليه تشحذ ذهنه وترهف ذكاءه وتوسع إدراكه , وحين جاء إلى صاحب المحل في يوم الخميس ليحاسبه عن رصيده الذي تكون له في ذمة الرجل , شاهد رجلا آخر يسبقه إلى صاحب المحل فيرحب هذا به ترحيبا حارا , ترحيب الخادم لمخدومه والمرؤوس لرئيسه , ثم يقدم له كرسيه ذا الحشية , ويظل واقفا بانحناءة خفيفة تنبئ عن الاحترام الكامل.
جلس الزائر على الكرسي دون أن يتحرج كأن من حقه ان يجلس , وعلى مضيفه أن يقف بين يديه هذه الوقفة المستخذية, حتى أن الزائر وهو يحدث صاحب المحل لم يعن بأن يرفع رأسه إليه حين يكلمه إمعانا في العنفوان , الأمر الذي كان يلجئ صاحب المحل إلى الانحناء أكثر فأكثر ليستوعب ما يحدثه به الزائر أو ليمكن زائره من سماع كلماته الجوابية.
توقف صقر في منتصف الطريق وأحجم عن إتمام طريقه إلى حيث يقف شريكه إذا تريث وانتظر , إذ لابد أن يكون الأمر جدا بين الرجلين , فيأتي شانه مع شريكه في المكان الثاني.
طال الحديث بين الرجلين فتحرك الفضول في نفسه فتقدم دون أن يشعر به واحد منهما , حتى أصبح منهما على بعد كاف لكي يتناهى إليه الحديث.
كان هذا الحديث تصاحبه آثار اهتمام بالغ ارتسمت على وجه الرجلين.
الزائر: أنت ناخب ثانوي فيما أعرف.
صاحب المحل: نعم وقد أنعم علي بهذا المركز حقي بك.
الزائر: حقي بك؟ صحيح؟ إن حقي بك ولي نعمتنا وصاحبنا وهو الذي أشار علي بأن أرشح نفسي لأكون مرشحا أوليا للانتخابات.. في سبيل الفوز بمقعد في المجلس النيابي.
صاحب المحل: مئة أهلين يا بيك.
الزائر:لقد سمعت عن مروءتك الشيء الكثير.
صاحب المحل:أنت أحسن يا سيدي
الزائر:هل يمكنني الاعتماد عليك في الانتخابات القادمة؟
صاحب المحل:أنت تعلم أن..
الزائر:فضلك واجد يابيك وهذه إحدى شمائلك الكريمة ,ولكن..
الزائر: نعم تكلم.
صاحب المحل:تعرف أن فلان بيك دفع كذا..
الزائر وإذن؟
صاحب المحل:أبشر خيرا
الزائر:قد نحتاج لبعض أعمال لإزعاج منافسينا.
صاحب المحل: لدي فتية وغلمان يبيضون الوجه.
الزائر : أنت زعيم حي , فلا غرابة أن تمتلك الوسائل , أنت رجل طيب.
صاحب المحل: هذه التجارة سائرة سيرها الطبيعي؟
وغمز الزائر صاحب المحل بعينيه , وقال: هذا الأخير:
-بعنايتك يابيك.
وضحك الرجلان ضحكات مجلجلة حتى بان آخر ضرس في الفم..
وعاد الزائر يقول:
-أعتقد بأنه لا حاجة بي إلى أن أرجوك مرة ثانية.
قال الرجل جملة ببطء وشد على صاحب المحل وهزها هزا مرارا وتكرارا.. وظلت الأيدي مشتبكة ثوان عدة غادر الزائر بعدها المكان.
عندها فقط أبصر صقر أن الزائر يرتدي ملابس فاخرة ويضع على عينيه نظارات ضخمة , وقد بدت على هيئته إمارات الغنى.
وابتسم صقر ايتسامة عريضة , وشعر بالزهو ينتفخ في إهابه , إنه لإذن يتعامل مع زعيم من زعماء الأحياء , وقد غدا ذا قيمة في حساب هذا الزعيم , فليعد النظر إذن في الحساب , المسالة تقتضي إعادة النظر وهل ثمة حظ أبلج من حظه؟ وتصور المستقبل كيف سيكون يجب أن يضاعف نشاطه للحصول على المال جيوب الناس ومكاتب الصرافة يضاعف نشاطه للحصول على المال جيوب الناس ومكاتب الصرافة.
ص 49
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
أصبحت مصدرا ثانويا.. هنا مكان الاغتراف .. يكفي إذا أراد , أن يعلم صاحب المحل بأنه وقع في ورطة ليسرع هذا ويدلي له بما ينقذه منها هذا صاحب عملية في الانتخابات المرشح النائب في المجلس النيابي ذو النفوذ , ومن يدري , فقد يغدو هذا المرشح وزيرا لا ترد له كلمة.
وقال صقر لنفسه :
- هم م م م الآن عرفت كيف أتصرف . يبدو أن الدنيا هي هكذا دائما في كل زمان ومكان.
وانتظر بضع دقائق قبل أن يظهر أمام عملية صاحب المحل .. وإذا كان في السابق يعامل "صاحب المحل" بشيء من الاحترام, فقد زاد الآن هذا التقدير وزادت معه مداراته . صار لزاما عليه أن يوفق سلوكه مع وضع رجل ذي شأن كهذا الرجل الذي يمثل هو امامه ,وعلى كل حال , فقد تجنب ان يبدو امامه عارفا بما جرى من حوار بينه وبين الزائر الكريم ..
-خل علمك هذا إلى الوقت المناسب
هكذا خاطب نفسه .
وزاد زهوا بنفسه حين بادهه صاحب المحل يسأله:
-كم عمرك يا صقر؟..
-خمسة عشر عاما .
-غن عقلك يا صقر أكبر من جسمك بكثير.
هو نفسه , حين يتذكر ما كان عليه حاله حين كان عند أم محمد يدرك انه كان مغغلا , والآن يشعر بأن إهابة الذي كان له من قبل قد تمزق ليخرج منه كائن واع لوجوده ووجود الحياة على حقيقتها , إنه في كل يوم ينمو نموا مطردا وسريعا , هذا ما قاله له الرجل وهذا ما يعنيه أيضا.
ليس في قول صاحب المحل جديد, إن هذا الرجل يسرق فكرته عن نفسه , فلو تأخر عن التعبير عن هذا الرأي لعبر عن هذه الفكرة قبله.
ولعل هذا الاتفاق الذي عقده مع"صاحب المحل" كان فتحا له فقد فتح له نافذة جديدة على العالم ..نافذة واسعة ..واسعة يطل منها على مجال أرحب لا عهد له به. أليس في هذا العالم أشخاص ذوو أعمال غير "صاحب المحل"ولماذا لا يكون هو صاحب عمل . إنه رئيس عصابه , إلا ان ثمة فرقا كبيرا بين صاحب أعمال ورئيس عصابه , ثم أدرك حجر بثاقب نظره ان أصحاب الأعمال لهم صفات مميزة أخرى فأولها السن , غنه بالرغم من كل شيء مازال صغيرا ومن ذا الذي يتعامل مع صبي اتفق مجرد اتفاق ولحاجة في النفس ان هذا الرجل استعان به وبعصابته فأراد ان يستخدمه لمصلحته ..هو لا يريد البقاء في هذا النطاق إنه راش بصورة موقوتة ولو كان صاحب المحل يستثمره فإنه سينتظر فرصته كل فرصة لايد آتية لابد آتية ..لا ,لا,
لابد من الاستمرار في هذا النشاط فترة من الزمن , هذا الخط إلى أن يتاح له مع الزمن الخروج منه إلى الفضاء الأرحب, إلا انه أكد لنفسه منذ الآن أن عمليات السطو للاسترباح ستزيد عددات وتتضخم حجما , ذلك أن من صفات أصحاب الأعمال إنهم يمتلكون رأس مال كاف .. فمن أين له ؟ هذا ما لابد منه ,وما دام يعوزه المال فإن العصابه تتطلب أكثر فأكثر .أفرادها يكبرون وقد يكبر معهم تمرد هم او قل طموحهم فالمال هو المسكت الوحيد ..وهو ؟ إن متطلباته تعادل متطلباتهم مجتمعة.
ص52
وعاد يستعرض محصول اليوم الواحد من النشل والسرقة وجمع أعقاب السكاير ..وقال :
مستحيل العودة إلى جمع الأعقاب فهذه وسيلة طفولية لم تعد تدر المال اللازم.. يجب التفكير في وسائل للطو أضخم وأعظم.
في تلك اللحظة جرت في الشارع عاصفة .. صخب وصياح وتحلق الناس حول نقطة واحدة فحجبوا ماتحلقوا حوله . وأسرع صقر فغدا بين المتحلقين ونظر فإذا رجلان يتشاجران بالأيدي ويتبادلان الكلمات بشكل عنيف , لم يعرف عن أسباب الحادث شيئا , إلا انه سمع احدهما يقول للىخر:
-اعد لي طير الحمام أقول لك يا ...يا...
ويرد عليه الآخر:
-هذا الطير من نصيبي تعبت عليه حتى ربيته.
ابتسم صقر لما سمع هذا الحوار وقال في نفسه:
-قلائل أولئك الذين فهموا ما يعنيه هذان الرجلان بتعبير "طير الحمام" إن السامعين ولا ريب يعتقدون بان الرجلين من كشاشي الحمام وكش الحمام هواية مفضلة عند نفر من قاطني بعض الأحياء القديمة في المدينة . إلا أن الحقيقة هنا هي غير ذلك.. هو نفسه صقر كان في يوم من الأيام ..ولكن ماله وما لهذه الذكرى المهينة.
وهم صقر بأن يغادر المكان ويبتعد , ماله وما لهذين الرجلين أمرهما لا يعنيه , إلا أن بصره اختطف صورة واحد من الرجلين المتشاجرين , غنه يعرفه بالتأكيد ,فعاد وظل يتفرس في وجههما..
يا للصدفة , احد الرجلين هو أبو معروف معلمه القديم.
في تلك اللحظة سمع أبا معروف يقول لغلام واقف عن بعد قليل من المتشاجرين:
-اذهب واختف.
ونظر الغلام مفتوح الفم , إلى الرجلين وكأنه لم يفهم شيئا.
وجاء صوت أبو معروف مرة ثانية موعدا مزيدا:
-اختف قلت لك ..ألم تسمع يا.. اذهب لك اذهب..
وإذا بالغلام في هذه المرة يبتعد بسرعة ويختفي وبرز من المتجمهرين رجل دخل بين المتشاجرين , وقبل ان يسدد واحد منهما إليه كلمة أخرج من جيبه جامعة حديدية حين شاهد الدماء تنزف من احدهما بغزارة وجمع يديهما فيها.
وأدرك صقر أن الرجل من الشرطة السرية. عندها حق على صقر أن يبتعد فالمشنوق يخشى جرة الحبل.
ص 53
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
أسرع بالابتعاد عن مكان الشجار , فلما غاب المتشاجران عن نظره , عاد إلى مشيته العادية , فشاهد امرأة تمسك بيد ابنها وتمشي به على حذر وكأنها تشفق عليه من أذى.
لقد كان هو صقر ذاته طير حمام فيما مضى .. لماذا يشفق من هذه الذكرى؟.. كان طير حمام مهملا في بادئ الأمر ثم طير حمام مما يتشاجر عليه أمثال أبي معروف.لأنه ينشل ويأتي بمورد جيج .. لقد مر بهذا الدور وكان ساذجا يسرق ويأتي بما جناه طول نهاره من جيوب الناس إلى أبي معروف فيرمي أمامه "باغلة" يأخذ منها أبو معروف ما يشاء ويدع له مايشاء.ثم صار طير حمام بيد أبي لبادة . وجنى طول النهار وعاد يرمي بالغلة أمامه يأخذ منها أبو لبادة ما يشاء ويدع له ما يشاء.
وشعر بقشعريرة تغزو جسمه كله من رأسه إلى قدمه . وأدركته شفقة على ذلك الغلام الذي أمره أحد الرجلين بالاختفاء .. وفجأة تذكر .. وأفراد عصابته؟لا إنه ملهم كطيور حمام .. وسوف يرتقي بأساليب العمل
.. حتى لايعود هناك طير حمام.
وود لو أنه لحق بالغلام وتعرف به وكشف له عن عن تجربته الخاصة كاملة وأغراه بأن يعصي صاحبه ويستقل عنه..وفكر قليلا ثم قال :أجد ما تقول؟.. وأفراد عصابتك؟ هذه هي الحياة ..هذا الغلام اليوم طير حمام وغدا رئيس عصابة.
بدي عيش أعمل كل شيء وليكن ما يكون حتى ولو كلفني ذلك تكسير الرؤوس.
*****
في الأيام التالية زادت شهية صقر للسطو بغية الحصول على المال , زادتها وأرهفتها الوقائع التي شاهدها وعاينها , كان يعيش في وسط غني بالاعتداء , بالخطف بالاستيلاء غلام يستخلص من آخر ماسرقه ثم يلطم إذا مانع , الكبير يأكل الصغير , فلا يجد هذا الأخير سوى البكاء.
مجت نفسه الغلام الباكي , لقد كان عليه أن يلتمس الوسائل ليلطم بدوره ليستولي ,ليسرق . ليضرب .كاد يقول : ليقتل إذا اقتضى الأمر ووجد نفسه في نهاية الأسبوع وفي جيبه محصلة ضخمة , وفي صباح أحد الأيام وجد نفسه مستيقظا , عيناه منفتحتين وقد هرب النوم منهما فلا أثر فيهما للنعاس, فهو يملك أعصابه جيدا, قفز من مكانه وأيقظ رفاقه الذين لا يزالون نائمين,كان فؤاد غائبا ,لقد خرج قبل الجميع .إنه أنشطهم وأشدهم ذكاء , ولم يبتعد عن المكان إلا قليلا حتى شعر بيد على كتفه , وحين التفت وجد شرطيا وبيده غلام آخر إنه فؤاد , كيف تأتى لفؤاد رغم ذكائه أن يقع؟.وأحس كأن ماء باردا انسكب عليه من عل , كان إحساسا داخليا بأن بناء شامخا قد انهار في لحظة واحدة , أين الآمال المعقودة على صفقات كان يحلم بها, كان المال بين أطراف أنامله يعب فيه عبا, يأخذ منه مايشتهي , صاحب المحل يحفظ له رصيده وأفراد عصابته يأتونه بحصصه مما جنوه وهو مستريح.
أدرك للوهلة الأولى أن المرة هي غير المرات السابقة , كان يومئذ قد وقف أمام قاضي التحقيق مرتاحا , ليس عليه يخسر شيئا وليس لأحد عنده التزام , فهو مجهول الوجه والملامح ممن نشل من جيوبهم,ص55
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
لنجاح الرواية العربية يشترط اتصاف الحدث بمنطق الحدث ارتباط العلة بالمعلول والنتيجة بالسبب والفعل بالظرف ، والتسلسل الزمني وعدم
القفز الزمني وترك الفراغات ، وتنامى الحدث ، وعدم القفز الدرامي والحركي بدون مسوغ منطقي ، وأن يقول الكاتب ما يريد لخدمة فكرة تضيف قيمة إيجابية للمجتمع أو تحذف نقيصة سلوكية منه ، لن أدخل بنقد مطول للنص ، لكن لغته أعجبتني ، أرجو النجاح للأخ الكاتب المحترم .
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
السلام عليكم
بالعكس أستاذنا الكبير عبد الرحيم يهمنا وجهة نظرك ونقدك , ربما العنصر الدرامي كان غير بارز بقوة, وربما هناك ثغرات , ولكن لم يعد بالإمكان افضل مما كان وقد رحل صاحب النص إلى ربه:
شكرا لمرورك الكريم والهام جدا.
***********
تتمة:
علاقته مع شخص واحد هو أبو معروف كان أبو معروف أول من تعرف عليه,صقر لهذا يترامى تفكيره إليه
في كل مناسبة , لعل الأمر الآن كما كان في السابق وكما ذكره له رفيقة في نظارة القصر العدلي :كل ما في الأمر إقامة في معهد الأحداث ودربة على إحدى المهن ثم خروج من جديد إلى هذا العالم الزاخر وسعي فيه.
عندما دخل مكتب قاضي التحقيق قال له هذا الأخير:
-أهلا وسهلا بصقر,يظهر أنك اشتقت سريعا إلى مكان التوقيف طيب لك ما تريد.
كان هذا الاستقبال المتحدي كافيا فإثارة أعصابه إثارة بالغة.فكزت نفسه وصعد أمام الاستجواب.
-اسمك ..اسمك أبيك ..اسم أمك ..عمرك..
أجاب صقر على هذه الأسئلة وهو ينظر نظرة جامدة إلى القاضي .
لم يناقشه قاضي التحقيق , فهو يعرفه حق المعرفة ويعرف وضعه جيدا.
-يسند إليك جرم السطو على المصرف ..فماذا تقول؟
من أين عرف القاضي أنني سطوت على المصرف ؟ إنه أحد أفراد عصابتي ولا ريب,أريد أن أعرفه,يجب أن اعرفه.
ظل صامدا مصرا على إنكاره حتى جاء قاضي التحقيق بفؤاد فقابله معه.كشف فؤاد النقاب عن كل شيء ,وسرد أسماء أفراد العصابة بكاملهم وأبان تفاصيل سلوك صقر بدقة متناهية ولكنه لم يأت على ذكر صاحب المحل.
-هم م م م صاحب المحل توصل إلى "سحب" العصابة و ورفسني بقدمه و أراد التخلص مني. استثقل نصيبي في الشركة..م م م
ونظر قاضي التحقيق إلى صقر كالمستفسر , ولكن صقر بقي صامتا وعبثا حاول القاضي استخلاص كلمة واحدة منه وكان قد واصل استجواب ساعة كاملة إلا أن جهده ذهب هباء , ويبدو انه عاد يحلل وضع هذا الفتى الصغير وسوابقه واستعرض مرة أخرى ما فاه به أفراد عصابته من عنفوانه وجبروته فوقع على ما أتى هذه النفس المتمردة.
قال القاضي:
-أ أ أنت رئيس عصابة ..أنت؟ هل تعلم بما أفاد به أبو لبادة؟
لقد وصف لي وهو في أشد حالات الزهو مراحل نشاطه, وماذا يضيره أن يتلكم؟غني لمعجب بالمرء يأخذ على عاتقه تبعة ما يفعله ..فلا يتكئ على أطفال صغار لم يبلغوا بعد مبلغه من القوة والجأش , غن الاتكال على الآخرين من أخلاق الضعفاء.
حين وصل القاضي إلى هذا الحد كان الحد كان وجه صقر قد تغير وعيناه أصبحنا جمرتين متقدتين , ونظر إلى القاضي نظرة ثم قال:
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
وتهيأ القاضي لتلقي اعتراف صقر كما تهيأ مساعده للتدوين ولكن عناد صقر عاوده , فابتسم بسمة صفراوية
ثم قال:
-هل صدقت أن لي نشاطا إجراميا؟أنا لم أفعل شيئا
وبهت القاضي ,فإن هذه النفس القاسية لن تلين بهذا الأسلوب وقال القاضي:
-اسمع قصة ما فعلته أنت بلسان فؤاد , أنطق يا فؤاد.
وقال فؤاد:
-رسم لنا صقر خطة ما يتوجب علينا تنفيذه , فسرنا على خط مستقيم متفرقين متهيئين ,عند إشارة مخصوصة,ومتى أعطى صقر هذه الإشارة التأم شملنا وأصبحنا كتلة واحدة.وكان الشهر شهر رمضان وكان الوقت قبل المغيب .كان الطريق كلما مرت الدقائق يقذف بمشاته إلى دورهم سواء بالسيارات أو على الدراجات أو على الدواب.
وكنا نحن ننتظر حظنا واتفق أن الطريق في تلك الساعة قد خلا من أي شرطي , فلما وصلنا إلى مكان منعزل بصرنا برجل على دراجته مسرعة وبإشارة من صقر وقفت ووقف معي اثنان آخرين من العصابة أمام الدراجة فترنحت يمينا ويسارا بسبب استعمال راكبها للكابح استعمالا مفاجئا وعنيفا , ثم انقلب على جنبه وهو يشتم:
-كلب بن كلب. لعنة الله عليكم كدتم أن تبلوني فيكم.
وأجابه صقر:
-اخرس وإلا أخرسناك.
كان الرجل أطول منا جميعا وأكثر امتلاء,فما أن سمع ما وجهه إليه صقر من هجر القول حتى ارقد دراجته على الأرض ونهض كسبع. ورمى نفسه على صقر,وبإشارة من صقر تلقفناه بالضرب بينما كانت يدا صقر تلعب في جيوبه.وقد صدق حدسنا, فالرجل كان عائدا من عمله في تعهد بناء وهو معلم في ذلك التعهد تبين لنا ذلك من الأوراق التي كانت في جيوبه , وقد قبض"خمسيته"أي تعويضاته الأسبوعية ويبدو أن صقر يعلم أن العمال إنما يتقاضون أجورهم كل يوم خميس.
وبان اليأس على الرجل فمد يده إلى جيبه . وخشي صقر وخشينا أن تخرج بسلاح فكان أسرع منه فطعنه بخاصرته فتكوم على الأرض وتناولنا غنيمتنا وأسلم كل واحد منا ساقيه للريح. لم تمض أقل من ربع ساعة, حتى اجتمعنا في المكان المتفق عليه, وتقاسمنا الغنيمة.
وسأل القاضي صقرا:
-ماذا تقول بإفادة رفيقك؟
-كلها ملفقة ولا صحة لها.
-حسنا, ستجدها عما قليل أصح من الصحيح.ص 59
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
وأوجز القاضي إلى آذنه فإذا بباب المكتب ينفتح ويدخله منه رجل ملفوف الرأس بالشاش.وسأل فؤاد:
-هل تعرف هذا الرجل؟
وأفاد فؤاد:
-نعم ,إنه الرجل صاحب الدراجة الذي قصصت عليكم قصته.
وسأل القاضي صقرا:
-ماذا تقول في كل هذا؟
-...........
وسأل القاضي الرجل:
- هل تعرف هؤلاء؟
- -نعم , إنهم الأشخاص الذين سلبوني على الطريق..
- وبينما كان صقر ينظر بنظرة ملتهبة إلى فؤاد كانت يد القاضي تقلب ملفات كثيرة أمامه, فاستخرج منها ملفا وجعل يقرأ فيه. وقال القاضي:
- -أتدري يا صقر من أمر هذه الملفات شيئا؟
- كان صقر مقطبا جهم الوجه فلم يجب:
- -إنها ملفات يتيمة ,هل تدري ما هي الملفات اليتيمة؟
وظل صقر متجهم الوجه صامتا..
-هي الملفات التي لم يعثر في الماضي على فاعل الجريمة فيها ولكن من حسن حظك أن الرجل لم يمت.
وتوقف القاضي قليلا ثم وجه كلامه لفؤاد:
-أتمم حد يشك يا فؤاد..
-في أحد الأيام رأينا سيارة تقف في جوار دار وكان زجاجها مفتوحا لم تكن نفقه شيئا في قيادة السيارة.. ولكن أخذنا حقد لم نعرف مأتاه على صاحبها الغائب, فدخلت أنا فيها وخربت بعض أجهزتها , وكسر واحد آخر منا الأنتين, الكائن على رفرافها, إلا أنني اهتديت إلى تحريرها من كابحها وتمكنا جميعا من دفعها حتى أصبحت في رأس طرق منحدر حتى تركناها تهوي رويدا رويدا, واختبأنا في ناصية الشارع.
فشاهدنا الناس يتسابقون في الفرار من وجهها وهم يتصايحون ويشتمون ويلعنون.وظلت السيارة في انحداهرها حتى وصلت إلى مستقر لها في شارع آخر.
وسأله القاضي:
-هل دهست السيارة أحدا؟
-مطلقا.
-يبدو أن حسن الطالع يحالفكم في كل جرائمكم ياصقر.
وأضاف فؤاد:
-في مرة ثانية لم نعن بمثل ذلك وإنما خربنا الأجهزة ,وبقرار واحدمنا بموسى إطارات العجلات.
ص 62
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
في تلك اللحظة فتح الباب قاضي التحقيق ودخل رجل الضابطة وبيده غلام لم يتجاوز الثانية عشرة وقال:
- سيادة القاضي , هذا "حبيب" الغلام المدعي عليه في قضية سرقة الدراجات.
وأوعز القاضي للغلام بالجلوس , ولم يمض على دخوله ثانيتان حتى طرق الباب . وحين سمح القاضي للطارق بالدخول فتح الباب وظهر فيه رجل بادن ربعة غليظ العنق , بدا وكأنه قام من فوره عن وليمة دسمة وظل وهو وإن كان حيا قائلا صباح الخير سيادة القاضي , إلا انه بدا وكأنه يتفضل على الآخرين بتحيته.
رد القاضي التحية ودعا القادم إلى الجلوس , فجلس , والتفت فإذا الاهتمام باد على كل من تقاطيع وجهه صقر بهذا الرجل.
بلى .. لقد عرف صقر هذا الرجل
بلى ..لقد عرف صقر هذا صقر هذا الرجل كما عرف أنه ممن يدخلون مثل هذا الدخول .لقد كان شاهده في مكان ما وسمعه يتحدث كأنه جدول منحدر من جبل ,كان في ذلك المكان يتحدث إلى صاحب محل تصريف الحشيش المخدر , ألم يتخل هذا له عن مقعده فيجلس عليه بدون كلمة شكرا؟ألم يطلب منه وكأنه يأمره بأن يضاعف جهده لإنجاحه في الانتخابات النيابية؟
الآن وضحت الصورة في ذهن صقر بعد أن خفت ذاكرته إلى نجدته . واستخفه شعور جديد كل الجدة , فإنه ليبدو له من المحقق أن القاضي سيتحدث مع الرجل على مسمع منه,وإذن فلا بد أن يعلم جلية الأمر واشرأب الفضول في عينيه ظمآن.
لم يخيب الرجل ظن صقر , فإنه خرق جدار الصمت وقال للقاضي:
-جئت بشأن مخدومك "حبيب"
-إنه يخصك ولاشك.
-إنه ابني
-أتعلم ما الذي اجترحه غلامك هذا؟
-أعلم .. وأعلم أيضا أن الأمر لا يعدو كونه نشاطا صبيانيا.
-لقد تعدى الأمر هذا الحد , فأصبح جريمة.. محاولة قتل.
-ماكنت أعلم هذا , وإذن فالأمر يستحق عطفك ياقضينا.
شعر صقر أن هذه اللهجة لم ترق للقاضي , لقد وجد فيها شيئا من الخفض وبدا أنه يحاول كبح جماح غضبه فقال للرجل:
-كنت أتوقع أن تطلب مني وضع الغلام في الإصلاحية كيما يصار إلى تأديبه , فذلك أدعى إلى أن تجتث جذور الشر من نفسه.
-وماذا أفعل ؟قلت أن الأمر لايعدو أن يكون نشاطا صبيانيا
-هذا النشاط الذي من هذا النوع هو الذي عينوني لمكافحته . إنه غدا من نوع الجناية.
-أنت متعصب أكثر من اللازم للقواعد.ص 63
-
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
-من الخير أن ينتهي حديثنا عند هذا الحد.
خرجت هذه الكلمات الأخيرة من فم القاضي وهو أكثر ما يكون هدوء إلا أن الرجل تغير لونه لدى سماعة أيها وقد بدت بوادر النذر من خلالها . فنهض الرجل دفعة واحدة وخرج . وتابع القاضي عمله.
أما صقر فقد فتنه أن يرى ولد المرشح للنيابة معه في نطاق واحد وقامت بينه وبين نفسه محاورة . كانت على "حبيب" سراويل من الجلد مخرقة وقميص مهلهل . وقال صقر لنفسه:
-الآن أتساوى أنا وهذا الغلام ,فإنني وإن لم أكن أعرفه قبل هذه الساعة , إلا أنني أشعر بأنني أعرفه منذ وفد إلى هذه الدنيا .إنه صنو لي لا فرق بيني وبينه , وقد جاء أبوه ليستنقذه من يد القاضي.
وود صقر لو بقي بين يدي القاضي حتى ينجز استجواب الغلام حبيب.. فمن المحقق أن وراءه أسرارا يروق له استجلاؤها..إنه زميل له
- وإن لم يعرفه قبل ذلك –في العمل. وكل صاحب مهنة يلذ له أن ينكشف أمامه زميله في المهنة.
وجاء قرار القاضي باستجواب حبيب محققا لأمل صقر وإن لم يدرك هذا الأخير السر الذي جعل استجواب حبيب يتقدم استجوابه هو عن الوقائع التي كشف عنها فؤاد أخيرا.
ولبث صقر وكله آذان يستمع إلى حبيب وهو يسرد أمام القاضي بدون أن يتحرج كل ما اجترحه وإذا به هو يستشعر كرها لهذا الغلام.
وأرسل بقرار التوقيف إلى رئيس النيابه لمشاهدته, وجاء فورا نبأ سعى به أحد الكتاب يفيد أن النائب العام قد استأنف قراره بالتوقيف , ولبث القاضي ينتظر ما سيقرر عند قاضي الإحالة الذي سينتظر في هذا الاستئناف.
وإذا بدهشة تتعاظم عندما عادت الأوراق وقد اقترنت بقرار من قاضي الإحالة بفسخ قراره بتوقيف "حبيب" ثم بإطلاق سراحه لصغره لصغره , وهو مانم عليه بتقرير طبي ينزل بسنة إلى ماتحت السابقة.
وبان الغضب على وجه القاضي فاتخذ قرارا بتوقيف صقر, وهو يقول:
-الآن سنرى أين طالعك من حظ زميلك حبيب.
وعادت الأوراق بعد إرسالها إلى النائب العام مقترنة بالموافقة على التوقيف .
وأوعز القاضي إلى رجل الضابطة بنقل صقر إلى دار.
الأحداث , إلا أن ما حدث بعد ذلك أن صقر تملص من يد رجل الضابطة الذي ما إن بغته الأمر حتى سد الطريق على صقر , فما كان من هذا الأخير إلا أن انزلق على الأرض ودخل بين ساقي الشرطي ليخرج من الجهة الثانية ويختفي.
....ص 67
-
عندما أصبح صقر حرا طليقا , كان همه التواري عن الأنظار رجال الشرطة لأنهم أصبحوا يعرفونه, ولم يخف عليه أنه ملاحق فهو هارب.
ولكن ثقته بنفسه كانت بالغة حد الكفاية فقد اكتسب في أيمه السالفة مرانا على اجتناب الأماكن ذات الخطر , فتفادى من دخول دور السينما ولم يظهر في أي موقف باص, ولكنه ما لبث أن شعر بضيق ..فمكان نومه أصبح أكثر من مكان في ليلة واحدة ,/ كان متشوقا إلى تنسم أخباره هو, الأخبار التي تدور حوله أو التي يدور هو في فلكها,وراجع حسابه الماضي مستعرضا وجوه أفراد عصابته فردا فردا ولكنه كشر وبان الاشمئزاز على وجهه , فهو لن يقبل بعد اليوم واحدا منهم , وفجأة صورة أبي لبادة تطالعه وتداعبه.
-ما رأيك فيه؟
صحيح أن أبا لبادة تلكأ بل أهمل أن يسعفه في وقت الضيق ولكنه رجل يعتمد عليه ,إنه زئبق بكل ما تعطي هذه الكلمة من معنى فإذا قرن مصيره بمصيره نتج خليط جيد من المرونة والتفكير المنتج.
من لي بأبي لبادة؟بلى إنه في ذلك المكان ممثلا بفرد من أفراد عصابته , ولكن هل يقبله أبو لبادة , هل يغفر له؟
استبعد صقر الفكرة نهائيا إنه جوعان فليسطو ليأكل , كمثل أسد جريح لجأ إلى استغفال بائعي الطعام الباسطين بضاعتهم على الأرصفة ..فالطعام غير مرئي ولكنه مقيم للأولاد أكثره فواكه في سوق الخيل.
عادت إليه فكرة الانتقام بعد أن شبع بعض الشبع,الانتقام من صاحب المحل ومن فؤاد الذي جاء ليكبل يديه بالحديد , أين فؤاد الآن تذكر أن فؤادا ذهب إلى أهله وقد نفض عن أذياله عددا لا يحصى من عمليات السطو والسرقة والنشل , الوغد..كان سنه أقل من سبع سنوات لهذا استقدم القاضي عم فؤاد وسلمه إليه , إنه يعرف مكانه.
عندما وصل إلى أول حارة في كفر سوسة وجد دكانا قيد الإنشاء فاختبأ فيها , بقي على هذا ساعات طويلة , امتنع عن سؤال أي طفل أو غلام عن فؤاد حتى عثر به في الهواء قائلا :
دخيلك ..
كانت يدا صقر أسرع وأشد قبضت على فؤاد فرفعته وفعة فوق رأسه وضرب الأرض به.
فبدا فؤاد بلا حراك ولاحس , شاهد العملية غلام آخر هم صقر بوضع نعله على عنق فؤاد , وضع النعل وضغط فإذا بعم الغلام مقبل.
اختفى صقر , وهو يقول:
-إلى وقت ياقؤاد.
أما صاحب المحل فقد فكر فيه صقر تفكيرا أكبر .. وتفتقت قريحته عن طريقة مستحدثة : صاحب المحل اعتاد أن يسكر عند العصر , إذن يمكن استدراجه إلى بيت قرب نهر تورا حيث الكبير , وهناك وبمسعدة شخصين توضع قد ما صاحب المحل في صفيحة ملأى بالاسكنت المجبول حديثا, حتى إذا جف الاسمنت على القدمين ألقي بصاحب المحل في النهر , إذن فالخطوة الأولى هي استصحاب شخصين آخرين , ليس هناك عجلة من الأمر , معه كل الوقت مادام يحسن التخفي , ليكتفي الآن بمراقبة صاحب المحل وياعين أين يذهب ,
ص 69
-
ولتحديد توقيت رواحه ومجيئه وأماكن وجوده في مختلف ساعات النهار , الذي أكد له سلامة هذه الفكرة هو أن صاحب المحل لم يرد ذكره على لسان أي مستجوب أمام القاضي.
فلقاضي لا يدري من نشاط صاحب المحل في الاتجار بالحشيش شيئا,إذن فهو يستطيع أن يرود حول المحل بحرية بشرط أن لا يلمحه صاحب المحل.
كانت فكرة إغراق الرجل أنيابا تنهش في جوف صقر حتى ينفذها , نام مع الفكرة , قام مع الفكرة , شرب مع الفكرة .. الحقيقة أنها أعجبته , وأعجب بذهنه الذي أبدعها, فكرة لا تكلف شيئا ولايدري بها احد, مأمونة العاقبة إلى أقصى حد,إذا ما ابتلع النهر الرجل فلن يطفو أبدا.
لا مانع من تهيئة وسائل التنفيذ .. دخل بين البساتين, وعاين شاطئ النهر شبرا شبرا , انتقل إلى الشاطئ الآخر, هناك في مكان ما مزبلة فيها أكوام من التنك المهجور, أما الإسمنت فيمكن سرقته مع الرمل من إحدى ورشات البناء وما أكثر هذه الورشات في المدينه .. تابع صقر تجواله على الشاطئين فوجئ بغرفة مهجورة , عاين مدخلها ,وحدودها وموقعها , قرر في النهاية أنها صالحة لتنفيذ الخطة.
في الأيام التالية حرص صقر على التعرف على أعوانه المقبلين، فكان لا بد منه أن يرود أمام أبواب دور السينما و الملاهي ليستطلع الوجوه الغادية الرائحة هناك مستعينة بما أوتي به من فراسة و أقحم نفسه في المشاحنات الجارية هناك بينهم ليعجم عود المتشاحنين حتى اهتدى إلى عنصر توصم به الاستجابة لما يطلبه منذ أيام و عندما اطمأن إليه أو كاد وجه الحديث بينه و بينه إلى النشاط الذي اعتاد عليه فلمس عنده استعدادا منقطع النظير ،فترك الحذر و فاتحه بالأمر عارضا عليه مبلغا من المال.
كانت هذه المفاوضات وبالا على صقر فإن طيره في الحقيقة كان باشقا ،أطلقته المباحث الجنائية ليصطاد العصفور الملاحق و كان حظ صقر في هذه المرة حسنا،فإن إدارة المباحث لم تشأ أن تمشي مع صقر إلى نهاية الشوط لتقضي عليه متلبسا بجريمته ، و عقلها عن ذلك اجتهاد القضاء الذي لا يأخذه إلى ذلك الاستدراج ، كدليل على نية إتمام الجريمة ففضلت القبض عليه كهارب من وجه العدالة.
و هكذا عاد إلى قاضي التحقيق ليستجوبه عن جرم جديد هو فراره من وجه العدالة.
سار الرجل الضابطة من صقر من نظارة التوقيف إلى محكمة الأحداث و حين دخل كان قاضي التحقيق منهمكا في استجواب إحدى الأحداث البنات ،فلم ينتبه لوجوده و تلقفه المساعد فأوعز له بالجلوس ،وخرج رجل الضابطة ينتظر أما باب قاعة المحاكمات .
كان الاستجواب شبيها بما وجهه إليه قاضي التحقيق و جعل صقر يردد بينه و بين نفسه ما كتب على اليافطة المعلقة على باب القاعة عندما غشيها : (محكمة الأحداث الجناحين) ، و كان قد دخل المدرسة و بقي فيها لمدة سنتين و ذلك ما أـسعفه أن يهجي هذه الجملة فهجاها بصعوبة و لكنه لم يفهم معناها .
(الأحداث الجانحين )ما معنى هذه الجملة ..لم يهم منها سوى لفظ ( ذكرها أحد أترابه في نظرة التوقيف أول مرة .. محكمة تعني المكان الذي يرسل منه إلى الحبس.و لكن، ما أغلق على فهمه أكثر من أي شي آخر هو ما سمعه من رجال معه في نظارة التوقيف إذ ذاك ، قال هؤلاء الرجال إن هناك محكمة سقفها مرتفع جدا،في فنائها حواجز خشبية مزخرفة عالية جدا يجلس عليها ثلاثة أشخاص في الوسط و شخص رابع بمواجهتهم على يمينهم يصيح كثيرا و يضرب الحاجز بقبضته و شخص خامس بمواجهتهم أيضا و على يسارهم يكتب، و هم جميعا يلبسون ألبسة غريبة . القاعة فسيحة جدا وهي بما فيها ومن فيها مرعبة.
تذكر صقر أن الموقوفين قالوا على مسمع منه ك
أن هذه القاعة وصفوفها اسمها محكمة الجنـ الجنايات.. هذا ما يذكره , ما معنى الجنايات؟
إلا أن صقر صحح معلوماته الآن حين سمع القاضي يقول لمساعده :هذه الأفعال من نوع الجنايات
فافتح لها ضبطا خاصا ..صحيح الآن تذكر أن تلك كانت محكمة الجنايات , ولكن ما معنى جنايات؟
ثم إذا كانت هذه محكمة , فليست الغرفة من السعة بحيث ينطبق وصفها على تلك ..ليس فيها سوى قاضي واحد,لا يجلس على حاجز خشبي مرتفع بل وراء مكتب.
هذا ما عرفه حين دخل رجل يخاطب الرجل الجالس وراء المكتب قائلا:
سيادة القاضي , صحيح أن على يسار هذا القاضي شخص يكتب ما يمليه عليه القاضي , ولكن هل حقا هذه محكمة؟.
ص 72
-
فتح عينيه أكثر فأكثر , وصب نظراته على القاضي , فوجده شخصا رفيقا يكلم تلك البنت الماثلة أمامه برفق وأناة . لم يصدق .. وقال بينه وبين نفسه:
- هؤلاء الأشخاص خداعون , يطلون حديثهم بالعسل , حتى يتمكنوا من الوصول إلى ما يبتغون ,حتى إذا ما ظفروا نكلوا بمن يستجوبونه.. ليس هناك من سوى الحبس . ليس في هذه الدنيا غير الأشخاص الملاعين الخداعين , أبو لبادة وصاحب المحل , وربما هذا القاضي .
وأشاح بوجهه وقلب شفته لا يعينه من كل ما يجري شيء وعلى كل حال فلن يظفر هذا القاضي منه بكلمة واحدة . ما حصل عند قاضي التحقيق سيحصل هنا, لماذا يغير موقفه؟
انتهى القاضي من استجوابه للبنت , فنادى رجل الضابطة الذي دخل وأخذ له التحية , هذا الرجل هو غير رجل الضابطة الذي أحضره هو , وقاد الرجل البنت خارج القاعة إلى أين؟ أغلب الظن إلى دار الأحداث . هذا ما أخبره به لداته في نظارة التوقيف :
- ماذا في معهد الأحداث ؟ أكل وشرب ونوم وتعلم مهنة . أشار له القاضي بالاقتراب , فلم يتحرك وظل ينظر ألى القاضي , وعندما أشار إليه مرة ثانية قام متثاقلا وجلس حيث أشار , وسمعه يسأله:
- - اسمك. اسم أمك.. اسم أبيك.. محل إقامتك؟
- - اسمي صقر ولا أعلم اسم أمي ولا اسم أبي لا أقسم في مكان.
- ص 73
-
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نعتذر بداية عن تخلفنا عن اتمام النقل ونعاود فالتمسوا لنا العذر وشكرا لسعة صدركم.
-
- أين تنام؟
- أنام حيثما يدركني النعاس.
- قلب القاضي شفتيه ثم سأله:
- -أين تأكل ,ومن يقدم لك الطعام؟.
- -آكل ما تصل إليه يدي خطفا من محلات باعة المآكل.
هز القاضي رأسه ثم قال:
-لا يمكن أن تكون قد نشأت على هذا الشكل منذ ولادتك,لابد أنك كنت في يوم من الأيام تقيم في دار.
-كنت أقيم بدار أم محمد,ثم ماتت ,أخبروني عندما ماتت بأنها كانت أخذتني من الطريق.
هز القاضي رأسه ثانية ثم سأله:
-هل تنوي أن تقضي حياتك بهذا الشكل؟
-كل الأولاد مثلي ,أنا واحد منهم.
-إذا قدمنا لك محل إقامة يعتني بك ,وفيه تتعلمو وو ماذا تقول؟
-ولماذا تقدم لي؟ماذا تجني أنت من ذلك؟
-لاشيء ,سوى أنني أريد ان أراك نظيفا متعلما آدمي
-أنا مليح هيك.
قالها صقر بلهجة زغرتية,وأشاح بوجهه عن القاضي.
-يبدو أنك قاسيت كثيرا يا صقر من الشقاء ,ستتغير الأمور منذ الآن ما عليك الآن سوى أن تذكر لي ما فعلت طول الزمن الماضي,وعفا الله عما مضى.
-لا قاسيت ولاشيء
-أنت تقول ما قاسيت ولكنني أنا أعرف ما قاسيته من الآلام.
-ليش كنت معي؟طول الوقت؟.
-لا,ولكنني أعرف.
سكت صقر وظل مشيحا بوجهه,وقال القاضي.:
-والآن؟نحن بانتظارك لتذكر لنا ما فعلته وتريح ضميرك.
-ما فعلت شيء
--أنا أذكر لك ما فعلته,اتفقت مع فؤاد و و على النهب
-هذا ما ذكره لي المستنطق وأنا ما عملت شيء.
-رفاقك ذكروه بالتفصيل.
-هم فعلوا..يصطفلوا أنا ما فعلت شيء.
-أنت تنكر أنك كنت تعيش وإياهم دائما.
-وإذا؟
-هل بينك وبينهم عداوة؟
-لا أعرف.
-إذن فهم صادقون فيما وصفوا.
-لا..
-لا تظن أن عندنا ضرب أو تعذيب ,لن يصيبك من اعترافك أي مكروه أؤكد لك.ص 75
-
- أين تنام؟
- أنام حيثما يدركني النعاس.
- قلب القاضي شفتيه ثم سأله:
- -أين تأكل ,ومن يقدم لك الطعام؟.
- -آكل ما تصل إليه يدي خطفا من محلات باعة المآكل.
هز القاضي رأسه ثم قال:
-لا يمكن أن تكون قد نشأت على هذا الشكل منذ ولادتك,لابد أنك كنت في يوم من الأيام تقيم في دار.
-كنت أقيم بدار أم محمد,ثم ماتت ,أخبروني عندما ماتت بأنها كانت أخذتني من الطريق.
هز القاضي رأسه ثانية ثم سأله:
-هل تنوي أن تقضي حياتك بهذا الشكل؟
-كل الأولاد مثلي ,أنا واحد منهم.
-إذا قدمنا لك محل إقامة يعتني بك ,وفيه تتعلمو وو ماذا تقول؟
-ولماذا تقدم لي؟ماذا تجني أنت من ذلك؟
-لاشيء ,سوى أنني أريد ان أراك نظيفا متعلما آدمي
-أنا مليح هيك.
قالها صقر بلهجة زغرتية,وأشاح بوجهه عن القاضي.
-يبدو أنك قاسيت كثيرا يا صقر من الشقاء ,ستتغير الأمور منذ الآن ما عليك الآن سوى أن تذكر لي ما فعلت طول الزمن الماضي,وعفا الله عما مضى.
-لا قاسيت ولاشيء
-أنت تقول ما قاسيت ولكنني أنا أعرف ما قاسيته من الآلام.
-ليش كنت معي؟طول الوقت؟.
-لا,ولكنني أعرف.
سكت صقر وظل مشيحا بوجهه,وقال القاضي.:
-والآن؟نحن بانتظارك لتذكر لنا ما فعلته وتريح ضميرك.
-ما فعلت شيء
--أنا أذكر لك ما فعلته,اتفقت مع فؤاد و و على النهب
-هذا ما ذكره لي المستنطق وأنا ما عملت شيء.
-رفاقك ذكروه بالتفصيل.
-هم فعلوا..يصطفلوا أنا ما فعلت شيء.
-أنت تنكر أنك كنت تعيش وإياهم دائما.
-وإذا؟
-هل بينك وبينهم عداوة؟
-لا أعرف.
-إذن فهم صادقون فيما وصفوا.
-لا..
-لا تظن أن عندنا ضرب أو تعذيب ,لن يصيبك من اعترافك أي مكروه أؤكد لك.ص 75
-ما عملت شي,أقول لك ما عملت شي..-
-لن يفيدك الإنكار ولن يضرك أن تصف لنا الحقيقة..قلت لك إن هدفنا أن نوفر لك السكنى والعيش الكريم والتعليم,فهل ترفض ما نقدم لك؟.
-أنا عايش هيك ومابدي غير شي.
-ولكن الحكومة تريد غير هيك.
-تصطفل.
ووجد القاضي أخيرا أن ما ذكره صقر ,إذا أضيف إلى ماورد في إفادات أترابه يكفي.
هذا ما قاله لمساعده,وأشار إليه بأن يختم المحضر.
-تعال وقع يا صقر.
-شو وقع؟.
-أكتب اسمك.
-على شو؟
-على الكلام الذي نطقت به.
-أنا ما نطقت بشي.
-ستكتب اسمك طوعا أو كرها.
نظر صقر إلى القاضي عند ذلك نظرة المستعجيب,ثم قام متثاقلا ,أشار له القاضي إلى مكان على الورقة فكتب اسمه بشكل غير مقروء ,نادى القاضي رجل الضابطة وقال له:
-خذه إلى معهد الأحداث الجانحين.وهذه ورقة إيداع باسمه :الأحداث الجانحين..الأحداث الجانحين,سمع هذه الجملة مرارا وتكرارا ,ولكنه لم يفهم من مضمونها شيئا,أنا من الأحداث الجانحين؟ماذا يعني هذا؟لقد كنت أعيش كما يعيش خلق الله ,فما معنى أنني من الأحداث الجانحين؟.
وسمع صقر القاضي يقول له وهو متجه إلى الباب:
-سأزورك في المعهد يا صقرلأرى كيف سيتطور حالك ,وتصبح رجلا نظيفا ذا خلق حسن.
وخرج وهو يقول بينه وبين نفسه:
-أنا مليح هيك.ما معنى أن أكون ذا خلق حسن؟.الناس دأبهم توجيه الكلمات غير المفهومة هنا وهناك.
وأحس بيد الشرطي تطوق معصمه وتؤلمه,ولكنه لم يتفوه بكلمة وسار صابرا إلى حيث يقوده ,ولكن إلى أين؟وتذكر مرة ثانية أنه إنما يقوده ليودعه في معهد الأحداث بعد الحكم عليه.
*****
عندما دخل صقر مكتب مدير معهد الأحداث لم ير وجهه..فقد كانت تحجبه عن النظر إليه أوراق كبيرة الحجم رفعها المدير أمام وجهه,كان صقر مشوقا لأن يعرف كيف هو هذا المدير وما هيئته وبماذا يوحي..ص87