يا أيها الموت أنت حق

يا شعبي لا أخاف عليك من الموت فأنت ملك الولادة
عندما تنطفىء شمعة تضيء شموع

رحم الله حيدر

محمد أسد الأسدي

رحمه الله واسكنه فسيح جنانه
اضافه
شخص مشكلة الفلسطينيين بغياب النظام
حيدر عبد الشافي.. المفاوض والسياسي الفلسطيني الأول
الجيل للصحافة
حيدر عبدالشافي ..وداعا
النظام.. النظام.. النظام.. كلمة لم يمل من المناداة بها في كل محل أو مقابلة أو ندوة يشارك فيها خلال سنوات حياته الأخيرة، فهو يرى أن مشكلة الفلسطينيين هي غياب عنصر النظام واعتمادهم على الارتجالية والانفراد في اتخاذ القرارات التي تخص القضية الفلسطينية.
إنه المناضل والسياسي الفلسطيني الكبير حيدر محيي الدين عبد الشافي شيخ السياسيين الفلسطينيين الذي رحل قبل أيام في ليلة 25/9/2007 بعد عمر ناهز الـ88 عامًا في أحد مستشفيات قطاع غزة.
كان أكبر شاهد للعصر بين السياسيين على القضية الفلسطينية، فهو الوحيد بينهم الذي عاصرها منذ البداية ويعرف كل تفاصيلها، وبالتالي فإنه عندما يتحدث يضع يده بدقة على الداء، ساعده في ذلك دراسته كطبيب تعلم جيدًا فنون التشخيص، وبالتالي تقديم العلاج..
وُلد الدكتور حيدر عبد الشافي في 10 من حزيران عام 1919م في مدينة غزة هاشم بفلسطين، والده هو الشيخ محيي الدين عبد الشافي الذي كان مأمور أوقاف غزة وانتخب بعدها عضو المجلس الإسلامي الأعلى.
تلقى تعليمه الابتدائي وقسمًا من الثانوي بغزة، وأكمل دراسة الثانوية في الكلية العربية في القدس، ومن ثَم التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت وتخرج في كلية الطب عام 1943، وعمل في مستشفى الحكومة في مدينة يافا الساحلية كطبيب مقيم، متزوج وأب لبنتين وثلاثة أولاد.
في عام 1944 التحق الدكتور عبد الشافي بالجيش العربي في الأردن بعد أن أقنعه صديقه الدكتور بهاء الدين النمري الذي كان يعمل طبيبًا مع الجيش العربي في الأردن، وعمل عبد الشافي كطبيب في الكتيبة الثانية، حيث كان الإعداد للحرب العالمية الثانية.
عايش اللجوء
عايش الدكتور عبد الشافي النكبة الفلسطينية عام 1948 ولجوء الفلسطينيين إلى الشتات، حيث كان يشغل آنذاك أمين سر الجمعية الطبية التي تشكلت في سنة 1943 التي كان يرأسها الحاج طاهر الخطيب من القدس.
انتقل إلى مدينة غزة التي كانت تفتقر إلى الأطباء وعمل على العناية بجموع اللاجئين من إسكان وخدمات طبية وتعليمية، فعدد اللاجئين وصل إلى 4 أضعاف عدد سكان قطاع غزة الذي لم يتعد آنذاك 20 ألفًا.
في عام 1956 كان أول استدعاء للدكتور حيدر عبد الشافي من قبل الحاكم العسكري العام الإسرائيلي على إثر مظاهرات ضد الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة نُفِي على إثرها إلى وسط سيناء في منطقة تسمى "نخل" قريبة من شمال العقبة في محمية للجيش الإسرائيلي وبعد بضعة أشهر عاد إلى غزة، وبعدها أبعد من نابلس إلى لبنان ومكث في لبنان لمدة 6 أشهر، ومن ثَم تم السماح له بالعودة بعد تدخل الأمم المتحدة، ونزل في عكا شمال غرب فلسطين المحتلة، ومن ثَم عاد إلى غزة، وفي عام 1967 تم تحديد إقامته في مدينة غزة من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
ورأس عبد الشافي أول مجلس تشريعي في غزة في 1962، وشارك في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، ثم رأس جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في قطاع غزة منذ 1972، وحتى مرضه قبل حوالي عامين.
حين تم عقد مؤتمر مدريد عام 1990 بمبادرة من الولايات المتحدة الأمريكية انتدب من قبل منظمة التحرير الفلسطينية لرئاسة الوفد الفلسطيني المكوّن من الدكتورة حنان عشراوي، واللواء صائب العاجز، وفيصل الحسيني، وغسان الخطيب.
قاد فريق المفاوضات الفلسطيني لمدة 22 شهرًا في محادثات واشنطن. استقال من قيادة الوفد إثر تسرب الأنباء عن قنوات تفاوضية سرية قادها الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس بعلم الرئيس الراحل ياسر عرفات، وخرجت باتفاقية أوسلو عام 1993 واعتبرها "خطوة غير أخلاقية فلا يجوز أن أفاوض في جهة وتجرى مفاوضات سرية في جهة أخرى دون علمي".
كان يعرف عن الدكتور حيدر عبد الشافي أنه أحد مؤسسي الحزب الشيوعي في فلسطين إلا أنه نفى في أكثر من مناسبة شيوعيته أو أن علاقة تنظيمية تربطه مع الحزب الشيوعي بالرغم من إشادته بالفكر الشيوعي، معتبرًا أن الفكر الشيوعي فكر أثبت وجوده وفعاليته بالمجتمع الدولي بشكل عام، وأن الشيوعية شقت طريقها في العالم بشكل فاعل.
يُصِرّ على استقلاليته عن أي حزب ويقول في إحدى مقابلاته الصحفية: "أنا لم أشكِّل أي حزب سياسي ولم أنْتَمِ إلى أي حزب سياسي، أنا إنسان حر طليق ولي رأيي الخاص مع احترامي لكل الأشخاص والأحزاب، الانتماء للحزب له أهمية ويشكل مسئولية، وأنا أفضل أن أكون حرًّا وأقول رأيي بحرية".
معارض لعرفات
عايش النكبة ورحل في زمن الانقسام الداخلي
عرف بمعارضته الدائمة لخط الرئيس ياسر عرفات في المفاوضات وإداراته المتسلطة لمنظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية، نتيجة لذلك عانى من عملية تهميش جرت بحقه من جانب قيادة السلطة الفلسطينية منذ تأسيس السلطة، حيث جرى استبعاده عمليًّا من الاهتمام الرسمي، على خلفية انتقاداته للنهج التفاوضي السائد، ولأداء السلطة والافتقار للشفافية والمعايير الديمقراطية. ويعرف الدكتور عبد الشافي المعارضة بـ"وجهة نظر تختلف عن وجهة نظر آخرين، وأعتقد أن المعارضة لا تكون إلا بنصرة الحق والصواب، وهناك معارضات لأسباب شخصية وحزبية ونصرة الباطل".
قدم الدكتور عبد الشافي استقالته مرتين منذ مفاوضات مدريد في العام 1990، الأولى عندما علم بوجود مفاوضات سرية بين منظمة التحرير الفلسطينية والجانب الإسرائيلي في الوقت الذي كان يقود فيه الوفد الفلسطيني إلى مدريد، والثانية عندما قدّم استقالته من المجلس التشريعي الفلسطيني؛ لكونه يطالب بفصل السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية عن بعضها البعض.
وعن سبب استقالته من المجلس التشريعي يقول عبد الشافي في إحدى مقابلاته الصحفية: "عندما كنا مجتمعين في رفح وكان وفد أجنبي يحضر جلسات المجلس التشريعي ليقيموا عمل الفلسطينيين، وكان الأخ أبو عمار رحمه الله جالسًا على المنصة وقام أحد الأعضاء بمداخلة أو أنه سأل سؤالاً لم أذكر، وإذا بأبو عمار يردعه ويطلب إسكاته".
ويضيف: "اعتبرتها فضيحة خصوصًا بوجود الوفد الأجنبي، فرفعت يدي وقلت (نقطة نظام)، وأعطيت الحق لأتكلم، وقلت: بأي حق للرئيس أن يقاطع عضو مجلس وهو ليس عضوًا في المجلس؟! وإذا جمهرة من الأعضاء قالوا: نعم له حق. واستقلت في اليوم التالي".
ختم عبد الشافي حياته السياسية بتأسيس المبادرة الوطنية الفلسطينية عام 2005 مع د. مصطفى البرغوثي وإبراهيم الدقاق.
المفاوضات والانتفاضة
بالرغم من قيادته لأول فريق تفاوض فلسطيني فإنه أفصح في أكثر من مرة في العقد الأخير من حياته عن قناعته بأن المفاوضات القادمة لن تخدم المصالح والآمال الفلسطينية، معتبرًا أن انتفاضة الأقصى جاءت برسالة واضحة تقول: إنه لا جدوى من المفاوضات، وليس للفلسطينيين أن يدافعوا عن قضيتهم إلا من خلال المقاومة.
كان للدكتور عبد الشافي ملاحظات على الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) وهي العمل العفوي والعاطفي غير المنظم، فهو يرى أن السلطة الفلسطينية تصرفت وكأنها ليست ذات علاقة بهذه الانتفاضة، في المقابل اعتبر أن طريق الاستشهاد الذي سار فيه الإسلاميون أبعد العالم أجمع عن الفلسطينيين.
ورأى أن المطلوب من القيادات السياسية مجتمعة أن تنهض بطريقٍ واحد لتنقل الانتفاضة من الحالة السلبية والعفوية إلى حالة النظام، وأن تقاتل للدفاع عن حقها، وأن تلتقي التنظيمات في جسم واحد لتناقش وجهات النظر المختلفة للوصول إلى قرار موحد بطريقة ديمقراطية.
غياب النظام سبب الهزيمة
كان يصر على أن العمل يبدأ بالعقل وليس بالعواطف، وأن الوحدة الوطنية منهاج الكفاح، وكثيرًا ما كان يدعو إلى أن تكون الشعارات التي تطلق منطقية وقابلة للتحقيق، ولا يوافق على إطلاق القذائف الكلامية مثل "من البحر إلى النهر"، فكل كلمة يجب أن يكون لها حساب ولا يجوز الانجرار وراء الأوهام.
كان يؤمن بأن على الفلسطينيين أن يبدءوا في تنظيم أنفسهم "فغياب النظام وغياب الأخلاق" هو سبب الهزيمة، وحين يمتلكون النظام والأخلاق سيبدءون مسيرة التحرير... فهي مسيرة طويلة، ولا بد أن ترتكز على الإقناع بأن الصمود هو طريق السلام العادل الذي يستند على القرارات الشرعية الدولية، ويضمن حقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولة حرة خالية من الاستيطان الإسرائيلي.
فالمخرج الذي طالما نادى به عبد الشافي هو ممارسة النظام، ويشير قائلاً: "إلى يومنا هذا لا نعير مبدأ النظام الاهتمام المطلوب وهو إحدى نكساتنا المتكررة ولدينا الولع بالارتجالية"، ويرى أن قصور الفلسطينيين الأساسي هو بتقديم الالتزامات الفئوية والحزبية على الصالح العام.
وغالبًا ما كان يذكر كلمة لموشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلي السابق عندما أجاب على سؤال ينظر إلى المستقبل؟ قال: "أنا غير قلق بالنسبة للمستقبل، ولكن عندما أرى الفلسطينيين يقفون في صف منظم لركوب الباص أشعر بالقلق".
وعبّر عبد الشافي غير مرة عن أن من أهم أسباب المآزق الفلسطينية المتتالية هو ترك المسرح مفتوحًا لأية فئة تفعل ما ترغب، معتبرًا أن كثرة وجهات النظر العديدة والإستراتيجيات المختلفة في هذا الشأن هو سبب استمرار الفوضى، فكان يشدد على أنه لا يحق لأية فئة أن تنفرد وتتصرف وفقًا لرغباتها.
ويتمثل الحل من وجهة نظر عبد الشافي في أن تنضم جميع هذه الفئات الفلسطينية في هيئة واحدة يعربون فيها عن وجهات نظرهم بالتفصيل، ومن ثَم يتوصلون إلى قرارات بطريقة ديمقراطية يلتزم بها الجميع.

رحمه الله وغفر له ..