www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

المِقْصَلَة الأميركية والنزيف العالمي في الحاضنة الرأسمالية لصناعة الموت والجوع (!!) /بقلم أسامة عكنان

0

المِقْصَلَة الأميركية والنزيف العالمي في الحاضنة الرأسمالية لصناعة الموت والجوع (!!)

أولا.. دلالات ومضامين تسعير النفط بالدولار على الصعيد الدولي

إن تسعير النفط بالعملة الأميركية “الدولار”، يمكن اعتباره أهم وأخطر إنجازٍ اقتصادي للولايات المتحدة الأميركية،

دشنت به مرحلة هيمنتها على العالم عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، فزادها قوة إلى قوتها وسيطرة إلى سيطرتها.

 

لكن الكثيرين لا يعرفون أن العالم كله مُتَّفِقٌ على أن من يريد شراء النفط من سوق النفط العالمية، فإنه بالفعل لا يستطيع شراءَه إلا بالدولار الأميركي، جراء الاتفاق التاريخي الذي تم بين كل من الرئيس الأميركي “روزفلت” ممثل القوة العالمية القاهرة آنذاك، والملك السعودي “عبد العزيز بن سعود” ممثل التبعية غير المشروطة المفرطة في تبعيتها، والبقرة الحلوب الرئيسة في محفل مالكي النفط ومنتجيه ومصدريه في العالم الثالث، وذلك خلال اجتماعهما على ظهر سفينة أميركية في قناة السويس في شهر شباط من عام 1945، أي قبل شهرين فقط من استسلام ألمانيا في الحرب العالمية الثانية ووضع الحرب لأوزارها.

ولكن إذا كان الكثيرون لا يعلمون بما ترتب على هذه الواقعة التاريخية من اعتمادٍ للدولار عملةً يتم تداول النفط في السوق العالمية بواسطتها، فإن الكثيرين ممن يعلمون بها كواقعة، لا يفهمون حقيقتَها وجوهرها ولا يدركون أبعادها وتأثيراتها على السياسة والاقتصاد الدوليين. وربما أنهم يحسون بخطورتها دون أن تظهر لهم بجلاء ماهية هذه الخطورة. وهو ما سنحاول كشف النقاب عنه لاستجلاء ملامح القيد الاقتصادي والتنموي الخطير الذي يعاني منه العالم منذ منتصف القرن الماضي، والذي كانت “المملكة السعودية” هي من تواطأ مع الأميركيين على تمريره.

 أن يكون الدولار الأميركي هو العملة الوحيدة التي يتم تسعير النفط وتداوله بها، يعني بكل بساطة أن من يريد شراء النفط من الدول المُنتِجة له، عليه التَّوَجُّه إلى الولايات المتحدة الأميركية، للحصول على ما يحتاجه من دولارات، ليتمكن من دفعها إلى منتِجِ النفط ثمنا لما يريد شراءَه منه من تلك السلعة بالغة الحساسية والأهمية والإستراتيجية. أو على الأقل عليه أن يتوجه إلى الدول التي تمتلك دولاراتٍ سبق وأن حصلت عليها من خلال عمليات التداول السلعي والخدمي بينها وبين الولايات المتحدة، كي يحصل منها على الدولارات التي يحتاج إليها. وإنه في سياق عملية الحصول على تلك الدولارات تبدأ عناصر الهيمنة والسيطرة والتَّحَكُّم الأميركية بالسوق العالمية كاملا وليس النفطية فقط. ولكن كيف ذلك؟!

دعونا نفترض بداية ولأجل فهم المسألة في سياقها الاقتصادي البسيط، أن من يريد دولارات سيتوجه إلى الولايات المتحدة وليس إلى الدول التي سبق لها التوجه إلى الولايات المتحدة.

سيتم الحصول على تلك الدولارات بواحدة من طريقتين..

* فإما أن المحتاج سوف يقترض حاجته من المؤسسات الأميركية، أو من تلك التي تهيمن عليها الإدارة الأميركية كصندوق النقد والبنك الدوليين.

* وإما أنه سوف يبيع سلعا وخدمات يمتلكها، للسوق الأميركية ليحصل على قيمتها بالدولارات.

في المقابل وفي الحالتين، فإن الولايات المتحدة لن تقدِّمَ له – أي للطرف الذي لجأ إليها باحثا عن دولاراتها – سوى أوراقٍ نقدية لم تكلِّفَها أكثر من قيمة الورق والحبر والكهرباء وقوة العمل المنفَقَة على طباعتها. ولن تكون ملزمة لا أمامه ولا أمام العالم بأكثر من قبول بيعه ما يشاء من سلع وخدمات أميركية بتلك الدولارات التي حصل عليها إن هو شاء وفق نظامٍ للتسعير يكون سائدا.

أي أنها في حقيقة الأمر تكون قد حصلت كي تمنحه الدولارات التي يسعى إلى الحصول عليها لشراء احتياجاته من النفط، على سلع وخدمات – وفق نظام تسعير معين هي غالبا إن لم يكن دائما صاحبة اليد الطولى في إقراره وفرضه بهيمنتها على شبكة البورصات العالمية التي تمر سياسة تسعير كل السلع الإستراتيجية والهامة في العالم عبرها – يطابق ثمنُها ما منحتُه من دولارات لذلك الطرف، أو أنها تكون قد امتلكت في حالة الإقراض، كميات من إنتاج المقترِض المستقبلي والفعلي من السلع والخدمات، تطابقُ قيمتُها نفسَ قيمة القرض أصولا وفوائد مهما تزايدت ونمت وربت، وكل ذلك بلا مقابل سوى قيمة الحبر والورق والكهرباء وقوة العمل المستخدمة في طباعة تلك الكميات من الأوراق النقدية، والتي لا تتجاوز “عُشْرٍ في المليون” من القيمة الشرائية الفعلية للمبالغ التي تُعَبِّر عنها تلك الأوراق النقدية المطبوعة.

أي وبلغة الأرقام، فإنها تكون إذا منحت ترليونا من الدولارات لمن طلبها بهذا الشكل أو بذاك، قد حصلت على سلع وخدمات فورية أو مؤجلة بقيمة هذا الترليون مقابل ما لا يزيد عن “بضعة مئات الآلاف من الدولارات”، هي كل ما أنفقته على تجهيز تلك الكمية من النقد في مطابع بنكها المركزي ومجلس احتياطيِّها الفدرالي.

في الحلقة الأولى من سلسلة تبعات وتداعيات تسعير النفط بالدولار، يظهر في أبسط صورة لما يحدث، أن الولايات المتحدة تحصل على كميات هائلة من السلع التي هي في الغالب موادا أولية تنتجها الصناعات الاستخراجية في الدول الفقيرة، بدون مقابل حقيقي، أي بالمجان، أو بتعبير اقتصادي: بدون أن تكون قد بادلتها مبادلة حقيقية بسلع وخدمات مقابلة أُنْتِجَت في السوق الأميركية، مع أن الدول التي تكون قد باعت تلك السلع حصلت في مقابل ذلك على ما يُمَكِّنها من شراء حاجتها من سلعة أساسية إستراتيجية بنظام التسعير الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة غالبا، وهذه السلعة هي “النفط” لتلبية احتياجاتها من الطاقة، كما أنها تكون قد امتلكت بامتلاك تلك الدولارات حق شراء ما تشاء من سلع وخدمات معروضة للبيع من السوق الأميركية.

إن الولايات المتحدة لم تتكبد شيئا في هذه العملية، ولا حتى أيَّ جزء يُعتَدُّ به من القيمة الحقيقية لما امتلكته من سلع، مادامت قد امتلكت تلك السلع في واقع الأمر بالمجان. كما أن الدول التي باعت سلعا استخراجية وأولية للولايات المتحدة بهدف الحصول على الدولارات، تبدو هي أيضا وكأنها لم تخسر شيئا ملموسا ومحددا وواضحا للعيان، مادامت قد باعت ما باعته بمقابلٍ يخوِّلُها شراء احتياجاتها النفطية من سوق النفط العالمية، وشراء ما تحتاجه مما هو معروض للبيع في السوق الأميركية. فمن هو الطرف الخاسر إذن، إذا كان طرفا المعادلة السابقة غير خاسرين – على ما يبدو للوهلة الأولى – في ظل ضرورة وجود خاسر تفرض وجودَه طبيعة معادلة التبادل السابقة نفسها؟! وكيف تحدث تلك الخسارة إذا كانت بالفعل موجودة؟! إنه سؤال غاية في الأهمية والخطورة. لكننا نؤجل الإجابة عليه إلى حين استكمال مراقبتنا ومتابعتنا لحلقات سلسلة تداعيات تسعير النفط بالدولار الأميركي، ففي هذه المراقبة والمتابعة يتجلى الجواب.

فلنتابع..

تقوم الدولة التي باعت سلعَها الاستخراجية والأولية إلى الولايات المتحدة، أو التي اقترضت من المؤسسات النقدية الخاضعة للهيمنة الأميركية، وحصلت على الدولارات مقابل ذلك، بشراء احتياجاتها من النفط من منتجي النفط، واحتياجاتها من السلاح والمنتجات العسكرية من الولايات المتحدة نفسها في الغالب، باعتبارها أهم منتج ومُصَدِّر للأسلحة في العالم، أو من وكلائها الإقليميين إذا كانت صفقة ما من صفقات بيع السلاح مريبة وتثير حساسية الإدارة الأميركية أمام شعبها. ثم يعود منتج النفط الذي باع نفطه لتلك الدولة بالدولارات التي حصلت عليها بالشكل المذكور سابقا، إلى الولايات المتحدة ليشتري بجزء من الدولارات التي حصل عليها من تصدير النفط سلاحا يحمي به أمنه.

والخلاصة أن جزءا من الدولارات التي خرجت من الولايات المتحدة مجرد أوراقٍ لم تُكَلِّفْها شيئا مقابل سلع هامة وضرورية دخلت إليها، عاد ليُضَخَّ إلى السوق الأميركية مقابل سلع إستراتيجية سُحبَت من تلك السوق. وإذن أفلا يعني ذلك أن مقولة المجانية التي تحدثنا عنها غدت غير ذات قيمة ولا وجود لها، مادامت الدولارات التي خرجت من الولايات المتحدة ورقا لا قيمة له، عادت إليها قوة شرائية لسلع يحتاجها الآخرون، وهي في الغالب سلعة السلاح الإستراتيجية، والسلع الثقافية، فضلا  عن السلع الصناعية التركيبية ذات التقنية العالية غير المتوفرة في الدول المعنية بهذه المعادلة؟!

في واقع الأمر، يجب ألا يغيب عن بالنا أن كل دولار عديم التكلفة تطبعه الخزانة الأميركية وتُصَدِّرُه إلى الخارج وإن يكن بمقابلٍ ملموس دخل إليها، من حق مالكه خارج حدود الولايات المتحدة أن يعود به إليها كقوة شرائية لشيء ما موجود في داخل السوق الأميركية ذاتها. وبالتالي فلو كانت أنظمة تسعير السلع في العالم وموازين القوى السائدة فيه قادرة على التخفيف من حدِّة الفوارق في الدلالات السوقية والقِيَم الشرائية للدولار، لما كانت هناك خطورة فعلية من الناحية الاقتصادية المباشرة من تسعير النفط بالدولار.

لكن الولايات المتحدة وهي تخرجُ من الحرب العالمية الثانية قوة عظمى لا تضاهيها قوة في العالم بنفوذها الواسع وهيمنتها المعروفة، كانت تدرك جيدا أنها تستطيع توظيف فكرة “تسعير النفط بالدولار” لخدمة سياساتها بالشكل الذي تريده، نظرا لقوتها وقدرتها وهيمنتها، ونظرا – وهذا أهم ما في الموضوع – لامتلاكها ناصية وزمام ومداخل الحراك الاقتصادي العالمي كلِّه تقريبا عبر البورصات والأسواق المالية من جهة أولى، وعبر كونها الطرف الأوحد القادر على تصنيع السلاح المطلوب لمعظم دول العالم من جهة ثانية، وعبر كونها صاحبة القرار في السياسة النفطية العالمية، بحكم كونها صاحبة الهيمنة على البلدان النفطية الأساس، ألا وهي دول الخليج العربي من جهة ثالثة. لهذا فقد كان يكفي الولايات المتحدة أن تتفق مع الملك السعودي عبد العزيز على تسعير النفط بالدولار، ليتمَّ الأمر وتتحدد السياسات وتتقرر الإجراءات بعد ذلك بكل يسر وسهولة.

الولايات المتحدة في حقيقة الأمر كانت تُصْدِر الدولارات التي تصدرها كأثمان للسلع التي تحصل عليها بأسعار زهيدة تفرضها سياسات التسعير المعتمدة في بورصات تلك السلع، والتي هي في الغالب أسعار تخضع في تقلباتها صعودا وهبوطا لإرادة الطرف الأميركي. وعندما تستعيد تلك الدولارات ثمنا لمنتجاتها من الأسلحة بالدرجة الأولى، أو من المنتجات الصناعية الثقافية والإعلامية بالدرجة الثانية، أو من الصناعات التركيبية عالية التقنية بدرجة ثالثة، فإنها تستعيدها وفق نظام تسعير مُجْحِف وغير عادل ولا يعكس القِيَم الحقيقية لتلك السلع التي تبيعها، إذا ما قيست معايير تسعير السلع التي تستوردها وتشتريها بمعايير تسعير السلع التي تُصَدِّرُها وتبيعها، كما سيتبين معنا، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأسلحة تحديدا، ما يعني أنها تمتص من خلال هذه السياسة التسعيرية أيَّ قيمة تبادلية عادلة ومنصفة لتلك الأموال التي خرجت منها فيما مضى لشراء سلع متدنية القيمة، وذلك بأن تجعلَها تعود إليها عندما تعود، أموالا محدودة القيمة التبادلية، لتكون مكاسبها المهولة قد تحققت عبر الفارق السوقي والقِيَمي والتبادلي لتلك الأموال.

أي وبتعبير أدق، يجب أن تحصلَ الولايات المتحدة بتلك الدولارات المجانية التكلفة على كل احتياجاتها مما ليس في حوزتها، وعندما تُقَّرِّر الدول التي حصلت على تلك الدولارات أن تضخَّها من جديد إلى السوق الأميركية، فيجب أن يكون ذلك في مقابل سلع وخدمات ذات تكلفة فعلية أقل بكثير من ثمن بيعها، أي أن الولايات المتحدة تحصل على أضعاف ما تعطي. تحصل على كل حاجاتها ولا تعطي أحدا حاجته الفعلية كي يبقى ضمن دوائر الحاجة والتوتر، أو كي يضطرَ إلى اللجوء إلى القروض والديون الخارجية التي يمكنها أن تحاصره مثل فكَّي كماشة.

على الصعيد العملي تُجَلِّي هذه السياسة نفسَها على النحو التالي..

كل الدول التي تريد شراء النفط من السوق العالمية – ومعظم دول العالم باستثناء المنتجين وهم قلة، هي دول تشتري النفط – ستضطر إلى مبادلة منتجاتها التي تحتاجها الولايات المتحدة بالدولارات. أي أن الولايات المتحدة تحصل من كل دول العالم وبلا مقابل على ما تشاء من سلع غير متوفرة لديها أو لا تريد إنتاجها محليا لسبب أو لآخر. ثم تبدأ هذه الدول بمبادلة جزء من الدولارات التي حصلت عليها بالنفط الذي تكون أسعاره مدروسة بشكل يمتص معه معظم تلك المداخيل لتصب في خزائن منتجي النفط ومصدريه، وغالبيتهم مرتبطون بعجلة الهيمنة والقرار الأميركيين، ما يجعل الوجهة النهائية لتلك الأموال مُسَيْطَر عليها ومُتَحَكَّم فيها بحكم هذه الهيمنة.

تحرص الولايات المتحدة من حيث المبدأ على تقليص قيمة الدولارات التي حصلت بواسطتها مجانا على ما تريده من سلع من الدول المحتاجة لشراء النفط، بشكل لا يُفْقِد فكرة المجانية والمنفعة المتحققة من طباعة الدولارات بلا رقيب أو حسيب، قيمتَها ومردودَها على الاقتصاد الأميركي وعلى رفاهية المواطن الأميركي وعلى توجيه دفة الاقتصاد العالمي والتحكم فيها من ثم، وذلك كي لا تعود تلك الدولارات لتستحلبَ من السوق الأميركية منتجات لا تريد الولايات المتحدة إتاحة الفرصة لها كي تُسْتحلَبَ وتؤثر بالتالي على مستوى معيشة الأميركيين ورفاهيتهم، أو على اقتصاد السوق ونظام تقسيم العمل في داخل الولايات المتحدة كمعقل للرأسمالية الاحتكارية والمالية في العالم. إن اللص الذي يسرق، يفعل ما بوسعه كي لا يتيح الفرصة للمسروق في استعادة ما سرق منه.

لن يتحقق ذلك للولايات المتحدة في ظل هيمنتها على سوق النفط وسوق السلاح وشبكة البورصات وأسواق السندات العالمية، فضلا عن سوق القروض عبر كل من البنك وصندوق النقد الدوليين، إلا إذا تمكنت – فضلا عن كل ذلك – من تكريس وفرض المعادلات التالية على الاقتصاد العالمي..

1 – أن تتحكم تحكما مطلقا في تسعير النفط في السوق العالمية بشكل يتيح لها توجيه دفة التدفقات النقدية المترتبة على تجارة النفط على النحو الملائم لسياساتها المحلية والعالمية، وخاصة في الأقاليم التي لها فيها إستراتيجيات محددة، وعلى رأسها الإقليم المسمى “الشرق الأوسط”.

2 – أن تتحكم عبر شبكة البورصات العالمية التي يتم فيها تداول أهم السلع الإستراتيجية في العالم، سواء كانت موادا أولية أو غذاء، في تسعير تلك السلع بالشكل الذي يضمن تدفقها إلى السوق الأميركية بأسعار زهيدة تُبْقي الدول المصدرة لها عاجزة عبر مداخيلها المتحققة من خلالها عن تلبية احتياجاتها من الدولارات الكفيلة بتغطية احتياجاتها من النفط ومن السلاح ومن بعض السلع والمنتجات الأخرى عالية التقنية، بل ومن الأموال اللازمة للاستثمار من أجل تحقيق معدلات نمو فعالة تلبي مطالب النمو السكاني ومطالب الرفاهية والتقدم، ما يجبرها على اللجوء إلى مسألتين هامتين سعيا نحو الخروج من هذا المطب الخطير هما..
* الإكثار من الزراعة والصناعة التصديريتين على حساب الزراعة والصناعة الإشباعيتين، كي تكون جاهزة على الدوام لتلبية احتياجات السوق الأميركية النهمة إلى هذا النوع من السلع بالمجان، أو بأقل الكُلَف عبر تلك الدولارات التي تحتاجها من مطابع الخزينة الأميركية.

* بالإضافة إلى الاقتراض من صندوق النقد والبنك الدوليين لتأمين العجوزرات المتحققة لديها، ما يفاقم ربطها بعجلة الهيمنة الأميريكية عبر هاتين الأداتين المدمرتين لاقتصاديات الدول النامية كما ثبت ذلك خلال عقود من التعامل معهما.

3 – أن تضمنَ هيمنتَها الفعلية على أهم مفاصل سوق السلاح العالمية، كي تتمكن من تسعير الأسلحة بنظام تسعير يمتص معظم الفوائض النقدية الدولارية التي قد يشكل رجوعها إلى السوق الأميركية كقوة شرائية نوعا من المساس بالرفاهية المتحققة عبر سياسة ربط النفط بالدولار. أي أن الولايات المتحدة تعمل ما في وسعها كي لا تسمح للدولارات المرتجعة بشراء شيء أكثر مما تريد هي بيعه وهو السلاح بالدرجة الأولى، وبدرجة أقل المنتجات الثقافية والصناعية عالية التقنية، وخاصة الاستهلاكية والترفيهية منها، مع التركيز على الجانب الثقافي قدر المستطاع (فنون، ثقافة، غناء، سينما، إعلام.. إلخ).

4 – أن تضمن تدني نسبة مشاركة تجارتها الخارجية “استيرادا وتصديرا” في الناتج القومي الإجمالي إلى أدنى مستوى مقدور عليه، كي لا تكون مضطرة إلى بيع وشراء ما يؤثر على قوتها ونفوذها، وأن تجعل صناعة السلاح أولا، ثم صناعة الثقافة والفن والإعلام ثانيا، ثم الصناعة الاستهلاكية عالية التقنية ثالثا، هي المكونات الأساسية لتجارتها الخارجية تلك، كي تضمن أن تبقى معظم العملة الدولارية المجانية التي طبعتها لتسرقَ بها شعوب العالم، فاقدة لقيمتها في السوق الأميركية، بعدم وجود ما تستحلبه من تلك السوق خارج حدود السلاح والثقافة والإعلام وبعض التقنيات الرفيعة التي ستتمكن من تسعيرها بما يجعلها تمتص معظم تلك العملات الدولارية المتاحة خارج الولايات المتحدة، إذا فكر أصحابها في تحويلها إلى سلع ومنتجات أميركية.
وهذا على وجه التحديد هو ما تحقق لها بعد عقود من بدء تنفيذ ما تمت تسميته بعد الحرب العالمية الثانية بـ “برنامج أو خطة السياسة الواسعة” التي تضمنت ثلاثة بنود أساسية هي..

* رفع نسبة استهلاك الشعب الأميركي من مجموع الإنتاج العالمي خلال ثلاثين عاما – منذ انتهاء الحرب بطبيعة الحال – إلى ما يتراوح بين 46% و50%.

* وخفض نسبة مساهمة التجارة الخارجية الأميركية في ناتجها الإجمالي إلى ما لا يتجاوز الـ 5%.

* وجعل النسبة الأكبر في التجارة الخارجية الأميركية عندما يكون الحديث منصبا حول التصدير، للصناعات العسكرية والثقافية والفنية والإعلامية والمنتجات الاستهلاكية والترفيهية عالية التقنية، وعندما يكون الحديث منصبا حول الاستيراد، للصناعات الاستخراجية والمواد الأولية ومصادر الغذاء الخام والأساسية.

وليس لهذه الأرقام من دلالة خارج إطار أن الولايات المتحدة تريد أن تسرق شعوب العالم بالمجان دون أن تتيح لها فرصة الحصول منها على شيء ذي قيمة. فأن تستهلك أميركا نصف إنتاج الإنسانية، وألا تتيح لأحد أن يحصل منها على أكثر من تلك النسبة في التجارة الخارجية لها عبر تقوية سوقها المحلي بجعله مشبعا بنفسه مستغنيا عن غيره، هو نظام سرقة ولصوصية دولية عالي الكفاءة وغير مسبوق في تاريخ البشر.

5 – أن تضمن توجيه معظم التدفقات النقدية الفائضة والمتحققة للدول المصدرة للنفط – مادامت معظم الدولارات التي خرجت من السوق الأميركية ستتجه إليها كثمن للنفط المصدر إلى دول العالم المحتاجة إليه – لتستثمر في تجارة الأسهم والسندات في شبكة البورصات العالمية، وفي تجارة وملكية العقارات الخارجية، كي تفقد تلك التجارة، وكي يفقد ذلك التملك أي قيمة تنموية لهما، وبقائهما دائرين داخل حلقات الموارد الريعية المعرضة للهزات بكل يسر وسهولة، تواكبا مع الهزات المعتادة التي تتعرض لها البورصات العالمية الكبرى بشكل مدروس غالبا، لإفقاد تلك الفوائض قيمتَها التنموية الداخلية من جهة أولى، ولحرمانها من فرصة أن تكون عاملا من عوامل استحلاب السلع والخدمات الأميركية من السوق الأميركية من جهة ثانية، ولإبقائها من جهة ثالثة على مرمى مدفع الأزمات المالية العالمية التي تختلقها في تلك الشبكات من وقت لآخر بهدف استنزافها وتحويلها إلى “بخار مال” بعد أن كانت مالا حقيقيا.

6 – أن تضمن إبقاء مناطق تدفق السلاح الفعلية على مستوى العالم مناطق ساخنة ومشتعلة على الدوام، وأن تعمل على اختلاق الأزمات في المناطق المحتملة التأزم، وعدم العمل على حل أيِّ أزمة دولية حلا يقلص من قدرتها على إبقاء سوق السلاح سوقا حيوية ونشطة. وعلى رأس كل تلك المناطق، المنطقة المسماة “الشرق الأوسط”، وعلى رأس كل تلك الأزمات، تلك الناشئة عن الصراع العربي الإسرائيلي. لذلك ليس غريبا ولا عصيا على الفهم، أن تكون هذه المنطقة هي أكثر مناطق العالم توترا وأكثرها تخزينا للسلاح الأميركي، بل وأبعدها عن الحلول السلمية الحقيقية التي تخلق الاستقرار الدافع إلى تحقيق الأمن والسلام والتنمية لشعوبها.

ثانيا.. تبسيط الموضوع بنماذج وأمثلة واقعية

سنفترض ما يلي لتسهيل الفهم:

1 – “الولايات المتحدة” هي “أ”، وهي تنتج معظم احتياجاتها من “النفط”، ومن “المواد الأولية الصناعية والزراعية”، وكل احتياجاتها من “السلاح”، ومن “منتجات الثقافة والإعلام”، ومن “الصناعات عالية التقنية”، وهي بالتالي تحتاج إلى استكمال ما ينقصها من الدول الأخرى التي تملكه.

2 – “المملكة السعودية” هي “ب”، وهي تنتج “النفط” فقط، وتحتاج بالتالي إلى “المواد الأولية الصناعية والزراعية” من الدول التي تملكها، وإلى “السلاح”، و”منتجات الثقافة والإعلام” و”الصناعات عالية التقنية”، من الولايات المتحدة.

3 – “مجموعة الدول التي تنتج المواد الأولية الصناعية والزراعية” هي “ج”، “د”، “ه”، “و”، “ز”، وهي تحتاج بالتالي إلى “النفط” من السعودية، وإلى “السلاح” و”منتجات الثقافة والإعلام”، و”الصناعات عالية التقنية”، من الولايات المتحدة.

ما هي معادلات التبادل التي تتحكم في هذه الدائرة البسيطة، التي يمكننا بعد أن نوضحها فنفهمَها، سَحْبُها على الدائرة العالمية الشبكية بالغة التعقيد في سيرورة التبادلات ومعادلاتها؟!

أولا.. سنبدأ بمتابعة ومراقبة سيرورة التبادل في الدائرة الضيقة “أ”، “ب”، “ج”:

* “ج” لا يستطيع شراء حاجته من النفط، إلا إذا امتلك الدولارات..

* وهو لا يستطيع امتلاك هذه الدولارات إلا إذا حصل عليها من “أ”..

* وهو لكي يحصل عليها من “أ”، يجب أن يبيعَه – أي لـ “أ” – شيئا يملكه، وهو تحديدا “المواد الأولية الصناعية والزراعية”..
* وقبل أن يقوم “ج” بإجراء أيِّ تبادلات مع “أ”، فإنه سوف يدرس وضعه الداخلي، فيضع خططه التنموية، بناء على طبيعة المجتمع ومكوناته وإمكاناته ومشاريعه وطموحاته.. إلخ، بالاستناد إلى قدراته الحقيقية، الكامنة في كميات منتجاته من “المواد الأولية الصناعية والزراعية” التي هي ما سيدر عليه الدخل، وسوف يرصد احتياجاته النقدية التي تخوله تمويل تلك الخطط، وبناء على نتائج ذلك سوف يرسم خططه التبادلية مع “أ”..

* سيكتشف “ج” أن احتياجاته التي يمكنها تمويل خططه القادرة على النهوض بدولته وبشعبه بشكل متوازن وصحي ومنتج على المديين القريب والمتوسط، هي تدفقات نقدية بقيمة “150” مليار دولار..

* لكنه سيكتشف أيضا أن قدراته الإنتاجية التي يفترض أن تُسَعَّر عالميا بما يمكِّنُه من تنفيذ خططه ومشاريعه، هي في الواقع مسعَّرة بما يجعلها تعجز عن ذلك، وهو لا يستطيع التحكم في التسعير، لأن “أ” وحده ولأسباب لها علاقة بالقوة وبالسيطرة وبالنفوذ على مستوى العالم، هو من يُحَدِّد الأسعار عبر بورصاته العالمية التي يديرها ويتحكم فيها..

* وبناء على ذلك، فإن “ج” سيضطر للقبول بالأمر الواقع المتمثل في بيع منتجاته الأولية الصناعية والزراعية لـ “أ”، بتدفقات نقدية قيمتُها فقط “100” مليار دولار..

* في هذه المستوى من اختلال كفتي معادلات التبادل، يكون “ج” قد أخل بمتطلبات التنمية والاستثمار المحليين المناسبين للاحتياجات الحقيقية للمجتمع، بما يمَكِّن دولتَه وشعبه من اللحاق بركب الأمم المتحضرة والمتمدنة والصناعية والمكتفية والآمنة اقتصاديا، وذلك بأن عَجِزَ عن تأمين الـ “50” مليار دولار اللازمة لاستكمال متطلبات الخطط التنموية المفترضة، والبالغة “150” مليار دولار، وهو الأمر الذي يبقيه أي “ج” متأرجحا داخل دائرة “التخلف” الذي سيتراكم يوما بعد يوم..

* ولهذا السبب ومن منطلق الأمر الواقع، نراه يوزع فاتورة نقده المتحققة عبر بيع منتجاته الأولية الصناعية والزراعية إلى “أ”، على البنود التالية..

– فاتورة مدفوعات لتغطية احتياجاته من النفط، وهي فاتورة سيدفعها إلى “ب”، وقيمتها “30” مليار دولار.. 
– فاتورة مدفوعات لتغطية احتياجاته الأمنية من السلاح والخدمات العسكرية، وهي فاتورة سيدفعها إلى “أ”، وقيمتها “10” مليارات من الدولارات..

– فاتورة مدفوعات لتغطية خطة تنموية قاصرة ومشوَّهة اعتمدها مُكرها، وهي فاتورة بقيمة “60” مليار دولار، سيذهب جزء منها وليكن “20” مليار دولار لـ “أ” ثمنا لمنتجات “ثقافية وإعلامية” من جهة، ولـ “منتجات صناعية عالية التقنية” من جهة أخرى..

* “أ” لا يكتفي بالمنفعة التي حققها عبر تحكُّمِه في تسعير منتجات “ج” الأولية، التي حصل عليها منه مجانا بطباعته لأوراق نقدية لا تكلفه شيئا، بل هو يريد أن يحول بكل الطرق دون هذه الأوراق النقدية، ودون أن تعود إلى أسواقه هو، فتستحلبَ ما لا يريد هو أن يُستحلبَ من سوقه بأسعارٍ لا يريدها.. فماذا يفعل؟!

* يدفع باتجاه رفع أسعار النفط التي يملك القدرة الكاملة عليها للأسباب نفسها التي مكنته سابقا من تحديد أسعار المنتجات الأولية لـ “ج”، ويُعلي لدى “ج” من إحساسه بعدم كفاية المخصصات للأغراض الأمنية، بافتعال المشكلات والصراعات الإقليمية التي يخشى “ج” من تأثيرها عليه وعلى أمنه، فترتفع فاتورة المدفوعات الأمنية لديه..

* هذه المتغيرات تحدِث اختلالات في موازنات “ج” وفي نمط مدفوعاته، باتجاه ارتفاع فاتورة النفط من “30” مليار إلى “50” مليار دولار”، وباتجاه ارتفاع فاتورة المدفوعات الأمنية لديه من “10” مليارات إلى “20” مليار دولار..

* وهكذا تتقلص فاتورة المدفوعات الإنفاقية لأغراض تنفيذ الخطط التنموية القاصرة والمشوهة أصلا، لتنخفض من “60” مليار دولار إلى “30” مليار دولار، فيحدث العجز الرهيب في المدفوعات التنموية والاستهلاكية الضرورية، وهو عجز لا مجال للسكوت عليه، لأن الخطط وضعت، ولأن الشعب يريد أن يأكل، فما بالك إذا كانت تلك الخطط أصلا تمثل الحد الأدنى الذي بدونه تتعرض البلاد للكوارث وللإفلاس وللمجاعات. فماذا يمكن لـ “ج” أن يفعل؟!

* لا مجال أمامه سوى الاقتراض من المؤسسات المانحة للقروض، وهي “صندوق النقد” و”البنك” الدوليين لتغطية العجز الحاصل بسبب المستجدات المتعلقة بارتفاع أسعار النفط من جهة، وبالمتطلبات الأمنية الملحة من جهة أخرى..

* حتى هذه اللحظة يكون “أ” قد استعاد من الـ “100” مليار التي طبعها ثمنا للمواد الأولية التي اشتراها من “ج”، استعادة مطلقة بدون أن يتيح لها الفرصة للعودة إلى أسواقه على شكل أثمان لمنتجات محلية، مبلغا قيمته “19” مليار دولار، هي الفارق بين فاتورة “السلاح” السوقية، والبالغة “20” مليار دولار، والتكلفة الحقيقية لهذا السلاح والبالغة “1” مليار دولار، بسبب ان أسعار بيع سلاح “أ” إلى مستخدميه، تساوي في العادة وعلى أقل تقدير “20” ضعف التكلفة الحقيقية له..

* رغم أن “ج” لم يتمكن من إعادة التوازن النسبي إلى حالته التنموية المشوهة أصلا إلا باقتراض قيمة العجز البالغة “30” مليار دولار، فإنه بحكم طبائع الأمور، لن يغير في خطته التنموية تلك، بل هو سيعمل على تنفيذها، وبالتالي فإن ما قيمته “20” مليارا من هذه القروض التي تعود لملكية “أ” في الغالبية العظمى منها بحكم هيمنته على المؤسسات المقرِضَة، والتي هي مجددا مجرد أوراق مطبوعة، ستفقد جزءا كبيرا من قيمتها السوقية التي يراهن عليها المقترِض، وذلك بالحيلولة دون عودتها نقدا مستحلِبا للسلع والخدمات من أسواق “أ” بالشكل الذي يلبي احتياجات “ج”، لأن الـ “20” مليار التي نتحدث عنها، هي معدة وفق خطة “ج”، لشراء “متتجات ثقافية وإعلامية” و”صناعات عالية التقنية” من “أ” ذاته بحكم الحاجة بحسب الخطة الموضوعة. ولأن تسعير هذه المنتجات لا يختلف كثيرا عن تسعير “السلاح”، فإن هذا المبلغ سيفقد من قيمته السوقية المفترضة “19” مليارا أخرى، ليكون “أ” قد استعاد من إجمالي الـ “100” مليار التي طبعها ليشتري بها منتجات “ج” الأولية، ما قيمته “38” مليار دولار بدون أيِّ مقابل أو مسوِّغ غير فكرة “تسعير النفط بالدولار”، و”ارتفاع أسعار منتجات “أ” بشكل غير منطقي بالقياس للتكلفة الحقيقية”، والتحكم في مفاتيح التسعير العالمية للمنتجات الأولية”..

* ومع ذلك فإن “ج” الذي أعاد لـ “أ” ما قيمته “38” مليار دولار، من أصل “100” مليار دولار، “هديَّة ما من وراها جزيَّة”، فإنه معنيٌّ أيضا بإعادة الـ “30” مليار التي اقترضها بفوائدها كاملة، نقدا له قيمة سوقية تمنح “أ” قدرة شرائية من أسواق “ج” نفسه، مع أنها مجرد أوراق مطبوعة بلا أيِّ تكلفة تُذكَر..

* مع ضرورة التنبيه إلى واقعةٍ غايةٍ في الأهمية، وهي أن الـ “30” مليار التي اقترضها “ج”، ليست مبالغَ مضافة إلى الـ “100” مليار، التي تعتبر المبلغ الأساس الذي بنينا عليه تحليلَنا، حتى يتسنى لنا القول بأن “أ” استعاد “38” مليارا، وعاد ليدفع “30” مليارا، وبالتالي فهو لم يستعد في الواقع سوى “8” مليارات”، فهذا خطأ فادح، لأن القرض الذي اقترضه “ج” لم يكن بغرض إضافته على الـ “100” مليار، ليصبح المجموع “130” مليارا، بل بغرض تعويض النقص الذي اعترى هذه المليارات المائة، بسبب امتصاص قيمتها الشرائية بعد ارتفاع فاتورة النفط وفاتورة السلاح..

* تكشِف لنا هذه المعادلة التبادلية غير المتكافئة واقعةَ أن “ج” باع بـ “100” مليار دولار، ما يفترض أن يساوي “150” مليارا من الدولارات، هي حاجته الحقيقية لإحداث تنمية ونهضة متوازنة ومناسبة في مجتمعه، فحرف مسارَ النهضة عن سكَّته الطبيعية المفترضة، وبطَّأَها إن لم يكن قد دمرها أصلا، عبر إفقار البلاد، وبيع مواردها بأرخص الأثمان وأزهدها، واشترى بـ “130” مليارا مضافا إليها فوائد القرض الذي سيدفعه بطبيعة الحال، ما لا تزيد قيمته الحقيقية عن “100 – 38” أي عن “62” مليار دولار. أي أنه حصلَ في نهاية المطاف على منتجاتٍ خارجية قيمتُها أقل من “62” مليارا من الدولارات “بعد احتساب الفوائد على القرض”، عبر استبدالها بمنتجاتٍ محلية تزيد قيمتها الحقيقية عن “150” مليار من الدولارات، عندما نفترض أن ثروةَ أيِّ أمة من الأمم، يجب أن تكون مُقَيَّمَةً عند مبادلتها السوقية عالميا، وفقَ حاجاتها التنموية والنهضوية الحقيقية، وليس وفق سياسات تسعيرية تضعها قوى رأس المال والاحتكار المتحكمة في العالم، في ضوء مصالحها الخاصة وفي ضوء سيرورات أسواقها ونظمها الاقتصادية.. هذا ونحن لم نأخذ في اعتبار احتساب هذه الخسارة التبادلية، واقعة أن أسعار النفط المرتفعة هي في ذاتها أيضا أسعار غير متناسبة مع طبيعة الكلفة الإنتاجية للنفط، وهو ما لم نحتسبه بعد في معادلة الخسارة الرهيبة هذه، وهي الخسارة التي بدأت بتشويه المسار التنموي لـ “ج”، ثم بحرفه عن متطلباته الضرورية، ثم بربطه بعجلة الديون التي ستبقيه يدور في حلقة مفرغة لا تتوقف من التبعية والتراجع، معمِّقة “الفقر” و”البطالة” و”التفاوت الطبقي”، ومفاقمة كلَّ أنواع الفساد المالي والإداري..

* وفي مرحلة متقدمة، فإن هذه الحلقة المفرغة التي وُضِعَ في أتونها “ج”، ديونا، وارتفاع أسعار عناصر ضرورية لتنميته.. إلخ، ستجعله يصل إلى ميدان معركة أشدَّ خطورة، يجد نفسه معها غير قادر على تأمين الحد الأدنى من المداخيل والتدفقات النقدية من خلال تسويق مواده الأولية التي كانت في السابق تساعده على تحقيق حد من الدخل يمنحه بعض المرونة، ما يدفعه إلى ولوج منطقة هي بالنسبة له “المقتل”، عندما يبدأ يراهن في تحصيل هذه المداخيل الضرورية على التوجه إلى إنتاج أنواع من “الصناعات”، وعلى إنتاج أنواع من “الزراعات” التي لا يطلبها المجتمع لغاياته الاستهلاكية، وإنما فقط لتلبية احتياجات أسواق وأذواق “أ”. فتتحول سياسته الإنتاجية التنموية ذاتها، إلى سياسة قائمة على تلبية احتياجات “أ” وليس احتياجات “ج” نفسها. وهنا تكون حلقة التبعية قد اكتملت، والارتهان قد تحقق، وبدأ “ج” بوضع نفسه على بوز مدفع الكارثة الاقتصادية، التي لن يحلها سوى التمرد الشامل على كل أشكال البُنى المجتمعية والمؤسسية السائدة في الدولة..

* بمواصلتنا متابعة هذه الدائرة التبادلية البسيطة، قبل أن يكون “ج” قد وصل إلى مرحلة الكارثة الاقتصادية، سنرى أن “ج” سيتجه إلى “ب” لشراء نفط يدفع فاتورته بقيمة “50” مليار دولار بعد ارتفاع أسعاره..

* “ب” إذن حصل على أول تدفُّقٍ نقدي من بيع نفطه، وهو “50” مليار دولار..

* إذن في الدائرة المغلقة الضيقة “أ”، “ب”، “ج”، هناك طرف أول هو “ج” تمَّ تدميره ورهنه وسحقه اقتصاديا، وهناك طرف ثانٍ هو “ب” بدا وكأنه يجمع تدفقات نقدية هائلة بكل بساطة من ريع مادة وحيدة هي “النفط”، وطرف ثالث هو “أ” استحلب “ج” وقيَّده وحرمه التحرك خارج خنادقه، وهو ينتظر ليفعل شيئا ما بالتدفقات النقدية التي بدأت تهل إلى جيوب “ب” من خلال ما فعله بـ “ج”..

ثانيا.. الأمر نفسه الذي حدث في الدائرة “أ”، “ب”، “ج”، سيحدث ويتكرر في الدائرة “أ”، “ب”، “د”، وفي الدائرة “أ”، “ب”، “ه”، وفي الدائرة “أ”، “ب”، “و”، وفي الدائرة “أ”، “ب”، “ز”، لتكون النتيجة النهائية في هذه المرحلة، في حلقة تبادل عالمية محدودة مصاغة على النحو التالي..

* الدول “ج”، “د”، “ه”، “و”، “ز”، تم تدميرها ورهنها وربطها وتقييدها، والزج بها في وديان الدمار الاقتصادي السحيقة، وإغراقها في الفقر والبطالة والجوع والجهل والمرض وصعوبة التنمية، ودفعها إلى استنزاف مواردها بالمجان تقريبا.. إلخ..

* الدولة “ب”، وهي “المملكة السعودية”، كنزت تدفقات نقدية “بترودولارية” قيمتها “250” مليار دولار، هي أكبر من قدراتها التنموية والإنفاقية والاستثمارية التي يمكن أن يتخيلها عقل، في ضوء قدراتها البشرية وإمكاناتها العلمية والمعرفية.. إلخ..

* الدولة “أ”، وهي الولايات المتحدة الأميركية، تكون قد نهبت كل شعوب العالم الفقيرة، واستنزفت مواردها وثرواتها، وزجت بها في أتون التجاوب مع احتياجات السوق الأميركية، وربطت كل دول العالم الفقير والنامي بمشكلات من نوع يبقيها مرهونة لها، وتابعة لمركزيتها، على رأسها المديونية والإنتاج التصديري، مرسخة في تلك الدول لضمان استمرار هذه الحالة الممعنة في التبعية، أنظمة حكم فاسدة ومفسدة، ارتبط بقاؤها واستمرارها، بوظيفيتها التي وُلِدت في قلب الفساد والإفساد خلال مراحل تكريس التبعية الاقتصادية للمركز الرأسمالي الاحتكاري الأميركي..

ثالثا.. يبدأ المستوى الثالث من مستويات تنفيذ المعادلة التبادلية الإمبريالية، بأن يوجه “أ” فوهات مدافعه إلى التدفقات النفطية الهائلة التي حظي بها “ب” خلال قيام “أ” بتقطيع أوصال “ج”، و”د”، و”ه”، و”و”، و”ز”. ويتم ذلك على النحو التالي..

* امتصاص قِيَم هائلة من المدخرات البترودولارية لدى “ب” في صفقات تسلح تعتبر الأضخم من نوعها في العالم وعبر التاريخ، وفق نظام التسعير نفسه الذي تحدثنا عنه سابقا، وهو أن سعر البيع يكافئ عشرين ضعف سعر الكلفة الحقيقية للسلعة أو للخدمة العسكرية والأمنية المقدمة من قبل “أ” لـ “ب”..

* في هذا السياق يتم عقد صفقات تصل قيمها إلى “50” مليار دولار، وهو ما يعني أن “أ” عاد مجددا ليستعيد بالمجان وبلا أيِّ مقابل مبلغا قيمته أكثر من “47” مليار دولار من النقد الذي طبعه واشترى به منتجات “ج”، “د”، “ه”، “و”، “ز”..

* ثم يتم التجهيز لحربٍ أقليميةٍ تندلع على أرضية الصراعات والخلافات والتخندقات القائمة في الإقليم، على أن يتم تمويلها بجزء من مدخرات “ب”، تبلغ قيمتها “100” مليار دولار، وبالتالي ولنفس الأسباب المتعلقة بالفوارق المهولة بين سعر بيع السلاح وتكلفته الحقيقية، نستطيع القول بأن “أ” يكون قد استعاد من المبالغ التي دفعها ورقا نقديا مطبوعا بالمجان للدول المنتجة للمواد الأولية، ما قيمته “95” مليار دولار، وبالتالي تنخفض أكثر فأكثر، القِيَم السوقية الحقيقية لتلك التدفقات النقدية لصالح “أ”، وعلى حساب الحاجات الفعلية للدول المنتجة للمواد الأولية..

* ولكن “أ” لا يكتفي حتى بكل ذلك، وتبقى أنظاره متجهة صوب الـ “100” مليار المتبقية لدى “ب”، ولأنه لا يرى أن هذا الأخير يستحق منها أكثر من “50” مليارا فقط لتمويل برامجه الداخلية ونفقاته التنموية والاستهلاكية، فإنه يعمل على تبخير الـ “50” مليارا الأخرى عبر مداخن البورصات، لأن هذه المليارات كلها في الأساس موجودة عند “أ” على شكل مدخرات وسندات حكومية وأسهم يتم تداولها في الأسواق المالية العالمية التي يهيمن عليها “أ” أساسا..

* وهكذا تكون الدائرة قد اكتملت، محققة المعادلة التالية..

– حصول “أ” على كل احتياجاته من المواد الأولية الصناعية والزراعية بما يقارب المجان الفعلي.

– إدخال “ج”، “د”، “ه”، “و”، “ز”، في دوائر الفقر والبطالة والاستدانة والتبعية المزمنة التي لا تحل إلا بالثورات العارمة على النظام الرأسمالي العالمي برمته.

– تمكين طبقات من المفسدين والفاسدين من الكومبرادور والبيروقراط من التحكم وإدارة السلطة في تلك الدول وفي غيرها من الدول الدائرة في هذا الفلك الوظيفي، لتعمل على الإبقاء على المعادلات قائمة كما هي، وتؤجل أيَّ ثورة ضدها إلى أبعد مدى زمني ممكن.

– الإبقاء على نقاط الاشتعال والاحتكاك مهيئة للحروب والتقلبات الدائمة على مستوى العالم، مع التركيز غير العادي على إقليم المشرق العربي لاعتبارات جيوسياسية، تتكامل فيها أدوار “الوظيفية العربية” بقيادة “الوظيفية السعودية”، مع الوظيفية “الصهيونية الإسرائيلية”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.