محي الدين بن عربي: فقيه الاسلام




الموضوع : تاريخ
دمشق ـ خليل التقي
====
في سفح جبل قاسيون بدمشق يرقد الشيخ الصوفي محيي الدين بن عربي، ! وهو من الصوفيين والأولياء الصالحين الذين باركوا أرض الشام، وللحديث عن شخصية هذا الشيخ نفح خاص من الروحانية العقلانية الممزوجة بالحب الصحيح، وهو القادم من بلاد الاندلس العربي ـ الحاتم الطائي ـ ولد في الأندلس في بلدة مرسيه عام(560هـ)وكان أبوه وزيراً لصاحب اشبيليا حيث نشأ وترعرع، وتلقى علومه، وقرأ القرآن الكريم بقراءاته السبع على يد الشيخ أبي بكر بن خلف اللخمي، ومنذ نشأته كان محباً لأهل الله وأوليائه يدافع عنهم، ويذهب إليهم في مجالسهم ويشد الرحال مهما بعد السفر..
قصد مكة لأداة فريضة الحج ماراً بالاسكندرية والقاهرة فوصل مكة عام/598هـ/لأول مرة ولم يعد بعدها إلى الأندلس، وهناك فتح الله عليه الفتح المكي أو مايسمى الفتوحات المكية التي استغرق في تدوينها سبعة وثلاثين عاماً.
يعتبر الشيخ محيي الدين شيخ المشايخ الصوفية وإمام أئمة طرائق الاسلامية وقد قال عنه ابن مسدي في ترجمته(إن محيي الدين كان ظاهري المذهب في العبادات باطني النظر في الاعتقادات)تنقل الشيخ محيي الدين العربي في بلاد مابين النهرين وآسيا الصغرى إلى أن استقر في دمشق ما بين عامي620 ـ 638وقد بلغ الإمام الستين من العمر وعمت شهرته العالم الاسلامي وتزاحم العامة على بابه، وتنافس الحكام والملوك لاستقطابه. ‏
وقد اختلف العلماء فيه اختلافاً شديداً فمنهم من نظر إليه على أنه فيلسوف من فلاسفة الإسلام والديانات، حتى قيل: إن الفلسفة الصوفية قد اكتملت بهذا الإمام، فغدت صوفية متكاملة ذات منهج عقلي تفارق كل المستوى العقلي حيث تدخل فيما وراء العقل، ولكنها تعود إلى عالم العقل بمحاولة ناجحة لتقريب ماوراء العقل إلى العقل. وفريق آخر اعتبره رأس الضلالة والإلحاد. ‏
التقى بالفيلسوف ابن رشد الذي نشد إلى مقابلته ليأخذ اعترافاً منه بأن القمة التي تصل إليها الفلسفة هي بعينها غاية الدين وهدفه، وأن العقل يلتقي بالروح في خاتمة المطاف. ومن أعماله(رسالة الأنوار)و(وصايا اليوسفي)و(شاهد الأسرار القدسية)(تاج الرسائل)و(شجرة الكون)(الشجرة النعمانية)و(ساعة الخبر). ‏
وقد كتبت دراسات عنه تجاوز عددها(500)دراسة باللغات العربية والفرنسية والاسبانية والانكليزية والفارسية. وقد قال عنه«بروكلمان»إنه مؤلف من أخصب المؤلفين عقلاً وأوسعهم خيالاً.وقال عنه أيضاً المستشرق«نيكلسون»في مجموعة تراث الاسلام، إن ابن عربي عبقري الاسلام، وقد عبد ! السبل أمام اللاهوت المسيحي للنهوض والتحلل من القيود، وله آثاره في بعث الأدب الأوروبي، وذهب بعضهم إلى القول إن أثره في الإصلاح الدين في اللاهوت المسيحي لايقل عن أثر لوثر نفسه. ‏
توفي في دمشق ليلة جمعة(28ربيع الآخر سنة638هـ)ودفن في المكان الذي خصص له والذي ينسب إليه حي الشيخ محيي الدين في جامع أنشأه السلطان سليم الأول، حيث تنبأ الشيخ بتولي السلطان الحكم في هذا المكان. ‏
يتألف المسجد من تكية وجامع وتربة على قبر الشيخ. وقد شيد وفق التخطيط الدمشقي التقليدي، صحن محوط بأروقة، وحرم مؤلف من بلاطات موازية للقبلة، وقد أقيمت المئذنة فوق باب المسجد. أما الدخول إلى مقام الشيخ ابن عربي فيتم بالنزول إليه عبر درج حفر على حائطه الأيمن قول ابن عربي: ‏
فكل عصر واحد يسمو به وأنا لباقي العصر ذاك الواحد



وأجمل ما في الضريح ألواح القاشاني التي تكسو جدرانه! ، وقد كتب على شاهدة قبره من أقواله: ‏
خصصت بعلم لم يخص بمثله سواي من الرحمن ذي العرش والكرسي ‏
وأشهدت من علم الغيوب عجاباً تصان عن التذكار في عالم الحس ‏
وبجانب مقام الشيخ ابن عربي فتوجد قبران يرقد فيهما ولداه عماد الدين وسعد الدين. ‏
أما من الجهة الشرقية للمقام وتوجد ثلاثة قبور الأول للأمير عبد القادر الجزائري والقبر الثاني للشيخ أمين الخربوطلي إمام جامع الشيخ محيي الدين وهو ملازمه لمدة(80)سنة يخدم في المقام وكانت وصيته أن يدفن في هذا المسجد، وتشير المصادر إلى أنه يوم وفاة الشيخ الخربوطلي أقُفل المسجد لعدم دفنه به وعند وصول رفاته إلى المسجد، قالوا إذا أراده الشيخ لجواره يفتح الباب، وكانت المفاجأة كسر قفل الباب وتم إدخال جثمان الشيخ أمين إليه ودفن إلى جانب الشيخ ابن عربي، ! والقبر الثالث هو قبر محمود باشا الخونجي صهر الملك فؤاد ملك مصر الذي دفن فيه أيام السلطان سليم الأول. ‏
وعلى أحد جدران المقام يوجد دعاء الشيخ محيي الدين«اللهم إني أسألك بفاء الفردية وراء الربوية ودال دوام الديمومية وحاء الحياة السرمدية وياء ينابيع الحكمة وقاف القدرة وياء اليسرة وواو الوجود وميم الملك وحاء الحلم وكاف الكبرياء وميم الملكوت وعين العناية ودال الدراية ولام اللطف وقاف القهر. وقالوا لو سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» والدعاء الثاني«اللهم صل على الذات المطلم والغيب المطمطم لاهوت الجمال ناسوت الوصال طلعة الحق كاتوب إنسان الأزل في نشر من لم ! يزل من قامت به نواسيت الفرق في طريق الحق في قاب ناسوت الوصال الأقرب اللهم صل به منه فيه عليه وسلم ياعظيم أنت العظيم قد همني أمر عظيم وكل أمر يهون بأمرك ياعظيم... الصلاة والسلام عليك ياسيدي يارسول الله أنت لها ولكل عرب عظيم، يارب فرجها بفضل بسم الله الرحمن الرحيم» ‏
ويقصد الجامع أناس من مختلف الجنسيات والعروق ولاسباب مختلفة، وعلى باب الجامع يوجد بشكل مكثف أناس يطلق عليهم الدراويش وهؤلاء الناس يأتون إلى هذا المكان مع مطلع الفجر إلى آخر النهار حيث هنا مقر معيشتهم من مأكل ومشرب وملبس... و في يوم الجمعة تأتي كوكبة من المريدين ! يترأسهم أحد المشايخ ويجلسون في صحن المسجد على شكل حلقة فيقيمون الذكر إضافة إلى مجلس الصلاة على النبي وقبل انتهاء الجلسة يقومون بحلقة دائرية متماسكي الأيدي وفي وسط هذه الحلقة اثنان من ال! رجال يوزعون مالاً زهيداً جداً على الموجودين ويتهافتون لأخذه حتى الأغنياء منهم، اعتقاداً منهم أنها للبركة والرزق. واللافت للنظر وجود زجاجات كثيرة من المياه حولهم أثناء قيامهم بالذكر وهذا الماء حسب اعتقادهم يساعدهم على الشفاء من جميع الأمراض ويحصلون من خلاله على بركة الشيخ محيي الدين. ‏
وفي مقابل المسجد مبنى التكية وتتألف من بناء بسيط صحن بقبتين وحوله غرف المؤن والمطبخ وقد بناها السلطان سليم الأول، واحترقت ثم جدد بناءها السلطان سليمان القانوني، وعلى باب التكية من الأعلى توجد ساعة شمسية محفور عليها ن! صف دائرة مقسمة إلى قطاعات يعرف من خلالها الوقت حسب دوران الشمس وقد بناها محمد الساعاتي سنة(1305هـ)وفي هذه التكية يتم إعداد الطعام لتوزيعه على الناس وفي أيامنا هذه يطهى الطعام مساء يوم الأربعاء وهو عبارة عن وجبة من القمح واللحم ويطلق عليها الاسم المحلي(الهريسة)أو(شوربة الشيخ محيي الدين)حيث يتم طهوها طوال الليل حتى مطلع الفجر ومع أذان الفجر يأتي الناس لأخذ هذه الوجبة، وكانت في القديم مركز طهو لإطعام الفقراء على مدى الأسبوع، ويقوم أهل الخير بالتبرع وتغطية نفقات الطعام على مدار العام. ‏