هل صحيح أن أبا العتاهية خارج على العروض ؟؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سؤال يطرح نفسه عندما تسمع هذه المقولة :
أنا أكبر من العروض
عن أبي العتاهية و التي قالها بنفسه عندما سئل عن بعض الأبيات في شعره .
الأنموذجات التي اتخذها النقاد مدخلًا لهذه التهمة هي - حصرًا - هذه :
الأنموذج الأول :

للمنونِ دائرا=تٌ يُدِرْنَ صرفَها
هنَّ يَنتقينَنـا = واحدا فواحــدا

الأنموذج الثاني :

عتبَ ما للخيـال=خبِّرينيومالــي
لا أراه أتانــي = زائرا مذ ليالــي
لو رآني صديقي=رقَّ لي أو رثى لي
أو يراني عدوّي = لان من سوءِ حالي

الأنموذج الثالث :
همُّ القاضي بيتٌ يُطرِبْ
قال القاضي لمّا عوتبْ
ما في الدنيا إلا مُذنبْ
هذا عذرُ القاضي واقلِبْ
ـــــــــــــــ
ولكم التقدير

لو بحثنا عن النماذج الشعرية التي كتبها أبو العتاهية والتي وُصفت بأنها تشكِّل خروجا على العروض، لوجدنا أنها كانت ثلاثة نماذج، وهي :
ـ النموذج الأول : ويتألف من بيتين هما :
همُّ القاضي بيتٌ يُطرِبْ
قال القاضي لمّا عوتبْ
ما في الدنيا إلا مُذنبْ
هذا عذرُ القاضي واقلِبْ
ولمعرفة وزن هذين البيتين، نقوم بكتابتهما كتابة عروضية وتقطيعهما شعريا، وكالآتي:
هَمْمُ لـْ / ـقاضي / بيتنْ / يُطْرِبْ
فالُنْ / فالُنْ / فالُنْ / فالُنْ
قالَ لـْ / ـقاضي / لمْمَا / عوتِبْ
فالُنْ / فالُنْ / فالُنْ / فالُنْ
ما فِدْ / دنيا / إلْلا / مُذنِبْ
فالُنْ / فالُنْ / فالُنْ / فالُنْ
هاذا / عذرُ لـْ / ـقاضي / وَقْلِبْ
فالُنْ / فالُنْ / فالُنْ / فالُنْ
اذا فان البيتين من (المتدارك)، وقد أُصيبت جميع تفاعيلــــهما بـ (التشعيث)، وهو حذف أول الوتد المجموع، فتصبح (فاعلن) بعد التشعيث (فالن) .
وقد ذكر الدكتور صفاء خلوصي في كتابه (فن التقطيع الشعري والقافية) هذين البيتين عندما كان يتناول بحر (المتدارك) وقام بتقطيعهما، مبيِّنا أنهما من النوع الأول من (المتدارك) وقد شُعثت تفاعيله كلها، وأن هذا الوزن يُسمّى بـ (ضرب الناقوس) أو (دق الناقوس) أو(قطر الميزاب)، موضحا أن المقصود بالشطر الأخير من البيت الثاني هو أن لفظة(عذر) تصبح بعد القلب والتصحيف (غدر)، ومضيفا : (لم يكن هذا الوزن معروفا من قبل، وقد اخترعه أبو العتاهية، فأخـــــــذ عنه) .
ونتوقف هنا لنشير إلى حقيقة مهمة هي أن بحر (المتدارك) لم يُعرف إلا في العصر العباسي، على يد شاعرين هما :
الأول ـ أبو العتاهية، الذي استخدمه في كتابة البيتين اللذين تناولناهما، ولم يكتب غيرهما .
والثاني ـ الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت175هـ)، واضع علم العروض، الذي استخدمه في كتابة نتفة (بيتين) وقطعة من ثلاثة أبيات، أي أن مجموع ما كتبه كان خمسة أبيات فقط، أما النتفة فهي :
سُئلوا قأبَوا فلقد بخلوا
فلبئس لعمركَ ما فعلوا
أبكَيْتَ على طلل ٍ طربا
فشجاكَ وأحزنكَ الطَّللُ
وأما القطعة فهي :
هذا عمرٌو يستعفي من
زيدٍ عند الفضل القاضي
فانهوا عمرا إني أخشى
صولَ الليثِ العادي الماضي
ليس المرءُ الحامي أنفا
مثل المرءِ الضيمِ الراضي
ـ النموذج الثاني : ويتألف من أربعة أبيات هي :
عتبَ ما للخيـالِ خبِّريني ومالــي
لا أراهُ أتانــي زائرا مذ ليــالي
لو رآني صديقي رقَّ لي أو رثى لي
أو يراني عدوّي لان من سوءِ حالي
ولو قمنا بكتابة هذه الأبيات كتابة عروضية وأجرينا التقطيع الشعري لها، فإننا سنتوصل إلى ما يأتي :
عتبَ ماللـ / خيالي خَبْبِريني / ومالـي
فاعلاتنْ / مُتَفعِلْ فاعلاتنْ / مُتَفعِلْ
لا أراهو / أتانـي زائرن / مذ ليالـي
فاعلاتنْ / مُتَفعِلْ فاعلاتنْ / مُتَفعِلْ
لو رأأني / صديقي رقْقَ لي أو/رثى لي
فاعلاتنْ / مُتَفعِلْ فاعلاتنْ / مُتَفعِلْ
أو يراني/عدوْوِي لانَ من سُوْ/ءِ حالي
اذا فان وزن هذه الأبيات هو :
فاعلاتنْ مُتَفعِلْ فاعلاتنْ مُتَفعِلْ
وهذا هو مجزوء الخفيف، وقد جاءت العروض فيه مخبونة مقصورة وكذلك الضرب، والخبن هو حذف الساكن الثاني (أي أن مستفعلن تصبح : مُتَفْعِلُنْ)، أما القصر فهو إسقاط ثاني السبب الخفيف الأخير وتسكين ما قبله (أي أن مستفعلن تصبح : مستفعلْ)، وعندما تكون (مستفعلن) مخبونة ومقصورة، فإنها تصبح (مُتَفعِلْ) .
والأبيات الأربعة هذه جاءت جميعها في (الموسوعة الشعرية/3)، التي بيَّنت أن وزنها هو (مجزوء الخفيف) من غير الدخول في التفاصيل التي دخلنا فيها .
ولو عدنا إلى هذه الأبيات، لوجدنا أننا بإمكاننا تقطيعها شعريا بطريقة ثانية، وكما يأتي :
عتبَ ما / للخيالي خبْبِريـ / ـني ومالي
فاعلن / فاعلاتن فاعلن / فاعلاتن
لا أرا / هو أتاني زائرن / مذ ليالي
فاعلن / فاعلاتن فاعلن / فاعلاتن
لو رأأ / ني صديقي رقْقَ لي / أو رثى لي
فاعلن / فاعلاتن فاعلن / فاعلاتن
أو يرا/ ني عدوْوِي لانَ من / سوءِ حالي
فاعلن / فاعلاتن فاعلن / فاعلاتن
وهذا يعني أن وزن هذه الأبيات هو (مشطور الممتد)، و(الممتد) من البحور المهملة، وأصله :
(فاعلن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن) في صدر البيت ومثلها في عجزه .
ـ النموذج الثالث : ويتألف من بيتين هما :
للمنونِ دائرا تٌ يُدِرْنَ صرفَها
هنَّ ينتَقيننـا واحدا فواحـدا
ولو قمنا بكتابة هذين البيتين كتابة عروضية وقطَّعناهما عروضيا، لتوصلنا إلى ما يأتي :
للمنونِ / دائـرا تن يُدِرْنَ / صرفها
فاعلاتُ/فاعلـن فاعلاتُ / فاعلن
هُنْنَ يَنْتَـ/ـقيننا واحدَنْ فَـ/ـواحدَنْ
فاعلاتُ / فاعلنْ فاعلاتُ / فاعلنْ
اذا فان وزن البيتين السابقين هو (مجزوء الرمل)، وقد جاءت عروضه محذوفة وضربه محذوفا أيضا، والحذف هو : إسقاط السبب الخفيف الأخير من التفعيلة (فتصبح تفعيلة فاعلاتن بعد الحذف فاعلا).
ولو نظرنا إلى البيتين السابقين نظرة تدقيق وتمحيص، لوجدنا أن قافية البيت الأول تختلف عن قافية البيت الثاني، فقافية البيت الأول هي (الفاء) المتصلة بهاء الوصل وألف الخروج (صرفها)، أما قافية البيت الثاني فهي (الدال) المتصلة بحرف الوصل وهو الألف (فواحدا)، وهذا يعنـي دون أدنى شك، أن البيتين لا يمكن أن يردا متتابعين، بسبب الاختلاف في القافية، أي أنهما لا يشكِّلان (نتفة)، بل هما بيتان مفردان، وحسنا فعلت (الموسوعة الشعرية/3) حين عاملتهما على أساس أن كلا منهما بيت مفرد لا علاقة له بالبيت الآخر، يجمعهما الوزن الواحد وتفرِّق بينهما القافية المختلفة لكل منهما .
الإستنتاجات
يمكن من مجمل ما تقدَّم، الخروج بالإستنتاجات الآتية :
1 . إن أبا العتاهية لم يخرج على العروض العربي، فجميع الأبيات الشعرية التي قيل عنه إنه خرج فيها على العروض كانت ملتزمة بالعروض الخليلي، ولم تحد عنه قيد أنملة، كما أثبتنا ذلك تفصيليا من خلال الكتابة العروضية لتلك الأبيات، والتقطيع الشعري لها، ثم التوصل إلى أوزانها التي هي أوزان خليلية لا غبار عليها .
2 . إن الأبيات التي كتبها أبو العتاهية والتي قيل عنه بسببها إنه خرج على العروض العربي، هي، كما رأينا، ليست سوى ثمانية أبيات، وهذه الأبيات القليلة لا تشكِّل سوى ما نسبته (14ر0 %) من المجموع الكلي للأبيات الشعرية التي كتبها أبو العتاهية، والتي ذكرنا أنها تبلغ(5556) بيتا، إذن فان تهويلا كبيرا قد شاب هذا الموضوع دون رويَّة .
3 . كان من الطبيعي أن يُتَّهم أبو العتاهية بالخروج على العروض حين كتب بيتين من الشعر باســـــــتخدام بحر (المتدارك)، وذلك لأن هذا البحر لم يكـــــــــن معروفا في العصر العباسي، وهكـــــــذا تحوَّل من أبدع في العروض إلى خارج عليه، لسبب بسيط هو أن المتَّهِمين يظنون أن كل من يكتب الشعر على وزن لم يكــــــــن قد استخدمه أحد من قبل هو خارج على العروض العربي .
4 . إن العروضيين لم يقوموا بواجبهم في التحقيق والتدقيق في الاتهام الذي وُجِّه إلى أبي العتاهية، من أجل التوصل إلى الحقيقة ووضع النقاط على الحروف، أما النقاد فظلوا يكرِّرون ما قاله السابقون دون تمحيص، وهكذا مرت قرون وقرون ظلت فيها تهمة الخروج على العروض تلاحق أبا العتاهية دون رحمة .
(عن بحث في نقد العروض لمجلة ألف ياء الاليكترونية )

هذه مناروات للشعراء الكبار ..فالتقطيع هو من يفتح لنا افاق القصيد ويفصح عن المهارات
وسؤالي هل يجوز ماقام به وهل غدا بحرا فعلا بعد ذلك؟