تعبيرية الشكل في الدراما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ

د. ياسر عيسى الياسري

بين كلمتي تعبيرية وشكل انفصال تام في المعنى المستقل لكل كلمة وحسب ما وردت في المعاجم وكتب التعريفات والمصطلحات والتي تسحب الكلمتين نحو جمع كبير من صنوف العلوم والآداب والفنون وقد يصل عمق المعنى إلى أبعد من تلك التعريفات التي تشكل مفتاحا ً نحو أفق متسع باتساع العقل البشري المنتشر في قارات العالم الخمس والباحث المتأمل في تلك القضية "التعبيرية . . .والشكل "إن لم يكبح جماح الحس البحثي لديه يجد نفسه في وسط تيارات فكرية يقدم كل واحد منها مغريات حسية ومادية تزين للباحث الاستمرار والعمل في الاتجاه حتى يقوده إلى محور آخر وأسئلة أخرى لا تنتهي و لا تحويها مجرد وريقات بحثية تحاول أن تجد منفذا ً يمكن من خلاله الإحاطة بـ "تعبيرية الشكل " .
وكما أسلفنا أن لكل كلمة معناها المستقل أنهما وبحكم قوانين اللغة والكتابة عندما يوضعان جنبا ً إلى جنب لتشكيل جملة السؤال الذي يقودنا إلى عشرات الأسئلة الأخرى التي تولد الإجابةس عنها إجابة أخرى تعبر عن ترابطية العلاقة بين هاتين الكلمتين وضرورة احدهما للأخرى لإتمام الدرس الأكاديمي لحل جزء من مغاليق إشكالية تفسير الشكل وقدرته على التعبير بعيدا ً عن المضمون من دون الانفصال التام عنه وقريبا ً من المضمون دون الالتصاق التام به . . أنها محاولة للإجابة ليس إلا .


الشكل بين المصطلح المحدد والمفهوم المتسع
******************************************



يورد المعجم الفلسفي تعريفين للشكل أولهما :- " الشكل هو الهيئة الحاصلة للجسم بسبب إحاطة بعد بالمقدار كما في الكرة أو حدود كما في المضلعات من المربع والمسدس " 1 . . وهذا التعريف من تعريفات الجرجاني ويحيلنا إلى مصطلح صورة . أما التعريف الثاني :- " الشكل هو شكل القياس . . هيئة القياس من نسبة الوسط إلى الطرفين يسمى شكلا ً " 2 .
ويورد معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة تعريفا ً موسعاً للشكل أشتمل على سبعة نقاط 3 : -
1 :- هو مجموع العلاقات التي تعرف نظام العلامات في تعارض مع الجوهر .
2 :- اللغة عبارة عن نظام أشكال .
3 :- "شكل المضمون " تقطيع للمفاهيم ،بواسطة العلامة ، أما " شكل التعبير " فهو تقطيع للفونيمات والحروف بواسطة العلامات .
4 :- لا أساس في السميولوجيا لتعارض الاستعمال الرائج بين "الشكل " و" المضمون / المعنى / العمق " .
5 :- وتعكس استعمالات "الشكل " تاريخ الفكر المستعمل وأسسه الابستمولوجية في نظرية من النظريات السيميائية .
6 :- "مفهوم الشكل " موروث أرسطي يعارض "المادة " ومن هذا التقسيم يقترب بـ "الشكل " من مفهوم "البنية " .
7 :- كما يسمح تأويل (يامسليف ) للمفهوم ( السوسيري ) لـ "الشكل " بتحديد لهذا الأخير من الوجهتين المنهجية والأبستمولوجية .

إن هذه التحديدات لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها نهائية في تحديد معنى الشكل على أقل تقدير لا مفهومه ، بل إن النقاط السبع تمثل مداخل فلسفية مختلفة تناولت الشكل . . فالجرجاني يحيل المصطلح إلى لغة هندسية مجردة كذلك نجد نفس التفسير للمصطلح في التعريف الثاني .
أما التعريف المتضمن النقاط السبع فتقودنا كل نقطة إلى مدخل مفاهيمي وليس اصطلاحي مما يجعل من الشكل قضية لا تفضي إلى إجابة عن ماهية المصطلح ومن هنا نجد أن الشكل مصطلح لا يمكن تحديده بعدة كلمات أو أسطر في معجم أو عدة معاجم مختلفة ومن هنا ينطلق السؤال الذي يبحث عن أجابه . . هل "الشكل " كلمة مجردة تبحث عن تعريف معجمي ؟ . . أم مفهوم فلسفي وجمالي يجب تتبع تاريخه من خلال سنوات الازدهار وسنوات الخمول فالإهمال الذي لقيه الشكل على يد ( أفلاطون ) حين وضع الجسم المادي في أسفل السلم الهرمي حيث يقول :- "تتموضع الأجسام في خشونتها البدائية وبعدها الأفعال والتصرفات والحوادث والحركات في كل ما ! تسمو به على الجسم وتليها النفوس الحقيقة فجواهر الأجسام ،فجواهر الأفعال ، فجواهر النفوس " 4 .
إن الاهتمام الأفلاطوني لم يكن متركزا ً على الشكل المجرد الموجود في عالم الواقع عالم الأشياء الملموسة والمحسوسة وإنما كان الشكل لديه شكلا ً من صنع المثال الأول وكل الأشكال الأخرى تقليد في مظهرها للمثال الاول الذي لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال محاولة التخلص من الجسد المادي والالتصاق بالجوهر الذي يقود في النهاية إلى الشكل الأمثل .
ولم يزدهر الشكل إلا عندما أعلن أرسطو انفصاله عن أفلاطون انفصالا ً لا ينم عن قطيعه وإنما عن منهجة ٍ جديدة ٍ وضعها التلميذ منطلقا ً من مذهب أستاذه معترضا ً عليه ضمنا ً ومانحاً للشكل أهمية ً في فلسفة ذلك العصر وبشكل أوضح من أستاذه حيث يقول أرسطو :- " لا يمكن لكائن أو شيء مؤلف من أجزاء عدة أن يكون جميلا ً إلا بقدر ما تكون أجزاؤه منسقة وفقا ً لنظام ما ، ومتمتعة ً بحجم ٍ لا اعتباطي ، لأن الجمال لا يستقيم إلا بالنسق والمقدار " 5 . والنسق والمقدار تعبيران لا يمكن أن يجدا مساحة ً لاشتغالهما بعيدا ً عن الشكل الذي يحتوي على أنساق معينة ومقادير محسوبة يمكن أن تندرج في التنسيق البنائي للعالم في مظهره الأكمل .
وهنا لابد من التوقف عن المقارنات لأن التعمق فيها يقودنا نحو فلسفة الجمال مما يبعدنا عن سؤالنا الأول حول تعبيرية الشكل إلا أنه يضع بداية لخطوتنا التالية في المفهوم الأرسطي للشكلية الأكاديمية التي اتخذت من أراء ومقولات أرسطو منطلقا ً فكريا ً لها إذ يقول أرسطو :- " لا يمكن لكائن ٍ أو لشيء ٍ مؤلف من أجزاء متعددة أن يحوز الجمال إلا إذا انتظمت هذه الأجزاء في نظام معين . . . وان الحجم لا يمكن ان يكون اعتباطا ً لأن الجميل يقوم على الفخامة وعلى النظام " 6 .
وبتكرار كلمتي النظام والانتظام نتلمس هنا أن الشكل الجميل المتكامل عند أرسطو له خاصية رياضية مع الاعتماد على نماذج شكلية اعتبرت القاعدة لكل الأشكال التي أنتجت بعدها ولكن هل سيتمكن ذلك الشكل النموذج ، الإنسان من إصدار الحكم سريعا ً وبنظرة خاطفة على العمل الفني ؟ بالطبع فان ذلك غير ممكن فربما يستطيع الإنسان أن يتذوق الخطوط المجردة لأصل الرسم أو يعجب بترتيب الألوان أو المادة التي صنع منها التمثال وعلى الرغم من هذه النظرة المجردة للشكل ، وبالطبع فهي مجرد افتراض ، لأن العمل الفني المنتج لا يمكن أن يكون شكلا ً مجردا ً لذاته وإنما أنتج بفعل إحساس إبداعي وبوعي ً عال بضرورة تقديم هذا العمل الفني الذي يولد على شكل فكرة يمكن تجسيدها بأكثر من شكل فني وهنا يغلب على العمل الفني الفكر الذي يوازي كلمة المضمون .

عندما تخـــلى الشكلانيون الـــــــروس عن اســـــمهم
************************************************** *****


إن التخلي عن التسمية لا يعني بأي شكل ٍ من الأشكال هو رفض للانتماء وإنما البحث عن تسمية أقرب إلى حقيقة وأهداف النظرية التي أسند إليها هذا الاسم لأن المنتمي إليها يشعر بأن هذه التسمية ليست كافية لاحتواء طروحاته " وكان نقاد المدرسة الشكلية على وعي ٍ تام بخطورة وعدم كفاية المصطلحات التقليدية لذلك لم يرتضوا عن اقتناع بتسمية حركتهم بالشكلية وكثيرا ً ما عبروا عن ضيقهم بهذه التسمية التي فرضها عليهم أعدائهم ورغبتهم باستبدالها بتسميات أخرى مثل (المنهج الصرفي ) في الدراسة الأدبية وقد كان (بروب) أشدهم تمسكا ً بهذه التسمية الأخيرة كما يتضح من عنوان كتابه الهام (صرف الحكاية ) وحاول بعضهم إطلاق تسمية أخرى عليهم مثل ( المحددون ) . " 7 . ونجد هنا أن رفض التسمية قائم على الأسس المنهجية التي وضعها الشكلانيون أنفسهم وخاصة فيما يتعلق باستبعاد ثنائية الشكل والمضمون في جمي! ع تحليلاتهم لبنية الوقائع الأدبية وإحلال فكرتين محلهما هما :- (المادة) من ناحية والوسيلة أو الأداة أو الأجراء من ناحية أخرى . . وأساس هذه الفكرة أن الشكل والمضمون متعايشين في الشيء الجمالي وهما يأتيان بالتعاقب في العملية الأدبية وقالبين للانفصال عند التحليل و الدرس "ونتيجة لهذه الرؤية فإن العمل الشعري عند الشكليين إنما هو تصرف في اللغة لا تمثيل للواقع ، فهذا الواقع يظل متمتعا ً بوجود كوني تجريبي مجاور للأدب وبعيدا ً عنه إن كان هذا الأخير يشير إليه فحسب " 8 . ولقد فصل الشكليين بين ثنائية الشكل والمضمون رافضين الفكرة القائلة بأن الشكل ليس سوى غلاف يضم المضمون ويحتويه ومؤكدين على قدرة الشكل في التعبير عن ذاته من خلال الكيفية التي يتم استخدامها فيه وبذلك يكون الشكل مكتسبا ً لمعنى مختلف و لا يحتاج إلى المضمون كمكل له .
أن الشكليين لم يستطيعوا أن يعالجوا جميع الثغرات التي يمكن النفاذ من خلالها والعمل وفقا ً لذلك على تفتيت الطروحات النظرية للشكليين . . فإذا أخذنا منهج (بروب) في تحليل الحكاية الشعبية أو (العجيبة ) كما يسميها هو لوجدنا أنه يعتمد على المنهج الوظيفي ويستند في تحليله اليه . . فالوظيفة "هي الحدث الذي تقوم به شخصية ما من حيث دلالته في التطور العام " 9 . والحدث يحتوي على مضمون يظهر في أشكال متعددة وممكنة الوقوع وتحليل (بروب) أنطلق من المضمون باتجاه الشكل لأن الحكاية الشعبية في أغلب الأحيان غير مؤسس لها شكليا ً لأنها غالبا ً ما تكون شفاهية وأي عملية نقل إلى شكل كتابي ستغير قطعا ً من شكل الحكاية الذي تروى به فإذا كان (بروب ) قد أعتمد في تحليله على النص الشفاهي للمتن الحكائي فإنه سيكون من الصعب تحليل شكل اللغة المنطوقة لأنها مختلفة قطعا ً بين راو ٍ وآخر . . . أ! ما إذا ما أعتمد على النص المدون والمأخوذ عن النصوص الشفاهية فأن هناك تغيير كبير في بنية النص الشكلية لأن الكلمة المنطوقة في تشكيلها وقواعدها ستكون مختلفة عن شكل الكلمة عندما تُكتب وتتشكل في سياق الجمل المترابطة التي ستكّون في النهاية شكل الحكاية .
وكما تؤكد معظم المصادر على أن (بروب ) قام بعملية تحويل للنص الشفاهي إلى شكله الجديد كنص مكتوب معتمدا ً على تصنيف وضعه لهذا التحويل في مقال له بعنوان ( التحويلات في الحكاية العجيبة ) إذ يقول "إن التحويلات موزعة على ثلاث مجموعات كبرى :- التغيرات – البدائل – التمثلات ، وهذه الأخيرة عُرفت كتعويض ناقص لشكل آخر بما ينتج اندماجا ً لكلا الشكلين في شكل واحد " 10 .
ويرى الكاتب أن هذا الاندماج ليس بين شكلين وإنما بين مضمون الحكاية الشفاهية وبين شكلها الجديد المدون وفق تصنيف (بروب ) وقوانين تحويله . وعلى الرغم من أهمية طروحات الشكلانيون وتأثيراتهم في مختلف المدارس الأدبية التي جاءت من بعدهم كحلقة براغ البنيوية التي يعتبر منظرها (موردفسكي ) امتدادا للشكلية الروسية إلا أن بدايات القرن العشرين أخذت تشهد اتفاقا ً على أهمية ترابط الشكل والمضمون وأن التفريق لم يعد مقنعا ً إذ يورد (رينيه ويليك ) صياغة حديثة للموضوع كتبها (هارولد أزبورن ) "لا يظل شيء من شكل القصيدة ولا بنيتها العروضية و لا علاقتها الإيقاعية و لا أسلوبها الخاص بها عندما تُفصل عما تحتويه من معنى فاللغة ليست لغة ،بل أصوات ، إلا إذا عبرت عن معنى ، كذلك يعتبر المحتوى بدون! الشكل استخلاصا ً لشيء ليس له وجود ملموس ، لأننا لو عبرنا عنه بلغة مختلفة لأصبح شيئا ً مختلفا ً و لا بد من أن تدرك القصيدة ككل حتى تتم عملية الإدراك و لا تتناقض بين الشكل والمحتوى . . لأنه لا وجود لأي منهما بدون الآخر ، واستخلاص الواحد من الأخر قتل للاثنين " 11 . وعلى الرغم من أن هذا الرأي يعتبر حديث إلا أن له جذوره الأولى في طروحات أرسطو وكما أسلف الكاتب في بداية أسطر هذه المقالة أذن فهي عودة لأدراك عدم إمكان الفصل بين الشكل والمضمون وترابط العلاقة بينهما .


تعبيــــرية الشـــكل في المرئيـــات الدرامية
**************************************


تبقى للشكل خصوصيته في المرئيات الدرامية ، المسرح ، السينما ، التلفزيون فهذا الشكل متمتع بحرية واسعة للتغير والتكيف والتوظيف حسب الحاجة الدرامية التي يفصح عنها الشهد الدرامي ومكوناته من ديكور وإكسسوارات وإضاءة وشخصيات ولقطات وزوايا الكاميرا . . و لا شك أن أي فنان يتعامل مع هذه المرئيات التي تكّون الشكل يعي تلك الأهمية التي تعود جذورها إلى بدايات المسرح الإغريقي إذ يقول (أرسطو) في كتابه فن الشعر :- "ومع أن لعنصر المرئيات المسرحية –في الحقيقة – جاذبية انفعالية خاصة به ، إلا أنه أقل الأجزاء كلها من الناحية الفنية ، وأوهاها اتصالا ً بفن الشعر فمن الممكن الشعور بتأثير التراجيديا حتى ولو لم يقن بتقديمها ممثلون في عرض عام . بالإضافة إلى هذا فإن خلق التأثيرات المسرحية المرئية يعتمد على أصحاب الفنون المتعلقة بالإخراج! المسرحي أكثر مما يعتمد على الشاعر التراجيدي " 12 . ويرى الكاتب أن أرسطو في بداية حديثه يعطي أهمية خاصة للمرئيات المسرحية من خلال وصفها بأنها تملك جاذبية أي أنها مدخل يجتذب المشاهد للنص المزمع تقديمه عبر هذا الشكل وبما أنه أي ( أرسطو ) يدرس فن الشعر من ناحية التأليف بالدرجة الأولى نجده في الجزء الأخير من مقولته يقلل من قيمة هذه المرئيات في حالة عدم تقديم التراجيديا ممثلة على المسرح وهنا تفريق ما بين عملية القراءة النصية للعمل التراجيدي وعملية تقديمه على المسرح مع إعطاء فروق ضمنيه لاختلاف طريقة التلقي لكلا الشكلين في التقديم عرضا ً مسرحيا ً أو قراءة ً نصية . . وفي معرض تعليقه حول المرئيات المسرحية يقول الدكتور( إبراهيم حمادة ) :- " إن الممثل يجعل مما هو مرئي أداة أو وسيلة لمعالجة الفكر ، والانفعال والشخصية كما أن المخرج المسرحي يستخدم المرئيات المسرحية في تنظيم الأفعال المحسوسة التي تؤديها الشخصيات كالدخول والخروج والتجمع والتفرق والتجمع والتحرك والتوقف ، كما يوافق على الأزياء والمناظر والماكياج وكل العناصر الأخرى المشوقة والمساهمة في تكوين الطقس العام " 13 .
ومن هنا تكمن أهمية الشكل في التعبير عن المضمون والفكر الذي يحمله النص الدرامي بحيث يختلف هذا الشكل ويتنوع من مخرج لآخر وكل ٌ حسب رؤيته الإخراجية لهذا النص وتقف تجربة الدكتور (صلاح القصب ) في مسرح الصورة في طليعة التجارب العربية التي تعاملت أولا ً مع الشكل العام للعرض المسرحي مع المحافظة على النص حرفيا ً ففي إخراجه لمسرحية العاصفة ( لشكسبير ) نـــجد أن ( صلاح القصب ) أحتفظ بكامل بنية ومضمون النص الشكسبيري إلا أنه أضاف شكلا ً معاصرا ً لهذا النص باستخدامه عناصر مرئية معاصرة وخاصة ً في مشهد العاصفة الذي تكّون من أواني معدنية وكرات ملونة وأشرطة أفلام سينمائية وبالونات وبالرغم من أن هذا الشكل أحدث نوعا ً من الانفصال البصري عند المشاهد الذي خرج من جو المسرحية في زمنها وكما كتبها شكسبير ليصدم بصريا ً بأشكال تحيله إ! لى وقتنا الراهن حيث أراد المخرج أن يشتغل على بصر المشاهد وذهنه حتى بعد انتهاء العرض المسرحي وذلك بإيجاد الروابط الفكرية لاستمرار روح النص الشكسبيري إلى وقتنا الحاضر وهذا ما سعت إليه السينما العالمية من خلال تقديم أعمال شكسبير بأشكال معاصرة كروميو وجولييت وهاملت إلا أنها حافظت على مضمون النص الشكسبيري أي أن الشكل في الدراما مترابط مع المضمون حتى وأن تعارض مع بعض الاشتراطات الزمانية والمكانية ويبقى الشكل في الدراما أولا ً وأخيرا ً منوطا ً بالمعالجات الإخراجية التي لا يمكن أن تتقولب في إطار واحد وإنما تبقى لكل مخرج خصوصيته في التعامل مع الشكل ولعل المخرج السينمائي أكثر قدرة في توظيف الشكل لما يمتلكه من وسائل مرئية تفوق تقنيا ً وسائل المسرح إلا أن الشكل في السينما يجب أن يبقى مفتاحا ً لقراءة مضمون وليس مجرد إبهار صوري فقط " صانع السينما الذي يتجاهل أو يقلل من أهمية التوازن بين الشكل والمضمون إلى درجة كبيرة إنما يفعل ذلك وهو يعرض نفسه للخطر . الأفلام التي يتحول فيها الإنسان إلى مجرد شكل تجريدي في الواقع غالبا ً ما تفاجئنا على أنها متف! سخة وأليه وتعوزها الإنسانية . وقد وقع حتى كبار المخرجين فريسة لهذا الت طرف الشكلي في بعض الأحيان " 14 . ونستخلص مما تقدم أن تغليب الشكل على المضمون في السينما يعد من ضمن التجارب التي يقوم بها بعض المخرجين في محاولة لتغليب عنصر الابهار الصوري على عنصر المضمون وهذا يتعارض مع أساسيات اللغة السينمائية التي يقود كل شكل من أشكالها إلى فهم معين بل ومشترك على صعيد الإنسانية ففي الدخول إلى المضمون المراد إيصاله إلى المشاهد وهذا ما جعل اللغة السينمائية عالمية وإنسانية كما هي لغة الموسيقى لا تحدها حدود جغرافية وكل محاولة عكس ذلك تؤدي إلى انغلاق الشكل السينمائي وعدم وجود قدرة ثقافية مشتركة بين جميع المتلقين وفهم ما يريده المخرج .
ولقد استطاع التلفزيون أن يبتعد عن التجريب على الصعيد الشكلي والإبقاء على ترابطية العلاقة ما بين الشكل والمضمون وذلك ناتج عن الأهداف التي وضعت للتلفزيون في التربية والتعليم والترفيه وكل هذه الأهداف تتطلب من صانع البرنامج التلفزيوني التوجه بشكل مباشر إلى متلقيه وبأبسط الأشكال التي تكون ذات فهم مشترك بين ملايين من بني البشر وخلاصة القول يبقى المضمون الدرامي البناء الاساس و الشكل هو البناء المضاف الذي من خلاله ندخل إلى فكرة العمل الدرامي وموضوعه .



الهوامش
----------


1 – مراد وهبه ، يوسف كرم ، يوسف شلاله ، المعجم الفلسفي ، القاهرة ، دار الثقافة الجديدة ، الطبعة الثانية ، 1971 ، ص 119 .
2 – المعجم الفلسفي ، مصدر سابق ، ص 119 .
3 – د. سعيد علوش ،معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة ، بيروت ، دار الكتاب اللبناني ، الدار البيضاء ، سوشبريس ، 1985 ،ص 129 – 130 .
4 – دني هويسمان ن علم الجمال ، ترجمة ظافر الحسن ، بيروت ، منشورات عويدات ، الطبعة الرابعة ، 1983 ، ص 28 .

5 – دني هويسمان ، مصدر سابق ، ص41 .
6 – أندرية ريشار ، النقد الفني ، ترجمة صياح الجهيم ، دمشق ، وزارة الثقافة ولأرشاد القومي ، 1979 ، ص 126 .
7 – أندرية ريشار ، مصدر سابق ، ص 126 .
8 – د. صلاح فضل ، نظرية البنائية في النقد الأدبي ، بغداد ، دار الشؤون الثقافية العامة ، 1987 ، ص 55 – 56 .
9 – د. صلاح فضل ، مصدر سابق ، ص 57 .
10 – تزفتان تودوروف ، في أصول الخطاب النقدي الجديد ، ترجمة أحمد المديني ، بغداد ، دار الشؤون الثقافية العامة ، 1987 ، ص 19 .
11- رينيه ويليك ، مفاهيم نقدية ، ترجمة د. محمد عصفور ، الكويت ، سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، 1987 ، ص 50 – 51 .
12 – أرسطو ، فن الشعر ، ترجمة وتعليق د.إبراهيم حمادة ، القاهرة ، مكتبة الأنجلو المصرية ، 1977 ، ص 99 .
13 – أرسطو ،فن الشعر ، مصدر سابق ، ص 106 .
14 – لوي دي جانيتي ، فهم السينما ، ترجمة جعفر علي ، بغداد ، دار الرشيد للنشر ، 1981 ، ص 104 .

د.ياسر عيسى الياسري
yasirhass@gmail.com