كيف تولد القصيدة .. وكيف يمسك الشعراء بجني الشعر الهائم .. في عبقر .. ??



ثقافة
الخميس 31/1/2008
مانيا معروف

لطالما أرقني هذا السؤال .. كيف تولد القصيدة??

كيف يكتب الشاعر قصيدته .. هل تولد من حالة أرق أم حالة صحوة..??‏

وهل يملك الشاعر ما لا يملكه الآخرون.. سحر ما .. نبوءة شعرية.. أم غرف من نبع الحب و الحكمة والخير.. وهل راوده الرحيل مراراً الى وادي عبقر.. ذاك الوادي السحري. ليأتي بجني شعره..‏

الشعر هذا المارد العظيم.. الذي لايخرجه من قمقمه إلا شاعر سندباد يجوب الآفاق.. بحثاً عن الصورة الجميلة. والكلمة التي تخلد أبدا.. بدءاً من شعراء أوغاريت.. مروراً بماري.. وجلجامش في ملحمته الرائعة.. الى الشعراء الجاهليين.. والكثير .. الكثير من الشعر.. فلو سألنا أولئك الشعراء الاقدمين..كيف تولد القصيدة.. ترى كيف سيكون جوابهم.. وهل سيؤرقهم السؤال كما أرقني هل سيقفون عنده بدهشة من يكتب القصيدة للمرة الاولى.. أم سيجيبون كما أجاب شعراؤنا .. على هذا السؤال..‏

سليمان العيسى:‏

تشبه ولادة الطفل‏

أنا منذ حوالي ثلاثين أو أربعين سنة كتبت قصيدة بعنوان (مولد قصيدة) وحاولت فيها القول (كيف تولد القصيدة?) برأيي أنا قد تكون لكل شاعر تجربة خاصة تختلف قليلاً أو كثيراً عن غيره من الشعراء أما المناسبة التي أوحت لي بكتابة (مولد قصيدة) كنت في زيارة أحد أصدقائي في حلب وخلال الدعوة.. سألتني ابنة صديقي وهي تقدم لي القهوة..‏

كيف تكتب قصيدتك.. وأجبتها أن هذا السؤال صعب وعميق جداً.. ولن أجيبك الآن.. سأنتظر وأفكر برد شعري.. ومن هنا أتت فكرة كتابة (مولد القصيدة).لا أعرف كيف تولد القصيدة بالضبط..?? هل تحتاج القصيدة لفكرة.. ?‏

المشاعر و العواطف تتجمع في اللاشعور .. أحيانا تكون هناك فكرة صغيرة تلح علي وهذه الفكرة أطردها .. ولكن تعاود إلحاحها حتى أكتبها .. وعندما أكتبها وأنتهي أشعر بالارتياح .. انشغالي بالقصيدة يسبب لي القلق.. عادة أكتب القصيدة في وقت قصير جداً.. ولكن تنقيحها وتبييضها يأخذ مني وقتاً أكثر من لحظة كتابتها . فأعيد النظر في كل كلمة.. أقدم بيتاً على آخر أغير كلمة لأخرى.‏

لا أرضى عن كل ما أكتبه إذا كيف تشبه ولادة القصيدة?‏

تشبه ولادتها .. ولادة الطفل تماماً أو الجنين, فالشاعر يكون قلقاً.. أرقاً تبقى القصيدة تأتي وتذهب .. تشاكس وتراوغ.. ملحة حتى أكتبها .. وأنا عندما أنتهي من كتابة قصيدة هامة أخرج بصداع الرأس.. فالشاعر يبحث عن الفكرة.. الكلمة.. المعنى.. الصورة .. الموسيقا الشعرية, لتكون القصيدة مكتملة.. كلمة واحدة تبقى لدقائق احياناً حتى اصطادها.. وتأتيني عشرين .. وثلاثين كلمة لأنتقي الأنسب.. كتابة القصيدة عمل متعب وأنا لا أرضى عن كل ما اكتبه.‏

أحاول دائماً ان أتي بالافضل..بالأجمل.. القصيدة متعبة لا تقل عن الولادة في مخاضها العسير.. الكتابة مسؤولية في كل كلمة.. هل الانثى أقدر على الاجابة.. (هل تلامس ولادة القصيدة ذاك الخيط الواهي بين الموت والحياة لحظة المخاض العسير) الذي يرتبط منذ الأزل بروح الأنثى وماخصها الإله به من جمال (الولادة) وآلامها.. كيف تكون الانثى الشاعرة تجاه قصيدتها الطفلة.. التي تولد من كل الانثى??‏

ابتسام الصمادي:‏

تقرع جرس الفؤاد‏

الشعر ثقافة تراكمية تنطلق في لحظة محفزة, لحظة توتر مدهشة, والشعر هو الامكانية العارمة التي تدفع غزلات الروح ان تهشل مع وجهها الى البراري البعيدة التي قلما وطئتها قدم او زارها مغامر .‏

يحدث ان تأتي القصيدة كما تريد, ولها فرص عديدة, لكنها في كل مرة تأتي مختلفة عما سبقتها .‏

لحظة ولادة القصيدة: أما الأدوات الشعرية فهي الحالة الواعية للشاعر.. تشبه البناء بتقنياته العديدة المعروفة منها والمغامرة.‏

ومن يعي اللعبة الشعرية بشكليها الواعي وغير الواعي يعرف ان الشغل الفني او الصنعة لا تخصم من مجاورة المادة الابداعية والشعرية بل تختلط الى حد التماهي حتى تصبح أكثر عمقاً من التعايش.‏

العابرون يرون قشرتها الخارجية, لكنك أنت الشاعر تعرف وغيرك لا يعرف.. من أية زهرة أخذت النحلة عسلها. ويبقى الشعر فيك على صلة حميمة مع هذه اللحظة حتى لا تذهب الى القريب أو المباشر.‏

من هنا نرى من ينظم ونرى من يقول الشعر, لكن المربع ا لاول يقع في ميدان الشحنة الشعرية العالية, اما لحظة ولادة القصيدة فتأتي من السيناريو الذي تطرق فيه القصيدة طويلاً عن بوابة روحك وانت لا تستجيب.. تتمشى جيئة وذهاباً ثم تطرق من جديد وأنت لا تستجيب تقرع جرس فؤادك فتتجاهل رنينه. .مراراً وتكراراً لا تكل القصيدة ولا تمل, وانت شاعر مشاكس مغرور, لكنها اكثر غروراً وعنادا..تصرخ ثم تضرب بكلتا يديها, تخلع دفتي عمقك وتخرج, وتبقى تضرب بك وانت تدافع عن نفسك , بفرح الطفولة, ومشاكسة الاحبة, هكذا تأتيك القصيدة, طفلة الروح و صبية التيه . مزيونة الحكمة.‏

قديما شبهوها بلحظة الولادة.. هذا التشبيه اصبح سقط متاع لأن في الولادة كما كتبت مراراً-خوفاً من الموت, في الكتابة خوف من البقاء. هكذا تأتي القصيدة:‏

بخوف الضياع‏

وبعض التماع‏

وأكتب ماساً بغير اطار‏

إيمان عرابي:‏

من منا في النهاية يلد من ..??‏

لا تهدأ كفراشة .. رشيقة.. سريعة تتحدث كل شيء بشهية.. سألتها وحرضها السؤال.. والاصح باغتها فكانت سريعة الايقاع.. ومن لحظتها أدركت.. أن أجوبتها ستكون .. عميقة تقول عرابي عن ولادة القصيدة: في آخر نقطة في الأفق البعيد, ونحن نحاول ان نصلها لنجتازها , يتلاحم في الداخل الحضور والغياب معاً في صلاة عجيبة الايقاع والطقوس الى ان تصبح الأصوات حزمة من الضوء تعلن عن ولادة , من منا في النهاية يلد من? هنا يكمن السؤال.‏

سر السفر في عوالم الشعر.. هل نتورم بالقصائد من حمل للواقع أو الحلم أو الرؤيا? أم ان القصائد هي من تجهضنا من رحمها الواسع المسماة (حياة).لكنني أعلم تماماً ان هناك (جينة شخصية جداً) تعيش معنا أبداً. تتبخر في أروقة الدم وتتنزه في دهاليز الفكر, وتنظم حشداً من الانفعالات في كل لحظة يكون الذهن متقداً متحفزاً والاحساس في حالة نفير عام . وفي اللحظة التي تغادر فيها الذات رتابة الزمن المألوف وتضيع بين الحلم والحقيقة.. تخرج ( الجينة الشخصية جداً) بهدير من الاعماق تطالب بإقامة الكرنفال.. شخوصه مفردات وموضوعه هيكلية شعرية, لتطلق عليه اسماً وتمنحه شهادة الميلاد.. ورغم ان هذه اللحظات من أشد لحظات الشاعر وعياً وحقيقة والتصاقا بعمقه وفكره وتفاعلاته إلا انها بمجرد أن تصبح أبجدية على الورق تغادره لترسخ في لاوعيه الشعري وتتحرك من جديد في عالمه الواعي.. للبحث عن ضجيج آخر وصراع جديد.. ومن هذه الدورة الكونية بين الشاعر ومحيط أفقه تولد القصيدة.. أخيراً.. عصية هي القصيدة. حرون كفرس ولدت وكبرت في البراري.. فرس لا يروضها إلا فارس .. شاعر.. اتقن فن الفروسية وحيل ترويض تلك الحرون العصية إلا على خيال امتلك ناصية اللغة.. ومضى نحو عبقر .. يسابق جنية.. عله يمسك بفراشات الابجدية الملونة بألوان الطيف..‏

مصطفى عكرمة:‏

كما يولد العطر..‏

إذا كان السؤال محدداً بولادة القصيدة, فإنني أرى انها تولد كأي مخلوق بتأثر داخلي أو خارجي يحرك شعوراً فيثير انفعالا.. وتولد القصيدة.. هذا في الحالة العادية, أي اذا كان الشاعر يعيش حقيقة مشاعره ويتعامل مع موضوعها بصدق وشفافية.. هكذا تولد القصيدة بيسر و سهولة ومن دون أدنى تكلف أو تعقيد.. إنها تولد كما يولد العطر من البرعم آن يتفتح, وكما يظهر اللون زاهيا من الزهر فيبهج النظر ويشيع الجمال ويملأ النفس غبطة وانشراحاً..‏

أما القصيدة المنظومة المتكلفة فإن ولادتها تكون اشبه ما تكون بالقيصرية يطلب من الشاعر ان يكتب في أمر ما فيحضر قهوته . ويحضر عدته ويضع رجلاً على رجل ويمسك بالقلم ويجره على الورق فتكون القصيدة المطلوبة. الموهبة هي دائما وابداً الاصل في كل فن. .‏

هل استمعت في يوم من أيام الحصاد ولياليه الطويلة المقمرة الى زجالي القرية.. كيف يتدفق الشعر على ألسنتهم ملحناً منساباً كانسياب الجدول الرقراق.. يا ما سهرنا الليالي الطوال على ما يرتجلونه من شعر لا نحس رغبة في مفارقتهم.. إنهم يستلهمونه من حياتهم اليومية ومعاناتهم وتطلعاتهم ومن محبتهم لما حولهم وصدقهم وعفويتهم تلك هي ولادة الشعر لا كلفة ولا تعقيد.. هل استمعت الى غناء الطيور في البساتين ذلك هو الشعر الحق.. وتلك هي ولادته.. وهل استمعت الى صوت الببغاوات في الاقفاص تردد ما يقال, ذلك هو النظم والشعر المتكلف و إن كنا نسر احيانا بما تردده الببغاوات ..‏