www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

عقيــدة (الهيكل) أو المعبد بعد داود وسليمان (الحلقة الخامسة)/مصطفى إنشاصي

0
عقيــدة (الهيكل) أو المعبد بعد داود وسليمان (الحلقة الخامسة)
بعد وفاة سليمان u اختلف بنو إسرائيل فيما بينهم ولم يتفقوا على خليفة له،
فانقسمت دولته إلى قسمين: مملكة إسرائيل في الشمال وعاصمتها السامرة
قرب نابلس وقد اختارت يربعام ملكاً عليها، ومملكة يهوذا في الجنوب والوسط وعاصمتها القدس وقد اختارت رحبعام ملكاً عليها. كما تحدثنا التوراة أنه بعد سليمان أصبح هناك أكثر من هيكل وبيت مقدس للرب عند اليهود، فإلى جانب هيكل سليمان المزعوم في القدس، قام يربعام ببناء هيكل لسكان مملكة إسرائيل على جبل جزريم في نابلس، مدعياً أنه هو الجبل الذي أمر الرب أن يقيم له موسى عليه معبداً: “4حِينَ تَعْبُرُونَ الأُرْدُنَّ، تُقِيمُونَ هذِهِ الْحِجَارَةَ الَّتِي أَنَا أُوصِيكُمْ بِهَا الْيَوْمَ فِي جَبَلِ عِيبَالَ، وَتُكَلِّسُهَا بِالْكِلْسِ” (سِفر التثنية:27/4). {مبدلاً النص عند السامريين إلى: “فانصبوا الحجارة التي أنا أوصيكم في جبل جرزيم”*. فاختلفت التوراة في تحديد المكان الذي أمر الله موسى ببناء الهيكل عليه، وقد يكون وقع تحريف في إحدى النسختين أو كلاهما “لأن الأمر يحتمل أن الله لم يأمر بهذا أبداً ـ وإلا لما جرأت إحداهما على القول بتحريف الأخرى ـ أو أنه أمر ببناء الهيكل ولكن ليس على هذا الجبل أو ذاك الجبل، فمن يؤكد صحة هذا القول إذا كان كل واحد منهما يبطل نص الآخر؟ وما دليل العصمة عن الخطأ في هذه التوراة أو تلك}؟”[1].
كما أن هناك من يرى أن قبلة داود u لم تكن على جهة الإلزام “لأن شريعة موسى أمرت اليهود أن لا يسمحوا لنبي منهم أن يُشرع لهم بشيء زائد عما في كتاب موسى، وقد جاء في (سِفر التثنية 34/10): (10وَلَمْ يَقُمْ بَعْدُ نَبِيٌّ فِي إِسْرَائِيلَ مِثْلُ مُوسَى الَّذِي عَرَفَهُ الرَّبُّ وَجْهًا لِوَجْهٍ). وهذا هو الدليل الذي يتذرع به يهود السامرة في رفض معبد داود. والحق معهم لأن داود متبع التوراة وليس مشرعاً. وهذا هو نفسه الدليل الذي يلتزم به السامريون في البعد عن تقديس هيكل جزريم لأن موسى لم يُقدس أي مكان”[2]. كما أن سِفر إشعيا قد بشر بأنه سيُبنى هيكلاً رابعاً في مدينة هيليوبولس بمصر! تُرى أي الجبال التي أمر الله موسى u أن يبني له عليه بيتاً، وأي الهياكل التي أمر الرب ببنائها، له حق القداسة؟!. كما أننا لا نجد في التوراة أن أحد أنبياء مملكتي اليهود أنكر على مَلِكه الصلاة والتوجه إلى الجبل الذي يُقام عليه معبد الرب الذي يدعي أنه هو الجبل الذي أمر الرب موسى أن يبني عليه بيته، فلو كان هيكل سليمان المزعوم هو المكان المقدس الوحيد من الرب؛ ما قبل أولئك الأنبياء المزعومين أيضاً بتقديس أي جبل أو معبد يُقام في مكان آخر.
تدمير (الهيكل) والسبي البابلي
أضف إلى ذلك أن اليهود استمروا في عبادة الأوثان وتقديس آلهة الأقوام الأخرى التي كانت تسكن معهم في فلسطين، في معابد “يهوه” وبيت الرب (الهيكل)، ولم تكن يوماً معابد للإله “يهوه” وحده. والتوراة مليئة بالقصص التي تتحدث عن ذلك. فأين هي القداسة التي يدعيها اليهود للقدس و(الهيكل المزعوم). ولكثرة ما ارتكبه اليهود من معاصي في بيت الرب؛ تنبأ أنبيائهم بدمار مملكة يهوذا وخراب (الهيكل المزعوم)، وسرعان ما تحققت تلك النبوءات وسُبي اليهود إلى بابل على يد الملك البابلي سرجون عام 598 ق. م. وقد سمي بالسبي البابلي الأول. ثم عاد من بقي من اليهود في القدس وعصوا وغضب عليهم الرب وأنزل بهم عقابه المدمر على يد ملك البابليين نبوخذ نصر الذي دمر مملكة يهوذا نهائياً، ودمر القدس و(الهيكل المزعوم)، وسُبى بقية أشراف اليهود وكهنتهم إلى بابل وذلك عام 586 ق. م. وقد سمي هذا بالسبي البابلي الثاني.
وقد عادوا من ذلك السبي أيام الحكم الفارسي لفلسطين، وقد اعتبر معظم علماء التوراة المحايدين أن عودة اليهود تلك إلى فلسطين تحقيقاً للنبوءة وإنجاز للوعد الإلهي “فالواقع التاريخي يؤكد أن النبوءات قد تحققت بفعل عودة اليهود من بابل … فلا يمكن لنبوءات العودة أن تتحقق مرة ثانية، علماً بأن نصوص العهد القديم لا تتضمن أبداً أية نبوءة بصدد عودة ثانية بعد العودة الأصلية من السبي البابلي”[3].
وفي عهد ملك الفرس (داريوس) طلبوا منه أن يسمح لهم بإعادة بناء (الهيكل المزعوم) في فلسطين، وأن يعيد لهم كل ما سلبه البابليون منه، وقد سمح لهم بذلك. وتؤكد التوراة هنا قداسة تلك الصخرة عند جميع القبائل العربية التي سكنت فلسطين وشرق الأردن، وأن تلك القبائل منعت اليهود العائدين من السبي البابلي من بناء (الهيكل) أكثر من مرة ما لم تشاركهم في بنائه، وقد تم بناء (الهيكل الثاني) ـ كما تدعي التوراة ـ بأمر من (روز بابل) على نفقة خزينة عبر الفرات التي كانت تتبع لها فلسطين إدارياً حلاً للإشكال: (1وَلَمَّا سَمِعَ أَعْدَاءُ يَهُوذَا وَبَنْيَامِينَ أَنَّ بَنِي السَّبْيِ يَبْنُونَ هَيْكَلاً لِلرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ، 2تَقَدَّمُوا إِلَى زَرُبَّابَلَ وَرُؤُوسِ الآبَاءِ وَقَالُوا لَهُمْ: «نَبْنِي مَعَكُمْ لأَنَّنَا نَظِيرَكُمْ نَطْلُبُ إِلهَكُمْ، وَلَهُ قَدْ ذَبَحْنَا مِنْ أَيَّامِ أَسَرْحَدُّونَ مَلِكِ أَشُّورَ الَّذِي أَصْعَدَنَا إِلَى هُنَا». 3فَقَالَ لَهُمْ زَرُبَّابِلُ وَيَشُوعُ وَبَقِيَّةُ رُؤُوسِ آبَاءِ إِسْرَائِيلَ: «لَيْسَ لَكُمْ وَلَنَا أَنْ نَبْنِيَ بَيْتًا لإِلهِنَا، وَلكِنَّنَا نَحْنُ وَحْدَنَا نَبْنِي لِلرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ كَمَا أَمَرَنَا الْمَلِكُ كُورَشُ مَلِكُ فَارِسَ». 4وَكَانَ شَعْبُ الأَرْضِ يُرْخُونَ أَيْدِيَ شَعْبِ يَهُوذَا وَيُذْعِرُونَهُمْ عَنِ الْبِنَاءِ) *.
والجدير ذكره هنا هو عدم قداسة الهيكل في عقيدة اليهود، وأنه ليس اختياراً إلهياً، حيث استنكر النبي إشعيا على اليهود العائدين من السبي البابلي باسم الرب إعادتهم بناء بيتاً له (الهيكل): “1هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «السَّمَاوَاتُ كُرْسِيِّي، وَالأَرْضُ مَوْطِئُ قَدَمَيَّ. أَيْنَ الْبَيْتُ الَّذِي تَبْنُونَ لِي؟ وَأَيْنَ مَكَانُ رَاحَتِي؟ 2وَكُلُّ هذِهِ صَنَعَتْهَا يَدِي، فَكَانَتْ كُلُّ هذِهِ،..” (إشعيا:66/1، 2). فلو كان (الهيكل) مقدساً إلهياً ما كان أنكر إشعيا باسم الرب على اليهود العائدين من السبي البابلي إعادتهم بناء (الهيكل).

بقية أنبياء الله يتنبئون بهدم (الهيكل)

وكعادة اليهود في معصية الله استمر (الهيكل) بعد إعادة بنائه بعد العودة من السبي البابلي مكاناً يمارس فيه كهنة ورؤساء اليهود كل ما يُغضب الرب، وتذكر توراتهم أن أنبيائهم المتأخرين قد حذروهم من عواقب تلك الأفعال التي جعلت (الهيكل) ليس مكان عبادة للرب، ولكنه مغارة لصوص، من زكريا إلى يحيى إلى عيسى عليهم جميعاً السلام. وقد تنبأ عيسىu بهدمه، وأخبر تلاميذه أنه لن يبقى منه حجراً على حجر: “2فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«أَمَا تَنْظُرُونَ جَمِيعَ هذِهِ؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يُتْرَكُ ههُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ!” (إنجيل متى:24/2).
وقد تحققت نبوءة عيسى u في عام 70 م، بعد أن قضى القائد الروماني (طيطس) على تمرد قام به اليهود في فلسطين وهدم وحرق (الهيكل) وأزاله من على وجه الأرض، وحرث مكانه وزرعه. أما القائد الروماني (أدريانوس) بعد أن قضى على تمرد اليهود الثاني عام 135م، وطرد اليهود من فلسطين ومنعهم من سكناها وخاصة مدينة بيت المقدس، فقد دمر المدينة ومسحها عن وجه الأرض وحرثها وسواها بالأرض، وأعاد بناء مدينة جديدة مكانها وأسماها “إيليا كابتولينا”.
بعد ما تقدم نتساءل مع من تساءلوا: بعد كل هذا الخراب والحرق والهدم لـ(لهيكل المزعوم)، وعدم معرفة مصير المقدس الإلهي الوحيد في عقيدة وتاريخ اليهود “تابوت العهد”؛ إن كان حُرق في خراب (الهيكل) على يد نبوخذ نصر أو طيطس أو غيرهما ممن خربوا (الهيكل). فما قيمة إعادة بناء (الهيكل) المزعوم وتابوت العهد لن يوضع فيه؟ ما يعني أن رب اليهود سيبقى مشرداً وهائماً على وجهه في السماء والأرض وفوق الغيوم ولن يعرف الراحة، لأن راحته لا تكون إلا بوضع تابوت العهد في (الهيكل). أم أن تابوت العهد تم استبداله بالعرش الذي سيقام في داخل (الهيكل) ويجلس عليه ملك من نسل داود ويحكم العالم؟! كما يحق لنا أن نسأل: كيف ومتى نشأت عقيدة (الهيكل المزعوم) في حياة وتاريخ اليهود؟

السبي البابلي وعلاقته بتقديس (الهيكل)

هناك شبه اتفاق عند معظم المهتمين بتاريخ اليهود بأن التحول الذي حدث في عقيدة اليهود نحو تقديس ما يزعمون أنه (هيكل) سليمان قد حدث في المنفى البابلي. لأن السبي البابلي كان هو الأول من نوعه في تاريخ اليهود، حيث تم فيه تدمير “مملكة يهوذا” التي هي مناط الوعد في التوراة، وتهديم (الهيكل المزعوم)، وتشريد اليهود خاصة زعمائهم الروحيين وسلالة الأنبياء والملوك، لذلك لم يكن هذا الحدث مجرد حدث عادي في تاريخ اليهود، بل أصبح هو محور تاريخهم السياسي. فهناك في السبي البابلي وجد اليهود المسبيين “أنفسهم مضطرين اضطراراً إلى إعمال الفكر في صلتهم بـ(يهوه) وفي العهد القديم القائم بينه وبين شعبه وفي أسباب محنتهم. ثم راحوا يتخيلون لأنفسهم سبيلاً إلى مستقبل أفضل ووسيلة للخلاص من مثل هذه الكوارث التي حلت بهم. واعتبروا أن المحن التي مرت بها إسرائيل كان سببها عدم الوفاء بالعهد وأن الطريق إلى إرضاء الإله هو: الخضوع في عبادته لحرفية النصوص والتمسك بالشعائر المطلوبة في غير ما لين أو تحرر. أي في الواقع إتباع شعائر غاية في الدقة والحرص تمنع تسرب أدنى نزعة إلى الوثنية. ويعود الفضل في تثبيت هذه الشعائر في تدعيم الاتجاه نحو مشروع محدد ـ قنن في صورة سايرت الرغبات الجديدة ـ إلى أنبياء المهجر”[4].
ولأنه كان أغلب الذين سباهم نبوخذ نصر إلى بابل من رجال الدين السياسة والدولة وغيرهم من السادة وكبار المرابين، والدين، ولأن أولئك أشد اليهود حرصاً على الكيان الصهيوني وأكثرهم تعلقاً به، فقد “بدأت تتشكل ملامح فكر ديني يهودي جديد، يجعل من القدس نقطة ارتكازه ومحوره، وتأخذ شكلاً صوفياً عند اليهود، وتحولت إلى رمز للوطن الضائع، كما تحرك فيه التعصب الطبقي لزعماء اليهود المنفيين إلى بابل الذي كان يشعرهم أنهم كانوا متميزون وحاكمون في فلسطين، لقد تحول هذا التعصب الطبقي إلى تعصب ديني وعنصري”[5]. من خلال وضع الكتبة القانون أو الشريعة ليقوم بدور الجدار أو السور الذي يحفظ اليهود من الذوبان في غيرهم من المجتمعات الأخرى، والذي أجبرهم على العيش في أحياء خاصة بهم “أحياء الجيتو” أينما ذهبوا، يمكننا القول: “إن التمسك بالقانون هو المميز الكبير بين ما قبل المنفى وما بعده في الدين اليهودي”[6].
كما شمل ذلك التحول أسس عقيدة اليهود وتصورها الميتافيزيقي عن نهاية العالم والأخرويات، بحيث أصبحت الآخرة ويوم القيامة في عقيدتهم تعني العودة إلى فلسطين، وإقامة “دولة اليهود”، وإعادة بناء (الهيكل المزعوم)، وإقامة كرسي العرش الذي سيجلس عليه ملك من نسل داود ويحكم العالم، وتحاسب (إسرائيل) كل أمم الأرض على ما اقترفته في حقهم من جرائم وتبذير لثرواتها.

* وبالعودة إلى التوراة السامرية طبعة دار الأنصار بالقاهرة، الطبعة الأولى عام 1978، وجدنا هذا النص في (سفر تثنية الاشتراع 27/4): “ويكون عند عبوركم الأردن تقيمون الحجارة هذه التي أنا موصيكم اليوم في جبل جريزيم وتشيدها بشيد”. (الباحث).
[1] محمد شلبي اشتيوي “دكتور”، مقارنة الأديان التوراة دراسة وتحليل، مكتبة الفلاح الكويتية، طبعة أولى، 1406هـ، 1986م، ص89.
[2] حسن الباش، مرجع سابق، ص67.
[3] القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني، وزارة الدفاع الوطني، الجيش اللبناني، الأركان العامة، الشعبة الخامسة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، الطبعة الأولى، 1973، ص169.
* يُراجع سفر عزرا (الإصحاح 4-5).
[4] شارل جينبير، المسيحية نشأتها وتطورها، ترجمة الإمام الأكبر الدكتور: عبد الحليم محمود، منشورات المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، (بلا رقم الطبعة)، (بلا تاريخ طبع)، ص32-33.
[5] رجاء جارودي: فلسطين أرض الرسالات الإلهية، ترجمة وتعليق وتقديم الدكتور عبد الصبور شاهين، مكتبة دار التراث، (بلا رقم الطبعة)، (بلا تاريخ طبع)، ص53.
[6] إسماعيل راجي الفاروقي “دكتور”، الملل المعاصرة في الدين اليهودي، مطبعة وهبة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1998م، ص12.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.