نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي




يوم في حياة نافذة دمشقية
اليوم:السبت الموافق 20-5 - 2006
المكان: دمشق
الموقع:شقة في الدور السابع من بناية في حي راق
السابعة صباحا ولا مزيد من التصريحات ، باختصار أنا عاشقة!لا ترفعوا حواجبكم استنكارا ، أنا نافذة عاشقة ، ولن تلوموني أبدا لو بحت لكم باسم الذي أهوى!
منذ عشر من السنوات وأنا أفتح صباحا في مثل هذا الوقت ، لأجده أمامي كل يوم. كنت صغيرة وكان كبيرا،كبرت وظل كبيرا.
تحنو الغيمة على القمة البتول وتحيطها بوداعة ندية ، فتلتمع شجيرات اصطفت حول أعلى القمة بانتظام ، متحاذية كالحرس يقدم نوبة الصباح ، أو هي كالخاتم في إصبع العروس.. وترتشف التربة ذات اللون الأصفر الصلصالي قهوة الصباح قطرات شفافة هي خلاصة الغيمة الصباحية ، التي تتدلى أطرافها ذؤابات تتسلل منحدرة مع السفح لتطبع قبلا مضمخة بالندى على أسطح البيوت الأسمنتية المتواضعة ، وجدرانها ونوافذها وأبوابها العتيقة ، وعلى بقايا دراجة هنا ، وقطعة معدن كانت جزءأ من آلة اندثرت وبقيت هذه شاهدا على أنها كانت هنا.... هذه البيوت الهاجعة بأمان في صدره لم يلفظها يوما، ولم يعيِرها بلونها الكابي ، ولا بسقوفهاالمتصدعة وحيطانهاالمتشققة، ونوافذها المخلعة ، بل على العكس تماما ، كلما مشى عليها الوقت حنى عليها المكان ومد شرايينه أعمق في عروقها ليبعث فيها دفأوجمالا يتسربان إلى أرواح ساكنيها ، فتضج بالحياة ويبرق زجاج نوافذها تحت وابل الأشعة الصباحية الباردة.
تشرئب الأغصان المتسلقة صعودا هنا وهناك بفعل نسيمات الصباح الندية .. هاهم سكان هذه البيوت يحسون الحرارة تملأ قلوبهم فيهرعون بين حين وآخر لطلاء جزء من حائط بالأزرق ليوحي بالماء ، وجانب من واجهة شبه متهدمة بالأصفر للتحايل على ضعفها وبعث الحيوية فيها .أما خزانات المياه المتناثرة فوق الأسطح فقد تخلت طوعا عن لون المعدن البارد واتخذت لنفسها لونا أحمر متعدد الدرجات لتحيي موات الإسمنت .
تمر الساعة في إثر الساعة ، وأنا أتأمل . ولا أخفي عليكم ما ينتابني من مشاعر الغيرة أحيانا ، لأنني لا أتمتع بالحياة في كنف ذلك الشامخ العنيد...ها هم الأطفال في زيهم المدرسي يتراكضون إلى مدارسهم وهم يزقزقون ، وها هي أصوات الباعة اسمعها تنطق بلغة لا افهمها ولكن موسيقاها التي تشبه الجوقة تسبب لي قشعريرة لذيذة ، وتكاد تتسرب من هذه الأصوات كلمات نعرفها مثل الله ،وبابا ربما .. للتدليل على بضاعتهم،أو لتنبيه السكان أن سياراتهم المحملة بالخضروات والفاكهة قد بدأت رحلتها بين الطرق الضيقة التي تزنِر البيوت ، أو لمناداة القابعين في أماكن لا تصل إليها سياراتهم كي يهبطوا مع السلالم التي تتدلى من عل كما الحلي في عنق امرأة فاتنة.
ربما أكون قد أسهبت إلا أن هذا هو ما أريد قوله لكم ولم يبق إلا القليل . وها أنا أرقب رحلة الضوء النهارية -ما زلت - ويأخذ انهمار ضوء الشمس مسارات مختلفة وانكسارات متنوعة .. وتصب الانهمارات على البيوت من الخارج ، وما أن تصل إلى زجاج النوافذ حتى تومض بسرعة خاطفة كما آلة التصوير ، ثم تنعكس عن الزجاج إلى ما يحيطه فتتشكل مساحات هندسية وخطوط وملامس غامقة متدرجة نحو الأسود في فتحات النوافذ والأبواب المفتوحة وتلك المواربة.وبمرور الوقت تتطاول الظلال وتمتد وتخف حدتها وأنا أرقب وهو لا يراني! ولكن كيف له أن ينتبه لوجودي وأنا لست إلا نافذة في غابة من النوافذ التي تواجهه كل يوم؟
يراودني النعاس أحيانا فأصطفق على نفسي ثم أنتفض لأفتح من جديد فأتشرب المشهد كله في عيني دفعة واحدة لأنني لا أريد لأي من التفصيلات الكبيرة أو الصغيرة أن تنسل خارج وعيي وصبوتي.لقد أحببت كل ما هو أمامي ثابتا أو متحركا ( لأن من أحبه يحبه كثيرا )، وشكرا لشاعر انتمى لحب هذا المكان عمره ، فهو من أعارني هذه الجملة المحصورة بين قوسين.
النهار يمضي متسارعا الآن وتتناقص أرقام الساعة باتجاهه مع تزايد باتجاه المساء! الباعة يذهبون ، أصوات الأذان تسمع بشكل أقوى وأجمل بتدخل اللكنة الأخرى !( هو لا يميز ) ، وها هي أسراب اليمام تحلق مصفقة بأجنحتها تحط لتطير كفرقة دبكة شعبية .وها بعض يمامات تنفصل عن السرب وتقترب من حافتي عساها تجد بقايا حـبٍ نسيته العصافير.
الآن تبدأ الألوان بالاختفاء التدريجي .. لم يعد الأحمر أحمر ولا الأصفر أصفر ، والأبيض يتحول الى الرمادي ، أما الأخضر فهو حالة خاصة ، إنه الأسرع في الاختفاء بتحوله إلى الأسود بدرجاته ، مع انحسار الضوء، مما يضفي على المشهد لمسة من التباين في غيــــاب الضوء .
هي ذي اللحظة الفاصلة ، نقطة التحول ، وها هو الضوء ينبعث ولكن هذه المرة من داخل الأشياء ، واللوحة الجديدة تبدأ بالتشكل تدريجيا مع اختفاء كامل للألوان ، وأرى تسرب الضوء من النوافذ المفتوحة ومن شقوق الأبواب ، ضوء أصفر هنا ، وأزرق هناك، وها بعضها أضواء نابضة بإيقاع منتظم وشيئا فشيئا تحتدم المنافسة أي نافذة ستضيء أكثر وأجمل؟
ها هو يقف وارفا حارسا دون نوم كعادته والقمة معتمة إلا من خيوط ضوئية صاعدة هذه المرة لتوفر له راحة أكثر .. بينما تمور الحياة ويلتمع الضوء في أحضانه .. سيظل قاسيون ما بقي الكون شامخا منسوجا بالكبرياء مفعما بالحياة.






حنان



حنان
كان وهجا مبهما يسكن حسي
فتناهى العطر فواحا بنفسي
هو ذا يدنو كضوء للصباح
حينها أعدو ، أيمم شطر أمسي




نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


اغنيىة من قاسيون
http://www.syrianhistory.com/qasiyun.rm