ضمن فعاليات أسبوع السينما الصينية بدمشق

ضمن فعاليات أسبوع السينما الصينية بدمشق
«مفتــون للأبــد» يسرد فصلاً من تاريخ الصين المعاصر

منذ منتصف القرن الماضي استطاعت التجارب التي قدمتها السينما الصينية أن تفرض نفسها بقوة على مجمل المحافل والمهرجانات السينمائية العالمية، وبدأت الأفلام الصينية التي ظهرت مع بداية ثمانينيات القرن العشرين والتي سميت «السينما الصينية الجديدة» بحصد الجوائز العالمية في المهرجانات الدولية، نظراً لما امتازت به هذه المدرسة من أسلوب إخراجي ممتع وطريقة مبتكرة وخاصة بالتصوير والأداء والتعبير.
وضمن خطة التبادل الثقافي المشترك، قدمت تظاهرة السينما الصينية بالتعاون بين السفارة الصينية بدمشق ووزارة الثقافة السورية والمؤسسة العامة للسينما، حيث عرضت ستة أفلام من آخر التجارب التي قدمها مبدعي السينما الصينية في الآونة الأخيرة، وجاءت هذه التظاهرة بعد النجاح الكبير الذي حققه أسبوع السينما السورية العام الماضي في عدد من المدن الصينية الكبرى، عندما عرضت خمسة أفلام سورية لاقت استحساناً وتفاعلاً كبيرين.
«مفتون للأبد»
تحفة سينمائية
حقق المخرج السينمائي الصيني «تشن كايغه» في عام 1993 فيلمه «وداعاً يا حبيبتي» الذي استطاع عبره لفت الأنظار إليه بعد النجاح الكبير والاستثنائي على المستوى العالمي عندما ترشح لجائزتي أوسكار وحقق جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الدولي، عاد كايغه في عام 2008 ليقدم الفيلم التاريخي الملحمي «مفتون للأبد» الذي قدم عبره قراءته الخاصة لحياة ماي لانفابغ «لعب الدور الممثل الصيني ليون لاي» أشهر مغني وممثل أوبرا صينية في تاريخ الصين.
يبدأ الفيلم مع مرحلة مراهقة ماي تظهر فيها تعلقه الشديد بفن الأوبرا والرقص والغناء، ومخالفته لوصية عمه بأن لا يمتهن فن الأوبرا والتي يحذره فيها من عواقب هذه المهنة لكونها لا تجلب إلا التعب والحزن والشقاء على صاحبها، لكن ماي يبدي تحدياً واضحاً ولا يكترث لتحذيرات عمه، ويبدأ التدريب والعمل والانغماس بفن الأوبرا بمختلف تفاصيلها وهمومها. ومع أن ماي رجلاً إلا أنه اكتسب شهرته الواسعة بسبب احترافه تأدية أدوار النساء التي بقيت تلازمه حتى نهاية حياته، والتي تسببت له لاحقاً بمعاناة نفسية تتلخص بكبت لمشاعره الإنسانية وانطوائه على نفسه. يتعرف ماي على كيو روباي «سن هونغ لي» الذي يعمل باحثاً فنياً مختصاً، وتنشأ بينهما علاقة خاصة مبنية على الأخوة حسب المعتقدات الصينية، يتحول بعدها كيو إلى مدير لأعمال ماي ومنسق لمشاريعه ويلازمه كظله دائماً. استطاع المخرج بطريقة ذكية تقسيم فيلمه إلى ثلاث مراحل زمنية مختلفة، لخص عبرها الصور والتفاصيل المختلفة لحياة ماي التي تحولت إلى محاكاة لمراحل مختلفة من تاريخ الصين الحديث بتقلباته وتحولاته الجذرية، فالقسم الأول من الفيلم لخص الصراع الدائر بين ماي ومحاولاته الانقلاب على الأنظمة والتقاليد السائدة والمتبعة منذ مئات السنين في أوبرا بكين، وبين سوالو 13-وهي شخصية صارمة وغامضة مثلت عدة شخصيات من الحياة الواقعية- أحد أهم الراقصين المتمسكين بالقواعد الصارمة، تحولت خشبة المسرح في هذا القسم إلى محاكاة فعلية لما كان يشهده المجتمع الصيني بمختلف شرائحه وتوجهاته من تقلبات ونزاعات تشبه حالة المخاض الصعبة لولادة واقع جديد للمجتمع الصيني نتيجة تأثيرات الحضارة الغربية المختلفة التي بدأت تدق الأبواب، أخيراً ينتصر ماي ويكسر جميع القيود السائدة في الفن الصيني لكنه يتسبب بمقتل سوالو ليعيش بعدها على ذكراه وهو يفارق الحياة متأثراً بخسارته للتحدي، وتبقى كلمات سوالو تدور في ذهن ماي وهو يقول له: «ليس الخوف الحقيقي هو من خسارتك للرهان أو التحدي، إنما من عدم قدرتك على خلق شيء جديد».
في القسم الثاني من الفيلم نعيش مع ماي عالم الأضواء والنجومية المطلقة، لكنه مع ذلك يفتقد السعادة والمشاعر الإنسانية، عندما حوله صديقه كيو إلى إنسان منعزل عن محيطه لا يعلم ما يحصل خارج حدود منزله أو مسرحه. في أحد المشاهد يبدي ماي استيائه من رؤيته لأحد أصدقائه القدامى في التمثيل والرقص وهو يعمل في إحدى الحانات الرخيصة مستجدياً النقود من السكارى والمتسكعين مما يثير تساؤلات عدة في ذهنه يحاول الإجابة عنها. يتعرف ماي على مينغ زيادونغ «زانغ زيي» التي تعمل راقصة وممثلة أيضاً، ويعيش معها قصة حب عاصف على الرغم من جميع القيود والحواجز المحيطة، كادت أن تنتهي بزواج آخر، لكن تدخلات الزوجة الأولى ومدير أعماله أفشلت هذه العلاقة. يستسلم ماي بعدها لقدره ومصيره المؤلم، في الخلفية تظهر بدايات الغزو الياباني للصين تسقط أخيراً المدن الصينية الواحدة تلو الأخرى ويستمر ماي بالهرب من مطاردة القوات اليابانية له إلى أن يقع أسيراً في النهاية، لكنه يرفض جميع العروض والدعوات التي قدمها له ضباط الجيش الياباني لتقديم عروض خاصة احتفالاً بالنصر، هنا يتذكر ماي كلمات خصمه سوالو عن الخوف، ولا يجد شيئاً يفعله إلا تحدي الاحتلال ورفضه لرغباته، يختار ماي البقاء وحيداً في منزله إلى أن يندحر الاحتلال.
يقترح كيو في القسم الأخير من الفيلم الدخول في مغامرة ، تتلخص بالسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتقديم مجموعة عروض هناك تهدف إلى الانتشار والعالمية، وبعد سجال طويل يوافق ماي على المقترح ويرهن منزله وممتلكاته جميعها معتبراً أن ما سيقدم عليه هو المغامرة الحقيقية التي طالما بقي يحلم بها، وهي فرصة لتعريف العالم كله بالفن الصيني الحقيقي الموغل بالتاريخ، ترتفع وتيرة التشويق في هذا القسم من الفيلم، عندما يقف ماي وحيداً للمرة الأولى في حياته خارج أرضه أمام جمهور غريب يشاهد عروضه للمرة الأولى، يتحول ماي في هذه اللحظات الحاسمة إلى رسول وممثل للحضارة والثقافة الصينية بكاملها، ينتهي العرض ويسود صمت طويل في الصالة، لحظات ويعلن الجمهور نجاح العرض بتصفيقه المدوي. لتبدأ مرحلة جديدة من حياة ماي الذي أصبح أيقونة فنية تمثل الثقافة الصينية أينما حل ضيفاً، لكن تبقى كلمات خصمه السابق سوالو ماثلة أمام عينيه دائماً، لكنه استطاع تحويل خوفه وقلقه الدائمين في كل مرة يعتلي خشبة المسرح، إلى طاقة إبداعية حقيقية تعتمد على التجديد والابتكار.
من الناحية الفنية استطاع مخرج الفيلم مع طاقمه الفني رصد واقتناص مشاهد ذكية ومقنعة أدخلت المشاهد بأجواء التحدي والتناقضات والصراعات التي عاشتها مجمل الشخصيات، كما نجح المخرج ببناء رؤية مشهدية ناجحة لأقسام فيلمه الثلاثة التي كونت سرداً تاريخياً بصرياً لتاريخ الصين المعاصر.

أنس زرزر

http://www.albaath.news.sy/user/?id=825&a=74988