ثورةُ مصر وإرهاصاتُ “الفن الثامن” أسامة عكنانعمان – الأردن بين يدي ثورة مصر..على الرغم من أن استقراء الأدبيات الكلاسيكية للثورات يكشف لنا عن مجموعة من العناصر التي لازمت تَفَجُّرَ الثوراتِ وصيرورتَها، وعن مجموعة أخرى من العناصر بعضها يُنْتِجُ الثورة وبعضها يَنْتُجُ عنها، فيما أصبح يمثِّلُ موروثا إنسانيا، شكَّل القاعدة المعرفية لعلمٍ متكاملٍ هو “علم الثورات”
ثورةُ مصر وإرهاصاتُ “الفن الثامن”
أسامة عكنان عمان – الأردن
بين يدي ثورة مصر..على الرغم من أن استقراء الأدبيات الكلاسيكية للثورات يكشف لنا عن مجموعة من العناصر التي لازمت تَفَجُّرَ الثوراتِ وصيرورتَها، وعن مجموعة أخرى من العناصر بعضها يُنْتِجُ الثورة وبعضها يَنْتُجُ عنها، فيما أصبح يمثِّلُ موروثا إنسانيا، شكَّل القاعدة المعرفية لعلمٍ متكاملٍ هو “علم الثورات” الذي يعدُّ واحدا من أهم فروع علمي الاجتماع والتاريخ، إلا أن كل ثورة ما فتئت تضيف إلى هذا العلم من القواعدِ والأسسِ والقِيَمِ، ما يمكن اعتباره بصمتَها الخاصة. إن هذه البصمة هي في الجانب الأهم منها مَسْحَةٌ من مسحات الإبداع، تشبه في جوهرها المسحات الإبداعية في كافة الفنون، ما يدفعنا إلى القول بأن الثورات، بقدر ما هي حركات مُجْتَمعية تخضع لقواعد علمية ثابتة، تجعل من المقدور عليه إدارة المجتمع باتجاه تثويره استنادا إلى تلك القواعد إذا توافرت شروط الحراك الثوري، بقدر ما هي لوحات فنية، تتجلى فيها إبداعات الثائرين المتولِّدَة من وحي واقعهم، ومن طبيعة معاناتهم، ومن نمط تفاعلهم مع ذلك الواقع ومع تلك المعاناة، في ضوء الموروث الثقافي المُتَكَوِّن عبر مئاتِ وربما آلافِ السنين. وهذا هو على وجه التحديد ما أثبتته التجربتان الثوريتان الراهنتان “المصرية” وقبلها “التونسية”، اللتان قفزتا على الكثير من القواعد المتعارف عليها في “علم الثورة”، لتسطرا بإبداعات الثائرين التونسيين والمصريين في الميدان، لوحاتٍ ثوريةً أضافت إلى “الفنون السبعة” فنا ثامنا هو بامتيازٍ تونسيٍّ ومصريٍّ “فنُّ الثورة”. ولأن الجانب الفني الإبداعي في أي ثورة، يتفاعل مع الجانب العلمي فيها تأثُّرا وتأثيرا، في محاولةِ إسقاطِ القواعدِ العلميةِ الحاكمةِ لصيرورة الفعل الثوري على خصوصية الزمان والمكان في تفاعلهما مع الموروث الثقافي، فإن التعرف على منظومة القواعد العلمية ذات الطابع الحتمي في الثورة، يغدو هو المفتاح القادر على توجيه دفة الإبداع الثوري في ثورة معينة وهي تُنْتِجُ بصمتها الخاصة التي ستضاف إلى إرث الأدبيات الثورية، سواء نظرنا إلى الثورة بوصفها علما أو بوصفها فنا.إن الثورة المصرية بالذات، وبالنظر لما لـ “مصر” أرضا وتاريخا وثقافة وشعبا، من مكانة جيوسياسية هامة على الصعيدين القومي والعالمي، تداخلت فيها الأحداث والتطورات وردود الفعل، بشكل جلَّى كافة العناصر المُشَكِّلَة لمنظومة قواعد “علم الثورة” الأساسية. فعلى مدى الأيام الثمانية عشر من عمر ثورة الشباب في مصر، فرضت أزمة المفاهيم والمصطلحات نفسَها، ليحدث التجاذب الحاد بين مفهومي “الإصلاح” و”الثورة” اللذين بدا واضحا أن عدم اتضاح الفروق الفاصلة بينهما، حدا بالكثيرين إلى خوض غمار مفاوضات وحوارات كادت تخرج بالثورة عن مسارها، لولا أن مستوى الوعي والإصرار والثقة لدى مبدعي الثورة من الشباب كان أكبر من جعجعات السياسيين المخضرمين من خريجي المعتقلات والزنازين. وإذا تجاوزنا مسألة “المفاهيم والمصطلحات”، إلى مُكَوِّنات الفعل الثوري من الناحية السوسيولوجية، فقد فرضت الثورة المصريةُ مناقشةَ مسألةٍ غاية في الأهمية، هي مسألةُ: أيهما يُنْتِجُ الآخر، “الثورة” أم “الأزمة”، وأيهما يتسبب في الآخر، “الثورة” أم “الفوضى”، وأيهما يؤدي إلى الآخر، “الثورة” أم “الانهيار”. وكانت هذه المسألة هي مثار التجاذب الحاد بين قادة الثورة وجمهورها الذي راح يتنامى عدديا يوما بعد يوم، ويتطور فكريا ساعة بعد ساعة، وبين النظام الذي استمات في الدفاع عن نفسه، مستخدما كل الأكاذيب والخدع ومحاولات الاستدراج والتسويف والوعود المتصورة، خلال مسيرة تراجعِه الفاضحة أدائيا وأخلاقيا، دقيقة في إثر دقيقة، على مدى أيام الثورة وحتى آخر رمقِ حياةٍ فيه.ولأن ديدنَ الأنظمة التي تُواجَهُ بثورات تستهدف وجودَها، هو اللعب دائما على أوتار التشكيك في شعبية الثورة وفي انتمائها ووطنيتها، عبر توجيه كل تهم التَّخوين الممكنة لقادتها ومفجريها وصانعيها، مستخدمة في ذلك منظوماتِ وحُزَمِ المعلومات والعلاقات المتاحة لدى أجهزتها الأمنية، لتوظيفها التوظيفات المشبوهة القادرة من وجهة نظر تلك الأنظمة على خلق الشروخ في جسد الثورة، فقد ظهرت عبر صيرورة الأحداث في يوميات “الثورة المصرية” ومنذ لحظاتها الأولى، مقولةُ “الثورة والأجندات الخارجية والداخلية” التي لم يتحرر من استخدامها الرئيس المخلوع نفسه، حتى في خطابه الأخير الذي ألقاه في لحظات الغَرْغَرَة، على اعتبار أن “الأجندة الخارجية” المرتبطة بِدُوَلٍ عدائيةٍ، ومثلَها إلى حد ما “الأجندة الداخلية” المرتبطة بفئات منبوذة من المجتمع، إذا تم النجاح في إلصاقها بحراكِ فئةٍ تطرح نفسها وفعلَها ضمن أطر الوطنية والانتماء، هما بكل تأكيد مبررٌ قاطع للتشكيك في تلك الفئة وفي حراكها المُجْتَمعي الجاد، الساعي إلى التغيير الحقيقي، بنزع صفة الوطنية والانتماء عنها وعنه.ولما كانت أي ثورة في جوهرها وفي أول مظهر من مظاهرها استفتاءً شعبياً على الشرعيات، يقوم بهدم شرعية وإنشاء أخرى والتأسيس لها، على أنقاض تلك التي هدمها، فقد ظهرت معركة التجاذبات خلال يوميات الثورة المصرية، كدالَّةٍ واضحة على هذا المعنى. فمع كل خطوة كانت تتقدمها الثورة إلى الأمام في التأكيد على شرعيتها الجديدة الداعية إلى إسقاط النظام، ممثلا أولا وقبل أي شيء في رحيل رئيسه، ليتمَّ التفاوضُ فيما بعد على آليات بناء الشرعية الجديدة ونظامها السياسي، كان النظام المترنح المستميت في الدفاع عن نفسه وعن شرعيته، يحرص في كل عروضه التي كان يتقدم بها من وقت لآخر، ويصر في كل تنازلاته التي كان يضطر إليها تحت ضغط التنامي في المد الثوري والتصاعد في مطالب الثورة، على التظاهر بأنه لم يدرك هذا المعنى في الثورة ولا صدَّقَه، لتأتي طروحاته وتنازلاته كلُّها ضمن دائرة الإصلاحات، التي بدا مثيرا للسخرية أن يتعهد بتنفيذها، ومن خلال الأشخاص المنبوذين أنفسِهم، وبلا أدنى خجل أو حياء، مستغربا مبدأ التشكيك فيه وفي رجالاته، نظامٌ قامت الثورة لتسقط شرعيتَه ابتداء، بل هي نجحت بالفعل في إسقاطه ومعه كل ركائز شرعيته المزورة، عبر المظاهرات التي أخرجَت إلى الشارع المصري في “جمعة الرحيل” ما يربو على الثمانية ملايين متظاهر، ليصل هذا العدد إلى ما يربو على الخمسة عشر مليون متظاهر في “جمعة الزَّحف”، ينادون بلسان واحد، وهم على قلب رجل واحد، بإسقاط النظام ورحيل رئيسه وكافة رموزه، في أضخم تظاهرات سجلها تاريخ الثورات على ما نعلم.إن الأدبيات الثورية تُظْهِرُ لنا بجلاء، أنه ما من ثورة فجرَّها شعب من الشعوب، إلا وكانت مسبوقةً بظاهرة غاية في الأهمية، هي ما تطلق عليها تلك الأدبيات ظاهرة “انشقاق المثقفين” عن النظام الحاكم. إن هذا الانشقاق الذي يُرْهِصُ حتما بأجواءِ ثورةٍ تحتقن سحبُها في الأفق، تتزايد وتيرته عشية الثورة وخلال صيرورتها، عندما تبدأ الكثير من الفئات “المترددة في مواقفها لسبب أو لآخر”، و”الخائفة والمتوجسة من آلة بطش النظام”، و”الانتهازية والمنافقة والوصولية والمترقبة لجهة ميلان ميزان القوى”، في حسم مواقفها كي تجد لنفسها موقعا في النظام المرتقب عبر شرعيته التي أصبحت قيد التَّشَكُّل. وبالنظر لما لظاهرة الانشقاق الثقافي من أثرٍ بالغ في الحراك الثوري خلال كل مراحله، فقد كان من الطبيعي أن تُجَلي لنا الثورة المصرية هذه الظاهرة بكل تداعياتها المتصورة. إن الثورة المصرية – وقبلها الثورة التونسية إلى حد ما – وفي ظروف تكنولوجيا العصر المعتمدة بشكل غير مسبوق على عنصر التواصل الاجتماعي الذي جَسَّدَتْه الشبكة العنكبوتية، ظهرت وكأنها ثورة بلا رأس، وهو الأمر الذي أثار القلق والخوف لدى فئات واسعة من المثقفين المصريين، وعلى رأسهم قادة القوى السياسية التي أخجلها وربما أحرجها أن تكون رغم كل جعجعاتها السابقة، متخلفة بمراحل لا توصف عن فعل الجماهير والقوى الشبابية التي حركت تلك الجماهير باتجاه مطالب ثورية لم تَرْقَ مطالبُ كل تلك القوى السياسية إلى أدنى مستوى من مستوياتها قبل الثورة. وهو الأمر الذي أتاح الفرصة لظهور دعوات “الخشية من الفراغ السياسي” التي روَّجت لها بعض القوى السياسية التي راح النظام المتهاوي نفسه يدعمها في ذلك، إدراكا منه أن مثل هذه الدعوات إن وَجَدَت لها سوقا ورواجا في أوساط الجماهير أو الثائرين، فإن من شأنها أن تَرْفِدَ خروجَه – أي النظام – من مأزقه بمقوِّمات البقاء، بتفريغ الحركة الثورية الشعبية من زخمها الثوري، وتحويلها إلى مجرد حركة مطلبية إصلاحية يمكن التفاهم على تلبية مطالبها من خلال أدوات النظام ذاتها، وعبر القوى السياسية التي راحت تقفز هنا وهناك لتفاوض النظام مرة ولتحاوره أخرى، رغم أنها ونظرا لزخم الحدث ما كانت لتجرؤ على ادعاء أنها تفعل شيئا أكثر من مجرد جس النبض، لنقل ما يحدث بعد ذلك إلى صناع الثورة ليروا رأيهم فيه. وهنا وجدنا أنفسنا معنيين بمناقشة هذه المقولة الجديدة الغريبة المشبوهة ألا وهي مقولة “ثورة بلا رأس”، للتعرف على جوهرها وحقيقتها ومدى جهل من يُرَوِّجُ لها بحقائق “علم الثورة”.وكما هو شأن كل الأنظمة المتداعية تحت وطأة بلدوزر الثورات الاجتماعية، لم يُقَصِّر النظام المصري في استخدام الفزاعات المختلفة لمواجهة زخم التنامي والتصاعد في هذا الفعل الثوري غير المسبوق. وإذا كانت فزاعة “القوى الظلامية المحلية” ممثلة – حسب زعم النظام – في “الإخوان المسلمين”، وفزاعات الأجندات الخارجية ممثلة في كل من “حزب الله”، و”حماس”، و”إيران”، هي الفزاعات السياسية التي استخدمها النظام المصري لأجل هذا الغرض، فقد كانت الفزاعة الاقتصادية التي ارتكزت إلى مقولاتٍ مثل “انهيار الاقتصاد الوطني”، و”خسائر الأمة المصرية”، و”تراجع التنمية” بسبب الاحتجاجات.. إلخ، هي الفزاعة التي ركز عليها النظام، ليخيف المواطن المصري من المستقبل المجهول والمرعب الذي تدفعه إلى أتونه هذه الحركة التي أراد أن يُقْنِعَ ذلك المواطنَ بأنها عَبَثِيَّة وعَدَمِيَّة. وهو ما يتطلب مناقشة فكرة “علاقة الثورة بالتنمية المستدامة”.تَجَلِّيات ثورة مصر على صعيد قواعد علم الثورة.. أولا.. حراك التغيير المجتمعي بين الثورة والإصلاح..إن الحركاتٍ الداعيةَ إلى التغيير في المجتمعات الإنسانية، ظاهرةٌ قديمة قِدَم التواجد الإنساني المجتمعي ذاتِه. فالواقع الإنساني المتغيرُ باستمرار على صعيد الوعي والمعرفة والاحتياجات، جراء تطوراتٍ جوهريةٍ معظمُها حتمي في بُناه التحتية، يتطلب تغييرا مواكبا لتغيُّرِه ذاك على صعيد البُنى والهياكل والتنظيمات، التي تمثل تطوراتٍ ضروريةً كلها إرادي واختياري في بُناه الفوقية. لا أحد يستطيع معاندة مبدإ التغيير ومشاكسته والوقوف في وجهه وادعاء عدم الحاجة إليه، فهذا ضد منطق الأمور ومتناقض مع طبيعة الأشياء. ومع ذلك فالتاريخ ينبئنا بظاهرةٍ تكاد تكون مرافقةً لمبدإ التغيير لا تنفك عنه، ألا وهي عدم تَحَقُّقِه في الواقع الذي يحتاج إليه، إلا من خلال تجاذباتٍ حادةٍ بين مجموعتين من البشر في المجتمع الواحد، إحداهما تدعو إليه والأخرى تقاومه!!في واقع الأمر، حتى ذلك الذي يقاوم التغيير، هو لا يفعل ذلك لأنه يؤمن بالجمود المطلق – فهو لا ينفك يمارس التغيير باستمرار، وإن يكن بطريقته وفي حدود ما يريده، إدراكا منه أن الجمود المطلق مقتلٌ حتى له ولمصالحه – وإنما هو يرفض التغيير المطروح من قبل دُعاتِه من زاويتين، الأولى تمثل “مداه وآفاقه”، والثانية تمثل “أدواته ووسائله”. فهو يقاوم تغييرا يراه يتجاوز الحدود المسموح بها وفق منظومة مصالحه التي لا يجوز في تَصَوُّرِه قبولُ التغييرات التي تتعارض معها بشكل حاد. كما أنه يقاوم تغييرا يستخدم أدواتٍ تهدد بُنْيَة المصالح القائمة التي ينذر استخدامُ بعضِ الأدوات غير المستحبة في التغيير، بسقوطها وتفكيكها.إن الحرية دالَّةٌ ومؤشر على العدالة. فأيُّما مجتمع تَدَنَّت فيه مستويات الحرية، فإن مستويات العدالة فيه هي أكثر تدنيا. إن من يستعبدون البشر إنما يفعلون ذلك ليستحوذوا على جهودهم المُنْتِجَة وليحرموهم من مردودها، وليستمتعوا هم من دونهم، وليستأثروا هم بدلا منهم، بأكبر قدر من ذلك المردود. إن هذه العلاقة الخاصة التي تربط كلا من قيمة الحرية والعدالة بالأخرى ربطا وجوديا، تمتد لتطال كل مراحل التاريخ وكل اشكال التواجد الإنساني. فما من دعوة إصلاحية أو حركة ثورية، وما من نبوة أو رسالة، إلا وانصبت في جوهرها نحو تحقيق الحرية أو العدالة أو كليهما، بشكل من أشكالهما الممكنة، وبمستوى من مستوياتهما المتاحة.عندما نطالب بالعدالة دون أن نطالب بالحرية، فمن المُرَجَح ألا نتمكن من تحقيق لا هذه ولا تلك. أما عندما نطالب بالحرية، فإننا نعي جيدا أنها السبيل الحقيقي والسليم لتحقيق العدالة، فنكون عندئذ قد وضعنا أقدامنا على بداية الطريق الصحيح. عندما نكتفي بتحقيق هوامش من العدالة في ظل مستوى من الحرية سائدٍ، فنحن بإزاء “عمل إصلاحي”، خضع له النظام القائم لضمان إطالة عمر نظام “اللاحرية” السائد قدر المستطاع، بل ربما أن النظام خضع لذلك العمل الإصلاحي، كي يلتقط أنفاسه بالخداع والمراوغة، لإعادة بناء منظومة “اللاحرية” بشكل يُمَكِّنُها من الاستمرار عبر تجديد أدواتها، حتى لو أُرْفِقَ ذلك التَّحَوَّل الهامشي نحو العدالة بتَغَيُّرات – هي حتما أكثر هامشية – نحو حريةٍ ما. أما عندما لا نكتفي بإحداث تغييرات في “نظام العدالة”، إلا من خلال إحداث تغييرات أسبق وأشمل وأعمق في “نظام الحرية”، فنحن في واقع الأمر بإزاء “عمل ثوري”، سيقاومه “نظام القمع واللاحرية” باستماتة، لأنه بمقاومته له، إنما يذود عن وجوده، ويخوض معركة حياته أو موته. وبين “الإصلاح” و”الثورة” تتراوح دعوات التغيير وتمتد مساحات فعلها في المجتمعات الإنسانية. لذلك تلجأ الأنظمة القمعية البوليسية التي تُواجَه بثورات اجتماعية، إلى عرضِ حُزَمٍ من الإصلاحات في “نظام العدالة” قد تكون مرفقة أحيانا بتنازلات محدودة عن بعض امتيازاتها في “نظام الحرية”، سعيا إلى تفريغ الفعل الثوري من محتواه، وتحويله إلى حركة إصلاحية لا تمس مشروعية “حزم اللاحرية” السائدة. أي أن تلك الأنظمة تقبل خسارةً قليلةً بالتنازل عن بعض امتيازاتها الاقتصادية، إذا كان في تلك الخسارة ضمانٌ لاستمرار امتيازاتها السياسية الكافلة لعدم الإخلال الجوهري بالنظام الاقتصادي وبنظام تقسيم العمل السائدين في المجتمع.في مصر ثار المصريون على “نظام اللاحرية” منذ اللحظة التي أعلنوا بوضوح أنهم يريدون إسقاط النظام عبر رحيل رئيسه، كخطوة أولى على طريق ذلك الإسقاط، ومثلهم فعل التونسيون قبل ذلك. النظام من جهته تظاهر بعدم سماعه لكلمة “ثورة” المدوية، ولا لعبارة “الشعب يريد إسقاط النظام” المزلزلة، وتعامل مع الأمر بوصفه احتجاجات أعلن تجاوبَه مع مطالب أصحابها بعرضه لمجموعة إصلاحات تعهد بتنفيذها، في حرصٍ منه على إفراغ الثورة من مضمونها الثوري وتحويلها إلى حركة إصلاحية تُبْقي عليه نظاما قائما بمعظم سوءاته، إن لم يكن بها كلها، بعد أن هيِّئَ له أن بإمكانه الدخول من الشباك إذا خرج من الباب الخلفي للبيت وليس من بابه الرئيسي. لكن جماهير الشعب المصري أصرت على إيصال المعنى المراد، عبر التنامي في زخم الثورة التي فجرها شباب تلك الجماهير، معلنة أنها لن ترضى بأقل من خروج النظام من الباب الرئيسي وليس من أي باب خلفي، بل وعلى إغلاق كل الشبابيك في وجه أفراد هذا النظام قد تتيح لهم فرصة العودة من حيث خرجوا بالالتفاف على الثورة. هكذا هو الصراع بين أي ثورة والنظام الذي تثور عليه، هي تصر على أنها ثورة، وهو يصر على أنها حركة إصلاحية، هي تصر على إسقاطه، وهو يصر على البقاء عبر تحجيم مطالبها، هي تصر على إخراجه من البوابة الرئيسية، وهو يصر على الخروج – هذا إن قبل الخروج – من باب خلفي قريب من نوافذ الوطن كي يعود بثوب جديد، إلى أن ينتهي الأمر بانتصار أحد الطرفين. ثانيا.. الثورة والأزمة، أيهما السبب وأيهما النتيجة..إن واحدة من الظواهر الملازمة للثورات الاجتماعية من حيث ردةُ فعلِ النظام الذي تستهدفه، هو أن ذلك النظام يصر على وصف الحالة التي تَنْتُجُ عن الثورة خلال صيرورة أحداث الحراك الثوري، بأنها “أزمة”، يبدأ بالحديث عن مردودها السلبي على المجتمع وعلى الدولة، ليتطور الحديث عن الثورة، من القول بأنها احتجاجات أثارت “أزمة”، إلى كونها احتجاجات أحدثت “فوضى” اجتماعية، منذرةً في حال استمرارها بـ “انهيار” الدولة ككل. ورغم أن هذا هو ديدن كل الأنظمة البوليسية التي تتم الثورة عليها، فإننا باستقرائنا للكثير من الثورات التي عرفتها البشرية، وخاصة منها ما عرفه القرن الماضي، لا نرى أيا منها أدى إلى انهيار الدولة أو إلى فوضى من تلك التي كانت تتحدث عنها الأنظمة المخلوعة قبل خلعها، بل إن العكس تماما هو ما كان يحصل غالبا إن لم يكن دائما.إن هناك عملية تضليل مُمَنْهَجَة تَتَّبِعُها كل القوى المضادة للثورات الشعبية، مُمَثَّلَة بالدرجة الأولى في المؤسسات الثقافية المُؤَصِّلَة والمُرَوِّجَة للأنظمة القمعية والبوليسية.. عمليةُ تضليل تعكس المعادلة، وتقلب الحقيقة، وتُزَوِّرُ الواقع، فتجعل السبب نتيجة والنتيجة سببا. من حيث المبدأ لا يوجد شعب يتمتع بالحرية والعدالة ثم يقوم بتفجير ثورة، لأن كل الثورات إنما تنطلق من أجل الحرية والعدالة، فإذا كانت هاتان القيمتان متوفرتين ومتحققتين في المجتمع بالقدر الذي يحول دون حدوث التناقضات بين بنائيه الفوقي والتحتي، فلمَ الثورة، ولأي غاية يُفترض أن يثور الناس إذن؟!الثورة في جوهرها هي عملية حراكٍ جمعي واعٍ، يدفع إليه تراكمٌ متنامٍ للاحتقان المجتمعي، الناتج عن عدم تجاوبِ البناء الفوقي في المجتمع، مع متطلبات البناء التحتي فيه وهو ينمو ويتطور، تجاوبا طبيعيا وموضوعيا، إلى أن يصل البناءان إلى مستوى من التناقض يستحيل معه أن يتعايشا بدون صدام واحتكاك يهدف إلى إعادة إنتاج المجتمع وعلاقاته وبُناه الفوقية بشكل يضمن حالةً من التوافق مع بُناه التحتية. أي أن الثورة لا يمكنها أن تصبح ضرورة، ولا أن تتحول من ثمَّ إلى أمرٍ واقعٍ وإلى حالةِ حراكٍ موضوعية، إلا بوجود أزمة عميقة ومتجذرة سبقتها وأدت إليها وجعلتها الحل الوحيد الممكن للحفاظ على بُنية المجتمع. كما أنها – أي الثورة – بناء على ما سبق، هي عملية اجتماعية حاسمة، تستبقُ حالةَ الفوضى والانهيار اللتين تكون الأزمة المستفحلة التي تسبب فيها النظام القمعي البوليسي، قد بدأت تنذر بقربهما في ظل النظام القائم نفسه، باعتباره نظاما خلق بسياساته القمعية والبوليسية المتراكمة كل عناصر تلك الأزمة. إن المجتمع بثورته لا يسبب أزمة وإنما يستجيب لأزمة تتطلب التعاطي معها بإيجابية، سعيا نحو حلها وتفكيك عناصرها، للتخلص من تداعياتها، استباقا لانهيار الدولة وعموم الفوضى في المجتمع بسبب تلك الأزمة ذاتها. وكأنها نوع من حصون المقاومة الذاتية يلجأ إليها المجتمع قبل حدوث الانهيار الشامل والفوضى العارمة في بُناه ومؤسساته. إن الثورة بهذا المعنى هي فعل إيجابي يدافع به الكائن الاجتماعي الحي عن نفسه من الفناء والاندثار اللذين تظهر نُذُرُهما في الأفق بسبب ممارسات “نظام اللاحرية” الذي يُنْتِجُ حتما “نظامَ اللاعدالة”. وهذا يعني أن المجتمع الذي تصل حالة الاحتقان فيه إلى حدودها القصوى دون أن يثور للتخلص من حالة الاحتقان تلك، إنما هو مجتمع يستسلم لحالة التفكك والانهيار والفوضى التي ستقضي عليه قضاءً تاما، ليُعَبِّرَ عن أقصى درجات السلبية وعدم استحقاق الحياة أصلا. وبتعبير أدق، فإن المجتمع المأزوم بتداعيات ممارسات “نظام اللاحرية”، هو مثل الجسم المريض، الذي يجد نفسه معنيا باستخدام كل وسائل دفاعه كي يقضي على الفيروسات والميكروبات التي تهاجمه، سعيا للتخلص منها والعودة إلى وضع السلامة من المرض. إنه يثور على الأزمة الداخلية التي سببتها تلك الفيروسات المهاجِِمَة لتجنب الانهيار التام وعموم الفوضى التي ستؤدي إلى الموت حتما. إن حالة الغليان الاجتماعي التي نلاحظها إبان الأحداث الثورية أو قُبَيْلَها أو بُعَيْدَها، تشبه حالة الحرارة المرتفعة التي تُسَبِّبُها مقاومة الجسم لأعدائه ومهاجميه والحريصين على إفنائه وانهيار قواه. إن المجتمع الذي تصل عناصر القمع والبوليسية والاستعباد والظلم الاجتماعي فيه حدودَها القصوى، هو مجتمع مأزومٌ وصلت إمكانات أزمته إلى أقصى درجاتها، بعد أن تكون كل عناصر المرونة فيه قد استُنْفِذَت في التعامل مع هذه الأزمة، دون تحقيق نتائج ملموسة على صعيد “الحرية”، وهو عندئذ يجد نفسه معنيا بالثورة، للتعامل مع الأزمة بما يليق بها من أدواتٍ فرضتها مستوياتها تلك. وكما أن الفيروسات التي تصيب الجسم تستمر في الدفاع عن نفسها باستماتةٍ وهي تحاول الإبقاء على عناصر الأزمة القاتلة مُتَمَكِّنَة من الجسم الذي أَزَّمَتْه، فكذلك النظام البوليسي القمعي يفعل الشيء نفسَه، إلى نهاية المعركة التي لن تهدأ إلا باستسلام أحد الطرفين وانهياره. فإما انتصار “نظام الحرية” بانتصار الثورة، وإما بقاء واستمرار “نظام اللاحرية”، حتى لو تم ذلك بتقديم بعض التنازلات هنا، وبإلقاء بعض الفتات هناك.من هنا يتجلى لنا أن الانهيار والفوضى والأزمة التي تتحدث عنها الأنظمة في سياق خوضها لمعركة البقاء والاستمرار في مواجهة ثورات الشعوب، إنما هي محاولات يائسة للقفز على الحقائق، ولشرخ الصفوف، ولاستخدام سلاح الإرهاب ضد الثائرين، أو على الأقل ضد الفئات الصامتة التي لم تحسم أمرها بعد. ولعله لهذا السبب تتشابه الأنظمة البوليسية أو “أنظمة اللاحرية”، في الطُّرُق النمطية التي تتبعها في مواجهة الثورات الشعبية. فلكي يكون للزَّعْم بأن الفوضى والانهيار هي مصير المجتمع والدولة، جراء الثورة التي يجب أن تظهر كعمل تخريبي غير مسؤول، معنىً واقعيا ملموسا وذا دلالة، كان من الطبيعي أن يتم سحب الجهاز الأمني من الشوارع والمدن والتجمعات السكنية، وترك كافة الأماكن الحضرية نهبا للسلب والترويع، عبر تهريب السجناء والمجرمين من السجون ومراكز التوقيف في لحظات الذروة الثورية، وعبر استخدام فئات مأجورة يكون النظام – على مدى سنوات حكمه البوليسية – قد انشأها ودربها وعمل على ربطها به حياتيا بشكل طفيلي يجعلها لا تضمن حياتها ووجودها إلا في بقائه واستمراره، كي تستميت في الدفاع عنه، مدخرا إياها لمثل هذه المواقف. وهذا على وجه التحديد هو ما فعله النظامان البوليسيان “التونسي” و”المصري”، عندما تبين لهما أن الثورة في الشارع أصبحت أكبر من أن تُواجَه بأدوات النظام المعدة لهذا الغرض، فكان يجب أن تُواجَه بالشعب الذي ادعت أنها تمثله وتدافع عن حقوقه المسلوبة، وذلك عبر إشعار ذلك الشعب بأن الثورة تسببت له في كارثة أمنية، كي لا يساندها إن كان يفكر في ذلك. إنها خطوات استباقية لمحاصرة الثورة بفكَّي كَماشَة، أحدهما الجهاز البوليسي القمعي للنظام، وثانيهما جماهير الشعب المرعوبة على أمنها وعلى حياتها ومالها وعرضها، وذلك في اللحظات المبكرة من عمر الثورة، وقبل أن تلتحم بها بعدُ، ذلك الالتحام الذي يجعل مصير النظام على المحك التاريخي. ولعل النظام المصري المخلوع ذهب بعيدا في هذه اللعبة العازفة على وتر الترهيب من الفوضى وانهيار الأمن، عندما تجاوز مسألةَ إرهابِ الخطوطِ الخلفية والمَدَد الشعبي للثورة، بتلك الفئات المأجورة التي عُرِفَت في يوميات الثورة المصرية بفئة “البلطجية”، عَقبَ انسحاب المؤسسة الأمنية بالكامل من الشارع المصري، بأن عاد ليستخدمها استخداما غيرَ مسبوقٍ في الموروث المضاد للثورات، مهاجما بها الثوارَ أنفسَهم، لإرهابهم وقتلهم وترويعهم وشرخ صفوفهم ودفعهم إلى التراجع والانكفاء، في محاولةٍ لإشعار جميع المراقبين والمتابعين لصيرورة الأحداث – وخاصة جماهير الشعب المصري التي كان هذا النظام يحاول استدرار تعاطفها واستنفار مخاوفِها في الوقت ذاته، مستغلا حيرتَها وترددَها وبساطتَها – بأن الأمر في طريقه لأن يتحول إلى حرب أهلية، وإلى صراع بين فئات الشعب المتعارضةِ المصالحِ والمتناقضةِ في الرؤى والأهداف، عندما ظهر هؤلاء البلطجية في صورة المدافع عن النظام والمؤيد له بشكل بدائي وهمجي من الواضح أن النظام لم يكن يهتم به كثيرا، بقدر ما كان يهتم بنتائجه على الأرض. والنظام المصري المخلوع إذ فعل ذلك ولجأ إليه، فلكي يدفع بالجميع إلى الاعتراف له بمشروعية قبضته الأمنية التي كانت قادرة على حماية البلد من أمر كهذا. لقد كان النظام المصري بشعا في ممارسته لهذه السياسة، منذ بدأت الثورة تثبت أنها لغةُ الشارع المصري المُعْلَنَة، وأنها أداتُه الفعلية الوحيدة في المطالبة بحقوقه، المتمثلة أولا وقبل كل شيء في تحرُّرِه من الاستبداد، بالرحيل الكامل وغير المنقوص لنظام الاستبداد. ثالثا.. الثورة والأجندات الداخلية والخارجية..عندما تسيطر على “نظامِ لاحريةٍ” يترنحُ أمام زخمِ ثورةٍ شعبيةٍ، حالةٌ من الارتباك وانعدام التوازن وفقدان عناصر القدرة على التعامل العقلاني مع صيرورة الأحداث في يوميات تلك الثورة، فإنه يصبح نظاما غيرَ قادر على التحرُّرِ من الكذب والتدليس والادعاء، بل وغيرَ قادر على التفريق بين ما يمكنه أن يُصَدَّقَ وما لا يمكنه أن يُصَدَّقَ، حتى لو اضطر إلى استجداء البقاء والمغفرة، بإهانة من يستجديهم، دون أن يدرك أنه يفعل ذلك. ليصبح في نهاية المطاف نظاما أبلها تختلط في ممارساته وأفعاله إفرازات الوعي بإفرازات اللاوعي، والسلوكات الهستيرية بالسلوكات الهلوسية. ونحن هنا لا نتحدث بشكل عاطفي انطباعي، بل بشكل علمي يرتكز إلى قواعد وقوانين ومبادئ “علم النفس”. إن هكذا نظام يمارس مجددا كذبتَه التي كذَبها عبر سنين هيمنته وقمعه وبوليسيته فصدَّقَها، لأنه بالفعل ما يزال يصدقها، ويظن أن من كان ساكتا عنها تصديقا أو ضعفا أو نفاقا أو خوفا أو جهلا، هو بالفعل ما يزال كذلك. إن نظاما كهذا في ظرفٍ كهذا، لا يجد غضاضة في عرض تنازلٍ قد يتمثل في “إقالة حكومةٍ”، أو في “تغيير وجوه حزبيةٍ ومؤسسية”، أو في “الوعد بإحداثِ بعض التغييرات الشكلية في مرفق هنا أو مرفق هناك”، متخيلا ومتصورا أن الثائرين الذين لم يصدقوه عبر عقودٍ من الزمن، لأنه كان دائما يَعِدُ ويكذب، هذا إن وعد أصلا، سيصدقونه الآن إذا ظهر بمظهر المتباكي على نفسه ممن خذلوه وخانوه من رموزه الذين وثق فيهم فلم يكونوا في مستوى ثقته، مع أنه لم يُغَيِّر لا مفردات خطابه، ولا طريقته الاستعلائية في الحديث، حتى وهو يستجدي ويستغفر. وإذا كانت هذه هي حالةُ “نظام اللاحرية” في لحظاتِ احتضاره بوجه عام، فإن قيام هذا النظام بإهانة الجماهير بما يعتقد أنه يخيفها ويردعها، كما كان يفعل معها دائما إبان سطوته وسيطرته، يُعَدُّ أكثرَ مظاهر الحُمْقِ والبلاهة والاختلالات النفسية، التي تسرِّع في انهياره وانطواء صفحته إلى الأبد. ليس هناك ما هو أكثر إهانةً لشعبِ ثائر يُعَبِّرُ بثورته عن أسمى درجات وعيه بنفسه واكتشافه لذاته واستخدامه الفعال لقدراته الإنسانية لأجل استرداد حريته المسلوبة، من أن يتم وصف أدائه الثوري الذي يعيد به بناء هويته الوطنية والثقافية والأخلاقية، بأنه ليس منطلقا من ذاته، ولا هو من وحي إرادته وصيرورة بحثه عن حريته، بل هو مرتبط بأجندات خارجية مشبوهة ومعادية، تستخدمه لزعزعة استقرار الوطن، وللقفز على مصالحه بشكل انتهازي يوظف حاجته إلى الحرية والعدل أبشع توظيف. وفي الوقت ذاته، ليس هناك نظامٌ أحمق من ذلك الذي يتهم شعبا بأكمله بالخيانة والتواطؤ والارتباط بالأجنبي ضد مصالح الوطن. لأن السؤال المدوي الذي يطرح نفسه هو: هل يخون الشعب نفسه؟!إن الخيانة سلوك مشين يمارسه بعضُ القليلِ ضد مصلحة الكلِّ الكثير، وليس العكس. لا يمكن لشعبٍ أن يخون نظامه السياسي، بينما يمكن لنظام سياسي أن يخون شعبه. الشعب ليس مضطرا لخيانة النظام، لأنه بكل بساطة هو صانعه وواضعه، ويملك بالبساطة نفسها حق عزله وإلقائه في القمامة. رفض الشعب لنظامه السياسي حق مشروع لا يناقش، أما اعتداء النظام على أي حق من حقوق الشعب فهي خيانة لا تناقش. ولكن ولأن النظام القمعي الذي يكون قد تربع على عرش الهيمنة عقودا طويلة من الزمن عوَدَّته على استمراء الكذب والاعتقاد بصدقه وصحته، كما هو شأن النظام المصري المخلوع، يهيؤ له بسبب ما يرَوِّجُه مثقفو الانتهازية والدجل والنفاق المنتفعين والمسترزقين منه، أنه هو الأصل والأساس، وأنه هو الوطن والشعب، وأن فكرته وسياسته هي المرجع والمعيار، وبالتالي فكل من يخرج عليه – ولا يهم النظام هنا إن كان هذا الذي يخرج عليه كثيرا أم قليلا، فردا أو أمة بأكملها – هو الخائن، ولأن الثورة تخرج عليه، فإنها ومع أنها تمثل كل الشعب، فهي الخائنة وهي المرتبطة، لأنها تريد أن تزعزع استقراره هو تحديدا بصفته الأساس والمرجع والمعيار الذي يُعْتَبُر الحفاظ عليه تيرموميتر الوطنية والانتماء والولاء للأمة وللوطن. إن ظاهرة تخوين الثورة بربطها بالأجنبي، قلما يستخدمها نظامٌ يترنح لديه قدر معقول من الوعي، ضد الشعب والثورة، لأن معظم الأنظمة التي تُواجَه بثورات الشعوب، تدرك جيدا أنها هي التي قد تكون خائنة ومرتبطة بالأجنبي ومنفذة لأجندات دخيلة لا تتناسب مع طموحات وحقوق الشعوب والأوطان. وبالتالي فإن تلك الأنظمة في حالة امتلاكها الحد الأدنى من الوعي، تحرص على ألا تستفز الشعب الثائر بطعنه في كرامته الطعنة التي من شأنها أن تستنفر كل قواه الكامنة التي تحرصُ تلك الأنظمة على تأجيل استنفارها ما استطاعت. إن بعض تلك الأنظمة بعد أن تكون قد أيقنت أنها ستموت بالضربة القاضية موسومةً بوسمِ الدكتاتورية، وألا مجال لأن تتطهر من هذه الصفة في آخر أيامها، تحرص قدر ما تستطيعه على أن لا تضيف إلى سجل صفاتها القميئة صفات جديدة مهينة ترافقها إلى قبورها، هي صفات “البلاهة” و”الغباء” و”إهانة الأمة”، باتهام الثورة بالارتباط بأجندات أجنبية. لكن النظام المصري المخلوع لم يبالِ بذلك ففعله، ولم يكتف بأن يُقْبَرَ موسوما بالدكتاتورية فقط، بل أصر على أن يُرْفَقَ في قبره بصفات الغباء والبلاهة والحماقة وإهانة الشعب المصري، حتى في لحظات استجدائه البقاء بدموعٍ كاذبة لم يَجِدْ ما يبررها بها سوى العزف على وتر مجدٍ حققه للوطن دورُه في حرب أكتوبر التي يعرف القاصي والداني ما الذي فعله هذا النظام نفسه بعدد كبير من أبطالها ورموزها على مدى ثلاثين عاما من حكمه. نعم لم يبال النظام المخلوع بذلك ففعل، متهما هذه الثورة بأنها تخدم أجندات أجنبية، وأن قلة من المرتبطين بالخارج هم الذين يحركون الناس ويخدعونهم.لكن رد الثورة المصرية كان سريعا وواضحا، وجاء مزلزلا، ليعلمَّ البشرية كلها أن الشعوب لا تثور إلا بعد أن تصنعَ ثوراتِها بنفسها، من وحي واقعها وأداةً لحريتها. وأن الذين تستخدمهم الأجندات الأجنبية بل والداخلية أيضا، لتحقيق مآرب ضيقة ومصالح طبقية عديمة الولاء والانتماء للوطن، على حساب الشعب وحريته ووحدته وحقوقه، هم أفراد تلك الشرذمة من المرتزقة الأوغاد الذين يفجرون الكنائس ودور العبادة، ويقتلون الشرفاء، ليثيروا الفتنة بين أبناء شعب يعرفون جيدا أنه لا يحبهم وأنه يتململ ضدهم، فيفعلون ذلك لإلهائه بنفسه، ولشق صفه، وتشتيت قواه التي يُراد لها أن تبقى بعيدة عن اعتبارهم هم العدو، فلا يعرف كيف يحذرهم.لقد صرخت المناضلة القبطية “سالي توما” وهي واحدة من القيادات الفعلية لثورة شباب مصر ردا على “عمر سليمان”، وقبله ردا على رئيسه المخلوع، وبعده ردا على كل أعوانه الإعلاميين ممن كان ديدنُهم تزويرَ الوعي الشعبي المصري، باتهام الثورة بأنها تخدم أجنداتٍ أجنبيةً أريد لها أن تكون هي “إيران”، وأخرى داخلية أريد لها أن تكون هي “الإخوان”.. صرخت متسائلة: أي أجندة أجنبية أو داخلية من تلك التي تُتَّهَم بها الثورة المصرية، يمكن لامرأة مصرية قبطية أن تخدمَها، هل هي الأجندة الإيرانية أم الأجندة الإخوانية؟! لتتجلى في كلمتها المزلزلة تلك، حقيقة الحقائق كلها، ألا وهي أن الذي يخدم أجندات أجنبية لا يستطيع أن يفعل أكثر من تفجير دار للعبادة هنا أو اغتيال بريء هناك، أما من يحرك شعبا ليسقط الاستبداد، ويحشد أمة لتثور ضد نظام ديكتاتوري فاسد، إنما يخدم أجندة واحدة وحيدة، هي أجندة الشعب والشعب فقط، وأن كل من يقف في وجه هذه الأجندة هو المشبوه المتآمر الذي يخدم كل أجندات أعداء ذلك الشعب، وأن أكبر طعنة لشرف أي شعب هي أن تتهم ثورته بأنها تستخدمه لتخدم غيرَه. رابعا.. الثورة والتغيّر في مواقع الشرعيات..عندما تطالب حركة شعبية ما بإحداث تغييراتٍ، سواء كانت هذه التغييرات في “منظومة الحرية” أو في “منظومة العدالة”، وتتوجه بمطالبها تلك إلى مؤسسات النظام القائم ذاتها، مكتفية بالتأكيد على ضرورة تنفيذه لمطالبها، التي غالبا ما تكون في مثل هذه الحالة، مطالبَ تنصب نحو “نظام العدالة”، وقلما تتجه نحو “نظام الحرية”، وإن اتجهت فإنها تكون شكلية ومحدودة ولا تمس جوهرَ قواعد الحرية في المجتمع، فإننا بإزاء حركة شعبية ذات طبيعة “إصلاحية”. أما عندما لا تكتفي الحركة الشعبية بتوجيه مطالبها إلى مؤسسات النظام، وتصر على أن مطالبَها تنطوي ضمنا على إحداث تغيير في أسس ذلك النظام وقواعده والأصول التي يقوم عليها، والتي غالبا ما تتجلى عبر قواعد ومفاهيم “نظام الحرية”، فإننا في واقع الأمر بإزاء حركة شعبية ذات طبيعة “ثورية”. نكرر هنا ما أكدنا عليه فيما مضى، وهو أن “الثورة” هي الحركة الشعبية التي تتجه نحو إحداث تغييرات في منظومة العلاقات الحاكمة لمفاهيم وقواعد “الحرية” في المجتمع، حتى لو امتلكت هذه الحركة رؤيتَها الخاصة بتنظيم قواعد ومفاهيم “العدالة”، التي تعي الحركة الشعبية الثورية جيدا، أن الاكتفاء بالمطالبة بإحداث تغييرات على مستواها، لا قيمة لها على صعيد إحداث التغيير في منظومة قواعد ومفاهيم “الحرية”، لأن طبيعة الأمور تشير إلى أن منظومة مفاهيم وقواعد “الحرية” تمثل وعاءً ينطوي على منظومة قواعد ومفاهيم “العدالة”، بينما العكس ليس صحيحا. فقد تتحقق بعض مظاهر العدالة في بعدها الاجتماعي أو الاقتصادي في ظل نظام شمولي ديكتاتوري أحادي الرؤية تكاد تنعدم فيه قواعد “الحرية”. أي أن تَحَرُّكَ النظام الحاكم المتجاوب نسبيا مع متطلبات المجتمع فيما يتعلق بمنظومة قواعد ومفاهيم “العدالة”، أمرٌ ممكن، بدون المساس الجوهري بمنظومة مفاهيم وقواعد “الحرية”. إلا أن هذا التحركَ النسبي الممكن نفسُه، مرتبط بمستوى الحرية ذاتِه، بحيث أن مستوى معينا من “العدالة”، قد لا يمكن تحقيقه بدون إحداث تغييرات جوهرية في “نظام الحرية”. وهذا يعني أن ذلك المستوى من العدالة عندما يصبح مطلبا من مطالب البُنية الفوقية للمجتمع، حَتَّمَتْه وقائع بُنْيَتِه التحتية، فلن تتاحَ فرصة تحقيقه، إلا بإحداثِ التغيير في “نظام الحرية” نفسِه. من هنا فإن “أنظمة اللاحرية” البوليسية الطابع – وهو ما أكدنا عليه فيما مضى – تحاول تَجَنُّبَ أن يمسَّ الحراك الاجتماعي المطلبي المُنْصَب باتجاه “العدالة”، بُنية “نظام الحرية” السائد بشكل جوهري، عبر تقديم بعض التنازلات غير الجوهرية في “نظام العدالة”، تُبْقي الحركة المطلبية عند حدودها المطلبية دون أن تتجاوزها إلى دعوات بهدم النظام. ولكن عندما يصبح “نظام العدالة” المطلوب شعبيا، ينطوي ضمنيا على مطالبات بتغييرات جوهرية في “نظام الحرية” كي يتحَقَّق، فإن النظام يصبح معنيا بالحرب على جبهة مصيره، جبهة حياته أو موته، ألا وهي جبهة الأسس والقواعد الناظمة لـ “الحرية”.إن الحد الفاصل بين “الحركة الشعبية الإصلاحية” التي تمارس فعلَها الحركي في إطار الدعوات المطلبية الاجتماعية تحت سقف الحرية السائد في نظام ما، وبين “الحركة الشعبية الثورية”، التي تقفز بفعلها الحركي إلى مدياتٍ أوسع من مجرد الإطار المطلبي ضمن سقف الحرية السائد، مُصِرَّةً على إعادة إنتاج قواعد الحرية في المجتمع، بشكل يتيح مشاركةً فعليةً في السلطة من شأنه إتاحة الفرصة لتغيير قواعد “العدالة” تغييرا جوهريا.. نقول.. إن الحد الفاصل بين هاتين الحركتين، هو في حقيقته حدٌّ فاصل بين شرعيَّتَيْن، إحداهما هي الشرعية الدستورية القائمة، التي تُغَطِّي على سوءات “نظام الحرية” الموجود، والذي هو في الواقع “نظام لاحرية”، وتعطيه شرعيَّتَه، أما الثانية فهي شرعية ثورية، تتولى مهمة هدم الشرعية الدستورية القائمة، لتقيم على أنقاضها شرعيةً دستورية جديدة. من هنا يتضح لنا بجلاء أن الصراع بين النظام والحركات الإصلاحية هو صراع على إعادة ترتيب قواعد “العدالة” ضمن الشرعية الدستورية الواحدة التي يتفق عليها الجميع، وهو ما يجعل عمليات الإصلاح في ظل أنظمة “اللاحرية” البوليسية التي ما وُجِدَت ولا نشأت في الأساس إلا لحماية منظومات “اللاعدالة”، مجرد عمليات ترقيع كاذبة لا تنجح سوى في ترحيل مُكَوِّنات التناقض بين الحركات الشعبية والنظام، إلى المراحل التي يُفترض معها أن تقفز الحركة من دور “الإصلاح” إلى دور “الثورة”. في حين أن الصراع بين النظام والحركات الثورية هو صراعٌ على إعادة ترتيب قواعد “الحرية”، أي أنه في جوهره صراع بين شرعيتين، لن يستقيم أمر المجتمع بدون أن تقضي إحداهما على الأخرى وتزيحها من طريقها بشكل كامل.إن حالة اللاَّ تَوَقُّف في تطور البُنى التحتية للمجتمع، بما يتطلب لا توقفا مقابلا في تجاوب البُنى الفوقية مع هذا التطور، يجعل حلَّ التناقضات النسبية الناشئة عن ذلك التطور يتحقَّقُ في ظل الديمقراطيات الحقيقية بشكل إصلاحي، حتى على صعيد تغيير قواعد “الحرية”. لذلك كانت الديمقراطية التي تحتكم إلى منظومات قواعد “الحرية”، هي الحل الأنسب في ظل الثقافة الإنسانية المعاصرة السائدة، لتجَّنُّب الثورات وحصر الحركات الشعبية المطلبية في دوائر الفعل الإصلاحي. إن الديمقراطية الفعلية والفاعلة، هي الضمانة على إبقاء التناقضات بين الثقافات والرؤى والبرامج المتنافسة في المجتمع، قابلة للحل في إطار الشرعية الدستورية دونما حاجة إلى إسقاط تلك الشرعية وبناء شرعية جديدة على أنقاضها.إن “نظام الحرية” الديمقراطي إذا لم يقدر على ضمان حل التناقضات التي تفرضها طبيعة العلاقة بين البناءين التحتي والفوقي في المجتمع خلال صيرورتهما التطورية، هو نظام ينطوي على خلل، وسوف تتم الحاجة إلى الثورة عليه يوما ما بسبب ذلك الخلل، لأنه إنما يُعَبِّرُ بهذا الخلل عن فجوة أو ثغرة تَعْبُرُ منها الاحتقانات المؤدية إلى استفحال التناقض الموجب للثورة في المستقبل، وهو الأمر الذي يدفع إلى التشكيك في مدى ديمقراطية ذلك النظام من حيث المبدأ.إن أي نظام قمعي بوليسي من أنظمة “اللاحرية” يحرص على أن يحشرَ أي حركة شعبية مطلبية، وبصرف النظر عن مستويات تناقضها معه ومع بُناه الفوقية، في دائرة الإصلاح والإصلاح فقط، لأن في ذلك ضمانا للاعتراف بالشرعية الدستورية التي يقوم عليها هو ذاته، وضمانا لعدم المساس الجوهري بمنظومة مفاهيم وعلاقات “الحرية” السائدة. وعندما تقعُ “الحركة الشعبية الثورية” في شَرَكِ تحويرِ مطالبها، من كونها تتعلق بإحداث تغييرات جوهرية في منظومات “الحرية”، إلى جعلها تتعلق فقط بإحداث تغييرات شكلية في تلك المنظومات أو إلى التركيز فقط على إحداث التغييرات في منظومات “العدالة”، فهذا يعني أن النظام قد نجح في حرفها عن مسارها الثوري، ونجح بالتالي في استحلاب اعترافها بالشرعية الدستورية التي يقوم عليها، فيصبح مُحَصَّنا عندئذ من الانهيار والسقوط. ولعل هذه المسألة هي أهم المسائل التي تضع الحركاتِ الثوريةَ على محكِّ الاختبارات الفاصلة في تاريخها، فهي التي تكشف عن مدى وعيها بذاتها، وعن مدى إدراكها لطبيعة نفسِها، وعن مدى تفهُّمِها لمضمون رسالتها، ولأفق اندفاعها الثوري، وعن مدى ثقتها بنفسها، ويقينها بنجاحها، وبقدراتها على إحداث الانقلاب بإسقاط النظام السائد. إن طبيعة الحراك الثوري تقتضي أن يتم النمو في الأداء الشعبي بشكل متصاعد في المطالب، التي قد تبدأ في إطار إصلاحي لتتحول إلى إطار ثوري في سياق الصيرورة الثورية. فإذا تمكَّن النظام من النجاح خلال معركة كسر العظم بين الطرفين، في جعل النمو في الأداء الشعبي الثوري يتم بشكل سلبي، بأن تبدأ سقوف المطالب بالتراجع بدل التزايد، فإن مصير الحركة الشعبية الثورية يدخل دائرة الخطر بكل تأكيد. يجب على الثوار وعلى كل صناع الثورات أن يدركوا جيدا وأن يعوا على الدوام، أن الثورة تفرض صراعا وجوديا بين شرعيتين، وبالتالي فلن نستطيع اعتبارها ناجحة إلا في حال تمكنت من إسقاط الشرعية التي يقوم عليها النظام الذي ثارت ضده، لتقيم على أنقاضها شرعيتها الجديدة التي ستبني بها نظاما جديدا.في “ثورة مصر”، حاول النظام المخلوع على مدى ثمانية عشر يوما أن يَجُّرَّ الثورةَ والثوارَ إلى عباءة الدستور الذي يُظَلِّلُه ويمنحُه شرعيتَه، كي تفقدَ الثورة مقولةَ أنها خَلَقَت شرعيَّتها التي أسقطت النظام وشرعيته منذ أول أيامها. فمعظم الحوارات والنقاشات والتحليلات التي تابعها جميع المراقبين، كانت تنحصر فضلا عن صيرورة الأحداث اليومية، في معادلة شدٍّ وجَذبٍ بين ثوارٍ يصرون على أنهم لا يعترفون بشرعية نظام أسقطته ثورتهم وأسقطه الشعب الذي يمثلونه، وبين رئيس ونائب رئيس ورئيس وزراء يصرون على عرض كل التنازلات والحلول التي يستطيعون تقديمها تحت عباءة الدستور الذي يبقي نظامهم شرعيا. ولأن هذه المعادلة هي نوع من المبارزة بالسيف حتى الموت، فما كان أمامها إلا أن تؤديَ إلى موت أحد الطرفين عندما يعجز عن الاستمرار ويفقد أسلحته ويحرق كل سفنه وأوراقه. وكان النظام المخلوع هو من انهار بالضربة القاضية في الساعات الأخيرة من اليوم الثامن عشر من أيام الثورة، لأن ثوار مصر الشباب أدركوا أن ثورتهم التي انطلقت حركةً إصلاحية وانعطفت إلى ثورة بعد برهة من الممارسات البوليسية الدموية للنظام، فرضت معادلةً قوامُها التناقض بين شرعيتين، يمثلون هم إحداهما فيما يمثل النظام الثانية، وبالتالي، فإن لم يهزموا النظام بالضربة القاضية، فإنه ىسيهزمهم وسيفقدون الكثير إن لم يفقدوا كل شيء، تأكيدا لقاعدة أن “الثورة الكاملة إذا كانت انتصارا، فإن نصف الثورة” هي كارثة حقيقية. خامسا.. الثورة وانشقاق المثقفين..لكل نظامٍ سياسي ثقافتُه التي يرتكز إليها، ومثقفوه الذين يدافعون عنه ويتبنَّوْنه ويُرَوِّجون له. وبتلك الثقافة وبهؤلاء المثقفين، يعمل النظام على تأصيل سياساته وأيديولوجيته، وعلى تدعيم نفسه بين أفراد الشعب، مستخدما في ذلك ما يتاح له من مؤسسات التنشئة الاجتماعية، بدءا من المدارس، مرورا بدور العبادة، وانتهاء بكافة وسائل الإعلام وبالجامعات ومعاهد التعليم العالي، مستهدفا المواطن منذ ولادته، عبر إعادة إنتاج الثقافة الأسرية التي يتأسس في أحضانها ويتكون من خلال تقاليدها، ومتطورا معه خطوة بخطوة، مؤسسا للولاءات في نفسه وروحه وعقله، بما يتناسب مع تركيبة المصالح التي يمثلها ذلك النظام.ومع ذلك فإن الأنظمة البوليسية لا تستطيع منعَ بروز التناقضات بينها وبين هؤلاء الذين قضت عقودا من الزمن وهي تحقنهم بكل عناصر الولاء المزيَّف والتغييب الثقافي، إلى الحد الذي يتحولون معه إلى مادة خام لحراكٍ شعبيٍّ يطالب بالتعديل والتغيير والتطوير، بل وبالهدم وإعادة البناء أحيانا. تُرى ما الذي يجعل أولئك الذين لم يعرفوا عبر كافة مؤسسات التنشئة التي عاشوا حياتهم وهو يتمرَّغون في أكاذيبها، ثقافةً غير تلك التي يروِّج لها النظام، والذين لم يروا في محيطهم وفي بيئتهم إلا كل ما يؤسس لسياساته ويُنتج الولاءات له ولرموزه، يشعرون بتناقضهم معه وبرغبتهم في التحرك ضده حراكا قد يبدأ إصلاحيا ينطوي على نوع من المهادنة النسبية، وقد ينقلب إلى حراك ثوري غير مهادنٍ؟ أي نوع من الثقافات يتكون بعيدا عن أعين النظام وعن وقع آلته القمعية وعن كل ماكينات بلدوزره الإعلامي والتربوي، فيُنْتج كلَّ ذلك التناقض الذي لا يقبل المساومة، ويبدأ بالتململ والتحرُّك، إلى أن يتمردَ فيثور على بناءٍ متجذِّر الأساسات؟يحلو للكثيرين القولُ بأن تطورَ وسائل الاتصال، وتحولَ العالم من خلالها – وعلى رأسها السماوات المفتوحة عبر الشبكة العنكبوتية والقنوات الفضائية – إلى قرية صغيرة، يتم التواصل بين أفرادها بأسهل وأسرع مما كان يتم به التواصل التقليدي بين أفرادٍ يقيمون في شارع واحد في قرية صغيرة في الريف، هو الذي أتاح الفرصة للناس كي يتعرفوا ويتبادلوا المعارف ويطلعوا على أنماط حياة مختلفة وعلى ثقافات متباينة.. إلخ، فكان من الطبيعي أن يساعدَ ذلك على معرفة مواطنِ الخلل في بُنى الأنظمة السياسية البوليسية، وعلى بَدْءِ تكوُّن عناصر التناقض معها. إلا أن واقع الحال من خلال الاستقراء يردُّ على هذه النظرية ويفنِّدُها إلى حدٍّ كبير. فأعظم الثورات ومعظمها، حصل في المجتمعات في كل العهود والأزمنة، وقبل أن تكون هناك وسائل اتصال عالمية كتلك التي يظن الكثيرون أنها هي التي أتاحت الفرصة لكثرة الثورات وسهولتِها، والتي ساعدت الشعوبَ من ثمَّ على تفعيل تناقضاتها مع الأنظمة البوليسية. هذا فضلا عن أن تاريخ الإنسانية كلِّه، حتى في الأزمنة التي لم تكن فيها وسائل اتصالات بالمعنى المادي لوسائل الاتصالات موجودة أساسا، شهد ثورات غيرت مجرى التاريخ ومصير الأمم والشعوب، مثل “الثورة الأميركية، الثورة الإنجليزية، الثورة الفرنسية، الثورة البولشيفية، ثورات الوحدة الألمانية، ثورات الوحدة الإيطالية، ثورات الزنج والقرامطة وغيرهما في ظل الإمبراطوريتين الأموية والعباسية العربيتين، ثورة العبيد في إسبرطة، ثورات تحرر دول أميركا اللاتينية خلال القرن التاسع عشر، الثورات ضد الاستعمار خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ثورة عرابي وسعد زغلول وقبلهما ثورة مقاومة نابليون في مصر.. إلخ”. علاوة على كل ما سبق فإن أهم الثورات التي حررت الشعوب من الاستعمار والتي أعادت إنتاج المجتمعات غير المستعمرة وفق أنظمة عدالة وحرية مختلفة عن سابقتها، حصلت خلال القرن العشرين في الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية ولغاية انهيار الاتحاد السوفياتي وتَفَكُّكِه نهايةَ العقد التاسع، وهي الفترة التي كان معظم جزئها الأول لا يعرف غير الإذاعات وسيلة للتواصل – وهي وسيلة لم تكن متاحة في المجتمعات بالشكل الذي يسمح بالقول بأنها وسيلة تواصل حقيقية بين الناس – والتي دخل في جزئها الباقي جهاز التلفزيون مَحَلِّي البث أداة جديدة للتواصل، وهي الوسيلة التي عانى انتشارها بين الناس من صعوبات أكبر من صعوبات انتشار المذياع. أي أن القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية لم تدخلا حياة البشر كأدوات للتواصل والاتصال إلا بعد حدوث كل تلك الثورات في العالم. لا بل إن الواقع يؤكد على أن وتيرة الثورات قد هدأت وخفت بشكل ملفتٍ على مدى العقدين الأخيرين اللذين شهدا اقتحام الشبكة العنكبوتية والقنوات الفضائية عالم الاتصالات والتواصل بين الناس. فأربعون عاما من التواصل عبر المذياع، ثم عبره وعبر التلفزيون المحلي البث، غيرت وجه العالم، بينما عشرون عاما من التواصل غير المسبوق عبر الشبكة والفضاء، لم تحدث خلالها أي ثورة اجتماعية بالمعنى الحقيقي الذي كان يحدث في الحقبة السابقة. ونستطيع القول بكل ثقة وبدون أدنى مبالغة، أن عقدي “الفضائيات والشبكة العنكبوتية” الماضيين لم تحدث خلال انتشارها وسائل للاتصال والتواصل على مستوى كوكبنا الأرضي، سوى ثورتين حقيقيتين هما “ثورة تونس” و”ثورة مصر” العربيتين. إذن فعلينا أن نبحث عن إجابة على تساؤلنا السابق في مكان آخر، وأن نفهم من واقع الحال أن لوسائل الاتصال والتواصل المعاصرة دورا في الثورات غير الدور الذي تُؤَسِّس له الإجابة على تساؤلنا السابق إياه.إن وسائل الاتصال وأدوات التواصل بين الناس لها دور تنظيمي وإجرائي وإداري وترويجي في كل نوعٍ من الحراك يحتاج إليها، وليس لها أي دور تكويني أو تخليقي فعلي في ذلك الحراك، بما في ذلك القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية، بوصفها آخر ما توصل إليه الإنسان من أدواتٍ للتواصل بين البشر. وعلينا ألا ننسى أن النظام البوليسي نفسه يستخدمها أيضا لأجل الترويج لثقافته، وكثيرا ما ينجح في تحقيق هوامش لا يستهان بها في معركته. فالإعلام الأميركي – على سبيل المثال – وهو الإعلام المروِّج لثقافة الاستهلاك، ولحضارة الغريزة، ولاقتصاد السوق، وللبراجماتية المطلقة، وللميكافيللية السياسية، ولديمقراطية الثروة، هو من التغَوُّل والاتساع والهيمنة بحيث غدا يعتبر الأقدر بلا منازع على استخدام كل وسائل الاتصال والتواصل في العالم، وعلى رأسها الفضائيات والشبكة العنكبوتية، للترويج لتلك الثقافة البائسة، التي أصبحت بفعل ذلك التَّغَوُّل هي الأكثر انتشارا في العالم على مختلف الصعد رغم بؤسها الأخلاقي. وكل من يستخدمون هذه الأدوات ممن يعارضون الثقافة الأميركية في العالم، ما يزالون في واقع الأمر يتحركون على هوامش محدودة مما يتاح عبر تلك الأدوات. خلاصة القول أن أدوات الاتصال والتواصل، هي مجرد أوعية وأسلحة تُستخدم إما بكفاءة وإما بعدم كفاءة، في معركةٍ هي في الأساس معركةٌ بين ثقافاتٍ ومنظوماتِ قيمٍ. فكل أدوات التواصل تلك لا قيمة ولا أثر ولا دور لها في صنعِ ثورةٍ، إذا لم تكن تلك الثورة قد تكوَّنت أَجِنَّتُّتها وتطورت ونمت في أوعية ومؤسسات وقنوات البُنية الثقافية للمجتمع. إن التناقضات بين البُنى الفوقية في “نظام اللاحرية” و”اللاعدالة”، وبين البُنى التحتية في المجتمع تولد وتتخلَّق وتتكون وتتطور بشكل حتمي وضروري في البُنى المجتمعية نفسها، وتبدأ بفرزِ ثقافتها بشكل أو بآخر، بتسارعٍ أو بتباطؤٍ، بشكلٍ منظم أو غير منظم، في ضوء مُكَوِّنات الحراك الثقافي في المجتمع، وبصرف النظر عن مستوى التطور في أدوات الاتصال والتواصل فيه. إن نظام “اللاحرية” و”اللاعدالة” قادر بطبيعته المتعارضة مع ناموس الحرية والعدالة الكوني، على فرز هذه الثقافة المتناقضة مع بُناه الفوقية، في بُنى المجتمع التحتية، سواء كان هذا النظام في مستوى تطور الولايات المتحدة على صعيد وسائل الاتصال والتواصل، أو على مستوى تخلف المجتمعات القبلية البدائية في دول إفريقيا السوداء. في ضوء ما سبق، من الطبيعي التأكيد على أن إرهاصات أي حراك شعبي، إصلاحيا كان هذا الحراك أو ثوريا، تتجلى أول ما تتجلى في تجاذبات الساحة الثقافية في المجتمع. إن التناقضات بين البناءين الفوقي والتحتي، والتي تحدثنا عنها كثيرا حتى الآن، تتكون في العمق، حيث العلاقات الإنسانية في أبسط مُكَوِّناتها، والتقاليد الاجتماعية في طابعها الأسري والعائلي والجِواري الحميم، وحيث الاحتياجات الحياتية اليومية من أكل وشرب ولبس واستمتاع بالحد الأدنى من ملذات الحياة المتاحة لقلة يُرى أنها مستأثرة بأفضل ما في البلاد من خيرات بدون سبب مفهوم، وأنماط المعاناة المختلفة، وحيث تدور المقارنات بين ما يحدث هنا في أحياء الفقر، وما يحدث هناك في القصور وأحياء الثراء، وحيث تتكون أَجِنَّة التساؤلات حول العدل والظلم، وحول الحرية والعبودية، وحيث الحديث عن آلة النظام وعن قمعه، وعن الأمن والشرطة والجيش، وحيث الخوف أو الشجاعة، وحيث التردد أو الإقدام، وحيث تبدأ معادلات الفرز الطبقي تتكون على مستوى الإحساس والشعور، مرفقة بكل ما ينبثق عن الذهن الجمعي من أساطير ومواقف وأخلاقيات، في جلسات المقاهي، ومسامرات الأسر، وتطلعات الأطفال وهم يلعبون في الأزقة والطرقات، وادعاءات المراهقين وهم ينسبون لأنفسهم ما يعرفون أنه أبعد ما يكون عنهم لمجرد أنهم سمعوا عنه أو رأوه هناك لدى مراهقي مناطق يحلمون بها فقط، ولا يأملون بمضاهاتها إلا في كذبهم البريء بعضهم على البعض الآخر في العشوائيات وبين القبور، أو على أكثر تقدير وهم يتجولون في الشوارع الراقية، فقط ليتفاخروا فيما بينهم بأنهم لامسوا تلك المناطق الساحرة بأرجلهم وبأنفاسهم المسمومة بالفقر والألم، ومشاعر المراهقات وهن ينظرن نظرة الحالمات بالمستحيل إلى مستقبلٍ بسيط في بيت زوجية هادئ هانئ، بغرفة نوم وثيرة في حي هادئ، وحزن الشباب المُقَيَّد والمحروم، وأسف الشيوخ على سوء الحال، وحيث تبدأ بالتشكل الأَجِنَّةُ الأولى للرغبة في المساواة وفي الامتلاك كما يمتلك الآخرون، وفي التَّحَرُّر وفي الانطلاق، وهي الأَجِنَّة التي تتطور مُتَحَوِّلَةً إلى تساؤلات عن الحق والواجب، وعن الوطن والمواطنة، وعمن له الحق وعمن ليس له ذلك، وعن الدولة والسلطة، وعن النظام والشعب.. إلخ.نعم، هكذا وهناك تتكون التناقضات التي تتحول مع مرور الوقت ومع استفحال الحالة، إلى مردود ثقافي يُجَلِّي نفسَه في أشكال مختلفة من الرفض أو التحدي أو التعبير أو التَّنظير أو الإقدام، التي يُكَشِّر النظام البوليسي عن أنيابه في التعامل معها، كي يمنعَها حتى من الكشف عن أن حالة من الرفض له موجودة في المجتمع، وإن تكن نسبية وقليلة، إلى أن تبدأ بالتأطُر والتَّحَوُّل إلى ظاهرة تُسَمى في علم الثورات بـظاهرة “انشقاق المثقفين”. لا مجال لثورة في مجتمع لم تتجلَّى فيه هذه الظاهرة، لأن في عدم تجليها دليلا على أن مُسَبِّبات الثورة لم تَتَّخِذ بعد الطابع القادر على تكوينها وتخليقها على شكل حراكٍ فاعل. إن أي ثورة يعَبِّر عنها حراك شعبي ما ضد نظام من “أنظمة اللاحرية” و”اللاعدالة”، يجب أن تُخاضَ أولا وعلى مدى زمني تقرره الطبيعة الجيواجتماعية والجيوسياسية للمجتمع، على صعيد الثقافات. ثقافةٌ تدافع عن النظام وعن شرعيته وعن عدالته وعن حقوقه وعن إنجازاته وعن محبة الناس له وولائهم لرموزه، وثقافة تقاومُ ذلك وتكشف عن سوءات النظام وقمعه وظلمه وقلة إنجازاته. وإن لهذه الثورة الثقافية ثمنٌ قد يكون باهظا، يأخذ طابعا قمعيا حينا وطابعا تنازليا حينا آخر، إلى أن تصبح الساحة المجتمعية مؤهلةً لتحويل المعركة الثقافية إلى معركة جماهيرية، بعد أن تبدأ الجماهير بتبني مقولات المثقفين، وترى فيها تعبيرا حقيقيا عن حالتها وعن طموحاتها وآمالها الحبيسة في الصدور، فتبدي استعدادها لأن تكون وقودا لها.لقد كشفت ثورة مصر – وقبلها ثورة تونس – عن أن حالة الانشقاق الثقافي كانت قد وصلت إلى مستوى من النُّضج يتيح فرصة حقيقية ذات فعالية للحراك الشعبي. فإذا تجاوزنا القوى السياسية التقليدية التي عّوَّدَها تاريخ نعاملها مع النظام البوليسي المخلوع على أن تقيِّد نفسها بأجنداتٍ صارمةٍ غير مَرِنَة، حرمتها التواصل مع الجماهير، ذلك النوع من التواصل التثويري. فإننا نستطيع التأكيد على أن ظهور “حركة كفاية”، وبعدها حركة “السادس من أبريل”، أرهص بأن حالة الانشقاق الثقافي قد تحررت من صورتها النمطية التي كانت تُعَبِّر عنها القوى السياسية التقليدية، والتي كان الإخوان المسلمون على رأسها كلها. لقد أظهر عام 2008 أن الإعداد للثورة المصرية قد بدأ فعلا، ولكن بثقافة ثورية جديدة قفزت على كل الثقافات الإصلاحية التي دَثَّرَت طروحات القوى السياسية التقليدية التي اتُّهِمَت معظمُها بأنها كانت تمثل قوى معارضة كرتونية تعمل ضمن عباءة الشرعية الدستورية التي يعلم الجميع أنها شرعية لا تتيح أي أمل للتغيير في ظل حصر سلطات ذات طبيعة ثيوقراطية في يدي الرئيس المخلوع.
لقد تجلَّى هذا التشخيص للحالة الثقافية في الشارع المصري، خلال يوميات الثورة ومنذ اللحظة الأولى. إن الاصطفافات الثقافية والسياسية التي فرضتها أحداث الخامس والعشرين من يناير 2011 وما تلاها من أيام، أظهرت أن هناك ثلاث ثقافات تتصارع على الأرض، وليس ثقافتان فقط كما تقضي بذلك طبيعة الثورات في العادة. كانت ثقافة الثورة المطالبة بإسقاط النظام بكامل مؤسساته، بدءا بمؤسسة الرئاسة، للبدء بأي عملية تفاوضية بعد ذلك مع الجيش، بصفته ضامنا للانتقال الديمقراطي وليس بديلا للنظام المخلوع، هي الثقافة الأولى والقائدة للثورة، ممثلة في مجموعات شبابية بدا واضحا أنها على تنوعها كانت موحدة في هدفها الرئيس المتمثل في إسقاط النظام. أما الثقافة الثانية فهي ثقافة النظام، التي راحت تقاوم بكل ما أوتيت من قوة لتفريغ الثورة من محتواها ولإفشالها، مستخدمة الآلة الإعلامية التي كانت تمتلكها، علاوة على جهازها البوليسي الضخم الذي حاولت توظيفه بعد فشله الذريع في مقاومة الثورة في أيامها الأولى، في ضرب خطوطها الخلفية وهي الجماهير. وكانت المعركة بين الثقافتين شرسة وعنيفة انتهت بانهيار ثقافة النظام بانهيار النظام نفسه.أما الثقافة الثالثة التي كانت متواجدة على الساحة على مدى الأيام العشرة الأولى من الثورة، ثم راحت تخبو شيئا فشيئا بسبب عدم قدرتها على إيجاد موطئ قدم لها في لهيب المعركة، فقد مثَّلَت في الواقع أخطر الثقافتين على ثقافة الثورة، لأنها بميوعتها أصبحت شديدة الإرباك للثائرين وللجماهير. لا أحد من حيث المبدأ يمكنه أن ينخدِعَ بثقافة النظام، إذا كان مستوى الوعي الثوري عاليا، وهو قد كان كذلك بالفعل، فهي – أي ثقافة النظام – مفهومة وممارسات النظام وادعاءاته مفهومة أيضا. لكن ثقافةً مائعة ومتلوِّنة تصنِّف نفسها على أنها ضد النظام ومعارضةٌ له، لتمارسَ على الأرض أعمالا تُشِّتِت جهودَ الثائرين وتربكُ خطوطَهم الخلفية وصفوفَهم الداخلية، تنفيذا لأجندات تنظيمية وحزبية ضيقة، شعر أصحابها بأن النظام المترنِّحَ مستعدٌّ للتجاوب معها في هذه المرحلة بسبب الضغط الثوري الحاصل عليه، وهي أجندات يُفترض أن المرحلة قد تجاوزتها إلى الأبد.. نقول.. إن عملا كهذا يعتبر عملا مشبوها، هو في جوهره غير مهتم بالثورة بصفتها ثورة، بقدر ما هو مهتم بأجندته، ربما لأن هذه الثورة جاءت على غير تخطيط منه، وقافزةً على أجندته الضيقة، دون أن يدرك وربما لأنه لا يريد أن يدرك، أنها ثورةٌ انطلقت لتضعَ أجندتَه على المَحَك، فارضةً عليه أن يطوِّرَها ويقفزَ بها إلى الأمام، لا أن يحاول مساندة النظام بطروحاته المائعة، كي يُحَوِّلَ الثورةَ إلى حركة إصلاحية، مقابل ثمنٍ بخسٍ يعود على الحزب وعلى التنظيم بمكاسب آنية، ولا يعود على الشعب الذي قدم كل تلك التضحيات بأي مكاسب حقيقية تتناسب مع الزخم الثوري الحاصل في الشارع. وهو ما حاول النظام ممارستَه من خلال الحوارات المريبة التي راح يجريها مع هذا الطرف أو ذاك في الأيام الأولى، محاولا بثَّ الفرقة، والتأكيد للجماهير على أن أهم القوى السياسية والشبابية في هذه الحركة قد بدأت تقبل بعروضه الإصلاحية، دفعا بتلك الجماهير إلى تغيير خياراتِها والتخلي عن الثورة والقبول بالحلول الوسط. لقد كاد تأثير القوى السياسية وأجنداتها الضيقة التي قدمتها على أجندة الثورة من خلال تهافُتِها على محاورة جثة النظام المحتضر، أن يودي بالثورة، أكثر مما كادت أن تفعل به ذلك، ممارسات النظام البوليسية والخداعية التي تابعناها على مدى الأيام الثمانية عشر لهذه الثورة المجيدة. سادسا.. هل هناك ثورة بلا رأس..لقد راجت وانتشرت خلال يوميات الثورة المصرية وقبلها خلال يوميات الثورة التونسية، مقولةٌ غايةٌ في الغرابة والريبة، وإن هي دلت على شيء فإنما تدل على واحد من أمرين، فإما أن مُرَوِّجيها يجهلون قواعد “علم الثورة”، فكانوا يتكلمون بما لا يعلمون، وكان الأجدر بهم أن يسكتوا كي لا يسيئوا، وإما أنهم مشبوهون يفعلون ما يفعلون تشكيكا في الثورة وتآمرا عليها، أو في أحسن الأحوال رغبة في القفز عليها وتصدر صفوفها بدون استحقاق. إن هذه المقولة هي أن ثورة الشباب في مصر كانت “ثورةً بلا رأس”.إن الذين يفهمون أن الثورة كائنٌ حي، ويدركون دلالة ذلك على الصعيد العملي، لا يمكنهم أن يتفوَّهوا بمثل هذا الهراء، لأن الكائنَ الحيَّ لا يكون حيا إلا إذا كان له رأس، ومنذ اللحظة التي يفقدُ فيها رأسَه لا يكون كائنا حيا، بل هو لا يولد أساسا بوصفه كائنا حيا إلا برأس، ومادام قد وُلِدَ فلا شك في أن له رأسا. والثورة المصرية التي أُطْلِقَ عليها “ثورة الشباب” قد وُلِدَت، فكيف تولد بلا رأس إذن؟! أن تكون الثورة برأس فهذه حقيقة لا مراء فيها ولا جدال. أما أن نكون عاجزين مع معرفةِ الرأس، أو الارتقاء إلى هامته لرؤيته، أو التعرف عليه لأنه خرج علينا من عباءة غير تقليدية ما تعودنا عليها، أو إذا كنا عاجزين عن تلمُّسِ أدائه في الواقع، فهذه مشكلتنا نحن كمراقبين إذا كنا جهلة، وهي مظهر من مظاهر مَكْرِنا وتآمرنا على الثورة ورأسها إذا كنا عالمين!!لقد بدا واضحا أن الخطاب الذي تمحور حول مقولة “ثورة بلا رأس” خلال يوميات الثورة المصرية، هو خطاب ثلاثي الأطراف، أي أن هناك ثلاثة جهات كانت تتحدث به وتستخدمه بشكل مُلفت، خاصة خلال لحظات الذروة والأيام المليونية والشعور بقرب جني الثورة لثمارها، وبالأخص بعد كل خطاب من خطابات الرئيس المخلوع التي كانت تنطوي على فتاتٍ من التنازلات. الجهة الأولى هي النظام الذي كان يحرص على أمرين، الأول هو تجاوز التعامل مع قادة الثورة الحقيقيين الجذريين في مطالبهم، للتعامل مع أصحاب الأجندات الذين رآهم يَقْبِلون بتقزيم الثورة إذا تحققت مطالب سياسية ضيقة تضمن لهم وجودا في المرحلة المقبلة، والأمر الثاني هو بث الرعب لدى الشعب المصري الذي راح يلاحظ تضخم القوة الثورية يوما بعد يوم، وذلك بالحرص على إشعاره بأن هذه الثورة عندما تُحَطِّمُ النظام ستحطم الدولة والشعب والأمة معه، لأنها حمقاء رعناء بلا رأس ولا تفكير ولا برنامج يقدر على قيادة الدولة التي ستتحول إلى غابة ومستنقع من الفوضى والانهيارات المتلاحقة، وأن المستقبل كارثي إذا دعمها الشعب إلى آخر المشوار.أما الجهة الثانية التي راحت تُرَوِّجُ لهذه المقولة، فهي القوى السياسية التقليدية التي بدا واضحا أنها مستميتةٌ في البحث لنفسها ولأجنداتها الضيقة عن موطإِ قدمٍ في صدارةِ هذه الثورة، متجاهلةً أن انتصار الثورة سيحقق أجنداتِ الجميع، بل ما هو أكثر من تلك الأجندات. لقد حرصت هذه القوى والمتحدثين باسمها على التركيز على مقولة “رأس الثورة” غير الواضح، و”البرنامج” غير المحدد، و”القيادة” غير المحنكة التي تحتاج إلى خبرة الخبراء من مخضرمي السياسة. ولأنها كانت تمسك العصا من المنتصف، وتحرص على ألا تتم إدانتها بأي أمر يشكك في تضامنها وتحالفها مع الثورة واندماجها فيها، فقد كانت تُرْفِقُ ترويجاتها هذه بالتأكيد على أنها لم تسهم في صنع الثورة الشبابية التي سبقت الكل وتجاوزت الجميع. إنه تواضع المتربص بلحظةٍ يقفز فيها إلى الواجهة.فإذا كانت هاتان الجهتان المروِّجتان لمقولة “ثورة بلا رأس”، تعتبران الجهتان غير البريئتين في خطابهما ذاك، على اعتبار أنهما جهتان واعيتان تدركان الحقائق، وتعرفان ألا وجود لثورة بلا رأس، فإن الفئة الثالثة التي نحسبها كانت تتعامل مع الأمر بحسن نية، فهي الجهة التي لم تكن تفهم من الثورة حقيقتها وجوهرها، ولم تكن تعي أن الرأس الثوري يمكنه أن يكون أحدا غير الرموز التقليدية المعروفة، فراحت تقدم رموزها واحدا تلو الآخر، فيما بدا أنه تقسيم مبكر للكعكة، أو حرصٌ على صورة مشرقة بتصدر وجود مشرقة للواجهة السياسية التي ستفرزها الثورة، فهذا يقدم “محمد البرادعي”، وذاك يقدم “أحمد زويل”، وثالث يقدم ثالثا، ورابع يقدم رابعا.. إلخ.هؤلاء جميعا قفزوا على الحقيقة الدامغة التي تصفع الجميع بقوة وضوحها.. “ثورة مصر” كانت برأسٍ مختلفٍ وعظيمٍ وواعٍ ومدركٍ كل الإدراك لما يريده، وعارفٍ بإمكاناته الحقيقية، ومخططٍ بوضوح لمسيرته ولمراحل ثورته. لكن هؤلاء الذين بَدَوا خائفين على مستقبلِ الثورة التي كان رأسها أبعد من أن تطاله هاماتهم النمطية، هزَّتْهم طبيعته غير التقليدية، وأحرجتهم أساليبه غير النمطية، وتَرَيُّثُه الرافضُ للقفز على المراحل والخطوات. لقد كان برنامج رأس الثورة واضحا منذ اللحظة الأولى التي تحول فيه المطلب الإصلاحي إلى مطلب ثوري..”الشعب يريد إسقاط النظام”.. النظام بكل مكوناته.. “مؤسسة الرئاسة”، رئيسا ونائبا للرئيس.. “المؤسسة التشريعية” المزيفة والمزورة، مجلسَ شعبٍ ومجلسَ شورى.. “شرعية النظام”، والتي هي الدستور.. ثم “كل مرفقات وتبعات هذا النظام الفاسد”، حزْبُه المتغول، جهاز أمن دولته الدموي، محاكمه العسكرية، قانون طوارئه الآثم، منظومة الفساد بأكملها ومحاكمتها.. لا بل إن برنامج “رأس الثورة” كان واضحا في أنه يريد من “المؤسسة العسكرية” أن تضطلع بزمام الأمور في المرحلة الانتقالية، لتضمن بنفسها الانتقال الآمن والسلس إلى الديمقراطية.وإذا انتقلنا إلى الجانب الإداري ليوميات الثورة، لنتابع صيرورةَ الأحداث وتطورَها وتناميها وطريقة تفاعلها مع المستجدات، سواء كانت مستجداتٍ تأتي كردات فعلٍ من النظام المترنِّح، أو كتجاوبٍ من الجماهير، أو كمواقف من العالم دولا وشعوبا ومنظمات، فقد أثبتت الثورة أن لها رأسا قياديا مُحَنَّكا، يعرف كيف يُعَبِّئ، ومتى يُعَبِّئ، وأين يتحرك، وأين يحشد، ومتى يعتصم، ومتى يزحف، متى يسمع ومتى يتكلم، متى يَطلب ومتى يُعطي، متى يعلن ومتى يصمت، متى يسمح بالتفاوض ومتى لا يسمح، ماذا يقول عن نفسه، وماذا يقول عن غيره، كيف يضبط الشارع بملايينه التي كانت تملأ الأفق، وكيف يرفع المعنويات ويشحذ النفوس والهمم، ويحفظ النظام الذي عجزت عن حفظة مؤسسات دولة بوليسية، وينظم عمليات مقاومة المعتدين بصمود أسطوري غير مسبوق، ويعالج المصابين ويقيم المستشفيات الميدانية، ويؤمِّن البيوتَ والمناطق السكنية متحولا إلى جهاز للأمن والحماية، بل هو رأس أظهر قدرة فائقة على إدارة شئون جمهوريته الصغيرة الكبيرة وقاعدته الآمنة “ميدان التحرير”.. إلخ.أبعد كل هذا يقال أن “ثورة مصر” كانت بلا رأس؟! أبعد كل هذا يقال أن هناك ثورة قد تولد وتقوم وتمشي وتتحرك وتنتصر بجسد مقطوع الرأس؟! سابعا.. الثورة أكبر استثمار في التنمية المستدامة..رافق الثورةَ المصريةَ على مدى أيامها الثمانية عشر – وهو أمر يرافق الثورات عادة لتضخيم ما يراد له أن يكون عنصرا تدميريا مخيفا ومرعبا فيها – حشدٌ من التقارير والتحليلات الاقتصادية التي تصدَّى للتقدم بها الكثيرون، حتى بعضٌ من أنصار الثورة بحسن نية، تَصُبُّ كلُّها في خانة الحديث عن الانهيار الاقتصادي الوشيك إذا استمرت الثورة، والتبعات الوخيمة التي يتحملها الاقتصاد المصري بتواصل ما تم الإصرار من قبل الكثيرين على وصفه بالاحتجاجات. وراحت الأرقام تتحدث عن خسائر يومية للاقتصاد المصري تقدر بـ “310” ملايين دولار، يتكبدها هذا الاقتصاد مع غروب شمس كل يوم من أيام الثورة، وهي خسائر مُرَشَّحَة للزيادة مع دخول بوادر العصيان المدني على خط الاحتجاجات في الأسبوع الأخير من الثورة. ولقد بكى الكثيرون على البورصة المصرية التي خسرت منذ اليوم الأول عشرات الملايين من الجنيهات، دون أن يذكر لنا أحد أن البورصة هي في الواقع مظهر من مظاهر الاقتصاد الطُّفَيْلي غير المنتج، ونمط من الرأسمالية المالية المٌضَلِّلَة، وأن الخسائر فيها لا تمس الاقتصاد القومي في شيء على وجو الحقيقة، وكل ما تفعله هو إجراء عملية إزاحة في الثروات والممتلكات السائلة والورقية والسندات. من جهة أخرى راح الكثيرون يندبون حظ السياحة التي قيل أنها خسرت خلال الأيام الأولى حوالي مليارا من الدولارات، بل وضع الكثيرون أيديهم على قلوبهم وهم يتوقعون انهيارا عالميا إذا امتد الأمر ليطال إضرابا في مؤسسات قناة السويس.. إلخ.إنه لأمر يثير السخرية أن يتم الحديث في ثورة قامت لتعيد أمور الاقتصاد والعدالة إلى نصابها، ولتوقف نزيف الخسائر الذي لا ينضب، بسبب سياسات اقتصادية رعناء فاسدة رهنت البلاد والعباد، وباعت الوطن ومؤسساته لحفنة من اللصوص والطفيليين، ونشرت الفوضى والفساد بكل أشكالهما التي أجاعت الشعب، وجعلته لا يحس من تلك المليارات التي يتحدثون عنها بشيء يذكر سوى ما يسمعه عنها في وسائل الإعلام الرسمية.. نقول.. إنه لأمر يثير السخرية، الحديث عن ثورةٍ قامت لهذا الغرض، بما يوحي بأنها تدمر الاقتصاد وتدفعه إلى حافة الهاوية.إن الثورة – أي ثورة – هي بمثابة جهازِ المناعة الاجتماعي المقاوم للفوضى والدمار والانهيار في المجتمع. المجتمع يثور كي ينقذَ ما يمكن إنقاذه، وكي يحميَ ما تبقى من جسده المنهك، ويعودَ به إلى طريق السلامة من جديد، بعيدا عمن أذاقوه الويل والثبور. إن ما تفعله الثورة في واقع الأمر هو إيقاف نزيف الثروة المستشري في الجسد الاجتماعي كله، عبر سحب جرعة سريعة من الدم الفاسد، تحقق الهدف، لتقوم بعد ذلك بإعادة ضخ الدماء النقية إلى المجتمع، كي ينهضَ وينتعشَ ويستعيدَ عافيتَه. كما أنها بمعنى من المعاني، ذلك المستثمر الواعي الذي ينفق جزءا من ماله في التأسيس لمشروع منتج فعال يضمن له حياة رغيدة مدى الحياة على المدى البعيد، بدل أن يجلس فوق ثروته ويستهلكها بالإنفاق المباشر منها يوما بعد يوم.إن هناك مصطلحا غاية في الأهمية في أدبيات “التنمية”، هو مصطلح “التنمية المستدامة”. إن من يفهم حقيقة “التنمية المستدامة”، ويقارن مردودها على مستقبل المجتمع، بمردود الثورة الاجتماعية التي تستهدف إسقاط مشروعية نظام “اللاحرية” على مستقبل ذلك المجتمع، لا يملك إلا أن يعترف بأن الثورات هي في حقيقة الأمر أكبر برامج استثمارية للتنمية المستدامة، يمكن للمجتمعات أن تلجأ إليها أو أن تنفذها. فالتنمية المستدامة، هي شكل من أشكال التنمية تتَّخذُ واحدة من صورٍ ثلاثٍ هي.. الأولى.. الاستثمار في المشاريع الإنتاجية ذات المردود الإيجابي على البيئة، لما في مصادقة البيئة من مردود اقتصادي واجتماعي إيجابي على المدى البعيد. والمشاريع الإنتاجية التي من هذا القبيل، تنطبق عليها دراسات الجدوى التقليدية للتعرف على مدى مردوديتها الاقتصادية، مع أخذ عنصر نظافة البيئة ومصادقتها في الاعتبار، كعنصر حتمي من عناصر ميزانيات الإنفاق في تلك المشاريع. الثانية.. الاستثمار في المشاريع التي تظهر وكأنها مشاريع غير منتجة بالمفاهيم الاقتصادية المباشرة للتنمية وللإنتاج، وإن كان من الواضح أنها ستنعكس على المجتمع وعلى الطبيعة وعلى المعرفة، بمردود إيجابي يهيئ الأرضية الخصبة لعناصر تساعد التنمية مستقبلا كي تكون أكثر فاعلية وجدوى. ومن المشاريع التي من هذا القبيل، الاستثمار في “محو الأمية”، و في “تطوير التعليم”، وفي “الصحة العامة”، على الصعيد الاجتماعي، ومشاريع “البحث العلمي”، على صعيد تراكم المعرفة لتطوير تقنيات الإنتاج بمختلف أنواعها، ومشاريع “تشجير المناطق القاحلة أو الجرداء”، على صعيد تأهيل الطبيعة لتصبح أكثر قدرة على احتضان تنمية لم تكن عناصرها متاحة في الأرض الجرداء. إذ من الواضح أن كل ما سيُنْفَقُ على تلك المشاريع لا يبدو له مردود اقتصادي مباشر وفوري، بحيث يمكن اعتبارها مشاريع إنفاقية وغير إنتاجية بالمفاهيم التقليدية للإنتاجية. بينما الواقع هو على العكس من ذلك تماما، إذ أن الإنفاق على “محو الأمية” مثلا، هو تأهيل للمرأة وللأب ليكونا أكثر قدرة على نقل خبرة حياتية إيجابية لأطفالهما، وهو ما يخفف العبء عن موازنات الحكومات في التأهيل لاحقا. كما أن الإنفاق على “البحث العلمي”، هو بمثابة استثمار في المعرفة مؤجلة المردود، مادام البحث العلمي سيستهلك الآن ما سوف يرده أضعافا مضاعفة عند اختراع تقنيات تُفَعِّل الإنتاجية وتخفف الهدر في الموارد، أو تقضي على الأمراض.. إلخ. وأخيرا فإن الإنفاق على “تشجير المناطق الجرداء” سوف ينعكس على شكل مردود إيجابي في المستقبل، بتغيير معالم الأرض والمناخ، وإتاحة الفرصة لهطول الأمطار التي ستساعد على التوسع في الزراعة، فضلا عن خلق معالم سياحية جديدة في المناطق المشجرة.. إلخ.الثالثة.. الاستثمار في المشاريع الإنتاجية التي تُخَفِّفُ العبءَ الإنفاقي عن مشاريع أخرى، والتي تخفف العبء الاستنزافي عن الموارد، وتساعد على تحقيق توازن أكثر للنفس الإنسانية وللعلاقات الاجتماعية، عبر إعادة إنتاج الفكر الاستثماري في الدولة بشكل يتناسب مع المطالب السابقة. من ذلك مثلا القيام بخلق خطوط إنتاج لسلعة معينة في البيوت إذا كان ذلك ممكنا، بدل العمل على إنشاء مصنع لإنتاج تلك السلعة. ومن الواضح أن التَّمَكُّن من تحقيق ذلك سوف يوفر الوقت والطاقة والأرض، وسوف يزيد من الترابط الأسري، ويخفف التوتر الناجم عن الاستخدام الطويل لوسائل النقل، والعمل لساعات عديدة بدون فواصل راحة ملموسة بينها، كما أنه سيوفر الكثير من عناصر الإنفاق الجانبية التي ستنشأ على هامش ظهور مصنع لسلعة معينة، كما أن هذا القدر من التوفير سوف يتيح الفرصة لتوفير الأموال اللازمة لتأمين فرص عمل زائدة.. إلخ. وبالمناسبة فقد استخدمت دولة متقدمة جدا مثل اليابان هذا النوع من أنواع الاستثمار، وكان مردوده الاقتصادي والنفسي والاجتماعي عاليا جدا.فما الذي تُحْدِثُه الثورة في الحياة الاجتماعية وفي الاقتصاد حتى نعتبرها واحدة من أهم الاستثمارات في التنمية المستدامة؟!أولا.. تقوم الثورة بإعادة إنتاج الفكر الاستثماري في الدولة بشكل يوقف كل أشكال النزيف السائدة في الثروة القومية، خاصة إذا كانت هذه الثروة تخضع في حراكها لمنظومة فسادٍ تُفْقِدُها قيمتَها الحقيقية على صعيد التنمية بشقيها المباشر والمستدام. والثورة لا تَضُخُّ في عملية كهذه، ستعود بمردود إستراتيجي على الاقتصاد الوطني، إلا جزءا يسيرا مما يتم الترويج لكونه خسارة مباشرة سببتها الثورة للاقتصاد الوطني. فعلى من أراد أن يعرف إن كانت ثورة مثل “الثورة المصرية” قد سببت خسارة للاقتصاد المصري، أن يحسب كمية الثروة التي كانت سَتُسْتَنْزَف من الاقتصاد القومي المصري على مدى عقد قادم من الزمن على الأقل، إذا استمر نظام الفساد السائد، ويقارن هذه الكمية من الثروة، بما تمت خسارته خلال أيام الثورة من أموال في بعض المرافق التي تعطلت متأثرة بالأحداث الثورية.إن الأرقام التي أتاحتها لنا التسريبات القليلة خلال أيام الثورة، وهي تسريبات من المؤكد أنها لم تكشف إلا عن أقل القليل من ملفات فضائح الفساد في مصر، وعن حجمٍ بسيط من أحجام الأموال المنهوبة من الشعب المصري، توضِّح أن الحد الأدنى من النزيف السنوي من الثروة القومية المصرية بسبب منظومة الفساد وتحت عناوينها فقط، ودون أن نُدْخِلَ في الحسبان ما يَنْتُج من انحرافات وهدر على المدى الطويل، بسبب الظلم الناتج عن نمط تقسيم العمل السائد في مصر، وعن التبعية الناتجة عن نمط الاستثمار الطفيلي الخدمي غير المنتج، إن هذا النزيف لا يقل عن متوسط قدره “10” مليارات دولار في السنة على مدى السنوات الثلاثين السابقة. فإذا افترضنا أن الثورة المصرية ستتمكن من وقف هذا النزيف لمدة عشر سنوات تالية فقط – مع أنه افتراض لا معنى له، لأن الثورة يفترض أنها ستوقف النزيف إلى الأبد – فلنا أن نتخيل أن “100” مليار دولار هو ما سوف تحافظ عليه ثورة مصر من ثروات الشعب المصري، بإنفاقها لما قيل أنه حوالي “7” مليارات من الدولارات، مثلت إجمالي الخسائر التي تسببت فيها الاحتجاجات على مدى الأسابيع الثلاثة، هذا إذا صدقناها، ولم نتَّخِذ من فساد النظام الذي روَّج لها ذريعة لاعتبارها كذبا يهدف إلى إظهار الثورة بمظهر المدمِر للاقتصاد المصري ليس إلا. ثانيا.. تقوم الثورة بإعادة إنتاج الروح الفردية والجماعية في المجتمع بشكل يرفع كل حواجز الخوف واللامبالاة، ويزيد من عناصر ومكونات الانتماء، بكل ما يترتب على ذلك من رفع لإنتاجية الفرد بشكل عام، وبشكل أكثر وضوحا على مدى السنوات الخمس التي تلي الثورة بشكل خاص. فقد أثبت الدراسات السوسيولوجية والسايكولوجية للثورات، أن إنتاجية الفرد بعد الثورة تزيد بمعدل الخُمْس على الأقل بسبب زخم الحماس والحب والعطاء الذي تولده الثورة في داخل كل فرد من أفراد الشعب. وهذا يعني أن الدخل القومي المصري سوف يزيد بنسبة 20% على مدى السنوات الخمس التالية للثورة، وبعد أن تعود عجلة الحياة إلى وضعها الطبيعي، وبعد تحقيق مطالب الثائرين. أي أن “ثورة الشباب” في مصر استثمرت ذلك المبلغ المستنزَف خلال أيام الأحداث، والذي قيل أنه يقارب الـ “7” مليارات من الدولارات، في مشروع تنمية مستدامة ذي مردود عالي، هو إعادة إنتاج روح الإنسان المصري ليصبح إنسانا أكثر إنتاجية وفعالية.ثالثا.. على صعيد علمي آخر أكثر دلالة، فإن الثورات تُقَلِّصُ الإنفاق العام والخاص بشكل ملحوظ خلال أحداثها ويومياتها، خلافا لما يقال في وسائل الإعلام التي تتعامل مع الأرقام والمؤشرات في سياقاتها الطبيعية ما قبل الثورة، دون أن تأخذ في الاعتبار تأثير الأحداث الثورية على تغيير نمط الإنفاق والاستهلاك في المجتمع. فالمجتمع يشبه في منظومة القوانين التي تحكم حياتَه وموتَه ومرضَه ودفاعَه واستسلامَه جسم الكائن الحي، وبالتحديد الكائن الإنساني، بشكل كبير. من المعروف طبيا أن جسم الإنسان عندما يتعرض لحادث خطير يتسبب في نزيفٍ شديد، فإن الدماغ يصدر أوامره إلى أدوات الإحساس والوعي بالاستسلام للنوم فورا، فيفقد الإنسان وعيَه – غالبا – وهو ما يتسبب في تخفيف حدة نَزْفِ الدم بشكل كبير. وهذا السلوك من الدماغ سلوك دفاعي يحاول من خلاله الحفاظ على حياة الجسد أطول مدة ممكنة بجعل حركة خروج الدم من الجسم تتباطأ قدر المستطاع، بشكل قد يكون كافيا في العادة لتدارك الأمر وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. بينما لو بقي الإنسان في حالة الوعي، فإن سرعة النزيف تكون أشد، وهو ما قد يُعَجِّل بالموت. وعندما يفقدُ الإنسان وعيَه تتقلص كافة عناصر استهلاكه وعلى رأسها استهلاك الطاقة، فتقل حاجته للهواء وللسعرات الحرارية ولكل عناصر الحياة. الصدمة إذن تُغَيِّر نمط الاستهلاك والإنفاق في الجسم. وهكذا هو المجتمع. الثورة تُحْدِثُ في المجتمع بوصفه كائنا حيا صدمة كبيرة، فتَحْدُث فيه على الفور ردة فعل فردية وجماعية لا واعية تغير من كل أنماط إنفاقه واستهلاكه، وذلك لعدم السماح لهذه الصدمة بأن تتسبب له في نزيف خطير. تماما مثلما يحدث في جسم الإنسان. يتقلص استهلاك المجتمع في كل شيء، في المواد الغذائية وفي مصادر الطاقة، تتقلص تنقلاته، يقل غذاؤه وشرابه، تتقلص حتى أوقات استخدامه لدورات المياه لقضاء حاجته. وتزداد هذه الظاهرة وضوحا وعمقا لدى التجمعات الثائرة والمتظاهرة والمتحشِّدة نفسِها. ولنا أن نتخيل الوفر المتحقق على صعيد الثروة القومية عندما نفترض فقط أن نسبةً قدرها “20%” من استهلاك كل فرد من الطعام والشراب والدواء والوقود قد تقلصت خلال ثمانية عشر يوما من الحراك الثوري، وأن ما نسبته حوالي “40%” قد تقلصت من استهلاك المجموعات المتحركة في قلب الحدث الثوري، باعتبار حالتها أكثر مدعاة للوفر كما تؤكد على ذلك الدراسات العلمية. دعونا فقط نقرب الصورة بحسابات مختصرة، ليست دقيقة جدا، لكنها قطعا قريبة من الدقة، وتعطي مؤشرات واقعية على ما نود قولَه. لو افترضنا أن الشعب المصري يستهلك سنويا ما مقداره “350” مليار جنيه فقط على الغذاء والدواء والشراب والطاقة، فهذا يعني أنه يستهلك ما قيمته حوالي مليار جنيه يوميا، وبالتالي فإنه قد استهلك على مدى الأيام الثمانية عشر للثورة حوالي 14 مليار جنيه، وذلك بعد خصم نسبتي الـ “20%” والـ “40%” اللتين تحدثنا عنهما قبل قليل، واللتين تقاربان الأربعة مليارات جنيه. هذا إذا تجاوزنا أن حالة العطل التي رافقت الثورة في بعض المرافق، وإن كانت قد تسببت في تعطيل الإنتاج فيها، فإنها قد تسببت في وقف أو تعطيل الإنفاق المرافق لها. وهو ما يفترض أن يضاف إلى قائمة الوفورات التي تحققت خلال الثورة، وهي وفورات من الصعب احتسابها بدقة، وذلك كي لا يصار إلى الحديث فقط عن الخسائر الآنية والفورية، وتجاهل كل المكاسب الفورية والإستراتيجية التي تحدثنا عنها، والتي تجعلنا نؤكد مجددا على أن الثورات هي في حقيقة الأمر واحدة من أكبر المشاريع الاستثمارية في التنمية المستدامة في المجتمعات.المصريون جعلوا من الثورة فنا ثامنا..قد يُهَيَّؤُ للكثيرين أن الفنون عندما يتم تدريسها في المؤسسات الأكاديمية وفي الجامعات، فإنما يتم تدريس قواعدها وقوانينها وأصولها العلمية. أي أن المرءَ يقضي سنواتٍ عديدةً من عمره وهو يتعلم تلك القواعد والقوانين والأصول!! إن هذا خطأ كبير. فمجموعة الثوابت التي يرتكز إليها كل فن من الفنون ارتكازا علميا، محدودة إلى درجة يمكن استكمال تدريسها في أسبوع دراسي واحد، وكي لا نكون مبالغين، فلا وجود لفن تحتاج أصوله وقواعده العلمية لمدة تزيد عن شهر من الدراسة كي تُسْتَوْعب عن بكرة أبيها. وإذن فما الذي يفعله الدارس للفنون على مدى السنوات الثلاث أو الأربع التي يقضيها دارسا لفنٍّ معين في الجامعة أو في المؤسسة الأكاديمية التي التحق بها؟!في واقع الأمر، من يدرس الإخراج السينمائي، لا يتعلم كيف يخرجُ فيلما سينمائيا، فقواعد الإخراج القليلة التي لا تحتاج إلى أكثر من عشرين صفحة لشرحها، تعلمنا ما لا يجوز فعله كي نكون ضمن حقل الإخراج. ومن يدرس الفن التشكيلي، لا يتعلم كيف يرسم لوحة أو كيف ينحت تمثالا. بل هو يتعلم بمجموعة القواعد القليلة الخاصة بالفنون التشكيلية، ما الذي يجب تجنُّبُه في هذا الفن. كما أن الذي يتعلم الموسيقى أو الشعر أو الرواية أو الدراما، لا يتعلم كيف يؤلف مقطوعة موسيقية، ولا كيف يَنْظُمُ قصيدة، ولا كيف يكتب رواية أو مسرحية. فالقواعد التي تجيب على سؤال” كيف” في كل واحد من تلك الفنون هي كما ذكرنا، محدودة للغاية، يمكن الإلمام بها في مدة زمنية قصيرة. إن من يدرس الإخراج السينمائي، إنما يدرس تاريخ الإجابة على السؤال “كيف أخرج الآخرون أفلامهم”. وكذلك يفعل من يدرس أي فن من الفنون. فدارس الفن التشكيلي يدرس كيف رسم الآخرون لوحاتهم وكيف نحتوا تماثيلهم، ومثله يفعل دارس الموسيقى والدراما والرواية والشعر. دارس الفنون إذن هو في حقيقة الأمر دارس لتجارب الفنانين، أو بتعبير أدق هو دارس للتجارب الفنية نفسها، خلافا لدارس العلوم الذي يَطَّلِعُ على الواقع الموضوعي كما هو، ليضيف إليه ما يمكنه أن يكتشفه، وكما هو أيضا. العالِمُ يكتشف القانون الطبيعي فيضيفه إلى ما اكتشفه قبله الآخرون بعد أن يقدم الدليل المختبري التجريبي على صحة اكتشافه، أما الفنان فيضيف تجربته الفنية الخاصة إلى مجموعة التجارب الفنية السابقة في الحقل الذي يبدع فيه، دون أن يسأله أحد ما دليلك على ما تقوله. ففي الوقت الذي لا يُقْبَلُ من العالم علمُه بلا دليل، يفقد الفنان صفة الفنان المبدع كلما كان في فنه يقدم تجربة أقرب إلى العلم منها إلى الإبداع، وأشبه بِسَوْقِ الأدلة منها بفيض الوجدان وسعة الخيال وذاتية الخبرة والتجربة.إن القراءة التحليلية والنقدية لأي عمل فني لا تخرج عن محورين، الأول هو محور التأكد من التزام العمل بالقواعد العلمية للحقل الإبداعي الذي يندرج فيه ذلك العمل، والثاني هو محور التأكد مما إذا كان هذا العمل يمثل نمطا فنيا جديدا في ذلك الحقل الإبداعي، بحيث تُمْكِن إضافته كنموذجٍ مدرسي متكامل ومستقل إلى النماذج السابقة، أم أنه لا يخرج عن كونه مندرجا في واحد من النماذج التي كُرِّسَت بوصفها المدارس الفنية في ذلك الحقل الإبداعي، مع محاولة التَّعَرُّف على كافة أوجه التشابه أو الاختلاف بينه وبين باقي الأعمال الفنية الشريكة له في الأسس المدرسية التي ينتمي وإياها إليها.لقد أتقن صناع “ثورة شباب مصر” استخدام قوانين “علم الثورة”، وأثبتوا في ذلك كفاءة منقطعة النظير، مخيبين ظن كل من راهن على تدني الخبرة السياسية للشباب الذين فجروا هذه الثورة، في فشل هذه الثورة أو في عدم تمكنها من تحقيق أهدافها، أو في عدم قدرتها على حشد الشعب المصري خلفها. لن نقف طويلا عند هذه المسألة، فسقوط النظام المصري بخلعِ “مؤسسة رئاسته” بالكامل، واستعداد الجيش لقيادة مرحلة انتقالية للولوج إلى الديمقراطية المدنية، ويقظة الثوار لمتابعة تنفيذ الجيش لمطالب الثورة ليس حلما، بل هو حقيقة واقعة. إنما نود أن نتلمس البصمة الإبداعية الخاصة في ثورة مصر، والتي تجعلنا نمتلك الجرأة الكاملة للزعم بأن صُناع تلك الثورة أدخلوا “علم الثورة” إلى دائرة الفنون، جاعلين منه “الفن الثامن” بعد فن السينما بامتياز.إن متابعة أحداث ويوميات “ثورة الشباب” في مصر كانت أشبه بمتابعة لوحة فسيفسائية راحت تتمدد لحظة بعد لحظة، بريشةِ فنانٍ غير مرئي غمرنا بمسحاته الأسطورية. شعاراتُها كانت أشبه بشجرة متمايلة تيها حول جذع راسخ ثابت لا يتغير فيه إصرار، وأغصان ووريقات تنمو وتتطور من لحظة لأخرى كاشفة عن إمكانات مهولة في هذا الجذع وفي جذوره التي كان يغتذي منها، معيدة إلى أرواحنا سيادية الروح المصرية التي حاول هذا النظام طمسها بيننا وفي أرواحنا، بعد إذ عشنا عقودا على فيض طليعيتها. الأمواج البشرية التي كانت تتحرك وفق خطة متقنة، وتزحف وفق برنامج مُحكمٍ، عادت بنا إلى موجات الهجرات البشرية العظيمة في التاريخ، ولكنها اليوم في مصر، كانت هجرات إلى الذات، إلى الأنا المصرية والأنا العربية. كان المصريون يخرجون موجة في إثر موجه غاذين السير نحو ذواتهم ونحونا، وكلما حاول عدوهم حرمانهم من متعة الوصول بنغمة نشاز هنا أو بضربة ريشة قميئة هناك، كلما اتبعوا الموجة الأولى بموجة ثانية أصرت على ألا تبقي الطريق إلى الذات محفوفة بالأسلاك الشائكة ومزروعة بالألغام، وبإصرارها كانت تمحو النشازية في مقطوعة أرادوا لها أن تكون سمفونية عصر متفرد لن تتكرر.إن إدارة يوميات هذه الثورة أذهلت حتى كبار الساسة والمثقفين المصريين والعرب والعالميين. شباب لم تعركهم السياسة أعطوا للسياسة معانٍ جديدة، وشعب حاصروا كرامته، رسم بحطامها أساسات إعادة بنائها وبناء كرامتنا جميعا من جديد. ثورة أذابت الخلافات، وكشفت العورات، وحطمت كل القيود، وهشمت الأوثان. الصليب يعانق الهلال، والحجاب يحضن السفور، وعمائم الأزهريين تتصافح مع قلنسوات الرهبان والقساوسة. المرأة تستشهد إلى جانب الرجل، والشاب يقود الشيخ، والطفل يغني محمولا على الأكتاف، الطبيب يداوي الجراح، والمحامي يصدح بالحق، والصحفي يرسل قوافي الثورة إلى العالم، وأرض مصر تحضن ثوارها، وعلم مصر فوق الجميع يدفئ حامليه ورافعيه. فن جديد اكتشفناه في مصر على مدى ثمانية عشر يوما هو “فن الثورة”، الذي كشفت التجربة المصرية خلاله عن مدرسة ثورية مختلفة ستجبر العالم على تعلُّم “كيف ثار المصريون؟” عندما يذهبون لتعلم “فن الثورة”. فآمنا بأن مصر تهدي للبشرية فنا ثامنا بعد أن توقف الإنسان عن ابتكار الفنون مائة عام أو يزيد. ونحن أمام شاشات التلفزيون متسمرون ننتظر ولادتنا الجديدة في رحم هذه الثورة المجيدة، وقد كان، فكانت مصر، وبكينونتها أصبحنا، كي نكون.