www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

بكائية “غسان بن جدو”.. /أسامة عكنان

0

في مقالته “الربيع العربي الخاوي والفوضوية”، التي أستسمحه والقراءَ عذرا في اختياري لها اسم “البكائية”، لـ “غسان بن جدو” استطعت أن أتلمَّسَ الخط الفكري السياسي التالي، بوصفه المحور الرئيس الذي أقام عليه مقالته..

بكائية “غسان بن جدو”..
“الربيع العربي الخاوي والفوضوية”..
http://www.amgadalarab.com/?todo=view&cat=32&id=00014619
أسامة عكنان

في مقالته “الربيع العربي الخاوي والفوضوية”، التي أستسمحه والقراءَ عذرا في اختياري لها اسم “البكائية”، لـ “غسان بن جدو” استطعت أن أتلمَّسَ الخط الفكري السياسي التالي، بوصفه المحور الرئيس الذي أقام عليه مقالته..
فهو يقرر بأسلوبه الخاص وبمنطقه المعتمد لديه، أن ليست هناك لا ثورات عربية ولا ربيع عربي، بل هناك حالة من “الفوضى” الهوجاء، تتحرك بلا رأس، وغير قائمة لا على فكر ولا على فلسفة تؤسِّس لها وتقودها وتوجهها، مؤكدا بالتالي على خلُوِّ الساحات العربية من مفكري وفلاسفة الثورة، الذين استشهد على نماذجهم بـ “لينين” للثورة البلشفية، وبمن لم يذكر اسمَ أيِّ منهم من صناع الثورة الفرنسية، على الرغم من أنه اعتبر أن عدد مفكريها وفلاسفتها كان أكبر من عدد الغوغاء الذين خرجوا إلى الشوارع، وهو قد اعتبرَها ثورة رغم نزيف الدم الذي كان سمةً لها على مدى سنين طويلة، ما جعلها تؤثر على العالم بمبادئها الإنسانية رغم كل الفوضى وسفك الدماء اللذين رافقاها..
ومما سطره في مقالته بهذا الشأن ما يلي..
* لا يغفر للثورات فقرها بالفلسفة وغياب الفلاسفة والمفكرين عنها، وهم الذين يضيئون ويتوهجون بالأفكار..
* غياب هؤلاء يُسَبِّبُ تحوُّلَ أيِّ ثورة إلى مجرد تمردٍ أهوج وانفعالٍ بلا نتيجة سوى الدمار الذاتي..
* ولكن عذرا أيها السادة فلا أزال مصرا على أنه لا توجد ثورة عربية ولا ربيع عربي، بل انفعال اجتماعي وقوده مالٌ ونفطٌ، وفلاسفته أوروبيون – هو لا يقصد فلاسفة عصور التنوير الذين ما يزالون يحكمون العالم، بلا القادة الاستعماريون الجدد في أوربا بطبيعة الحال – هذه حقيقة مؤلمة..
* واليوم يحاول الكثيرون تسويق الربيع العربي على أنه ثورة من ثورات العالم الكبرى التي تتعلم منها الأمم والشعوب، برغم أن هذا الربيع لا يعدو في أعلى مراتب التوصيف، أن يكون تمردا اجتماعيا متشظيا قائما على الانفعال العاطفي الوجداني لجمهورٍ تائه..
* فقد غاب عنا في هذه الثورة العربية “المترامية الأطراف” من شمال إفريقيا إلى اليمن السعيد وإلى سوريا شيئان مهمان، هما فلاسفة الثورة الكبار ومفكروها، وكذلك غابت كليا فلسفة الثورة، واللهيب الذي نراه اليوم لم يوقده فلاسفة ولا عمالقة ولا قامات ولا هامات ولا فكر..
* قد حاولت ولشهور طويلة متابعة شخصيات هذه الثورة وكتاباتها وكتابها، ولاحقت عيناي كل المقابلات الصحفية والبرامج التحليلية، لكنني ما التقيت سوى الخواء، وما وجدت نفسي إلا في صحراء قاحلة بلا واحات وبلا نخيل عالي القامات، وبلا قوافل المؤلفات الكبيرة، ولم أجد قامات مفكرين ناهضين في الثورة كأنصال السيوف..
* إن كل ما رأيناه هو حركة فوضوية لجمهور بلا قيادة وبلا قائد وبلا عقل مدبر، وهنا كمنت الكارثة الوطنية..
* عجبا هل أقفرت الثورات العربية العابرة للقارات من تونس إلى سوريا، مرورا بمصر واليمن، من أي مرجعية فكرية تستند عليها الجماهير، وتضبط سديمية هذه الجماهير وغوغائيتها؟؟
* الثورة الفرنسية كانت رغم عنفها وجنونها ثرية بالفلاسفة والمفكرين الذين صنعوا من فعل الثورة حدثا مفصليا في التاريخ عندما تحولت هذه الثورة الى وسيلة صراع اجتماعي مسلحة بالفكر الثري، وبالمنطق الذي لا يزال يجري في عروق قيم الحضارة الانسانية..
* كان الدم يسيل في طرقات باريس ومن مقاصلها ومن جدران الباستيل، لكن كذلك كانت المصطلحات الثورية والمفاهيم الكبرى الفرنسية الصنع والصياغة عن المساواة والحرية تطل من الشرفات وتضيء مع شموع المقاهي، وتفوح كالعطر من مكتبات الثورة ومؤلفاتها. فكدنا نرى مفكرين وفلاسفة وكتبا أكثر من أعداد الغوغاء التي اجتاحت باريس، فلاسفة الثورة الفرنسية ومفكروها كانوا أكثر عددا من الثوار الذين زحموا الطرقات..
* وكذلك كانت ثورة البلاشفة في روسيا، فبرغم أن من قام بها كانوا على درجة كبيرة من الأمّية “الذين أطلق عليهم البروليتاريا”، فإنها اعتمدت على فلسفة عملاقة، هي الماركسية والماركسية اللينينية وكل متخماتها من جدلية هيغل ومادية فيورباخ..
ثم هم – أي الأستاذ بن جدو – لا يرى هناك سوى “غوغائيين” يقتلون ويدمرون ويجعجعون، يقودهم أشباه مفكرين باعوا أنفسهم للشيطان وللفلاسفة والمفكرين الغربيين، غير مدركين لأسس الثورة، ولا واعين بقواعد التغيير الثوري.. وبالتالي فهو لم ير في حالة الفوضى والخواء “التونسية” سوى “المنصف المرزوقي”، وانبطاحية “راشد الغنوشي” نحو الأميركيين.. ولا رأى في حالة الفوضى والخواء المصرية سوى مرجعية “الشاب “وائل غنيم”.. ولا رأى في حالة الخواء والفوضى الليبية سوى “مصطفى العبد الذليل” كما أطلق عليه.. وفي نهاية الأمر فهو لم يرَ في حالة الخواء والفوضى السورية، سوى “غليون” و”العرعور”.. أما حالة الخواء والفوضى “اليمنية” فهو لم يتطرق لها..
ومما سطره في مقالته بهذا الشأن ما يلي..
* فالربيع العربي “العظيم” لم ينتج أكثر من “منصف المرزوقي” في تونس التي ذهب فيلسوفها الصغير “الغنوشي” سباحة إلى نيويورك ليقايضَ كتبه في إيباك بثمنٍ بخسٍ هو “السلطة”. وهذه ليست من صفات فلاسفة الثورات الذين تأتي إليهم الدنيا لتسألهم عن فعل الثورة ولا يذهبون إلى تسول الاعتراف بثوراتهم..
* ولم ينتج الربيع العربي في ليبيا سوى “مصطفى العبد الذليل” الليبي، فيما لم يكن هناك مفكرون إسلاميون من وزن المفكر “الصادق النيهوم” الذي كان قادرا على قيادة ثورة فكرية تقود الجمهور الغاضب..
* وفي كل ثورة مصر لم نسمع بمرجعية ثورية واحدة، سوى شاب عشريني يسمى وائل غنيم..
* المعارضة السورية حاولت نحت شخصيات رمزية وقدمت “برهان غليون” بطريقة دعائية صارت عبئا عليه وعبئا علينا، فهو رئيس مركز دراسات الشرق المعاصر، وهو مؤلف، وهو بروفيسور سوربوني وهو كل شيء..
ليخلص إلى أن الفيلسوف الحقيقي لهذا الخواء ولهذه الفوضى هو “برنار هنري ليفي” الذي تقوم فلسفته على اللجوء الى التدمير الذاتي للقوى الاجتماعية العربية عن طريق إطلاق التمرد الشعبي وحرمانه من الفكر، ليتحول إلى فوضى يتحكم بها فلاسفة الثورة الحقيقيون في الغرب..
ومما سطره في مقالته بهذا الشان ما يلي..
* وبنبش المزيد من الأتربة التي تغطي وجه هذه الثورة، سنصل الى مفكر الثورة وفيلسوفها الرئيسي وهو الفيلسوف “برنار هنري ليفي”، وفلسفة ثورته هي في الحقيقة اللجوء الى التدمير الذاتي للقوى الاجتماعية العربية عن طريق إطلاق التمرد الشعبي وحرمانه من الفكر الذي يوجه سديميته، فيتحول إلى فوضى يتحكم بها فلاسفة الثورة الحقيقيون في الغرب وعلى رأسهم ليفي نفسه..
ومع أننا لا نختلف مع الأستاذ “بن جدو” في معظم الوقائع التي سردها في مقالته – نقول معظمها ولا نقول كلَّها – باعتبارها وقائع حصلت ولا يمكن إنكارها، ومع أننا لا نختلف معه أيضا في بعض التحليلات التي بناها على تلك الوقائع – نقول بعضها ولا نقول معظمها – باعتبارها تحليلات موضوعية تؤشر على رؤية ناضجة، إلا أننا نود أن يأذن لنا الأستاذ “بن جدو” وكل قارئيه المتفقين معه في الرؤية والتحليل، بأن نختلف معه – مع الاعتذار من وطنيته وعروبيته اللتين ننحني أمامهما بكل احترام – في مفاصل أساس من “بكائيته” المُدْمِيَة..
وسوف نناقشُه فيما نختلف معه فيه فقط، وهو ما أوردناه سابقا..
وهو ما نعتبر أن الأستاذ “بن جدو” كان فيه بعيدا عن العلمية، وعن التوصيف الدقيق والمُلِم، وعن الدراية في قراءة التاريخ، فأضَرَّ بصورته كمشروع مفكر مؤسس وموسوعي، ما نزال نراه مؤهلا له كل التأهيل في ظل حالة التكوَّن التي تمر بها الأمة..
فالإكثار من الجمل والعبارات التي تجلدُ الحالةَ العربية التي أطلقَ عليها الأستاذ “بن جدو” اسم “الخواء والفوضوية”، بسوط “الافتقار إلى الفلاسفة والمفكرين”، و”غياب الفلسفة الثورية”، و”فقر المكتبة الثورية بالمؤلفات التأسيسية للفكر الثوري”، والتساؤل عن الرموز الثورية”، و”إيراد الأمثلة الثورية العالمية في سياق المقارنات، من خلال قراءتها قراءةً مجتزأة لإثبات وجهة نظر محددة”.. إلخ.. نقول: إن الإكثار من ذلك، لا يصنع حجَّةً، ولا يقيم دليلا من أيِّ نوع..
فكما أن الصراخ في وجه النظام المستبد والأشداقُ تتطاير زبدا، لا يصنعُ ثائرا، إذا لم تكن هناك مقدمة تجعل من ذلك الصراخ قنبلة موجهة تحقق هدفا معلنا وواضحا لا لبس فيه، بدل أن تجعل منه بالونَ تنفيسٍ للاحتقان وتدميرٍ للمحيط، فكذلك القول بالافتقار إلى الفلسفة، وإلى المفكرين، وإلى المقدمات المؤدية إلى الثورة، لا يقيم دليلا بذاته على ذاته، إذا افتقر إلى العلمية والوقائعية والموضوعية المطلوبة لتخليق الحُجَّة، ولتجسيد الدليل..
ومن هنا فقد بدت لنا أحكام الكاتب القائمة على هذا النمط من جلد “الحالة العربية”، أحكاما خارجة عن إطار المنطق والموضوعية، تمَّ الزَّجُ بها في أركان الذاتية والانطباعية والعاطفية ليس إلا..
فإذا كان من يحاول الطيران بلا أجنحة أو ذيل بمواصفات معينة غوغائيا، لأنه سيسقط حتما ويتهشم، مادام لم يتسلح بما يلزم لمقاومة الجاذبية، فإنه ليس أكثر غوغائية ممن يقول بأن سبب سقوط الأجسام من الأعلى إلى الأسفل، ليس قانون الجاذبية، بل هو أن الجِنِّي المارد “شمروخ” ملك الجان الأحمر، يقف ليذودَ عن قصره المقام في السماء..
إن الوحيد الذي يحق له وصف الأول بالغوغائية، هو من يملك قراءةً في السبب الحقيقي لسبب سقوطه برؤية علمية تجريبية، وإلا فإنه وهو في الغوغائية سواء، لأن كلَّ واحدٍ منهما ينتج حالةً فكرية خطأ، فالأول لم يعرف أن هناك قانونا يجب أن يخضع له هو قانون الجاذبية، والثاني عزى الظاهرة إلى أسطورة لا علاقة لها بالقانون الموضوعي الذي هو قانون الجاذبية..
الأستاذ “بن جدو” قال.. وقال.. وقال.. بأسلوب عاطفي وجداني جذاب. فلقد أكثر من القول بعدم وجود مفكرين أو فكر ثوري أو مقدمات تأسيسية على الصعيد الفكري والفلسفي، مهدت لحالة “الخواء والفوضوية” الراهنة، مع أن الواقع الموضوعي غير ذلك تماما، ويتعارض مع هذا الادعاء، ومع أن الصورة التي أكد على ضرورتها في العلاقة بين الفكر والثورة، تمَّ عرضها في مقالته بشكل مختلف عن الصورة المطلوبة موضوعيا وفق منطق العلم التجريبي والقراءة التاريخية الصحيحة، لتخليق المقدمة المطلوبة للحركة الثورية، لسبب بسيط هو أنها صورة وجدانية اعتمدت على الاستخدام العاطفي الانطباعي للغة، ولم تعتمد على القراءة العلمية التي تكشف لنا الحقيقة باعتبارها “الفكرة المطابقة للواقع الموضوعي”، لا باعتبارها “صورة الواقع الموضوعي في ذاتنا وأنانا وهوانا وأمنياتنا”..
ففي “العبارات العشر” الأولى التي اقتبسناها من مقالة الأستاذ “بن جدو” نقرأ وصفا مجردا، وفيضا ذاتيا، ومشاعر وانطباعات تفيض بها قريحة إنسانٍ رافضٍ لحالة ماثلة أمامه لسبب أو لآخر. لكننا لا نقرأ غير ذلك، ولا نجد أيَّ أثر لقراءة علمية تضيء لنا الطريق، وتستنهض في عقولنا القريحية التجريبية المعروفة في إقرار الحقائق.. إلخ..
فما الذي يمكنه أن يعنيه من الناحية العلمية المُنتجة معرفيا، إعلان الكاتب إصرارَه “على أنه لا توجد ثورة عربية ولا ربيع عربي، بل انفعال اجتماعي وقوده مال ونفط وفلاسفته أوروبيون”..
ترى هل يعتبر “إصرار الكاتب غسان بن جدو” على موقفٍ ما، مصدرا من مصادر المعرفة إلى جانب كلٍّ من العقل والتجربة، كي يُفترضَ فينا أن ننظر إلى إصراره باعتباره حجَّة على صحة محتوى ذلك الإصرار؟!!
وأين هي المفردة المعرفية اليقينية القاطعة في قوله: “واليوم يحاول الكثيرون تسويق الربيع العربي على أنه ثورة من ثورات العالم الكبرى التي تتعلم منها الأمم والشعوب، برغم أن هذا الربيع لا يعدو في أعلى مراتب التوصيف، أن يكون تمردا اجتماعيا متشظيا قائما على الانفعال العاطفي الوجداني لجمهور تائه”؟!!
فهل أن اعتبار الأستاذ بن جدو” للربيع العربي مجرد تمرد متشظي، وكتلة من الانفعالات العاطفية، لجماهير تائهة، يجعله بالفعل كذلك؟!!
وهل هذا الفيض الوجداني الذاتي غير القائم على أيِّ دليل، هو الرد العلمي المنطقي على هؤلاء الذين يحاولون من وجهة نظر الكاتب “تسويق الربيع العربي على أنه ثورة من ثورات العالم الكبرى”؟!!
وهل أن فشل محاولات الكاتب على مدى أشهر – كما يقول ويزعم – في أن يكتشف أيِّ شيء في هذه الحالة سوى الخواء، ليجد نفسَه في صحراء قاحلة بلا واحات وبلا نخيل عالي القامات، وبلا قوافل المؤلفات الكبيرة.. إلخ”.. يُفترض أن يكون دليلا على ما يدعي اكتشافَه، أم دليلا على أنه لم يَطَّلِع بما فيه الكفاية، أم دليلا على أنه لا يريد الاعتراف بما اطلَع عليه، أم دليلا على أنه لا يجيد قراءة التاريخ؟!!
لماذا نُصِرُّ على أن نجعل من ذاتنا وأنانا وتجربتنا الخاصة معيارا على الحقيقة؟!!
لماذا يريد الكاتب أن يسوِّقَ للقراء من حيث يقصد أو لا يقصد، واقعة أن تجربتَه الشخصية واطِّلاعَه وتقييمَه وتحليلَه للأمور، هي مجتمعة معيار الحقيقة؟!
ولماذا لا يحاول أن يخرج من هذه الشرنقة، ويتعامل مع الوقائع والتجارب والمعطيات التي يقول أنه أرهق نفسه في متابعتها، كي يحللَها ويناقشها ويكشف لنا عن مثالبها، مع التركيز على تلك التي يعتبرها أصحابها ومورِدُوها دليلا على أن هناك ربيعا عربيا وثورة عربية، كي يكون لفيض عواطفة في نهاية المطاف تأثيرا بناءً على عقولنا وأذهاننا؟!!
ولأن الكاتب لم ينتهج هذا النهج العلمي الذي نتحدث عنه، فإن علينا في المحصلة، ومن منطلق ضرورة إيماننا بمعيارية تجربته الشخصية التي يتحدث عنها، أن نصدَّق أن كلَّ ما رآه الكاتب لم يكن سوى “حركة فوضوية لجمهور بلا قيادة وبلا قائد وبلا عقل مدبر، وأن هذا هو مكمن الكارثة الوطنية”، لمجرد أنه رآى أن ذلك كارثة وطنية من وحي تجربته التي لم يُطلعنا على أيٍّ من تفاصيلها، ولا ناقش أيا من تلك التفاصيل بشكل علمي وموضوعي!!!
ولماذا يحاول الكاتب باستخدامه منهج “المصادرة على المطلوب” المنبوذ معرفيا وفكريا، لأنه منهج يسرق النتيجة ولا ينشئها، ويفرضها ولا يؤسسها، أن يفرض علينا يقينه الذاتي الخاص به حول ما يعتبره “فقر المجتمعات العربية بالفلسفة، وغياب الفلاسفة والمفكرين عنها”، ليعودَ ويفرض علينا نتيجة لا تصح نسبيا إلا بصحة مقدمته التي ليست أكثر من تقوُّل لا أساس له، وهي أن “غياب هؤلاء يسبِّب تحوُّلَ أيِّ ثورة إلى مجرد تمرد أهوج وانفعال بلا نتيجة سوى الدمار الذاتي”..
لا بل نراه يتحدث بلغة الواثق من اعتباره لنفسه ولتجربته الشخصية مرجعيةً ومعيارا على الحقيقة، بل وعلى المعلومة والواقعة، عندما يفرض علينا أن نقتنع بما يزعمه من أنه قد “غاب عنا في هذه الثورة العربية “المترامية الأطراف” من شمال إفريقيا إلى اليمن السعيد وإلى سوريا شيئان مهمان، هما فلاسفة الثورة الكبار ومفكروها، وكذلك غابت كليا فلسفة الثورة”، لتكون النتيجة المرتبطة ارتباط ضرورة واستلزام بمقدمته محل النظر والشك أصلا، هي أن “اللهيب الذي نراه اليوم لم يوقده فلاسفة ولا عمالقة ولا قامات ولا هامات ولا فكر”، و”أن الثورات العربية العابرة للقرات من تونس إلى سوريا مرورا بمصر واليمن قد أقفرت من أيِّ مرجعية فكرية تستند عليها الجماهير، وتضبط سديمية هذه الجماهير وغوغائيتها”..
كلُّ هذا كلام مرسل مفعم بالعاطفة، لا أثر فيه للعلم ولا للعقلانية، ويُراد لنا أن نصدِّق أننا بصدد مقالات تؤسس لمقولات علمية، تؤصل لفكر ولرؤى ناضجة، تشرح لنا الغامض من الأمور في شأن الربيع العربي، بالارتكاز إلى حقائق ومعلومات صحيحة..
مع الأسف فإن هذا الخطاب هو ذاته الخطاب النقيض له من حيث شكله العام، ومن حيث طريقته في دغدغة المشاعر، وفي تكوين المفردة المعرفية بالاصطياد والالتقاط والتصيُّد والأسطرة “نسبة إلى الأسطورة”، وليس بالتأسيس والتأصيل العلميين..
الخطاب الذي ينتقده هذا المقال، هو خطاب غير علمي وغير موضوعي، وهذا الخطاب نفسه غير علمي وغير موضوعي، ويلامس النقائص المعرفية ذاتها التي يلامسها ذات الخطاب الذي انتقده..
فأين الاختلاف وأين التميّز، وأين احترام العقل الذي يشكو خطاب “فوضوية الحالة العربية” من افتقار خطاب “الثورة ذاتها” إليه، عندما يرى أن حالة “الخواء والفوضى” هي نتاج خطاب غوغائي غير عقلاني، لم يستطع هو نفسه أن يغايرَ قواعده الغوغائية والعشوائية ذاتها أو يختلف عنها قيد أَنْمُلَة؟!!
أما عندما بدأ الأستاذ “بن جدو” بالاستشهادات المقارنة، فقد أغرق نفسه في بحر لم يكن – على ما بدا من أسلوبه ومنطقه في العرض – مسلحا على إتقان السباحة فيه.. فقد اكتفى بالاستشهاد بحالتين ثوريتين هما “البلشفية” و”الفرنسية”، من خلال اجتزاءات مريبة، بدا فيها منطق الانتقاء واضحا، بشكل يوحي بعدم دراية في قراءة الثورات وقراءة حركة التاريخ، وباستخدام أدواتٍ تحليل وتشريح للأمثلة الموردَة للمقارنة تؤشِّر على الضعف الفعلي في امتلاك السيطرة على تلك الأدوات، مع الاعتذار من الأستاذ “بن جدو”، فنحن في معرض مناقشة علمية، لا تستهدف التقليل من القيمة الأدبية والمعرفية للأشخاص على الإطلاق، لكن وصف الحالة كما هي مطلب تقتضيه الموضوعية..
إن الخلط بين دور كلٍّ من الفيلسوف” و”المفكر” و”السياسي” و”الثائر”، يصيبنا بحالة فريدة من عمى الألوان المعرفي عندما نحاول التصدي لفهم ظاهرة مجتمعية مفعمة بالسيرورة الحركية، مثلما هي ظاهرة “الثورة”، إذا لم نتحرَّرَ منه، أي من هذا الخلط، قبل التصدي لمحاولة الفهم تلك، وسيزداد تأثير “عمى الألوان المعرفي” على محاولتنا المعرفية، إذا لم نعرف بالضبط أين يقف كلُّ واحد من هؤلاء الأربعة وأين يبدأ الآخر، في مسيرة “التخليق المعرفي” و”التخليق الحركي” لتلك الظاهرة، وفي التعاطي مع تلك مُكَوِّنات تلك المسيرة..
وهو ما وقع فيه الأستاذ “بن جدو” في “بكائيته الدامية” مع شديد الأسف، دون أن يكلف نفسه عناء بحث أكاديمي بسيط يمكنه من استيعاب خطورة هذا الخلط، وهو الإعلامي المدرسي المتميز على مستوى الوطن العربي..
فـ “الفيلسوف” بما هو فيلسوف لا “يصنعُ ثورة”، بل هو “يفسِّر العالم”، فهو إذن حالة عالمية كونية تتجاوز في مُخرجاتها العقلية والنفسية والروحية، حدودَ المُكَوِّن القومي أو الوطني لشخصِ الفيلسوف..
فلا يوجد فيلسوف تفلسف يونيا ولليونانيين، ولا يوجد فيلسوف روماني تفلسف للرومان تحديدا، كما أنه لا يوجد فيلسوف فرنسي تفلسف للفرنسيين، وآخر بريطاني تفلسف للبريطانيين، وآخر عربي تفلسف للعرب، وآخر صيني، وآخر ياباني.. إلخ..
الفيلسوف بمقتضى المصطلح، وبطبيعة المُخرج المعرفي الذي ينبثق عن الأداء المعرفي “فلسفة أو تفلسف”، إنساني وعالمي وكوني بطبعه..
وفي هذا السياق فالفلاسفة يقارنون من حيث مُخْرَجِهم المعرفي بـ “الرسل” الذين يحملون رسالات عالمية أكبر من الحدود الإقليمية والقومية والوطنية..
و”المفكر” الذي يلي الفيلسوف في المكانة المعرفية، لا يفسِّر العالم، وإنما يتحرك في دائرة معرفية محكومة بفلسفة معينة يؤمن بها ويعتبرها مرجعيتَه والأصلَ الذي يتدثَّر به ويرتكز إليه في فهم وتفسير واقعِه الموضوعي المحدود..
وهو إذ يفعل ذلك، فإنما يحاول قراءةَ واقعه الموضوعي المحكوم بمعطيات زمانية ومكانية محددة، وفق رؤيةٍ فلسفية معينة موجودة أصلا وقائمة بالفعل، ربما منذ زمن بعيد..
فبقدر ما إنه لا يوجد فيلسوف يرتبط التعريف به كفيلسوف ببلده القومي، إلا من باب معرفة أصله فقط، استكمالا لسيرته الذاتية في مكونها الشخصي، لأن الفيلسوف يرتبط في الأصل بفلسفته وبمضمونها الكوني، فيقال “فيلسوف مادي”، “فيلسوف ميتافيزيقي”، “فيلسوف وضعي”، “فيلسوف مثالي”.. إلخ، عبر نسبته إلى مضمون فلسفته، وإلى طريقتها في تفسير العالم، بقدر ما إنه لا يوجد مفكر لا يرتبط ببلده القومي، لأنه في الأساس نتاجٌ خالص لواقع بلده وظروفها وإمكاناتها ومشكلاتها وقضاياها.. إلخ..
ولأن الفلسفة نظام معرفي شامل يفسِّر العالم، فقد كان من الطبيعي أن تنضوي تحت المدرسة الفلسفية الواحدة، العديد من المدارس الفكرية، باختلاف البيئات الزمانية المكانية التي تحاول تجسيد معطيات تلك الفلسفة. أي أن هناك عددا من المدارس الفكرية المنبثقة عن فلسفة معينة، بقدر نماذج تطبيق تلك الفلسفة وتجسيدها على أرض الواقع زمانا ومكانا.. هذا من جهة..
أما من جهة أخرى، فلكل فلسفة مردودها الفكري لا على الزمان والمكان والبيئات الموضوعية المتبانية فقط، بل على مجالات الفعل الإنساني والسيرورة المجتمعية.. أي أنه بقدر ما أن هنالك مدارس فكرية متعددة تنضوي تحت المدرسة الفلسفية الواحدة، تختلف من مجتمع لآخر، فإنه في المجتمع الواحد تتجلي الفلسفة المعتمدة والمتبعة، من خلال مفكرين يغطون مختلف أوجه النشاطات المجتمعية والمعرفية.. إلخ..
فهناك مفكرون اقتصاديون، يقرأون الاقتصاد في ضوء الرؤية الفلسفية المعتمدة، وهناك مفكرون سياسيون، وهناك مفكرون قانونيون، وهناك مؤرخون يقرأن التاريخ وفق تلك الرؤية الفلسفية، كما أن هناك علماء نفس وعلماء اجتماع وأنثروبولوجيا.. إلخ..
المفكرون وفق هذا التوصيف يشبهون “الأنبياء” ويكافئونهم، من حيث أن الأنبياء كانوا يًبعثون للتعامل مع واقع أقوامهم ومجتمعاتهم من زمن لآخر في ضوء هيمنة الرؤية العامة لتفسير الوجود لرسالةٍ سابقة تحظى بالمرجعية والهيمنة المعيارية..
أما “السياسي” فهو إنسانٌ ممعن في الخصوصية الوطنية والقومية، بحيث لا ينفصل ولا بأيِّ شكل عن تلك الخصوصية، والسياسي هو ذلك الشخص الذي يتولى العمل في مجال إدارة الدولة وفق رؤية فكرية معينة.. أي أنه يُطَبِّق رؤية المفكرين السياسيين والاقتصاديين والقانونيين.. إلخ، ليجسِّدَها على شكل أداء إداري هو الأداء الإداري السياسي، لأنه يتعلق بالدولة كمعطى قانوني وسياسي..
وأما “الثائر” فهو ذلك الشخص الذي يتمرد على الواقع الذي لا يريد أن يستجيب لرؤيته السياسية، القائمة على فكر معين، مرتكز إلى فلسفة محددة، أو على الواقع الذي لا يريد أن يعطي الفرصة لتلك الرؤية، كي تمارسَ حقها في أن تحظى بموافقة المجتمع على إدارتها للدولة بمختلف مرافقها..
إن هذا التفريق بين كلٍّ من “الفيلسوف” و”المفكر” و”السياسي” و”الثائر”، لا ينفي التداخل أحيانا..
فقد يكون الفيلسوف مفكرا، أو مفكرا وسياسيا، أو ربما مفكرا وسياسيا وثائرا..
ولكن هذا لا يعني أن الحدود الفاصلة بين الأدوار المعرفية وغير المعرفية لهؤلاء قد تداخلت، وإنما يعني أن شخص الفيلسوف الفلاني، اهتم بالواقع الموضوعي، فأسقط فلسفته عليه ليصبح مفكرا، وأنه ومن باب اهتمامه وولعه بالعمل السياسي، مارس السياسة ليصبحَ ساسيا، أو لأنه متحمس ويملك قلوب المناضلين، قرر أن يصبح ثائرا عندما تتطلب الأمر ذلك..
بالمثل قد يكون المفكر سياسيا، وقد يكون سياسيا وثائرا..
كما يمكن للسياسي أن يكون ثائرا، وأن لا يصبح سياسيا إلا من خلال الثورة..
ولكن في كل تلك الحالات لا يحدث التداخل في الأدوار بين “الفلسفة” و”الفكر” و”السياسة” و”الثورة”، وإنما هو يحدث بين الأشخاص أنفسهم لأسباب تتعلق بالعمل والاهتمام والهوايات.. إلخ..
ومن الأمثلة على هذا التداخل، نستطيع أن نسوق النماذج التالية..
“كارل ماركس” كان فيلسوفا ومفكرا في الوقت ذاته.. فهو كان فيلسوفا ماديا لجهة “المادية الدياليكتيكية” و”المادية التاريخية” اللتين أسَّسَ لهما وطوَّرَهما، وكان مفكرا اقتصاديا لجهة “نظرية فائض القيمة” ومخرجاتها التي أسَسَ لها في كتابه “رأس المال”، بناء على “الفلسفة الدياليكتيكية” واستنادا إلى قوانينها وقواعدها ومبادئها..
“فلاديمير لينين” كان مفكرا وسياسيا وثائرا.. فهو مفكر أسقط كلا من “المادية الدياليكيتية” و”المادية التاريخية” على واقع روسيا القيصرية، وكان سياسيا تولى زمام الأمور في إدارة الاتحاد السوفياتي، بعد أن كان ثائرا عمل على إسقاط الحكم الإقطاعي القيصري عبر ما عرف بثورة “البلاشفة”..
ومثل لينين كان “ماو تسي تونغ” و”هو شي منه” و”جياب” و”غاندي” كل في واقع الموضوعي الزماني المكاني.. إلخ..
“أرنيستو تشي جيفارا”، كان “ثائرا”، وعندما مارس السياسة لوقت قصير لم يتمكن من المواصلة فيها، فعاد ثائرا إلى أن قضى نحبه..
“هواري بومدين” كان ثائرا وسياسيا اعتمد على “الفكر الاشتراكي والقومي” تحت غطاء “فلسفي ديني إسلامي”..
“جمال عبد الناصر” كان سياسيا، جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري أطلق عليه اسم ثورة لأسباب يمكن تفهمها نسبيا، واعتمد على “الفكر الاشتراكي” تحت غطاء “فلسفي ديني إسلامي” أيضا..
في ماذا سيفيدنا كلُّ هذا الشرح فيما نحن بصدده من مناقشةٍ للأستاذ “غسان بن جدو” في انتقاده للربيع العربي الذي يعتبره مفتقرا إلى الفلاسفة والمفكرين ما يجعله أبعد ما يكون عن الثورية وأقرب ما يكون إلى الغوغائية والتيه؟!
الثورة الفرنسية لم يفجرها ولا قادها الفلاسفة، ولا فجرها ولا قادها المفكرون، كما حاول الكاتب أن يُقْنِعَ قراءَه في سياق تقليله من شأن الثورات العربية بالقول بأنها تفتقر إلى فلاسفتها وفلسفاتها، ومفكريها وأفكارها، ومن يتصور ذلك مخطئ، وإن حاول إقناع الناس به مثلما فعل الأستاذ “بن جدو” فهو يُضَلِّلُهم..
لقد فجرها – أي الثورة الفرنسية – ثوارٌ وقادها سياسيون، اقتتلوا حتى النخاع، وعلى مدى عقود لم تعرف سوى الدم وانعدام الاستقرار، رغم أنها رفعت شعار الفلسفة التي سادت أوربا كلها، وهي الفلسفة “الليبريالية” بمبادئها “الحرية، الإخاء المساواة”..
لقد اقتنع سياسيون وثوار فرنسيون بهذه المبادئ الفلسفية التي لم تكن من اختراعهم، وعملوا على إنجاز ثورة فرنسية تغير وجه فرنسا، مستغلين حيثيات الواقع الفرنسي ومعطياته وظروفه الخاصة..
لم ترتبط الثورة الفرنسية بفلسفتها وبفكرها الخاصين، كما لم ترتبط الثورة الأميركية بعدها بفلسفتها وبفكرها الخاصين..
فهل يستطيع الأستاذ “بن جدو” وكل من يحمل وجهة نظره، أن يُعَدِّدَ لنا أسماء خمسة من مفكري الثورة الفرنسية وفلاسفتها الخاصين بها، خارج القائمة المكونة من “مونتيسكيو”، و”ميكافيللي”، و”جان جاك روسو”، و”فولتير”، و”آدم سميث”، و”جون لوك”، الذين هم مفكرون وفلاسفة أوربيو المنشأ، عالميو الرؤية، وإن كان بعضهم فرنسيا، مهدوا لتفسيرٍ جديد للعالم التقطه الفرنسيون بعد عشرات السنين كي يجسدوه في بلادهم على شكل ثورة، كما التقطه الإنجليز سابقا، والأميركيون وعشرات الأمم غيرهم لاحقا؟!!
أي أن الفرنسيين تعاملوا مع فلسفة موجودة وسائدة، ومع أفكار موجودة وسائدة، اعتمد عليها غيرهم قبلهم وبعدهم في إحداث أنماط مختلفة من التغيير، وفي تمرير أشكال مختلفة من الإصلاح.. ومثلهم فعل الأميركيون، ومثلهم فعل الألمان كي يتوحدو بقيادة “بسمارك”، ومثلهم فعل الإيطاليون كي يتوحدوا بقيادة “ماتزيني”.. ومثلهم فعلت معظم شعوب الأرض..
فـ “الفلسفة الليبريالية” التي قامت في أوربا عشية ظهور “عصر الصناعة” على أنقاض “عصر الإقطاع”، والتي تأسست مع ظهور “الدول القومية” قبل ذلك، بدأت في بريطانيا ثم انتقلت إلى ألمانيا ثم إلى فرنسا، وراحت تنتشر في أوربا كالسرطان، بوصفها فلسفة أخذت صفتَها الفلسفية من عالميتها القائمة على تقديم تفسير جديد للعالم، هو التفسير “القومي الليبرالي” الذي بدأ يؤسس لـ “الديمقراطية الليبرالية” ولـ “الحرية الاقتصادية” اللتين أصبحتا وحتى يومنا هذا هما “أيقونة التغيير والتثوير” في العالم..
وقبل أن تقوم الثورة الفرنسية، كان هناك مفكر كبير أساس هو “جان جاك روسو” قد أسَّس لفكرة “العقد الاجتماعي” المكملة لمعطيات الفلسفة الليبرالية.. فإذا أضفنا إلى هذا الجانب من الفلسفة الليبرالية، كلاًّ من مخرجات “مونتيسكيو، وميكافيللي، لاكتملت لدينا الدائرة الفلسفية التي أسَّسَت لكلِّ التغييرات التي اجتاحت العالم على مدى قرابة ثلاثة قرون امتدت حتى يومنا هذا..
في منتصف القرن التاسع عشر، ولأسبابٍ ليس هنا مجال التعرُّض لها، بدأت بالتشكل فلسفة جديدة تملك تفسيرا للعالم يختلف عن تفسير “الليبرالية” هي الفلسفة “الدياليكتيكية”، وتطورت وانبثقت عنها مدارس فكرية مختلفة..
وعلى مدى الفترة التي امتدت من نهايات القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، ظهرت كل الثورات المجتمعية، وحركات التغيير والإصلاح المجتمعي، وحركات التحرر الوطني في العالم، مجسِّدة لهاتين الفلسفتين..
فهل يستطيع الأستاذ “بن جدو” ومن يتبنى رؤيته أن يوردَ لنا اسما لفيلسوفٍ روسي واحدٍ فقط نضيفه إلى “كارل ماركس”، اعتمد عليه البلاشفة في ثورتهم؟!
بل هل يستطيع أيٌّ كان أن يعطينا اسما لفيلسوف واحد من أيِّ بلد كان، كانت فلسفته التي فسر بها العالم مختلفة عن فلسفة ماركس، إذا كان البلد قد خضع للتغيير باتجاه الشيوعية والاشتراكية، أو آخر كانت فلسفته التي فسر بها العالم مختلفة عن فلسفات “لوك”، و”روسو” و”مونتيسكيو” و”ميكافيللي”.. إلخ، إذا كان بلده قد خضع لتغيير باتجاه “الليبرالية”؟!
لا أحد يستطيع ذلك، وكل ما يمكن لأيٍّ كان أن يورده، هو قوائم مفكرين جسدوا هاتين الفلسفتين في دولهم، وطبقوها عبى خصوصية شعوبهم..
فلينين ليس فيلسوفا، وتروتسكي ليس فيلسوفا، وما تسي تونغ ليس فيلسوفا، وكل قادة الفكر في المجتمعات الليبرالية ممن أسسوا لرؤاهم من على قاعدة “الليبرالية” الأم، ليسوا فلاسفة، بل مجرد مفكرين قادوا التغيير باتجاه اللليبرالية في بلدانهم وفي مجتمعاتهم..
ولكن مع بدايات القرن العشرين وبسبب انهيار الدولة العثمانية، وبعد فشل مشروع “الجامعة الإسلامية” التي دعا إليها المتنورون الوحدويون العرب من أمثال “جمال الدين الأفغاني” و”محمد عبده” و”محمد رشيد رضا”، ظهرت نزعة دينية فيها نوع من “النكوصية الخطيرة”، رأت في العودة إلى الإسلام بشكل من الأشكال الرجعية، ملجأً لإنقاذ الأمة مما جرى لها، ومما سيجري لها بسبب الزحفين الشيوعي والليبرالي القادمين..
وبعيدا عن التفاصيل، فقد أصبح في الوطن العربي بالإضافة إلى كل من “الفلسفة الليبرالية” التي دعا إليها منذ وقت مبكر مفكرون كبار من مثل “الكواكبي” و”رفاعة الطهطاوي” و”قاسم أمين” وغيرهم، و”الفلسفة الدياليكتيكية” التي تولت الدعوة إليها كافة “الأحزاب الشيوعية”، وبعدها معظم قادة حركات التحرر الوطني العربي تحت غطاء الاشتراكية، أصبح في الوطن العربي دعاة رؤية فلسفية جديدة ترتكز إلى “الرسالة الإسلامية” كمرجعية فلسفية، وفق قراءة معينة لها، لا نختلف مع أيٍّ كان على أنها كانت رجعية نكوصية أساءت للأمة وأضرت بها، بأكثر مما أساءت وأضرت الدعوات “الليبرالية” والدعوات “الاشتراكية”..
فلسفتان فقط هما “الليبرالية” و”الدياليكتيكية” مثلتا أيقونتا التغيير والتثوير في العالم على مدى المائة عام الأخيرة..
وهما بالإضافة إلى “رؤية إسلامية مضطربة” غالبا، كانت وما تزال تمثل “أيقونات التغيير والتثوير في الوطن العربي ومعظم الدول الإسلامية..
لم تكن لكل ثورة فلسفتها، ولا كان لها فلاسفتها إذن، وإنما كان لها مفكروها السياسيون والاقتصاديون والقانونيون.. إلخ، وأحيانا لم يكن لها حتى هؤلاء المفكرون، بل هناك ثورات اكتفت – لأساب موضوعية خاصة – باقتباس أفكار جاهزة ونماذج فكرية منجزة ومجرَّبَة اقتنعت بكفايتها، ليطبقَّها سياسيون وصلوا إلى السلطة في سياق غير ثوري، أو ثوارٌ أصبحوا سياسيين..
وفي نهاية الأمر – وبصرف النظر عن مواقفنا المبدئية من أيٍّ من الفلسفات الثلاث سالفة الذكر، والتي نختلف نحن شخصيا معها جميعها في تصورنا الذي نلجأ إليه في تفسير العالم، والذي نقيم عليه بالتالي رؤيتنا الفكرية سياسيا واقتصاديا وقانونيا ومجتمعيا.. إلخ – فقد أصبحت هذه الفلسفات الثلاث هي أرضيات الفعل المجتمعي والسياسي، وحواضن التحرك والتغيير بكل أشكاله في الوطن العربي، وهي ما تزال كذلك حتى الآن..
وبالتالي فمن غير المنصف، ومن التعامي غير البريء ادعاء أن الثورات العربية الراهنة تفتقر إلى الفلسفات الحاضنة لها والمؤسسة لسيرورتها..
ففي كل ثورة كان هناك أتباع للفلسفات الثلاث ودعاة لها، وتم التوافق بين الجميع على نموذج “دولة مدنية ديمقراطية تشاركية” تتوافق إلى حدٍّ كبير مع العديد من مخرجات الفلسفة الليبرالية، مع بعض الإضافات التي تمليها الخصوصية..
فلنعلن اختلافنا مع المخرجات التي أوصلتنا إليها ثورة معينة إذا كنا مختلفين مع تلك المخرجات..
ولنعلن أننا ضد أن نتراجع عن هذا الشكل من أشكال الدولة أو عن ذاك، إذا كانت لنا رؤيتنا ضمن هذه الحاضنة الفلسفية أو تلك، أو حتى لو كنا فلاسفة نمتلك حواضننا الفلسفية الجديدة..
أما أن نعتبر هذا الاختلاف وعدم الرضا، أرضية لرفض الاعتراف بأن ما يحدث ثورة، على قاعدة التشكيك في الحدث، لجهة افتقاره إلى الفلسفة والفلاسفة، وإلى الفكر والمفكرين، فهذا أبعد ما يكون عن التفكير العلمي، وعن النهج الموضوعي في التعاطي مع الظواهر المجتمعية..
وبالتالي فإن أكبر تزييف للوعي في التعاطي مع الحالة العربية الراهنة، هو التشكيك فيها من منطلق أنها لا تملك مفكريها وفلاسفتها، وفكرها وفلسفتها، لأن الثورات تنبثق في حاضنة فلسفات قد تكون قائمة وقد تكون جديدة، وبالتالي فهي لا تُقَيَّم من حيث وجود فلاسفتها الخاصين بها أو عدم وجودهم..
فالفلسفات الكبرى التي قادت الثورات العالمية وهيمنت عليها محدودة، انحصرت خلال المائة عام الماضية في الفلسفات الثلاث السابقة التي ذكرناها وهي “الليبرالية” و”الدياليكتيكية” و”الإسلامية”، في حين أن عشرات الثورات حصلت وحققت إنجازاتها في قلب الحاضنتين “الليبرالية” و”الدياليكتيكية”، دون أن يتم التشكيك فيها من هذا المنطلق، وهو منطلق “الافتقار إلى الفلسفة والفلاسفة وإلى الفكر والمفكرين”، رغم أن هاتين الفلسفتين ظهرتا في أماكن أخرى وفي أزمنة متباعدة، وفي ظروف مختلفة..
فقد تنطلق ثورة ما على أرضية فلسفية تكون هي الرائدة فيها، وقد لا يكون الأمر كذلك..
فإن حصل وكانت الثورة قائمة على فلسفةٍ هي الرائدة في الاستناد إليها، كما كان حال “ثورة البلاشفة” بـ “الفلسفة الدياليكتيكية” في روسيا القيصرية في مطلع القرن العشرين، أو حال “الثورة الإيرانية” بـ “الفلسفة الإسلامية” في إيران أواخر القرن العشرين، أو كما كان حال “الثورة البريطانية” بـ “الفلسفة الليبرالية”، في بريطانيا في منتصف القرن السابع عشر، فهذا لا يعني أن على كل ثورة أن تنشئ فلسفتَها الخاصة التي ترتكز إليها..
الثورة لا تقوم بدون مرجعية فلسفية، هذا صحيح، وإذا كانت هذه المرجعية موجودة وسائدة ومرجوعا إليها وتمثل حالة مقبولة ومتوافَق عليها، حتى لو أنها ليست من إنجاز الثائرين أنفسهم، فليس هناك سؤال مفاده “أين هي الفلسفة الخاصة التي أنجزتها الثورة، وأين هم فلاسفتها”؟!
فهذا سؤال عقيم لا معنى له، وغير قائم على وعي بحقيقة السيرورات الثورية عبر التاريخ..
في ضوء ما سبق هل يمكننا القول بأن الثورات العربية، أو أن هذه الحالة التي يطلق عليها الأستاذ “غسان بن جدو” حالة “الخواء والفوضى”، لم تكن مرتكزة إلى فلسفة أو فكر، ولم تعرف فلاسفة ولا مفكرين؟!!
بكل تأكيد هذا غير صحيح على الإطلاق، فكل ثورات الربيع العربي أو حالات “الخواء والفوضى” كما يسميها “بن جدو”، توافقت على حالة “مدنية ديمقراطية تشاركية”، أي أنها ارتكزت إلى فلسفة قائمة، اعتبرها البشر على مدى قرون طويلة نموذجا للدولة الطموح هي “الفلسفة الليبرالية”، مع محاولة إعطائها خصوصية محلية لا تصطدم بالموروث الثقافي صداما غير آمن أو غير مرَّحبٍ به، مادام خلق آليات التعايش وعدم التصادم هذه أمرا ممكنا لا يَمَسُّ شكلَ الدولة المتوافق عليه، وهو الشكل “المدني الديمقراطي التشاركي” القائم على مبدأ المواطنة للجميع..
إذن فقد سقط أول زعم من مزاعم التشكيك في الثورات بدعوى افتقارها إلى رؤيتها الفلسفية الخاصة بها، وفلاسفتها الخاصين بها، في ضوء التوضيح السابق لعلاقة الثورة بالفلسفة وبالفلاسفة، وهو التوضيح الذي لا ينزع عن الثورة صفة الثورة ومكونات الثورة لمجرد أنها لم تمتلك فلسفتَها الخاصة التي أنتجتها هي بالذات، مادامت في النهاية ليست عملا فوضويا قائما على التَّنَكُّر لكل الفلسفات الموجودة، بل هي عمل مرتكز إلى فلسفة معينة تم اختيارها بكل الوضوح والعلنية والشفافية والتوافقية..
فهل افتقرت الثورات العربية إلى “المفكرين” الذين ينبثقون من الحواضن الفلسفية المتنافسة على الساحة، أو من الحاضنة المتوافق عليها كمرجعية للتأسيس؟!
لست أدري أيُّ نوع من عمى الألوان ذلك الذي لا يرى من مرجعية ثورية في حالة “الخواء والفوضى” المصرية، سوى الشاب “وائل غنيم” ولا يسمع بغيره، مع أنه اختفى عن الساحة تماما بعد سقوط النظام، لأنه لم يكن يمتلك صفة مفكر أو سياسي، بل صفة ثائر شاب محدود الإمكانات بحكم التخصص التقني، ساقته الأقدار إلى أن يقود عملية تنسيق تواصلي بين مجموعة من الشباب كان لها الفضل في نقطة الانطلاق، ما جعله يبكى أمام المشاهدين على شاشة التلفزيون كطفل صغير مقدما الاعتذار للمصريين عن الشهداء قائلا: “والله ما كانش قصدنا”، يعني أنه لم يكن يتصور أن هناك من سيقتلون، في حين لا يرى مفكرين كبارا من أمثال الراحل “عبد الوهاب المسيري” مؤسس حركة كفاية، و”عبد الحليم قنديل” أحد أقطاب الفكر الثائر في مصر، و”جورج إسحاق” نموذج القبطي الوطني الذي يتعامل مع حالة مصرية يؤمن بقوميتها ويؤسس لدورها الإقليمي، والدكتور “حسن نافعة” الأكاديمي المفوَّه، والعشرات غيرهم ممن كانوا شوكة في حلق النظام المصري السابق، وهو يراهم يؤسسون لمصر جديدة بدأوا العمل على إنجازها منذ سنوات طويلة سبقت الثورة..
نقول.. أيُّ نوع من عمى الألوان، يُكَبِّر “وائل غنيم” إلى حد “الدايناصورية”، ويلغي من سيرورة الأحداث هؤلاء الكبار أصلا، ليحكمَ على ثورة مصر بأنها فوضى وتيه وغوغائية؟!
كما أنني لست أدري أيَّ نوع من المعرفة بعلم الثورة ذلك الذي يرى في “غنيم” صانعا لها في مصر لم تتم رؤية غيره، في حين لا يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى حركة “6 أبريل” الشبابية التي استطاعت في عام 2008 أن تقود ولأول مرة في تاريخ “مصر مبارك” إضرابا عماليا في معامل الغزل والنسيج في “المحلة الكبرى” هز أركان النظام، ومهد للثورة بعد سنتين من التجاذبات فقط، في دليل قاطع على عمق الوعي الطبقي في الصراع ضد النظام الكومبرادوري البيروقراطي الأمني المتغوِّل في مصر..
كما أنني أبدي استهجاني الشديد لأن يتم تجاوز عقدين أو أكثر من مسيرة النضال الدامية في ظل نظام “بن علي” في تونس، ولأن يتمَّ القفز على كل إنجازات المؤسسة النقابية التونسية الكبرى “الاتحاد العام للشغل”، وعلى عِظَم المبادرة التي قام بها شباب تونس عندما أعطوا النموذج الحقيقي الأسوة لمبدأ “كسر حاجز الخوف من الاستبداد والقمع والدكتاتورية”، ولا تتم سوى رؤية سباحة “الغنوشي” إلى “الإيباك” كما وصف بن جدو انبطاحه للأميركان وللصهاينة..
إن الأستاذ “بن جدو” الذي أوافقه إلى حدٍّ ما في توصيفه لجانب مما يحدث الآن في سوريا، ولجانب مما حدث وما يزال يحدث في ليبيا، ولبعض جوانب ما آلت إليه الحالات المصرية والتونسية، مع بعض التحفظات على المبالغة في ذلك، لا أراه يختلف كثيرا عن معارضيه الذين أطلق عليهم صفة “الغوغائيين” في أنه استخدم أسلوبهم ذاته في التأصيل لوجهة نظره وإثباتها..
الإرسال غير القائم على دليل..
والأسطرة “من الأسطورة” في اعتماد المرجعيات التفسيرية..
والعواطف الوجدانية البكائية الحزائنية..
والخطاب اللاعقلاني الذي يدغدغ مشاعر الغوغائيين الواقفين على الطرف الآخر من جوقة الرقص..
والاقتطاف والتصيُّد الوقائعي لما يثبت وجهة النظر، بالتلفيق ذاته الذي يلجأ إليه مرتزقة الجانب المقابل ولا فرق..
والغرق إلى الأذقان في مستنقع فكرة المؤامرة، التي لا يستطيع معتنقها تصديق أن هناك ثوارا يريدون أن يسقطوا النظام في بلدهم لأجل مستقبلٍ زاهر للوطن، بصرف النظر عن كل الأخطاء والتجاوزات والتدخلات التي نرفضها قطعا وندين من يمارسها ويقع فيها، معتبرا أن هذا يتعارض مع العقل والمنطق، الذي يراه ماثلا ومتجسِّدا في جهاز تَحَكُّمٍ عن بعد يمسك به رجل اسمه “ليفي” ليحرك الأمم والشعوب، مفجرا به ثورة هنا، وحربا هناك، وفتنة طائفية على أنقاض فتنة اثنية في هذا البلد أو في ذاك، في قفز على كل النواميس الكونية، التي تأبى الانصياع في بنائها للتاريخ لهذا القدر من الاستخفاف بالعقل الإنساني، ولهذا القدر من الاستهتار والاستهزاء بشعوبٍ ومثقفين وعلماء ومفكرين، يُراد تصويرهم بأنهم عاجزون ومتآمرون عند الحاجة إلى عجزهم وتآمرهم لتبرير موقف أيديولوجي معين، فيما يُراد لهم أن يكونوا غير ذلك، عندما تقتضي الحاجة أن يكونوا غير ذلك؟!!
ماذا ترك الأستاذ “غسان بن جدو” لعشاق السحر والشعوذة وتحميل العجز إلى القدر، وهو يلجأ لنفس أسلوب مروجي المؤامرة، في الدفاع عن وجهة نظره؟!
ماذا ترك لهؤلاء الذين يعتقدون أن الثورة البلشفية التي غيَّرت وجه العالم، كانت صنيعة يهودية رسم خطوطَها عدد من المعوقين اليهود، جلسوا في السر ليصيغوا بروتوكولاتهم الغبية التي قرروا أن تهزم الناموس والقانون الكونيين؟!
ماذا ترك لهؤلاء الذين يصدقون أن كل ثورات العالم وحروبه ومشاكله، هي صنيعة هؤلاء الذين كتب الأميرال في الاستخبارات الأميركية “وليم غاي كار” عن أن العالم كله “أحجار على رقعة شطرنج” يديرونها كيف يشاءون؟!
بل ماذا ترك أستاذنا الكبير “بن جدو” وهو يؤسِّس لأسطورة “ليفي”، لأولئك الذين يعتبرون أن يهوديا اسمه “ابن سبأ” غيَّر بحقده ومكره ودهائه وصبره وجه التاريخ، وقسَّم أمَّة الإسلام والعرب، وزوَّر كل الحقائق وزيف كل الأديان، وخلق كل الصراعات، وكأن الله عندما خلق النواميس لتحكمَ الكون، غفل عن خلل فيها، لم ينتبه إليه إلا هذا اليهودي، فاستغله منتصرا على الرب نفسه؟!!
وماذا ترك؟!!.. وماذا ترك؟!!.. وماذا ترك؟!!.. إلخ..
ولكن ذكاء الأستاذ “بن جدو” لم يخنه عندما انتبه وهو الإعلامي الكبير الذي يستطيع التقاط التناقضات في الأقوال والتصريحات، إلى أن بعضا مما ذكره بخصوص ما يتصوره من قواعد وأسس تقوم عليها الثورات، وعلاقتها بالفلسفات الثورية.. إلخ، ينطوي على بعضِ التناقضات، بسبب وجود نماذج تاريخية تتعارض معها، لا يرغب في توجيه أصابع الانتقاد لها لأسباب نحسبها أيديولوجية، تقوم على مواقف مسبقة، فقد حاول الاستشهاد بـ “محمد حسنين هيكل”، لتبرير معارضة تاريخية لتأصيلاته، فوقع في تناقضات أذهبت “البريق الوجداني العاطفي” الذي كان سمةً أساسا لمقالته..
ومما سطره في هذا الشأن ما يلي..
* فالثورة عادة تأتي بعد نهوض الفلاسفة وإضاءاتهم وزرعهم البذور واختمار أعنابهم. أما أن ينهض الفلاسفة بعد الثورات فمحال ومستحيل. والأكثر استحالة أن تنتج ثورةٌ فلسفةً، لأن الفلسفة هي التي تنتجُ ثورة..
* يمكن لهذه الثورات والربيع العربي أن ينتجا مقاتلين ومتظاهرين وراقصين في الطرقات ومصورين وممثلين على اليوتيوب، لكن يستحيل إنتاج فلسفة أو خلق فيلسوف، لسبب بسيط أنها ليست ثورات طبيعية وليست ثورات قائمة على تطور منطقي يصنعه جهابذة فكر وعصارات عقول المجتمعات..
* ولذلك انتبه الأستاذ الكبير “محمد حسنين هيكل” إلى هذه الحقيقة، وحاول إنقاذ ثورة عبد الناصر بحقنها بالفلسفة، فكانت محاولات إطلاق “فلسفة الثورة” التي نجحت نسبيا لسبب واضح، وهو أن ثورة عبد الناصر تميزت بأنها لم تكن دموية، ولم تكن ثأرية، لكنها كانت تعكس إضاءات فلسفات أخرى مجاورة في الهند “غاندي”، وفي روسيا “الاشتراكية”. وكانت تاليةً لانكسارات وحطام الإمبراطوريات الكبرى بعد الحرب العالمية..
بسبب طول المقالة فقد بقي هذا الجزء الذي لم يظهر في المقال الرئيسي، ننشره هنا لتمام الفائدة..
فهو وبعد تأكيده في العبارة الأولى على استحالة أن تنتجَ ثورةٌ فلسفةً، لأن الفلسفة في رأيه هي التي تُنتج الثورة، نراه يعود في الفقرة التالية ليقع في خلط منهجي خطير، عندما يعتبر أن إنتاج الثورة للفلاسفة وللفلسفات أمرٌ ممكن، إذا كانت ثورات طبيعية قائمة على تطور منطقي يصنعه جهابذة الفكر، ولكن ولأن الثورات العربية لم تأتِ في سياقٍ كهذا، فهي يستحيل في نظره أن تنتجَ فلسفةً أو أن تخلقَ فيلسوفا!!
إنها تناقضات منهجية لا يستهان بها، نرجعها إلى قلة الدراية بعلم الثورة، وإلى عدم التبحُّر في تاريخ الثورات، وفي قواعد السيرورة التاريخية للمجتمعات.. إلخ.. فنحن نختلف معه في الأولى، لأن كل ثورة هي في واقع الأمر نتاج لفلسفة معينة، وتخلق بيئة ثقافية واقتصادية وسياسية جديدة تمهد الطريق لفلسفة أو لفلسفات جديدة قادمة تفرضها السيرورة التاريخية وقوانين التطور..
ونختلف معه في الثانية، لأننا نرى أن الثورات العربية ليست نبتا شيطانيا بلا رأس جاء من فراغ، بل هي ثورات قامت قياما كاملا على فلسفات وأفكار، ومهد لها مفكرون وصنعها ثوار..
وأخيرا فإننا نشعر بعدم الارتياح من التناقض الذي وقع فيه الأستاذ “بن جدو”، والذي سارع إلى تداركه عندما انتبه إلى أن سائلا قد يسأل: “وما بال ثورة 23 يوليو، أين الفلسفة فيها؟!”، وهي الثورة التي لا يريد أن يشككه فيها أحد على ما يبدو، ناسبا إلى “محمد حسنين هيكل” التأسيس لفلسفة ثورة قامت بلا فلسفة، على ما بدا له، ليقعَ في تناقضٍ أشد من سابقه بقبوله مبدأ أن تنشئ ثورة حصلت بلا فلسفةٍ فلسفةً وفلاسفةً؟!!!!!!!!
ونحن إذ نختلف مع الأستاذ بن جدو” في سقطته الأخيرة ونأخذ عليه مراوغته المعرفية، فإننا في واقع الأمر لا نعتبر أن ثورة يوليو كانت بلا فلسفة، ولا نعتبر أن هيكل هو الذي أسس لها فلسفةً بأثر رجعي كما يتصور “بن جدو”، بل هو فقط قام بصياغة فلسفتها بأمر من الرئيس عبد الناصر الذي نحسبه كان واعيا كل الوعي بالفلسفة التي ارتكزت عليها ثورة الضباط الأحرار..
وإذا كانت لا دموية ثورة الضباط الأحرار في مصر هي التي جعلتها تنجح وتستمر رغم أن فلسفتها نشأت بأثر رجعي كما يزعم الأستاذ بن جدو – وهو ما نعارضه فيها كليا كما بينا – فهذا يعني أن الثورات غير الدموية تستطيع فعل ذلك لأنها غير دموية.. أي أن ثورة مصر وثورة تونس وثورة اليمن التي شهد العالم بأنها من أرقى مظاهر الحراك غير الدموي الذي أسقط أنظمة، هي ثورات بمقتضى فكرة “بن جدو” نفسها، فلماذا الهجدوم عليها واعتبارها أعمالا غوغائية؟!
مع أننا نعود لنسألَه عن الدليل الذي اعتبر بموجبه أن الثورة غير الدامية ستتمكن مثلما كان حال ثورة عبد الناصر من أن تتجاوز أزمة “انعدام الفلسفة” في انطلاقتها واستمرارها، حتى لو اضطرت لإنجاز فلسفتها بأثر رجعي كما فعل “هيكل” بثورة “ناصر”؟!
وإذا كانت ثورة الضباط الأحرار قد نجحت في أن تتدارك لا فلسفيتها وإن يكن بأثر رجعي، لأنها كانت “تعكس إضاءات فلسفات أخرى مجاورة في الهند “غاندي”، وفي روسيا “الاشتراكية”. وكانت تاليةً لانكسارات وحطام الإمبراطوريات الكبرى بعد الحرب العالمية”، كما أعلن “بن جدو” في استدراكه الأخير المفعم بالتناقضات، فإننا نتساءل أمام الأستاذ “بن جدو”:
ما هي فلسفة ثورة الهند؟! ومن هم الفلاسفة الهنود الذين ارتكزت إلى تفسيرهم للعالم في إنجاز ثورتها؟!
وهل معنى ما يقوله بن جدو، أن قدَر العرب هو ألا تكون لهم ثوراتهم إلا إذا كانت تقتات على هامش ثوات الآخرين؟!
ومن أين له بالدليل على صحة هذا الادعاء الأبعد ما يكون عن العلمية والموضوعية؟!
إننا باختصار أمام حشدٍ من التناقضات والمزاعم غير العلمية، المرتكزة إلى مواقف أيديولوجية مسبقة يُراد فرضها كأرضية للحوار والمناقشة والتقييم، فيما يعتبر أسلوبا أبعد ما يكون عن الموضوعية وعن المنهج العلمي..
كل شيء قابل للمناقشة في ثوراتنا العربية، فهي ثورات ناقصة، وهي ثورات قيد الاستكمال، وهي ثورات تم اختراقها والقفز عليها من قبل كل أصناف الوصوليين والمرتزقة والمتآمرين وأصحاب الأجندات، كما يحدث في الغالب لمعظم الثورات إن لم يكن لكلها، وهي ثورات تتنافس فيها مختلف التيارات، وقد تقوم فيها تصفية الحسابات، وقد تأخذ مدى زمنيا طويلا حتى تستقر الأوضاع في الدول التي حدثت فيها، وهي.. وهي.. إلخ..
كل هذا صحيح ومشاهَد ولا نختلف عليه كواقع موضوعي، وإن اختلفنا على بعض تفاصيبله ومفرداته..
لكنها ثورات تُقرأ بقواعد علم الثورة، وتناقش في محافل مناقشة الثورات، ويتم تقييمها في ضوء مدى تكامل نواميس التغيير الثوري فيها، وتناقش فلسفاتها وأفكارها، كما تناقش فلسفات وأفكار كل الثورات العالمية..
ولا يصح النظر إليها باعتبارها فوضى تُساق إليها شعوبنا ومجتمعاتنا كما قطعان الأغنام، في تجاهلٍ تام لكل العلوم الاجتماعية والنفسية، ولنواميس الطبيعة والمجتمع، بفعل مؤامرةٍ خارجية لا ننكرُ وجودها في حدود معينة، وندعو إلى إجادة التعامل معها – أي تلك المؤامرة – لإنقاذ ثوراتنا، لا إجهاضها والإجهاز عليها بحجة اعتبار أن وجود متآمرين يحاولون اختراقها، يجعلها كلها ظاهرة محل تشكيك وإعادة نظر وإدانة!!
فلا هذا منطق ولا هذه موضوعية..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.