www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

سكتي ابنك يا حرمه… بقلم : آرا سوفاليان

0

السابع عشر من نيسان ذكرى الجلاء وذكرى الأبطال ذكرى فرسان السلاح وفرسان القلم تعلمنا منهم حب الوطن وتركوا لنا أرث وطني كبير ومنهل كريم، ساروا في درب الكفاح ودرب الجلاء منذ أول لبنة وضعوها في صرح محبة سوريا فغنوا لها وتغنوا بها، ومضوا وتركوا ذكرى وأمانة غالية وطريق لا بد من أن نسير فيه إلى نهايته.

سكتي ابنك يا حرمه… بقلم : آرا سوفاليان
مقالات واراء

السابع عشر من نيسان ذكرى الجلاء وذكرى الأبطال ذكرى فرسان السلاح وفرسان القلم تعلمنا منهم حب الوطن وتركوا لنا أرث وطني كبير ومنهل كريم، ساروا في درب الكفاح ودرب الجلاء منذ أول لبنة وضعوها في صرح محبة سوريا فغنوا لها وتغنوا بها، ومضوا وتركوا ذكرى وأمانة غالية وطريق لا بد من أن نسير فيه إلى نهايته.

من فرسان السلاح وفرسان القلم: المجاهد علي عبيد وهو والد العلامة والشاعر سلامة عبيد وصاحب البيت المسور بالكفاح الوطني والفداء من أجل الكرامة، والشرف الأرفع، شأن العديد من بيوتات عرين الشموخ في جبل العرب.

ولد الشاعر والكاتب والأديب المناضل سلامة علي عبيد في العام 1921 عندما كانت دبابات المستعمر الفرنسي تطحن الصخر، في طريقها لاحتلال الوطن الذي توثب أبطاله كالقدر الحرون في ميسلون الصمود، وترعرع وأحاديث البطولات تشنف أذنيه، وتمجيد الجهاد من أجل التراث والتراب والتاريخ هو خبز الرجال اليومي في مضافات الكرم وسوح العناد.

لقد عاش سلامة عبيد بأحلامه وطفولته المتمردة، إرهاصات الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش التي أرست القواعد الرواسخ لاستقلال الوطن وحريته، كما رأى وعايش استشهاد أخويه (نايف ورشيد) كما ذاق مرارة النزوح مع الذين نزحوا إلى وادي السرحان في جزيرة العرب من أبناء الثوار، فاكتوت طفولته بنار التشرد، والهلع، ومرارة العيش.

أمضى المرحلة الابتدائية من دراسته في الجبل ثم تلقى تعليمه الثانوي في لبنان والجامعي في الجامعة الوطنية في عاليه بلبنان.

تزوج الشاعر ورزقه الله بنون وبنات حرص على تعليمهم جميعاً الإباء والصلابة والشموخ، فقرأ لهم الكثير من شعر والده ومن شعره وحدثهم عن الجدول القدسي الذي يسبح في السماء وفوق جبل العرب والجولان وقرى الجولان ترفده الروافد في كل يوم ليبقى قوياً صلباً يهيمن على فضاءات الجبل ويحمي أهله ويحفزهم ليهبوا قبل الداعي للزود عن الوطن.

ـ ما هو الجدول القدسي يا أبتاه؟

ـ هو نسائم قدسية تسبح في السماء فيه نجوم لا تراها إلاَّ أعين الشهداء وتنضم نجوم جديدة  على شكل روافد تعزز هذا الجدول المقدس.

ـ وما هو دور هذا الجدول المقدس؟

ـ يحمينا ويعلمنا ضروب الشجاعة والإقدام  ويلف سمائنا و ينتظر نجمة جديدة تجيء مسرعة.

ـ كبيرة أم صغير؟

ـ كبيرة أو صغيرة… الشهادة شهادة يتساوى فيها الكبير والصغير فهي نجمة تضيء الى الأبد.

ـ حدثنا عن واحدة صغيرة أذاً

 ـ حسناً اسمعوا

في مغارة موحشة في وادي السرحان تجمّع بعض الأهالي ومعهم الأولاد والزوجات والأحفاد، وقد حمل الرجال السلاح في يد وقِرَبُ الماء في اليد الأخرى، وحملت النساء سلال الخبز والزاد، والكل هاربٌ من أزيز الرصاص وقصف الدبابات التي تقتلع الأشجار والأحجار بجنازيرها قبل الإنسان.

ولم يهتم أحد لهذه المغارة ولم يخشى من دخولها  والاحتماء بها لا هي ولا غيرها التي قد تكون مأوى للكواسر والوحوش لأن في قلوب الكواسر والوحوش رحمة أكثر من المستعمرين.

وكنت مع من كنت صبي صغير في إحدى هذه المغر وقد هدني التعب والعطش وروعني الخوف وكنت ومن معي لا نعرف إن كنا سنرى فجر اليوم التالي أم لا.

صمت القبور وظلام الجحور والحديث بالإشارة والرجال يحمون النساء خلف ظهورهم فلقد اقتربت الجموع وتناهى إلى مسامعنا صوت الجنود يتحدثون لغة غريبة لا نعرفها.

تملكني الخوف فاختبأت خلف أمي ممسكاً بثوبها، طلب الرجال منا الالتزام بالصمت المطبق حتى لا ينكشف أمرنا …اصمتوا أو توقعوا أن يقتلونا ويرموا بجثثنا للوحوش!

وندت صرخة عن رضيع  وحارت أمه فيما تفعل بعد أن بادرها الرجل الذي دفعني إلى الخلف بعبارة زاجرة : سكّتي ابنك يا حرمه… ووضعت الأم يدها على فم الولد… ولكن الولد صرخ أكثر من قبل… سكّتي ابنك يا حرمة فو الله لو عرفوا بمكاننا سنموت جميعاً في لحظات.

 فضغطت الأم على فم الولد أكثر ولكن البكاء كان مسموعاً ويشبه بكاء طفل من تحت الوسادة، فنظر الرجال باتجاه المرأة ولم يتحدثوا بأي شيء.

 وسكت الولد وطارت نجمة صغيرة التحقت بالجدول القدسي، جدول الشهادة، وكان على شكل رياح هادرة تصاحب العواصف والبرد الذي كان يلفّ المكان.

 وشاء الله أن يبتعد الجنود دون أن ينتبهوا إلينا فكتبت لنا حياة جديدة وأعيننا تترقب الفجر.

 وغادرت المغارة مع المغادرين قبل انبلاج الفجر ومعنا أم الرضيع،  ورضيعها بارد في حجرها ودموعها لا تريد الانعتاق.

وهكذا فلقد أعطى سلامة عبيد أبنائه و طلابه دروساً في الوطنية من خلال تجاربه والظروف المضنية التي عاشها في طفولته عندما رسم القدر له ما رسم.

وانضم مبكراً إلى عصبة العمل القومي كما انتسب بعدها إلى حزب البعث العربي الاشتراكي الذي غناه، وأغناه شعراً وطنياً وقومياً رفيعاً، وأدباً متألقاً ومناقبية تحالفت مع المثالية والشفافية بشكل قل نظيره.

ويذكر الجيل الذي تربى على يدي الشاعر المناضل سلامة عبيد أنه كان مدرساً ومدرسة في السلوك والأخلاق والإخلاص والوطنية، فقد حول مديرية تربية السويداء، يوم تولى إدارتها، إلى منتدى ثقافي فكري، سياسي، تربوي تتلاقى فيه الكفاءات، والآراء، تختلف وتأتلف، وفي الخاتمة تتوحد على كلمة سواء هي قدسية الوطن..

كتب الشاعر سلامة عبيد في الأدب المسرحي، وكانت مسرحية اليرموك أبرز أعماله في هذا الصنف الأدبي، كما كتب في الرواية حيث تألق قلمه في رواية (أبو صابر) الثائر المنسي مرتين.

وكان كتابه الثورة السورية على ضوء وثائق لم تنتشر، يشكل سجلاً ناطقاً لأحداث الثورة السورية الكبرى، والأضاحي التي قدمها أبطالها الذين إن تناساهم الزمان، فلا بد أن يذكرهم الخلود.

أما المجموعات الشعرية التي أعدها الشاعر سلامة عبيد سواء ما طبع منها، أو ما بقي رهن الطالع من الأيام فإنها توحي بعبقرية شعرية فذة، وطاقة أدبية خلاقة، وخيال لا حدود لرحابته، وتمسكه حتى حدود النبض بالقيم و المبادئ، وأهداف الناس، وأوجاع الجماهير، والإصرار على التضحية من أجل التراب.

ولعل ديوان (لهيب وطيب)  يترجم بأمانة وشفافية روح الشاعر

وتأتي قصيدتة  (من دمانا) التي تحكي عن 29 أيار عام 1945 عندما تنامت الثورة التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي في سورية العربية، وكان قائد الجيش الفرنسي يشرب الخمرة ويأمر بضرب دمشق بالطائرات والمدافع، ويوعز باقتحام المشافي واجتياح دور العبادة وتهديم المجلس النيابي على من فيه.

جاءت قصيدة (من دمانا) تصويراً حياً وإبداعاً خلاقاً يؤرخ لحظات عدوان غاشم، وبطولات أسطورية لا تنسى:

من دمانا ، أيها السفاح ، من دمع اليتامى والأيامى ، أترع الكأس مداما
وأدرها بين أشلاء الضحايا ، واستغاثات الثكالى والسبايا ، وزئير المدفع الطاغي وأنات الشظايا
أترع الكأس وناولها الندامى
من دمانا ، أيها السفاح ، من دمع اليتامى والأيامى
أمطر الشام حديدا ولهيبا ، واستبح فيها هلالا وصليبا
واذبح المرضى ، ولا تخش عذولا أو رقيبا
عذب الأسرى ونكل ما تشاء ، وإذا الرعب تولاك وأضناك العياء
من دمانا أيها السفاح من دمع اليتامى والأيامى ، أترع الكأس مداما
أرسل العبدان تصلي الناس نارا ، وتحول جنة الدنيا يبابا ودمارا
وتقتل كل من تلقى : شيوخا وعذارى
لهم المتجر ، والمحراب ، والقبة حل . وإذا كلوا من التدمير والسلب ، وملوا
أترع الكأس وناولها الندامى من دمانا ، أيها السفاح ، من دمع اليتامى والأيامى
أي ّ ذنب كان منّا؟! أي شر ، عدت منهوكا فآويناك من حر وقر
وتناسينا نداء الثأر والأيام تغري
فكسوناك وأطعمناك خبز الفقراء ، وطلبت الماء ، عطشان ، بذلّ ورجاء
فسقيناك مداما ، من دمانا ، أيها السفاح من دمع اليتامى والأيامى
وقدرنا فعفونا ، وحمينا ، ورحمنا دمعة الأسرى ولم نستوف دينا
وتغاضينا عن الماضي وما جرّ علينا
من عذاب واضطهاد وإسار ، وافتراش الرمل والأشواك في عزّ الصحاري
ودّع الشام كما جئت بشر مستطير
بين أنات الضحايا والزفير
وإذا خفت الضما غبّ المسير
من دمانا أيها السفاح ، من دمع اليتامى والأيامى أترع الكأس مداما
فلقد عشنا كراما ، وسنبقى أبد الدهر كراما
السويداء 29/ أيار / 1945

وفي عهد الجمهورية العربية المتحدة شغل الشاعر سلامة عبيد منصب عضو مجلس الأمة وبعد اغتيال الوحدة آثر سلامة عبيد الابتعاد عن المسرح السياسي لينطلق مجدداً في الساحة الفكرية والأدبية تأليفاً وإبداعا

زار الصين لأول مرة عام 1964 ضمن وفد لإتحاد كتاب آسيا وإفريقيا، وكتب إثر هذه الزيارة كتاب “الشرق الأحمر” .

سافر ثانية إلى الصين في أواسط السبعينات ليعمل مدرساً في جامعات بكين ويحقق نجاحاً باهراً في تعزيز العلاقات العربية الصينية وإعطاء الأمثولة الصافية عن شعبنا وتراثه وحضارته في الساحة الأبعد جغرافياً وبقي هناك عشر سنين.

وأنجز أول قاموس صيني عربي انكليزي وسيذكر التاريخ لسلامة عبيد هذا الانجاز الذي ينم عن سعة الأفق والنظرة البعيدة.

و في رحلته الطويلة إلى الصين حاول أن يذهب إلى الأعماق الصينية في فلسفتها ، شعرها وحضارتها فكتب” طرائف من الصين” وترجم قصة “النساجة وراعي البقر” كما ترجم “مختارات من الشعر الصيني القديم”.

وعاد من الصين إلى الوطن في 23 آذار من العام 1984 وتوفي بعد 24 ساعة من وصوله إلى مطار دمشق الدولي، وبين أمتعته عثر على قصيدة خبأها في حقيبته بعنوان (الله والغريب) يطلب فيها من الله ان لا يتوفاه قبل وصوله إلى أرض الجبل.

” يا رب لا تغمض جفوني هنا

هنا قلوب الناس بيضاء

وأرضهم ماء وأفياء

لكن بي شوقا إلى أرضي

لجبل الريان والساحل

ألقي عليه نظرة الراحل

دعني أعش يوما أخيرا هناك

حيث أحبائي

والذكريات الحلوة المرة

يا رب لم أحقد ولم أندم

ألا ترى قلبي بلون الثلوج

دعني إذن أغمض جفوني هناك

حيث أحبائي

يذرفون الدمع لون الدماء

ويعرف الرجال طعم البكاء”

 

 فمات قرير العين في داره وحوله زوجته وأولاده.

إنها رحلة الرواد الكبار والكرام في هذه الحياة التي أسبغ عليها الشاعر سلامة عبيد لوناً مشرقاً من النبل والنباهة والعبقرية، والإبداع الذي يجعل الخلود حليفه الأبدي.

وكان الشاعر الكبير مدرسة في الكرم والمروءة و الإيثار وقد عرف عنه أنه كان لا يبخل على الناس الأقل يسراً منه في شيء، فكان لا يرد صاحب حاجة حتى ولو قسى على نفسه، مما كان يثير حفيظة زوجته ويفقدها هدوئها مرة تلو الأخرى وعندما طفح الكيل جرت المحاورة الرقيقة الآتية بين الرجل وزوجته…ننقلها لنضفي جو من الفرح على خاتمة هذه المقالة التي لا نريد (ونعتقد بأن سلامة عبيد  يؤيدنا في ذلك) لها نهاية حزينة.

المحاورة الآتية جرت بلهجة أهل الجبل.

ـ يا أستاذ سلامة؟

ـ نعم يا أم أكرم

ـ مليح ما انت عندك أكثر من مرا …(إمرأة)

ـ ليش يا أم أكرم!

ـ لَيْش؟… لأن بكرا بيزورنا حَدن …(أحد ما) ، وانت بتقول: حرام هلـ شبْ أعزب وما عندو مَرا … يا الله… تَ … أعطيه هل مَرا!!!

هذه المقالة مهداة إلى شعبنا في الجولان الرازح تحت نير الاحتلال الصهيوني البغيض على أمل العودة الى الوطن الأم بعد النصر والتحرير إن شاء الله، والى روح المربي الفاضل الأستاذ سلامة عبيد الذي لم يكتف بالحديث القدسي الشريف اطلبوا العلم ولو في الصين بل ذهب إلى جامعات الصين لطلب العلم و لتعليم أهل الصين اللغة العربية والذي طلب من الباري تعالى أن ينضم إلى الجدول القدسي السابح في السماء وفوق جبل العرب والجولان وقرى الجولان فكان رافد  جديد يضاف إلى جملة الروافد ليبقى  هذا الجدول القدسي قوياً صلباً يهيمن على فضاءات الجبل ويحمي أهله ويحفزهم ليهبوا قبل الداعي للزود عن الوطن.

Ara  Souvalian

arasouvalian@gmail.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.