www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

هكذا ينظرون إلينا…. هكذا يُريدوننا/بقلم: فادي الحسيني

0

هكذا ينظرون إلينا…. هكذا يُريدوننا

عقب الثورة الفرنسية، ومع نهايات القرن السادس عشر،

كتب بطريرك اليونان (جريجوريوس) رسالة سرية إلى قيصر روسيا،

كان مفادها أن إنهاء الدولة العثمانية عسكرياً، يُعد أمراً مستحيلاً،

 

مقترحاً في ذات الوقت العمل على إنهائها من الداخل. اقترح (جريجوريوس) عدة خطوات تضمن العمل على شقيّن متوازيين: ثقافي واقتصادي؛ فدعى لتشـجيع دخول العادات والأفكار الغربيـة، المسـتوحاة من الثورة الفرنسـيـة، كالمسـاواة والحريـة وغيرها، حيث اعتبرها أسـاسـيـة من أجل كسـر روح الانضباط والانتماء والولاء لسـلطان المسـلمين. أما اقتصاديا، فاقترح (جريجوريوس) تقديم القروض والمنح للإمبراطوريـة العثمانيـة، حتى إن كان ذلك سـيُعطيهم قوة واسـتقراراً شـكلياً قصير الأجل، إلا أن الهدف من هذا هو تحطيم الإرادة والتحدي لدى الإمبراطوريـة العثمانيـة، وجعلها في تبعيـة اقتصاديـة يصعب الخروج منها!

تُعتبر هذه الرسالة مرجعاً مهماً، ليس فقط عند البحث في أسباب وعوامل سقوط الدولة العثمانية، وإنما في تفسـير السـياسـات الاسـتعماريـة والإمبرياليـة حيال المنطقـة العربيـة حتى يومنا هذا يبدو أن صانع القرار الغربي ذا العقليـة الاسـتعماريـة مازال ينظر في هذه الرسـالـة كدليل ناجح للتعامل مع العرب. وكيف لا، فلم يعد يجمع باقي الدول الإسلامية سوى رباط الدين، بعد أن زرع الغرب روح القومية لدى جميع هذه الدول بالتوازي مع صعود الأنظمة الحديثة والدساتير، فتقطعت بها السُبُل وتفرقت بينها الطرق، وأصبحت كيانات منفصلة لا يجمعها سوى “منظمة المؤتمر الإسلامي”. ولإن العالم العربي يجمعـه أكثر من رابط (رباط الدين والعِرق والتاريخ والجغرافيا والتجربـة وغيرها)، وجب التعامل مع هذه المنطقـة من منظور مغاير، يضمن فرقتها وتبعيتها في آن واحد.

ولن نعود كثيراً إلى الوراء؛ فمنذ إنهيار الدولة العثمانية، تعامل المستعمر مع هذه المنطقة وقسَّمها وفقاً لمخططاته، بعد أن غدر بالشريف حسين؛ فحين كان يتفاوض مع (مكماهون) لتأمين إسـتقلال العرب عن الإمبراطوريـة العثمانيـة المتهاويـة، كانت المملكـة المتحدة وفرنسـا تتفاوضان لتقسـيم المنطقـة بينهما، من خلال اتفاق (سـايكـس بيكو). لم يتوقف الأمر عند تقسـيم بلاد العرب إلى أقطار مقطعـة الأوصال، وزرع روح القوميـة القُطريـة لتسـمو فوق أي إنتماء آخر قد يجمعها كالإسـلام أو العُروبـة، بل كرَّسـت حُكاماً ورؤسـاء، قامت هي بإختيارهم!!

لم تكن هذه النظرة غائبـة عن الغرب نفسـه، فقد وصف الكاتب (ريموند هينبوش) الدول العربيـة الناشـئـة بعد (سـايكـس بيكو) بـ “المصطنعـة”، وفي صراع دائم على حدود مختلقـة، أما (توبي دودج) فوصف حكومات هذه الدول وما تلاها من أنظمـة بالحكومات الضعيفـة والمفروضـة من الخارج، بينما رأى (بيرناند لويـس) أنها حكومات قام البريطانيون والفرنسـيون بزرعها وتثبيتها في هذه المنطقـة.

بعيداً عن أي سردٍ تاريخي يعُج بالكثير من البراهين على الدور السري حيناً، والفاضح أحياناً، والتدخل الأجنبي في شؤون بلاد العرب، الذي تراوح بين الوجود الفعلي الأجنبي ‘العسكري’ على الأراضي العربية، إلى التحكم في مفاصل الحكم واقتصادياته وموراده ومقدراته وغيرها، ابتدعت العقلية الإستعمارية سُبُلاً جديدةً للتعامل مع الواقع الجديد في المنطقة التي شهدت بدء مرحلة التحرر وحصول العديد من الدول العربية على إستقلالها وإنهاء الإستعمار الأجنبي بشكله المباشر. وبالإنسجام مع المبادئ التي ذكرها بطريرك اليونان (جريجوريوس) في رسالته، بدأت عملية إخضاع هذه المنطقة لتبعية طويلة الأمد، من خلال شقين: اقتصادي وثقافي

في ما يتعلق بالشق الاقتصادي، مع بدء حصول بلاد العرب على استقلالها من الاستعمار الغربي، بــدأت حقبة جديدة من التسلط الأجنبي على مقـــــدرات هذه الأمة.

فابُتدع الفكر الرأسمالي (المبني على فكرة نظام بريتنيز وودز) بريادة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان الصراع على مختلف الصُعُد وشتى الجبهات مع الفكر الإشتراكي بزعامة الإتحاد السوفييتي السابق. وكرَّست الولايات المتحدة جهوداً جبّارة لتضع هذه الدول الجديدة في إطار الرأسمالية، ودفعت إلى تأسيس البنك الدولي عام 1944 ولحقه تأسيس صندوق النقد الدولي عام 1945 كأدوات لإرساء دعائم هذه الخطة، فتبقى الدول العربية داخل كهف رسمت حدوده بأيديها.

ومن ثم بدأت مسميات جديدة كالشمال والجنوب، والدول المتقدمة والدول النامية، والعالم الأول والثالث، ودعت هذه المؤسسات دول العالم الثالث للإقتداء بالدول المتقدمة من خلال التنمية والتجارة، فما كان لمشاريع التنمية إلا أن تكون مشاريع ضخمة تحمل أعباء مالية كبيرة، واستهلاكاً سريعاً للأموال المقترضة، تتم في أغلب الأحيان بتخطيط وتنفيذ شركات أجنبية تكون لها حصة الأسد، أما في التجارة فكانت تصب في المحصلة النهائية في أغلب الأحيان لمصلحة الدول المتقدمة.

إذاً، خلق الغرب نظاماً مالياً جديداً، قام بالترويج له تارة وبفرضه تارات، فارتبطت الدول به، وأصبح طوقاً يُحيط برقابهم لأجلٍ بعيد. وبدأت الديون في التراكم مع عروض غربية لقروض ميسرة (على سبيل المثال، في الفترة بين 1957- 1974، اقرض البنك الدولي إيران الشاه 1.2 مليار دولار)، وأصبحت منذ ذلك الحين تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مقياساً ومؤشراً يلهث وراءه الخبراء، لأنه يعكس مدى قدرة هذه البلاد على اللحاق بركب التقدم ـــــ وفقا للمفهوم الأمريكي.

أدى اكتشاف النفط في البلاد العربية لتغير في الحسابات، كما اعتُبرت أزمة البترول خلال سبعينيات القرن الماضي طفرة غير مسبوقة في التاريخ الحديث من حيث سرعة انتقال الثروة من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها، وقدرت الإحصاءات أن ما يُقارب 400 مليار دولار انتقلت لخزائن الدول النفطية خلال الفترة 1973- 1982 فقط، حيث حصلت المملكة العربية السعودية على ما يُقارب نصف هذا المبلغ، فيما حصلت دولتا الكويت والإمارات العربية المتحدة على ربع هذا المبلغ.

هذا التطور دفع الدول النامية إلى التفكير بتبني سياسات اقتصادية مستقلة، انعكست في محاولات التفاوض من أجل إتفاقيات وأوضاع اقتصادية أفضل، وهو الأمر الذي جُوبه برفض غربي شديد، حيث كانت ردة فعل إدارة الرئيس الأمريكي السابق (رونالد ريغان) القول ‘أن ما يُسمى بالعالم الثالث لن يقوم بتحديد الأجندة الاقتصادية العالمية’، أما وزير الخارجية آنذاك (اليكساندر هيغ) فوصف هذه المطالبات ‘بغير الواقعية’ وقال عن هذه المفاوضات أنها “حوار عقيم”.

وعند الحديث عن الشق الثقافي، فكما كان للثورة الفرنسية وتصدير مبادئها دور رئيسي في إضعاف الدولة العثمانية من الداخل، بدأت العولمة تشق طريقها إلى أرجاء الأرض كافة ـــــ بما فيها العالم العربي، مستغلة قيماُ ومبادئ سامية تُسهل سُبُل اختراق الحدود والمجتمعات، فأعلت من مفهوم حقوق الإنسان والديموقراطية والمساواة وحقوق المرأة وحقوق الأقليات وغيرها. ومن أجل تطبيق فاعل لهذه السياسة الجديدة، لزم استحداث أدوات؛ فظهر دور المنظمات غير الحكومية، ببياناتها وتصريحاتها وتقاريرها التي طالما أرَّقت مضاجع ديكتاتوريات العرب.

صحيح أن الغرب، وبشكل خاص الولايات المتحدة الأمريكية تعاون، بل دعم هذه الديكتاتوريات، إلا أن إبقاء سيف مسلط من الداخل يُعتبر أمراً لا مفر منه في هذه السياسة. فكثرت التقارير التي تتحدث عن الحقوق السياسية والعِرقية، وتعالت الأصوات الغربية المنادية بحقوق الأقليات في البلاد العربية، وكان آخرها تصريح الرئيس الأمريكي (اوباما) حيال مصر قبل أيام حيث قال: ‘ملتزمون بحماية المسيحيين فى مصر!’

ولعل التقرير العربي السنوي الأول للتنمية البشرية الذي تمت صياغته بأيدٍ عربية وناقشه الكونغرس الأمريكي قُبيل احتلال العراق، يُعتبر أبرز مثال على هذه السياسة، فاستغل صانع القرار الأمريكي ممارسات النظام العراقي السابق حيال الأقليات والمعارضة السياسية لتمرير أسباب احتلال العراق (خلافاً لبدعة السلاح النووي)، فظهرت الحكومة الأمريكية أمام شعبها وشعوب الغرب “كالحامي” لحمى حقوق الشعب العراقي وأقلياته، وكأنه ينشد حياة أفضل للشعب العراقي، حتى وإن كلّفهم ذلك خسائر بشرية وعسكرية ومالية!

ولقد كشفت حرب العراق للمتابع كيف ينظر الكثير من صُناع القرار والكُتاب الغربيين للعرب وللمنطقة بأسرها؛ فقال الكاتب (توماس بارنيت): ‘إن السـياسـة الأمريكيـة حيال المنطقـة العربيـة يجب أن تكون خليطاً بين الاسـتخدام الصريح للقوة وتعزيز العولمـة’، معتبراً أن احتلال العراق هو الخطوة الأولى نحو عولمة حقيقية. أما الكاتب الأمريكي المؤثر في صنع القرار (توماس فريدمان) فوصف احتلال العراق وكأنه غزوة لا بد منها لوضع المنطقـة العربيـة في حظيرة العولمـة، بعد أن أقرّ هو وغيره بأن المنطقـة العربيـة تُظهر مقاومـة للعولمـة، وأن المعركة الأخيرة لإعلان قوى العولمة النصر التام هي معركة المنطقة العربية. وأرجع أولئك الكُتاب السبب وراء هذه المقاومة إلى العادات والتقاليد والدين ووجود النفط عند العرب.

وبعد فشل المشروع الأمريكي في عولمة العراق بالطريقة التي يرتأونها، ذهب كُتّابهم بعيداً في تطرفهم، فقالوا عن العنصر العربي، وبشكل صريح، أنه ‘لا يصلح’ للتطور والتقدم، ولن يستطيع اللحاق بركب التقدم والحداثة ـــــ متمثلة بالعولمة. وتناوب الكثير من الكُتاب الغربيين في اعتبار العنصر العربي إستثناء يبعد عن التطور والتقدم، نذكر منهم (بيرناند لويس)، فؤاد العجمي و(ديفيد بروكس).

في الختام، يمكن القول أن أسـهل الطُرق لاختراق الحصون المنيعـة يأتي من داخلها، وأيسـر السُـبُل لإنهاك الأمم يكمن بتفكيك وحدة أبنائها، أما التعصب والنعرات العرقيـة والدينيـة والقوميـة فلا تعدو أكثر من وقود وحطب نار قد تحرق ما تبقى من معالم الأمـة. المثير هنا هو أن فكر العولمـة وتخطي الحدود التقليديـة كان موجوداً عند العرب والمسـلمين منذ قديم الأزل؛ فلم يكن للحدود أي وجود، ولم يكن لعرق الإنسـان أن يكون سـبباً يحول بينـه وبين أي موقع في الدولة، إلى أن ابتُدع الفكر القومي، الذي بدأ يُفرق بين عرق وآخر، ومن ثم رُسـمت الحدود واختُلقت الجنسـيات، فبدأ التعصب للأقطار بمفهومها الضيق يحل محل الإنتماء وحب الأمـة بمفهومها الأوسـع، ثم غُرسـت العصبيات العرقيـة والقبليـة والدينيـة والفكريـة، فتشـرذمت الأمـة أكثر فأكثر، وتبدل مجدها الغابر نكبـة بعد إنتكاسـة.

ومع هذا وذاك، ومع التطور في وسائل الإتصال والتكنولوجيا، وفَّرت بعض جوانب العولمة للعرب سُبُل الخلاص وأسباب النجاة، فلم تعُد خبايا المؤامرات سراً، ولم تبقَ نوايا الآخرين أمراً خفياً، بل أصبحت تُقال جهراً، وأضحت جميعها دروساً تعلمناها دهراً بعد دهر، فيكون الوقوع بها من جديد أمراً ممنوعاً، محذوراً، خاصة بعد ما علمنا كيف ينظرون إلينا، وكيف يُريدوننا…

—————————————————————————

إذا كنتَ لا تقرأ إلا كل ما توافق عليـه فقط، فإنكَ إذاً لن تتعلم أبداً!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.