جنوب مدينة القدس تتربع
وفي أكنافها تقع، وإليها تنتمي
ومنها تلتمس البركة التي اختصها الله سبحانه وتعالى بها
وتفضل بها على من حولها من مدنٍ وقرى، وعلى جبلها وقف الفاروق عمر بن الخطاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مكبراً مهللاً شاكراً لله سبحانه وتعالى أن أنعم عليه وعلى المسلمين بفتح بيت المقدس، وكان ذلك في السنة الخامسة عشر للهجرة، عندما جاء ليستلم مفاتيح القدس من بطريركها صفرنيوس، فسُمِّيَ الجبل الذي وقف عليه مكبراً باسم جبل المكبر، وبه عرفت البلدة واشتهرت، وحملت هذا الاسم منذ خمسة عشر قرناً من الزمان وما زالت.
كان لسكانها قديماً دورٌ كبيرٌ في تحرير مدينة القدس من الصليبيين، وعلى أرضها اصطفت الجيوش واستعد الجند، وخاضوا انطلاقاً من أرضها أشد المعارك، وبقيت على مدى الزمن تحفظ تاريخها، وترصع مع الأيام جبينها، وتضيف إلى سجلها الذهبي صفحاتٍ مضيئة من المجد والعزة، إذ منها يتحدر الكثير من الشهداء والقادة، ولا تخلو السجون والمعتقلات من أبنائها، الذين يتصدرون صفوف المقاومة، ويسعرون الانتفاضة، ويتسابقون إلى الرباط وجبهات المواجهة، لذلك حرمت البلدة وغيرها من بلدات القدس من الخدمات المدينة، وقاست من السياسات البلدية الإسرائيلية، التي هدمت بيوتها، وصادرت أرضها، ومنعت أهلها من البناء والتعمير، وعمدت إلى طرد وتهجير سكانها، وسحبت هوياتهم وجردتهم من أرضهم وممتلكاتهم.
ما هي إلا دقائق معدودة تلت الإعلان عن منفذ عملية القدس فادي قنبر، حتى تَنزَلَ على البلدة الغضب وحل بها السخط، وانقلب عاليها سافلها، وعادت بها الأيام إلى حرب الأيام الستة، كيوم سقوط مدينة القدس، إذ أصبحت بلدة جبل المكبر ثكنةً عسكريةً كبيرة، اندفع إليها مئات الجنود الإسرائيليين، وأحاط بها من كل مكانٍ أضعافهم، وأغلقت بواباتها، ووضعت الحواجز والكتل الإسمنتية الخرسانية ونقاط التفتيش على كل مداخلها، تمنع الخروج منها أو الدخول إليها، وتدقق في هويات وبطاقات كل من يقترب منها، وتتحكم في مختلف وسائل الإعلام التي هبت لتغطية العملية، وتصوير بيت منفذها والأماكن التي عاش فيها واعتاد عليها، ولكن الغضب الإسرائيلي كان كبيراً جداً هذه المرة، لنوعية العملية ونتائجها المادية وآثارها النفسية، وتداعياتها على المجتمع الإسرائيلي، وإمكانية تقليد الفلسطينيين لها والقيام بمثلها، إذ أنها رغم خطورتها لا يتطلب التحضير لها وتنفيذها لأكثر من شخصٍ أو شخصين، يملكان أو يستأجران سيارة، ويقرر أحدهما تنفيذ عملية دهسٍ مشابهة.
أما حي القنبر في البلدة فقد أصبح عنوان كل هجوم، ومركز كل غارة، حيث يتواجد فيه جنود الاحتلال على مدى الساعة، يضيقون على سكانه، ويتفششون بأهله، ويصبون جام غضبهم عليهم، ورغم ذلك فقد تجمهر سكان البلدة فرحين بالعملية، وسعداء بنتائجها، وغير مبالين بما ينتظرهم وما سيحل عليهم، وقد رأوا ذلك في عيون جنود العدو، وقرأوه في تصريحات قادته ومسؤوليه، إلا أنهم خرجوا في مسيراتٍ تَكْبُرُ مع كل خطوةٍ، يجوبون بلدتهم، ويزفون إلى كل زواياها وأنحائها أخبار البطل الذي انتقم لشعبهم وأهلهم، وثار لقدسهم ومقدساتهم.
اجتاح جنود العدو البلدة من داخلها، وحاصروها من خارجها، وقاموا بإطلاق قنابل الغاز المسيلة للدموع بكمياتٍ كبيرة، لتفريق المتظاهرين، ومنع الاعتصام والمسيرات، وإغلاق سرادقات العزاء وحلقات الفرح، ومنعوا أهلها من التجمهر والاحتفال، إلا أن سكان بلدة جبل المكبر الفرحين بالعملية والسعداء بنتائجها، والمزهوين فخراً بابنهم، لم يهربوا من جنود جيش الاحتلال، ولم يخافوا من كثرته وجاهزية سلاحه، بل واجهوه بحجارتهم، وأوجعوه بشعاراتهم، وزلزلوا الأرض تحت أقدامه بأصوات تكبيرهم، وهم قد خرجوا في مسيراتٍ صاخبة تشيد بالشهيد وتهتف باسمه، وتتوعد العدو بمثله.
قررت سلطات الاحتلال الإسرائيلي الانتقام من سكان بلدة جبل المكبر وتكدير حياتهم، والتنغيص عليهم، لوقف فرحهم، ومنع احتفالاتهم، وإغلاق سرادقاتهم، ودفعهم إلى إعلان البراءة والندم، فوزعت إخطارات لعدد من جيران الشهيد فادي قنبر، تمهيداً لهدم بيوتهم بحجة مخالفتها للقوانين، وتشييدها دون تراخيص رسمية، في خطوةٍ بدت بوضوح أنها انتقامية وثأرية من جيران الشهيد وسكان بلدته، فيما يوصف بأنه عقابٌ جماعي يهدف إلى التأثير على الرأي الشعبي العام الفلسطيني لينفضوا عن المقاومة ويتوقفوا عن دعمها، ويتخلوا عن تأييد أبطالها.
لم تقتصر الإجراءات التعسفية الإسرائيلية ضد أسرة فادي قنبر فحسب، بل امتدت لتطال العائلة بأسرها، وشملت الأقرباء والأصهار والجيران والمعارف، واتسعت الإجراءات العدوانية ضد سكان البلدة جميعاً، فقامت الشرطة بتوزيع بلاغاتٍ على العديد من أفراد العائلة، وعلى آخرين من سكان البلدة للحضور إلى وزارة الداخلية والمثول أمام ضباط التحقيق المختصين، كما قامت الهيئات المختصة بإجراءات جمع الشمل بإلغاء جميع طلبات لم الشمل، وإنهاء تصاريح إقامة الضيوف والزوار، ومنع دخول زوار جدد آخرين إلى البلدة.
وقامت سلطات الاحتلال بعد مداهمتها بيت الشهيد فادي عدة مراتٍ، بسحب بطاقات الهوية من والدة الشهيد، ومن أكثر من عشرة آخرين من أفراد أسرته، فيما يبدو أنها تنوي تجريدهم من الهوية المقدسية، أو إجبارهم على ترك المدينة والانتقال إلى مدن الضفة الغربية، وهو ما تهدد به المواطنين المقدسيين دائماً، وما قد قامت بتنفيذه فعلاً ضد بعضهم، ومنهم أعضاء في المجلس التشريعي الفلسطيني، وفي الوقت نفسه منعت الأفراد الذين سحبت هوياتهم من التقدم بأنفسهم بالتماس إلى المحكمة العليا الإسرائيلية، ولا بأي طريقةٍ أخرى لإلغاء القرارات العسكرية الصادرة بحقهم.
سيبقى جبل المكبر عالياً شامخاً بأهله، مزهواً بسكانه، مباركاً بقدسه، عزيزاً بمقاومته، فخوراً بتضحياته، ولن يوهن العدو من عزيمته، ولن ينال من كرامته، ولن تحط إجراءاته الغاشمة من قدره، ولن ينفض أهله عن رجالهم، ولن يتخلوا عن أبنائهم، وسيبقون دوماً يذكرون جبل الإسلام الشامخ، عمر بن الخطاب الفاتح، الذي دخل بلدتهم فخلد بتكبيره اسمهم، ورفع بمروره فيها ذكرهم، وأرسى بصلحه على أرضها قواعد إسلامهم.
بيروت في 12/1/2017
**********
فرح العدو الإسرائيلي إذ انقضت احتفالات رأس السنة الميلادية بخيرٍ وسلامٍ، وأمنٍ واطمئنان، ولم يعكر صفو احتفالاتهم أحد، ولم ينغص عليهم فرحهم آخر، فأحيوا ليلة رأس الميلاد بصخبٍ ومجونٍ، وفرح وفنونٍ، وواصلوا السهر بعدها في الملاهي والكازينوهات، وقد اطمئنوا إلى يقظة أمنهم، وجاهزية جيشهم، وحسن تقدير أجهزتهم، وحكمة قادتهم وقدرتهم على ضبط الأمن وسلامة المواطنين، وكانوا قد تباهوا أمام دول العالم بأمن كيانهم، وسلامة مرافقهم، ومتعة احتفالاتهم، وأعلنوا جاهزية فنادقهم لاستقبال السياح، واستعداد ملاهيهم ودور السهر الكبيرة لإحياء أجمل الحفلات ودعوة أشهر المطربين والمطربات، وأجمل الراقصات والاستعراضيات، في الوقت الذي طغى الخوف والقلق على كبريات العواصم الدولية.
فجاءهم فادي قنبر من مكانٍ آخر، ومن زاويةٍ مختلفة، ظنوا أنها الأكثر أماناً والأشد تحصيناً، والأبعد عن المخاطر، فاجتمعوا فيها، وتحلقوا حولها، ولكنه كان يتربص بهم وينتظر، ويخطط لهم ويدبر لمهاجمتهم، وهو الفلسطيني المقدسي المسكون بالثورة، والحالم بالحرية، الموجوع المتألم، الحزين الباكي على ما أصاب مدينته، وما حل بأهله وشعبه، وما يدبر لمسجده ويخطط لأقصاه، فقرر أن يهاجم رمز القوة، وعنوان الصلف والكبرياء، فاقتحم الجنود ببزاتهم، وعلى أكتافهم بنادقهم ورتبهم، وعلى صدورهم نياشينهم، وأراد أن يصيب بعمليته قلب جيشهم، ومحط اعتزازهم، ليمزق الصورة التي بها يخيفون الآخرين، وليطفئ الهالة التي بها يعتقدون أنهم الأقوى والأكثر تفوقاً، فحصد بشاحنته الكثير، وداست عجلاته الآخرين، وما زال غبارها الذي بلم ينقشع يحبس أنفاسهم، ويحشرج أرواحهم ويرجف قلوبهم خوفاً وفزعاً.
لم يكتفِ فادي بأن يدهمهم مرةً واحدة، وأن يدهسهم بمقدمة شاحنته، بل ارتد عليهم راجعاً، وكر عليهم ثانيةً لينال منهم أكثر، وليصيب بشاحنته التي باتت شاحنة الانتفاضة من ظن منهم أنه فرَّ ونجا، أو أنه سلم وعاش، وقد كان يعلم أنه غير ناجٍ من سلاحهم، وأن آخرين من بعيد سيمطرونه بطلقاتهم، وسيعدمونه رمياً برصاصهم، حاله كحال كل الشهداء السابقين، ولكنه ما كان يخشى هذا المصير، ولم يتجنب وقوعه، بل كرَّ عليهم من جديدٍ بعزمٍ وقوةٍ واندفاعٍ قبل أن ينالوا منه، وتصيبه رصاصاتهم القاتلة، ولو قُدِّر له أن يكر عليهم الثالثة فما كان ليتردد، ولكن الشهادة كانت بانتظاره، وأهازيج الفرح كانت تطرب آذانه وتفرح قلبه.
هم ينكرون علينا أننا نقاومهم ونقاتلهم، وأننا نفكر في كل السبل للنيل منهم، بينما هم لا ينكرون على أنفسهم جرائمهم ضدنا، ولا اعتداءاتهم علينا، إذ قبل عملية شاحنة القدس بأيام، برأت محاكمهم العسكرية قاتل الشهيد عبد الفتاح الشريف، ولم توجه له تهمة القتل العمد، وإن كانت قد دانت استخدامه للقوة المفرطة، بينما شهد العالم كله على الجريمة التي اقترفها هذا الجندي، الذي أطلق النار على الشريف بينما كان على الأرض ملقىً، لا يشكل خطراً على أحد، ولا يحمل بين يديه سكيناً أو سلاحاً يهدد به حياتهم، ولكن هذا الجندي الذي قرأ الموافقة في عيني الضابط الذي يقف إلى جواره، أطلق عليه النار وقتله، ثم جاءت المحكمة العسكرية فبرأته، وانبرى رفاقه في الجيش للدفاع عنه والوقوف إلى جانبه وتأييده في جريمته.
ماذا أبقى لنا العدو حتى لا نقاومه، وما الذي لم يستهدفه فينا حتى لا نقاتله، وعلام نسالمه ونؤَمِّنه، ونخدمه ونساعده، أم أنه يظن أن هذا الشعب قد استخذى وألقى سلاحه، وأنه قد استنوق في مواجهته، وأصبح كالحمل في مقارعته، فما ارتكبه بحقنا، وما سلبه من أرضنا، وما اقترفه من جرائم في حق أبنائنا ومقدساتنا، كافي لأن نقاتله بأيدينا، وأن نمزقه بأظافرنا، وأن نركله بأقدامنا، وأن نستخدم ضده كل سلاحٍ ممكن، وأن نلجأ إلى كل وسيلةٍ ناجعة لقتاله ومقاومته، ولعل ما نقوم به اليوم هو فعل الشرفاء، وسبيل الكرماء، وطريق الأعزاء، ومنهج الأحرار، وعليه تحترمنا الأمم وتؤيدنا الشعوب، وتتأسى بنا الثورات، إذ ما عرفت البشرية شعوباً احتلت أرضها وتخاذلت، وأهينت شعوبها وفرطت، ونهبت خيراتها وسكتت، وديست كرامتها ولوثت مقدساتها وقبلت.
ظنوا أن الشعب الفلسطيني قد استمرأ الذل، ورضي بالهوان، وقَبِلَ بالاحتلال، وعض على الجرح واستكان على الحال، عجزاً وضعفاً، وخوراً وقلة حيلة، وخضع للأمر الواقع واستسلم لقوة الاحتلال، وأقر بتفوقه وجبروته، وحصانته ومنعته، وصعوبة اختراق أمنه أو تجاوز تحصيناته والنيل منه، ولم يعد يتطلع إلى التغيير، ولا ترنو عيونه إلى الحرية، وأنه تعب ومل، ويأس وقنط، وجزع وخاف، وقلق واضطرب، ولم يعد يسعى للقتال ولا يستعد للمقاومة، وبات ينأى بنفسه عن المقاومين ويتخلى عنهم، بعد أن أوجعه العدو قتلاً واعتقالاً، وتدميراً وحصاراً، ومصادرةً وعقاباً، وبعد أن ضيق عليه الخناق بالمعابر والحواجز، وبالجدر والبوابات، وبالإجراءات الأمنية والحملات العسكرية، وبالتنسيق والاختراق.
اطمأنَ بال سلطات الاحتلال إلى سلامة إجراءاتهم، ودقة تحليلاتهم، وصوابية استنتاجاتهم، بأن الشعب الفلسطيني قد عقر حصانه، وثلم سيفه، وساخت في الأرض أقدامه فلن ينهض لمقاومتهم ولن يثور، ولن يغضب ولن ينتفض، ولن يطلق النار ولن يفجر العبوات، ولن يقنص ولن يقذف بالحجارة، ولن يطعن ولن يدهس، ولن يقاوم ولن يعاند، فقد بات وحيداً ضعيفاً، يفتقر إلى النصير ويشكو من الجار والقريب.
اليوم يبكى رجالهم، وتنتحب نساؤهم، ويدخل الحزن إلى بيوتهم، ويسكن الأسى قلوبهم، ويلون السواد ثيابهم ويطغى عليهم في حياتهم، ويذوقون من كأس المر قليلاً، ويتجرعون من الهوان شيئاً، وإن كان ما أصابهم لا يرضي الفلسطينيين ولا يشفي غليلهم، ولا يعوضهم عن فواجع مصائبهم، وعظيم من فقدوا، وكثير ما خسروا، ولكن حسبهم أنهم يقاومون بثبات، ويواجهون بصمود، ويتحدون بأمل، ويقاتلون لهدف، ويسعون لغايةٍ عظيمةٍ، يجعلهم لا يتوقفون عند حد، ولا يقفون أمام سدٍ، حتى يصلوا إلى غايتهم، وينقذوا قضيتهم، ويحرروا من العدو وطنهم، ويعودوا بعزةٍ وكرامةٍ إلى ديارهم.
بيروت في 10/1/2017