نحن أمة النص.. هكذا قال لنا مشايخنا على مقاعد الدرس
ولا اجتهاد في مورد النص، وعلينا الاتباع، سمعنا وأطعنا
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله
أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم.
ومع أن (إذا) هنا احتمالية ظرفية شرطية لما يستقبل من الزمان، وهي فيما يفترض مسائل نادرة تختص بالزمان والمكان والجيل الذي نزلت فيه، ولكن مشايخنا اعتبروها كافية لافتراض نص ما في كل صغيرة وكبيرة، في حلال أو حرام، في كل زمان وكل مكان، بحيث لا يسكت الشرع عن شيء!
ومع أن الرسول الكريم شرح بصريح العبارة أن الله أمر بأشياء ونهى عن أشياء وسكت عن أشياء، ولكن مشايخنا استنطقوا النصوص السواكت بآلة القياس، ومنعوا عقولنا من التفكير والنظر، وأصبح من مزايا الشريعة أنها حسمت أمر كل شيء، وجاءت ببيان كل شيء، وأن نصوصها محجة بيضاء يجب اتباعها ولا يزيغ عنها إلا هالك.
ويباهى وعّاظنا بأن الإسلام حسم كل المسائل بظاهر النص أو بالقياس عليه، وفي هذا السياق وردت رواية الإمام مسلم عن سلمان. قال أنه قيل له “قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة قال فقال أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو بعظم”
واعتبر مشايخنا أن قيام النبي الكريم بتفصيل مثل هذه الأمور لأعرابي بوال على عقبيه يعيش في الصحراء الحارقة الجافة قبل ألف وأربعائة، عام هو أمر ملزم لكل العصور والأزمان، وأن الخروج على هذه النصوص يعتبر مناكفة لله ورسوله، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
ما زلنا نستنطق النصوص حتى لم يعد الشرع يسكت عن شيء، وتحول سلوكنا الفقهي إلى منطق بني إسرائيل الذين كانوا إذا أرادوا ذبح بقرة، يحتاجون نبياً يسألونه ما لونها وما طولها وما عرضها وما هي؟ ولم تعد هناك حاجة لاستعمال العقل لأن النصوص جاهزة للإجابة على كل سؤال، والسعيد من اتبع والشقي من ابتدع، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ولما كانت النصوص متناهية كما يعرف كل العقلاء، فقد اختار مشايحنا قياس الفروع على الأصل للعلة الجامعة بينهما، وأصبح للنص وكيل قانوني في كل زمان ومكان اسمه القياس، يعيد إنتاج الأحكام بناء على النص الأول.
وهكذا أصبح الكتاب والسنة والقياس منظومة تشريعية متكاملة تنتج الأحكام لكل عصر ومصر، وعبر القياس أصبح النص جاهزاً للفتيا في كل شيء، وزادت غربة العقل وتحول الاجتهاد المحمود إلى ابتداع مذموم، وتم قطع دور العقل عن الاستبصار وأعيد إنتاج دلالات النص في كل مسألة حتى لم يعد في الفقه باب مسكوت عنه.
واشتد سلطان النص والقياس عليه حتى شاعت عبارات كثيرة تلبس ثوب الاتفاق التام: لا اجتهاد في مورد النص، من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد، كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، من قال في القرآن برأيه وإن أصاب فقد أخطأ، أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار…. وفي السياق إياه كان العقل هو الخاسر الأكبر، حيث تمت تنحيته عن الإبداع والنظر واقتصر دوره على التفسير والإشادة بالنص، ثم اختراع العجائب والإعجاز والمخاريق!!…
فهل كان هذا بالفعل هو واقع الرسول والخلفاء الراشدين من بعده؟؟….
قناعتي أننا أمة العقل، أو يجب أن نكون أمة العقل، وبتعبير آخر إن الحضارة الإسلامية في العصر الذهبي تصرفت كأمة عقل وليس أمة نص، وتمكنت من منح النص مكانه في القداسة والطهر والترتيل نوراً يرشد وليس قيداً يأسر.
فهل نحن أمة النص؟
وهل كانت الأمة بالفعل في العصر الذهبي للاسلام تمتنع عن الاجتهاد وتذعن لرهبة النص حضوراً أو قياساً؟
الواقع يقول غير ذلك، ولدي سبعمائة مثال أن السلف الصالح من رسول وخلفاء راشدين تركوا حكم النص والتفتوا إلى حكم العقل، واعتبروا ذلك طاعة لله واتباعاً لرسوله.
– حين طلب عمر بن الخطاب من أبي بكر أن يقوم بجمع القرآن رفض ابو بكر مستدلاً بعدد من النصوص التي تنهى عن جمع القرآن، وكان اعتراضه الأشد: كيف أفعل شيئاً لم يأمر به رسول الله، ولو كان فيه خير لأرشدنا إليه، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار….
ولكن الحوار توجه إلى الواقع الذي يفرض تدوين تراث الأمة مهما كانت النصوص تقول خلاف ذلك، وانتهى الحوار في النهاية إلى تأييد رأي عمر على الرغم من أن النصوص كانت كلها بخلاف ذلك: لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه، إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون، ذروني ما تركتكم عليه، تركتكم على المحجة البيضاء….
– وفي مثال آخر فقد ازدادت ظاهرة التمتّع في عهد عمر، وأصبح الحج ميعاداً لمن يرغب بمتعة النساء، حيث تعقد العقود المؤقتة للنكاح خلال أشهر الحج، حيث الحاج في راحة من رقابة زوجته الأولى الغافلة في وطنه، وهو في إجازة نسك وعبادة، وانتشر الأمر انتشاراً كبيراً حتى وصف جابر بن عبد الله المشهد بعبارة فاحشة مضمونها أنهم كانوا يستمرون في ممارسة المتعة بالنساء إلى يوم عرفة، ورأى عمر بن الخطاب أن هذا السلوك مسيء بالضرورة لنسك الحج الذي يفترض فيه الصفاء والطهر والتفرغ للعبادة وليس التفرغ للنساء.
قرر عمر تحريم المتعة، وعلى الفور تصدى له صحابة كثير، وتمت مواجهته بنصوص صريحة قاطعة لا شك فيها عن جواز المتعتين؛ متعة الحج ومتعة النساء، ولم يكن الذين واجهوه بالنصوص جاهلين أو مكابرين، أو أنهم ليسواً أصحاب اختصاص… لقد كانوا صحابة كباراً، وفيهم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وآخرون، ولكنه رفض حججهم ومعاذيرهم، وحين طال الجدل صعد المنبر وقال لهم بشجاعة نادرة: (أقتبس من آخر سطرين) “متعتان كانتا على عهد رسول الله حلالاً أنا أحرمهما وأعاقب عليهما”… وأعلن على منبر الرسول أن ما كان على عصر الرسول لا يقاس عليه.
– وفي موقف آخر حقق الفاتحون في العراق بوجه خاص مغانم أسطورية، وراح القادة الميدانيون يقسمون الغنائم على الفاتحين بواقع أربعة أخماس للمحاربين وخمس للدولة، وفق الآية: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول)
رأى عمر بن الخطاب هذا السلوك منافياً لمقاصد الإسلام في العدالة، وأمر على الفور بوقف هذا التصرف ومنع المحاربين من امتلاك الأرض والغنائم…
أغضب هذا الموقف كبار الصحابة الذين رأوا فيه منعاً لحقهم في الغنيمة، وتمت مواجهة عمر بن الخطاب بالنصوص الصريحة في وجوب قسمة الغنائم على الفاتحين المحاربين، ولكن عمر لم يلفت إلى ذلك كله، وظل يبحث عن مصلحة الأمة الحاضرة، ولا شك أن الكتاب والسنة والقياس كان إلى جانب الصحابة الكبار الذين طلبوا قسمة الغنائم على الفاتحين بواقع ثمانين بالمائة ورد عشرين بالمائة فقط لبيت المال، ولكن عمر رأى في دلالة النص الظاهرة تكريساً لتجار الحرب وتحول الجهاد إلى ارتزاق بالسيف، وهو عكس مقاصد الجهاد في حماية الأوطان وكرامة الإنسان.
وبعد اجتماع عاصف مع كبار الصحابة ومعهم الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة والقياس أعلن عمر موقفاً لا لبس فيه: وأيم الله ليصلن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء، ولا يقسم في الفاتحين شيء بل تبقى الأرض لأهلها، إنها أرضهم عاشوا عليها في الجاهلية وقاتلوا عليها في الإسلام.
– أما علي بن أبي طالب فقد حسم الأمر من البداية حين سأل الرسول الكريم سؤالا صريحاً:
“يا رسول الله: أحدنا ترسله في أمر أيكون كالسكة المحماة أم أن الشاعد يرى ما لا يراه الغائب؟ قال: بل الشاهد يرى ما لا يراه الغائب… أنتم أعلم بأمور دنياكم”
لقد ابتكر الفقهاء الكبار لمواجهة القياس منهجين أساسيين وهما:
1- الاستحسان وهو اختيار أبي حنيفة
2- الاستصلاح وهو اختيار الامام مالك.
حتى الإمام الشافعي الذي ابتكر مصطلح القياس ودافع عنه أشد دفاع، تطور فقهه في النهاية عبر مصدر الاستصحاب الذي صار في النهاية بقوة التاريخ وبرهانه موقفاً متمرداً على القياس، ومؤسساً لحكم العقل بمنطق البراءة الأصلية أو الإباحة الأصلية، وهو يعزز مبدأ المسكوت عنه الذي ناقشناه في هذه الحوارات.
متى نملك الجرأة للقول بأن العقل وليس النص هو ما ينبغي أن يقود الحياة، وأن النص نور يرشد وليس قيداً يأسر، وأن نصوص القرآن والسنة المقدسة محكومة بالزمان والمكان، وهي أداة إلهام وليست نصوص إلزام، وأنها في النهاية نصوص محكومة بظروفها، وليست بالضرورة نصوصاً سرمدية تغيب رسالة العقل وتلغي الإنسان، وأن الكلمة المفتاحية الذهبية لبناء الحياة هي تلك التي قالها رسول الله: أنتم أعلم بأمور دنياكم.