نأسف لوجود خطأ (متعمد) في الحساب
نأسف لوجود خطأ (متعمد) في الحساب
د. مصطفى فهمي
مع ما يحدث من تقدم علمي، يتكشف وجود أخطاء غريبة ظلت باقية لزمن طويل حتى فيما يتعلق بمجرد حساب ملامح بشرية ظاهرة وبسيطة. من أشهر هذه الأخطاء الحسابية ما أصر عليه أرسطو، المعلم الأكبر في الفلسفة والعلوم الإغريقية، من أن عدد الأسنان في فك المرأة أقل من عددها في فك الرجل. ظل منهج أرسطو يسيطر بمقولاته على الأبحاث العلمية لما يقرب من 2000 سنة. وحسب الفكر الإغريقي القديم، فإن المرأة تعد أقل شأنًا من الرجل، حتى أن الديمقراطية الأثينية كانت تعطي حق الانتخاب للرجال الأحرار فقط وتحرمه على النسوة والعبيد والأطفال.
إلى جانب هذا الرأي المتعصب ضد المرأة، كان الفكر الإغريقي ينظر إلى إجراء التجارب العملية اليدوية على أنها أدنى من التجارب الفكرية التأملية كما في المسائل الفلسفية والرياضيات. وحسب هذا الفكر التأملي، مادامت المرأة أقل شأنًا من الرجل فإن مخها أصغر منه ورأسها أصغر وفكها فيه أسنان أقل. لم يفكر أحد من فلاسفة التأمل هؤلاء في أن يفتح فم امرأة ليحصي عمليًّا عدد أسنانها ويدرك أنه مساو للرجل، وظل هذا الخطأ سائدًا لمئات السنين مع سيادة المنهج الأرسطي وما فيه أحيانًا من دوجما أيديولوجية، وهو هكذا خطأ متعمد بكل أسف، بسبب التعصب الفكري.
هناك خطأ آخر في الحساب العلمي، لم يستمر لمئات الأعوام مثل خطأ أرسطو بشأن أسنان المرأة، وإنما استمر فقط لعشرات السنين خلال القرن العشرين. ويدور هذا الخطأ حول عدد الكروموسومات الموجودة في نواة كل خلية بشرية.
الكروموسومات خيوط طويلة تتكون أساسًا من الحمض النووي دنا (DNA). يشكل دنا المكون الأساسي للجينات أو المورثات التي تصطف مثل حبات العقد على خيط الكروموسوم. معرفة التركيب الكيماوي لحمض «دنا» ودوره في الوراثة في منتصف القرن العشرين، تُعد البداية الفعلية لثورة البيولوجيا الجزيئية، أي دراسة الأحياء على المستوى الجزيئي، والتي أدت إلى تقدم هائل في علم الوراثة.
معنى كلمة الكروموسومات اللاتينية هو الخطوط اللامعة، لأنها باستخدام صبغات معينة تظهر في نواة الخلية في شكل خيوط لامعة متشابكة.
هناك حيوانات، بما فيها البشر وذباب الفاكهة، لديها في كل خلية مجموعتان كاملتان من الكروموسومات، ولهذا فإنها تعرف بأنها ثنائية الكروموسومات. تأتي إحدى المجموعتين من الأم عن طريق البويضة، والأخرى من الذكر عن طريق الحيوان المنوي. مع انقسام البويضة المخصبة، تستمر المجموعتان في الانقسام داخلها. ثم مع تكون الأنسجة والأعضاء، تواصل الكروموسومات نقل الأوامر من نواة هذه الخلايا «الجسدية» إلى سيتوبلازم الخلية لتكوين البروتينات، لبناء الجسد والإنزيمات اللازمة للعمليات الحيوية. هناك نوع آخر من خلايا متخصصة هي الخلايا «الجرثومية» التي تنتهي بتكوين البويضة والحيوان المنوي، وهما مختصان بتمرير المعلومات الوراثية للأجيال التالية. الخلايا الجرثومية تختلف عن الخلايا الجسدية التي تشكل معظم الأنسجة والأعضاء، فخطوط الخلايا الجسدية كلها تموت في النهاية، أما خطوط الخلايا الجرثومية فيمكن أن تتمتع بالخلود، بالانتقال من جيل للآخر، على أن الخلايا الجرثومية تصل في تناميها إلى نقطة لابد عندها من اختزال كروموسوماتها من مجموعتين لتصبح مجموعة واحدة جاهزة للتعبئة داخل إحدى الخليتين الجرثوميتين، أي البويضة والحيوان المنوي. يحدث هذا عند الانقسام الأخير للخلية، إلا أن هناك ما يحدث أيضًا قبل هذا الانقسام الأخير مباشرة، وهو أن مجموعتي الكروموسومات تنتظمان معًا في عناق أخير، يعقبه تقطعات رهيفة في الكروموسومات المتلامسة، ولا يلبث الطرف المقطوع في أحد الكروموسومات أن ينضم إلى القطع الذي حدث في رفيقه، ثم تنفصل الكروموسومات ثانية بعد أن يكون قد تمت إعادة خلط محتوياتها وأعيد تشكيلها في فسيفساء فيها جزء من أحد الوالدين وجزء من الآخر، وذلك على نحو عشوائي يؤدي إلى تنوع لا نهائي من التوليفات المختلفة التي تمرر للأجيال القادمة الكروموسومات المختلطة التي أتت من الوالدين. هذا هو السبب في أننا جميعًا مختلفون في الصفات الوراثية حتى بين الأشقاء والشقيقات (فيما عدا بين التوائم المتطابقة).
ظل تقدم الأبحاث في علم وراثة الإنسان بطيئًا ومتعثرًا إلى زمن قريب نسبيًّا. بدأ اهتمام الأطباء جديًّا بعلم الوراثة في الإنسان في أوائل القرن العشرين. تبين عندها لقلة من الأطباء أن بعض الأمراض الوراثية في الإنسان قد تتبع قوانين مندل الوراثية التي استنبطها من تجاربه على النبات، إلا أن علم الوراثة عند الإنسان كانت تنقصه المعلومات والمهارات اللازمة لإجراء تجارب عملية، واعتمد في أكثره على رصد المشاهدات والملاحظات، خاصة عند من لديهم أمراض وراثية. استمر ذلك حتى منتصف القرن العشرين، عندما اكتشف كريك Francis Crick وواطسون James Watson تركيب جزيئات الحمض النووي دنا ودورها في نقل الشفرة الوراثية، وبدأت ثورة البيوتكنولوجيا أو البيولوجيا الجزيئية التي أمكن معها الإجابة عن بعض أسئلة مهمة في وراثيات الإنسان. أحد هذه الأسئلة هو معرفة العدد الصحيح للكروموسومات عند البشر وأهمية هذا العدد في أبحاث علم الوراثة.
حتى يمكن معرفة هذا العدد، لابد من التمكن من رؤية الكروموسومات واضحة متميزة. الكروموسومات لا تصبح حقًا مرئية تحت عدسة الميكروسكوب إلا عند تكثفها قبل انقسام الخلية مباشرة. هذا هو السبب في صعوبة العثور على عدد كاف من الخلايا في نسيج بشري حي لإجراء مجرد عملية إحصاء بدائية لعدد الكروموسومات. النسيج الوحيد الذي يحوي عددًا وافرًا من خلايا تنقسم بنشاط هو في خصية الرجل، حيث يجب على الخلايا أن تواصل الانقسام في نشاط محموم لإنتاج 150 مليونا من الحيوانات المنوية يوميًا. ليس من الأمور السهلة أن يجد العلماء رجلاً يتبرع بخصية لإجراء التجارب عليها. وبالتالي لجأ هؤلاء العلماء إلى محاولة الحصول على الخصي التي تنزع حديثًا في عمليات جراحية، أو أنهم كانوا يقفون على أبواب السجون للحصول على خصية من جثمان محكوم عليه بالإعدام.
في 1912، كان هناك عالم نمسوي رائد في فحص الأنسجة والخصي واسمه وينيواتر Hans von Winiwarter. كانت الكروموسومات المنقسمة تبدو وقتها تحت الميكروسكوب مكومة مكدسة، يصعب تمييزها فرديًّا. فحص وينيوارتر العديد من الشرائح وقدر أن كروموسومات الذكور عددها 47 وكروموسومات الإناث 48، ويرجع الفارق إلى وجود كروموسوم (إكس X واحد) في الذكر وكروموسومين اثنين من (إكس XX ) في الأنثى. كان من المعروف وقتها أن جنوسية ذباب الفاكهة أو تصنيفه كذكر وأنثى يتحدد حسب عدد ما لديه من كروموسوم إكس. الإناث لديها كروموسومان من نوع إكس والذكور لديها كروموسوم إكس واحد. وبالتالي استنتج وينيوارتر أن جنوسية الإنسان بدورها تتحدد بعدد كروموسومات إكس، الأنثى لديها اثنان والرجل لديه إكس واحد. كان هذا استنتاجًا خطأ من وينيوارتر سواء بالنسبة لعدد الكروموسومات أو لتحدد جنس الرجل حسب عدد كروموسوم إكس.
في 1923 حصل العالم الأمريكي بينتر Theophilus Painter على ثلاث خصي من مستشفى أمراض عقلية كانت قد استؤصلت من بعض المرضى لإفراطهم في الاستمناء؟! جهز بينتر قطاعات رفيعة ما أمكن من نسيج الخصي، وركز عدسات المجهر على الخلايا التي كانت في حالة انقسام. كانت الكروموسومات موجودة كالمعتاد في كومة مختلطة يصعب معها تمييز بداية أحدها من نهاية الآخر. بعد عدة شهور من البحث والتردد اتخذ بييتر قراره بأن الكروموسومات البشرية عددها بالفعل 48 كروموسومًا، وإن كان هناك من يقول إن بيتر رأى في شرائحه 46 فقط من الكروموسومات ولكنه خشى أن يخرج عن الدوجما السائدة التي تحجرت على رقم 48 كروموسومًا.
واستمر الاعتقاد الأعمى بأن عدد الكروموسومات البشرية 48 طيلة ثلاثة عقود أخرى، وإن كان قد حدث بعض تقدم بطيء في تكنيك تجهيز الشرائح. وفي أواخر أربعينيات القرن العشرين، عينت جامعة تكساس باحثًا صينيًا شابًا اسمه هسو T. C. Hsu في وظيفة مؤقتة، وعهدت إليه بدراسة الكروموسومات البشرية من خلال طريقة أبحاث جديدة فيها استزراع للخلايا. حسب هذه الطريقة، تُنّمى خلايا الأنسجة البشرية في أطباق المعمل الزجاجية، ثم تؤخذ عينة منها للدراسة تحت المجهر. مع انقسام الخلايا المستزرعة لم تعد هناك حاجة ملحة إلى خلايا الخصية التي تنقسم بنشاط. واصل هسو العمل لمدة ستة شهور، وهو كلما ينظر إلى كروموسومات الخلايا المستزرعة تحت الميكروسكوب يجدها مكدسة مختلطة مثلما سبق أن بدت لغيره. ذات مرة فحص هسو كروموسومات خلايا طحال مستزرعة، وكاد لا يصدق عينيه عندما ظهرت له الكروموسومات منفصلة تمامًا أحدها عن الآخر على نحو رائع يجعل من السهل جدًا تمييزها وإحصاء عددها. أعاد هسو إجراء التجربة مرة ثانية، ولكنه صدم لعودة ظهور أكوام الكروموسومات المكدسة. استنتج هسو أن هناك خطأ وقع في إحدى خطوات التكنيك الروتيني المتبع لإعداد الشرائح، وأدى هذا الخطأ إلى انفصال الكروموسومات متمايزة. أعاد هسو إجراء التجربة مع تغيير الخطوات على نحو منهجي يتناول أحد المحاليل المستخدمة في كل مرة. أخيرًا تبين له أنه كان هناك خطأ في تركيب أحد محاليل الملح في اليوم الذي ظهرت فيه الكروموسومات منفصلة متمايزة، فقد كان المحلول مخففًا لأكثر مما ينبغي روتينيًّا. لم يستطع هسو أن يجد فنّي المعمل، الذي يعترف بأنه ارتكب هذا الخطأ، حتى يشكره على هذا الإنجاز بالصدفة، الذي يعد أهم اختراق في أبحاث الكروموسومات لما يزيد عن ثلاثين عامًا. منحت الجامعة لهسو وظيفة دائمة بمرتب كبير، الأمر المذهل أنه مع اكتشاف هذه الطريقة الجديدة للحصول على كروموسومات واضحة متمايزة، يسهل إحصاء عددها، إلا أن هسو بدوره ظل يردد العدد الخطأ ويقول إن عدد الكروموسومات عند البشر هو 48 كروموسومًا. هذا مثل غريب لتحجر دوجما هذا العدد في عقول علماء الوراثة، حتى أن هسو رفض أن يصدق نتائجه هو نفسه.
يرجع الفضل فى كسر رقم 48 المتحجر إلى عالِم الوراثة السويدي ليفان Albert Levan. أجرى هذا العالم تجارب على خلايا جينية للرئة، وأجرى مثل هسو عملية استزراع لها ثم عالجها بمحلول الملح المخفف وصبغها. نشر ليفان نتائج أبحاثه في 1956، وأكد فيها أن عدد الكروموسومات في الأنسجة البشرية التي عالجها هو 46 فقط، وأن ذلك تكرر معه على نحو لايمكن أن يناله أي شك. أخيرًا بعد أكثر من ثلاثين سنة سلم كل علماء الوراثة بأن عدد الكروموسومات البشرية هو 46 فقط.
سُميت الكروموسومات البشرية بالأرقام من 1 إلى 22 حسب حجمها، حيث رقم 1 أصغرها و22 أكبرها، ويضاف لها كروموسومات الجنس إكس وواي XY، حيث في الأنثى يوجد كروموسومان اثنان من نوع إكس XX، وفي الذكر كروموسوم واحد من نوع واي والآخر من نوع إكسXY. وقد ثبت أن كروموسوم واي له الدور الأساسي في تقرير جنس الذكر. أدى اكتشاف ليفان للعدد الصحيح للكروموسومات إلى إحداث صدمة علمية وانطلاق للأبحاث الوراثية عن الإنسان. ازدادت أهمية دور الكروموسومات كسبب محتمل للأمراض البشرية. من ذلك مثلاً ما تم اكتشافه في 1959 على يد الطبيب الفرنسي ليجين Jérôme Lejeune من أن مرض متلازمة داون Down Syndrome أو المغولانية يرجع إلى وجود كروموسوم زائد إضافي، وهو نسخة ثالثة من كروموسوم 21. الأطفال المصابون بمتلازمة داون، مجموع كروموسوماتهم 47 وليس 46. وهؤلاء الأطفال يوصفون بالمغولانية لتباعد أعينهم واسعًا كما أن جبهتهم مسحوبة بما يشبه نوعًا ملامح المغول الذين يحتجون على هذه التسمية للمرض. يكون هؤلاء الأطفال عادة ودودين ويتحببون للآخرين، إلا أن حالتهم يصحبها تأخر عقلي، وكثيرا ما يكون معها مضاعفات خطيرة في القلب، وقلما يعيشون لأكثر من الثلاثين. توالد بعد ذلك اكتشافات دور الكروموسومات المعيبة أو الزائدة في الأمراض الوراثية، وثبت وجود أمراض طفولة أخطر من متلازمة داون تصاحب مثلاً كروموسوم إضافي عند رقم 13 وكذلك رقم 19. بل اتضح أيضًا أن الكروموسومات الإضافية قد تكون سببًا في إنهاء الحمل قبل الولادة.
كما سبق ذكره، كان المعتقد في أول الأمر أن تحديد جنوسية البشر يعتمد على عدد ما يوجد من كروموسوم إكس، وذلك مثلما هو الحال مع ذباب الفاكهة؛ عندما يوجد كروموسومان من نوع إكس يكون الناتج أنثى، وعندما يوجد كروموسوم إكس واحد يكون الناتج ذكرًا سواء في ذباب الفاكهة أو الإنسان. إلا أن أبحاث الوراثة، وكذلك بعض الحالات المرضية التي توجد فيها ملامح من الذكورة والأنوثة، كلها قد أثبتت أن تحديد الجنوسة في الإنسان يختلف عما في ذباب الفاكهة. فتحديد جنوسية الذكر في الإنسان يعتمد على كروموسوم واي أساسًا، بل وأمكن أيضًا تحديد أي جزء من كروموسوم واي يكون مسئولاً عن الذكورة. هذا بالنسبة لتحديد جنوسة الإنسان، أما تحديد جنوسية سائر الأحياء، فهذا موضوع آخر يتأثر بعوامل فيزيولوجية وتشريحية وبيئية بل واجتماعية، ولهذا كله حديث آخر.
http://www.alarabimag.com/Arabi-Elmy/2012/Issues/Issue_8/Elmy024.htm