في علم ( السّلوك )!!
أصل القصّة:
( والله أعلم )
قبل ستين عاماً وما يزيد كان أبي – رحمه الله –
يحكي لي عن جدّي عن جدّ جدّي ..
كما كان الناس يحكون لأولادهم– والعهدة على الحكواتيّة –
قصصا يتوسّلون بها لتربيتهم على الفضائل السائدة، كان منها الصادق، ومنها ما دون ذلك- حتى الصادق منها لا بد أن يرشّ عليها بعض البهارات والعصفـر و الريحان!!
ومن الحكايات – رعاكم الله، لا تنسَوا العبرة والاعتبار في أثناء ما تسمعون من أحداث–أنّ أمّاً مات عنها زوجها، وتركها في هذه الدنيا الفانية، و قالوا– ليزيدوا في التشويق-: إنّها مقطوعة من شجـرة، فلا أُمّ و لا أبَ و لا أخ شقيقاً أو غيرَ شقيق! إلا طفلاً رضيعاً ما زال ملتصقاً بأُمّه، يستعين بها على غذاء بطنه وحبور قلبه– أبعدوا عنكم وساوس شيطان فرويد -.
و كان الوفاء – القيمة التي تسجّل بماء الذهب للنساء دون الرجال– فأزمعت أن تقعد عن الرجال، وتعيش عيش الراهبات، و تخدم وليدها حتى يأخذ صاحب الأمانة أمانته!!
كان الوليد يكبر حبّةً بعد حبّة، والحبور يملأ قلبَ الأمّ ركناً بعد ركن، حتّى بلغ مبلغ الرجال – حسب مقاييس الرجولة عند الأجداد – و تخرّج في (الكتّاب ) مدرسة أيّام زمان، وحفظ القرآن الكريم و أتقنه، و أحسن الخطّ وجوّده، فصار جديراً بالعلم الحقيق في الأزهر الشريف، قبلة الظامئين إلى العلم، حين كان الشباب يتباهَوْن على الشباب بما حُشيَت عقولهم من علم، لا بما حشَوْا بطونهم من مآكل ماكدولانـد و هات ضرّاب السخن _ اعذروني فأنا خلف الركب، و قد بلغ بي العمر عتيّاً، ( فانبعجـت ) ذاكرتي ، و ما عادت تحافظ على المعلومات بالضبّة والمفتاح -.
بلا طول سيرة، تخرّج إمامنا في الأزهر الشريف، و أزمع على السفر عائداً إلى بلده الذي كان يُسمّى (شام شريف) مركز الولاية التي قسّمها على نحو بديع –أصحاب البرانيط – إلى سورية ولبنان والأردنّ وفلسطين، ونخشى أن يبدعوا لنا هذه الأيّام- أسماء أكثر و أكثر-.
لم يمرّ على مكتب طيران يطلب تذكرة تصل به إلى بلده، و إنّما فعل كما يفعل الناس في ذلك الزمان ركب دابّته – أكان معه رفيق أم لا،فقد نسيت أذكر لي والدي هذا أم لا، فاعذروا ذاكرتي – و مرّ على غزّة و عكّا وحيفا و يافا… حتى لحق بالشام.
اعذروني فقد أنساني الشيطان ذكر الحدث الذي هو صلب الموضوع:في الطريق مرّ إمامنا بقرية – وممّا يضفي على الرواية صدقاً على صدق أنّ اليوم كان جمعة، فحضر الصلاة – ولو كانت غير واجبة على المسافر-، ولحسن طالعه أو لسوئه، لست أدري، كان الخطيب أمّيّاً- أو شبيهاً بالأمّيّ- فقلب الحقائق – بل أقول:حلّل الحرام، وحرّم الحلال كي يرضى المشائخ عنّي- فاندفع اندفاع الغيور على دينه، يعيد الأمور إلى القسطاس المستقيم. فكان جزاؤه جزاء سنمّار، نتفوا له ذقنه، فليس لأحد أن يتجرّأ على حكيم القرية!! و ألقَوْه خارج القرية بين الموت والحياة – حسبما تُبَهّر الحكايات -، ولكن مازال في العمر بقيّة، و ساق له الله أولاد الحلال، فحملوه إلى أمّه.
هنا– في حضن أمّه– عادت إليه طفولته، فشكا إليها ألمه، و ما لاقاه من متدينين مدّعين جهلة.
كانت الأمّ لخبرتها في الحياة أعلم من ولدها خرّيج الأزهر بعلاج مثل هذه الأمــــــــــــــور، و نصحت له أن يعود إلى أساتذته، و يطلب منهم أن يعلّموه علم ( السّلوك )!!
الولد مطيع، ينفّذ ما تطلب منه أمّه و لو لم يفهم.
دخل إمامنا على أستاذه الإمام الأكبر- طبعاً أكبر منه!!-، فاستأذنه بالكلام،وبعد أن أذن له نقل إليه رسالة أمّه الشفويّة(بالحرف )،وطلب منه أن يعلّمه علم ( السّلوك )!!ففهمها الأستاذ.
فسأل الإمام التلميذ: وأين ستكون الدروس، و متى مواعيدها؟
فأجابه أستاذه الإمام الأكبر: لا تتعجّل رزقك يا بنيّ، انتظرني غداً بعد صلاة العصر في المسجـد، و ستلقى جواب سؤالك- بإذن واحد أحد.
وكان اللقاء، ثمّ كانت قاعـــات الدروس في الأسواق و القهوات و الديوانيّات(المضافات )، وعند أصحاب الجاه و التجار والحرفيين و الفقراء، ومواعيدها خارج أوقات (الدوام الرسميّ ) و دامت مصاحبة الأستاذ الإمام الأكبر عاماً بطوله، وتخرّج بعدها يحمل شهادة تُسمّى بلغة أهل هذا الزمان ( الدبلوم ).
ثمّ توجّه إلى الشام بلد الأحباب، عابراً ما حول بيت المقدس، وساقه القدر إلى القرية نفسها في يوم الجمعة – كما تروي الحكاية، و لا مانع أن يكون تعمّده الأمرَ جزءاً من القدر-، وحضر الصلاة، وأبدى إعجابه الشديد بهذا الإمام فريد العصر و الأوان، و قال لهم: عليكم التبرّك بعلمه و بجسده، فإنّ شعرة واحدة من لحيته تغنيكم إلى ولد ولدكم!!
فتسابق الناس إلى البركة يتذوّقونها ويقتبسون منها. و أنتم، هل تصدّقون الحكاية، أم تقولون: إنّها من تخاريف الكبار – رحمهم الله -؟!
غير أنّ الأمّ قالت- بعد أن روى لها الولد حكايته:
الآن صرت يا بنيّ من العلماء!!