-
السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
السماء تعود إلى أهلها
وفاء عبد الرزاق
رواية
الطبعة الأولى
------------------
مدخل
على مشارف الريح افتقدنا الخطى، اتسع غبار المسافة، تبعنا شرطيّ إلى مرايانا، يلوّح لنا مبتهجاً بعتمتنا، زحف ألم الدقائق على أجسادنا، فغدونا مثل وطن يبحث عن قلب أوعن اتجاه للنهار، وطوّق الصليب صدورنا......... الحقائب لم تزرّر قمصانها، بقيت ظلالنا وحيدة كأمنية بأعقاب السجائر، والرحيل طارد أشجارها.
وفاء
--------------------
إهداء:
قلبٌ يسكنهُ الفـقـرُ
قلبٌ تسكنهُ المدينـةُ
قلبٌ تسـكنهُ الفـأسُ
سكني بهذا الثقب
..........
أيها الصاعق سآوي إليك
و
ف
ا
ء
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
الكاتبة العراقية وفاء عبد الرزاق
يعقد ناد أدب الدقى، يوم الأربعاء المقبل الموافق 14 من الشهر الجارى فى السابعة مساءً، ندوة نقدية لمناقشة رواية "السماء تعود إلى أهلها" الصادرة عن دار الكلمة، للكاتبة العراقية وفاء عبد الرزاق.
ويشارك فى المناقشة الشعراء والنقاد ربيع مفتاح، وفاتن حسين، وشوقى عبد الحميد، وحسن الجوخ، وسامى النجار، ويدير اللقاء الشاعر أحمد زرزور، وذلك بمقر النادى بجوار مستشفى الزراعيين بالدقى.
تقع الرواية فى 480 صفحة من القطع المتوسط، وتتألف من ستة فصول، الأول "غصنٌ تدلَّى من إطار"، والثانى "فكرة اللون"، والثالث "اكتشاف إبليس" و "عودة السماء إلى أهلها"، و"بحرٌ يتسع فى إصبع"، وأخيرًا "فصل الروح عن الجسد".
رواية تحتاج الى من يقراها ويتنفس هواءها
وساختار هنا ايداع فصولها
حبا في جوارك انت والربيع الغالي
سوف ابدا في نشرها
مع ودي لك ابني الوفي الغالي
هي قصة معاناة سنوات تمتلك الداخل والخارج
مع تحياتي
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
فصل
غصن تدلـّى من إطار
ما تكون الذاتُ التي تحيا في آنٍ ضحيةً وجلاّداً؟؛
(أدونيس)
----------------
1
تلمّستْ خاتمها، أطبقت يداً على يد، تجوّلت عيناها في كل أرجاء المعرض، تقادحت يداها كشعلة أوقِدت للتو، حرارة الكفين لم تجد الباب يُفتح على مصراعيه، شارحاً مفسراً ولو باختصار عن سبب تسمية إحدى اللوحات انبهروا بدمعة حائرة في عينيّ المرأة، استوقفه أحد المعجبين: إنها اكتمال النضج.
- اسمح لي أطرح عليك بعض الأسئلة إن أمكن .
وليد: بكل سرور.
- أسئلـــتي عن ســر الدمعة، أهي دمعة فرح أم حزن، لقاء أم وداع؟ أم مدينة لم تجد من يكتشفها؟
كلمات الرجل أعطت لروح وليد جناحين حلاّ وثاق قلبه المرتبك في لحظة عصيبة حرجة، ها هي حواء تحتلّ الصدارة، بهذا الحماس يقف متفرجاً أحياناً ومبتسماً ابتسامة المتفائل، ريشته ما عادت تسخر منه، قدرته في استيعاب اللمسة الأخيرة التي رسمتها بفطرتها سمراء اللوحة، رعشة النظرة المتوسلة بحبيب يجهل أضاميم باقات العشق، قولها له تعال وعش معي في كوني وهواي ، كل هذا يعني أن ريشته موج أناشيد من غزل ٍ ، ترجمت صمتاً تعرّق في ملامح امرأة ذات جمال خاص، إنه صمت رباني يتهدّج داخل الروح.
نظرتها المحدّقة إلى المجهول كما لو أنها مغروسة بنار، خطـّت كحلتها ريشةٌ صدّاحة على مسرح التكوين، حين يرى معجباً بمحبوبته الشقراء ، يرشفه لهب الجســـــد، هاجـــــس الفوز يزيده توهّجاً، يزوّق تفاصيله شارحاً حالات انفعالاته ومعاناته ساعة متعة جنونية. جنون بلا حدود يملؤه بكلمة إطراء لصورة الشقراء.
لوحة البحر تدفأت بزرقتها، أطبق الموج أجفانه وصفا في هدأته.. حين قال (غارسيا لوركا) مرة : (حتى البحر يموت)؛ لم يعرف أن وليداً أعطى جناحاً لكل رملة، وجعلها تحلـّق حول روح البحر كي لا يموت. هي أيضاً توقفت طويلاً عند اللون الأحمر، وميّزت بين اللون الذي شربه القماش واللون الذي امتزج البارحة، امرأة في نهاية الأربعين، شعر متوسط الطول، قامة بين الطول والامتلاء، ترتدي ملابس محتشمة، تحمل بيدها حقيبة رمادية، تستخرج منها قلماً ودفتراً صغيراً تدوّن عليه ملاحظاتها بين الفينة والأخرى.
تخطو متباطئة، تصفو نظراتها، ثم تشوبها لحظة غموض، تنصت لمجادلات الزائرين .
ـ هذا الفنان لم يقلّد الطبيعة كما هي، بل جنّد الطبيعة كلها لمنطقه، ليصرخ من خلال الطبيعة ذاتها ولتسبق الزمن صرخته المدوّية، في حركة البحر من تلك الزاوية يصوّر انفعالاته، يجوز لنا تسمية لوحة البحر هذه لوحة رواسب أعماقه، أعماق الأستاذ وليد.
احتفظت برأيها الخاص، ولم تنخرط في الكلام معهما، كانت ترى ذات الرداء الأحمر كغصن تأرجح من إطار.
تجمَّع بعض الأصدقاء حول وليد، استجابوا لدعوته بعد طول غياب واحتجاب عن الأنظار، صديــــــق قديم قبّله على جبينه، عانقه بقوة وحرارة،
تنافست ثلاث نساء على عزلة نجمة في سماء لوحة (الوجوه الأربعة). قالت إحداهنّ :
- إنها تمثل حالة الفنان، سمعت أنه منزوٍ لا يخالط أحداً حتى أقرب أصدقائه إليه.
ردت عليها الأخرى :
- عندما نعجز عن مواجهة الحقائق ننزوي مختبئين وراء لوحة أو قصيدة أو موقف بشجاعة كاذبة. ليس للفنان حق التقوقع على نفسه أو يجلس في غرفته يعدّ على أصابعه سنين عمره، الفنان مَن تعايش وأعطى.
سمعهنّ عن بُعد، وابتسم في وجه السيدة بعد أن تبسّمت بدورها. رفع يده بالتحية المعهودة لديه، إذ يهزّ كفـّه ثلاث مرات متتالية معبّراً عن ودّه.
عاشقان يحتضنان بعضهما أثارا انتباه الجميع، شاب إنجليزي وفتاة عربية، التفّ ساعده حول خصرها مداعباً وسطها، تمادت يده وامتدّت إلى مفرق الورك. ألصقت ظهرها ببطنه وصدره، وتابعا خطوهما الجذل بين تجمهر المعجبين وعدسات المصوّرين.
موعد للشوق ومساحة للروح، لقاءات خارج البيت، خارج الترقّب. إلتصاق جسدها بجسده أثار فضول العرب، خاصةً من لهم علاقة بأبيها. امتدّت يد الشاب داخل التنورة القصيرة، دنت من صورة ذات الرداء الأحمر، ارتجّ صدرها في قميص فضح الحلمتين. رقبتها السمراء امتدّت كجسر، فرّقت بين أصابعها المطليّة بصبغ لامع و مسّدت شعر الصورة.
شاركهما وليد نظرات الإعجاب، كان يبدو أحياناً على بلاهــــة وذهول وكأنه يقول: من أين جاء كل هؤلاء؟
عيناه تشوبهما لمعتان رماديتان، الإنهاك الشديد خطف بريقهما، بشرته مالت إلى الصفرة، فنان مهجور، غائر في جدب أيامه، ليس في حصيلته غير أيام طفولته العالقة بمخزون الذاكرة، إلى قربها نافذة معطـّلة بانتمائها الحزبي. الكلمات تحتاج اختراعاً وإعادة نظر في القواميس لتعيد إليه ما سُرق منه وما فاته من وقت.
العمر لا يُعدّ بالسنوات، بل باللحظات الفاعلة.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
2
في رائحة الزيت الممزوج بألوانه كان يشمّ رائحة أبيه (بائع النفط) مما كان يضطرّه أحياناً إلى السير في طرقات مدينة الناصرية خلف أبيه، خارج براءة الطفولة ونعومة أظفارها، وقد امتلأت يداه بالنفط حتى يبستا وتقشّرت جلدتهما وخشنت.
طفل لم يبلغ العاشرة، تعلـّق بخضرة النخيل والأغاني الشجية، يرسم بأصابعه في استراحتة القصيرة كل الصور التي مرّت أمامه. ماء النهر يتركه ينام في مخيلته، يحفر بسبابته على تراب الأرض أعذاق النخيل، عربة أبيه، صورة الحمارة وهي تجـرّ العربة، ابنة الجيران"علية"، كانت تحب البلح كثيراً لذا يرسمها وشمروخ بيدها.
انتقل إصبعه من التراب إلى القلم، تأخر في دخوله المدرسة، الفقر يحول دائماً دون تحقيق الرغبات إلا أنه يفجر الإبداع. أول صورة رسمها على سبّورة المدرسة لـ (عبد الكريم قاسم)، كان ذلك في الصف الرابع الابتدائي، ولبراعة الطفولة وقصر التجربة صفّق معلم الصف، وصفق التلاميذ معه.
يخلو إلى لوحاته في غرفة المرسم، فيجد أنه يحدّث البياض. يترك الريشة من يده ويهيّئ نغمة بيضاء، وفي مساحة قماش أبيض يقرأ بداية لون جديد، كلما شاهد مكاناً أبيض رسم عليه، عادة اكتسبها في السادسة عشر من عمره، في أول يوم لتنظيمه في الحزب الشيوعي، تعلّم ملء جدران البيوت والدوائر بالشعارات، يخطّها بقلم الطباشير الملوّن.
حين اشتدّ عوده وقوي، أصبحت مناوبته في المساء، (سطل بويَـه)، وفرشاة، بأحــــلام بيضاء، كما تعـــــود حين يتجول ليلاً ليعدّ أعمدة النور في الشارع الرئيسي وفي الشوارع الفرعية لقياس المسافات والالتحام بهمس الذكورة. مراهقته ونضج شاربه هيّـأه لترقيع نعله بيديه.
قفز إلى خاطره هاجس مفاجئ،" الفنان يخلـّد التأريخ، أم التاريخ هو الذي يخلـّد الفنان؟" فوجدهما يعملان على استنزاف بعضهما!
على مرأى من الجميع قبّلت عشيقها متحدية تقاليدَ وقيماً تظنها مهترئة بالية. لا شك أنها تنتقم من أبيها الذي هجرها وأختها في حضن أم عزلاء، إحساسها بالجنس وممارسته في إحدى حدائق لندن. شاهد وليد من خلال ساقها جمال المرأة العربية وامتلاء فخذيها. كان هارباً ذات يوم من غول الوحدة ملتجئاً إلى الـ (هايد بارك)، بين الأعشاب رآها مبلـّلة بشبقها، جف العِـِرق العربي في وريده، وشعر به كعملة خاسرة، تذكر القضبان وكم كفن مرّ على حديده وكم لحد غرق فيه.
وقتها أغمض عينيه واستلّ ورقة من جيبه وقلماً، وراح يرسم على مساحة الورقة الصغيرة رجلاً مبتور الأطراف راقداً قرب شجرة في الـ(هايد بارك)، لسعه لسان الإنجليزي وهو يتلمّظ حول شفتين غليظتين.
استرجع الشهية الأنثوية، شوك عذب، وخز لذيذ صعد إلى مسامه.. صعد السطح، ببطء رفع رأسه من جدار السطح، شاهد (علية) نائمة، ملتحفة شرشفاً أبيض من رأسها حتى أخمص قدميها.
أعاده ضوء الكاميرات إلى واقعه، شمّ رائحة فحيح يملأ المكان، عاد لرفقة الصمت. اهتزّت الرؤوس طرباً لسماع صوت أغنية عراقية رغب أن ترافق زمن العرض.. (أنا وخلـّي تسامرنه وحكينه ).. اهتزّ هو أيضاً، اقترب من ذاته وتجمّع ماء النهر على شكل أقواس يلامس أرضه، لام غفلته على تواطئها مع الزمن، ارتجفت يده اليمنى ورعش شيء تحت قميصه وصوّبه نحو القلب، شمّ رائحة تعفـّن يده اليسرى.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
--------------------------------------------------------------------------------
3
في وقت تعفـّنت فيه أعمدة الضوء التي مازال يتذكر سيرها خلفه ترسل شعاع نورها على كتفيه، تراقص أنغاماً خاطئة على فوانيس الطرقات، وتسكّعِ النغمِ الخاطئ في كل أحياء بغداد، وأصبح كومة مزبلة تجول في شوارع العراق. المزبلة ذاتها أرسلت طبيبها لبتر يده اليسرى بعد أن اهترأت وتمزّقت حدّ التعفـّن، في زنزانته الضيقة التي بالكاد كان يرفع رأسه فيها.
ارتفاع الزنزانة لم يكد يصل حدّ رأس رجل قزم، وفي التعذيب الجماعي كان يستردّ قوته من الآخرين، من إنهاكهم وتهشّم أضلاعهم. لكن في التعذيب الانفرادي، وهو معصوب العينين وموثق اليدين والقدمين، كانت تمتدّ عصا غليظة بين الوثاق، فتبرز عقيرته على شكل كرة لحمية عارية، تسيل الدماء من دبره، يسحّ الشحم فوق دمه بعد تمزّق الأحشاء. بقي ثلاثة أيام غائباً عن الوعي، وحين استرد وعيه زعق زعقة هزّت أركان السجن. تحركت الأصفاد وتقلـّبت بتقلـّبه، فرح شرطي جاء إثر زعقته، لمظ لسانه وهو يتابع وليداً الفزِع في السواد والزرقة والتورّم وتفحّم أصابع يسراه بعد اقتلاع الأظافر منها.
قرار الطبيب بالبتر، عطيّةٌ من عطايا القائد في الإبقاء على جسده حياً واستئصال ما تعفـّن منه*
على حذر، دخل وفد صغير من ثلاث نسوة وأربعة رجال. رصانة إنجليزية، ابتسامات هادئة، هزّ رؤوس هادئ، يستطيع أن يكوّن فكرة عن منبعهم الثقافي من خلال ارتفاع الياقات البيضاء وانخفاضها، كم حلُم أن يرى الوفد الصغير هذا يهزّ ياقاته إعجاباً أمام إحدى لوحاته في (المعرض الوطني) في العاصمة لندن.
رجلٌ صامت غارق في حفرة دون ماء، عاد له الماء ثانية وتلمّس أرضه، عرِقَ، غاب، سكنَ، بينما الرجل الذي دخل معه ساعة تغليف اللوحة ظلّ طوال الوقت بسؤاله الحائر على شفتيه، يقف صامتاً مستغرقاً في صمته كلما شاهد زائراً جديداً شدّته ذات الرداء الأحمر.
ابتهج لاقتراب السيدة إليه واختراقها توحّده بدمعة حيّرت الحاضرين، وهو يرتشف نظرتها حادثته السيدة:
ـ بلغ الفنان أوج اللذة حين تسرّب إليه دفء الجسد البضّ، حالة زنبقية بين أنثى وريشة وإيقاع لون وخبز احتواء، ثم استطردت:
- هل سبق لكَ أن مشيت حافياً كي لا توقظ امرأة نائمة؟
تفاجأ لسؤالها، عدّل ربطة عنقه، بلع ريقه، تبيّن له أنها من النمط الذي يحب أن يتثاقف أمام المثقفين، كوّن فكرته هذه بسبب صديقة له تزوره، تسمع أقواله وأحاديثه عن الثقافة وتضيف عليها فرادتها بمعلومة تتباهى بها أمام نساء عقيمات مثلها، ومما يضحك في الأمر، أنها تُعيد على مسامعه الحديث ذاته، لكن بشكل آخر، تخلط بين الجهل وما تدلي به على أنه فكرتها أو رأيها. لكن بعد لحظات من تبادل الحديث تيقّن أنها من الشكل الآخر، ذات خلفية ثقافية وجرأة في طرح الرأي والموقف.
سؤال جديد صدر منها أزاح عنه غمّ صديقته الرعناء:
- أليست المرأة أسطورة حين تتزعم الفنون؟.
واصلت حديثها دون أن تنتظر الجواب:
- يجب أن يسجّل الجمال قبل أن يذبل تحت وطأة السنين، فليس أقدر من ريشة الفنان على تحدّي الزمن.. انظر، انظر لذات الرداء الأحمر، خرساء ناطقة تتحدى الفناء... لم تدرِ (فيكتورين مورنييه) عن دورها الإنساني حين وقفت عارية أمام الفنان، إنه التعرّي الذي يصنع الجمال ويسمونه بالغرائز. لو رأت (الموناليزا) الطوابير المتوافدة على متحف (اللوفر) لما اتسعت الدنيا لفرحتها.
أجابها مشدوداً لحديثها : جذوة الريشة التي يشعّ منها النور لا تنطفئ.
انسجاما مع حديثهما الشائق، بدّد وليد صمته وشارك في الاستماع والحديث، أجاب دون أن يسأله أحدهم:
- وبقينا نرسم بيد واحدة.
ليس من المصادفة أن ينقاد المبدعون إلى بعضهم، انتعشت الأحاديث بفيض ثقافي، وفيض المطّلع تقلقه حيرة عن قيم موروثة وقيم يحاول أن يتعايش معها.
قالت: لقد أثبتت الروائع الفنّية أن وراءها مجهولين احترقوا من أجل أن يتوحّد الجمال.
كانت واثقة من نفسها، تطرح آراء ذات قيمة حين واجهته:
- سيد وليد، هل بمقدور الفنان العربى أن يتخذ من زوجته موديلاً؟ أم سيبقي حصراً لانفعالاته المؤقتة؟ محاطاً بهالة من التبجيل الذكوري؟.
أجابها وعيناه على أول زائر: المعادلة صعبة يا..
ـ اسمي راوية.
ـ تشرفنا سيدة راوية. مازلنا بين الشدّ والجذب، ومازلنا في مرحلة بتر الأطراف. نحن بحاجة ماسّة للتخلـّص من تراكمات كثيرة، ومازال حاضرنا يضيف تراكماته حتى صرنا رتل تراكمات أقرب إلى الرنين.. أنا مثلاً خير مثال.. (صمت).. معذرة هناك زائر جديد.
شعرتْ بإحراج الوقت و ورطته مع رجل معتدّ بذاته، رغم أنَفَته كان يدور حول نفسه متوسلاً أنثاه أن تخرج من إطارها. ابتلعت راوية وقارها، وتحرّشت به:
ـ كلانا له شيء يفتقده، غنوة، صديق، حبيبة، امرأة نطاردها مثلاً. بكلمة امرأة اختصرت عليه الطريق، أجابها:
ـ أنا أنشد امرأة تملك جمال الكون نسيت فردة حذائها.
مدّ يده في كيس يحمله طوال الوقت، واستخرج حذاء:
- حذاء أدفع عمري من أجله.
ضحكت راوية، وراحت تخاطبه بلغة مأزومة، لتُكمل حول ما يدفع عمره كله من أجله:
ـــ ندفع عمرنا من أجل حذاء، ومن أجل حذاء دفع أجمل شباب بلدنا أعمارهم، كما دفعتها أنا من قضيتي.. إرمِ الحذاء عنك، صاحبته لن تعود.
كاد أن يقفز عليها ويحتضنها.. نسى أنه في مكان عام، صاح بأعلى صوته:
ـ هل تعرفينها؟ وضغط على ذراعيها.
ـ عيناء.. وكلّ الحياة التي تدور حولنا، زخارف على السطور.
أربعة كراسٍ متفرقة تأخذ أركاناً متباعدة، جرّته من يده، جلســـت على أحد الكراسي وطلبت منه إحضار كرسي له:
- أنت يا محمود مشحون بالذكريات .
قاطعها:
- وتعرفين اسمي أيضاً؟
- أجل.. وأراك الآن تريد مزيداً من الإيضاح.
لم تدعه يجيب بنعم، تابعت حديثها:
- أنا أيضاً مشحونة بالذكريات.. أكشط عن أوراقي كلمات قديمة، وأكتب ذكريات أحبّ إلي من كل أحبار الحروف وأقرب إلى نفسي، تفضل لنجلس، سأبدأ من كلمة كنتُ.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
4
- كنتُ في ميوع الزهرة، أحب الجميل في أحلى الأشياء، في الناي، في الربابة، أعشق الناي حدّ الجنون، فالناي صوت نفَس العازف، ألمه المباشر، لا يمرّ على وتر ويقرع طبلاً.. أحب المطر، منذ الطفولة وأنا عاشقة للمطر، وكانت عيني أوسع من واقعها، ومن أجل الجمال قيّدتُ العماء بربطة عنقه، أطلقت عصفوراً كتبت على جناحيه وصاياي، وقرأت في لوحي عن حسناء لم يتعرّف عليها حلمها ، ولم تمتطِ نجمة في سماء الخيال ،سمعتُ من جدّتي عن مصباح علاء الدين، فصرتُ مصباح نفسي، أسند جداري على جداري، وأتخذ لي موقعاً في الحياة. تمرّدت على سماء الشرق الرصاصية وعلى حواجز تمنع توهّجي، أصغيت لصوت الإنسان بداخلي، وقطّعت خرقة أسمال بالية التصقت بي.
تبنّيت فكرة النهوض من العتمة حين ناشدت نوافذ جديدة، حساباتي كانت في الموقع الخاطئ أو بالأحرى لم يتركونا نحسبها بشكل صحيح، مثلما لم يتركوا لنا أصواتنا. تصوّر.. أنا الآن أزعج صوتي وأقول له؛ تحمّلني أيها الأبله، بلا منطق أتمنطق*
فوجئتْ به يروي آلاف السنين في نظراته، استمرّ يتطلـّع في وجهها لخمس دقائق كزمن، فيلسوف يستطلع ما وراء نظرة سيدة قلـّما يجد مثلها بين نساء مررن بحياته، في نظرته لها شهوانية غريبة، اضطربت لرجولة لمعت في عينيه.
شمّت رائحة أنوثة فيها أرجعتها إلى فخ القـُبلة الأولى ساعة هروبها من المدرسة بأمنياتها البسيطة و تنورتها الزرقاء. جرّت قميصها الأبيض إلى الداخل ليبدو أكثر التصاقاً بجسدها ... كانت الشمس شيطانة والأرض يؤلمها حفيف الأشجار، بذات الحفيف اهتزّت وتعرّفت على إله غريق بين الشفة والشفة، بقبلة كانت لها.
دارت نصف استدارة تقيس مساحة الفراغ الذي يباعد بين الفتاة وحبيبها، لم تجدهما، غادرا القاعة وتركا رغبتهما محبوسة في شفاه الرجال.
بحلول وقت الغذاء، تناقص عدد الحضور، اعتبر وليد أنّ الزمام بيده وأن أمامه فرصة للتعرف أكثر على السيدة راوية، سحب بدوره كرسياً ثالثاً وقابلهما في جلسته، ثم وجّه سؤالاً للسيدة:
ـ أي لوحة أعجبتك؟ يهمنى رأيك.
أجابت: لوحة البحر، ولوحة المرأتين.
استذكرت شيئاً طارئاً:
ـ إنها اللوحة الوحيدة دون اسم:
- ألم يطلق عليها الجميع اسمَ لوحة الرداء الأحمر؟
- لم يجبها منتظـراً جواباً لسؤالها، حين تابعت:
- المهم أنتَ أولاً، أنتَ خالقها وخالق اسمها.
- قالت ذلك، وحرّكت يديها ارتباكاً.
شاركها ارتباكها:
ـ بصراحة، لم يسعفني الوقت. لقد جئتُ بها صباحاً، وسأنقش عليها اسم تناغم.
تدخّل محمود: أي تناغم تقصد؟،. إنهما امرأتان مختلفتان كليّـاً.
ـ عفوك سيدي، قلتَ لي أن اسمك محمود، أم أنا مخطئ؟.
ـ لا.. لستَ مخطئاً.
ـ أقصد تناغم الثوب الأزرق مع الشعر الأشقر، كيف ينسجم اللونان ويتناغمان مع جسد رشيق.
ـ اعذر لي جرأتي أخ وليد، أنت فنان، والفنان مرهف الحس، لكني أجدك لا تدرك بهجة دمعة مشبّعة بالملح وحارقة ومتورمة بالحزن، إنها عصارة ألم وفرح وحزن ولقاء ووداع.. أم لم تلحظ دمعة السمراء؟ والانسجام الذي تحدثت عنه أراه في انسياب الشعر الأسود المتماوج على المنكبين .. أنتَ رسمتَ دواخل نفسك.
ـ ما هو الاسم الذي يليق بها في رأيكٍ..؟ سيدتي راوية..؟؟.
ـ أفضل أن تظل اللوحة بلا اسم.. أو لربما سأجد ابناً من أبنائي على ورق لستَ فيه، يكون أكثر التحاماً بدمعة محيّرة، يطلق عليها اسمها القادم.
عقد حاجبيه تساؤلاً واستغراباً:
ـ أتقصدين أننا حبرٌ على ورق؟.
ـ بل مجرد صور تعبر في مرآة الحياة.
أشارت إلى ذاتها والى الجميع: - نعم إننا حبر على ورق، ولا حبر ولا ورق.
ـ أهذا لغز؟
ـ سمّهِ ما تشاء.
قال وليد: لغزي الأول رسمتـــه في الصف الــــرابع الابتدائي، صورة لعبد الكريم قاسم، وصفّق الصف كله لوليد فنان المستقبل. تحدثت معه كثيراً، لم يسمعنى رغم كبر أذنيه. وآخر الصور كانت لمومس نصف عارية، نصف يعرض بضاعته ونصف تغطى بأخطائه، لا تكتمل الرجولة إلا بالجنس.
قالت السيدة: لستَ وحدك من يكمله الجنس.
واستدارت تقول لمحمود:
- لي صديق شاعر، يقولب طاقاته الجنسية إلى نتاج فني، يكتب بالتماع الرغبة، إنه لا يختلف عن أي شاعر جاهلي. انظر يا سيد محمود، لقد رسم وليد امرأة أخرى عارية تماماً، لولا الشال الذي اختنق بين نهديها، وارتخت أطرافه على أسفل البطن :
- هل أنت الشال يا وليد؟
انقطع الحديث فجأة ، حين انتبهوا إلى رجل فارع الطول، عرفوا من هيئته وملابسه أنه من أصحاب الأموال. فتح زراً بجيب سترته الداخلي، استخرج دفتر صكوكه ملتزماً بأدب الارستقراطيين، انحنى باتجاه وليد مستفسراً عن ثمن لوحة أشار إليها.
تلعثم وليد بردّه:
- عذرك، هذه ليست للبيع. إن رغبتَ بصور النساء العاريات، فأرشّح لك لوحة (عبث الحرير).
لم يرق الجواب للرجل، وبكلمات معدودة ولباقة شكر وليداً، واستدار ليتفحّص عبث الحرير.
على مــــدى وقفة امتـــــدت ربع ساعة أمام جسد عارٍ لامرأة تكشف عن مفاتنها ، عاد إلى وليد ثانية، نفث نفثة طويلة من سيجاره تغلـّب بها على صمته؛ بادر بوضع الثمن وهو يردّد:
ـ ثلاثة آلاف جنيه، أهذا يكفي؟
أجرٌ ليس له نظير بالنسبة لوليد، ها هو يقبض أجر سهره وتعبه، سعر لم يحلم به، وافق على الفور. عندها وقّع الرجل الثري صكاً، وقدّمه إليه قائلاً:
ـ سآتي لأخذها بعد أسبوع.
لحق به وليد مسرعاً، حين لاحظه يهمّ بالخروج:
ـ سيدي العرض ليوم واحد، اليوم فقط، أعطني العنوان وسأوصلها بنفسي.
ـ لا داعي، سآتي لأخذها غداً، شكراً.
رجع إلى جلسائه منتشياً، ومتفاخراً بالرجل الذي لا يعرفه:
ـ إنّ شخصاً مثل صاحبنا على درجة من العلم والفن كان خليقاً بلوحة أدمت أصابعي، يا سيدة راوية.. اضطراب أعصابي تجدينه في كل جزء منها.
ـ هذا يعني أن اللون الأحمر هو لون أعصابك على ثوب عيناء.
ـ مَن عيناء؛؟،.
أجابت: أقصد ذات الرداء الأحمر.
ـ اللوحة هذه هي روحي، عليها استعرضت كل حياتي، أتظنين أنها مجرد لوحة؟. الحب في لوحات العشاق رسالة للعاشقين.
أجابته متبرّمة:
- رسمت امرأة واحدة أحببتها، وتقول دمى واضطراب أعصابي، ماذا لو أحببتَ سبع نساء مثل بيكاسو بأفكاره المتمردة والمتطرفة، هل تتطاير أعصابك بالمقلوب؟ وأكملت:
- في حياة كل فنان امرأة واحدة وعدة عشيقات، امرأة هي حياته، لتكن ما تكون وإن صورة وهمية من بنات أفكاره. المهم بَصمَتها في روحه، وروحه في إطار.
- قال لها: من خلال العشق نتمرّد، نصلـّي ،ونعصى، نُجلد، ونفقد أعضاءنا.. ولكل عصيان ثمن.
- اسمعي سيدتي، هناك شيء ضائع نبحث عنه، ربما ضوء في أصواتنا لم ندركه، أو نظرة عاشق... ثم وقف منشداً مداخلة طويلة عن الفنان والعشاق والعشق من أول نظرة. ولكن قطع حديثه عندما بدأ زوار جدد يتوافدون، بينما راوية عمدت إلى كتابة جملة خطرت ببالها. أرجعت دفترها الصغير إلى الحقيبة، ودنت من وليد هامسة:
- يدك قطعها الالتزام.
- بل من أجل الحرية سيدتي، أنت على خطأ.
- قالت: كيف لأصحاب الارتباط بحزب أن يطالبوا بالحرية للآخرين وارتباطهم عبودية، أليست شيوعيتك عبودية؟.
- سألها: مَن قال إني شيوعي؟
نزفت السنون في صدره وارتاب مما تعرفه عنه سيدة تعرّف عليها قبل قليل، سيطرت عليه فكرة جاسوسيتها، ماذا لو كانت من عيون السلطة السابقة، أبعد الشكوك عنه، رفع حاجبيه قليلا وردد في سره:
- وإن كانت من أعوانهم، لقد انقلبت الدنيا عليهم وتحرّرنا من موتنا. لن يستولي علينا الخوف بعد الآن.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
5
تزاحمت الأفكار عليه، برز حائط السجن المحفور بأظافر قاطنيه، سمع طقطقة براميل النفط، شمّ رائحة دشداشة أبيه، سمع صوت عراك أمه وهي تتوسط الحوش، تصبّ الماء الساخن في طست وتدلق عليه الصابون وترطن:
- إي يمته يريحني ربى من الضيم، إيديـّه ورمت من غسل النفط).
تراءى له الموت الكامل والعظام الناتئة بعد سلخ الجلد وتهدّله، السلك الكهربائي حُني وأدخلوه عورته، طوّقه بالألم والعجز.
منذ أن وطأت قدماه أرض لندن لم يذق طعم النساء، رجعت إلى مخيلته صور الشبابيك المتسخة بفضلات الذباب، الكلاب الملتصق جلدها على عظمها ، الاستعطاء في الشوارع، ممرات ضيقة متعرّجة وراح يسأل نفسه بهدوء من يخاف الرقيب:
- هل نحتاج أربعاً وثلاثين سنة من الانتظار لتخلصنا أمريكا من حزب ظالم ومن طواغيته الزناة؟
على مقربة من محمود مشت راوية، ذكرت له أسماء ولحظات ومواعيد لم يذكرها أمام أحد، مكالماته الهاتفية، ثلـّة السكر والعربدة.
حبّه لفتاة لا يعرف عنها شيئاً يركض خلفها بحذاء لا يعرف كيف يتعامل معه، عمله في جريدة صاحبها كان من أقرب المقربين لـ (عدي بن صدام) وصراعه مع نفسه بين القبول والرضا، مصداقية علاقات السكر والنساء، أنّى لها أن تخترق صدره؟
كل هذا أظهرت السيدة معرفتها به، هل كانت معه؟ أبوسعها اختراق الجدران؟،.هل كانت ترتدي طاقية الإخفاء،هل شاهدت عريه على السرير؟،.
لا بدّ أن يعرف، كما لا بدّ أن يكون يقظاً. حتى المخابرات العراقية التي تعرف عدد شعرات إبطه، ليست كمثل السيدة راوية.
طلبت منه راوية أن يسأل وليداً عن آخر ساعة للمعرض، وعـّلّقت:ـ
أعتقد أنه سيقول الساعة السابعة والنصف.
ـ مادمت تعرفين الموعد لمَ تطلبين مني سؤاله؟.
واستمرّ يسألها:
- أختي، اسمحي لي، أنت شرطي متنقل؟ لكن شرطي مثقف، هذا ما لم نتعوّد؟؟!!
ضحكت حتى كادت ضحكتها العالية أن تخرجها عن وقارها، ربما سيستنتج الحقيقة. مرّت على أسماء العراقيين الذين تعرّف عليهم في لندن، نساء ساقطات عاشرهن، سماسرة مغاربة في ساحة الطرف الأغر (ترافغلر سكوير)، مشاعره، كيف توصّلت لمشاعره؟
***
ذكّرته بكلمة سمعها من لاجئ عراقي ذات يوم، يوم سُرقت من جيبه محفظة نقوده ،،، حيث عبـّر عن استيائه وهو يتفحص أوراقاً مهمّة وضعها في الجيب الخلفي لبنطلونه، سنوات من عمره في الغربة سُرقت منه، جواز سفره، بطاقة التأمين وتذكرة سنوية اشتراها للتنقل.
رأى رجلاً قادماً ممسكاً بيد شاب في السابعة عشرة من العمر:
ـ لقد أوقعت به سيدي، شاهدته وقت سرقك، راقبت وقفته، لم يرني وأنا أتابع حركاته، ها هو خذه وقدّمه للبوليس.
توسّل إليهما الصبي بعربية كردية:
- (أنا ابنكم، عراقي من الشمال، لا تنطوني للإنجليز).
أشفق عليه محمود، وطلب منه أن يسلـّمه ما سرقه. أفرغ جيوبه، وجد ثلاث ساعات نسائية، وسلسلة ذهبية.
ـ ( عمّي خذهن كلهن.)
ـ سآخذ خاصتي، والله يعوّض أصحاب الساعات والسلسلة.
ـ (ممنون منك عمِّي والله بعد ما أسويها تبت لن أعدها ثانية).
كان محمود يحاول التخلص من لوم نفسه على سهوه، وكان الشاب خائفاً يبكي ويطلب المعذرة والسماح، و محمود يرد عليه:
ـ لا عليك لست المخطئ، إنه خطأ الأوطان .
(ضحك وقتها على الذين يكتبون عن الأوطان) واستمرّ قائلاً:
ونضيع نحن في الخطأ*
ـ الصمت راحة بال أليس كذلك سيدة راوية..؟.
سألها وصمت، ثم استطرد قائلاً:
- هل أنت (مُخاوية)..؟؟.
ـ لم أفهم.
ـ يعني هل عندك جنّي ينقل إليك أخباري؟ حتى كلمة الرجل الذي قبض على اللص حفظتِها؛
لم تجب على سؤاله، بل راحت تشير بإصبعها إشارة استخفاف تعقيبا على قوله عن الذين يكتبون عن الأوطان:
- الوطن كالسرير، كلما اهتزّ أكثر لمك في حضنه، بشرط أن تمحو من جبينك كلمة شرف.
اكتشف دموعاً حبيسة في عينيه وهو يجيب السيدة :
- والله يا سيدة راوية لطالما تمنيت لوطني أن يرحل من هذا الوطن قبل أن يصبح قشرة بصل.
ـ للأسف الشديد. (متعجلا)
ـ للأسف أصبحنا قشرة بصل.
شعر بضيق أصابها، لم يلتحق بها وهي تنزوي على كرسي في زاوية بعيدة من المعرض. رأت من مكان جلوسها وليداً يشرب قهوته ببرود.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
6
بسبب حبها للفن تمايلت على صوت وحيدة خليل (نزهة والبدر شاهد علينه، والعـْذيَبي تنسّم)، ومن كلمة مرحبا، عرفت راوية أنها من مدينة الموصل، أما الشابة، فالمصحف الصغير في رقبة راوية جعلها تتطفل وتسألها متقرّبة في فضول شبابي:
ـ من أين حضرتك؟.
أجابتها السيدة مبتسمة:
ـ أنا من البصرة، وأنتِ من الموصل، هذا واضح من لهجتك. كم سنة أنت في لندن؟.
ـ (أنا جئت مع أبي بوقت كان عمري سبع سنوات، أنتِ مسلمة صح؟
ـ نعم، مسلمة.
ـ (الإســلام عنيف، ونحن دينـنّا يعلمنا المحبة والسلام ،أ ليس لديك فكرة جيدة عن هذا؟)
أجابتها السيدة راوية:
ـ نعم لكن كل دين يختار لنفسه طريقة تقرّبه من الله وطريقة حسابه وعقابه، ومثلما لكل دين حسناته فلكل دين أخطاؤه.
ـ ( لا ما هكذا، حين ذهبت للكنيسة، كنت بوقتها كثير صغيرة، ما سمعتُ القس يقول يسّوع على خطأ، ماذا كان يقول لكم السيّد؟)
ـ يا بنتي هذا حوار عقيم، استمتعي بالمعرض، هذا المكان لا يتحمل حواراً بالدين، تفضلي خذي راحتك.
بين الفينة والأخرى تتابع انفعالات وحيد ومحمود، امرأة تحب رجلاً لا يحبها ورجل تثيره امرأة لا تحبه، ومن أجل إثارة الصورة النهائية لرجلين يغيبان حول جملة فارغة. ليت وليداً يعرف كيف استوطن في قلب عيناء، وليتها تشعر بوجودها في قلب محمود.
الزمن يثأر من محمود على تصرفه مع (لبنى) التي تعلـّقت به حدّ العبادة، واعتبرته ملاذها وحضنها.. لكنه تركها تلوك أيامها بعد أن نال منها ما يريد، بينما الأغاني التي يؤلفها الرجال تُبرز إضافة لجمال الإناث خياناتهن وألاعيبهن، حتى ضاعت مفاهيم الخيانة ابتداءً من الجسد وانتهاء بالوطن.. لم نعد نعــرف تنقل الرجل من امرأة إلى أخرى أهو أحقية له وحده منحتها له رجولته أم هي طبيعة البشر؟. كيف لامرأة قدرة على هوى عدة رجال في آنٍ واحد، أتُجمَع الرجال وتكدَّسهم كتكديس المجوهرات؟ آدم وقت خالف ربه هل أراد أن يصبح خير مثال لبني جنسه؟ أم كان يدافع عن حقه في الحرية؟ وتعدّدت الحريات والزنا واحد.
جلست تعاقب وتحاسب الرجال، وهي تنتظر قيامةً وانطباق الجدران على الجدران، يوم نشور الكلمة..... رنت بمسامعها أصوات الغانيات في رواية تولستوي ( الانبعاث ) ، وكشاعرة وروائية كانت تسمع أصوات الكلمات والفضاء العام للمباني والشتائم التي تتعرض لها البغي على يد الشرطة للحصول على بطاقة رخصة البغاء، عدالة عرجاء تحبك التدمير.
في غمرة الكآبة والقرف ودونية المجتمع ودونية المخابرات في تجنيدها لنساء غانيات وإعطائهن شرف الدفاع عن الأرض والدولة، علاقة الرئيس بالبغاء العام، الابن غير الشرعي للخطيئة الكونية التأريخ..
عذرت الحروب الخاوية وعلامات التذكير والتأنيث في اللغة، وعذرت لوليد براعته في تجسيد إرثه على قماش الرسم، ركضه ولهاث فحولته ساعات وساعات يملأ بياضاً لم يتعود رؤيته على لوحة الحياة، بعصارة التكوين الهش لعشق شقرائه.
***
كان يقبـّلها قبل أن تكتمل في يديه، يقبـّلها حين يبدأ وحين يكل، كيفية تسليط الضوء، كيفية تسليط العتمة، اختلاط الضوء بالعتمة على ثوبها الأصفر؛ بينما أنين امرأة من تكوينه عشقته من اللمسة الأولى من النقطة الصفر، شكوكها وتودّدها، ثورتها وانتظارها، غضبها الصامت وصمتها الغضوب، الاحتياطي من الصبر الذي استنفدته في خلق أعذار لخطيئته، قهوته الباردة، سيجارته بنصف احتراقها ، أصابعه المصفرّة من الدخان والتبغ، رائحة عرقه، انهياره، سكره، عربدته، العتاد الفاشل لمن خانهم المبغى العام، القصائد التي يتلوها، أسماء الرسامين والأدباء..
حفظتهم من خلال أنفاسه اللاهثة والمتقطعة والخافتة ساعة اندماجه باللاوعي الفني، استعادته لوعيه، نومه، صحوته، خروجه من دورته الدموية في مدحه شقراء ذات قلب عاقر لا ينجب حباً كحبها.. حفظت معه أسماء الفائزين بجائزة نوبل، وتساؤلها لخيبتها:
- أما كان الأجدر للجنة التحكيم أن تمنحها الجائزة.
اشتداد الحزن والتصاقه في قلبها، في أي وقت من أوقات تغزله بعشقه الوحيد.
كان يسمعها قرآنه، يتلو آيته الوحيدة، هو لم يؤمن بالتوحيد ولم يعرف الله، لم يعرف غير لوثته بعشق يشرب عصير دمه. وقفته مبهوراً بفضائل الجمال والطيبة من شقرائه عليه، حيثما يذهب وحيثما يعود يُسمعها آيته؛
ـ الله يا شقرائي.. أدفع عمري كله، مالي، سعادتي، رضاي، نومي ويقظتي من أجل نظرة رضا من عينيك..
كم شكرتْ السجن ورجال التعذيب على إحصائه وإلاّ لحمّـل الرجولة عذاباً كعذابها، الصرخة لا تخرج إلا من أعماق المخذول، ولكن ليس المخذول برجولته.
تمنّت أن تفوز بجائزة نوبل للقهر لتبرعت بفوزها للقلوب المخذولة، ولطرقت أبواب البيوت المغلقة على نسائها .. وأعطت نساءها حصةً من فوز ألمها.
ابتسامته لها من وراء قدح الخمر، قبولها بفراغ كأسه واحتساؤها ثمالة الحب، تجاهله رعشتها وهو يضع لمساته على رقبتها، شراعها المنعطف نحوه، مسحه حافة قدحه بعد فراغه، شعورها بالضآلة في تلاوته عليها آيته الوحيدة، طرحها أسئلة دون أن تجد جواباً من صمتها:
ـ لماذا رسمني في لوحته؟
تبهجها أية كلمة منه ، لكن تصرفاته تقتلها باليوم عشر مرات لعله يقول في سره كيف تريدين موتك؟
يطاردها خياله حتى حين يغلق نور الغرفة ويترك الألوان مبعثرة على الأرض، لتحلم به وتتمنى أن تكون حقيقة وليست صورة، هو من رسمها، هو من جعلها ممتلئة وصبغ شعرها بالسواد كما صبغ قلبها بألمه، هو خالقها وخالق مفاتنها، هو خطؤها إذن، وهو ذنبها وغفرانها.
وضعت راوية رجْلاً على رجْل هاربة من تفاصيل تعتبرها كشرارة الجذع المحترق، سمعت عجوز بقبعة حمراء وطقم أحمر فالتفتت إليها وقد رددت: ما أعمق هذه النظرة.
ـ الله يا عيناء.. حتى الآن لم يتعرّف على دمعتك التي لم يسعفك الوقت لمَسحها ساعة رجوعك المرسم، ها هو يفرح بفوزه متوهماً أنه حبا كطفل إلى عينيك وجسّد نظرة اعتراها الألم. أنت صاحبة الفوز. جائزة المعرض وإعجاب الوافدين أنت مَن يستحقهما، لا هو ولا صديقته القديمة سما، التي جاهدت للتقرّب منه كامرأة ورجل ولم يصل جهدها إلى جدواه. كل ما فعلته بعد مكالمته لها بدعوتها حضور معرضه، هو اتصالها بأصدقاء لها يعملون بالصحافة.
ها هو يقف مطمئناً هادئ النفس، يستلم من الجيوب المنتفخة ثمن فنّـه وثمن تزييف الواقع المادي.. دمى آدمية، وزبائن تشترى نظرات تطلـّعت باتجاه واحد وجمدت إرضاءً لثرائهم، بؤرة رخام تبتلع كل شيء حتى غرور وليد في هذه اللحظة.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
7
في الضفة الأخرى قرأت راوية في مفكرة حياتها أول يوم لها في امتلاكها ذاتها واستردادها بعضاً من آدميتها، وهي تطأ أرض لندن، استعادتها لأنفاسها النقية، خوفها من أيام تجهل كيف سترتب لها المشهد القادم وتخطط لها حياتها القادمة، احتياجها لقلب بعد أن طردها قلبها، احتياجها للمسة حنان حقيقية.
على مرمى من الخديعة، من حرية لم تتحرر من صدور أصحابها، تعرفت على شوارع المدينة، على الوجوه العربية والآسيوية، على العيون الزرق والقوام الرشيق، على العجائز الأنيقات، والعجائز البدينات.. على الفرح المعلب، القهر المستورد والتلف المعبأ بالقناني العربية في واجهات محلات " أجورد رود"، على الجميلات بملابسهن القصيرة وكعوبهن العالية.
سيقان عارية، وسيقان ملتحفة بعباءات سود، وجوه سمراء بمساحيق وعدسات لاصقة، عرب، كرد، هنود، أفارقة، إيرانيون، طقوس عزاء حسينية في الـ (هايد بارك)، رجال الشرطة المحيطة بالموكب حماية له. ورائحة النفط في (أجورد رود)؛ تمنطق خارطة ثرائها بشرب الشيشة في المقاهي، رشوة للوقت، رشوة للمطر ولهواء عذب.
على الضفة التائهة نفسها التقت بعيناء، وقت عودتها من ديوان الكوفة، بعد انعقاد ندوة حول ديوان أدونيس (تنبأ أيها الأعمى). خلال المحاضرة كانت تتخيل العميان، المبصرين الذين يناشدهم الشاعر، وتتساءل:
ـ ماذا لو تنبّـأ العميان، هل ننال المقصود؟ أم يسوقنا القطار الى دوّامة جديدة..؟؟.
وتخيّلت كيف يتنبأ كل أعمى على طريقته الخاصة وعلى مستوى وعيه الفكري ونضجه الثقافي وفهمه لما كان يدور خلف نظارته السوداء.
***
فُـُتحت ستارة المسرح، المشهد الأول: عشرة عميان يسيرون باتجاه معاكس على خشبة المسرح، المكان قاتم بلا أنوار، لفتة إيحائية من المخرج بتصوير العمى للجمهور، تزداد حركة الرجال بازدياد إيقاع الموسيقى المصاحبة للعرض.. يتخبطون بالسير، يصطدم بعضهم ببعض، كلما احتدمت الموسيقى زاد الردم، تدخل نساء مسرعات بنفس سرعة الإيقاع، سكارى، واعون، أميرات، أمراء، عبيد، حاشية، رجال يحملون كتباً،غواني، باعة صحف، نغمات تتوالى بسرعة دخول وتوالي أمثلة الحياة على الخشبة، واحتشاد المكان بالعمى..
دخان يتصاعد من جهة واحدة، يصبح المكان ضبابياً، الاختناق يبدو على الوجوه، الرقاب تتدلـّى إعياءً، شخير الاختناق يعلو على صوت الموسيقى، تنشقّ الخشبة لنصفين، يخرج من الشق عميان جدد، يفور المكان ويدور حول ناسه، تتشقق كل أجزاء الأرضية، تتهاوى من سقف المسرح أحجار البنايات والبيوت، أصوات رعد وصيحات.
فجأة يسوّر المكان بالصمت.. يُضاء المسرح.. يعلو تصفيق الجمهور، يحني الممثلون رؤوسهم تشرّفاً بالتصفيق، يستمر العرض. استعمل المخرج أسلوب الإنارة والظل، ظهرت خلفية المسرح كشاشة عرض، ظلال لبشر مكبلين بالحديد، أحمال ثقيلة على أكتافهم ولكن بتفاوت، أثقال خفيفة من السهل حملها، أثقال أوقعت أصحابها أرضاً، أثقال بصناديق خشبية كبيرة يجرها شخص واحد، أثقال تجرجرها جماعات مجنزرة قيودهم.
انشقّ المســـرح على شكل نهر بضفّتين، مـــــراكب ورقية ترسو، مراكب خشبية، في الضفة الأخرى، عينا ماء منفصلتان، يباعد بينهما نهر عميق.. واحدة تفوح منها رائحة المسك، يدور حولها صبيان وصبيّات يرشون عليها ماء الورد، من العين الثانية فاحت رائحة أبخرة ماء مغلي.. رجال ذوو عضلات مفتولة يرمون فيها أسياخاً من الحديد، الممثلون المربوطون بالسلاسل بعد أن تفتّحت عيونهم يفقدون الذاكرة، لا أحد يعرف اسمه.
صاح رجلان دخلا مع ثالث أكبر منهما سناً:
ـ كيف سنعقد المحكمة؟.
أشار لهم الرجل الوقور، وهو يتوسط الجلسة الى دفتر كبير معهم:
ـ لا داعي للحيرة، أمامكم كل شيء. فقط نادوا بالاسم وزنوا الثقل، وينتهي كل شيء.
ـ لكن يا سيدي نحن مَن أنسيناهم أسماءهم.
أما الشخص الرابع الذي دخل قبلهم، فقد وقف وقفة المتفرج. مطّ رقبته وفرد طوله، تكتّـف ووقف يستطلع.. أحد الرجلين يرتدي جلباباً واسعاً بنيّ اللون، يفتح أول صفحة من دفتره، وينظر إلى الرابع الذي كان يهزّ رأسه هزّة العارف:
ـ ونعرفهم جيدا.
دوّت مطرقة الرجل الوقور: محكمة.
أعاد المخرج فكرة التلاعب بالإضاءة، أنوار خافتة جداً، بالكاد تبدو الظلال على خلفية المسرح. موسيقى صاخبة، ثم أطبق الصمت بعدها على جو المسرح. أدرك الجمهور أنه المشهد الأخير، تهيأت الأصوات والأيدي للتصفيق والإعجاب والتعظيم.. أضيئت الإنارة على المسرح والقاعة كلها.
الصناديق والأثقال مركونة على الضفة القريبة من المحكمة، لا أحد على المسرح غير الرجل الطويل الذي تفرّج فقط، ورجل في نهاية المسرح، يهزّ رأسه بحركات تعاكس بعضها، خرج في هذه اللحظة رجال من عين الماء، وبخروجهم عبق المكان برائحة المسك وماء الورد، قدّمت لهم الصبايا مناشف بيضاء معطـّرة، التحفوا بها وجلسوا على سجادة خضراء، صبيان قدموا لهم أطباق الفاكهة، ووقفوا وقفة المطيع.
نفخ صدره بانتصار، وراح يتلمس الصناديق، ويفتل شاربيه متلذذاً بانتصاره، تضاحك بخبث، وكلم الرجل الواقف في نهاية المسرح:
ـ تعال.
ـ أنا سيدي..؟؟
ـ لم أستطع أن أكون سيدك.
ثم سأله عن كتاب بيده: ما هذا الكتاب؟
ـ إنه كتاب اشترته لي صديقة، اسمه (تنبأ أيها الأعمى ). وطلبت مني أن أحاضر به، قادتني إلى هذا المسرح. لكن كيف سيدي، كيف أحاضر عن كتاب لم أقرأه؟
ـ لماذا لم تقرأه، ألست مسئولاً عن المحاضرة؟
ـ كان بودّي.. (واقترب منه مشيراً إلى فتحتين غائرتين في وجهه) - - انظر سيدي، أنا بلا عينين أصلاً، وكلمة أعمى تـُطلق على الذي كانت له عينان وفقد متعة البصر. لذا حين عنون الشاعر ديوانه لم يجد لي اسماً في قاموسه من كلمة واحدة مثل أعمى، ومــن أربعة أحرف لآخذ نفس المساحة على كتابه.لا أدري سيدي لمَ َطلبوا مني أنا بالذات أن أحاضر بهذا الكتاب ، ربما عرفوا أني أستأجر قارئا اعتمد عليه*
صفـّق الجميع، وصفـّقت راوية معهم. سمعت صديقاً اتخذ له مقعداً قربها:
ـ هل أعجبتك المحاضرة؟
ـ أية محاضرة؟.
ـ عجباً.. شاهدتك تصفقين بحرارة، علماً بأنني لم أفهم من المحاضر كلمة واحدة مثلما لم أفهم شعر أدونيس.
ـ أنا بصراحة (والتقطت حمّـالة حقيبتها من الأرض) أنا دخلت مع أدونيس عالمه غير المرئي للجميع.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
8
المسافة بين شقتها وديوان الكوفة ليست بعيدة، رغم ذلك فضّلت صعود الحافلة رقم (7) الأشياء لا تتفجر مصادفة، ولا تتدفق إلا إذا وجدت ما يدفقها. لاحظت راوية أن عيناء تدس أصابعها في محتويات حقيبتها اليدوية، وتخرج فارغة. أغلقتها وأعادت فتحها ثانية، وبنفس التوتر سألتها فيما إذا كانت بحاجة إلى مساعدة؟
أجابتها؛ شكراً، لقد كنت أبحث عن حبة مهدئ للصداع.
رجل عربي يرتدي نظارة طبية، أكرش تفوح منه رائحة الخمر، تسمّرت عيناه على صدر الفتاة وراحتا تلتهمان مفاتنها.. نظرة التلصص تسير حيثما يسير العربي، عرضاً وطولاً، من تختّله بين الأشجار، من السطوح والنوافذ، من الثقوب الإسمنتية. ويد التحرش تهاجر معه لترتعش باكتساء آخر، وتتلـّمس رقة اللحم الأبيض، بعد أن كانت تخترق العباءات السود وقت العزاء الحسيني، أو تستقر على الصدور البارزة في الأسواق. وتصدح الحناجر المهتاجة ( فدوة أروح لهذه العيون ) ، ويتغنج الغضب الأنثوي بين اللذة والخجل .
بعد أن امتدت يد الرجل إلى ظهر عيناء، وتحركت هي بدورها غاضبة،ردّ عليها:
- ( اشدعوى دادة..عيوني ليش شنو سوّينة)..؟؟
عرفت راوية أنها في المكان الصحيح، في الموكب ذاته، أو في الأسواق المكتظة ببضاعة النساء، بادرتها بتصرف يقيها حرجها، وفسحت لها مجالاً قربها:
ـ تفضلي قربى.. هنا أفضل.
في تلك اللحظة ولد الكلام بينهما، وبعد ابتسامة ودعابة دارت بينهما، اطمأنت عيناء وأخذت تبتسم بعض الشيء لابتعادها عن العاصفة.
طلب محمود من المصور الخاص بالصحيفة التي يعملان بها، أن يلتقط له صورة تذكارية قرب لوحته المفضلة، أخذ وقفته المعهودة بفتح ساقيه وميـّل وسطه جانباً وابتسم، ثم طلب صورة أخرى على أن تكون قريبة جداً، ورغب أن يكون وجهه ووجه ذات الرداء الأحمر لصيقين. أسرع وليد إليهما وطلب هو الآخر أن تكون لديه صورة تذكارية مع الجميع، بعد أن وقف من الجهة الأخرى من اللوحة.
استدركا تصرفهما، وقدّما اعتذارهما بصوت واضح للسيدة راوية: عذرك سيدتي، تصرفنا غير مقصود.
أجابتهما: لا عليكما، لكل منكما صراع داخلي ترغبان أن تجسّداه في صورة تذكارية، أما أنا فصراعي في ثمن الكرامة، هل بمقدور مصور تجسيده في صورة؟
شعر وليد بحرج واعتبر كلام السيدة موجهاً إليه، ترك محموداً على وقفته ووقف قرب السيدة: لم أدفع كرامتي ثمناً لإبداعي، لم ولن يكون هذا في أي يوم.
بعد أن وضعت يدها على كتفه، هزت رأسها: أعرف يا وليد، أعرف، لكن في مختبر الحياة تكون النظرة معكوسة دائماً خارج المنطق.. كم تدفع، كم تقدم تنازلات، ولو فعلت أي واحدة مما قلت ستجد سرب الحشرات يركض وراءك، إنه التواطؤ مع الشذوذ، وما علينا إلا أن نكون خارج الفراغ. صدق محمود درويش حين قال؛ (ما أضيق الأرض التي لا أرض فيها للحنين إلى أحد).
وأنا أقول ما أضيق الأرض التي لا أرض فيها للشرف.
ارتدّ وليد إلى نفسه كطفل مرتبك، واعتذر آسفاً على فوات وقت الغداء دون أن يجلب ولو شطائر أو أي شيء لسدّ الرمق، أنا لم أذق الطعام منذ ظهيرة أمس.
ـ لا عليك (ردت راوية) في عالمك الجميل لسنا في حاجة لمعدة. إنه الجوع المخلـَّد، غداً سيذكر التأريخ عن جوعنا وشبعنا الإبداعي، وسيقول: ثلاثة مبدعين ممتلئي البطون، وسيتخرج آلاف الأساتذة في علم التأريخ وينالون شهادات الدكتوراه بشرح وتحليل مفردات كهذه.
فتحت حقيبة يدها لتدوّن ما قالته، سقطت ورقة على الأرض، التقطتها بسرعة، ردت إليها كلمات سبق أن كتبتها، وعاينت في وجه وليد:
- أنا مثلك أرسم على الورق، الورق هو ستري وغطائي.
ابتسم محمود:
- ما أرخص الورق في أيامنا هذه، تركتها منشورة في غرفة نومي، دوّنت عليها حتى اللحظات العابرة.
قاطعته راوية:
- هل قرأت نفسك فيها؟ هل سبق أن استيقظت من نومك مذعوراً ودارت حولك كلماتك تجسد شخوصها أمامك، حادثتهم مثلاً؟.
ـ لا سيدتي، وإلاّ لـجُننت.
ـ ما رأيك بالذي يجالس ويحادث أبطال أعماله؟ هل تسمّي هذا جنوناً؟ (وأكملت):
- أنا آكــــل معهم، أتنـــــزّه معهم، أدخل شذوذهم وسكــــــــرهم، خياناتهم وذكورتهم، ممارساتهم الخاطئة وخذلانهم، أدخل زنزانات توزّع حبوب منع الحمل على أوطانها، أدخل شوارع متكررة لها صورة واحدة وإن تعدّدت أسماء الأوطان، سورية، العراق، فلسطين، مصر، مرآة زائفة أرى فيها رجالاً يركضون خلف نصفهم الأسفل. أقرأ المنطق المقلوب، فأرى النظرية النصفية، أقصد السفلى. أضف الى نظرياتك يا وليد (التنظير السفلي).
رفع محمود يديه مستجيراً:
- الله الله، كل شي ولا تترك كاتباً يتحدث.
ردّ عليه وليد:
- كن صبوراً أو تهادى كالجمل.
ضحكت راوية حتى سالت دموعها على خديها:
ـ وأنتم على الجمل، لا تنسوا أنكم كائنات تتحرك بشبقها النصفي، وتركتم النصف العلوي تستخفّ به أمريكا.
حاول وليد استمالتها إليه :
- لم نقرأ أشعاراً في الصحف اللندنية؟.
أجابت بعد أن احتقن الدم في وجهها: لأني لا أتعامل بمنطق النصف.
محمود: بالله عليك فسّري لنا كيف تتحاورين مع أبطال أعمالك، هل تأكلين معهم حقاً؟ أهذا يُعقل؟.
ردّت:
- ولمَ لا.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
9
مرة طرأت لي فكرة زيارة إحدى المقاهي، فكرت في محاورة إحدى بطلاتي وهي تقرأ الصحف في مقهى. اقتربت منها حيث كانت تدخن الشيشة، كانت وقتها لا تعرف ماذا تقرأ، فالصحف كلها سواسية، الكذب على واجهات الصفحات بالعناوين الكبيرة، وبما أني أطلقت عليها اسم عيناء بعد أن وجدتها بلا اسم في الحافلة، أخذت تسألني عن معنى اسمها، وحين شرحت لها أن العيناء هي ذات العيون الواسعة السواد فرحت وقالت لي: إنه يترجم صفتي، كلانا كانت على عجل، وكأن الريح تحتها.
طلبتُ منها أن تحتسي القهوة بسرعة كي نخرج لنتمشى قليلاً، جمعنا أعضاءنا المتناثرة وأخذناها مشيا ، سألتني وقتها:
- إلى أين؟ ثم ضحكت وبدت أسنانها البيضاء كأنها حبات لؤلؤ، يبدو أن قولي المقاهي للكسالى أثلج صدرها، وأدخل بعض بهجة عليها.
في سيرنا كنّـا نعدّ الكنائس التي نمرّ بمحاذاتها، كثرتها جعلتني أقارن بينها وبين عدد المساجد في بلداننا العربية.. إذا كانت الموسيقى ترافق صلاتهم وفنّ الرسم والحفر يملأ كنائسهم، فنحن لنا فن الزخرفة والمنمنمات حيث أعطى مساجدنا خصوصيتها.
أذكر أني دخلت المسجد مع أبي مرة وأنا في الثانية عشرة، بعد أن طلبت منه ذلك سألني فيما إذا كنت طاهرة، استفزّني سؤاله فسألته :
ـ وهل أنا نجسة يا أبي؟
ـ لا يا ابنتي، أقصد، أقصد..
استدرك قصده في دهشة وجهي، وعرف بأني لم يمرّ علي طقس المحيض. رحت معه يوم الجمعة، وأدخلني إلى مكان ذي ستر مخصص للنساء.. كنت أبحث عن روح الله في ساحة المسجد*
ـ لمَ توقفت سيدة راوية؟
ـ تعال، نسأل وليداً عن سعر ثالث لوحة بيعت اليوم.
اقتربا من وليد، وجداه غير مسرور، فمازحه محمود:
ـ ستصبح برجوازياً، هذا ثالث رجل أعمال يشتري منك، من أين وفدوا؟
ـ صديقة قديمة لها معارف كثيرون، وعلى ما أعتقد هي وراء كل ذلك.
(ثم واصل): لغة رجال الأعمال لا تضع النقاط على الحروف في لغة الفن.
وفيما هم يتبادلون الأحاديث دخل مصور يحمل كاميرا تلفزيونية وبرفقته مذيعة، ترتدي بنطلونا ضيقا من اللون البيج، وقد تركت قميصها الأحمر مسدلاً على جانب البنطلون، بينما باقي أطراف القميص عقدتها وتركت العقدة مربوطة من الأمام، وقد زرّت ثلاثة أزرار سفلية فقط من القميص.
بعد أن ترجرج نهداها، وتمايل خصرها الممتلئ بعض الشيء، سألت عن وليد. أسرعت إليه وقتما حدّدوه لها من بين الجمع الغفير، مشطت شعــــرها الأســـــود بأطراف أصابعها، وأشارت إلى المصوّر (أن اتبعني)
وقالت:
ـ لو كنت غير متزوج لخطبتكَ، مرحباً سيد وليد. وعذراً، هذه طريقتي في الكلام؛ لا أحبّ التكلـّف والتصنّع.
ارتبك وليد وهو يجاملها :
ـ أبداً، والله أنتِ لطيفة جداً وعليك السلام، هل من خدمة أقدمها إليكِ؟.
ـ أنا مذيعة من تلفزيون (arb) وأرغب بإجراء حوار معك، هذا إذا لم تمانع.
ـ بكل سرور.. لكن اسمحي لي، مَن أخبرك عن معرضي وكيف عرفت مكانه؟.
ـ اتصل بي الأخ محمود قبل ساعة.
ـ آه. فهمت. تفضلي، كيف تحبين، أنظلّ واقفين أم؟ (تطلـّع إلى الكراسي الأربعة فوجدها غير شاغرة، فأكمل) :
- الوقوف أفضل.
ـ لن أسألك عن بداياتك وحياتك الخاصة، إنه سؤال متهرئ ،صفة المذيعين السذّج.. سيد وليد، الجزء البسيط من حياتنا أُعلن عليه التلف، حتى عواطفنا بتنا نخاف عليها من بخار الدمع، كيف تستطيع كفنان أن تحتفظ بجزئكَ البسيط أو بما تبقى لديك؟
ـ يقول (نيتشه) :
- إن إرادتنا خير مَن يهدم القبور. عواطفنا ومبادئنا الحقيقية هي الشفاء لبؤسنا، فليعلنوا الحرب كيفما شاءوا.
ـ هذا يعني أنك لا تخضع للمقايضة؟
ـ يا سيدتي.. (وراح يتحسّس ذراعه).. أنا يا سيدتي حتى عند حافة الموت أحمل صليبي وأمشي على تلك الحافة. أما ترينني أقف بيد واحدة، أصافح أصدقائي وهذا الحشد الذي اختارني هو ولم أبذل جهداً للوصول إليه؟
- سمعت، وأرجو المعذرة، سمعت أنك مقطوع من شجرة.. أي لا أحد لك، فلمَ العزلة إذاً؟
احمرّت وجنتاه بحرج سؤالها، وسال عرق جبهته، تردّد في الإجابة، ثم انطلقت الكلمات من فمه مسرعة:
ـ الابتعاد أو العزلة كما تسمينها هما أول نقطة الجريان.
ـ جريان ماذا؟
وطلبت بطرف عينها من المصوّر أن يقترب منه أكثر.
ـ جريان النهر، أي نهر يبدأ من نقطة، ثم قطرة.
قالت بعد أن عقدت حاجبيها:
- من خلال نظرتي السريعة للوحاتك وجدت أنك في صراع مع الظلام.. مرة يتغلب عليك، ومرة تنتصر عليه بتسليط الضوء، أليس كذلك؟ أم إنّ حدسي الفني قد خانني؟،.
ـ لقد أصبتِ.. أحياناً تعتريني فرجة أمل، فأبعد الضرير عني وأتحرش بالضوء.
ـ قبل قليل سيد وليد كنت تردّد مقولة نيتشه عن الإرادة، وردك الآن على سؤالي يظهر شخصيــــة غير متوازنة الكفتين. هل أنت من الــرجال الذين يكون منطقهم عكس تصرّفهم؟. بصراحة إني أجد تسعين بالمائة من الشرقيين والعرب تحديداً متناقضين، أين تضع نفسك؟
عن بعد كانت راوية تسترق السمع، ربـّما يردّ وليد على سؤال يتحدى به نفسه. وحين وجدته (نيـﮔتف ) لكل الصور، اتخذت لها كرسياً فرغ للتو، وراحت تعيد ترتيب الصور والأحداث.
***
فاجأتها صورة عيناء الباكية، ووجهها يرسم طفولة منكسرة، وتذكرت أنها طلبت منها أن تكفّ عن البكاء، وتتصبّر.
الخروج من عتمة الألم هي أن تتذكر سوقيـّة العصر، وتنظر للتلفاز، قالت لها: افعلي شيئاً من أجلك أنت لا من أجل رجل لا يعجبه غير فحيحه ، ثم يطلق عليك طلقته ويمنعك من الانضمام إلى عالمه.
وتابعت شعرها الأسود خصلة خصلة، خصرها الذي أطبق عليه ورك شرقي وجعله كغصن يلتوي من ثقل ثماره، تتبعت كل أجزاء جسدها، كلها تنبض عشقاً، سقطت على خدها دمعة دون قصد منها، هكذا خرجت نافرة من حرارة جفن ظليل، حتى كادت راوية أن تشمّ رائحة تلك الدمعة، لم تكن دمعة نافرة بل طفلة في حضن العمر. طبطبت على كتف عيناء قائلة:
ـ الحب هو ترياق الحياة، حفنة من رماد الحب تحيي القلب، حالتان لا يمكن العيش دونهما، الحب والحرية.(و واصلت الحديث) لكن يا حبيبتي، حزنك روّضيه، ومخاوفك من فقدان رجل تعبدينه لا مبرّر لها، مَن يراه وهو يتعطـّف عليك بابتسامة أو نظرة من خلال ألوانه المجنونة مثله، يتمنى أن يخنقه.
ـ دخلك ست راوية، لا تكوني قاسية عليه، تركته يفعل ما يريد، إنها طريقتي في الحب ، يكفيني صوته ورائحته. (ثم استطردت بعد أن وضعت المشط في وسط فرشاة للشعر):
- أنا يا ست راوية أنظر إليه من زاوية أخرى، فمثلاً عندما يهزّ رأسه طرباً وهو يتغزل في شقـــرائه أمامي ويذكر محاسنـها ومميزاتها، أعطف عليه لأنه بعين واحدة ومريضة. فنظره باتجاه واحد، لا يستطيع تحريك عينه يمنة أو يسرة، ولطالما وضع شقراءه نصب عينه لا يرى غيرها .
- إذن؟
ـ كيف تعشقين رجلاً أحادي النظرة؟
ـ هذا أعذب عشق.
ـ قرأتُ مرة لـ (شمس الدين التبريزي)،،، (لا تكلـّف نفسك في الذهاب إلى البستان، انظر إلى وجه العاشق) وأحادي النظرة خاصتك لم يكلـّف نفسه حتى النظر إليكِ.
ـ لا بل ينظر إلي، وإلا كيف رسمني؟
ـ ليست العين هي التي ترى، بل القلب، القلب يا عيناء. العين ما هي إلا ساعي بريد بين القلب ومن نحب، إنها الثقب الذي نُدخل إليه نهارنا وجراحنا*
في محاولتها لإعادة ترتيب الأشياء، وإعطاء البداية أحقيتها بالظهور على مسرح ذكرياتها، بلغ سمعها آخر سؤال وجهته المذيعة إلى وليد:
ـ لماذا لا ترسم الموت والمقابر الجماعية في بلدك؟
فرحت وقتها لجوابه:
لأني لا أجيد تعظيم القتلة. ثم.. ثم.. (تلعثم) هل هناك ما يكفي من اللون لرسم الدم؟
عدّلت راوية من جلستها، ومن خلال ثقب عينيها أدخلت شريطها، وراحت تستعيد كل ما فعلته الكتابة على أوراقها.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
اقتباس:
- عندما نعجز عن مواجهة الحقائق ننزوي مختبئين وراء لوحة أو قصيدة أو موقف بشجاعة كاذبة. ليس للفنان حق التقوقع على نفسه أو يجلس في غرفته يعدّ على أصابعه سنين عمره، الفنان مَن تعايش وأعطى.
اقتباس:
- أليست المرأة أسطورة حين تتزعم الفنون؟.
أستاذة الادب وملكة الرواية
استمعت حقا بسردك الذكي الزكي...
مازلت هنا...
واهلا بعودة القلم للبيت الذي يحبه..
وتثبيت تقديرا وامتنانا...
كل احتراماتي
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
رواية السماء تعود الى اهلها ملحمة انسانية كبرى سجلت فيها الاديبة الكبيره وفاء عبدالرزاق بصماتها العالية في كتابة الرواية السياسية والاجتماعية الانسانية التي تحكي قصة الانسان العراقي بين الداخل والخارج مستخدمه كل قدراتها في المزاوجه بين الفانتازيا الروائيه والحركة الزمانية والمكانيه من والى الثابت والمتغير وشخوصها اناس يتحركون بقضاياهم الخاصة الى العامة في اندماج كامل ويتداخل مع الشخصيات الرئيسية الكثير من الشخصيات الفرعية لتكتمل الملحمة العراقية الانسانيه بكل صورها ونماذجها المختلفه مابين العراق وبلاد المهجر خاصة في لندن
الشخصيتان الرئيسيتان هما الفنان التشكيلي وليد والاديبة الروائية راويه وكل منهما له قصته مع التطورات السياسية والاجتماعية في العراق خلال العشرين عام السابقه لكتابة الروايه
من يريد ان يتعرف على العمل الروائي الحقيقي يجب ان يقرا السماء تعود الى اهلها
ومن يريد ان يتعرف على المعاناة الانسانية العراقية يجب ان يقرا السماء تعود الى اهلها
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
العزيزة الفاضله
اختي ام فراس الموقره
احترامي وتقديري
وبعض من لطفك ان اعطيتني كل هذا التكريم
هو بعض منك ايها الروائية والشاعره والناقده والكاتبه
دام الود
هي محاكمة الاحزاب السياسية في العراق منذ ان تجبرت على الانسان في العراق
بورك القلم اختي العزيزه ام فراس
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
فصــــــــل
ثاني
فكرة اللون
-------------
أنتَ طائر نفسك
وفخّ نفسك
وصدر نفسك
وأرض نفسك
وسماء نفسك.
( جلال الدين الرومي )
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
--------------------------------------------------------------------------------
أنتَ طائر نفسك
وفخّ نفسك
وصدر نفسك
وأرض نفسك
وسماء نفسك.
( جلال الدين الرومي )
1
في جهة العمر، تعبر حفنةٌ من السنين، بلا هوية تتحسس قيدها في اختصار الهواء، تشرب قهوتها كطائر غالبه النعاس.
لوحة مخدوشة لفنان معتزل الحياة، تشاركه عزلته منفضة سجائر، ضباب يترنح بسكرة الذبح، من المدن والشوارع والأرض، لوحة خشبية نُقش عليها (شقة رقم 202) كان من المفترض أن تـُدق على باب الشقة من الخارج. وبملل طريد تكوّر الوقتُ على شكل دائرة، وعجز وليد عن إضافة لمسة فنية لشقة فقيرة الأثاث. بقيت لوحة رقم الشقة مرمية على الأرض و منذ شهور، بالتكرار اليومي الممل وإيقاع رتابة أكثر منه مللاً يقضي وليد معظم وقته، ويعدّ على أصابعه احتمالات أيامه الباقية في كأس الحياة.
موكيت أزرق باهت اللون لقدِمه، أريكة لونها أبيض ، (صوفا بيد) ، مصنوعة من الخشب الرخيص، طاولة طعام صغيرة لا تسع أكثر من كرسيين، في المطبخ رفـّان مستطيلان، المطبخ جزء من الصالة، فضاء لتسعة أمتار بمثابة قبر، على الرفوف بعض علب من الفول والحمـّص، كيس من البصل مفتوح وكيس بطاطس مفتوح أيضاً.
حبتا بطاطس قرب فوهة الكيس ذبلت عروقهما، علب فارغة من البيرة مرمية بفوضى قرب الأريكة.
بالنسبة لوليد يكفيه سد رمق، لذا لا تحتوي ثلاجته على أكثر من شرائح جبن وخبز وثلاث تفاحات ذابلات ، اللون والشاي وقليل من سد رمق، هو الزهو بالنسبة إليه، علـّمه السجن على ضمور البطن وعلى التقشف.
مسجـّل صغير أسود اللون ولقِدمه يخرج الصوت منه شبه مبحوح، كثيراً ما يجلس جلسته المفضلة حيث يضع ساقاً على ساق ويخطط في مخيلته صورة للوحة جديدة. لم يعتد الخروج إلا نادراً، وأغلب الأحيان لشراء أبسط حاجاته.
يتصل هاتفيا بأصدقائه ويطمئن عليهم، وإذا ألحّوا عليه بالخروج يرضخ لإلحاحهم، ثم يعتذر هاتفياً بعد نصف ساعة.
لوحاته أكثرها تعبيرية، قدره اختار له الفن، على عكس ما كانت ترغب به أمه، إذ تمنّت له أن يصبح طبيباً يمدّها بالطمأنينة ساعة وقوع المرض، رغم أنه لم يرفض لها طلباً وإن كلـّفه حياته، فإنه كان يطمئنها ويداعب ضفيرتيها :
ـ ابنك يعالج المرض باللون يا أمي.
حين لم تفهم قصده راح يسألها ويفسّر لها في الوقت نفسه:
ـ لدينا طبيب مختص بالقلب، وآخر مختص بالعيون، أليس كذلك يا أم وليد؟.
ـ إي والله يمّـه ما تقول إلا الصحيح.
ـ وأنا طبيب ألوان، أعالج مرضاي بالألوان وليس بالدواء.
ـ الله يسلمك يمّـه من كل شر، أكو صيدلية تبيع الألوان؟ (ثم تبدّل لهجتها ): المهم طبيب وبس، حتى يصيحوا لي أم" الدكتور" وليد.
ـ وبَسْ يا حلوة وليد.
ـ وحتى تداوي أهل المحلة، كلهم بعوز يا يمـّه، حتى الموظف ما قادر يأكل خبز، الله يخليك إلهم*
من بين الجامعات والكليات المتعددة اختار كلية الفنون، وعليه أن يعزم على الرحيل، والسفر إلى بغداد. تفادياً لعوزه باعت أمه قلادة مهرها بثلاثين ديناراً، وهي تعرف أن قيمتها أكثر من ذلك، فلطالما سمعت من عمتها أم زوجها أن مهرها ثمين وثقيل الوزن. وهي تتطلـّع بوجه الصائغ، تفقدت يدها، إذ سبق لها أن باعت أسورتها لعوز، امتلأت أعماقها صرخة وإصراراً، لا حاجة لها بالذهب، الغالي للغالي. أجبرت خاطرها بمحاولة خداع نفسها أنه أقل من ثلاثين ديناراً، من فرط غيرة عمتها منها تتصور أن قلادتها ثمينة.
ـ منين يا حسرة، قالت للصائغ، ثم استدركت أنها تحادث نفسها.
لكنه سألها: ما بك يا أختاه؟
ـ أخي أسألك سؤال.
ـ إي تفضلي.
ـ من يشتغل ببيع النفط يقدر يشترى لامرأته قلادة غالية؟
وضع القلادة في الميزان، ودون أن ينظر إليها ردّ على سؤالها:
ـ من جاء لنا بالبلاء غير النفط.
ـ أرجو أن تزّد عليها شوي، والله أحتاج فلوسها.
رماها في وجهها؛ بطّلت اشترى.
ـ لا عيوني لا تغضب، ثلاثين، ثلاثين؛ أمري لله.
خيطت له كيساً من القماش، وضعت فيه الثلاثين ديناراً وعشرين أخرى من أبيه، وتركته يتدلـّى من رقبته. بعد أن عوّذته بالمعوذات، طلبت منه أن يخفي الكيس تحت ملابسه، وأعطته كيساً من البلاستيك فيه متاع للطريق، فقد خبزت له (خفيفيـَّات) في التنـّور ورشّتها بالسمسم والسكّر.
في شقته المتواضعة لم يبقَ طعم للسكّر، غير ما تركه في بيته في مدينة الناصرية.
حين استقل القطار كان كل شيء يركض وراءه، ولا تزال تلك الأخيلة تلاحقه. صوت القطار، صفيره، الغبار المتطاير من النوافذ، أصوات بائعي الماء البارد، وبائعات الخبز الساخن، بائعي الشاي والكعك. كل تلك الذكريات تسكن جراحاته وتتولى الدفاع عن يده المبتورة.
من أجل الكشف عن شلاّل مخيلته الفنية، يدخل الحمام، يستحم ثلاث مرات بالصابون واللـّيفة، كأنه يطهّر جسده مما علق به من وسخ السجن.. لم يستطع أن يتحرّر من حالته هذه، لازمه مرض الوسواس منذ خروجه من السجن.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
2
تتزاحم عليه الأفكار وتحاصره، تأخذه إلى ركنها الحميم، الركن الجميل ما بين تعلـّقه" بعلية"، ابنة الجيران وتنظيمه الحزبي، وقت تعرّفه على جسده و همهمة رجولته تخترق نومه ويقظته، يغتسل منها صباحاً وتغويه رغماً عنه، يلوذ بمكان بعيد عن أعين الرائحين والغادين، يأخذ ركناً تحت شجرة توت، ويتعامل مع الذي يخترق دشداشته فاضحاً برطوبته الدافئة احتياجه لأنثى.
أصول الجيرة وما توارثه من أعراف، وكل القيم والأخلاق تقيّده، فابنة الجيران لا يمكن التحرش بها ولو بالنظر، هي شرف ابن المحلـّة وعليه المحافظة عليه.
وقت يشعر بحاجته للاغتسال يرمي نفسه في النهر، يتحرّر من ذكورته بمائه وموجاته العذبة. يعرف وقت ذهابها إلى المدرسة، يخرج قبلها، يقف بباب الدار ويعيد الكرة ذاتها عند عودتها. يرتجف شاربه كأنه نبات طري نبت للتو في أرضه، الشعور بتبادل الحب، عار، لذا يجب إخفاؤه ومداراته.
غير أن أسلوبه بالكشف عن عشقه تلوّن بعدة ألوان، بنظرة من طرف عينيه، وبابتسامة يخفيها بين شفتيه لئلا تفضحه "علية" بشموعها المتراقصة، تختلق الأعذار لتدخل بيتهم، تارة بطبق خبز من تنـّورهم ومن يد والدتها، وتارة أخرى بما احتاجته أمها ساعة الطبخ، كرّاث أو بصل أو ثوم. وجفناها المراهقان يضيئان لها مساحة العمر.. تطلب من أم وليد وعينيها على (السوباط) تقصدان وقفة وليد، تلتقطان من عينيه ما تبحث عنه، تنفذ إليه، إلى الداخل وتبقى عالقة فيه.
ذات يوم انقطعت عن المدرسة، تهيأ له أنه عارض مرضي أو ألم الأنثى الشهري أعاقها من الذهاب إلى المدرسة. لكن الأيام توالت، لم يستطع مقاومة قلقه بعدها، فطلب من أمه أن تزور جيرانهم، حق الجار على الجار:
ـ يا يمـّه صار أسبوعين ما زرتِ بيت أم لطيف.
فتزداد خفقات قلبه، وعندما وجدها متباطئة ومتكاسلة، وجد أنه لا بدّ من إخبارها بحبه. تخابثت وكأنها لم تلحظ ذلك، ثم سارعت لارتداء فوطتها النظيفة بعد أن نزعت القديمة الملطخة بالعجين. وأخذت بيدها ثلاثة أقراص من الخبز المسمسم، لم يمض على خبزها نصف ساعة.
عادت مسرعة، تعرف أن ابنها على نار، لم تقوَ على محادثته أو التركيز في عينيه، وقت فتح لها باب الدار. تمنّت أن لا يسألها، تشاغلت بإدخال الرغيف إلى داخل الغرفة، ونهرته على أنه تركه ينشف في الهواء، وأبوه يحبه طرياً :
ـ ما تفكر بأبيك، ما عنده سنون،
دنا منها وقبّل خدها، أدرك أنّ في الأمر شيئاً، ابتسمت بوجهه، ثم عادت تختبئ بأعذارها وهياجها، تركها كما هي، وذهب الى شجرته المفضلة، شجرة التوت، يشكو لها:
ـ يا عمتي يا شجرة ما تعرفين شي عن علية، قولي لي وحياة من رفعك عالية وثمَّرك؟
بقي حتى الليل.. راعه ظلام المكان فأسرع راجعاً إلى داره، حال دخوله وجد أباه جالساً في وسط الحوش، يفترش حصيرة من خوص النخيل، يلف سيجارته، وأمه جالسة إليه تقدم له الشـــاي. لم يسلـّم عليهما كعادته أو يقبّل يد أبيه، سمع أمه تطلب من أبيه أن لا ينهره لعدم لحاقه به للمساعدة ببيع النفط بعد انتهاء دوام المدرسة.
عبرت الدماء الساخنة غاضبة في عروقه، خرج مسرعاً وجلس في السوباط، دون أن يكلم أحداً، لكنّ أباه اختصر عليه صمته :
ـ لماذا يا بني لم تخبرني، كان خطبتها إلك أقلها وبعّثت خطـَّاب..
أضافت الأم : منين يا حسرة، الخطـَّاب ما تريد وعود، ما تريد مهر مقدّم، ما تريد.
وثب وليد بعد سماع أمه:
ـ قولي إنها مخطوبة، ها.. قولي لماذا الصمت؟
ـ إي يمّه خطبها ابن عمها اللي يشتغل بالكويت.
تحوّل ارتباطه بالحزب إلى عشق جديد يعوّض فيه خسارته الأولى، لم يضجر من أي أمر يأتيه من مدرّس اللغة العربية الأستاذ عبد الأمير، بل راح يتصرف كأمير، وأصبحت البيوت والشوارع والمدرسة مملكة أخرى، لها طعم ولون جديد، ومن أجلها وزّع المناشير في المقاهي في متوسطة البنين ورمى بعضها قرب متوسطة البنات. وراح يعلـّم أباه ويشرح له أن عمله في بيع النفط ليس عيباً ولا نقصاً. ماركس يقول: (العمل هو تعبير الحياة الإنسانية ).
حالما سمعت أمه بهذا الاسم تقدمت نحوه:
ـ يمّـه هذا اسمه صعب؟ من أين هو يا يمه لا أعرفه، الم يجد غير هذا الاسم؟
ـ إي يمّه هذا إمام جديد طالع، لقوا قبره يم الشط.
ـ إي يا بعد أمك، ما تأخذني إله، يمكن أزوره واطلب منه يطيّب راسي شو الوجع ما يفكني ليل نهار.
من وقتها تركه أبوه يفعل ما يريد، يتأخر في الليل، يخرج في الظلمة من باب الحوش الخلفي، يأتي فجراً بصحبة ثلاثة أو أربعة يخبئهم في المجلس ويطلب من أمه أن تقدم لهم الطعام والشراب، وفمها مغلق، ويحذّرها ويؤكد سرّية الأمر.
ذات يوم طفح الكيل بها:
- ما تشوف صرفة مع ابنك، منين أجيب أوكلكم لو أوكّل ثلاثة آخرين؟. الفلوس اللي تعطيها يومية ما تكفي ، ماذا أفعل؟. دبر أمرك، دخيل مار.. نسيت اسم هذا الإمام الجديد؟
ـ ماركس.
ـ إي دخيل مار،،يطيب عيوني ويرزقنا شوي.
ردّ عليها الأب مؤنباً:
ـ الرزاق هو الله، وبعدين ابنك راح يصير شي، وباكر يصبح مهم وإله اسم، تسترين، قولي أبو وليد قال.
وضعت يدها على صدره:
ـ بمحبتي عندك أبو وليد منين جبت اسم وليد، وأبوك كان يريد تسمّيه خلف، على اسمه؟
ـ كنت متعدي على مدرسة الأولاد وسمعتهم يقولون خالد بن الوليد؛ فقلت أسمّيه وليد وابنه نسميه خالد، حتى يصير اسمه خالد بن الوليد وتذكره المدارس.. خلـّي قلبك بماء بارد، الولد راح يصيــــــــر مهم. هي ثالث سنة وهو على هذه الحال يسهر للفجر برّه وينجح في المدرسة، بعد ماذا تردين؟؟؟
ـ قول لا إله إلا الله.
فردّ عليها بنفس التعويذة، خوفاً من عيونهم .
-اسمعي يا مرة، ما يحسد المال إلا أصحابه؛ قولي قل أعوذ برب الفلق..
وهو يضع كيس الخمسين ديناراً في رقبته تلبية لطلب أمه، سمع صوت سيارة تقف قرب بيت الجيران، كما سمع كلمة يمّـه انقطع قلبي على غيابك؛ ترك كل شيء من يده، سقط كيس متاعه أرضاً، عليه مجابهة قلبه الآن.
فتح الباب، فوجد علية تنزل من سيارة مرسيدس خصوصي سوداء، ثلاثة أولاد صعدوا على واجهة السيارة، وبقية الأطفال يحومون حولها. كانت علية تحمل بيديها طفلة تشبهها تماماً، وعندما جاءت عينه بعينها أطرقت أرضاً، وطلبت من زوجها أن يحمل عنها الطفلة. لكن تلقفتها أم لطيف، وهي تتطلع في وجهها قائلة؛
- (( ولك يمّـه هاي علية صغيرونه.. والله العظيم هاي علية الثانية)).
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
3
اختراقات الذاكرة تُقاس بحجم الهاوية وبسنتمترات التيه، بعد أن حفروا بسكاكين الأكل والملاعق في سجن نقرة سلمان، سنة كاملة، عشرة سجناء محكوم عليهم أن يناموا على التراب المحفور ويخالطوا الديدان والصراصير. ثم يعمدون إلى تغطية الفتحة في الصباح، ويسوون التراب، حتى حانت الساعة التي أوصلتهم واحداً تلو الآخر إلى مدخل مزرعة، وتوزّعوا دون هداية أو دراية. فقط توزّعوا، واختبئوا كل على طريقته.
أما وليد فقد خرج بنصفه المبتور، ويد متعبة من الحفر والتعذيب، وكرامة مهانة كل صباح ومع كل وجبة طعام تُقدم لهم. قصد بيت صديق له، كان بائع ثلج في بغداد، تعرّف عليه في مقهى يرتاده البسطاء، ونظـّمه في الحزب. وهذا بدوره أخذه لصديقة له تعيش مع أمها فقط، وخبأته أسبوعاً في دارها، خططوا فيه طريقة هروبه خارج العراق عن طريق سوريا.
تكفـّل صديقه بالمصاريف، كما وضع في جيبه عشرين ديناراً، ووعده بأنه سيخبر أهله لاحقاً بمغادرته. تحقق من دقة العنوان، وأكد كلامه ووعده له، بعد أن تهدأ الأمور: اطمئن يا وليد، سأخبر أهلك.
في طغيان الظل، تبقى النوافذ مشرعة، تتصفح الريح. وصرخة تتراكض لنهاية خربة، بعيداً عن الحكام الذين يصنعون الظلام لشعوبهم.
ضمن باب النسيان يكون أول دخول السيف حيث اختراق الرئة إلى باب المذبحة، لا عصافير تغرّد على نافذة تُثير الروح لفرحة هادئة، غربان تعدد الأسماء الجديدة، وتضحك علي، موتاها المتحركين. ترافق وليداً في رحلته البرية آخر نظرة من عيون" عليـــة"، وآخر إيقاع لقلب أمه، صــــوت عربة النفط، نهيق الحمار، مغزل جدته، وزاوية من ارتباط مقدس بشجرة التوت، وقليل من كلمات أعلن فيها اعتصامه وانتماءه الحزبي.
كما رافــقه يقين يد مبتورة، وسنوات دراسية لم يكملها. إذ كان اعتقاله قبل انتهاء السنة الدراسية الأولى بتهمة تنظيم الطلبة وإثارتهم على الشغب وقلب نظام الحكم.
سنـــة كاملة في سوريا وهو ينتظر قرار قبوله كلاجئ سياسي في بريطانيا، يده المبتورة كانت هويته للعبور، لكن على الطريقة الإنجليزية، يجب أن يقف في الصف ليأتي دوره .(The line - queue).
حفظ هذه الكلمات، زخرفها على حيطان الدار القديمة التي استأجرها لمدة شهر، وجابه الحياة الجديدة. صبي في مقهى، كل ما أراده الابتعاد عن وليد معذّب، وليد مضطهد في ماضيه وحاضره، والجَلد للروح كي لا يصل ارتجافها لذاته.
أهو حُـرٌ الآن أم مسجون بوليد لا يعرفه..؟؟ هل يضع قدميه على عتبة هشة؟ هل يخلع نعليه في وقت الدخول؟ هل ينتظر بعثاً جديداً لموته؟
هل يلعن الموت، و مؤسّسيه أم المنتمين إليه؟
الكلمات التي حفظها لـ (جلال الدين الرومي) كانت قوته وتجلّده، في السجن وخارجه، سنده كلما ضاقت عليه الجدران واستحكمت؛ (أنت طائر نفسك، وفخّ نفسك، وصدر نفسك، أرض نفسك وسماء نفسك).
يعود إليها ويختصر المسافات، إذ لا وجود لإنسان حرّ في البلد العربي، أي بلد دون استثناء، تختلط الأشياء بعضها ببعض، لكن كما هي أوامر الحكومات: أنتَ لست إنساناً.
في لندن غربة من نوع آخر، يلاقيها وليد في وجه الأطفال اللاجئين مع ذويهم، بحثاً عن آدميتهم. الأمسيات تقترب لتألف بعضها،كل شيء، الزحام، المشي المستعجل، بائعات الهوى، العربيات والإنجليزيات، الروسيات والقادمات من أوروبا الشرقية. هزّة صدر لراقصة من (سراييفو)؛ مصادرة للرقص الشرقي، غجريات عراقيات يرقصن في المطاعم الفاخرة، مطربون من الدرجة العاشرة من بقايا أندية عدي؛ وسماسرته، أميرات عربيات، مجلات عربية، راقصات مغربيات، أسماء لا تعلق بالذاكرة، أسماء مألوفة، رجال متزينون بزينة نسائية، روج وملابس نسائية وشعر مستعار، رائحة النارجيلة، سندويشات الشاورما، الهامبرجر الأمريكي، كلها امتحان للصوت، ومفاتيح لعبور الأرصفة.
كل خطوة يخطوها وليد على الرصيف يقف بعدها متردداً، أ يبادر بالأخرى؟
بعد تساؤلات يلتقط أنفاسه من صدره ويحادث نفسه: أنت أكثر أمناً من رصيف وطنك، سر.
مع إحدى الخطوات انتبه لبقالة تبيع ورق اليانصيب بباوند واحد للعمود الواحد. خلع معطفه الأسود الذي اشتراه من سوق الحميدية، وراح يبحث في جيبه الداخلي عن بقايا عطاء الإنسانية الإنجليزية. حين اشترى البطاقة قرأ عليها (لوتري)؛ كان يعرف أنه من المستبعد الفوز بها.
وقف في الشارع يقرأ بعض الملاحظات المدوّنة في الورقة، واسترجع ذاكرة تذكرة لم تبادر والدته بشرائها له.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
4
وقت سفرها بالقطار إلى بغداد قاصدة زيارة (الإمام الكاظم)؛ حين جاء المفتش، انزلق العرق على رقبته، صكت أمه فخذيها وقدميها، وأنزلت عباءتها كي لا يظهر للمفتش رأسه، بعد أن خبّـأته تحت المقعد الخاص بها. ساعتها تصرّف المفتش كما لو كان الخطأ متجاوَزاً من قِبل رجل يدرك العوز، ويدرك أنه بثمن التذكرة اشترت المرأة متاعها ومتاع من اختبأ تحت عباءتها، غضّ طرفه، ومدّ يده للطفل:
ـ قم يا بني، أنت في أمان لا تخف.
خرج وليد كدجاجة مخذولة، وعندما اختلطت رائحة العشب برائحة "الصمّون" والحلوى المصنوعة من الراشي، التهم المقسوم بشراهة وكأن شيئاً لم يحدث*
بعد هطول المطر، انتبه وليد إلى ورقة اليانصيب المبتلـّة، وأكد لنفسه بهزة رأس: ألم أقل يا وليد إن بينك وبين الحظ مسافة.
وهو في الطريق، بين الحلم والرصيف والتذكرة، شاهد امرأة مسنّةً ترتدي عباءة سوداء، وقفت متوثبة للشتيمة بعد أن سمعته يطلب منها أن يمسك يدها ويقبّلها:
ـ أبمقدوري أن أقبّـل يدك سيدتي؟
ألقت عليه نظرة، وقطبت حاجبيها غضباً:
ـ أما تستحي يا مجنون، أنا بعمر أمك؟
أجابها: ولأنك هكذا وددت تقبيل يدك.
تركها تهذي وتسبّ، رغم تدخل شـــاب كان يسير خلفها وقوله لها إنه "لم يقصد شيئاً، وربما رأى فيك شبهاً بأمه.. يا أماه".
لم يمر القطار بمساحات الروح، ولم يكن المفتش حاضراً وقت نهرته العجوز، ولم يكن سؤاله خطأ؛ أدرك لحظتها أنه اشترى تذكرة غربته. تعانق عرق خجله مع قطرات المطر المتزاحمة، التي بللت معطفه، أخذ يضحك على جسد يرافق روحه ويقول له:
ـ امش أيها الصنم، ولا تسأل، ألم تتعلـّم من المسطرة التي كسّرت أصابعك في درس التأريخ؟ قال المدرس:
-لا تسأل عن ما لا يعنيك، أحفظ ما يُطلب منك وامتحن، لتنال درجتك.
كان يعني له السؤال وقتما سأل مدرّسه: هل سنصبح غداً في التأريخ؟
ردّ عليه المدرس باقتضاب :
- نعم.
لكنه كان لحوحاً، واستمرّ يجادل مدرّسه، فهو في بداية الصبا وعمره ثلاثة عشر عاماً، بداية الفوران في كل شيء. وحيّر مدرّسه، ولم يعرف بماذا يجيبه،
فقط قال له :
ـ من الآن وصاعداً اخنق تساؤلاتك ولا داعي أن تطلعني عليها.
رفع إصبعه ثالثة:
- أستاذ، ردّك هذا يعني أن التأريخ الذي نتعلمه كاذب، ويحتاج أن نبكي عليه.
فرح بسؤال المدرّس: ولمَ يا ولدي؟
لقد نعته بولــــــدي؛ هذا يعني أنه هادئ البال، ولن يزعق به ثانية. في وقفته المسرعة تجاه ما يدور في خاطره من أفكار، علق قميصه في طاولة الدرس، وشُقّ الجيب وتهدّلت خيوطه. لم يخَف من توبيخ أمه القادم، بل وقف وقفة المتحدي:
ـ أستاذ، قلت قبل قليل نحن سنصبح تأريخاً، لكن أبي والناس في البيوت والحافلات والشوارع، أسمعهم يقولون متذمرين:
- كل شيء أعوج، كل شيء غلط.. يعني يا أستاذ راح نصير التأريخ الخطأ.. مو؟
أكل عشــر مساطر ضرباً على أصابعه، وقرص قوي في أذنه.
عبر صوت العجوز إلى أذنه ثانية، تحسّسها فوجد قرص مدرّسه مازال عالقا عليها. وهو يدخل المفتاح بباب الشقة، شعر بإجابة لحيرته طمأنته أن لا حاجة له بالسؤال، ولا شأن له بموت المؤرخ، والكتب أيضاً ليس لها حاجة أن تعرف عنه شيئاً.
المؤرخ موثـّق للحقائق، ومزوّر غير موثوق به، كما هي تقنية توزيع الجوائز لكـتّاب عظام أرّخوا مرحلة ما، في أعمالهم أو كتبوا التأريخ بعين الواقع، لكنهم نسوا توثيق الأحاسيس وفكرة اللون.. في غير مرسمه لم يجد لون الفكرة، فأوثق يده اليمنى بما تبقى من يسراه، وراح يستكشف حقيقة ألوانه*
حين فتح باب الشقة، صادفه رجل نحيل، يميل إلى الطول، أسمر اللون، كثيف الشارب، أسود العينين، لمعة حادة تتوسط اسودادهما، تنمّ عن ذكاء وقدرة في إدراك الأشياء واستيعــــابها. العزلة هي حدود الكرامة، كرر هاتين الكلمتين بعد أن حاول جاهداً تحرير الأسمر الذي صادفه في المرآة من معطف مبلـّل، مدّ يده على شاربه وخاطب أسمره:
-لم تبق لديك شعرة سوداء.
تذكر أنه لم يتيسر له ما يسدّ الرمق، فقد ألهته بطاقة اليانصيب عن ذلك. فتح الثلاجة فوجد علبة بيرة وكعكة، راح يغمس الكعكة في البيرة بعد أن صبّها في كوب الشاي الكبير. وجلس على الأريكة، قضم قضمة واحدة، وغاب بعيداً.. حين انتبه وجد أنه يضع كوب البيرة بين فخذيه.
ضحك ضحكة عالية، واحتسى البيرة كلها دفعة واحدة، ثم رمى نصف الكعكة في منفضة السجائر. استخرج قداحته من جيبه، ودخّن. سحب بكل قوته نفَساً عميقاً وراح يراقب حلقات الدخان الهاربة منه، تنهّد:
-هه.. إنه مثلك أيها الدخان، بارد مثل البيرة. يدي لم تحرك له ساكناً، لو تدري تلك العجوز أنه مخصي لما شتمتني.
- ثم ضرب على عجزه:
- الحزن كبير، كبير يا.. يا ماذا، أنت مجرد لحم متهرئ يبحث عن جواز سفر، ولست من طوابير الإناث كما لست من طوابير الذكور. (ضربه بقوة)؛ أنتَ بحاجة إلى تعمير. لو حصل لجلال الدين الرومي ما حصل لي، لما قال: كن نفسك.
من خلال تأمله المتواصل بعواطفه وحزنه العميق، فشله وتحويله إلى خنثى عاجزة، يطرح أسئلة تدبر له مخرجاً للوصول إلى لون إيقاع الحياة. اثنتان وخمسون لوحة لم تأت بإيماءة لثوب فاتنة يراها في حلمه، الرسائل المتبادلة بينه وبين صديق له في ألمانيا، كانت الوسيلة الوحيدة لديه لطرد الوحشة عنه، كما هي الزاوية التي يتذكر فيها علاقته مع شوارع سوريا وطعم الخيار الطازج والطماطم الطازجة والخبز الساخن، ضحكه على قصائد عبد الحق، بعد نثر الخيار والطماطم على طاولة متواضعة وانتقاء أصغرها وتقديمها لعبد الحق.
المحطات البعيدة تقترب، ثم ترجع إلى تجزئة المكان، تثور فيه على نفسها وعلى مَن قاس خطواته بلون الدروب وإغراءات المطارات، إذ تتحول الأقفاص من سجن إلى ثكنة عسكرية ثم إلى ملاجئ لإحالة الجسد إلى التقاعد، والعقل إلى التلصص على حقيقة كانت من نوافذ لا تسمع ولا تفهم معنى أغنية ( نخل السماوة يقول طرّتني سمرة ).
من ذات النافذة يفسر لقاموسه المتضاحك عليه معنى كلمة طرّ؛ طرَّ طراً كان طريراً، ذا رواء وجمال، لا هذه لا تعنيك يا وليد. يتركها ويلجأ الى تفسير آخر، فالطرير تعني ذا المنظر والرواء، وفي العراق منذ صغره كان يسمع في الشارع كلمة أطرّك طر، أي أقسمك نصفين، كما سمعها مراراً في التلفزيون:
(( اللي يخالفنا نطرّو طر، هـ..هـ.. مو هإ إي))
بالتأكيد لم يقصد التلفاز أن يزيننا بغرتنا ويسدل شعرنا على الجبين، فالطـّرة هي زينة المرأة في شعرها المصفـّف على جبهتها، لكن كلمة طرّيته نصفين قديمة، الله كم حاكم يا وليد طرّ أجساد شعبه طراً، وقصّه قصاً؟
لتعبر الذكريات المطرورة بنصفيها المملوئين بالدم، سخرية حمقاء لا معنى لها. الشيء الوحيد الذي يضحكه بعض الطرف والنكات الوسخة في رسائل عبد الحق إليه، إذ كم تمنى أن يسمعها منه صوتاً لا مكتوبة.. الغربة ليست شرطاً من شروط الإبعاد الإجباري أو الاختياري، الغربة هي شعورك بنفَس يصعد ويهبط في صدرك وهو غريب عليك.. هذه الغربة العمياء والأكبر في طرّها.
شدّ على يده بأطراف أصابعه، ضغط بقوة كأنه يرسم شيئاً ذا معنى، ضغط أكثر من ذي قبل، استعطف رائحة المكان، صداقته، والتقاءه بعبد الحق في سوريا. استحضر لحظات توديعه في المطار، جرّها جراً إليه، رفّ قلبه إلى عيني صديقه. اكتشف على شفتيه كلمة غريبة، فحّت رائحة حفرة عمياء على ساعده، مرّر أصابعه المرتعشة. هذه المرة استوضح الشكل الذي بين أصابعه، كان كفاً بخمسة أصابع.
وكأعمى يهتدي إلى شيء رآه لأول مرة، فتح عينيه فوجد أصابعه تتلمس الفراغ.
استخرج رسالة قديمة من عبد الحق، قرأ اسمه مكتوباً بالإنجليزية (From Abdulhak). آه لو نتخلص من إرث عبوديتنا، لأصبح لدينا الحق لطرح الأسئلة.
وبقي يحادث نفسه.. كل ما أردته أن أزخرف الأشياء الجميلة وأطرحها على شكل سؤال، أبعِد عنها ما شككت به ومازال يحاصرني شكّه، سألت ما يمكن أن أسأله، وطرحت ما أشك به مستوضحاً.
نلت بعدها مساطر على كفيّ، وتورّمت أصابعي.
البراهين؟ لا، لسنا في حاجة لبراهين، في طابور المدرسة؛ قفوا، اصطفوا، أحفظوا، امتحنوا، تعالوا غداً نظيفين سيزورنا مفتش وزارة التربية.
كل ما أردته من أبي أن يعطيني دينارين لشراء قميص، فقد تعبت أمي من ترقيع قميصي. لم أبادر بسؤاله؛ لماذا؟ وكل ما سمعته:
-( جيب يا كلب، أنت عارف بالحالة شلون بنت كلب).
خجل أبوه من نفسه، بعد أن تطلعت إليه والدته مؤنّبة، التجأ إلى حضنها، مسحت دموعه .
ـ كل ما قصدته أن.. أن
ـ أسكت يا بني، لا تعذبني أكثر.
فأكرمها بسكوته، وأكل تأنيب مدرّس الصف له، فالمدرس رغب أن يقدمه كأشطر الطلبة ويتفاخر به أمام المفتش، لكنه قدّم عليه ابن تاجر الغنم، الذي ارتدى قميصاً نظيفاً لم تظهر عليه آثار الترقيع*
بعيداً عن نافذة الخيال، بعيداً عن عبد الحق، رمى الرسالة أرضاً، أشعل سيجارة، أعد كوب شاي، وراح يتأمل طفولته وألوانه.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
5
جلس يستعيد اللوحات التي رسمها الطلبة في كلية الفنون، ناقشه وقتها أحدهم، حين وجده يرسم أشكالاً غير واضحة الملامح، مجرد حُفَر في وجوه، العيون حفر، الأفواه حفر، الأشكال غير مترابطة، مجرد فوضى وهياج.
سأله:
-ماذا ترسم؟ أنت تسيء للفن برسومك هذه.
- أجابه:
- هذا ليس من شأنك، والنقاش بيننا عقيم، لكل منا طريقته في التعبير عن ذاته.. وأنت ماذا ترسم؟
-أرسم ابنة العراق السمراء، أنثى غامضة أليفة الجمال، انظر كيف الأنوثة تصفو في عينيها.
رد عليه وليد:
- ترسم ابنة العراق، وأنا أرسم العراق كله.
احتدم النقاش بين الأصدقاء، تدخّلَ أحد الأساتذة الذي خرج على صوت نقاشهم الحاد، تطاول عليه صاحبه ونعته بالشيوعية، ثم وجّه كلامه للأستاذ جلال:
ـ أستاذ، كل لوحاته صراخ.. إنه يحرّض للثورة.
نظر إليه وليد كقزم خسيس، متأكداً أن لوحاته ستُباع في الأسواق بثمن بخس وفي متاجر الفن الهابط. وحاول أن يلتمس له المعاذير، قائلاً: تذوّق الفن يحتاج إلى ثقافة عالية وعريضة المساحة.
من وقتها لم يتدخل وحيد في رسومات رفيقه وليد، كي لا يفضح ثقافته السطحية، إلا يوم قادت الشرطة وليـــــد من الكلية إلى التحقيق مكبّـل اليدين.
وقف متسائلاً، بعد استئذان الشرطي :
- ألم تعجبك صورة المرأة التي رسمتها؟
ردّ وليد بشجاعة:
- لا (واستمرّ): كل يبحث عمـّا ينقصه، وعمـّا يترجمه من الداخل، أنت بحاجة لما يترجم نقصك الجنسي.
نهره الشرطي:
- وأنت أيها الكلب تنقصك الثورة، اسمعوا، هذه إجابة صريحة، إنه يدين نفسه أمامكم ويبرهن على تحريضه ضد الدولة والرئيس والحزب*
في لندن يحوك عزلته في غربة نفسه، مجموعة لوحات تنتظر من يعرفها أو يستكشف ببياضها، مجاميع من الأماني لا وقت لها الآن ولا محل لها في ركن من الحياة. يتخيلها عارية، حلمة متورّدة لا يجرؤ على الاقتراب منها. يفتح الثلاجة، لم يجد زجاجة بيرة، يمشي متوتراً صوب المرآة:
-ها أنا أعود لامرأتك يا وحيد.. لمَ لمتك وقتها؟ لمَ وبّختك ؟ لست أدري.
تساءل وقطـّب حاجبيه:
-هل كنت أكذب على نفسي وقتها؟
شعر بحاجة ماسّة للتبوّل، دخل الحمام، ولعب لعبته المعهودة في إغلاق الضوء وفتحه من خيط متدلٍ قرب الباب:
-ألا يكفي الإنجليز علبهم وأقفاصهم التي يتوهمون أنها بيوتاً؟
ضرب الخيط كي يتأرجح، سحب السيفون، وترك الضوء منبعثاً:
-كم أنتم تقليديون.
***
رجع الى جلسته، استحضر أعزّته، كانت أمه تبتسم والمغزل بيدها على آخره. سمع طقطقة صفائح النفط، ابتسامة "علية" الأخيرة، نظرة طفلتها الجميلة. صديقة تعرف عليها أول مجيئه إلى لندن، بعد فترة اكتشف أنها تتجسس عليه، وكانت تعامله كامرأة مثلها، لم تكن تحب الرجال، أسرّت إليه:
- أنها تعرفت على غانية مغربية تعمل سكرتيرة لدى ثري إنجليزي، بعد أن أغوته وتزوجته، كما ذكرت له علاقتها بامرأة ذات ثراء وزوجها الثري، كلاهما في الإمارات. ولمعرفته الجيدة بالناس وتجاربه الحياتية استنتج من أحاديثها أنها لا تصادق إلا من تجد لديهم ما تحتاجه وتصبو إليه، لا يهم إن كانت غانية سيئة السمعة ، من اجل حاجتها تترك أولادها وتبيت في بيتها ثلاث ليالٍ، المهم كم تستفيد من علاقتها بها. ومن تلك النظرة ذات المصلحة وطـّدت علاقتها بالخليجية، التي بحكم الطيبة المعهودة في بلادها شربت المقلب.
استحضر من يحب ومن لا يحب، تنفست مسام جلده إثر ابتسامة تلتها ضحكة عالية، إذ طرأت عليه فكرة ذات يوم للتنزّه في شارع (هاي ستريت كنزكتن) استقل الحافلة (72) ثم سار مشياً ممشطاً الشارع ومحلاته وفنادقه ومقاهيه، الشقق الفاخرة، محلات البضائع النسائية والرجالية، مكاتب العقارات. شم رائحة بخور هندي ، استدرجته الرائحة ودخل المحل ذا الطابع الشرقي، الديكور الهندي بألوانه الزاهية بين الأحمر الناري والأزرق الفاتح، بضائع حريرية، ملابس نسائية وحلي، حقائب نسائية يدوية.
دخل فاتــــحاً منخاريه على آخرهما، لم يقصــــد الشراء أو التجــــوال في الشوارع، بل رغب في رؤية وجوه النساء لعلـّه يجد من يتمنى رسمها. ابتسم له صاحب المحل، ردّ على ابتسامته، لحقه البائع الشاب عارضاً عليه خدماته. شكره، ثم ردّ على سؤال طرحه البائع حول مسقط رأسه :
I am from Iraq)- )
ـ ( أوه.. صدام.. You are from Saddam)
هزّ رأسه مؤكداً :
- لكن كما لديكم (غاندي)؛ لدينا......(مبتسما)، مع الفارق طبعاً. وبما أن في بلادكم حكمت امرأة مثل (أنديرا غاندى )منذ زمن، نحن جاءنا الفرج، لقد رفعت نزيهة الدليمي ورفيقاتها صوت المرأة عالياً. وطبعاً مع فارق الزمن.
- اسمح لي ، أظنك فخوراً (بطاغور) ، ونحن فخورون بالسيف الذي تغني به المتنبي. أنتم تعودتم لغة السلام ونحن لغة السيف ، تفننتم بالتجارة والزراعة والعلم والفن وكل ما يحتاجه الإنسان، ونحن قمنا بطمر الإنسان ووسعنا قبره.
وضع يده على وليد: لا تكن متشائما.
ـ (أوه .. سوف أفعل. (مستهزئاً).
ثم خرج مودعاً، كأنه يبحث عن شيء فقده .
استوقفه محل للوشم.. طوابير الفتيات المراهقات، النساء والرجال. دفعه حب الاستطلاع إلى الدخول،غرفة ذات أربع كنبات حُشرت عليها أجساد الفتيات المنتظرات دورهن، صور معلقة على الحائط بكل الرسومات الصغيرة والكبيرة مستعرضة الأشكال والمواقع الموشومة، على السرّة والأفخاذ والأوراك والأثداء.
شاهد صورة امرأة وصورة صليب موشوم على عورتها، بينما صورتان لرجلين أحدهما جالس على ركبتيه الموشومتين والرسومات تملأ فخذية وعلى مؤخرته، بينما وقف الثاني منتصب القامة كأن منظره الموشوم يقول ها أنا ذا برجولتي المزخرفة.
مدّ يده إلى بنطلونه يتحسس شيئاً فقده منذ زمن، وفكر؛ ماذا لو حجزت لي موعداً مع الوشّام، ربما نغز الإبر يوقظ المقتول بين فخذي، هزّ يده مستنكراً، وخرج*
شعر بحرارة الكرسي تحته، كان الوقت يُغرقه بالذكريات، وكانت الساعات الثلاث التي قضاها على جلسة واحدة قد تركت النمنمة والخدر يدبّان في قدميه حتى لم يعد قادراً على تحريكهما. فركهما بيده، شعر بوخز قوي في رجله اليمنى، فركها أكثر، دعك ساقه وقدمه، اعترف بالخطأ الجسيم أمامها:
- ((من حقك أن تخدري، أكو مجنون يجلس ثلاث ساعات مرة واحدة؟ أي وين كنت يا ابن الكلب أكو واحد يسوّي عملتك هذه؟ إي ما جعت؟ ما عطشت؟
- أدري بأنك كنت ترسم صورة في خيالك، تستحضر كل الوجوه في (هاي ستريت كنزكتن)، تتفحصها وجهاً وجهاً، ثم ما الذي استفدت من اجترار أشعار عبد الحق؟
حتى التليفون كان مصـــراً على الصمــت، كان متواطئاً مع ساعاته. نهض متعباً، لم يكن راغباً بفتح التلفاز، ولم يستحضر امرأة بباله. وقف أمام المرآة في مدخل الشقة، تفحص عينيه المحمرّتين، ثم أشار بإصبعه: نعم، مازلت تشبه وليداً الذي عرفته. وليد بائع النفط، وليد الرسام، وليد الذي لم يساوم.. انتبه فجأة.. ووليد النصف، وتريد أن تهواك امرأة؟
- النساء تحب الرجل الكامل، المرأة أيها النصف تحب أن يمسكها الرجلبيديه، يطبقهما ويتفحص الجسد، يتنقل من نقطة إلى نقطة،يرتجف عشقا ورغبة فأين يداك؟
ثم أنت فاقد لحاسة الشم، تشم ماذا؟ ها. كيف تتغزل بعطرها؟ وعضوك المخذول ماذا تفعل به؟ هل تتذكر أول ( قحبة) جئت بها من (البيكاديللي) إلى هنا؟
هل نسيت ما قالته إليك؟ أنا أذكّرك، قالت لك: لا جيب ولا رجولة أحضرتني هنا لتمصّ ثديي، طيّب هات نصف أجرة إذاً؛ ودفعت لها أجرة كاملة لتغطى عيبك.
ماذا لو كانت "علية" الآن أمامك، وأنت لا جيوب ممتلئة ولا سيارة فارهة ولا رجولة؟ مجرد زبالة تتصورها وليداً، (تفو عليك..)
بصق وراح يتابع بصاقه كيف تنزلق على سطح المرآة، حتى وصلت إلى النصف؛ نعم:
-استقرّي هنا. (وينك يا علاّوي تشوف صاحبك، حتى التفلة عرفت وين تستقر)
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
6
علاوي أحد أصدقائه الذين استقروا في الإمارات منذ السبعينات، وأصبح تاجراً الآن وذا نفوذ في البلد. كاد أن يُغمى عليه فرحاً حين شاهده ذات يوم
صدفة، وهو يتجول في محلات (ماركس أند سبنسر)؛ في شارع أوكسفورد).
ـ علاّوي.. ماذا تفعل هنا؟ متى وصلت؟ ما هي أحوالك؟ هل أنت وحدك أم مع نسوان؟
ـ وليد.. يا للصدفة الجميلة، وأنت ماذا تفعل هنا؟
ـ جئت لأبحث عن امرأة أرسمها، وأنت؟. للتسوق أكيد.
خرجــا معاً، كانــت سيارة بسائقها في خدمته، أشار للسائق بالانطلاق والتوجــه إلى مطعــم (مســـقوف ) .
بعد تذوق أطيب الأكلات وألذها قررا أن يلتقيا ليلاً في دار مراكش، هناك ألذ المأكولات المغربية والشيشة. هل تعرف المكان جيداً يا وليد؟
ودعه وليد مؤكداً على معرفته المكان وعلى الذهاب إلى هناك لانتظاره في التاسعة مساء.
معدته لم تألف مثل هذا الأكل، فثارت عليه مترجمة رفضها بآلام حادة، صاحبها قيء وصداع. فقرر عدم الذهاب حسب الموعد قائلاً:
-هذا أحسن، ألم معدتي لم يكن من التخمة بل من فراغ الجيب.
المفروض أنا من يضيّف، هو الزائر وأنا ابن البلد. ثم إذا ذهبت هناك هل أتركه يدفع عني، وأنا لا أملك سعر علبتين من البيرة ؟ يا الله، هذا أفضل. شكراً أيها المغص المنقذ، خلصتني من ورطة كبيرة،من الدفع ومن سيل لعابي على النساء وعلى حديثي عنهن:
-الصدر بضّ، الشعر ناعم، المؤخرة مدوّرة، تفعل ما ترغب به، هي في خدمتك، بينما زوجتي.. ثم يصمت علاوي.
التقط قطعة لحم بالشوكة وقبل أن يضعها بفمه يبرر لي سبب خيانته لزوجته:
صحيح أنا أحبها بجنون، لكنها أكلة واحدة، يا أخي ملــّيت كل يوم بامية، بامية.. إي هم يشتهي الواحد اللحم الروسي الذي غزا شوارع الإمارات ودوائرها ومحلاتها؛ ثم أنا مللت من اللحم الفلبيني.
( حين كانا في المطعم ، كان يضع قطعة من لحم الكباب في صحن وليد ويقول له) :
- كُل يا وليد، كل. هذا لحم إنجليزي.. ويغمز له، أكيد ذقت اللحم الإنجليزي؟
تمدّد وليد على فراشه، وراح يقرأ رسالة عبد الحق التي وصلت صباحا، قرأها أربع مرات، ثم الخامسة، استفزه شعر عبد الحق، تخيل صورة ما، ودخل المرسم، يستعيد الكلمات ثم يرسمها. يتناول الألوان، ويضع حرفاً على شكل قوس، وتمرّ الساعات.. يقف يتطلع ، يرسم، يشعل سيجارة ، يشرب قليلاً من البيرة، يضعها أرضاً ويواصل .
أذهله سحر اللوحة، إنها كيان وليست ألواناً فقط، لا بل قصيدة، لغة بالألوان. يحدث لوحته، يقف وهو يسند ظهره إلى الحائط : وينك يا عبد الحق، وينك تجي وتشوف بيت الشعر الذي قلت فيه:
خضّبتُ المستباحَ
حمّلتُه ميعادكَ وانفلقتُ.
- ها هي انفلقت..
كل المستباح، من رجولتنا إلى أرضنا. ثورة ألوان.
أحمر، أخضر، أصفر، أزرق؛ سأسمّيها المستباح؛ ولن أعرضها في أي معرض، هي لي.. يجب أن أعلّقها على هذا الحائط. لا، في غرفة نومي، لا.. هي هدية يا عبد الحق، هدية.
وراح وليد يدير قرص التلفون، بعد ثلاثة أرقام تطلـّع إلى ساعته، وجد أن الوقت غير ملائم، فقرر الاتصال بعبد الحق غداً.
لم يلتقِ بعبد الحق في سوريا، لكنه التقى به في كلية الآداب في بغداد، وتصادقا بعد أن التقت أفكارهما وآلامهما. كان يلحظ ألماً دفيناً في عيني عبد الحق، وبعد توطد الصداقة حكي له كل شيء، وصارا لا يفترقان. لكن فرّقهما السجن، من وقتها لم يسمع عنه أي شيء، إلا مفاجأة عبد الحق له عبر الهاتف في لندن.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
7
كانت أمه قاسية جداً، تضربه كثيراً وبعنف. كانت تعكس مشاكلها العائلية وسخطها على عائلة زوجها التي تغار منها لكونها جميلة، ولكونها استحوذت على قلب أبيه. لم يكن متعلقاً بأمه، بل بأبيه الذي كان عاملاً في شركة البيبسي كولا، ثم شرطياً، ثم سائق تكسي. كان متفوقاً في المدرسة، وخاصة في دروس اللغة العربية، وكان موضع اهتمام مدرس اللغة العربية، حيث أهداه مجموعة قصصية لـ(فهد الأسدي).
هرب من البيت إثر ضرب و إهانة من والدته، وسكن عند عمته.
كانت طفولته في (الشاكرية ). و كانت ( الشاكرية ) عرصات وصرائف للعمال والفلاحين النازحين من الجنوب، ليس فيها مدارس أو مراكز صحية. وعندما كان أحمد حسن البكر رئيساً للوزراء، انتقل مع عائلته إلى مدينة الثورة، أرض مهجورة متعاطفة مع عبد الكريم قاسم ، وفي عام 1963 اعتقل الحرس القومي الشباب من جيله، ورحّلوه بعد هجوم على بيت عمته وسحل زوج العمة بدمه. ثم خرج بعد شهور من الاعتقال والتحقيق، حيث لم يعثروا على ما يدينه.
كانت ميوله دينية في بادئ الأمر، لكن القراءات في فترة عبد الرحمن عارف، لِنجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس وغيرهم أبعدته وهو في سن المراهقة عن الحس الديني، ونتيجة تأثير الأقارب والأصدقاء الذين ينتمون للحزب الشيوعي، والذين كانوا يزودونه بالكتب وهو في سن السابعة عشرة، أصبح شيوعياً، ثم عضواً في اتحاد الطلبة.
في سنة 1972 تعرف في جامعـــــة بغداد على فتاة سمراء، معه في القسم نفسه، وتزوجها بعد ذلك، وفي السنة ذاتها قُدّم ضده بلاغ بأنه ضمن خلية حزبية تتآمر على اغتيال قائم مقام مدينة الثورة. واعترف عليه شيوعي سابق من المنطقة بعد تعذيبه، وعلى مجموعة من الشباب.
حين داهموا بيت عمته مرة ثانية، لم يجدوه في البيت. وسجل اسمه إثر هذه التهمة الملفقة مع الممنوعين من دخول الجامعة، فطلب منه الحزبُ الاختفاءَ لمدة سنة.
في أول سنة له في الجامعة، كوّن مع أصدقاء له من شعراء وكتاب ورسامين أصبحوا معروفين الآن (جمعية اتحاد أدباء مضاد) ؛ رغم أن بينهم من بعثيين والشيوعيين. ولقاءاتهم في مقهى المثقفين في بغداد حمّسته على كتابة الشعر ومواصلة الثقافة. ومن خلال اتحاد الطلبة توطدت علاقته مع جريدة (طريق الشعب) وتم ترشيحه للحزب قبل السن القانوني.
إثر تسرب معلومات لوالدته عن مكان الجريدة ، جاءت إليه وزارته في مقر جريدة طريق الشعب ، وأصبحت العلاقة بينهما إثر تلك الزيارة، رغم توترها، فيها شيء من الألفة وحنان الأم.
إلا إنه بقي في بيت عمته، ثم انتقل بعدها إلى بيت ابنة عمته التي تكبره بكثير، أرملة استشهد أخوها إثر اعتقاله سنة 1963 مع مجموعة القيادة المركزية بعد أن حقن في رأسه إبراً أودت به إلى الجنون ثم الموت.
أما هي فقد كانت توزّع المناشير في علاّقة ،الخضار وهي ذاهبة تتسوق، كانت غاية في الجمال، وحادة الذكاء، وتحب الحزب بشكل تلقائي وعفوي، وصاحبة نكتة.
تزوج عبد الحق سنة 1979 وفي السنة ذاتها ترك العراق، قدّم على جواز سفر بصفته عاملاً بكفالة قدرها خمسة آلاف دينار، ووقع على وثيقة صحية لكونه ذاهباً للعلاج في بلغاريا ثم السياحة في تركيا، وعقوبة تكذيب هذه الوثيقة هي الإعدام. في الحدود بقوا ليلة كاملة، بعد أن أعياهم السفر من الموصل إلى دهوك. نقطة إبراهيم الخليل كانت مرحلة الشك في سفرته، سمحوا لزوجته بالعبور لوحدها. سمحوا للمرافق أن يمر، بينما أمروا المريض أن يرجع مع شقيق زوجته الذي قادهم إلى نقطة الشك بسيارته مدعياً أنه صاحب تكسي.
انتقل مسرح التدبير للخروج من العراق إلى والد الزوجة، رجل بسيط صاحب محل لبيع وتصليح الزجاج ، يمرّ عليه ضابط يعمل في الجوازات. فطلب منه جواز سفر جديداً لصديق اسمه مظلوم، وأعطاه صورة شخصية لعبد الحق، وحين سأله الضابط عن صاحب الصورة أكد أنه عامل بناء، لكن الضابط أصرّ على أنه صحفي، وأنه شاهد صورته في جريدة طريق الشعب.
فأقسم له:
- لا والله يا أبو مخلص، هذا رجل بسيط لا يعرف طريق الشعب ولا طريق الحكومة.
عندها وافق الضابط على ذلك، وقبض قيمة الجواز مئة دينار، وهو يقول: إكراماً لك يا عم أسقط حقي في الأجرة، لكنْ لدي عمل صباغة في الدار وأريده أن يقوم بذلك.
انتقل عبد الحق من القلم إلى الفرشاة، يلطـّخ هنا ويعربد هنـــــــاك، ولمدة شهر كامل. غادر بعدها إلى سوريا، ومن سوريا التحق بزوجته في بلغاريا.
هناك أصيب بإحباط ، كانت بلغاريا بالنسبة إليه صدمة حضارية وثقافية، فبينما كان فرحاً ومتهيئاً نفسياً لمشاهدة بلد ديمقراطي مقارنة بالوطن، وجد شيئاً آخر، لكن العيب لم يكن في البلد، بل في الناس، كانوا نصّابين باسم الرفاق، أين الرفاق الذين عهدهم في العراق؟ فلاحون وعمال ، مثقفون وبسطاء، أين هم؟ من هم الحقيقيون ومن هم المزيفون؟.
إنه يعرف الكثير منهم والذين جاهد معهم، وتوقف واعتقل معهم.
ترفـّع على الصغائر واهتمّ بالانتماء، بانتمائهم ابتعد عن التشكيك بالآخر كما كانوا يفعلون. سلبية الأحزاب بالحكم وسلبية البيروقراطية والزجر والأوامر جعلته ينهار، إلى درجة أنه لم يقوَ على ممارسة الجنس مع زوجته لمدة سنة، بعد أن خضع لجلسات علاج لدى طبيب نفسي.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
8
من الصعب أن يجد المرء القدوة والمثل ينهار في نظره، رغم أن الكثير من النساء والرجال ضحوا من أجل قناعاتهم وانتمائهم الحقيقي والمبدئي.
كانت تراوده صورهم وهو في المصحة ، منها صورة تلك المرأة الجميلة، زوجة صديقه الذي يسكن في مدينة الثورة. كان لا يستطيع أن يلتقي معها في البيت أو في مدينة الثورة كي لا يكشف صلتها الحزبية معه، فيواعدها في ساحة النصر.
سابقاً كانت العباءة العراقية هي ستر المرأة، والغانيات هنّ من يرتدين القصير والعاري من أجل جلب الزبون. ولكن في أعوام السبعينات تخفـّت المومس في العبــــــاءة، وصار ارتداء المرأة لملابس محتشمة يُعدّ جذباً للتحرشات والمعاكسات. تعرضت تلك الرفيقة للإساءة، وكان الراغبون في امرأة يسألونه، وهو يسير معها لتوصيل خبر أو تعليمات حزبية، عن أجرة الساعة بصفته القواد، المرافق.
لقد تعرضت للاعتقال والتعذيب، وسمع في بلغاريا أنها ماتت صامدة ولم تخبر عن رفاقها، كما سمع عن إعدام شقيق زوجته الذي وقع على كفالته بأن المعلومات الكاذبة التي قدّمها هي معلومات صحيحة. قصته تكفي أن ينتظر قليلاً، ويكفّ عن الكلام. لذا لم يكمل عما عانى في بلغاريا، وظنّ أن هذه المعلومات تزيد إحباط وليد، فاختصرها في رسالته الطويلة.
أخبره أن الأوامر اقتضت إرساله إلى اليمن، وأرسل عن وضعه في اليمن ديواناً شعرياً يترجم فيه كل شيء، سمّاه "الصهيل المبتور".
ثم وضع نقطة سوداء كبيرة في نهاية الرسالة، وترك ملاحظة يشرح فيها كيف عرف عنوانه من صديق يعمل في الصحافة في ألمانيا، فكانت تلك اللحظات بالنسبة إليه لحظات استثنائية أن يعرف عن صديقه الفنان. كما أن الصديق ذاته دبّر له عملاً معه ، وراح ينشر أشعاره مترجمة إلى اللغة الألمانية، ومرة بالعربية. *
عاين وليد يمنة ويسرة، فوجد أشرطة تسجيل مرمية أرضاً حيث يعتبرها أشرطة غسل الذاكرة، أدار المسجل بعد أن وضع فيه شريطاً لأغانٍ قديمة، وترك هاجس المرأة يعبث بمخيلته.
غمرته نشوة جنونية وهو يحاول الوصول إلى حلمة متوردة، كلما انتهي من رسم امرأة من المخيلة مزقها، وبحث عن أخرى. يقترب منها،تسحره عيناها،تزحف النشوة إلى جسده وهو يحرك الكرسي الهزاز ويداعب شفتيها.
تسير يده ببطء، تقرأ وجنتيها ورقبتها، يمرر طرف إصبعه على زندها وعظمات رقبتها ناحية الظهر، ينزلق إصبعه في ممر العظمات ويستقر عند قراءة المفرق، آخر عظمة تتربع بين تلـّين من اللحم الأبيض.
خطوط جديدة تزيح اللحم البضّ عن مخيلته، فتأتي عابرة ودون استئذان صورة "علية"، يفتح عينيه ويهرب من صورتها القديسة، يجلس على الأرض، ومعه ثلاث علب من البيرة، يضعها أمامه دفعة واحدة، ويضع عشرات من السنين في خزانة قلبه.
يقضم أظافره بأسنانه، لا يجد أمامه غير صورة الفراغ، يفرك عينيه باحثاً عن لون. يبرهن لنفسه أنه مازال يتنفسها ويشم رائحتها:
- تعالى، تعالى يا علية ، تعالى ولو في الحلم.
يسند ظهره إلى حافة الأريكة، يندف شعره الذي تركه على سجيته دون حلاقة أو صبغة، يستحضر كل ما يمتّ" لعلية" بصلة، فيجده عصياً عليه، يتمدّد على الأرض كسفينة لا تجرؤ على الإبحار، يجلب له خمس علب أخرى، ويتركها قرب الثلاث الفارغة. ثم يرجع لسفينته، ليعطيها قليلاً من جرأة، وحين عصت.. حثـَّها، ولما استكبرت، دفعها إلى حافة الرمل ، انزلقت قليلاً إلى الماء.
أغمض عينيه بارتخــــاء ساخن، كانــــت على صدره اثنتان تجددان القُبل، وختم الشفتين يزيّن رقبته ويديه وبطنه العارية. نفَـَس حار، وشعر أشقر أُسدِل على وجهه، شمّ رائحة عطر لم يشمه من قبل ، نساء هاي ستريت كنزكتن، أجورد رود، بيكاديللي، الناصرية، بغداد ، لم يجده على بطاقات السفر اليومية وعلى تذاكر الطائرات. بينما سمراء متمردة بشعرها المتمرد، تطوقه وتشمه، وتصطك أضلاعه بأضلاعها، ويكاد أن يحيي الميت فيه.. فإذا بعربدة جاره السكير تستقر في رأسه وتعيد إليه صحوته .
أفزعته الوحشة والفراغ بينما العزلة أصابته بالخرَس، لم يجد أثراً لقُبل. تفحّص بطنه، فتح منخاريه ليشم رائحة امرأة، لم يجد أية شفة تتصدق عليه بقبلة، كان قلبه بوسعه أن يتسع لحلم استثنائي. وكاد أن يدخل صدر الشقراء، يخترق نبضات قلبها ويدخل.
دار في الصالة عشر دورات، دخل غرفة نومه، شعر برقصة على أصابعه. عضّ شفتيه ومدّهما، عضّ الفرشاة الصغيرة، ابتعد مسافة مترين، تحسس يده المبتورة، سكت، فاض في قلبه شيء غريب،أحسّ بجسارة سؤال في صدره : ما الذي يمكنه أن يصور امرأة تفضح النهدين؟ امرأة هي غايتي وجرحي العابث باللذة.
التفّ حول نفسه، وقف أمام المرآة :
- هذه اللوحة الأخيرة، وسأعلن عند إتمامها عن معرضي، وأدعو إليه أصدقائي المقربين؛ لقد نالت مني العزلة ونلت منها ما يكفي. نعم يا (دافنشي)،العزلة هي الحرية، وصدقتَ حين قلت:
- ( إذا كنت وحيداً فأنت تملك نفسك، وإذا كنت مع رفيق واحد فلن تملك إلا نصفك ).
بعد حمّام دافئ، فتح صدره لهواء الشرفة، صرخته اليوم أكبر من صدره، وجدها تهتزّ مع الشجر على مرأى من الهواء لسعته البرودة، زرّ بلوزته الرمادية ضامّاً صدره إليه، قبل أن يغلق النافذة أخذ نفَساً عميقاً، وأغلقها بهدوء، أعدّ كوباً من الشاي، استخرج رسائل قديمة وصوراً قديمة لأهله، تضاعف حجم السؤال حين وجد صورته في الناصرية، ابتسم لنخيلها:
- أيتها الجميلة يا ناصريتي الموقرة، سأحفرك في مجرى الروح.
- احمرّت عيناه، واحتقنت وجنتاه، تطلـّع إلى المنفضة، وجد السيجارة قد أكلت نفسها. خطا نحو مرسمه فرحاً : أيتها اللوحة خُذيني إليك.
سألته الحبيبة: لا بدّ أن أطير على جناحيك.
لم يسمعها، هيّئ له أن صوت "علية" مرّ قرب ريشته المغموسة في اللون الأحمر، سأل وجه أمه من الفرشاة، دهش حين وجد الوجه يبتسم له قائلاً:
- جِدْ نفسك يا بني، جدها. هيا ارسم، مازال في الوقت متسع، ومازال في العمر نفَسٌ لعزف ناي.
ضرب جبينه براحته اليمنى:
- مازلت تحلم يا وليد، خذ ما يكفي من اللون، خُذ ما يكفي من النسيان ، ما يكفيك من الذكــّر وارسم.
بعد أن شعر بالجوع يعصر معدته، تطلع إلى ساعة يده، وجدها تشير إلى السادسة مساء. لم يعبأ بالوقت الذي مرّ، ولم يعِـر للجوع أهمية ،استسلم للألوان، اهتدى إلى شعاعها ، راح يهذي كمن يحادث شخصا حقيقياً :
- سأرسمكِ كما رأيتك في الحلم أيتها الشقراء، مومسٌ بحفنة امرأة.
- سمرائي أين ساعدك الجميل، سأرسمه صيحةً تعرّي إطارك، واعذريني فقد قلت سأرسمك وأجسّد شقرائي، هذه حكمة الرجال حين يصبحون عبيداً لسراويلهم. أرسمكما لتمثلا الحرب، وسأردّه إلى ضميره وضمير سادته واعذريني حبيبتي "علية"، لن تموتي حرباً إثر حرب، لقد حفرتك في مجرى الدم، لا تقوليّ؛ يهذي أو يثرثر.
شمّ رائحة نساء مختلفة المصدر، عجين أمه، غطاء رأسها. بعثر ملابسه أرضاً بعد أن داهمته سخونة الرائحة، صوت أنثوي يصبّ بمصبّات الجسد. اقتربت منه حورية سمراء، دنت من رقبته وقبّلتها، شقراء ضمّت رأسه بين نهديها، دارت به دوامة مومس، بينما مومس ثانية تتبادل معه سكرته، تعيد له النصف الخالي من العمر، وتسكره معها ثانية.
لم يدرِ ِ كم مضى من الوقت، لكنه حين أفاق إلى نفسه، اكتشف أنه جالس في ركن قريب جداً من اللوحة المربعة الشكل. غمس فرشاة جديدة باللون الأصفر: شعرك كالحصان سأتركه يلتفّ على عنقك، الفجر يخاف من القمر، أنتِ قمري.
فتح ثلاثة أزرار من ثوبها، فبانت استدارة النهدين البضّين:
- ويحك يا وليد أمازلت تحدّث لوحاتك؟،
غيّر طبعك هذا، وإلا أكلتك الألوان؛ لن تحتاج لوليد آخر.
مرّر إصبعه بين نهديّ الشقراء بينما السمراء ظلـّت تراقبه، وعيناها تكادان تأكلانه. سحب كـمّ فستانها، ليظهر الكتف عارياً محدثا لوحته:
- في الناصرية حين يتعرّى الكتف يعني يا قاتل يا مقتول، والدماء تصل الرُّكب، فالعار لا بدّ أن يُغسل. أما في لندن فالأكتاف العارية ببلاش، والنـهود النافرة على قفا من يشيل
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
أحسّ بثقل قدميه، تحرك ببطء باتجاه التلفاز، سمع صوتاً يناديه:
- عيناك متورمتان يا وليد، خُذ قسطاً من الراحة.
رجع ووقف قبالة الصورة، أغمض عينيه، تذكر أنه اشترى زجاجة عطر غالية الثمن (Givenchy) لغانية رافقها ثلاثة أيام ، وحين وجدته غير قادر عن إحياء ميّت بين فخذه تركته هاربة من فشله .
جلب العطر إلى شقراء اللوحة، الأنثى وحدها تنصت لهمسه الخفي ، رآها بالقرب منه تسيل نظراتها عليه ، التصق بها ورشه على عنقها، اقترب من شحمة أذنها وقبّلها عليها، اشتعل مصباح جسده، احتاج لاحتراق، سمع صوت المطر وهو يعانق الأشجار، أبعده عن سطوة الجسد، لكن رائحة الأنثى اتجهت صوبه، اقتربت منه، شمّ أنفاسها، بذل جهداً لمقاومتها.. رمت شالها البرتقالي، بحركتها العفوية تفتقت أزرار ثوبها، وضغطت على خدّه، ثوب أزرق وجسد بض، عناق الضدّين، تآمر عليه.
أطبقت السمراء شفتيها على شفتيه، وطبعت قبلة حلوة، لكن عينيه شاخصتان باتجاه حلمة وردية وثدي نفر من ثوبه الأزرق.
صلـّى فؤاده بمحراب الأنثى، لصق وجهه في سُرّة الشقراء، وبحركة عفوية أبعد عنه ذات الرداء الأحمر. يرتاح لصوت أعماقه، نده شقراءه :
- خلـّصيني منك.
أسكتته بإشارة من إصبعها الرقيق الملمس، لمع جسدها في الظلمة: ماذا ستفعل بالسمراء؟
ـ فقط ضربات فرشاة.
سمع صوتاً آخر يناديه باسمه، كلـّمه وليد في صمته:
- ويحك وليد، صرتَ تـكلـّم نفسك. الله يلعن الوحدة ، وتتهيأ أيضا ؟
رشّ لوناً ذهبياً على إطار الصورة المركون أرضاً:
- الشقراء رمزٌ للغواية.
تردّد الصوت ثانية؛ وليد.. وليد.
ـ يا رب أنا لم أكلـّم نفسي إذاً مَن أنتما؟ هل أنتما من الجن؟
ـ وهل لرجل مثل وليد وثقافته أن يؤمن بالجن؟
ـ نحن امرأتاك، اقترب من اللوحة.. هل تسمعنا جيداً؟ نريد أن نعقد معك اتفاقاً.
ـ عن أي اتفاق تتحدثان؟
فرك عينيه، وفرك أذنيه، كي يُبعد عنه التهيّؤ. سمعهما مرة ثانية، وثالثة وعاشرة:
ـ نريد الخروج من عالمك، لنا رغبة في التجوال والطواف في شوارع لندن.
ـ لكنكما مجرد ألوان، نساء من ألوان.
ـ نعرف ذلك.. امنحنا حريتنا ولو لمرة واحدة، ألستَ تحبّ الحرية وتحبّ المرأة المتمردة؟
ـ إننا نعلن العصيان عليك، ونتمرّد على إطارك الذي هيأته، كما نتمرد على سجن أفكارك.
تقدمت السمراء إليه :
- أرجوك.
قبّلته على جبينه.. ارتعش لدبيب القبلة في بدنه.
تحسّست الشقراء بطنه:
- أرجوك.
قالتها بصوت خفوت يسيل لعاب الذكور له، ومدّت يدها تمسّ عضوه من خارج البنطلون. قال لها:
- إلى أين تذهبين، إنه معطـّل؟
أشارت إلى السمراء بفكّ أزرار قميصه، وأخذته بين ذراعيها:
- لا بدّ أنك تعيش في أحلام اليقظة.
استسلم لها وهي تنزع ثوبها الأزرق، وتقف أمامه عارية وفتحت زنـّاّر بنطلونه، اهتزت الأشجار قرب النوافذ، واهتزّ معها زجاج الشبابيك حين سمعها تهمس في أذنه:
- كم أنت جميل يا وليد.
رغم استغراب السمراء مما يجري وما فعلته دون قصد منها، ارتاحت لأوامر الشقراء، جرّته من يده، وأجلسته على الأريكة، ثم جلست على ركبتيه، حرارة جسده تُشعل جسدها، أدنت طرف أنفها من أنفه، شمّت أنفاسه، واعترفت بعشقها.
شفتاه فتحهما بذهــول، واســترجع آخر حرفين سمعهما من كلامها (I love you). إنه بلا زوجة، بلا "علية" الحبيبة، وبلا شهقة يفرز فيها سائل ذكورته. إنه مجرد قطعة من أثاث الشقة، وخرائط لا ورق ولا جدران ولا حول لها لترسم نفسها.
أدار عينيه حول محتويات الشقة، طاولة صغيرة، أريكة قديمة، سرير مخذول، مسجل وبعض أشرطة مبعثرة، تلفاز، ثلاجة، لوازم مطبخ. وهو، وألوان تتجول حسب إرادته، قماش الكنفز، وخشب ومسامير. قال لها:
- اقرصيني، اقرصيني ، أريد أن أعرف إن كنت في يقظتي أم..
- وضعت إصبعها على شفتيه كي لا يكمل، وارتمت على صدره، سمراء بشعر أسود طويل وثوب أحمر وثديين نافرين، وتركته يكتشف جسد الشرق: جلدكِ ناعم، ناعم.. يا.
تركها وفتح ذراعيه للشقراء:
- وجلدكِ أيضاً، أنت غريبة أليفة.
استكشف محاكاة أخرى للجسد، نقاط خفيفة بيضاء علقت بأصابعه، بينما علق لون أزرق في شعر صدره ورقبته، إذ مازال اللون طرياً لم يجفّ، كما أن هناك جزءاً من ثوب السمراء مازال أبيض لم يصبغه بالأحمر. الدهشة والحب و غير الواقع واللامعقول والشال البرتقالي، شلـّوا تفكيره، لكنّ الشقراء وهي تعبث وتلعب بشعره، ثم تنحني إلى شعر أسفله، علقت بأصابعها بعض شعيرات راحت تنفخها في الهواء، وتطلب منه السماح لها بالخروج إلى شوارع لندن. فردّ عليها دون أن يعرف سبب خضوعه لها : سأفعل لكن بشرط :
ـ اشترط، نحن موافقتان على شروطك كلها (بصوت واحد).
ـ أمنحكما اثني عشر يوماً، على أن تعودا قبل تمام الساعة الثانية عشرة ليلاً، ولن أقبل التأخير ولو دقيقة واحدة. لقد حجزت القاعة، وحدّدت يوم العرض بعد ثلاثة عشر يوماً من الآن.
ـ نوافق.
ركضتا فرحتين، دخلت الشقراء غرفة نومه وخرجت مسرعة، أمسكت السمراء من يدها؛ هيا.. هيا.. قبل أن يرجع في قراره.
ركض خلفهما، وأعطى السمراء بطاقة فيها عنوانه واسمه، مشى حافياً على أرض المطبخ، سخّن ماء و وضع فيه كيساً من ورق الشاي، لم يكن مقتنعاً بما سمع ورأى، ولما سمع حركة، ركض مسرعاً إلى شقرائه، قبّلها من وجنتها وضمّها إلى صدره:
- احترسا، ففي الخارج غابة من ذئاب. (وشدّ على يدها):
- لا تنسى أني أعبدك.
ردّت عليه السمراء: وأنا كذلك، أحببتُك منذ أن كنتُ فكرة تدور في رأسك.
رجع إلى كوب الشاي، وضع قليلاً من السكـّر، وتذكر أنه لم يطلق عليهما أي اسم. التفت راجعاً، لم يجد أحداً. وحين لم يجد غير انكسار الضوء على النافذة، عاد إلى الثلاجة، استخرج ثلجاً ووضعه في قدح كان فوق الثلاجة، صبّ الويسكي عليه، وشربه دفعة واحدة. ثم سكب الشاي في مغسلة المطبخ، ضرب رأسه وجبينه، وترك السيجارة تحرق أصابعه، وراح يلوم نفسه :
ـ كيف تركتهما تغادران؟ لماذا ضعفت لرجائهما ؟ وكيف طرأت لهما فكرة الخروج؟
- ويحكَ لستَ بالكفء للعشق، لامرأتين فيهما طفولة ألوانك.
تذكر أن لديه حبوب (فاليوم)؛ فتناول حبّـة من (دوز العشرة)، وهو يردد :
- ما أغباك يا وليد، فاليوم و وسكي، ستنام نوم أهل الكهف.
ألم حاد في قدميه، انتقل إلى كل عضو من أعضاء جسده، ضغط بيده على عضوه الذكري، ألمه كثيراً:
- أتؤلم الرجولة؟ خاطبه واستمرّ ضاغطاً:
- لا ترفع علَمك، دعه في سباته.. حين اختمرت رجولتي كنتُ أخبّئ علمي بين فخذي لئلا يفضحني أمام أمي وأختي، تركته يضمّ رأسه بملابسي الداخلية التي نزعتها وغسلتها ثم نشرتها تحت السرير، وغادرت مسرعاً إلى المدرسة، حيث وصلت متأخراً، كان علَم المدرسة مرفوعاً والأولاد تجلـّوا بالنشيد الوطني:
موطني موطني. كنت أخفي عضوي عن والدتي استحياء، واليوم أخفي وجهي عن عضوي استحياءً.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
فصــــــــــل
اكتشاف إبليس
نحن حقيقة عارية،
وهم عراةٌ بلا حقيقة .
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
1
لم تكونا على يقين حين نطقتا بكلمة الخروج من اللوحة، كان يجذبهما الغريب والقضايا التي تسمعان عنها من وليد. وجدتا نفسيهما أمام حلم جديد بمخلوقاته الغريبة، لأنهما وضعتا أمام المحك. كانت الأشياء تبدو أصغر حجماً في مخيلتهما، وكانت تلك الاستنتاجات غير مرتكزة إلى قاعدة، أو حدث أو قِبلة.
كانت السمراء تعارض قرار الشقراء بكل قواها، تريد أن تبقى إلى جوار وليد، وكانت هانئة رغدة بما اختاره لها، كل حدودها القصوى هي أنامله،استكشافها لملامحه وانفعالاته.وقفت بدهشتها من عالم تتعرف عليه لأول مرة :
ـ هذا يعني أننا في ورطة؟ انظري إننا بحاجة إلى قدر كبير من المعرفة لتمييز وجود العابرين، والمحلات والتساؤلات التي تشوش أفكارنا.
فأجابتها الشقراء مكملة:
- والبضائع المعروضة بالفاترينات، قطرات المطر، الهواء الذي يشق صدر الفضاء، أسماؤنا التي لا نعرفها.
مدّت يدها كمن يلتقط حبات من عقد، وتابعت تجمع قطرات المطر في كفها، ارتجفت لرقصة المطر على راحة يدها، وتأملت إشارة العبور، ضوء أخضر بشكل رجل، راقبت عبور المشاة باتجاهين متعاكسين، رجل يعبر بمظلته السوداء ترافقه امرأة تأبط ذراعها، عجوز بآلته الموسيقية أخذ ركناً في الشارع، امرأة ذات شعر أجعد مصبوغ باللون الأحمر الفاقع تباعد بين فخذيها وهي ماشية وكأنها نهضت للتوّ من تحت رجل، مؤخرتان محشورتان ببنطلون الجينز، بدا كأنه مدهون عليهما.
عبرتا مسرعتين، وصعدتا الحافلة من الجهة المقصودة. أمسك أحدهم بيد ابنه وجرّه بقوة، بينما الطفل احمرّت وجنتاه غضباً، يرتدي بنطلونا أزرق وقميصاً زهري، تعلو وجهه سمرة وشعر رأسه المتجعد أخذ شكل قبعة.
قررت الشقراء أن تضع أول لبنة لها في شارع حياتها الجديدة، لها الحق الثاني أن تختار ما تريد، منذ هذه اللحظة هي ملك نفسها، ولا وصاية لوليد عليها. يمرّ من أمامها شكل لم تتعود عليه، يبدو رجلاً في انتصاب قامته، لكن لوزة رقبته، وصدره النافر بثديين لا تعرف من أين جاء بهما، ومساحيقه المفروشة على وجهه، أظافره الطويلة المطلية؛ جهلها التام بذلك جعلها في حيرة، فوليد لم يذكر مثل هؤلاء أمامها.
رأت في الوقت ذاته، عند توقف الإشارة وإعلانها اللون الأحمر، سيدة تجاوزت الإشارة الحمراء راكضة باتجاهها وبيدها أوراق وقلم، أوحت إليها أنها تدوّن ما يجري وما تشاهده باللحظة والتوقيت. وقفت برهة تنظر في وجهيهما، سلـّمت: مرحباً.
ابتسمت وغادرت، لم يصلا لمعرفة هويتها، ولماذا حيّتهما، غادرت دون أن تعرّف بنفسها.
- هذه عادة غريبة.. قالت السمراء، فقد سمعت وليداً يقول إنّ في بلاده تسمع التحايا والسلامات في أي وقت ممن تعرفه ولا تعرفه؛ استدارت مستفسرة :
ـ ولمَ خصّتنا بالسلام دون غيرنا؟
ـ ربما كانت تنوي المساعدة.
وحالما لاحظت صمتنا، استأنفت، فنحن لم نردّ على تحيتها.
ـ أمعقول أننا في الخارج؟
(وجّهت سؤالها للشقراء):
- لمَ لا نختلط بالناس، نحاول أن نكون جزءاً منهم.
فردت عليها الشقراء:
- سأحاول أن أبدّل كل شيء، أظنك خائفة؟
ـ أجل وكأني غريقة بعيدة عن اليابسة ولا مجداف لدي، هل تظنين أننا تسرّعنا؟.
ـ لا، لن يخيب أملنا يا سمرائي منذ البداية، نريد أن نرى لندن، نرى عالم وليد، ألستِ تعشقينه؟ تعرّفي على عالمه.
ـ أشعر أني أريد دخول الحمام، كما أني جائعة أيضاً.
استغربتا رؤية رجل يرتدي دشداشة قصيرة دون الركبة بشبر، ولحيته الطويلة، وشعره الأسود الطويل، وآثار حرق وسط جبهته.
سألت الشقراء
- من هم هؤلاء؟
ـ إنه واحد (ردّت السمراء).
ـ بل انظري خلفه، إنهم سرب من الغربان السود.
ـ سمعت وليداً مرة يحدث صديقه بالتلفون عن التطرف الديني وعن ظاهرة التزمّت والتعصب الديني التي ملأت أجواء العراق، وكان يردد بعد إغلاق الهاتف:
- إنها الرجعة إلى الخلف.
ـ ومن أدرانا أنه عراقي؟ فهذه ظاهرة كما سمعنا تعمّ العراق وسوريا والجزائر ومصر والمغرب وباكستان وإيران، وكل البلدان التي مازالت تترجم فواحشها وقتلها وسفكها الدماء باسم الدين، أي دين هذا؟ ألم تلاحظيه كيف التهمنا بعينيه؟ إنهم يكذبون على الله.
وليد مثلاً يكره المومس، لكنه رسمنا مومسات، إنه يختار موديلاته في حدود أفكاره وبإمكانه أن يحلم. كم حاول معنا مراراً ووصل إلى درجة القذف، لكنه لا يقدر حتى على اختيار حلمه، لا يصنع رجولته حتى في الحلم
ـ لمَ تذكرين وليداً بالسوء؟
أجابتها الشقراء:
- سأقتل ذلك البغل العاجز دون شك.. آه لو أني لستُ من بنات أفكاره، لخنقته.
أدارت السمراء وجهها غاضبة، رجعت إلى هدوئها، وقد مرت بهما امرأة في نهاية الخمسين، كانت بثياب أنيقة، بدت كمن أنجز مهمة زمنية وتصالح مع الوقت، طلت شفتيها الغليظتين بحمرة وردية. حدث ضجيج وقعت إثره شابة في العشرينات أرضاً، صاحت امرأة سوداء البشرة، سمينة الردفين والصدر:
- امسكوه لقد سرق حقيبتها ودفعها أرضاً.لكنه ذاب في الصراخ، وضاع صوت يطلب النجدة، كما ضاع وجهه مع حافلة اخترقت الشارع ومرّت. وأمام إحدى الحافلات تعالت أصوات رجال يهدّئون من غضب رجل تشاجر مع زوجته، كان الرجل في حالة دفاع عن النفس، لم يكن على لسانه سوى:
كل تلك الثقة التي منحتك إياها، وتخونينني؟
فتجيبه:
ليس لديّ أدني علم عن ما تقوله، من أين جئت بهذا الادعاء يا ظالم؟.
وحين انخرطت في البكاء، جاء صوته متقطعاً وعقلانياً:
- إنه افتراض، افتراض يا عزيزتي. وأنت السبب بذلك، لأني لم أعد أحظى باهتمامك كالسابق.
عند حافة الطريق وقف رجل عجوز يهذي، بينما آخر يكلـّم نفسه وكأنه يوجه لوماً لآخر أمامه ويخاطبه زاعقاً:
- إنّ الملكة أعطتكم أشكالكم، وأعطتكم مفهوماً لخلق دولة، لكنها لم تعطني شكلي.
ثم أشار بإصبعه إلى أحد المارة مهدّداً :
-هذا تدبير، هذا تدبير.
قالت السمراء:
-إنه ليس بمجنون، اسمعي كلامه، إنه منطقي.
ردّت عليها الشقراء :
- سأخنقه في كابوسه.
-مَن؟ هذا المعتوه؟
- وليدك.
- لكنه يحبك أنتِ، ويعبدك.
- إنه يجد فيّ زهوه الإعلامي وزهوه الفني، أحبّيه أنت وانتظري ابتسامة بائسة من عينيه. إنه فريسة حياته الرتيبة وعجزه الجنسي، ماذا تتصورين، هل هو عاقل؟. إنه يصور عجزه برسم ثلاث غنيات، واحدة بقيت معه في مرسمه أتمّها قبلنا، ونحن. إنه يريد أن يؤكد لأصدقائه وللناس أنه رجل عادي وله عشيقات، ونحن دليل رجولته.
ـ إنه إنسان ضعيف يا عزيزتي، وهذه القسوة لا يعشقها منك، فقد هفا قلبه لكل مسامات جلدك.
ـ إنه كغيره أيتها الغجرية.
ـ من تقصدين؟
ـ هؤلاء الصرعى نتيجة تصفية حسابات الحكام لشعوبها، وتصفية أحزاب تراجعت وتعدّ عدها التنازلي متوهمة نصراً إيجابياً، ثم ضاعوا وضيّعونا معهم.
ـ اتركيه لي أنا.. يكفيني حبه.
ـ قولي بصراحة، هل تحبينه لأنه أسمر مثلك؟
ـ هذا ما لا تعرفينه أنت، الحب لا يفرّق بين الألوان، إنه نبوءة الروح والجسد، وهذه اللغة بعيدة أنت عنها كل البعد.
ـ حين يقترن الحب بالجسد يموت.
ـ يا عزيزتي، العشاق الآن مأزومون بسراويلهم وليس في قلوبهم. الرجل قلبه سروال، ومنطقه سروال، وحلمه سروال.
ـ هذا منطق من لم يجرّبه، هل بإمكانك فصل ضوء الشمعة من خيطها؟.
ـ طبعاً لا.
ـ إي هذا هو الحب، الضوء هو الروح والخيط هو الجسد، حين يحترقان تصير الأرض قافلة دخان.
ـ الله يحمينا من دخانك.. فأنا جائعة، تعالي نشتري شيئاً لنأكله.
ـ من أين لنا بالمال؟
ـ سرقت بعض النقود من جيب وليد، أتذكرين ساعة أغمض عينيه، وقتها أخذت من جيب بنطلونه هذه الورقة. ورغبت أن أنزع هذا الفستان وأرتدي الثوب الأخضر المعلـّق في الصورة، رغبت أن أعصى رغباته، فطوال أيام وليالٍ كان يطارد جسدي، يقطـّع أوصالي ويوصلها ثانية، يمحو ويضيف. كلهم شرسون، يتلذذون بالتقطيع ابتداء من الجسد والقلب، وانتهاء بالكرامة. المهم أن يسيل لعابهم، أما كيف، فلا يهم.
كنت أمامه طوال الوقت جسداً لم يتعرّف عليه أحد قبله، يمحوه حين يشعر بعجزه، ويضيف إليه اللون حين يشعر بقدرته في لحم نفسه بنفسه. هل تذكرين القصائد التي كان يتلوها بصوت عالٍ؟. كنت أسمعه يقول :
- (المرأة هي الوطن، والمرأة هي حرّية).
- أية حرّية لا تستوفي شروطها إلا بغريزة السروال؟
- الله، الله.. أنت اليوم شقراء وحكيمة، فيلسوفة. شكراً أيها الجوع الذي صنعت من المومس فيلسوفة.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
2
- الله، الله.. أنت اليوم شقراء وحكيمة، فيلسوفة. شكراً أيها الجوع الذي صنعت من المومس فيلسوفة.
دفعت شعرها الأشقر الى ظهرها، باعدت بين الزرّين الذين تركهما وليد مفتوحين، استخرجت قلم روج من جيبها، أدارت وجهها إلى زجاج واجهة محل تقف قربه، وطلت شفتيها.
ـ من أين حصلتِ على قلم الروج؟
ـ كان على الطاولة في الصالة، تركه وليد منذ أن زاره فارس عبد الودود قبل شهر. اشتراه من (برتبللو) بثلاثة جنيهات، وتركه على الطاولة، أتدرين لماذا؟ ليثبت لزائريه وهم قـلـّة أنه غير عاجز جنسياً، وأن صاحبته نسيته عنده البارحة، لقد شاهدته عندما دخل عليه صديقه بعد أسبوع من زيارة فارس، دون سابق موعد. يا ربّي لقد نسيت اسمه هذا الأشرم، هل تذكرين سمعته يقول لوليد إن شفته شُرمت من التعذيب في السجون؟.
- إي، لا عليك، تذكرت، اسمه محسن.
ـ أكملي.
- تظاهر أمام محسن أنه اكتشف القلم صدفة، وأبدى ارتباكه، وخبأه في غرفة نومه، بينما تغافل محسن المسكين عن ارتباك صاحبه ودخل المطبخ ليعدّ الشاي لنفسه.
ـ لكن هل تكفينا هذه الورقة؟ إنها بعشرة باوندات فقط؟
ـ لنجرّب.
دخلتا مقهى في بداية الشارع بعد أن عبرتا الى الجهة الأخرى، فاحت رائحة الشاي الساخن والقهوة والمعجنات والسجائر. جلست السمراء الى إحدى الطاولات، بينما تقدمت الشقراء للشراء، فاختارت قطعتين من الكيك وكوبين من الشاي. ثم مدّت يدها لتستفسر عن الباقي. اعتذر البائع الذي تمايل كأنثى، ووضع يده على صدره قائلاً:
Sorry, the price of cheese cake is 2.50.
عادت لصاحبتها مبتسمة:
- خذي، لا نملك غير هاتين القطعتين. كلي على مهلك لتمتلئ معدتك، وتحتفظ بالأكل لمدة أطول.
على بعد من طاولتهما جلس رجل يلبس نظارة رمادية الإطار، يحتسي القهوة المضغوطة. لمحته يحدّق إليها طول الوقت، ويخصّها بنظرة جذابة بين الحين والآخر حين يرفع النظارة، وما إن تستقر عيناه على نهديها حتى يرتدي النظارة ثانية، وفي إحدى المرات غمزها بطرف عينه.
بعد أن انتهتا من وجبتهما، خرجتا لا تعرفان إلى أين أو في أي شارع هما. اهتزّت الشقراء في وقفتها، فترجرج النهدان، ومع أول استدارة لها سمعته يسألها:
- هل بإمكاني أن أقدّم خدمة؟ سأكون ممتناً لو قبلتما دعوتي.
قطعة الكيك لم تشبع الشقراء، فابتسمت برضا، لكزتها السمراء، لكن لم تطعها وأجابته على الفور:
- نحن بحاجة إلى خدمة، ومثلك قليل يا سيدي، عفواً.. ما اسم هذه المنطقة؟
- (ماربل آرج )، هلاّ تفضلتما الى سيارتي؟
أجابته الشقراء :
- هذا أفضل، وأين سيارتك؟
- تلك السوداء (وأشار إلى سيارة جميلة لامعة).
جلست الشقراء قرب الرجل، في الكرسي الأمامي، تركت السمراء تجلس في الخلف. أعجبتها السيارة من الداخل، مقاعد مخملية رمادية اللون، خدمات لا توصف، الحواشي مذهّبة.
ـ لا بدّ أنك رجل ثري.. (ثم استدركت)؛ لكنك كنت تجلس في مقهى متواضع.
فتحت المرآة التي أمامها، وجدت السمراء قد لمعت عيناها بالدموع، وبدتا كلؤلؤتين على ساحل الرمش الأسود الكثيف. نظر هو في المرآة الأمامية، وخاطب السمراء :
- تبدين جميلة بالدموع. ثم انصرف عنها بلباقة العارف شغله:- ما اسمك يا شقرائي الفاتنة؟
ـ لا أعرف.
ـ وما اسم صاحبتك؟
ـ لا نعرف.
ـ هـــم.. فهمت، لا تريدان الإفصاح عن هويتكما، هذا من حقكما. أما أنا فقد تعرّفت على أميرات حقيقيات وأمراء، لا يهم إن كان الاسم حقيقياً أم.
قاطعته السمراء وهي تمسح دموعها :
-أم ماذا؟ نحن لسنا أميرات، ولا نعرف اسماً لنا؛ وهذه حقيقة.
ابتسم، وانطلق بسيارته مسرعاً. ثم تباطأ وهو يتطلع إلى ساقي الشقراء، وهي تراقبه بدورها حين كان يمدّ يده ببطء نحوها، فرفعت فستانها بصورة تبدو عفوية، واضعة ساقاً على ساق. امتدت يده إلى المقعد الأمامي ولامست كتفها، وراح يلعب بخصلات شعرها، ويمرّر أصابعه على رقبتها. ولما توقفوا عند الإشارة الضوئية، طلب منهما قبول دعوته قائلاً :
- اليوم أحتفل بعيد ميلادي، وسأكون مسروراً لو قبلتما دعوتي.
- لمس وجه الشقراء، التي لم تخفِ فرحتها، ولم تطلب منه التوقف عن مداعبتها، بل راحت تظهر له الموافقة الفورية، وتغريه بمزيد من المداعبة.
واستدارت إلى صاحبتها، التي أشارت إليها بالرفض، ثم غمزت لها. لم تترك الشقراء مجالاً للرد، وقالت:
- نحن موافقتان، أين تقع شقتك؟
- نحن متجهون إليها، إنها في (نايتسبريدج)، وهي منطقة راقية جداً، فيها أرقى المحلات وأرقى الزبائن (وغمز الشقراء).. ها قد وصلنا.
ـ عذراً، ما اسمك ومن أي بلد أنت؟ سألته الشقراء بغنج ظاهر.
ـ أنا من بلاد الله، أليست البلاد العربية من بلاد الله؟
(وفتح باب السيارة) :
- تفضلا.
ـ تشرّفنا بمعرفتك، المهم أنك تفهم لغتنا.
قالت السمراء:
- لكنه لا يذكرني بوليد.
ـ من وليد؟
ـ لا عليك، إنه شخص ما.. هل أعجبك شعري الأشقر، لاحظت اهتمامك به؟
ـ بل جمالك كله أعجبني، أنت كنز يا..
أجابته:- لا اسم لي.
ضحك.. وقال؛ فهمت، معذرة، عفوكما.
رافقهما إلى مدخل البناية، صعدوا إلى الطابق الثالث، الشقة (203). أدخل مفتاحه في الباب، شمّت السمراء رائحة بخور منبعثة ودخلت مع الشقراء بهدوء. علـّق الرجل مفتاحه على الطرف الأيمن لمرآة في المدخل، وفي الجانب الآخر ظهرت مرآة أخرى بإطار من الفضة الخالصة.
صالة واسعة بأثاث فخم، سجاد عجمي، لوحات زيتية.
أخذت الشقراء حريتها في التجوال داخل الشقة، كما أعطت لنفسها الحق للتدقيق في محتوياتها، سواء المطبخ والصالة وغرف النوم الثلاث. جرّبت الجلوس على الأسرّة ذات الأغطية الجذابة والثمينة، دخلت الحمّامات، تفحّصت الصابون وزجاجات العطر المتنوعة، جربتها واحدة واحدة، رشّت على جسمها خلطة من تلك العطور. دخلت إحدى غرف النوم، قرأت اسم زجاجة عطر (خلطة عربية) وبين قوسين دهن عود، ، وعند الباب أشار إلى الشقراء:
ـ سأوفر كل ما تحبين.. (وبحث في وجه السمراء عن سؤال، وتابع):
- سأحضر بيكاسو إلى هنا إذا رغبت.
دخل غرفة ليست بعيدة عن الصالة.. اقتربت الشقراء من السمراء وسألت:
- ما بالك متجهمة؟ لقد حصلنا على من يرعانا، أكل وشرب ومكان للنوم، ماذا تريدين أكثر؟
ـ أريد وليداً.
- دعي وليدك، واستمتعي بما جئنا من أجله.
خرج الرجل يرتدي ملابس منزلية، دشداشة عربية واسعة ذات لون بيج وقماش من النوع الفاخر.
ـ ها.. ماذا تفضلن على الغداء، هل تحبان الأكل اللبناني أم الإيراني أم الهندي؟
أجابته الشقراء:
- نحبّ كل شيء، هات ما يعجبك أنتَ، وستجدنا نلتهم حتى أصابعك.
ـ أريدك أن تلتهمي شيئاً آخر.
- ثم راح يسرد طلباته عبر الهاتف:
- ثلاثة كباب، ثلاثة تبّولة، حمص، بابا غنّوج، زيتون ومخلّل، عرايس، وأكثِرْ من الخبز.
- أخذ حبتين من صحن الفستق الموضوع على إحدى الطاولات الزجاجية، قشرهما وقدّم واحدة للسمراء بيد، ووضع اليد الأخرى على زندها. ثم رجع إلى الوراء قليلاً حين نفرت منه، قائلاً :
- اهدئي ما قصدت شيئاً.. رغبت أن أسأل إن كانت هذه أول زيارة لكما في لندن.
مشت الشقراء باتجاهه، وضعت يدها على صدره، وداعبت شاربيه:
- دعك منها، أنا أجيبك. إنها زيارتنا الأولى والأخيرة، سنبقى اثنتي عشرة ليلة بأيامها عندك، ما رأيك؟
ـ هذا هو مطلبي (قفز فرحا)، اتفقنا إذاً.
ـ فهمتك؛ اتفقنا. نحن نفهم بعضنا، ألم تقل لي في السيارة أنك رجل سياسي؟
ـ نعم.
ـ وما دخل السياسة بالدعارة؟
ـ ليس في الموضوع أية دعارة، لماذا تسيئين الظن؟ نحن طليقان فقط، ثم ما من فارق بين السياسة والدعارة، من حيث أنهما لفكّ الأزمات.
عصرت شفتيه بإصبعيها المشدودين على شكل كماشة:
- هل تقصد أن المصلحة من كل أحزاب الخراب، قومية، بعثية، شيوعية، شعوبية، تطرف ديني وأخلاقي، هي تطرف سراويل؟
ـ يا حلوتي،،
(وشدّها من خصرها، بينما حاولت الالتصاق بجسده، وضغطت نهديها على صدره):
-حلبة المصارعة بين الثور والفارس سياسة أيضاً، ففي النهاية سيكون الثور هو المغلوب حسب الخطة، والملعب واللعبة معدّة لصرعه مسبقاً. والأحزاب التي ذكرتها مجرد جعجعة وصوت عال لنشر الدعارة علناً، فلماذا اختلطت عليك الأمور؟
- وهو يمدّ إصبعه بين نهديها الملتصقين به، شعرت بمدى أهميتها، فراحت تزيد من عيار دلالها لتطلب ما تشاء:
- الليلة حفلتك، ولا أعتقد أنك تقبل أن أستقبل ضيوفك بهذا الثوب يا.. سي..
- ـ ناديني صابر.. اسمي صابر، شو بدك تعرفي أكثر؟ أنا من لبنان.
- تشرفنا يا صابر، أنت إبليس بعينه. لذلك يا عزيزي إبليس أنا أحب الأبالسة.
- وأنت هل تحبين العري؟ سأل السمراء، فلم تجب.
- وتابعت الشقراء:
- شكلي حلو، وقوامي جميل، لمَ أخفِه؟ لمَاذا أخفي ما وهبني إياه وليد؟
- مين وليد؟ عم تذكروا في الرايحة والجاية وليد؟
- صانعنا.
- عندكم خادم اسمه وليد؟
- لا عليك، إبليسي العزيز. مقاسي14ومقاس صاحبتي 16 .
- على أمرك، إي و لك تقبريني.
- ومثلما طلب الغداء على التلفون، اتصل على طريقته وحدّد الشكل والمقاس للملابس. فشعرت أن الفرصة مواتية، وصاحت الشقراء :
- لا تنسَ الحلي أيضاً؛ خواتم وأساور، والعطور أكثِـرْ منها، أحبّ رش جسدي من إصبع قدمي حتى رأسي. (ثم تذكرت وليداً الذي يعيش على مساعدات الدولة) :
- طز فيك، وبمنطق حزبك وسياستك يا وليد.
(وهزت بنطلون صابر ترقّصه).
ـ شو عم تعملي؟
ـ أمنطق سروالك. (غيّرت مشيتها وصوتها، وأضافت قليلاً من بهارات الغنج ):
- الوسط والسروال يعصرك منطقه، سواء بضعفه وبجبروته، وفي كلا الحالين هو ممسحة.. ممسحة ضدك.
- لماذا الضد؟
- إنه مستثنى شاذ غير محتمل التصريف.
- أنت أستاذة لغة إذاً؟
- ورماها على الأريكة مازحاً؛ استسلمتْ لرميته، تطاير ثوبها حتى وصل سرّتها. لكنها قرّرت تأجيل إرواء نظراته النهمة لما بعد الغداء، ماءت بحزن:
- لا تنظر إليَ هكذا، نحن غرباء حتى عن ثيابنا.
- لا تحوليها إلى نكد، دخلك، أبوس يدك.
رنّ جرس الباب، فتحه مسرعاً، دخلت سيدة ترتدي بنطلونا بحمالتين وقميصا جميلا. وقّع لها صكاً، أخذته وخرجت معتذرة عن المقاطعة:
- بوسة لها الشنبات، باي..
- وقف الشقراء بكل ثقة أمام صاحبتها، وهمست في أذنها:
- كوني طبيعية واستمتعي بوقتك.
- مع هذا؟
- لكني أحبه.
- إنه لا يستحق حبك، أنت تحبينه وهو لا يشعر بعبادتك. (إي شنو قيمتها يا وردة؟)
ليته يعرف أنك تتحمّلينه وتتحمّلين إلغاءه لك بسبب حبك له.. (أنا ما أريد واحدة ترافقني بعذابها)
ـ أنت تتكلمين باللهجة العراقية.
ـ هذه اللغة اللي سمعتها، كما أني صرت أعرف أحكي لبناني.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
3
أخذ المساء يلتهم الوقت، بعد وجبة دسمة وقيلولة على فراش واسع مغطى بملاءات مزركشة وجميلة. صحت السمراء على صوت طرق باب الغرفة، أيقظت صاحبتها:
- انهضي وافتحي الباب.
- ببطء فتحت عينيها :
- الموعد اقترب، هيا لنستحم.
وجدت عند الباب حقيبة الملابس، سحبتها إلى الداخل، وراحت تنتقي المقاسات، هذا 16 لك، وهذا لي.
وكجندي ينهض مرغماً إلى ساحة التدريب، فتحت ذراعيها وتنفست بعمق، تناثر الشعر الأسود الطويل، سمعت وقع أقدام قرب الباب، فسألت صاحبتها :
- كيف تثقين بمثل هذا الرجل؟
- ـ أنا أثق بالشيطان ولا أثق به. قومي، لستُ بحاجة إلى نصيحة. قومي قسراً، سهواً، عمداً، فقط تزيّني واتركي لي الباقي. إننا في حياة أخرى، لم يعد أمامنا غير أن نلبس. اسمعي جرس الباب، لقد تهافتوا..
ـ لا أستطيع أن أجرجر نفسي، لستُ لغيره، إنه يقيّدني، بل عشقه يسمّرني.
ـ الشرقيون يدفعون أعمارهم من أجل شقراء، كل يبحث عن ما ينقصه.
رمت لها قرطاً فضياً
- جربى الحلَق، الفضة مع الشعر الأسود تسحر الرجال.
- لا، هذا ثقيل، أعطني الأصغر.
- ها.. بدأنا نلين.
دغدغتها :
- قومي، قومي.. اتركي قلبك وراءك، نحن هنا بالصدفة، مجرد حلم ولون، ولا تنسى أنه قد انتهي يوم من أيامنا.
- قالت السمراء :
- الصدفة جعلتني أمسح كرامتي من أجل مهووس بغيري.
- أجابتها :
- نحن جواري الحياة، سوف تتذكرين قولي. المرأة تمثال وجارية توضع على طاولة من ورد، وإذا لم تكن كذلك نبذها الرجل، لأنه يستعرض رجولته أمام التماثيل. ومن تريد أن تكون هي ذاتها لا شيئاً يريده هو أو تبعية لمن يحب ويفضلهم عليها، ستكون عاقبتها الطرقات.
سحبت الشقراء شعرها كله عن ظهرها، وجمعته في حضنها:
- من فرط ما نحبّ، من فرط ما نصير أو لا نصير، اتخذنا شكلا لا نعرفه علقنا نوافذنا عليه ورحنا ننتظر من يقول لنا كما قال محمود درويش:
- من أنتَ يا أنا؟ إنه يتساءل عن نفسه، وأنا أتساءل عن الذي يراني نفسه ويسأل: من أنتِ يا أنا؟ فأردّ عليه: أنا أنتَ يا نحن.
أجابتها الشقراء بلهجتها الفاترة:
- التقطتِ أجمل الأشعار من معتوهك، وأحببتها، حفظتها عن ظهر قلبك؛ أنت سمراء وشاعرة.
- جميل أن ألتقط الأجمل، لكن القبح بحاجة إلى..
قاطعتها:
- أحفظي القبح أيضاً.
- بل لأشفق عليه.
- تعالي.. إلى متى سنبقى دون أسماء؟ٍ
- هل يا ترى يذكرنا وليد الآن؟
- ألا يمكنك أن تتوقفي عن ذكر وليد لحظة؟ أرجوك استمتعي بوقتك.
كان صابر يدرك أنهما ترغبان بعقد صداقة، وكان يجهد نفسه ليكون جديراً بثقتهما، فلم يمارس ضغطاً عليهما في اتخاذ أي قرار يرسمه ويطلب إليهما تنفيذه. رغب في البداية أن يلعب دور المسالم، وأن يتفانى في العلاقة ليستفيد أكثر من ما يعطي. ومع ذلك بقيت السمراء تحسّ بالغربة في داخلها.
ـ سيداتي الحلوات.. أعتذر عن اقتحامي الغرفة والدخول دون استئذان، أرجو الاستعجال.. امتلأت الصالة بالحاضرين.
علم أنهما جاهزتان فأسرع باتجاههما، قادهما عن يمينه ويساره، ممسكاً السمراء من يدها، وقد لفّ ساعده على خصر الشقراء. ابتسم حزن على شفتي السمراء وكأنه يستنشق ومضة كاشفة، يبحث فيها عن وليد. تعددت ضحكات الشقراء مع الجميع، فاتجهت الأنظار إلى صابر والجميلتين، همس قائلاً:
- بماذا أقدّمكما، أقصد بأي اسم؟
ردّت السمراء :
- ما شأن الرجولة بالاسم؟
غيّر سؤاله، وحوّله إلى ابتسامة باردة. كانت الصالة مليئة بمزيج من أولئك الذين تلقّوا ثقافات خاصة في التعامل مع بنات الهوى، الأسمر والأبيض ، رجال تهدّلت كروشهم وجيوبهم، نساء اغترب فيهنّ ما تحت الخصر، شعراء، موسيقيون، وكلاء شركات، منافقون ورجال نفط. قدموا لإشباع غرائزهم الجنسية وتحليل اللحم الحرام بالاسترواح النفسي، والارتباط بالسراويل حول مأدبة عشاء وكأس وضحك فاضح.
قدمهما صابر على أنهما فنانتان ارتبطتا معه بصداقة قديمة، وقد جاءتا لزيارته والبقاء عدة أيام.
تنوّعت المقبلات وأنواع الكحول كتنوع الحضور وهوياتهم وتفاوت درجاتهم الاجتماعية. تذكّرت السمراء وليداً وهو يناقش مرة أصدقاءه حول المسرح، إذ قال:
- المسرح لا علاقة له بالتسلية واللهو والتهويل السياسي الدعائي، إنه مسرح الغريب المنطقي والوهمي الحقيقي، يعني خلق ضوء من كرسي خشبي.
وتساءلت:
- ما الذي سيفعله وليد، لو حضر، وكيف يصنّف هذا المسرح؟
قام اثنان وطلبا من السيدتين الجلوسَ على إحدى الأرائك الواسعة، قدّم أحد الجلوس كأســــــاً من الويــــسكي إلى الشقراء فقبلته دون تردد، بينما تابعت السمراء أحاديثهم وتصرفاتهم.
كيف يضحكون، وما الذي يضحكهم ويبهجهم، وكيف يتحاورون؛ كلهم لا يشبه كلهم.
تقدم رجل يتصرف بميوعة واضحة إلى السمراء، ولعب بشعرها:
- أحب الشعر الأسود.. ياي، ياي.. أنت بحاجة إلى نيو لوك؛ مسيو صابر أعطها لي يوماً واحداً، وسأجعلها أجمل نساء الكون.
- عرفت أن اسمه صابر بحق، ولم يكذب، أو ربما هو اسم مستعار كذب به على الجميع، المهم هو صابر الآن.
ردّ عليه صابر، وهو يصبّ لنفسه كأس فودكا:
- دعك منها، إنها لا تحب النيولوك أو نفخ الشفاه، إليك بالأخرى
وقدّمه لها :
- سي جورج، فنان.
- غالبتها ابتسامة، وبلا تفكير سألته:
- من أي نوع؟ فحولة فنيه أم؟
رفع سي جورج خصلة شعر تناثرت على جبهته:
- أم من.. تقبريني، وحياتك أنا من صنف أم من.
وضحك ضحكة هستيرية، ثم أشار إليها كمن ينكت ماء من أصابع:
- ياي، جميلة ووقحة، ومهضومة هالصبية.
أعطت السمراء لنفسها حرية الكلام، واستمرت تجادله وهي تراقب صاحبتها المنسجمة مع الجميع، وقد التفّ حولها عدد من الرجال:
- كل شخص بإمكانه أن يصبح فناناً في هذه الأيام، خاصــــــة في بلدكم.
أسهل منها ما في، لكن ليس بإمكان أي شخص أن يصبح ذكراً.
ضحك بعضهم، والتفتوا إليها مؤيدين. لفتت انتباهها امرأة تدخّن بشراهة، بيدها كأس من الخمر تمسكه بطرف أصابعها، بينما يلمع خاتمها الماسي بشكل ملفت. كانت جالسة على طرف كرسي، وقد أرخت جسدها، وراحت تنظر الى الجميع من طرف عينيها، ومنخارها في السقف وكأنّ الله لم يخلق غيرها.. مدّت إصبعها وحيّت به السمراء:
- أي ذكور يا أختي؟ لو الرجولة بالكروش والكؤوس لا سترجل العالم بأسره، الرجولة بالضمير.
وأشارت لعازف بدا السكر عليه :
- رقّصني دخلك، أحب الرقص على إيقاع ضمير مومس.
- نفرت السمراء من كلامها، وصاحت في وجهها :
- أنا لستُ مومساً، أتريدين أن أخبرك من هي المومس؟
تدخل صابر لتهدئة الجو، وقدّم اعتذاره للمرأة الثرية التي راحت تشدّ وسطها بغترة أحدهم، وغمزت للشقراء وهي تطقطق بأصابعها: نحن المئة، المثنى، المفرد.. قومي معي.
سحبت السمراء من يدها، ونزعت غترة رجل أكرش شدّت به وسط المرأة السمراء، وراحت تأمرها:
- هزّي، هزّي.. هذا هو الحاكم الذي يفكّ من حبل المشنقة.
- وتابعت تحريك مؤخرتها بيديها، لكن العزف توقف، مع استمرار ممانعة السمراء التي بدا أنها لم تزعج أحداً. غضبت المرأة الثرية منهم، وصـــرخت باحتقار للجميع:
- أنا أشتريكم وأشتري مئة من هذه الحثالة النكرة.
ورمت بأقرب مزهريـّة من الكريستال إلي رجلاً أكرش أخذ ركناً بعيداً للتدخين، فاعتدل في جلسته ضاماً ركبتيه، وهي تصيح:
ـ أيها الأبله، أوَ تهينني هذه الساقطة وأنت تتفرّج؟
كان مزيجاً من العظمة والخنوع، ابتسم لها مخبئاً كلامه بين شفتيه، فبدا كشخص عارٍ من أيامه، أو كقائد عسكري تساقطت أوسمته.
أومأ صابر لأحد الخدم بإحضار كعكة الحفلة، وأشار إلى عازف العود والطبل. فصدحت الموسيقى، رغم أن السيدة ما تزال تحدج السمراء ذات الرداء الأحمر بنظرات حاقدة، وارتفع الصوت.
(سنة حلوة يا جميل).. التفّت الكؤوس حول صابر، وارتفعت الأصوات (بصحة صابر) هَي.. هَي، سنة حلوة يا جميل.
وزّعت صحون الكيك المزينة حسب الأولوية والمكانة والرتب الاجتماعية، لفـّت السمراء طرف ثوبها الأحمر بين ساقيها، وشدّت صحراءها على صدرها، دارت بها خجلاً، تبني لها عشاً من كبرياء. لم تجد نفسها معهم، كانوا مثل حشرات، وهي خارج المكان، بين الأسود والأحمر، تدخل نافذة أخرى.
شدّها صوت عشش في روحها:
- ماذا لو لم يرسمني ساقطة؟ (وراحت تلوم وليداً وتعتب عليه) لماذا لم يرسمني من بلاد النفط، مثل الرعناء المخمورة وزوجها التمثال؟
- أيمكن أن تكون أغنيتي شرعية؟
- سأغنـّي يا وليد، نعم سيكون الغناء شرعياً وعُري جسدي شرعياً، ولخضعتْ كل الوجوه والرقاب إلى حقيبتي.
لكزتها صاحبتها :
- أين كنت، ما هذا الغياب؟
أجابتها على الفور:
- كنت أعيد ترتيب الأشياء، أو بالأحرى كنت أطوّعها و أختار لي شكلاً، أشعر أنني بحاجة إلى البكاء.
وضعت الشقراء كأسها على الطاولة الزجاجية، وبحركتها فاح عطرها الصارخ، اختارت وردة حمراء قطفتها من باقة زهور تتوسط الصالة، وضعتها في شعرها، مسّتها رائحة الورد، فتنفست عميقاً وضغطت على ساق صاحبتها لإشراكها في المتعة. تفحصت خلخالاً من الذهب الخالص الذي نفر من رجل (الوحلة) وهمست بأذن السمراء:
- هل تعرفين أنني سميت المغرورة (وحلة)؟
وكبتت ضحكة ودارت شهقتها .
ـ اسمعي يا صاحبتي، لا تغضبين نفسك، هنا لندن، عرض البضائع الجميلة الفاخرة، عرض الأجساد. وهنا كل من حبلت ببلدها أحبت مستشفيات لندن التي لا تعتبر الابن غير الشرعي حراماً، ولا ( البوي فرند) حراماً، وهنا لا أخ رقيب ولا زوج ولا أب، إنها الأوقات السعيدة والتجديف ضد الأحجبة المزيفة والعباءات.
بعد ليلة صاخبة، رمت كل منهما جسدها المتهالك على السرير، حاولت الشقراء محادثة رفيقتها لتُخرجها من وجومها: - نحن ضحايا البغاء، وضحايا فنان مخصي
قاطعتها :
- لا يا عزيزتي، لسنا ضحايا إطار لم يكتمل. كل جلساء الليلة زنازين مغلقة ، أحياء، سجناء أحرار، أوسمة ذهبية مطلية بالصدأ. نحن حقيقة عارية، وهم عُراة بلا حقيقة.. لا تتحركي، إني أسمع زحف دمه في عروقي، أجده يبحث عن القطعة التي مازالت بيضاء في فستاني، إنها سمائي الوحيدة، فغداً سيغدق علي عطايا ألوانه.
تحركت الشقراء متململة، وتابعت السمراء:
- ابقي ساكنة، إنه يمرّ قرب روحي.. إنه ابتسامة خاطفة على نافذتي.
- هل أغلق النافذة؟
- إنه هواء بارد وليس وليداً.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
اقتباس:
فصــــــــــل
اكتشاف إبليس
نحن حقيقة عارية،
وهم عراةٌ بلا حقيقة .
نعم صدقت....
نكمل القراءة
مع الف تحية اديبتنا المتميزة.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
منذ أن تعرّفت على صابر ســاورها الشك بكل تصــرفاته، قلبها وعقلها لا يطاوعانها على البقاء في شقته الموبوءة. تسللت بعض خيوط الشمس من النافذة، شعرت بالدفء والصداع يوقظانها، نهضت متوجهة إلى المطبخ، فقد لمحت به صيدلية منزلية صغيرة. رأت فراش الشقراء خالياً، وهي تمشي على رؤوس أصابعها كي لا تُحدث ضجة. راودها شعور بأن صاحبتها في الحمام، لكنها سمعت صوتا من غرفة صابر، خففت من مشيتها وكأنها تبحث عن عصافير في مخبئها، صعقتها المفاجأة. اقتربت من البــاب، لصقت أذنها به بحثاً عن وضوح، تأكدت أن صديقتها في الداخل.
تناولت حبتين من المهدئ، ثم عادت متسللة إلى فراشها، خرجت الشقراء من غرفة صابر، فبدا بريق شعرها المبعثر لامعاً. سألتها :
- لماذا شعرك مبلول؟ هل أخذت حمّاماً للتو؟
- نعم، حمام دافئ.
- أنا سأدخل الحمام، لعلّ الماء والصحوة يزيلان الصداع عن رأسي.
غابت عشر دقائق، ثم عادت بصحوة منعشة :
- حمداً لله، يبدو أن مفعول المهدئ قد أخذ يسري في بدني ورأسي.
واستدارت إلى صاحبتها بعد أن جلست على الفراش تمشط شعرها الأسود :
- البارحة كنا في مهرجان، كلهم يعزفون في ناي واحد، إلا أنا وأنت لكل منا نايها الخاص.
- سمرائي الغالية، لا بدّ أنك انتبهت البارحة إلى الصحفي الذي تابع حركاتك، لا بل أكلتك عيناه، قال إنّ اسمه محمود.
بدت الدهشة على وجهها، إذ ليس من عادة مومس أن تسأل عن أسماء زبائنها، كما أن أسماءهم ليست حقيقية. حاولت جهد نفسها أن تسترجع صورته من بين الوجوه، تستعيد ملامح من احتساها مع كأسه، أهي النظرة القلقة نحو البغي؟. نعم، فقد رسمها معتوه الابنة غير الشرعية للحياة. ربما فكروا جميعاً بالطريقة التي ستقلع ملابسها كتفاحة ليس لها أنياب قبلية، أو خميرة ممنوعة تعجنها وتخبز فخذين جميلين. وجدت نفسها تتكلم، وصاحبتها صامتة تنظر لشرودها:
ـ رفيقتي السمراء أرجو أن تعرفي أن الحياة هي المبغى الحقيقي، والقلب ليس له وجود هذه الأيام؛ عالم رخو يستعيض عن القلب بالحجر وبالنقود.
ـ ماذا قلتِ؟ لست أفهم، ماذا تقصدين؟ أنا سألتك عن محمود.
وواصلت:
ـ التفاحة رسمها بهلوان مفتون بالفخذين، لذلك جعل منها خطيئة، وهو المغلوب على أمره، مسكين استجاب لغوايتها ورسا على شاطئ حياة آدمية، حياة أوحت إليه كيف ينزع عنه أسماء الملائكة ويعود كمقاتل في معركة، يلقي بجسده بين فخذين شبقين. القتال كله من أجل السقوط في حفرة معتمة؛ عفواً. لقد هذيت كثيراً، من حقي أن أصبح حكيمة، ولو للحظة واحدة، مومس وحكيمة؟
ـ ألم تسمعي سمرائي المثل القائل: خذ الحكمة من أفواه المجانين؟
لكنه لم يقل أفواه الغانيات.
تناثر الشعر الأسود على النهدين :
- هل أنت مَن سأله عن اسمه؟.أهو عبث النساء بالرجال؟
- بل هو صاحب المبادرة.
- أين نمت البارحة؟ كوني صريحة معي.
- بصراحة، نمت مع صابر.
- وعدتِ بعملة خاسرة، هل خسرت ما فوق السرة أم ما تحتها؟
- كلاهما.
ارتدت الشقراء ثوباً مشجّراً بورود بيض، وتابعت؛ السرير مملكة قانونها نهود النساء، والشاطر من يتوّج نفسه ملكاً.
ـ تقولين مملكة؟
- نعم، مملكة تتعرّى فيها الرعيّة كلما تعرّت المومس.
- معك حق، أحكام وقوانين سُنّت من أجل ابتسامة في مسرح عهر البارحة. كل الأثداء الراقصة ليس فيها ثدي أم ولا قلوب حقيقية، إنها قلوب من النايلون، ولا يوجد متسع للحب، لذة جنسية فقط. أنت مثلاً، رسمك وليد مومساً أعطاك الشكل، وصابر فضّ بكارتك، أتراه اكتشف أنك مازلت بكراً؟
- نعم، واستغرب. وزاد استغراباً عندما قلت له هذه أول مرة أنام فيها مع رجل. فقط سألني:
- من أنت، هل أنت من اللاتي يهربن بحجابهن وينزعنه في الطائرة وجئت تعوضين الحرمان في لندن؟
- لقد رأيت منهن الكثير، أم أنت مفلسة جاءت بهيئة مومس لتسترزق؟
ـ إذاً، أين تقع الخطيئة الآن وعلى عاتق مَن يا شقرائي ومن هو الخاطئ الأول؟. التفاحة، صابر، وليد، أنت، الضيوف كلهم بحواراتهم العقيمة واستعادتهم لما كررته النشرات الإخبارية، غثاء السياسة، غثاء الدين وغثاؤهم.،
ـ أنت فيلسوفة اليوم، ومن تعشق وليداً تهذي بهذيانه.
ـ لا، ليس هذا بهذيان. أنا البارحة (واقتربت منها مؤكدة) لا تقولي أنا مجرد لون وفكرة، أنا كيان جديد رأى البارحة الشعبَ العربي ممدداً على صينية مملوءة بالرز والمكســــرات، قوزي عربى، وكان يدور حول الصينية والمقبلات اللبنانية سمسار واحد يقود القطيع.
ـ خذي هذا الشال الأصفر اربطي به شعرك، ودعينا نفكر كيف نقضي وقتنا اليوم. ضعي أفكارك هذه في حقيبة وأغلقي عليها، ولنستمتع باليوم، هيا نخرج فأنا جائعة.
حالما خرجتا من الغرفة، وجدتا صابراً ينتظرهما على الإفطار، وخادمة مغربية تصبّ الشاي. حيّاهما قبل أن تبادرا بالتحية، وجلستا إلى طاولة الطعام . خلال الإفطار تحدث صابر عن ليلة البارحة، وبادر بقول أدهشهما :
- الآن أصبحت لي عائلة.
وانتقلت نظراته إلى الوجهين.. شكرت السمراء خادمة صابر على الشاي، وطلبت إضافة المزيد من السكر.
راحت الشقراء تعيد عليه ما قاله:
- ستصبح لك عائلة؟
أجاب على الفور مستدركاً استعجاله لاستدراجهما في البقاء معه:
- أقصد أني حُرمت من العائلة، وأنتما كعائلتي.
استبشرت أساريره وهو لا يزال يكتشف ردة الفعل حيال اللغم الذي فجّـره قبل قليل، مسح قطعة خبز بالزبد والمربى وقدّمها للشقراء، ثم أشار للخادمة أن تصبّ له مزيداً من الشاي والحليب، وراح يطرح أسئلة لا بدّ منها:
- أعتقد أن الوقت قد حان لأعرف اسميكما، وأظن أنكما من الـ..
- مسحت الشقراء فمها بفوطة بيضاء، وقاطعته :
- لم يكن لنا بلد أو تأريخ أو اسم، إننا مجرد صدفة، صدفة مرّت بذهن رجل، وعلينا الآن أن نختصر الدهر باثني عشر يوماً، أمقتنعٌ أنتَ بكلامي؟
- لا، والمصحف الشريف ومنزّله.
- أتقسم بالله؟ من حقك
- شو هيدا.. أنا بعرف ربي، ويمكن أعرفه أكثر من أي أحد يصلـّي عشرين ركعة في اليوم.
- ليش لا.. الله غفر لرابعة العدوية، ويمكن يغفر لك.
- والله كلام السمرة حلو، شو بدي من الدين لو ربنا فتحها بوشّي مثل رابعة.
خاطبته السمراء بتخابث:
- هل نمت جيداً البارحة؟
- ـ جيداً جداً، نمت نوما ما في مثله.
- نوم على النفط، ونوم على..
- نظرت إلى وجه الشقراء، وصمتت. انتفض صابر واهتزّ قليلاً، ثم رجع إلى هدأته. أما السمراء فصحّحت ما فلت من لسانها:
-كل الصناعات من النفط، حتى الغيوم صارت تمطر نفطاً.
بكثير من العناية والرقة مسحت فمها بفوطة معطرة، وأوضحت رغبتها للخادمة بفنجان من القهوة، بعد إذن السيد صابر.
أجابها: بكل سرور. (وراح يتحدث عن الخادمة):
- تأتي حسب الطلب، أتصل بها بعد كل حفلة؛ إنها مريحة وتريحني على الآخر.
ـ على الآخر، الآخر؟
ـ نعم يا شقرائي الملعونة، على آخر الآخر.. لو ما لقيت وحدة مثلك يا وردة.
خطر للشقراء أن تصنّف أنواع الراحة، كما أسعدها إطراء صابر لها. استمتعت بطرب لصوت فيروز، وطلبت من صابر أن لا يغير الشريط، وأن يكفّ عن البحث عن شريط آخر، فصوت فيروز أنعشها.
( زوروني كل سنة مرة، حرام تنسوني بالمرّة).
قالت السمراء: أبإمكان المرء أن ينسى من يحب؟
أجابها صابر: إيه.. كثير.
ـ هذا ليس حباً، مجرد إعجاب أو جسد. الحب هنا (وضعت يدها على قلبها) هنا.. وهذا لا يُنسى.
- سمرائي العزيزة، يبدو أنك عاشقة، ممتلئة بالعشق؟
لم تجبه، بل تابعت مداعبتها لمزهرية الورد الجميل بأطراف أناملها، تشمه وتحتضنه. سحبت وردة بغصنها من المزهرية وضمّتها إلى صدرها كطفل يضبط مخاوفه، فالاحتضان احتواء مريح.
الشقراء التي تعرف رومانسية صاحبتها قالت بلهجة خاصة :
- أتحتضنين الوردة أم تحتضنك؟
ـ كلانا يحتضن الآخر.
قال صابر: يستطيع المرء أن يمتدح الحضن ويدينه في الوقت ذاته، حســب اللذة والانزعاج. بالفطرة نحب الأحضان ونحبّ تبعيتنا لها، ومن فرط الحب نتعلم الضعف، لذلك ننام مع الخدم ونضربهم كي لا يشهدوا ضعفنا.
- والنفط.. بعد أن نمت معه البارحة، صفعته أم صفعك؟. أعتقد أنك صُفعت مراراً كي لا تشهد ضعفه واستسلامه لك، كم مرة جعلك النفط الشبق تقذف؟ هل قذفت نفطاً خاماً أم مكرراً؟
ـ لشد ما تغوينني، أخافك وأخاف لسانك السليط يا شقراء. هيا، تهيئا لنقوم بنزهة جميلة. أريد أن أريكما معالم لندن، من أين ترغبان أن نبدأ؟.
ـ لا علم لنا بالأمكنة، تركنا لك الخيار.
ـ هيا إذاً.
سار نحو الباب معهما، وقبل إغلاقه صاح على الخادمة :
- تركت أجرتك على التسريحة في غرفة نومي، حين أحتاج اليك سأطلبك.
رغبة بمعرفة التفاصيل وأسماء الشوارع والمحطات والحدائق، تركتا لصابر العنان يتنقل بهما من مكان لآخر، شارحاً كل شاردة وواردة، قد يفوّت بعض المعلومات التي يجهلها، لكنه كان مفيداً. وأخبــرهما بما يعرف حين تجوالهم في متحف الشمع، كما شرح في الطريق الى الكاتدرائية بعض الأحداث، وحين وصلوا ساعة (Big Ben) أخبرهما أنها من أشهر معالم لندن وتقع على نهر التايمز، كما ذكر لهما عند " جسر البرج "(BridgeTower) أنه أنشئ عام 1849 وهو من أرقى الجسور في العالم.
تمشوا قليلاً، مسترجعين ما قام به صابر في متحف الشمع من تصرفات لطيفة، إذ عمد الى تقليد خنق الزعماء العرب وأخذ صور تذكارية قائلاً:
- هنا في لندن يمكن خنق أي زعيم عربى، وسأريكما كيف يشتمونهم يوم الأحد في حديقة الهايد بارك.
قضوا وقتاً ممتعاً، انتقلوا بعده إلى لندن آي؛ وصعدوا في الدولاب الهوائي.
ـ صابر أين نحن الآن؟
ـ يا شقرائي نحن أمام قصر الملكة، قصر "باكنجهام". تصورا عظمة ملكة بريطانيا، هي رئيسة دول الكومنولث والقائد العام للقوات المسلحة، لكنها لا تصدر أمراً إلا بناء على مشورة الحكومة، تماماً مثل بلداننا العربية (بصيغة هازئة).
هنا المسكن الرسمي للملكة تُفتح بوابة القصر في أوقات معينة، ويمكن للزائر رؤية المكاتب الرسمية الفخمة التي استقبلت عبر القرون المنتفعين والأثرياء. كما ترون تجمع السياح حول البوابة، انظرا.. ها هم يتوافدون منتظرين تبادل الحرس لأمكنتهم بالملابس الرسمية التقليدية، وهناك الحديقة الملكية.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
5
تذكرت السمراء سجن القلعة ومشاهد الرعب والألم والموت، حيث يجذب السياح من كل أنحاء العالم، أغمضت عينيها في محاولة طرد الصورة المرعبة. وبعد أن تركوا قصر الملكة، سألت صابراً:
- أين نحن؟
ـ في ساحة بيكاديللي، هنا مركز لندن. انظري كيف تنتشر محلات بيع الهدايا التذكارية وهنا دور الحفلات الموسيقية والعرض المسرحي والنوادي الليلية.
قالت الشقراء: أنا جائعة يا صابر، ألا نتوقف قليلاً؟.
ـ سنتناول غداءنا في مكــــــــان فخم، اصبري قليلاً. ها قد وصلنا (الطرف الأغر) هنا أيضاً تــوجد المسارح ودور العرض والنوادي الليلية والمطاعم. وأشار إلى مبني المعرض الوطني قائلاً :
سأرافقكما لـرؤية المعرض، إنه ضخم ، ويضم ّأكثر الرســـومات براعة في العالم. كما سنزور المتحف البريطاني، إنه أقدم وأعظــم المتاحف في العالم، يضــمّ تاريخاً عالمياً يمتدّ لأكثر من مليوني سنة، ويحتوي على أكثر من 49 صالة عرض.
تخيلت السمراء صورتها ضمن صور المتحف، ووجهت سؤالها للشقراء؛ هل من الممكن أن نكون ضمن هذا الإبداع ، ويشار لنا بالبنان ؟ .
أجابتها الشقراء: من يدري.
ردت عليها السمراء: مادام وليد يتحلـّى بالشرف والكرامة والكبرياء، إنسي.. إنسي.
- ولمَ لا ( خطرت بباله بعض كلمات وأرد أن يفرد عضلاته أمامها ليتقرب إليها )
- ستكونين أجمل امرأة تزورها الوفود وتهز الرأس إعجابا فأنت يا صغيرتي نبع ، والفنان الذي لا يرسمك أبله .
أطالوا البقاء في المتحف البريطاني، حيث الحضارات الشرقية والغربية.
وقفت السمراء نصف ساعة أمام الآثار السومرية، بوابات وألواح ونسور مجنّحة: إنها آثار وليد، كأني أشمّ رائحتك يا وليد، كأني أقرأ كتابك بين هذه الرموز. كم أنت عظيم يا فنان سومر، أي كلية درّبتك وأي أساتذة علـّموك؟ أنت أستاذ نفسك.
قال صابر مبتسماً:
- هل تكلمين نفسك؟
ـ معك حق، من يرى عظمة تاريخ وحضارة سومر لا بدّ له أن يهذي ويكلـّم نفسه.
أضافت السمراء: الخلق والخلاق يحتاج لما هو أكبر منه، يحتاج إلى المئات بل الألوف ممن يشبهونه ويشبهون أنفسهم ليخوضوا ساعة خلق واحدة.
خرجوا.. قاد صابر السيارة مسرعاً:
- أنا بدأت أشعر بالجوع، ما رأي الحلوتين لو تناولنا الغداء، فأمامنا متسع من الوقت لرؤية معالم لندن؟ سأختار مطعم بغداد، بعدها نأخذ قسطاً من النوم، فنحن مدعوون من قبل شخص مهم الليلة.
***
ذات صدفة وهو يكمل ثوبها الأحمر إلى حدّ الأكمام، سمعته يحاور أحد أصدقائه عبر الهاتف، فنان مهووس بالنساء مثله، استنتجت أن ذلك المحاور يحدثه عن موديلاته العاريات، وكيف أنه استمتع بأنوثة الطبقة البورجوازية، وحسد الانتعاش الاقتصادي، وكان وليد يردّ عليه : ليس الجنس الوحي الوحيد، بل الخصوصية وامتلاء الذات، يا أخي النساء هنّ الحرب والسلام.
لحظتها رأته كقسوة الشمس في ظهيرة قيظ، وكمن يعوم وظله في السراب.
في أحايين كثيرة يتشبث بقوة كاذبة يتصدى بها لضعفه ، يحاول أن يعيد له اعتباره ويراهن على أسئلة تنقذه من نفسه ،لكنه حين تخور قواه، يعود إلى ألوانه بثلاث زجاجات من البيرة ويحتسيها دفعة واحدة ، يغمض عينيه من دخان سيجارة يزفر فيه سنوات علقت بالذاكرة ويسأل لنفسه :
- كيف كنت شيوعياً،أكنت معارضاً لإرادتك أم لمؤسسات زائفة ؟
ثم يرسم في الهواء ظلا يطارد أصابعه ويرجع يتغزل بساق شقرائه أو زندها أو نهدها، أما ذات الشعر الأسود، فلا يهوي منها إلا مزج الألوان، حين تنتابه نوبة الرسم ، مما جعلها تلعن مدير السجن على عدم بتر يده الأخرى، ثم تعود تستغفر ربها طالبة له دوام الصحة والعافية.
في مساء ممطر، رنّ جرس الباب، كان وليد يتكوّر على نفسه ويهتزّ كطفل مذنب . لكــــــن الجرس رن عشر مرات، مما جعل وليـــــد يضجر صائحا:
- دخيل الله مَن؟
أجابه الطارق بصوت أجشّ :
- قلب بشري خنقه شبح الليل والمطر وقذف به على بابك.
ـ مرحباً، تفضل مراد، ما الذي ذكرّك بنا الليلة؟
ـ قلبي يابس، وجئت أطرّيه عندك.
ـ هل أجلب لك بيرة؟
ـ لا.. أحب أن أسمع شعراً، فأنا اليوم أكثر الشعراء اغتراباً.
ـ هل أصابتك لعنة عشق جديد؟
ـ بل أنا توّاق لحزن أغسل به حزني، ربما أتطبّب بما هو دائي.
نط ّ وليد حافياً وتناول كتاب جبران من مكتبة معـلـّقة على الحائط: اسمع ما يقوله جبران:
(يا إله النفوس الضائعة، أيها الضائع بين الآلهة، اسمعني أيها القدر الرحيم الساهر على نفوسنا التائهة. أصغ لي، فإنّي أعيش بين البشرية المشوشة).
مدّد مراد رجليه على الأريكة، ونام مسترخياً:
- الله، الله، يا جبران. أيها الإله الضائع سجّل، سجل وحشتي بسجلك ولا تستغرب إن قلت لك سئمت مسرتي، وسئمت انتظاري لها، لقد بلغ بي الكبر وكبرت عزلتي؛ لمَ لم تقرأني في سطورك وأنت الذي قلت؛ اقرأ؟
- شيطان وكافر؟. ما الذي دهاك؟
- جرعة المرارة كانت أكبر مني، كل العذاب الذي ذقته في حياتي (صمت برهة ثم تابع): نحن الشعراء تعساء الله على الأرض، حتى أحقر نقطة في الحياة تحتقرنا، وفي النهاية نموت.
قدم له وليد زجاجة بيرة :
ـ أعرف أنك ورّطت نفسك كعادتك، ألم أقل لك لا تمشِ على حبل؟
ـ تقصد حبل الصراط المستقيم؟ ما ذنبي إذا فُطرت على الحق وقوله وفعله؟
ـ ها.. انظر أطراف يدي، كم نزفت في السجن وأنت شاهد على ذلك. استمعت الى دبيب الحشرات على جسدي من أجل قيامة أخرى،من أجل أن أقول للضائعين انتبهوا، حان الوقت ، وآخر المطاف أمريكا تتربّع على صدورنا، وتقول لي صراط مستقيم، يا أخي لا صراط ولا مستقيم، آخرها محرقة.
ـ هذا حرام ، على مهلك يا مراد .
ـ أؤكد لك أني أكفّر عن ذنب الشيطان حين أحرَق مراد الذي بداخلي .
المسيح قال : (أنا هو خبز الحياة ) وصُلب، فكيف نحن أولاد الكلب؟ نحن مصلوبون منذ لحظة المضاجعة، وتصوّر المسكينة أمي وأمك تنتفخ بطنها ولا تدري أنها ستلد مصلوباً، نحن بحاجة إلى شريعة خاصة بالمصلوبين*
وهم في طريق عودتهم إلى الشقة بعد وجبة غداء دسمة ، زحفت يد صابر إلى الشعر الأشقـــــر ، تجاوزت حدودها وامتدت إلى العنق، انزلقت نحو الصدر، ظلّ الشوق مباحاً، خطّ خطاً مستقيماً، استسلمت الشقراء لمداعبته، وراح يخاطب السمراء:
- أعرف أن لك عناد البحر، لكن ارتدي ثوباً شفافاً، ابرزي مفاتنك ودعي شعرك يثور ثورته الغجرية. لقد اشتريت لك أغلى الملابس ، أكنت تحلمين بثوب من (فالنتينو) ، أو ساعة من (فرساتشي)، ألك حقيبة يد(بألفين باوند)؟
- داعب يدها :
- لديّ من يقدر الجمال النافر.
أطلق زفيراً عميقا ً وأشار بأصبعه :
- خُذيها نصيحة منى، اضحكي على الحياة قبل أن تضحك عليك، أنت أيتها النافرة من الضلع الأعوج، يا كل النساء بامرأة.
هزت رأسها استنكارا ً:
ـ أنت قوّاد، وأنا جميلة لنفسي وبنفسي وسأرتدي أقراطي وأساوري لأتحرّر من عقل رجل يشتهي غزو الجسد. أيها الأعور، أنتم أطلقتم على حواء لقب الضلع الأعوج، أتدري لماذا؟ لأنكم تخافونها، تخافون سجودكم تحت قدميها. حمّلتم حواء ذنب الكون، ونسيتم ضعفكم أمام الغواية.
دنا منها لكي يطيّب خاطرها، فنفرت:
- سأرتدي بإرادتي ما يحلو لي وأتجمّل لنفسي.
- طيب، المهمّ أن تكوني جميلة المظهر، وفاتنة.
قبل أن تبرحا صالة الشقة، رجاهما صابر أن تتحليا باللباقة، وأعــاد عليهما مرتين :
- القلوب والآذان صوب جيوبهم، فهمنا؟
ردّت عليه الشقراء بتوتر:
- أتعبتنا يا أخي بوصاياك، هل أنت ابن الشيطان؟
جلستا صامتتين، كمن يضع خطاً فاصلاً للشر. اخترقت الشقراء الصمت :
- إذا كان من تأخذنا إليه شيطانا ًمثلك فأنا أؤكد لك أني سأجعله يتوب. لا يلتقي شيطانان في مكان واحد، سأجعله يغدق علي بعطاياه لأصبح اللبوة المفضلة، وبهذا أكون قد روّضته، فيهزّ جيبه كلما اهتـزّ وسطي وأغمضت عينيّ عن خطيئـة شيطان لـه مسبحة وسجادة.
- كيف عرفتِ أنه شيطان بمسبحة؟.
- سمعت البارحة طقطقة المسابح الثمينة في سهرتك.
في الطابق الخامس، من إحدى العمارات الفخمة في شارع (ريجنت) قبل أن يُطرق باب الشقة رقم (105)، كان الخدم يراقبون وصول الزائرين من العين السحرية.
في المدخل أربع خادمات عربيات بزي موحّد، وقفن ضاحكات مهلـّلات :
- يا هلا.. يا هلا.
وعلى نحورهنّ قلائد ذهبية متشابهة، فالأزياء موحدٌة في كل شيء، الملبس والأحذية والذهب وحتى ترتيب الشعر. قادتهم إحداهن إلى الصالة، هبّت رائحة البخور وروائح المسك الطبيعي التي عجـّت في كل مكان.
تنبّهت السمـــــــــراء إلى السجاد الإيراني الفاخر ، أما الأخرى فأشارت إلى صاحبتها لتنظر الى ثريات صغيرة في جانبي الشقة، وثريا كبيرة مطلية بماء الذهب في السقف، وأغمضت عينيها كطفل يريد التمسّك بلعبة أغوته، كانت غايتها الاحتفاظ بمنظر الثريات المصنوعة من الكريستال الخالص. أما صابر، فقد ذاب كفصّ ملح.
جلستا تمسّدان الأرائك والمزهريات والتحف الثمينة، على كرسيين مصنوعين من الخشب المحفور.
إلى الجانب الآخر طاولة مستديرة وضع عليها ملاءة من الدانتيل الأحمر المشغول بخيوط فضية، وفوق الطاولة عُلـّقت مرآة من الفضة الخالصة.
كان يدور في خلد السمراء قلق يثير شكوكها لذا شعرت كأن سيفًاّ مسلطاً على رقبتها ، أحياناً تأتي الأفعال لا إرادية ، إذ لا يملك الإنسان إلا أن يشك في كل شيء.
على حذر من الجميع, اتخذت لها ركنا منعزلا فثمة غموض في هذا المكان . سارت الشقراء في الصالة مدققة في كل ما تقع عيناها عليه، ثم رجعت إلى مكانها مسرعة، حالما دخلت إحدى الخادمات حاملة كأسين من العصير الطازج.
ـ شكراً (قالتا بصوت واحد).
استخرجت عطراً من حقيبتها، أزاحت شعرها الأشقر عن أذنيها وعطـّرت ما تحتهما مروراً برقبتها، ثم قدّمته لصاحبتها. شكرتها السمراء، دون أن تأخذ العطر.
الأفكار والناس والمكان، وصوت يلمع في صدر السمراء، كل هذا جعلها معطـّلة عن التفكير..
ـ لم أرَ في حياتي شقة كهذه.
أجابتها الشقراء وعينها على ضيف وسيم :
ـ عزيزتي ما دخلنا غير ثلاث شقق، شقة وليد وشقة صابر وهذه الشقة، ومن خلالها دخلنا أبواب الشيوعية والرأسمالية والسمسرة.
أحسّت السمراء ببرودة هواء قادم من أحد الشبابيك، نهضت تستنشق بعضاً منه، واستدارت صوب صاحبتها بعد أن لعب الهواء بشعرها ، لحظتها فُتح الباب دون استئذان، فقد تعمّدت الخادمة أن تتركه مفتوحاً .
ـ يا حافظ، ما حد إجا؟ وين الباقين،. عفواً، السلام عليكم.
ـ وعليكِ السلام.( جميعا )
دخل الحلاق خلف المرأة، الحلاق المائع الذي رأتاه البارحة، وعلقت السمراء على مشيته، أما صابر الذي غيّر لهجته حسب هوية المتحدثين وقف مهلـّلا مرحباً بالحاضرين، كأنه صاحب الدار. بعد مضي دقائق أشار للخدم إشارة معينة، فاصطفت على الطاولة أنواع المازات ودارت كؤوس الشراب. ولدى دخول أحد المطربين وفرقته، أسرع الخدم لحمل الآلات الموسيقية عنهم، وانشغلوا بتهيئة (الميكرفونات)، فأصبح كل شيء أليفاً، المعاكسات، الكأس، الوجوه، التبغ، النساء المتبرجات، الياقوت والماس؛ كل ذلك خضع للكأس. تهيأت الفرقة الموسيقية، وأصبحت رهن الإشارة.
حضر الصحفي محمود، نظر إليهما بنظرة خاصة، وابتسم بوجه السمراء. وحين صافحها ترك يدها تنام في يده، وقف مذهولاً بعينيها الواسعتين ورموشهما الكثيفـــــة، فأحسّت برجفة يده ونبضه . وفجأة ساد صمت، ووقف الجميع إجلالاً لصاحب الدار، حالما قال السلام عليكم ردّ الحضور بصوت واحد :
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فلما جلس جلسوا، وحين وقف هبّ أغلبهم للوقوف بجانبه، لكن لما ابتسم منحهم بركة الابتسام، وراحوا يضحكون لمزاحه السخيف.
- همست السمراء لصاحبتها :
- أهذا نوع آخر من الفراغ؟
- هِس، أصمتي.. هنا الحيطان لها آذان. ( ردت عليها صاحبتها بتوتر)
أخافتها شفته المتهدّلة، فواصلت أسئلتها :
- وعندما يخرجون من جلودهم، هل تسمعهم الحيطان أم تتستر عليهم؟
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
6
عزفت الفرقة أغنية أم كلثوم ( أراك عصي الدمع)، تمايل الجميع معها، طلب المحفوظ أن يغيروا العزف إلى أغنية راقصة. وبأمر المحفوظ رقصت النساء، وشُـدّت الأوساط، زحفت السجاجيد مع الأقدام الراقصة، أُزيحت الطاولة الوسطية الكبيرة جانباً، وتناغموا مع حركات جسد الشقراء الراقصة وموسيقاها.
أما الصحفي فقد اغتنم الفرصة وجلس قرب سمرائه، حيّاها، ورأى العالم كله في عينيها، نسى الكلمات، نسى الحضور، إلا حضورها ورائحتها. سألها:
- ما اسمك؟
ـ لا اسم لي.
ـ أهذا معقول؟
ـ الذي جاء بي إلى الدنيا لم يعطني اسماً.
ـ الحق على والديك.
ـ ليس لي أم ولا أب.
ـ عفواً لم أقصد إيذاءك، أنت يتيمة؟
ـ لا، لست يتيمة، كما إنني لست ابنة زوج وزوجة.
ـ من أنت؟ جنيّة،. (وضحك)
ـ بل أنا من ألوان.
ـ هل أعتبر كلامك مزاحاً؟
ـ بل جد. بصفتك صاحب قلم، هل سمعت عن فنان اسمه وليد سالم؟
ـ أظنني سمعت به، كم عمره؟
ـ في الثالثة والخمسين، هل تعرفه جيداً؟
ـ لا.. لماذا لم يحضر معك؟
ـ إنه يرفض الخضوع، إنه فنان عظيم لكنه يقولب نفسه بأفكاره ويحاصر فنه ويحاصرني معه. الفن انطلاق، تعارف. كيف تكتب عنه الصحافة، وهو لا يزال يجهل نفسه؟
ـ معك حق. لكن هل أنت إحدى موديلاته؟. ثم من المؤكد أنه لم يصل الى قناعة تامة بفنه، ويخشى النقد. أو ربما هو قبيح ومعقد بسبب قبحه، أعرف شاعراً قبيحاً يكره من هو أجمل منه وأشعَرُ منه فيحاربه.
ـ صحيح هو لا يملك غير رقم واحد؛ بنطلون واحد وقميص واحد ومعطف واحد، لكن سيد محمود الفنان لا يُقاس بشكله أو حسبه ونسبه بل بتجربته وبما يقدمه من إبداع.
(تولستوي) ترعرع بين الفساد وكان سكّيراً، لكنه أكبر روائي في عصره. و(بلزاك) برجوازي، أما أعماله فيقرؤها الفقراء والأغنياء. الإبداع أكبر من الطبقات الاجتماعية، إنه يخاطب وجدان الإنسان.
ـ يبدو أن ثقافتك عالية؟
ـ بل محدودة. تلقيت ثقافتي من وليد، كلما يُسقط عليَ لوناً اكتسبت منه معلومة ، لأنه يرسم بيده ولسانه وقلبه.
ـ والعقل؟
- إذا دخل العقل ساعة الخلق ما عاد إبداعاً.
أشار الرجل الثري لصابر أن اقترب، ووشوشه، فردّ صابر:
على الرحب والسعة، لكنها يا سيدي عصيّة.
رفع الثري حاجبه وبدا عليه السرور:
ـ بيدي مفتاحها، كن مطمئناً.
اعتراها شك مما سمعت، وزحف الدم إلى خديها، رغم ذلك بدت كمدينة محصّنة. نظرة (المحفوظ ) تلتهمها، فتشغل نفسها بمحادثة محمود. هو يسألها عن نفسها، وهي تجيبه عن وليد. تفاجأ لقولها :
- لم يسدّد فاتورة الماء، فالألوان تستهلك نقوده كلها.
تهالكت الشقراء من الرقص، ورمت بنفسها على الأريكة لاهثة. صفق لها الجميع، فقد ابتلّ جسدها بعَرق الرقص والتهمتها العيون بالشبق حتى أثارت غيرة النساء الباقيات. بعضهن كنّ زوجات، وبعضهن عشيقات، والأخريات بديلات لمغامرة فاشلة.
المحفوظ يومئ لخادمته ، فتنحني احتراما وتلبية لأوامره ، يهمس بإذنها فتجيب بانحناءة: أمرك سيّدي...لكنه يشارك اثنين يتحدثان عن الحب:
- إنّ الحب كارثة تؤذي قلب صاحبها فقط.
ثم يقترب من يقترب من السمراء هامساً :
- قوامك جميل يا سيدتي، وثوبك أيضاً.
- شكراً، الجمال جمال الروح والأخلاق.
- شعر بفسحة الأمل، اقترب منها محاولاً الالتصاق بها؛ لكن الصحفي يسبقه بتقديم بطاقته :
- تفضلي هنا رقم هاتفي وسأكون ممتناً لو سمحت أن أدعوك إلى أي مكان ترغبين ، هذا بعد إذن المحفوظ .
استدرك خطأه واعتذر من المحفوظ ، لكنه أشار إليه مطمئناً :
- خذ راحتك أنت في دارك .
اخترق تطفلهما صدغيها وضمت يديها إلى صدرها كمن يضم ما يخصه من أشياء ، شعرت ساعتها أنها الوحيدة المنسجمة مع ذاتها ورغبت مواصلة الحديث مع محمود :
ـ أتسمح لي بسؤال؟.
ـ تفضلي، أنا كلّي لك فاتنتي.
ـ ما الذي قادكَ إلى هذا الوكر؟
تلعثم وهو يحاول أن يتفادى عينها :
ـ طويل العمر بحاجة لمن يكتب عنه، وقد رغب أن أكتب سيرته الذاتية.
رأت أن لحظة الصمت أبلغ، فارتأت أن تصمت. تناولت حبتين من الفستق، قشرتهما وقدمتهما له:
- هل تحترم الكاتب الذي كتب روايات صدام حسين؟
هز كتفيه وزمّ شفتيه:
ـ هل لديك خبرة في كرة القدم؟ الأقدام تركل والكرة تسجل الهدف، في ملاعبنا عدد كبير من الكرات والتبعية للركل.
ـ إنه اعتداء على الأدب أليس ذلك يا سيدي ؟
استغرق يفكر، ما الذي ستقوله عنه وماذا يفعل للحياة ومتطلباتها؟. التفت يمنة فجاء وجهه بوجه امرأة قبيحة، وقال دون تردد:
- أعوذ بالله من شرّ ما خلق.
هرب منها إلى وجه السمراء من جديد، كان يستعذب نظرة عينيها، فبادرته:
ـ قل ما تريد، أحس أنك بحاجة للكلام.
ـ هل قرأتِ شعراً، وأي نوع من الشعر تفضلين؟
ـ سمعت من وليد شعراً كثيراً، كما إني أفضل شعر العشق لأنه ينفلت من القلب، ثم كم مـرّة أحببتَ؟
ـ أوه.. كثيراً.
ـ وتسمّي التعدّد حباً؟ القلب لا يعشق إلا مرة واحدة، وأنت لم تعشق سوى امرأة واحدة وخانتك، أليس كذلك؟
ـ كيف عرفتِ؟
ـ لأنك تخونها مع الأخريات، تخون من تتربع في صدرك، و بالتالي أنت بلا حماية، رجل قاصر، قلبك مع واحدة وجسدك مع العشرات.
ـ المعذرة سيدتي، أظنك عاشقة حدّ النخاع، وأعتذر إذا كان سؤالي أزعجك.
ـ ليــس الحب عيباً لأداريه؛ الحب أكبر من الأرض والسماء، لذا يطير قلب العــاشق في اللا حــدود، باختصار هو ميلاد وموت.
كان الوقت يمضي مملاً بالنسبة لها، قرب صحفي متطفّل. تسارع وقع حبات المطر على زجاج النوافذ، دنت من الشباك لتسمع صوت المطر الذي تعشقه لعشق وليد له، كانت تستمع لخفقات قلبه كيف تتناغم وحبات المطر. وكان محمود يثني بين اللحظة واللحظة على جمالها، ويخبرها أن صورتها لم تفارقه منذ البارحة، وأنه يحس كطفل بين يديها، وبعد كل كلام يدور بينهما يذكرها برقم هاتفه. وساعة تجيبه بأنها ستحاول الاتصال به، يعود لسؤالها عن اسمها ومن أين جاءت وما هو عنوان أهلها؟
كانت تتابع حركات صابر وهو يفرك الكأس بين يديه ككلب حول وليمة. ومع استمرار الطرب والشرب ترنّح من ترنح، وعلت أصوات الضحكات والشهقات . وامتدت في الزحمة يد إحدى الحاضرات الى جيب أحد الضيوف المهمين عند صاحب الدار وسرقت محفظته؛ كانت السمراء تراقبها كيف زحفت مثل هرّة، ولكزت محموداً لكي ينتبه إلى ما تفعله اللصة.
لم يكن اهتمامه بحدوث السرقة كبيراً، فقال لها:
- كلهم سارقون، وكلهن يسرقن ويطلبن أجراً. هنّ يسرقن الألباب والقلوب والجيوب، وهم يسرقون الأجساد.
غاصت الأيادي في ثريد اللحم، صوت الملاعق والشوك والمصمصة تثير اشمئزازها ، كانت تدعو الله أن ينقذها من محنتها، وكلما شعرت بعيون محفوظ السلامة تطاردها، ودم الرغبة يفور على شفتيه المتهدلتين تقززت منه ورأتهم جميعا حيوانات بقرون .
- نعم حيوانات بأجساد بشر .
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
7
انتبهت وهي تحاكي نفسها ، كل لحظة تجدها فخا جديدا ، مرّت صورة المرسم، رجل مهووس بغيرها، يبعدها صوت رجل تجشأ، عبثاً تعيد الصورة، يشدها الصوت إلى الواقع، فتبذل أقصى جهدها لتسترجع الأشياء كلها حتى أواني المطبخ. تفحّصت المكان بتفاصيله، طريقة نفثه لدخان سجائره، أزرار قميصه المفتوحة على آخرها، أصابعه الصفر من كثرة التدخين، صدره الموشوم بعلامات الحرق والتعذيب، يده المبتورة، النسيان والذكريات، الأشعار التي يرددها، سلطته على ألوانه، لحظات تغزّله بالشقراء، عاصفة صدرها المتفجرة وهي تكاد تصرخ، كل ما يمتّ لوليد بصلة تعتبرها حياتها ومماتها*
انتبهت للصمت، صوت الصمت يعلو، بأنفاسٍ لصيقة بها :
- يا الله، أين الجميع؟ لا أحد في الصالة، أين كنتُ وماذا حدث لي؟
- اهدئي (وضع يده على كتفها ولفّ ذراعه حولها) عزيزتي لقد أمرت الجميع بالانصراف، وأنا معك الآن.. هدّئي من روعك.
- أين صاحبتي؟
- في إحدى الغرف مع صابر.
راحت تتمتم: عادت لفعلتها ثانية؟
وضعت يديها على صدرها، ضغطتهما بقوة، برز أحد النهدين بينما الثاني احتفظ ببعض حياء :
- كيف لم أشعر بخروج الجميع؟
- حين وجدتك حالمة ولست معنا، ولم تشعري بما يجري حولك، أمـــــــرت الآخرين أن ينصرفوا بهدوء، وأنت أدرى بأوامري. حلوتي، جمالك جبار وعيناك ساحرتان، فابعدي الحزن عنهما.
- عفوك سيدي أنا لا أستحق إطراءك.
وضع يده على فخذها، ارتعشت مثل سعفة، دقات قلبها المسرعة بانت من وريد رقبتها، خاطبها:
ـ بالمناسبة، اشتريت إليك عقداً ماسياً، تفضلي هو إليك.
ـ معذرة، ما اعتدت على ارتداء الماس.
فاجأها برمي نفسه عليها، وحملها بين ذراعيه، وبكل قوته شدها وأحاطها، حتى ما كادت تفلت من قبضته:
- أنت العقد الثمين وأنت البرتقالة الناضجة، وكل النساء قشور.
- أدخلها غرفة نومه، ورماها على فراشه، ارتفع ثوبها إثر الرمية، فبدت ساقاها كلمعة برق.
- لا تخافي (أمسك بها، ونظر إليها باشتهاء) ألا تنسي؟
- تعالي أجعلك تنسي الدنيا، أعرف أنها المرة الأولى، لمحت ذلك في عينيك وانزوائك. سأجعلك تبلغين الذروة، أنا متمرّس في ذلك.
- سيدي أنا لستُ كما تعتقد.
- اسمعي.. سأدفع لك أي ثمن تطلبين، شرط أن تتركيني أفعل ما أريد. أنت نصيبي اليوم، لكني لن أرغمك. كم يكفيك؟ عشرة آلاف جنيه، عشرون ألفاً؟
- سيدي أتوسل إليك، أنا لستُ كما تريد.
-هل في قلبك أحد؟
- أجل.
- ويتركني صابر الملعون أدفع ثمن العقد، بنت الكلب، تعالي.. أريد استرجاع الثمن.
رمى جسده الثقيل عليها، ترجرج لحم كرشه ضاغطاً على بطنها، لكنها استطاعت الإفلات من قبضته. جرّها من ثوبها، فتمزّق بين يديه. أدارت مفتاح باب الغرفة، وخرجت مفزوعة، دقت باب الغرفة الثانية:
- صابر، اخرج يا ابن الكلب ماذا فعلت بي، قم خذني إلى البيت.
شهقت، بكت، ثار الشعر الغجري على هزات رأسها. خرج صابر عاري الصدر، يسحب زنّـار بنطلونه، وصاحبتها وراءه ترتدي آخر قطعة من ثيابها. صاحا بصوت واحد:
- ماذا دهاكِ، هل جُننتِ؟ كيف تفرّطين بهذه الفرصة؟ المحفوظ ثروة.. ثروة.
- أتأخذني إلى البيت الآن، أم أصرخ بأعلى صوتي في باب العمارة؟
- وهم في السيارة، عائدين إلى دار صابر، لم يكن على فمها غير كلام واحد تقوله:
- يا وليد خذني إلى ذراعك، أيها الجبان خذني ولو بجبن.
وضربت الشقراء بكوعها معاتبة:
- ماذا فعلتِ يا وقحة؟
- دفعت ثمن بقائنا في شقة صابر.
لم يردّ عليها صابر، ولم يكترث لهياجها، واكتفى بمتابعة حركاتها في المرآة، ولاحظ عدم وجود عقد في رقبتها، فسألها:
ـ أين العقد؟
ـ رميته عليه، كيف عرفت بسرّ العقد، هل كنت خلف الباب؟
ـ أيتها الغبية أنا من اشتراه، وأنا صاحب المبادرة، أسرار المحفوظ كلها عندي.
أكدتا بصوت واحد:
- ونحن أيضاً لنا سرنا.
( نظرتا ببعض، وقالتا ببرود)؛ نحن مثل خروف يعدّ أيامه.
ـ آه لو أعرف سرّكما، أدفع عمري ثمناً لذلك. كيف وافقت على مرافقة امرأتين لا أعرف حتى اسميهما؟، يا لغبائي.
في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، بادرت الشقراء صاحبتها بالقول:
- من الآن سنخرج لوحدنا، هذا الصباح سنترك صابراً في البيت ونضيع في الشوارع، هيا يا سمرائي ارتدي ملابسك.
وفيما هي تكمل زينتها عرضت على السمراء بعض حليّها، فأخبرتها بعدم رغبتها فيها، بل قالت:
- أريد أن أكون حرة طليقة، ولو كان بيدي لمشيت دون ثياب.
علـّقت الشقراء:
- والله فكرة، سيأتي الزبائن بالعشرات بل المئات.
ـ أهذه حدود تفكيرك؟ المال فقط، ولا يهم بأية وسيلة، تتحايلين على نفسك من أجل المال؟
مشتا على رؤوس أصابعهما حافيتين، والأحذية تتدلـّى من أيديهما، وقرب باب الشقة امتدت يدان قويتان وجرّتهما:
-أيتها اللعينتان أتخرجان من دوني؟
-لا، لا.. وجدناك نائماً، فقررنا أن ندعك تستريح من عبئنا اليوم ونخرج وحدنا.
-لقد اتصل المحفوظ واعتذر، وطلب منى الاعتذار لك. لكن لا تنسي أنه وضعك نصب عينيه، وهو لا يتراجع.
برمت السمراء شفتيها استنكاراً :
- هذا شأنه، له ما يريد ولي ما أريد. ويا للزوجات المسكينات، أيعقل أن تُسلـّم أمور الدول لرجال طبول؟
- شقراء هل تذكرين وليداً حين صرخ بصوت عالٍ:
- لا فُضّ فوك يا نزار قباني؟
- قال صابر مستفسراً:
- وماذا قال نزار قباني؟
قال؛ الدولة منذ بداية هذا القرن تعيد تقاسم الطبلة.
ـ دعونا من الطبل والطبالين، لقد دعاني صديق على العشاء البارحة، وسوف تعجبكما السهرة، فيها رقص شرقي وغناء.
انحنت الشقراء بدلال يوحي بالموافقة، بينما السمراء صمتت.
ـ هل أعتبر الصمت علامة الرضا؟
- أجابت السمراء: فسّره كما تشاء، بشرط أن لا أدخل غرفة نوم أحد.
- أتحبان أن لا أرافقكما؟
- بل نرجوك، لنا رغبة في التصعلك.
- عودا مبكراً.
- شكراً.
الساعات سماء في ملح، تمطر على أرض كلها أجراس، وعلى عدد الرنين تسجل الخطوات، المدينة بسيطة وغير معقدة، وبقدر ما تقدم من هدوء واحترام الآخر تُحترم. التفاصيل لا يمكن دمجها، إذ لكل محل شاهدتاه في الشوارع خصوصيته، ولكل مقهى طرازها المميّز، وساعات النهار لا تشبه بعضها، ومن الصعب الإمساك بحالة واحدة للطقس، فمن السهل أن يتحول من المشمس إلى الغائم أو العاصف.
تحت مطرقة اليوم الثالث وجهان حوّلتهما لغة فنان إلى إكسير عشق وفراش، سُرّة الأرض تمشي على شكل امرأة. الحسناوات الشقر كؤوس معدّة للاحتساء، فضول العيون المتورّمة من السهر والخمر تدقق بتفاصيل الأجساد العابرة، لا فرق بين المحجبة والتي وشمت ما تحت السرة. من خريطة الحافلات في الشارع عرفتا رقم الحافلة المتجهة إلى (أجورد رود) حيث يلتقي الضدان، البياض الإنجليزي والسمار العربي.
العابرون مغامرة لحظة تستجدي إشارتها الخضراء..
الهواتف المحمولة تطرق بتهذيــــــب دوران الرأس حول نفسه. اكتشافهما لهوامش الحياة وسطورها المحشوّة بحبر يرتجف خشية أن يُكتشف زيفه، اتضح لهما ذلك في أول خطوة بعد النزول من الحافلة.
انطلق صمتهما الجاد في إلقاء نظراته الشهية، مثل أول استلطاف كان مشروع حب اختار قُبلة علنية ورمي تقاليده إلى الخلف ، الأحلام في بلاد الجنّيات تقطع تذاكر تجربة الحلم والفعل، بعيداً عن السماء العربية، حيث ليس من الضروري على صاحبة المبادرة أن تتفادى الخطأ.
كثيرات جئن لتجربة فساتين منكمشة لفرط ضيقها، فيما عباءات تعطي أرقام هواتفها النقالة، وكرديات يدفعن أطفالهن بالعربات متزينات بما لا يتناسب وزينة الصباح. أساور ذهبية جئن بها من الكويت في زمن غزو الأفاعي النهمة، مشروع لحرّية تستعطي من أجل اجترار الذات ، كراسي المقاهي خاوية بخواء من تهافتوا عليها يصرفون رواتب التقاعد عن العمل في الوزارات، طواويس بشعر أحمر.
محلات عربية البائع والبضاعة. دلال مصطنع وغنج مفتعل لشابات فررن من واقع ( الـ بدون ) ، يمشين بكعوب عالية وأظافر اصطناعية وعدسات ملوّنة، في محاولات اصطياد مواعيد تملأ فراغ الوجوه والأبواب المعدنية والمفاتيح الصدئة.
كرد، عرب، عجم، صوماليون، أوروبيون شرقيون، هنود، باكستانيون، جميعهم أعناق تتخذ لها حيزاً في هواء عاصمة من أهم عواصم العالم. عجائز تعبُّ من ثيابهنّ روائح البخور، وأطفال مرافقون، جلسوا في المقاهي المطلة على الشارع. كراس خشبية تناولت قبــل قدومها حبوب ارتفاع ضغط الدم والسكري، شعر مصبوغ بالأسود الكثيف، وأسنان مستعارة ونظارات دُبل. وأحاديث تدور حول سهرات الليل ومفعول حبوب (الفياجرا) المنقذة للرجولة الفالتة من عقالها. لفت انتباه الشقراء حديث رجلين يسعلان، قال الأصغر:
- في بلدنا الدولة تحافظ على سراويلنا، فأعطت أوامرها لوزارة الصحة أن تصرف (الفياجرا) بالمجان كما تصرف (الباندول).
- جموح عربي ترك ساحات الوغى وتفوّق على وهمه وتركه الطائرات والصواريخ تفتت لحم الأطفال، وصار يناقش فاعلية الفياجرا.
- سألت السمراء؛ هل سمعتِ ردّ العجوز؟
- نعم، يريد أن تُشاد في الساحات تماثيل لمبتكر الفياجرا.
- احتسى قهوته واستند على عصاه متابعاً:
- تخيّل يا بوفهد نصحو من النوم فنلقى التماثيل كلها منتصبة ذكورتها.
- أجابه صاحبه بضحكة عالية:
- لا، والحمام ذرق عليها.
- انفعلت السمراء، وفلت من فمها كلام بغير إرادة منها:
- هي لا تستحق غير الذروق.
انزوت خلف صاحبتها، مشتا مسرعتين تسترجعان بعض الأقوال عن الرجال والثراء، والتضحيات والخسارة.
أكدت الشقراء قائلة :
- والكحل العربي أيضا له دوره
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
اقتربتا من أسرة آسيوية، زوجان وابنتهما في الثانية من العمر، بشعر أسود ناعم، وعينين بالكاد يبرق سوادهما. لعبت الشقراء بشعر الطفلة، فبادرتها الأم بابتسامة شاكرة. رغبتا في احتساء الشاي، فدخلتا مقهى فرش كراسيه على قارعة الطريق.
ذهبت الشقراء لشراء الشاي تاركة صاحبتها محرجة من عيون الزبائن، وسمعت صوتاً صادراً من خلفها:
- بو سالم.
- أجابه شخص بصوت أجش: -
- نعم.
- أنا أحب الحصرم، وأنت تحبه؟
- معك حق بو سالم، الحصرم يدك بس التي تقطفه قبل ما يمسه واحد غيرك (اقترب منه) :
- عندك واحد أو نجيب لك؟ت
- عندي نوع هندي، وطبّاخة، وتخيل التوابل الهندية الحارة.
- ـ أنا عندي عربية منك وفيك أحسن، ومثقفة بعد، طالبة جامعة.
- ـ لا خوي، عربية ما أريدها، راح تدخل في القواعد العربية وتقول لي: خبزَ يخبزُ خبّـاز.
- إي بس الخباز والخبز مفعول به.
- هنا بكافيه ديانا ، كل شيء طازج.
اختلفت الأحاديث وتشعبت باختلاف لغة أصحابها ولهجاتهم، وعلى مقربة منهما كان رجلان يتبادلان الأحاديث السياسية. أحدهما نحيف جداً، أبيض البشرة، شعره مائل إلى اللون الكستنائي، وعيناه عسليتان واسعتان.
الآخر أجعد الشعر، أكرش حنطي، يتصفح العناوين الرئيسية في جريدة. وضع الجريدة جانباً وراح يسأل صاحبه:
- فاضل، هل تريد شيئاً مع القهوة؟
- بس قهوة من فضلك.
- ألا تريد فطيرة محشوة بالتفاح؟ (وغمز له مشيراً للحلوتين) الفطائر حلوة وشهية اليوم.
- وهو كذلك يا طالب، فطيرة بالتفاح .ومشـّط شعره المتجعد بإصبعه.
جلست الشقراء تسترق السمع، وتطيل النظر بحثاً عن فريسة، مزهوّة بجمالها الذي لفت انتباه الجميع، بينما السمراء مدّت رقبتها لقراءة العنوان الرئيسي في الجريدة بيد طالب ،اكتشاف مقبرة جماعية جديدة .
أغمضت عينيها، وفي صدرها صراخ كصراخ وليد، وهذيان غاضب كهذيانه، وعـّلقت قائلة:
- في كل شبر قصّابون يكتبون بحبر البَـلَه، وفي كل نشيد صباحي تأريخ عفن.
- لكزتها صاحبتها:
- خير إن شا الله، صرنا مثل وليد مجانين؟
- انتبهت إلى كوب الشاي وجدته بارداً، وصحن الفطيرتين فارغا:-
ـ هنيئاً، وبألف عافية.
ـ إي شنو أسوّي، أنت تهذين بمثالياتك ومعدتي تهذي من الجوع، سكّـتها بالفطيرتين.
ـ الجماعة غاروا منّـا، فاشتروا فطائر بالتفاح.
ـ يا غبية، هذا غزل على الطريقة العراقية.
ـ يبدو أنهما مثقفان، فقد تحدثا في أمور ثقافية وسياسية.
ـ حبيبتي، الرجل العراقي مِن يريد يفرد عضلاته يحكي في الثقافة، ومن يريد يغازل تقرقر بطنه.لا أحد يسأل عن البسمة التي تعصر الروح ، لا عَرَق في جلد الرجال ليعرقوا خجلا ، ( صمتت برهة ):
- أكملي حديثك ، هل ترغبين بشيء خاص بك ؟
ـ أرغب أن أنام على حصير مفروش على حافة النهر لأشعر باشتهاء وليد، وأن أجلس القرفصاء تحت جذع نخلة، وأدخل بيتهم وأجد أمه خبأت عشاءه في المطبخ وغطته بصينية معدنية، أدخل خلسة أكتشف مكان (الكليجة ) المخبأة للعيد، وأشترى ربع عرَق؛ وأسكر على السطح، وأقرأ ديوان محمود درويش:
( لماذا تركت الحصان وحيداً ).
ـ ذبحتِـنا بمحمود درويش ووليد وأشعاره، و أدونيس.
ـ أعشقهما كعشقي لوليد، اسمعي ماذا يقول، سمعته وهو يرسمنا يردد:
أغلقوا المشهد وانتصروا
عبروا أمسنا كله
غيروا جرس الوقت وانتصروا .
هذا الشاعر خلق للزمن العربي كله.
تساءل طالب وهو يتصفح الجريدة :
- وين كانت أمريكا عن المقابر الجماعية؟ معقول ما تدري عيني؟. والله غمضت عنها مثل ما غمضت عن حلبـﭼـة والأنفال وانتفاضة الجنوب.
بادره بالرد فاضل :
- عيني أفاعي وأكلت بعضها. كش ملك، حط ملك جديد ، عساهم نارهم تاكل حطبهم.
ـ أخ لوما الشعب أكل خرا، لكن ما يخالف احنا نرجعه لحلوقهم هالزمرة الطاغية وأتباعها.
قالت الشقراء:
- علينا أن نسرع يا سمرائي، الحديث صار خرائي، وشكلهم مفلسين.
عبر الشارع باتجاه المقهى رجل حيّوه من بعيد باسم طاهر، بدا كمن امتلأ قلبه بمعاناة جديدة ، سحب كرسياً وجلس قرب فاضل، ثم حدثه بطريقة إياك اعني واسمعي يا جارة :
ـ هذا الجمر كله يمّـك ووجهك أصفر؟.
رغبت الشقراء في المغازلة، أعطت فرصة لطاهر أن يتحدث:
ـ ما اسم الحلوتين.
ـ لا نعرف (بصوت واحد).
ـ أهذه سياسة؟ (وردّ على سؤاله بنفسه) :
- ولمَ لا، فالسياسة صارت تشريب .
مدّ بوزه وفتح منخاره مستنشقاً عطر الشقراء، تأوّه كمن يلح عليه جرح قديم :
- لا تحتاري سيدتي، شمس وفجر، ما رأيكما بهذين اْلاسمين ؟ (وواصل) جميلتي:
- الاسم غير مهم، المهم هو الفعل. أنت شمس، والسمراء فجر، اتفقنا؟ حبوبتي السمراء أنت تسوين مليون مونيكا، ولو شايفك (بوش) ما دخل بغداد.
سحب فاضل قدمه العالقة تحت الكرسي:
- يو.. لعد فلوس نفط العراق وين راحت، على القوّادين والقصور والمونيكات، وهات أبصم بالعشرة.
ترك طالب الجريدة التي قلبها على الصفحة الثقافية، وشارك صاحبيه قائلاً:
-لا تستهينوا بالنساء، دساتير وحياة بأكملها أعيدت صياغتها بسبب النساء.
- رعش بدن السمراء لصورة نساء عراقيات أمام أكداس من العظام، شبكت يديها بتوتر، وطلبت من صديقتها الخروج.
ودعتا رفقة المقهى، وذابتا في ظهيرة الوقت. لعبت الريح بثوب شمس، تلصص أشيب على ساقيها، كما لم تنس الأخرى فمرّت بشعرها وعبثت بغرّتها.
ـ هل ترغبين في الاستمرار بجولتنا يا فجر؟
ـ ها هي الحافلة وصلت أريد العودة.
صعدتا إلى الطابق الثاني، وجدتا الكرسي الأمامي فارغاً، فجلستا باتجاه الزجاج. سألت الشقراء:
- لماذا الصمت؟
ـ أحاول أن أصرّف لغوياً اسم أمريكا، مثلاً كلمة كرّ، تعني رجع الفارس إلى شوط القتال، فهو كرّار. ثم أم ، اعتبرت نفسها أم العالم. ولو صرّفنا كلمة (نيويورك) فالمصيبة واقعة بلا جدال، فهي من تحت الخصر، مثلاً ( في تقديم الحروف وتأخيرها يصبح الاسم ورك ، ومن الورك تتشعب أمريكا كلها هل أكمل؟
ـ كفاك يا فجر، ألم أقل لك إن العهر أصل الأشياء؟
حال وصولهما شقة صابر، وجدتاه منتظراً وجائعاً، فرحب بوصولهما:
- جئتما في الوقت المناسب، أنا جائع، خذي هذا الرقم واطلبي ما يروق لك من مطعم (السلطان ) يا شقرائي.
التفتت إليه؛ اسمي شمس، وصاحبتي فجر.
- أخيراً، أخيراً.. عرفت الاسمين و إن شاء الله حقيقيين.
أجابتا : غير مهم، كل شيء في عالمكم غير حقيقي.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
فصــــــــــل
عودة السماء إلى أهلها
-----------------------------
أوراق الحرب
تلعب بذكاء
والغامضُ مؤيدٌ
لا لزوم للتسرّع
أيها الحلم الأصفر .
-------------------------------------------------------------------------
أنا طريقٌ تصغي في صمت الليل
إلى خطأ الذكريات
طاغور
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
1
منذ تلك الليلة التي رجع فيها وليد إلى البيت متأففاً، يدخن سيجارة إثر سيجارة، ثم يرمي أعقاب السجائر على الأرض، يفتح الشباك ويقف طويلاً، يتصرف كطفل مجنون في وسط الصالة، ورغبةٌ مرسومة على وجهها لمعرفة نوع الهدية التي تركها على الأريكة حال عودته من لقاء صديق عربي وطلب لقاءه في مكان يختاره قريب من مسكنه.
أصابها هوس معرفة ما بداخل علبة مغلفة بغلاف فضي، كرد لصداقة قديمة وبعمق تلك الصداقة راح وليد يفتح العلبة بمودة ، أحسّت بطعنة في صدرها لدى رؤية الخنجر، رغم جماله لكنه متنكر بزيّ الموت المرصع بحجرين كبيرين من الفيروز، ساعتها هزّ وليد رأسه ورماه على الأريكة قائلاً:
- ابن الكلب ألم يجد غير الخنجر كذكرى أو عربون لصداقتنا القديمة، كنت أفضـّل حفنة من تمر، أو قليلاً من تراب، هما أثمن عندي من خنجره الفضي.
وقتها رغبت أن تنزع أيامها وترمي بثوبها الأحمر عليه لتبلـّه بالحقيقة الظامئة ، لكنه وقف في مكانه المعتاد، وبحرارة من شق جرحه بسكين حادة غمس فرشاته في اللون الأحمر، وراح يثنّي ثوبها .
وجدته يرسم بالمقلوب ويردّد عربدة اعتادت عليها، لكنّ ما حيرها اختياره لثوبها تلك الليلة دون الشقراء، وكلما وضع لمسة من لمساته تناثر هذيانه في أرجاء المكان:
- برج الثور، يرفع فخذيه قبل أن ينطح، أما برج العقرب فيمتص ما علق بالأرض من دم، بينما برج الميزان يزن الجرح بالجرح ، ليأتي دور برج الدلو ويمارس لعبته في سقي الأوجاع بحثا عن موتى في البيوت العاقر .
كان يتوجب عليها النظر في التلفاز بعينين وقلبين وعقلين، لتستوعب ما يحدث.تمنت لو لم يرسم لها وليد عيوناً كي لا ترى التلفاز ينقل حالات النهب، مستشفيات بأكملها تـُسرق، امتزج العرق بالدم، والناهبون يتنقلون في المتحف العراقي بكل حرية.
تمنّت أن تقطع يدها وتضعها بدل يد وليد المبتورة، وأن تخنق من ساهم ببترها، معتقدة أن الوقت قد حان لاستخدام يديه لمحو ورسم ما تجاهله البؤس.
- أما كان بوسع المنسحبين الاحتفاظ بقليل من الشرف؟
كرّر سؤاله وكررته معه في قلبها وعقلها، وهو يصيح :
- ليت يدي تطاوعني وليت الوقت المقلوب يعتدل، أهذا انتقام الأهوار لعطشها؟ أم انتقام خياشيم الأسماك المخنوقة؟
الدكاكين، البيوت، القبور، الذين ذهبوا ولم يرجعوا؟ لا أريد انتقامك أيتها اليد المبتورة، كنت أرغب أن تحصدي من قطعوك فقط، لا أن يؤخذ الشعب بجريرة الملك.
لكن لا.. لكل ثورة بركان ولكل بركان نار، ومن النار تعود السماء إلى أهلها، ولكي تعود إلى أهلها لا بدّ من ثمن.
علينا أن نستعدّ منذ الليلة، ولن نبقى عائمين بعد الآن، والشاطر من يغتنـــم الفرصة، وإن جاءت من يد عدو، المهم كيف نكمل الصورة. لقد انقلبت الكراسي على قفاها، وبانت عوراتها المخصية.
راح إلى ألوانه، وجلس يلعب بفرشاة صغيرة، يلفّها حول دائرة وهمية، غمسها في اللون أكثر من ثلاثين مرة، ومسحها. استخرج علبة مبيد للحشرات، ورش الغرفة. دنا من لوحته كأنه في حالة تقبيل:
- خيرٌ لي أن أكلمكما، أحقاً أيها الرسم المشلول، أحقاً جاءتك العاصفة؟ أم مازلت مجرد علبة صابون تخاف الماء وتخاف المطر؟
سمع صوتاً يناديه:
- لا تشك بالأسئلة.
فتح ذراعه مذعوراً:
- جلجامش لم يصادق أسئلته، لذا سرقته الحية.
هزّ رأسه :
- ما بك يا وليد، هل أصابك هوس أم مسّ من الجنون؟. لماذا كلما ضاقت بك الأرض كلمت نفسك ؟ قلبك بحيرة فاغتنمه ولا تيأس .
تمنّت أن تشتعل بحرائقه، تدخل الحمّام معه، تفتح الدش على آخره. جسدان تحرقهما الرغبة، هبط عليها سحر حلمها فشعرت به يلف شعرها المبلـّل على خصره ويعصرها بين ذراعيه، لم يفصل بينهما غير النبض. أثارته خصلة متمردة من شعرها، مسكها بيده وداعب بها نهديها. وحين صحت وجدت فرشاته بلونها الأسود تفصل بين نهديها، رغبة في تحويل الحلم إلى قرار.
إنها اللوحة الأخيرة ويكتمل المعرض، رقمكِ ( ثلاثة وخمسون) ، أنتِ إله قلبي وأنا طفلك، ستعودين لي وبك أخترق حاجز الإعاقة. يد واحدة، ليكن، فقط أكملك، أما تحدّى بيتهوفن الصمم في سيمفونيته التاسعة؟*
صحت الشقراء من نومها، مدّت ذراعيها على آخرهما وتثاءبت:
- أنت صاحية؟ بماذا كنت تفكرين، بفنانكِ؟ أقسم أنك معتوهة مثله، سوف يرتمي بأحضاني ساعة عودتنا، وسيفتح منخاره ليشمّ عطري حتى يختنق به ويتركك ضائعة في حبك العاجز. أنا أكرهه وأحقد عليه وعلى أصباغه، إنه نصف رجل لا تنسيْ ذلك.
- العجز لا يعوق الرجال، وهو رجل مبدع، مثل غويا؛ الفنان الذي هرم وضعفت عيناه، كان يسمع حفيف الفرشاة وهي تحتك بسطح اللوحة، ومن بصيص صغير كان يرسم. من يدري، ربما سيتحدث التاريخ عن وليد،. ألم تسمعيه وهو يردّد مقولة بيكاسو (يجب أن تُفقأ عين الفنان، ليرى من بصيرته ) ليس من السهل أن يغير المرء قناعاته.
كان الأمر بالنسبة إليها بمثابة باب موصد، لكنها رغم ذلك فرحة لأنها تتحدث عنه كثيراً، كانت تسمع حتى قرقرة بطنه وهو يكمل رسم وجهها وتنفعل معه حين ينفعل، وتفرح وقت فرحه وتحزن لحزنه.
حين احتدّ النقاش بينهما سمعتا طرق باب الغرفة:
- هيا، كونا جاهزتين، إنها الثامنة مساء ولدينا نزهة من العمر.
- فتحت فجر دولاب ملابسها، وجدت فستانها الأحمر معلقاً، شمّته ومرّرت يدها عليه. سحبتها شمس بقوة:
- كفي عن رائحة مجنونك (ومازحتها) أنت مجنونة من نوع آخر، هل سال لعاب نصفك الأسفل؟
- أنت وقحة، وقحة لا تعرف الحب. تعالي، هل أنت راضية عن اسمك؟
- لقد سألتني مراراً السؤال نفسه، وأردّ عليك بالجواب نفسه:
- نعم راضية، أحسن من لا شيء، المعتوه خاصتك لم يعرّفنا باسم.
انضمّ إليهما صابر بصوته العالي، وبمزحته الماجنة والفاضحة ما بين السراويل. ولما شاهد فجراً متذمرة، مسكها من كتفها قائلاً :
- إنها المفتاح لباب الثراء. ثم جلس على سرير الشقراء:
- ماذا لو حكيت لكما عن حادثة المطعم؟ هل ترغبين بذلك يا سمرائي؟
ـ قل لي فجر، ألم نقل أصبح لنا اسمان.. ثم إذا كان الحديث عن فخذيك فلا أريده.
- أخذ شمساً بين يديه، قبّلها قبلة طويلة، وعضّ شفتها السفلى.. فلتت من بين يديه هائجة :
- يا ابن الكلب، أوجعتني بوحشيتك.
راحت تنظر إليه بعينين غاضبتين، وتكمل ارتداء ملابسها.
بادرته فجر بسؤال حيّرها :
- لماذا سمّاك أهلك صابراً، وأنت عجول طيب وحقير، ودود وحاقد، تحمل بداخلك عدداً من المتناقضات؟
شابت وجهه حمرة، وشعر بانقباض في صدره، لكنه قرر التظاهر باللامبالاة:
- يولد الطفل وهو لا يعرف إن كان أبواه صالحين أم جزّارين، وأبي من الصنف الثاني، من الذين يكسرون الكؤوس والأباريق على رؤوس أطفالهم.
- في السنة الأولي وأنا رضيع في حضن أمي، شجّ رأسي (رفع شعره ليريهما الأثر) أبٌ لا نعرف سرّه، يغيب بالأيام والأسابيع لا نعرف وجهته وماذا يملك. كلما عاد إلى البيت بعد غياب، عربد وشتم وأمر ونهى، وما على أمي غير السمع والطاعة. يتيمة زوّجها عمّها من ابنه ليصل الرحم ويحافظ عليها بعد موته، وهو لا يدري أنه وهبها إلى أكبر شرير. وللأسف الشديد، مات عمها بعد زواجها من أبي بثلاثة أشهر، وتركها بين مخالب زوج لا يحبها.
سمعت أمي من إحدى الجارات أن له حبيبة في بيروت، ونحن نعيش في جنوبي لبنان، وجدّي أرغمه على زواج لم يرضَه. فأبي كان وسيماً وجميل الملامح، وكان جمال أمي أقل من العادي ولم تكن من حاملات الشهادات لتعمل وتنفق على نفسها. أخذها عمّها بعد وفاة والديها في الحرب الأهلية اللبنانية، وربّاها وهي ابنة ثلاث سنوات.
كان بائع خضار، لديه سبعة أطفال، خمسة ذكور وبنتان. وزّع كل صبي في شارع، ليجد له مهنة، سباك، قهوجي، خياط وما شابه ذلك.
أربعة من أولاده استمروا في ذلك، إلا البكر تمرّد على الشارع والعمل مع أبيه، واتخذ وسيلته في العيش واختيار قراراته.
كان يأتي آخر النهار بجيوب ممتلئة، ويضع المال أمام والديه. لا يعلمان من أين جاء بالمال، ويشكّان في مصـــــدره، ولذا قرّر جدي تزويجه حين بلغ العشرين، متوقعاً أنه سيعقل ويعرف قيمة الأسرة حين يرزق بطفل. وكانت أمي الضحية، خصوصاً أنه قرر الانفصال عن بيت أبيه، واختار لها داراً بعيدة عن دار أهله. فعاشت وحدها في أيام غيبته، صبية في الرابعة عشرة بين جدران ووحدة، حتى رزقها الله بي.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
2
لطالما سمعتها تشكر الله على هذه النعمة، فقد وهبها من يؤنس وحدتها ويعوّض أيامها الخاسرة. لم أتذكر يوماً أنه قبّلني أو ضمني إلى صدره، ولم أسمع منه إلا مقولة واحدة:
- يا ابن اللحظة الخطأ .
كان المصروف الذي يتركه يكفي لعيش كفاف، ربما كان ينتقم من أبيه بنا. وفي ذات يوم غاب، ولم يعد.
عشت مع أمي، تسحقنا الأقدار، حتى حقدت على الآباء الذين كنت أراهم يعبرون الشوارع ممسكين بأيدي أولادهم، وحقدت على ملح الدمع.
لم أملك جسدي كطفل، وقررت أن أركن الطفولة جانباً وأعول أمي وأتكفـّل بنفسي. فعملت عند صاحب كراج لتصليح السيارات، وافق على إيوائي فور أن شاهدني. علّمني كيف يصبغ الزيت بنطلوني الوحيد، وكيف تتقرّح أصابعي من تلميع السيارات .
كما عوّدني أن يترك سائله المنوي يسح على مؤخرتي. تحملت إيقاع حياة أقسى من الحياة مع أبي، فقط لتأكل أمي.
كم تمنيت أن يعود إلى البيت ويشبعني ضرباً، كلما دافعت عن أمي، وأن يمســـــــح السائل المنوي عن خسارتي. ثم قررت ترك الكراج بحثاً عن عمل آخر، غير أنّ مرض أمي المفاجئ جعلني أنسى طفولتي وأتركها تحت حصار رجل شاذ. بقيت سنتيــن حتى هبّت الرياح العاتية، وقت عودتي من العمل وجدت أمي جثة هامدة.
ضاقت بي السُبل، طفل لا يملك مالاً يكفي لدفن والدته، وتركت رحمة الجيران تقوم بدورها، فدُفنت أمي بتبرّع الجميع.
يومها تكسّر الزمان على ظهري، ولم أرغب في البقاء بالدار. دفعت لصاحبها قسطاً متبقياً علي، وتركت قدمي للطرقات.
لطالما تحدثت مع الشارع كرجل لرجل، أسأله من أنت؟ فيجيبني : - أسكت أيها الناقص.
وكان التصعلك أرحم من رجلين، واحد سرق طفولتي، والآخر استعبدني وحقد على اليوم الوحيد الذي نام به مع أمي.
دخلت بيوت دعارة، نمت مع قوّادين، مارست كل الطرق غير الشرعية في تحصيل المال، وفي أي طريق أمشيه أحقد أكثر.
لم ترغب بسماع المزيد من الحزن، نهضت لتمشط شعرها الأسود، رفعته ولفـّته على شكل كعكة من الخلف.
ناداها:
- اتركيه على سجيته، أكثر ما يثير الرجل في المرأة جنونها، من شعرها إلى الفراش، وشعرك الأسود المجنون جنني.
استدارت إليه وتركت شعرها على وضعيته:
- هل تنتقم من الأثرياء، أم تمتصهم كما امتص الشارع ؟
- أغلبهم سيدتي مجرد أجساد ترتدي أكاذيبها، تشتري لعريها من أغلى الماركات العالمية، غالٍ من أجل الرخيص، وكلما رخص الجسد غلا الثوب. هم سماسرة حكومات، عبيد كراسي، وأنا أستعبدهم بتعففهم المصطنع.
أما تخفـّيهم تحت عباءة الدين والحلال والحرام وعشرة آلاف يجوز ومائة ألف لا يجوز يجوّزونه من أجل متعتهم، فهو لصوصية حتى على الدين والفنادق الفخمة.
إيه.. سأنتظركما في الصالة، ريثما تكملان زينتكما.
ـ لمَ أنتِ حزينة يا فجر؟ سألت شمس.
ـ هل لكل الزناة قصص وأساليب جعلتهم يطرقون أبواب الخطأ؟
أجابتها شمس، وقد ارتدت ثلاثة خواتم متقاربة الألوان، وقميصاً أزرق اللون، وتدلـّت من عنقها قلادة ذات فص أزرق:
- لكل الخطايا أسباب تكتشف من خلالها الحياة، وإن تغيّرت الأسماء والأمكنة، تعدّدت الأسباب والزنا واحد.
اختلطت الأحاديث بين الجد والمزاح، وصابر يمرّ بهما في شوارع لندن قاصداً مكاناً معيناً. وبينما كان الكلام ثنائياً بين صابر وشمس، كانت فجر مغلفة بصمتها، وخدشت سمعها نكتة فاضحة، فانبعث صوتها مبحوحاً، حاولت تغيير مجرى الحديث بسؤال:
- صابر، لمْ تعرّفنا على جيرانك، لماذا لم تشركهم معنا في سهرتنا؟
- في الغرب لا توجد مساحة كبيرة للعلاقات، ونحن سكارى ثقال، إذا لم تجد لك حاجة لدى أحد فانسَهُ. هنا كلٌ صاحب نفسه وجار نفسه، والسكر فاكهة الولائم؛ أحمد الله أني لا أملك شهامة لتحترق في الطرقات. سأركن السيارة هنا، ونأخذها سيرا على الأقدام، أريد أن أريكما منطقة (سوهو ) شارع الشبق البشري، أقسم لكما بحياة من نجا من فخ الأفخاذ، الرواية الوحيدة التي قرأتها هي (الضياع في سوهو ) لكولن ولسن.
رجعوا إلى السيارة بعد مرور عابر في سوهو، بسبب موعد لم يفصح صابر عنه، وكان بين اللحظة والأخرى ينظر في وجه السمراء من مرآته، ويدور سؤال في خلده، عرفت أن لديه ما يريد قوله، واستوضحت منه :
- هيا، هاتِ ما بحوزتك، ألديك سؤال؟
ـ نعم، ما يحيّرني جمعك بين الثقافة والتعرّي.
أجابته متبرّمة:
- افتراضك بأني مومس في محله، وأنا مومس بغير إرادتي، ولكن جئت مع رفيقتي بإرادتي رغبةً في التعرف على دنياكم، وأن أرى الحياة وجهاً لوجه.
- وهل عرفتها؟
- نعم وعرفت لماذا انزوى وليد كي لا يبلـّله ماؤكم العكر.
- إنها سنّة الحياة، ومَن ذلك المبجّل الذي منحك صفة المومس؟ وهل مازلت عبد اختياره؟ حتى الروح عزيزتي عبدة لجسدها، كلاهما عبد للآخر، وكلاهما سجين للآخر.
فتحت الشقراء عينيها الواسعتين مستغربة:
- الله الله، صابر اليوم فيلسوف.
- ـ ولمَ الاستغراب، أنا حقاً فيلسوف، أحياناً الحشرة تفلسف قرصتها هكذا (وقرصها في فخذها).
- رفعت يده بقوّة، وقرصته في كفـّه :
- أيها الوقح ألم تتكاشف ونفسك في المرآة مرة؟
- لستُ بحاجة لذلك فأنا قوّاد علناً لا أملك وجهين.
- هل ستأخذنا لمطعم؟ أقصد نحن مدعوون للعشاء؟
- أجابها بتلكؤ؛ نحن.. نحن.. مـ..
- نحن ماذا؟ وأين ستأخذنا؟.
- طلب منها الهدوء؛ الحياة خُذ وهات، وموهبتك يا ساحرة الرجال في إطفاء نارهم.
- وأين سنذهب؟.
- في دار محفوظ السلامة؟ (سألته السمراء).
- بل رجل آخر (وأقسم أنه شريف وصاحب أسرة، ويجب أن يتمّ ذلك بسرّية).
- هل لي أن أعرف عنه شيئاً؟
- إنه هادئ الطباع وخفيف الظل، كما لم يكن زير نساء. إنه يختار من تدخل قلبه ومن يشعر بهواها يأخذ عرشا في صدره.
- هذا احتيال على الحب، هل أحبّني؟
- تصوريها كما تشائين، وصدقيني لو لم يقع في حبك لما طلب مني.
لم يعجب السمراء التطاول على الحب، فردّت عليه:
- كيف يكون الحب في خدمة الساقطين؟ وأين سأذهب أنا؟
- سنتعشى أنا وأنت، ثم نرجع إلى شقتي.
- لا أرغب بالعشاء، عُد إلى البيت مباشرة.
- وهذا أفضل، لك ما تشائين.
في الطريق شبّت نار قلبها، بعد أن أوصلوا الشقراء إلى شقة لا تعرف رقمها، في شارع عرفت اسمه من خلال لافتة مكتوب عليها اسم (بيكر ستريت ).
حيثما تسقط عيناها على مكان، تجده فيه، إنه مختبئ تحت جفنيها، يطرق رئتيها فتشعر به يتخلل أنفاسها.
قرّر صابر اختراق صمتها:
- تملكين عينين كعيني أمي.
- يعني تجد فيّ أمك، وهذا يطمئن.
وقت وصولها شقة صابر، أسرعت إلى الغرفة وأغلقت الباب، بينما صابر أعدّ كأساً من الويسكي ووضع أمامه صحناً فيه القليل من الجبن الأبيض والزيتون.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
3
ارتدت قميص نوم أحمرَ بتول أسود، وتمددت على السرير. وجدت نفسها محاصــرة بسكنات وحركات وليد، وأحاديث الأثرياء السمجة. تعجّبــت من عدم مللهــم من مناقشــات وأحاديث متكررة حول أسماء السيارات وأنواع الهواتف النقالة وماركــــات الساعات الذهبية والماسية. استرجعت ذاكرة المعرض الوطــني وعشرات الصور، للحروب والملوك والنساء، وتمنّت أن تجد صورة لمدينة الناصرية، رجعت إلى صالة وليد ووقفته الطويلة أمام صورة ملكة سومرية.
لطالما غارت من الصورة شبعاد، هذه الصورة التي كانت جواز سفره عبر الأماكن والطرقات ولصقها على صدره، رفض أن يراها شرطة مطار هيثرو، كي لا يتركوها تطلب اللجوء معه. في الغربة نال جواز سفر بريطانياً، وبقيت لصيقة صدره ، له وحده. نهضت من الفراش و حدثت نفسها في المرآة:
- يا عابسة الوجه، لا أحد يتحدث معك أو يصل إليك.
دخل عليها صابر ثملاً:
- أنا من سيتحدث معك ويصلك (داعب رقبتها) ها أنت تجدين مَن يثيرك.
- لا تثيرني الكلاب.
ضربها على وجهها:
- أتنعتينني بالكلب؟ طـُهرك المصطنع لا يعبر على صابر الذي بيده مفاتيح النساء.
جرّها بقوة وأمطرها قـُبلاً، ثم طرحها على السرير، وكفرس عنيد صعب الترويض أفلتت من بين يديه. لحقها إلى الصالة حين هربت:
- لن تنالي جائزة نوبل للطهر.
ولحظة حاصرها بين الحائط وصــــــدره الضخم، ضربته بالمزهرية على رأسه، وهرعت ترتدي ملابسها. خرجت مسرعة، ثم تذكرت حقيبة يدها حيث وضعت فيها نقوداً أخذتها من شمس، وضعت الحقيبة على كتفها، وخرجت مسرعة، لم يخفها دمه الذي سال على وجهه، كان همّها الإفلات من قبضته.
مشت نصف ساعة تاركة جسدها وروحها للتيه، لا تعرف أي اتجاه تقصد. وقفت تستطلع الحافلات، وحين وقفت الحافلة رقم (7) صعدت، وجدت كرسياً فارغاً قرب امرأة سمراء ذات شعر قصير ونظارة طبية، جلست قربها، لم تعرف ما إذا كانت الحافلة ذاهبة أم راجعة. فتحت حقيبة يدها واستخرجت منديلاً مسحت به عينيها الدامعتين، بادرتها المرأة قائلة:
- الحياة يا ابنتي غالية وقصيرة، لا نضيّعها بالدموع.
- ـ معك حق يا خالة، إنّ أيامي معدودات.
ردّت عليها مبتسمة:
- وغداً يومك الخامس.
لم تنتبه لكلامها، كانت مشغولة بكيفية قضاء الليلة وغربتها. وقفت الحافلة، صعد ركاب ونزل مثلهم، وجدت المرأة تسألها:
- لا تملكين مكانا تذهبين إليه أليس كذلك؟
- وكيف عرفتِ يا خالة؟
- أعرف.. ها قد وصلنا إلى (كوينزوي)؛ وبيتي قريب، وأعتقد أنك تفضلين المبيت مع امرأة لا مع رجل يعتدي عليك.
- بالله عليك يا خالة هل أنت ساحرة، كيف تعرفين أشياء عني؟
- لا عليك.
وقدّمت نفسها إليه:
- اسمي راوية.
قاطعتها السمراء :
- لا تسأليني عن اسمي، لأن اسمي مستعار ولا أعرف لي اسماً حقيقياً.
- أعرف يا ابنتي، كما أعرف أن لا اسم لرفيقتك التي تنام مع رجل ، يحب أن يتعرّى أمام غانية تجلده بالسوط وتضربه بعنف حتى يشعر بلذة الفراش.
- لكنها لم ترجع بعد، كيف عرفت أنها مع خنزير بهيئة رجل؟
- وأعرف متى ستعودان لوليد.
- أنت صديقة وليد إذاً.. لا بل أنت شبعاد، نعم إنك تشبهينها.
- لا لستُ هي بل إحدى بناتها. هيا انزلي، لقد وصلنا.
- نزلت مع السيدة فرحة بالصدفة الجميلة، مشت قربها كطائر مثقل الجناحين، جاهدت لكي تسأل، لكن السيدة قاطعتها:
- أعرف ما يدور بخلدك، وكل ما تحملينه من أفكار كتبتُه مسبقاً، كما إني مَن خلط الألوان. تفضلي.
أدارت مفتاح باب الشقة.. إنها شقة متواضعة لكنها تجمع صمت حقائبي وحقائب أصدقائي.
توزّعت نظراتها بين جدران الشقة الضيقة والأريكة البسيطة، ثم اقتربت من مكتبة صغيرة رُصفت فيها كتب ومجلات عربية، طاولة صغيرة تتوسط الصالة وضعت عليها جريدة اليوم، وفنجان قهوة جفـّت بقاياها.
حالما دخلت السيدة غرفتها، فتحت النافذة لتبديل هواء الغرفة، كان الشباك يطلّ على الشارع العام، فرأت المطاعم العربية والصينية لم تُغلق بعد. تذكرت أنها لم تسأل رفيقتها في ما إذا كانت جائعة، وخرجت تحمل بيدها ملاءة وسادة:
- هنا ستنامين، فأنا لا أملك غير هذه الأريكة، حين نفتحها ستصبح سريراً.
ثم استدارت:
- لا بدّ أنك جائعة.
- لا سيدتي، لست جائعة، وشكراً على كرمك.
- إذاً كوب شاي مع فطيرة.
دخلت إلى المطبخ المفتوح على الصالون:
- يا ابنتي، ما يؤلمك هو عشقك لرجل لا يحبك.
- آ..ه، أيتها الساحرة كيف عرفتِ أني أحبه؟ ثم ما هذا الاسم الذي ذكرتِه؟ من عيناء؟
- اسمك، واسم رفيقتك ذكرى كما إني لست بساحرة، أنا فقط أرافق أبنائي وأحاورهم.
- هل أبناؤك معكِ؟
- بل أنا كاتبة والكتابة قدري، وأنا من فعل الكاتبة الحقيقية. وكيفما يجيء شيطان الكتابة إليها ترسم أقدارنا على الورق، هكذا رغبتْ. وكما صنعك وليد، صنعتني هي؛ لا بل صنعتنا كلنا، واسمك في روايتها هكذا، والعيناء هي واسعة العين في سواد.
ابتهجت عيناء لاحتضان السيدة لها، وللألفة التي تولّدت بينهما، وشعرت ببصيص ضوء يبعدها عن خوفها من الاغتصاب. احتست الشاي على مهلها، مستأنسة بالأحاديث الجميلة، يشدها هدوء السيدة ووقارها، وكانت راوية تحاور روحها من الداخل. سمعتا صوت مطر يطرق بأناة على الشبابيك، لامست الحيرة قلبها، ماذا ستقول للسيدة وكيف ستشكرها على طيبتها وحسن تعاملها معها. أمام أفكارها كان الإفصاح عن ما يدور بخلدها يشوبه الخجل، خانتها عفوية الأسئلة ولعنة نشرة الأخبار.
أغمضت السيدة عينيها، حالما فتحت التلفاز، هاربة من صور الأشلاء والدماء الملتصقة بالتراب وعلى الجدران. ثم راحتا تتابعان منظر الحزن المرسوم مسبقاً، وكمن تورّط بواقع حالك دمدمت، وعيناء تسمع وتنوح كطير مستفزّ، سمعت السيدة تتذمر:
- الحرب دمّرت العراق، الحرب ومن ساهم فيها وشارك وخطط وتخاذل، كلهم لصوص يسرقون عنفوان العراقي. أية لعنة حلـّت على شعب العراق، أية لعنة، سُحقنا برحى قائد مجرم وحزب استخدم لصوصيته لامتصاص دمائنا وقوت الشعب ولقمة عيشه، وها هم يمرّون دون عقاب. مجرد تغيير الكراسي، والذين قبضوا الدولارات مازالوا يضحكون على ذقونهم، ونحن نترقب ماءً من وجوه صُفر.
لم يعد ذلك الهدوء الذي رأته عيناء في وجه السيدة، يترجم وقارها، بل أصبحت كطير مشنوق من جناحيه، بدت كمن يكون بحاجة إلى أذرع تلفّ بها ضياع لحظة فلتت من زمامها. وقفت، ثم جلست جلسة مرتبك مهجور، وعادت لوقفتها ثانية. كانت تشعر باختناق، فنزعت جاكيتها المصنوع من الصوف المنسوج نسجاً ناعماً، فبدا كأنه من الحرير، ورغم هذا يزعجها. ثم واصلت قلقها، خلعت جوربيها السوداويين، دخلت الحمّام، وغسلت وجهها بماء بارد.
عادت تلملم بعضها، وتسوّر نفسها بشيء مفقود. فوجدت عيناء قد أغلقت التلفاز، وجلست تنتظرها للخروج من توتر شاب لحظتهما. أمسكت بيد السيدة راوية:
- على أن أجلب لك عصيراً، هل في الثلاجة عصير؟
- اطمئني يا ابنتي أنا بخير، ولا بدّ أن نحصن أنفسنا من واقع عفن، ولكن أخبريني هل سمعت أن الأرواح المعذبة تتلاقى؟
- أجل، وكم أنا سعيدة بلقاء مثل هذا. فأنت تقطرين أمومة، ولطالما حلمتُ أن تكون لي أم.
- والله لم أذكر أني مررتُ بحلمك، كما لم تدوّنه الروائية على سطر، يبدو أنك تمرّدت علينا.
لم تكن عيناء في حالة خسارة، فبتعرّفها على راوية ملكت خيطاً من الحياة المفقودة، وسيكون لها من يسمعها أو يقودها باتجاه أسئلتها، ويردّ ولو على بعــــض جوانب التساؤل؛ لمـــــاذا اختير لها أن تكون مومساً بثوب
عذرية؟ ولماذا تركوها لرجل بيد واحدة؟ واللوحة الثالثة والخمسون، أهي اكتمال معرضه أم خسرانه؟ مَن دفعها باتجاه الحب، هذه السيدة أم وليد، أم الروائية الحقيقية؟ ولماذا تلعب الكاتبة بمصائرنا وتضعنا في مكان لسنا في حاجته، ثم تنقلنا إلى مكان آخر؟ أنحن مخيّرون أم مسيّرون؟ ومن أعطاها الحق بذلك؟. وذكرى، أهي شمس أم ذكرى؟ حتى أسماؤنا لا خيار لنا فيها، مَن نحن إذاً؟ وصابر الرجل الرخام هل مات أم أفاق من الصدمة؟
في بيت صابر كان يعذّبها الصدق والشرف، وفي بيت وليد عذبها الحب وعذريتها والغيرة، في بيت الأثرياء لم تجد مكاناً لها. أسئلة كثيرة تصدعها، بينما راوية تراقبها وتعرف سرّ اضطرابها، تعرف أنّ لعيناء رغبةً في البقاء معها كل أيامها الباقية وستعطيها الفرصة لتعلن عن رغبتها، كما تعرف أن حياء عيناء يمنعها.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
لفرط قلق عيناء، راحت تنقر بأظافر يدها على طاولة خشبية قرب الأريكة، وعيناها مسمّرتان على صورة معلقة على الجدار. ولمعرفة تفاصيل أكثر عن صاحبتها قرّرت أن تكسر حصار الصمت:
- تبدين صبيّة في الصورة، لا بدّ أنك كنتِ في الثلاثين؟
- بل هي قبل أربع سنوات، وفي سنتي الأربعين.
- لكن..
- أعرف ما تريدين قوله، إنه فعل الزمن العنكبوت.
- من فضلك سيدتي، نسمع إشاعات تقول إنّ لدى صدام ممرات سرية في قصوره، هل هذا صحيح؟
- أبداً، لقد دخل الأمريكان كل قصوره، ولم يجدوا غير معالم البذخ وصوره
المتسمرة على الجدران.
- من سيكون الرئيس القادم؟
- الله أعلم والسيادة العليا، من يبصم بالعشرة ستكون له الأولوية.
- هل لي أن أسألك سؤالاً شخصياً؟
- سلي ما تشائين.
- تقولين إنك كاتبة، هذا يعني أن بمقدورك العيش بوضع أفضل مما أنت عليه.
- الأدب، الشاطئ الوحيد الذي كلما وصلتِ إليه أبعدكِ عنه لتبقي لاهثة وراءه، وعندما تقتربين منه يكرمك بفقره. ولأني أكتب بخمر القلب وألتصق بالنفس الخرساء، أرسم ملامح الروح، والذي يكتب بطريقتي لا يساوم. وما أقذر الساحة الثقافية، لا تتخيلين بشاعتها.
- الحياة أخذ وعطاء سيدتي.
- نعم أنا معك، لكن بكم كيلو الشرف ومن يشتري؟
- هذه جريمة، وتهمة لا تعمم على الجميع.
-الأبشع يا ابنتي أنّ مَن يتبنّون الثقافة ويدافعون عنها هم سبب البليّـة.
- عذركِ لسؤال قد أحرجك فيه: هل لديك زوج وأولاد؟ أراك تعيشين وحدك.
- كان لي زوج، ورأيته البارحة في المنام ينزع عني ثيابي الممزقة، يخيطها ثم يمزقها ثانية، بعد أن يُلبسني إياها ويمرّر يديه على جسدي كله، وكان لي ابن أيضاً، شجرة اقتلعت من جذورها، هل سمعت بمثل ِمن خرج ولم يعُـد؟
- فهمت.. فهمت.
-لقد أطلقت على العراق اسم جبّار بعد أن عرفت لماذا يكثر في بلدنا اسم كهذا، ولو لم يكن هذا الشعب جباراً لما تحمّل الجبابرة على مرّ العصور، وخاصة رئيسنا الأخير، خليط من (ستالين وهتلر وجنكيز خان) ومصاصي الدماء.
- أيحق لكل فرد أن يطلب رئيسه القادم؟
- اسمعي يا غاليتي، هناك مقولة لـ (ستالين)؛؛ (السؤال المهم؛ ليس من يحق له التصويت، بل من يجمع الأصوات).
- أنا شخصيا لا أثق بالسواد والذين يعتمرون العمائم السود ، الأيام كفيلة بان تريك صدق ما أخافه ، والخوف الحقيقي يا ابنتي ليس ممن يحكم ومن يأتي بعده بل من الذين يحكمون العراق باسم من ينصبوهم علينا حكاما ً، وأعداء العراق كثيرون والطامعون أكثر ، وإذا عرض التلفاز عشرات المقابر الجماعية سيعرض المئات في السنين القادمة. والآن دعينا من السياسة، ولنطمئن على ذكرى. أعتقد أنّ لديك رقم هاتفها الجوال، قومي يا ابنتي واتصلي بها.. ولو أنها..
- وقفت مرتبكة من توجّس السيدة، وقاطعتها قائلة:
- ولو ماذا؟. هل أصابها مكروه، أتعرفين ما يجري لها الآن؟
- كادت راوية أن تردّ بالإيجاب، لولا أنها تداركت أمرها:
- لا، لا علم لي بما يجري. اتصلي فقط، كما أني أريد الاستحمام.
- سيدة راوية ، اعرف ان الكتاب يتنبئون وأخشى يتحقق ما تخافينه .
جاءت فكرة الحمّام في الوقت المناسب، فدخلت تاركة عيناء في الصالة. وحالمــــا شاهدتها تدير قرص التلفـــون ابتسمت، وواصلت عدم اكتراثها بما يدور، خاصة وأنها كررت محاولاتها والهاتف لا يجيب، ووجدت نفسها تلقي اللوم على صابر وصحبته وعلى وليد أيضا.
حالما تراءت لها صورة ذكرى تحت رجل يضاجعها، لعنت الشيطان وتعوّذت من كل شيطان رجيم؛. دفعها القلق على ذكرى لإعادة الكرّة، فقامت متوترة، وكررت الأرقام ذاتها، صمتت لحظة، وتسمّرت في مكانها.. خجلت من ما سمعته من فحيح وشخير وسباب. فقد كانت ذكرى في وضع تكره فيه من يقاطعها، ففتحت الهاتف ولم تغلقه. وظلّ صوتها يخترق عيناء وتساؤلها:
- ماذا لو سمعت السيدة؟
خرجت السيدة من الحمام تفرك شعرها المبلول بمنشفة بيضاء، وبدل أن تسألها عن ذكرى طلبت منها الخلود إلى النوم. وكعارفة بالخبايا، فتحت دولاب ملابسها، واستخرجت منه قميص نوم وقدّمته لها:
- أنت بحاجة إلى النوم.
دخلت فراشها بعد أن جدلت شعرها جديلة واحدة، وتظاهرت بنعاس مفاجئ.
كانت الغرفة بضوئها الخافت تثير النعاس، فقررت عيناء أن تخلص نفســها من شوائب اليوم، وأن تترك لأهدابها حرية العناق. ورغم فتور أجفانها لاحظت تقـلـّب السيدة في الفراش، كأنها تتقلـّب بين سكاكين، ثمة ما يفصلهــا عن فرحها أو يبعدها عن مقصــودها، فهي كلما غمض لها جفن تحركت متقلبــة على الجانب الآخر، منقادة إلى شيء بداخلها يفككها ويدمرها، ثم يعيد ترميم أوصالها، ثم يدفعها ثانية باتجاه التدمير.
قررت أن تقطع عليها سلسلة لا تربطها بإضاءة غير الوهم واستنارته:
- سيدة راوية، هل تخاف السكين؟
- ردت عليها وعيناها مسمّرتان في السقف:
- بل أنا من أسألك كيف يصبح الحلم عدوّاً؟ وهل له علاقة تآمرية مع الواقع؟ ومن يكون البادئ؟
وواصلت الحديث:
-الليل يا ابنتي يصهرنا بعناد ويفتّتنا، بينما نحن نذوب تحت سذاجة القلب، آمالنا كثبان رملية من أول رعشة للهواء تلاحق بعضها هاربة من التصاقها.
في سكرة النوم والصحو أجابت عيناء:
- كم أنت جميلة ورقيقة يا خالة، تصبحين على خير.
- أجابتها راوية:
- لن أكون جميلة إلا إذا عادت سمائي لي.
- ألم تعُـد بعد؟
- بل عادت، ولكن مشوّشة كما لو كانت سفينة سوداء تغرق في قلوبنا.
***
عندما سألت راوية عن سرّ الحزن الدفين في عيني (ود)؛ حين تعرّفت عليها لأول مرة في حديقة (هايد بارك) ، أجابتها دون أن تكلف نفسها عناء الكتمان. حين تحدثت كان الغضب ينقضّ عليها انقضاض الصاعقة، فردت عليها بنبرة لا تخلو من التهكم، ولشدة ارتعاش الحزن التي تخنق صوتها، سحبت نفَساً عميقاً واقتربت من راوية:
- خالة لقد رضعت الحزن، بل نشأت معه.
وحالما رأت اهتمام راوية بمعرفة التفاصيل، والتي احتوتها بأمومة الصوت واللمسة، شعرت بأنها تبحث عن ذاتها قرب امرأة لا تعرفها، أو قد تصل معها إلى النهر الذي تريد أن تغرف منه؛ فقط للارتواء أو الاغتسال من قذرات حوّلت أمانيها إلى فوضى، فما الذي تبوح به وما الذي تكتمه؟
- أتخبرها عن قسوة وحشية جعلتها تركن الى زاوية من زوايا الحياة؟ أنها امرأة لها خطوات تتقارب على افتراق؟
- فانطلقت تشد بعضها على بعض، واقتربت من السيدة حتى كادت تلتصق بها :
- لقد أصابني الخسران، فكيف لي أن أسرد خسارتي؟
- كانت السيدة تبغي الاحتفاظ بقليل من زرقة السماء، حين كوّرت بصرها لاكتشاف زرقة تهرب من بين غيمات. ثم كفّت عن محاولتها وقت مرور ثلاث نسوة يرتدين العباءات الخليجية، اكتفت بتحرش دمعة بعيني ود؛ وبنظرة من طفل تدفعه أمه في عربة، ظلّلت غرته الشقراء عينيه، غادرتها الطفولة خاطفة.
استرجعت جلستها الوقور على المسطبة، كان الهواء ينطوي على أجنحة الطيور والعصافير، استبعدت توتراً اعتراها، خضخضت صوتها وجعلته يختصر الكلام:
- يا ابنتي كلنا ضحايا الخسران. هل حصل أن قاتلك قلبك، أن نهبك جسدك؟
اعتراهما صمت للحظات، ثم استطردت السيدة:
- على شمعة الظلمة تنطوي خسارتنا الشخصية؛ احكي، احكي لي.. وأريحي نفسك.
-
رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1
5
كانت الانفعالات كمفاتيح تطرق أبواب التذكر، تصبب العرق من جبهة ود، رغم برودة الطقس المنعشة والهواء العابث بشعرها، كانت تنقطع وتعالج توترها بشجاعة تعيد بها ما فقدته من معانٍ وكلمات معبّرة، كما كانت تخونها شجاعتها كثيراً.
ـ زوّجني أخي وأنا في السادسة عشرة، نزولاً عند رغبة زوجته التي جاهدت للتخلـّص مني بحجة الحصار الاقتصادي على العراق وضيق اليد والعوز، ولأنهم أسرة كبيرة مؤلفة من أخي وزوجته وستة أولاد، فالخلاص منى أصبح أمراً لازماً.
ساعتها فقدت ذاتي وشربت مرض الأيام، بعد أن شربت اليتم. فقد مات والدي وأنا في السنة الثانية، كما أني ابنة الزوجة الثانية، وأخي من أبي هو الذي تولـّي رعايتي حتى زوّجني.
في أسرتي الجديدة المكونة من زوجي البالغ أربعة وخمســـين عاماً، وأخته التي تصغره بسنتين ولم تتزوج، وأمه البدينة، عشت كما كنت في بيت أخي محاصرة بين الأوامر والتوبيخ وجهد الأعمال المنزلية، وفي الليل جهد الفراش.
جسد قتيل وروح مشنوقة، تحت ثقل رجل كل همّـه متعته وتكبّره علي.
لم أعرف من أي عجينة صُنع زوجي، كان يصنع مني قوساً يصوبني به، فأتيه بين روح معذّبة وجسد لا مشاعر فيه. إذا سمع لي صوتاً يخنقه، فكيف إذا لم أملك صوتي يوماً؟ إنه مجرد هيكل آدمي، أو جرذ ذليل قرب أمه.
وذات يوم أزحت النقاب عن وجهي، وجمعت أحبالي الصوتية كلها، وصرخت.. صرخت بجنون وبشكل هستيري متواصل، امرأة ما تزال قريبة من سن المراهقة، مخذولة في صوتها وإنسانيتها، لذا جاءت صرختي مجنونة. لم أرَ أحداً أمامي، ولم أسمع صوتاً سوى صوت داخلي.
فقدت السيطرة على نفسي، كسّرت كل ما وجدته أمامي، وجدتني على قارعة الطريق بثوب النوم. سمعت أمه تناديه:
- خُذها إلى أهلها ولا تعُد بها أبداً، طلـّقها وأنا أزوّجك أجمل منها وأحسن منها.
عدت وحيدة إلى غرفة صغيرة شحيحة الملاءات والأغطية، ليلتها ضربني أخي، وعضّتني زوجته، حتى تورّم جسدي وازرق، وفي الصباح عدت إلى وضعي السابق من كنس وتنظيف وطبخ ورعاية لأولاد أخي. كل ما حولي كان قاسياً، الأهل، الجيران، الشارع، الحصار الاقتصادي واليتم ونظرات الجارات وهمساتهن وهنّ يعلكن عِرضي وشرفي. قالت إحداهن مرة:
- ستر عليها لمدة، احتراماً لأخيها، ثم أعادها، إنه رجل شريف.
وقالت أخرى:
- نعم، هكذا يتصرّف ابن الأصول.
اعتدت البكاء في وحدتي، ولا أحد يربّت على كتفي أو يمسح دمعتي، فقد قرّرت أن أشرب الدموع كي لا أعطي أحداً فرصة الشماتة بي. وكم تمنيت أن تكون أمي قريبة منذ أن بلغت العاشرة، إذ كنت أسمع إحدى البنات في مثل عمري وقت فاجأتهن الدورة الشهرية تروي أنها حين رمت ثوبها المبقّع بالدم في حضن أمها، قبّلتها وعانقتها وقالت لها إنها صارت ناضجة، ووضعت في يديها قبضتين من الرز ومثلهما من السكر، وأعطتها لإحدى الفقيرات.
كنتُ أشبع جوع أذني بالاستماع لأحاديثهن، وأتمنى أن أعمل مثلهن، لكن الخوف جعلني أنزوي في غرفتي، وثيابي المبقعة بالدم كانت تهزأ مني يوم بلغت. ووجدتُني موزعة بين ضفتين لا تلتقيان، لجأت إلى الأرصفة وطويت جسدي النحيل بملاءة ونمت. عندما بدأ صدري يتكور، سمعت أخي يقول لزوجته؛ لا بدّ من تزويجها، البنت تكبر في بيت زوجها لا في بيت أهلها.
جلستُ في الليالي أخاطب ظلـّي الذي أخذ حجماً أكبر مني: -- كن قوياً لتعدّ نفسك بنفسك.
فيهزّ الظل رأسه مؤيداً، وتصبح أرضي هي سمائي، أبتعد وأقترب فأجد نفسي في بئر سحيقة.
لذا فرحت بأول عريــــس جاء لخطبتي، لم تكن أمي على حافة البئر لتنقذني،
ولم تكن أضلاعي قاسية بعد، كنت لا أعرف غير الخوف الذي جعلني أرجو أن يكون الزواج منقذي.
في بيت غريب علي، وفي ليلة عرسي شربت قهوتي مُرّة، اغتصبني الوحش سبع مرات، شاهدت حبلي السرّي يلتف حولي ويرميني في البئر. لم أدافع عن نفسي، كنت كقطعة نقود معدنية، باردة وثمينة ومستسلمة له، وهو يمزّقني بسعادة وتلذّذ. لم أدافع عن طفلة لم تكتمل سنتها السادسة عشرة، كما لم أجد لها شبراً نظيفاً تقف عليه. امتصّ رحيق أنوثتي وتركني يعصرني ريق الحياة المرّ، لم يترك لي حلماً ولو بحجم الظفر، صباحاً أدخل ظلامي مع أخواته الأربع وأمه السمينة، وليلاً أدخل باب هتكي.
في بيت أخي حين عدت إليه وأنا امرأة، أصبح خبزي جائعاً وأنيني أكثر جوعاً. لأول مرة أتعرّف على جسدي وأجده ناضجاً، أين كنت عنه كل هذا الوقت؟ في المرآة كان جسدي يصرخ:
- أحسن رجل يتمنّاك.
أداعبه ليهدأ، لكنه لم يهدأ ولم يترك لي مجالاً للاختيار. صرت أخرج متعمّدة لشراء حاجيات زوجة أخي التي أثقلها الحمل السابع، وأتشبّع بالعيون والأصوات المشبّعة بالغزل والإعجاب، بصدري وزندي وشعري ومؤخرتي المتكوّرة.
رحت أجلس لساعات قرب النافذة، ومن يوم ليوم تعلمت كيف أصطاد فريستي. وذات وقت وأنا في السوق أتبضّع شعرت برجل يمشي إثري، وسمعت كلماته تدلـلني، والتي لم أسمع مثلها من قبل ولم أتعوّد على إطراء يختصر سرابي.
كان للحياة دورها، ولزوجي وأخي وزوجته نواقيس تدقّ في رأسي. لذا قررت النفاذ بجلدي، تجاوبت معه، بل جئت مسرعة من أول دعوة. إنه أحد رجال البدو الذين حبتهم بركة الرئيس بالثراء المفاجئ، عطايا مرتزقة كبار لصغار المرتزقة. قال لي إن لديه بيتاً في بلد عربي وسيأخذني هناك تحسباً من عيون زوجته، عيون جيّرتها لحسابها. مضيت خلفه أبحث عن خلاصي، واعدته سراً دون علم أحد، وهربت معه.
مرة أخرى تفلت مني المراهقة، أرقص في الثراء نصف فراشة ونصف حجر، ومن ظلام لأخيه. لم يسلمني أي مال في يدي، لكنه كان كريماً معي، يأخذني إلى السوق وأختار ما أريد، كل ما أريد يكون بين يدي. لم تغوِني الثياب، بل رحت أكتنز لساعة عجفاء بزمن أشد عجفاً وأثقل، فاشتريت أكثر القلائد وزناً وأخلصها ذهباً، وأغلى الساعات ثمناً. لم يعقد على كزوجة شرعية، بل تركني كشجرة مثمرة يهزّ ثمرها متى شاء، ويهيئ شراباً لسيده الذي يهاتفه من العراق.
هو يأكل وأنا أشتري الأساور والخواتم، يهتز جذعي عاشرة ومائة لسادة أعلى رتبة من سادتها الأوائل، وعدد الساعات في حقيبتي يتضخم. هزّ الجذع من صنع الرجال وشهواتهم، وهم من أطلق على من تهزّ وسطها تحت شخيرهم اسم الزانية، ليستمتعوا بطعم الخيانة خارج عش الزوجية.
في ذاك البلد أضعت طريق الرجوع، خلعتُ صبيّة كنتُها، وارتديت امرأة أخرى شارف عمرها على العشرين، جسدها اختاره القدر ليكون ضحية سلطة عاهرة وزوج وأخ أكثر عهراً من سلطته. الشجرة الوحيدة في الشارع تتعرّض للنهب، وبعدد أشجار العراق وتموره نُهِبت باطمئنان خلف زجاج النوافذ.
تغيّرت طباعي، أصبحت شرسة لا أخاف أحداً، حاضري وغدي وأمسي كله فراش. كل واحد يعبر بوابات القصر يعطيني اسماً، كل حسب نظرته لجسدي، وتتفاوت العطايا حسب تفاوت الثراء، فمن وليمة إلى وليمة ومن بلد إلى بلد، ومن حقيبة إلى حقيبة، البلد في حصار. وإثر حصارهم قررت الهرب مع رجل من صنفهم، هو الذي أخبرني ساعة سكره أن له فندقاً وقصراً وأموالاً لا تحصى في لندن، كما أن هناك كثيراً من نساء لا يملكن غير شرف المال يتعرضن له ويشاركنه في أعماله التجارية، وأنه يتخفى خلف أسمائهن هروباً من الضرائب.
دون علم صاحبنا، هربنا بالموعد الذي قررته شركة الطيران.
من الغريب أني في لندن لم أحنّ لأحد، ولم أتذكر أحداً. فقط كنت كالنمرة بين رجال متنكرين بأسماء مستعارة وعصابات بجوازات مزيفة وأموال مهرّبة بأسماء شركات وهمية. طلبت منه أن يعقد على، والأغرب أنه وافق بسرعة قائلاً:
- أحب المضاجعة شرعية.
ضحكت بصوت اهتزّت عليه الستائر والنوافذ، سمعته يتردد على الجدران ويتجول بين أثاث البيت الفاخرة، قلت له:-مضاجعة شرعية، ونومك غير الشرعي معي ماذا تسميه؟
قال لي:
- تهيئة للشرعية.
- قررت الانتقام منه، وعوضاً عن ثلاثة رجال خذلوني بشرعية التفسخ وشرعية نخاسة تلقح بعضها، ولكن بتريث. فبعد حصولي على إقامة دائمة، القانون هنا يحميني، فأنا في بلد القانون ولستُ في بلد انتهاك القوانين؛ وقفت قبالته متحدية: --- النهر والصحراء لا يلتقيان.
ردّ بكل برود:
- أنت النهر وأنا الصحراء. هــ.. هـ..
قلت:- بل أنا الاثنان. الصحراء يجب أن أنزعها كما أنزع ثوبي هذا، وخلعت ثوبي أمامه.
قال لي:
-ما أجمل النهر عارياً، نهرٌ بض ممتلئ.
وراح يعضني في كل مكان:
- أيها النهر، أيها النهر، تعال لأضاجعك فقد ضاجعت الأرض قبلك، عما قريب ستشيخ وأرميك للكلاب.
حاولت الإفلات من قبضته:
- هل تعتقد أنكم باقون حتى يشيخ نهري؟ إنّ غداً لناظره قريب.
- تعمّداً بتُّ أخلق المشاجرات وأستفزّه ليضربني. لكنه يجلدني ببروده، ويتكرر مشهد البرود كلما عادت المشاجرة. كنت أسرق كل ما تقع عليه عيني وما أجد له وزناً وثمناً، وأخبّئه عند إحدى الخادمات لتأخذه إلى دارها بعد ذلك. خادمة إثيوبية وشابة مثلي، تعاطفــــــت معي حين عرفت بحكايتي، وهي التي علـّمتني حقوقي وفتحت عينيّ على حيَل الحياة؛ ورحنا ننفذ ما نخططه معاً.
حدث ما اتفقنا عليه؛ لقد اتصلت به الخادمة ذات مرة في مكتبه وأخبرته أني مع شخص آخر في غرفته، فشكرها على فعلتها.
ولم تمض غير لحظات قبل حضوره إلى البيت، حيث اتفقتُ معها أن نظهر كأننا نحاول المداراة أمامه، وأن تتأسف له وأنها أخطأت بالتبليغ، وتطرق رأسها رافضة أن تريني وجهها، وإشارة منها إلى أنها محقـة لكنها تتراجع خوفاً منى.
دخل مهرولاً نحو غرفة نومي، فوجدني أعدّل زينتي وأرشّ عطري، وكان الشرر يتطاير من عينيه، لم أنظر إليه كشخص محترم، بل رحت أرمقه بطرف عيني، متذكرة قفر الحياة التي عشتها، وفتحت شهيتي للمشاجرة.
منذ تلك اللحظة وأنا أشمّ العفونة كلما التقيت برجل، لعنت أخي الذي ضمني إلى مزابل الحياة. وأخذت أحدثه بلهجة حادة؛ لماذا تنظر إلى بهذه النظرة الغاضبة؟. وتمتمت؛ أنا لا أحبك، رافعة صوتي قليلاً بحيث يسمعنى.
ـ ماذا قلتِ؟
ـ لم أقل شيئاً.
ـ بل قلتِ لا أحبك.
تحبين مَن إذاً أيتها العاهرة؟ ومَن كان على سريري معك؟.
ـ أياً كان، هو أشرف منك.
وقفت وقفــــــة العارف بنفسه، ودفعته إلى الحائط، فانهال على ضرباً حتى أدماني. اتصلت الخادمة بالشرطة، التي أتت لتقبض عليه بالجرم المشهود. وشرحتُ لهم أنه مجنون يضربني كل ليلة قبل أن ينام معي، لذا قررت الانفصال عنه، ولم أعد أحتمل؛ وأيّـدتني الخادمة بأنها شاهدة على جرائمه.
من ساعتها غيّرت نمط حياتي، وخلعت عني رجسهم لأعود إلى إنسانيتي. أقرّت لي المحكمة بشقة استقطعوها من أملاكه، رغم توقعاتي الخائبة بنيل أكثر من شقة. وبدلاً من حصولي على نصف أمواله وأملاكه، حصلت على الشقة وقليل من المال، وما أزال أجهل أين ذهبت الأموال والأملاك، فابن الكلب سجل تصريحاً بامتلاك شقتين فقط وبعض المال، أعطتني المحكمة نصفهما، وكانت الأملاك والأموال الأخرى كلها مسجلة بغير اسمه، تحسباً لمثل ما حصل وغيره. وكما طرد الخادمة، طردني مع شقته*