يهودي ولو طار

سوسن البرغوتي

يبدو أن نشاط جمعية ناطوري كارتا المعلن، والمتمثل بمعاداة الصهيونية ودعوة بعض الفلسطينيين كخيار بديل للتعايش السلمي مع اليهود -غير الصهاينة- في دولة ديموقراطية، دعوات مغلّفة بكثير من الغموض، فلا توضيح ماهية تلك الدولة، ولا من يملك القرار والحكم.

تتناغم تلك الدعوة من الطرفين، بادعاء أن الفلسطينيين ليسوا ضد اليهود، وأن التعاليم التوراتية التي يؤمن بها اليهود الأرثوذكسيون، تحرم قيام دولة يهودية، في حين أن كل ما مرت به اليهودية عبر التاريخ في صراعهم المستديم مع "الأغيار" ينافي ذلك الادعاء. فقد ورد في أسفار التاريخ :

ـ اليهود أقاموا عدة ممالك لهم عبر التاريخ، ولم تكن مسالمة على الإطلاق، إنما بالتدمير والقتل والسطو على ممتلكات قبائل عربية.. فمن قصة دينا وأخواتها الذين أبادوا قرية فلسطينية عن بكرة أبيها، لأن أختهم اليهودية أحبت شاباً فلسطينياً،إلى ما جاء في نصوص التوراة، فقد أحرق أسباط اليهود القدس "وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوها بحد السيف وأشعلوا النار في المدينة".(سفر القضاة).
ناهيك عن قتلهم للصالحين ونقضهم لعقود الهدن المبرمة مع الأنبياء، إذن أين هو التعايش السلمي لليهود، في الوقت الذي لم تقم ممالكهم يوماً إلا بحد السيف؟. هذه حقيقة وهذا سلوكهم، وما زالوا يفتكون ويدمرون ويقتلون، وكما ورد في القرآن الكريم (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) صدق الله العظيم.

ـ قول جمعية ناطوري كارتا، أن العالم الإسلامي كان ملاذا لليهود الهاربين من إسبانيا بعد سقوطها، فقد قامت دولة "فيرناند وايزبيلا" على نسق العنصرية الهتلرية، والتعصب للدين الواحد، ولهذا لجؤوا إلى العالم الإسلامي، لمَ عُرف عن حضارة وثقافة الدين الإسلامي من التسامح مع أهل الذمة.

ـ (وبالرجوع إلى التوراة.. يحظّر على اليهود أن تكون لهم دولة، واليهود هم في المنفى بالنص الإلهي المرسوم). اليهودية ديانة وليست قومية، فهل يحق لمسلمي أمريكا مثلاً أن يقيموا دولة إسلامية في أمريكا، وهل يحق لمسيحي العالم أن يقيموا دولة في بيت لحم أو في الناصرة، فلماذا يجري الخلط بين حقوق المواطنة وبين إنشاء دول؟..
ليس المطلوب منهم أن يعادوا الدول التي وُلدوا وأقاموا فيها، بل الأجدى أن ينخرطوا في تلك المجتمعات، والتعامل مع الآخرين على أساس احترام حقوق المواطنة، وتقديم الولاء والوفاء للوطن وليس للدين اليهودي. لكن الواقع يثبت أنهم لا يتدخلون فقط في الحياة السياسية لتلك البلدان، بل يهيمنون على اقتصاده وإعلامه، ثم يجيرونه لحسابات الهيمنة على العالم كيهود أولاً وأخيراً.

ـ (إسرائيل دولة صهيونية تقوّض الحياة اليهودية الحقيقية)، ألم تكن تلك الحياة عبر التاريخ منعزلة واستعلائية كونهم يزعمون أنهم "شعب الله المختار"؟، أم أن تلك الدعوات لتجميل الصورة اليهودية، ولأن "إسرائيل" في عد تنازلي مع زوالها، بعد أن تعدت حدود المحتل بوحشية منقطعة النظير، وبعد أن فاقت صورة همجية الجيش "الإسرائيلي" وهو من الشعب اليهودي كل الحدود وذلك بتشجيع وتوصيات وفتاوى حاخامتهم بالمجازر الجماعية، فإقامة الحصار وسياسة التجويع والمجازر الجماعية للفلسطينيين من دير ياسين إلى مذابح غزة دليل أحداث ووقائع.
وحتى قبل احتلال فلسطين من قبل عصابات الهاجانا، كان اليهود منعزلين في قرى وأحياء خاصة بهم، ولم يندمجوا في المجتمع الفلسطيني ولا بغيره، وهجرة الكثيرين منهم بعد الاحتلال إلى فلسطين، أكبر دليل على ترسيخ فكرة أرض الميعاد وأهمية تجمعهم في دولة، قوامها وعمادها الحرب واستباحة حقوق هذا الغير.

ـ "المحرقة" وما جاء على لسان ديفد وايز، الناطق الرسمي باسم جماعة ناطوري كارتا في حوار له ببرنامج بلا الحدود على قناة الجزيرة، لم ينفِ حدوثها، إنما ذكر أن الصهاينة يستخدمون "المحرقة" لإظهار العداء ضد اليهود. إن كان هذا البند تحديداً قابل للمراجعة التاريخية، فلماذا لا يعترفون بحقائق ودراسات قُدمت من باحثين عرب وغربيين، تدحض حدوث "المحرقة"، وأن اليهود كانوا مواطنين لتلك الدول التي تعرضت للحملات العسكرية الهتلرية؟!.

ـ الهيكل المزعوم والطقوس المقامة على حائط البراق، على زعم أنه حائط المبكى، ينقرونه كالديكة، ويذرفون الدموع على ضياع هيكلهم، فمن هم هؤلاء؟، وهل هذه هي طريقة لتعبد الخالق الواحد، على خلفيات تعاليم توارتية!، ألا يثبت ذلك إصرارهم على حقهم بالأرض حول الهيكل المزعوم؟!.

ـ التفريق بين الساميين والحاميين، فصل بين أبناء وسلالات النبي نوح عليه السلام .
لقد نكّل أحبار اليهود بالسيد المسيح نبيّ المحبة والتسامح وهو من بني اسرائيل، ألم يكن السيد المسيح ساميّاً؟. أم أن السامية بمفهومهم ليست أكثر من مدخل للتفوق والتمييز على خلفية دينية بحتة.

لنتجاهل كل ذلك، ونطرح أسئلة نمسك بأجوبة يمكن أن تصل بنا إلى قناعة ما.. فهل الدعاء والصلاة فقط تعاليم الخالق لتعمير الأرض؟، وهل قام الكيان الصهيوني الاستيطاني أصلاً بالطرق السلمية، لتُعاد كل فلسطين إلى أهلها بالوسيلة ذاتها، وما هو الحل العملي وليس الشجب والاستنكار، لتقويض واندحار مشروع الصهيونية العالمية؟، فالقصف لم ولن يوقفه التظاهر السلمي.

إن تلك الحجج المقدمة من طرفهم، تهدف إلى ضرورة حوار الأديان وليست أكثر من وسيلة لتلميع صورة اليهود، كخيار بديل عن فشل "حل الدولتين" من خلال برنامج سياسي يبدو سلمياً، ويدعو إلى التعايش مع الفلسطينيين..
هذا التجديف وبعد ستين عام من التشريد والتهام الأرض الفلسطينية وإقامة مستوطنات ومدن وقرى على أنقاض الأصلية الفلسطينية، وبعد أن طالت أذرع الأخطبوط استباحة أراضي ودماء الشعب العراقي واللبناني، والحبل على الجرار، ثبت غير ذلك تماماً، وكل ذلك الادعاء يقود إلى نتيجة واحدة ووسيلة للالتفاف بشكل واضح ومكشوف لفتح قنوات اتصال مع حركات وأحزاب إسلامية، وتجاهل جذر السبب للكراهية التي انتشرت واجتاحت العالم، فالعقيدة اليهودية السائدة هي جوهر المشكلة وليست حلاً لها.
المطلوب ممن يدعي الفصل بين اليهود والصهيونية مراجعة دقيقة للديانة اليهودية، والعودة إلى الشريعة السماوية والأحكام الإلهية، ومما لا شك فيه أن هذا سيستغرق وقتاً طويلاً، إذ من الصعوبة بمكان أن يتجاهل العالم تلك الطرق والأحكام التي تشكلت بموجبها ملامح الصهيونية ـ الصليبية الاستعمارية منذ دمج التوراة مع الإنجيل المحرفين، واعتمادهما كتاب واحد، بعهده القديم والجديد.
لا يسعنا ونحن في انتظار تحقيق ذلك والعودة إلى طريق الاستقامة والتوبة إلا أن نقول: " يهودي ولو طار" على غرار المثل العربي القائل "عنزة ولو طارت".