نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
الضحك المالح .. السخرية المسلّحة!
عندما قرأت ما كتبه جورج لوكاتش لاول مرة حول السخرية كسلاح ومقاومة يتم من خلالها تسفيه الخصم، وانا أبحث في الكوميديا والكاريكاتور ومجمل الكتابات الساخرة عن ذلك البعد التراجيدي المختفي وراء الابتسامة تماما كما ترشح الدمعة احيانا من الضحك، فيكون مذاقه مرّا كما قال هنري برغسون في كتابه الشهير عن الضحك!
وبأبسط التحليلات فإن ما يزيد عن حدّه ينقلب الي ضدّه كما قال العرب، وهكذا يصبح شر البلية مضحكا، وتصطبغ الكوميديا باللون الأسود عندما تكون قد لامست أقصي التراجيديا، وهذا ما عبّر عنه فاليري حين قال ان الاغبياء فقط هم من يقيمون عازلا بين الضحك والبكاء وبالتالي بين الجد والهزل.
وقد يكون أهم ما أتيح لي ان اقرأه في هذا السياق، حوارا أجراه فيليب روث مع ميلان كونديرا، حول كتاب هذا الاخير بعنوان (الضحك والنسيان)، وكونديرا الوريث الشرعي لفرانز كافكا، حاول ان يعثر علي معادلات واقعية لكوابيس كافكا، وتقصّي في أكثر من محاولة حيوات ومصائر شخوص ظنّ الناس ان كافكا اخترعهم في رواياته، ولعلّ ما كتبه كونديرا خارج رواياته ينافس فنّه الروائي في القيمة، علي الأقل ما يتعلق بالكشوف السايكولوجية، ونقد التوتاليتارية، وقد تكون مقالته الشهيرة عن كثافة السلطة وشفافية الفرد مفتاحا ذهبيا يفتض قفلا شبه اسطوري علي باب قلعة تعجّ بالاشباح، فالفرد في عصرنا منتهك حتي النخاع، ومطلوب منه ان يعترف بكل ما يدور في رأسه ومقابل ذلك فإن الدولة تعلو اسوارها، وتتضاعف الظلمة في أروقتها ومن خلال هذه المفارقة اندفع الانسان المعاصر الي ذروة الاغتراب.
لقد كان كونديرا بسبب تجربته وفائض المرارات لديه الاكثر تفهما للمرح، او فلسفة الضحك، يقول كونديرا انه تعلّم قيمة المرح خلال الفترة الستالينية، يومها كان في العشرين من عمره، وكان يستطيع ان يميّزالستاليني عن غيره من خلال الطريقة في الابتسام، لهذا يضيف بأنه منذ صباه وهو يخاف من عالم يختفي منه المرح، لأن دلالة ذلك هي فقدان البراءة، وتحول الريبة الي مناخ مفعم بالكراهية يفسد رئات الناس ويغمر شفاههم باللون الاصفر!
ان اول سؤال توجه به فيليب روث الي كونديرا هو سؤال قديم قدم الثقافة ذاتها وهو: هل تعتقد ان نهاية العالم باتت وشيكة ؟ وتكون الاجابة ايضا قديمة، لكن كونديرا يعيد انتاجها وفق تراث من الشكّ وعدم التسليم بالبدهيات، لهذا يقول ان أهم ما في السؤال هو كلمة وشيكة....
فهل هي غدا او بعد غد او بعد عام؟ نعرف انه ما من ثقافة او حضارة في التاريخ سواء عبرت بالاساطير او المفاهيم الا وكان لنهاية العالم حصة فيها.
ألاديان أنذرت بمثل هذه النهاية لكنها أضافت القيامة، والاسطورة اشترطت لمن يهبط الي العالم السفلي عودة ظافرة، وقد تكون اسطورة رجل بامفيليا عند افلاطون مثالا مبكرا عن العصيان ضد الفناء، لأن رجل بامفيليا المحارب الباسل الذي مات دفاعا عن مدينته احتفظ بعافيته الجسدية بعد الموت، وكأن قيامته كانت توأمه الذي ولد معه واقتسم معه المهد والتابوت!
ما كان لكونديرا ان يحتكم الي المرح والابتسامة لقياس منسوب الحرية في مجتمع ما - بدءا من الحقبة الستالينية - لولا انه تجرع الكأس حتي الثمالة، والمشاهد التي يصفها تشبه الي حدّ كبير المشاهد المبكية المضحكة التي وصفها الشاعر الروسي يفتشنكو في سيرته بعنوان (شاعر في الثلاثين)!!
ومن عاشوا طفولات مترعة بالخوف والريبة لا بد ان تنمو معهم تلك الاشباح حتي الشيخوخة بحيث لا تكتمل ضحكتهم، لأن ذيلها مبلول بالدمع او مبتورة. من هنا نستطيع ان نفهم الموقف الشعبي في ثقافتنا من الافراط في الضحك، فالناس توارثوا عن اسلافهم الاستعاذة بالله من شيطان الضحك، وغالبا ما تدمع أعينهم وهم يضحكون ثم يمسحون الدّمع يطلبون من الله الستر في اليوم التالي...
وما كان لمثل هذا التقليد الشعبي ان يستمر قرونا في الذاكرة واللاوعي الجمعي لولا ان هناك أزمنة بالغة القسوة عاشها الأسلاف عندما كانوا يخافون احيانا من ظلالهم او يتخيلون للجدران آذانا تشي بهم لدي السلطة الغاشمة!
والشعرة الفاصلة بين السخرية من الاخر المتسلط والسخرية من الذات هي ان النوع الثاني من السخرية يعبر عن تورط سايكولوجي بحالة من الماسوشية، حيث يصبح التلذذ بالألم واستمراؤه البديل للمقاومة، وتزدهر مثل هذه الحالات في عهود سوداء تحرم فيها الضحية حتي من الانين، وما يسمي كظم الغيظ في أدبيات تاريخنا العربي هو الاسم المخفف للامتثالية، والخنوع والتأقلم مع الطاريء بدلا من مقاومته.
يقول كونديرا ان الانسان يستخدم المظاهر الجسدية ذاتها للتعبير عن سلوكين مختلفين، تسقط قبّعة أحدهم علي تابوت فتفقد الجنازة معناها ويولد الضحك، ويركض عاشقان في حديقة وهما متماسكا الأيدي ويضحكان ضحكا لا علاقة له بالنكات او حتي المزاح، انه ضحك جديّ وهو ضحك الملائكة للتعبير عن سعادة الوجود.....
مقابل هذا الضحك الملائكي لا بد ان الشياطين تضحك ايضا، لكن ليس تعبيرا عن فرح الوجود بقدر ما هو الخوف منه وما يخفيه القدر، وهذا ما يضيف تفسيرا آخر الي استعاذة العرب من شيطان الضحك، فهم ما ان يفرطوا قليلا في الفرح حتي يعتذروا!
ولكي لا تبدو الظاهرة مقتصرة علي العرب، ثمة امثلة من مختلف الثقافات تكرس المعني السائد حول كون الفرح عابرا والحزن مقيما، وهذا ما دفع احد المؤرخين الي القول بأن الكوميديا الالهية لدانتي اعطت الجحيم أضعاف ما اعطت للفردوس، حتي من حيث الحجم وعدد الصفحات لأن الفرح ضيف خفيف، بينما يتحول الحزن وما يقترن به من الغياب والفقدان الي ضيف ثقيل ومقيم!
ان فرح الوجود هذا الذي يتحدّث عنه كونديرا سبق للفيلسوف هنري برغسون ان سمّاه الفرح الالهي، وهو اللحظة التي تتقطر فيها كثافة الوجود وينبت فيها للبشري جناحان ويوشك ان ينعتق من جاذبية التراب!
وقد جرّب باحثون في عدة بلدان الكشف عن المزاج السياسي السائد من خلال دراسة النكتة، فهي عيّنة كافية لمثل هذا الاستقراء ومن المعروف انها تزدهر في مجتمعات تشح فيها حرية التعبير، تماما كما تزدهر الكتابات التي تستنطق الحيوان والطير في مجتمعات تعاني من جملة مكبوتات نفسية واجتماعية وجسدية، رغم ان مثل هذه الحيلة قد لا تنجح دائما ويدفع من يلوذ بها الثمن كما حدث لابن المقفع الذي شوي علي النار كالخراف!
لأن هناك علي الدوام وشاة محترفين حولوا الوشاية الي نمط انتاج ومصدر رزق، فلا تفوتهم شاردة أو واردة، ويكفي ان نتذكر بأن معلما عربيا في زمن التتريك دفع حياته ثمنا لوشاية، حين فسّر أحد العسس استخدامه لرمزH2O في حصة الكيمياء علي انه حميد الثاني هو مجرّد صفر!
ما قاله جورج لوكاتش عن السخرية كسلاح مقاوم يشمل فن الكاريكاتور والنكتة السياسية المتداولة علي نطاق شعبي، ففي الحالتين يتم تسفيه الامبراطور من خلال اكتشاف عريه وقد لا تتطلب مثل هذه المهمة غير طفل ذكي كالذي ابتكره اندرسون في حكايته الشهيرة، ولا أظن ان مقاومة في التاريخ خلت من مثل هذه السخرية وهذا التسفيه لمن أوهمتهم نرجسياتهم بأنهم معصومون وخالدون.
وثمة مشاهد ترد في رواية الغثيان لسارتر تصل فيها الســـــــخرية المقـــــاومة ذروتها، فمن يسميهم سارتر بورجوازيي مدينة بوفيل هم مجرد مســــوخ ذات اقنعة مزخرفة، وقد لا يختلفون في لحظة الحقيقة عن تلك البرمائيات التي تلعق احشاء بعضها علي الشاطيء تحت سماء مشمسة!!
يروي كونديرا ذكريات النّفي والاستباحة في ربيع براغ عام 1968 ويقول انه كان سيســــخر من أي كائن يقـــول له في صباه انه سيصـــــــحو ذات يوم من النوم ليجـــــد أمته محذوفة.
بعد ما يقارب نصف قرن من تلك الايام، يصحو اناس كثيرون من النوم فلا يجدون اعلام بلادهم مرفوعة، ومنهم من يصحو فيسمع لغة أخري يرطن بها الغزاة... لكن هؤلاء لايفرحون ولا يسخرون ولا يحزنون، لأنهم ليسوا ملائكة وليسوا شياطين، انهم مجرد امعاء تسعي!!
عن مدونة:
الاسم: سريب - أحمد الفيتوري
البلد: ليبيا