السلام عليكم

--------------------------------------------------------------------------------

من سلسلة عباقرة معاقون :
قصة : ريشة في الظلام بقلم د. مصطفى عطية جمعة

بوريس بريجنكوف
الرسام فاقد البصر
رسام روسي شهير ، ولد في العام 1935 .

*
قال بوريس بريجنكوف لزوجته :
- تخيلي يا " إليجا " أنني صرت أرى اللوحات بصعوبة .
أجابت الزوجة التي كانت تحتسي الشاي بجواره :
- عجيب هذا ، لقد كنتُ أظن الأمر مجرد مرض في عينيك .
- يظهر أن الأمر أخطر مما كنا نظن . لقد بتُ غير قادر على تمييز الألوان .
قالت الزوجة مطمئنة له :
- عمومًا ، أي مرض له علاج ، وأنت لا زلت في سن صغير ، فلا تقلق ، فعيناك لا تزالان بخير .
- سأذهب إلى الطبيب مرة أخرى .
* * *
تفحص الطبيب عيني " بوريس " بصمت ، وظل يجوب في كل عين بجهازه الضوئي ، ثم عاد إلى مقعده ، وهو يقول :
- لا تقلق يا بوريس العزيز ، عليك أن تسير على هذا الدواء .
بوريس بحيرة :
- صارحني يا دكتور ، ماذا بي ؟
قال الطبيب بملامح جامدة :
- هذا الدواء سيحسن عينيك كثيرًا ، وسأقوم بتفصيل نظارة طبية لك ، ستساعدك على الرؤية .
قالت الزوجة للطبيب :
- هل يستطيع الرسم الآن ؟
أجاب الطبيب :
- أوصيه أن يستريح هذه الفترة ، وعليه أن يترك الرسم جانبًا ، حتى تتحسن عيناه والهوايات كثيرة .
هتف " بوريس " بصوت قوي :
- الرسم ليس مجرد هواية لي يا دكتور ، إنني أحبه أعشقه بقوة منذ صغري ، ولن أستطيع أن أعيش بدونه ، علاوة على أنه مهنتي الأساسية .
هدأ الطبيب من انفعاله ، وقال :
- يا عزيزي ، إنها مسألة وقت ، وستعود بعدها إلى هوايتك المحببة .
ثم أردف :
- الآن ، استعد حتى آخذ مقاس النظارة لك .
استسلم " بوريس " للطبيب ومساعده ، وهما يقومان بإعداد النظارة له ، كانت هذه أول نظارة يرتديها في حياته ، شعر كأنها سفصله عن الطبيعة الجميلة التي يحبها ، لقد اعتاد أن يرى كل شيء من خلال عينيه مباشرة ، وليس عبر زجاج النظارة .
وضع الطبيب النظارة على عينيه ، وقال له :
- مبارك عليك النظارة . هل تعلم أن شكلك وسيم وأنت ترتديها ؟
- شكرًا لك يا دكتور .
- عمومًا ، تعود عليها ، وستساعدك في القراءة وقضاء حاجاتك بسهولة .
- والأهم من هذا أنها ستحرمني من الرسم .
عندما خرج بوريس مع زوجته ، قال لها وهما في الطريق :
- إنني شعر بالقلق الشديد من كلام الطبيب ، وأحس أنه يخفي الكثير عن حالتي .
قالت إليجا :
دائمًا أنت تقلق نفسك بدون داعٍ ، لقد أكد لك على أن عينيك بخير .
* * *
سارت حياة بوريس على وتيرة واحدة ، يستيقظ في الصباح ، فيتناول فطوره ، ثم يشرع في مطالعة الصحف ، على مقعد في الشرفة .
ويحرص ألا يقترب من مرسمه ، حتى لا يسترجع ذكرياته الجميلة فيه .
أقبلت زوجته إليجا مرة وهي تقول :
- لقد اتصلت مديرة معرض الفنون في موسكو .
- لماذا يا إليجا ؟
- تتساءل : متى سيكون معرضك الجديد ؟
- أي معرض ؟
- أنسيت يا " بوريس " أنك كنت تعد لوحات معرض جديد ؟
- نعم نسيت .
اقتربت الزوجة من زوجها ، ولمست يديه بحنان وهي تقول :
- بوريس ، أرجو ألا يكون مرض عينيك قد جعلك تيأس .
أمسك يديها وقال :
- لقد يأست بالفعل .
- يأست يا بوريس ؟ كيف وأنت الذي كنت تقول دائمًا : إن الحياة بلا أمل لا تساوي شيئًا .
قال بوريس وهو يعود لجريدته :
- كنت أقول ذلك بالفعل عندما كانت حواسي كاملة ، أما الآن فأهم ما لدى الفنان قد فقدته :العينين .
- عمومًا ، نقوم بعمل المعرض ، حتى تتحسن عيناك .
- افعلي ما تشائين ، ولكنني لن أحضر افتتاح المعرض .
قفزت دمعة من عيني زوجته وهي تقول :
- لن تحضر افتتاح المعرض ! لماذا ؟
- لأنه سيكون معرضي الأخير .
* * *
تم افتتاح معرض بوريس، وتسابقت الصحف في الإشادة بجمال لوحاته ، وحينما حملت " إليجا " عدة صحف كي تريها لزوجها ، قائلة :
- انظر يا زوجي الحبيب ، ماذا تقول عنك الصحف ؟
- وماذا تقول ؟
- إنها تصف لوحاتك بأنها رائعة وجميلة جدًا .
- إذن ، هي تمدح اللوحات ، ولا تمدح صاحبها . والآن ، أنا لن أنتج لوحات جديدة .
قالت الزوجة : أنت متشائم للغاية .
بوريس : الحقيقة المؤلمة أنني صرت ضعيف جدًا في النظر ، إنني لا أكاد أرى الأشياء القريبة ، لقد خدعني الطبيب .
الزوجة : ماذا تقول ؟ ألم يقل لنا الطبيب أنك ستتحسن ؟
- ولكنني أسوء يومًا بعد يوم .
- سنذهب له ثانية .
* * *
عندما دخل بوريس وإليجا إلى عيادة الطبيب ، قال بوريس بانفعال شديد :
- لقد خدعتنا يا دكتور .
بهدوء أجاب الطبيب : ماذا حدث ؟
- إنني لا أكاد أرى تقريبًا .
قام الطبيب من مقعده واقترب منه :
- اسمعني يا بوريس ، إننا أصدقاء منذ زمن بعيد ، ولم أشأ أن أقول لك الحقيقة كاملة،
قاطعه بوريس : وما هي الحقيقة الكاملة ؟
- الحقيقة أنك مصاب بمرض اسمه تآكل القرنية ، والطب لا يزال الآن لم يصل إلى علاج لهذا المرض .
قام بوريس من مكانه مبهوتا : هل تقصد أنني سأفقد نظري إلى الأبد .
الطبيب : ربما يتوصل الأطباء إلى علاج جديد .
قام بوريس من مكانه هازئًا : علاج ، إنه العمى ، هل عرفت يا إليجا ، إنه العمى الكامل ، لقد مت وأنا أحي .
ثم راح يتحسس حوله ، وهو يصرخ :
- أريد أن أخرج من هنا ، لقد كرهت الحياة كلها .
أمسكت إليجا زوجها ، وراحت تقوده خارجًا ، بينما الطبيب يرفع صوته :
-انتظرا ، المسألة ...
* * *
كانت الأيام التالية شديدة الألم على بوريس ، لقد ازداد انعزالاً في غرفته ، وخاصم الناس جميعًا ، ولم تفلح محاولات الزوجة المخلصة أن تخرجه من وحدته القاتلة . كان يقول لها دائمًا :
- الدنيا كلها سواد حولي ، فماذا يفيد لو أنني تركت الغرفة أو البيت أو البلد كلها، لن أرى إلا السواد .
وكانت ترد عليه قائلة :
- إنك ترى الحياة بروح الرسام ، عش كإنسان عادي .
- لا أستطيع ، لأن الرسم في دمي ، والحياة لوحة كبيرة أتأمل فيها كل يوم .
* * *
جاء الطبيب لزيارة مريضه ، فقالت له " إليجا " :
- إنه لا يخرج من غرفته أبدًا ، إنني أخشى أن يحطم نفسه بيديه .
- وهذا هو السبب الذي أخفيت مرضه عنه .
ثم واصل حديثه :
- دعيني أقابله ، ربما أفعل شيئًا معه .
طرق الطبيب باب الغرفة ، فسمع صوت بوريس وهو يقول :
- ادخلي يا إليجا ، لماذا تطرقين الباب ؟\
دخل الطبيب ، وهو يقول ضاحكًا :
- لست إليجا ، أنا صديقك القديم وطبيبك .
ابتسم بوريس بوهن ، وهو يقول :
- لم يفلح طبك في علاجي .
- لماذا أنت يائس يا بوريس ؟
- سؤال عجيب ، ولماذا يكون لدي أمل ؟
- لأنك لو كنت فقدت إحدى حواسك ، ولكن باقي حواسك لم تفقدها .
سخر بوريس منه قائلا :
- عجيب أمرك ، ألا تعرف أن الحاسة الأساسية للرسام هي عيناه ؟ \
- نعم ، ولكن ترسم بيديك وأنت لم تفقد يديك ، ولديك عقلك الذي تفكر به وتتأمل ، ولديك إحساسك الجميل .
هتف بوريس :
- ماذا تريد من هذا الكلام يا صديقي ؟
- أريد أن أجعلك تبحث عن أمل جديد في الحياة ، وتستطيع أن تجد عشرات الهوايات التي تعمل بها ، وإلا حكمت على نفسك بالموت .
صمت بوريس ، كان كلام الطبيب به الكثير من العقل .
* * *
راح بوريس يعيد كلام الطبيب على نفسه مرات ومرات ، وهو يفكر ، وبعد أيام قال لزوجته مبتسمًا :
- لقد قررت أن أقوم بعمل جديد ؟
الزوجة بفرح : صحيح يا بوريس ، عمل جديد ، ما هو هل ستملي مقالاتك عليّ أو تريدني أقرأ لك ؟
بوريس : لا أريدك أن تعدي لي مرسمي، وضعي خاصة باليت الألوان ولوحة قماشية سأبدأ في الرسم .
تعجبت الزوجة : ترسم وأنت ... كيف ؟
بوريس : وأنا أعمى ، إذا كنت فقدت بصري فأنا لم أفقد يدي ، إن يدي بهما الكثير من الخبرة في التلوين والرسم ، ولا زلت أحتفظ بكثير من المشاهد الطبيعية الجميلة في نفسي ، ولم تغادر مخيلتي .
الزوجة : ولكن كيف ستتعرف على الألوان ؟
- المسألة بسيطة ، عن طريقك ، أنسيت أنك كنت تساعدينني من قبل . هيا يا زوجتي العزيزة .
أسرعت الزوجة غير المصدقة ، وأعدت المرسم ، ثم قالت :
- اللوحة جاهزة يا بوريس .
نهض بوريس من مكانه ، وراح يتحسس اللوحة ، ثم أمسك بالقلم الرصاص من يد زوجته ، وراح يخطط على القاش بهدوء ولكن بخبرة عالية ، وهو يقول :
- إليجا ساعديني ، هل هذا الخط مناسب ؟
فتجيبه : أجل ، كأنك ترسم في الماضي .
ظل بوريس يرسم متخيلاً الأبعاد ، والزوجة توجهه ، وهو يضحك ثم قال :
- الآن نستريح ، وبعد قليل نبدأ في التلوين .
* * *
عقب ساعتين من الراحة ، عاد بوريس إلى مرسمه ومعه زوجته ، قال :
- ماذا رسمت يا إليجا ؟
- إنك رسمت أشجارًا ونهرًا وسماء .
- إذن أعدي لي على الباليت ألوان الأخضر والبني والأزرق والأصفر ، وابدئي في وضع كل لون في مكانه كما سأقول لك .
أعدت الزوجة ما طلب ، حيث راح يوجهها بقوله :
- لجذع الشجرة هاتي اللون البني ، ثم قرّبي يدي من الجذع ، وسأقوم بالتلوين .
وراح يلون الجذع بدقة والزوجة تراقبه بحيرة ، كانت أنامله تلون بخفة ، وتارة يسألها عن المسافة وهي تجيبه .
* * *
مرت أيام وأسابييع ، وحينما جاء الطبيب لزيارته ، اصطحبه بوريس إلى مرسمه وهو يقول :
- لك كل الشكر يا صديقي الطبيب .
- على ماذا ؟
- لأنك ساعدتني على العودة من جديد .
الطبيب : أنت صديقي ، وذو موهبة كبير في الرسم ، وإن ما فعلته يعتبر معجزة كبيرة .
بوريس بفرح :
- لقد قررت أن أقوم بعمل معرض بعد أشهر .
- بهذه السرعة ؟!
- نعم ، فإنني أنجزت لوحات متعددة ، وقد زارني بعض النقاد والصحفيين وأبدوا إعجابهم الكبير ، واعتبروا أن ما أنجزته يتمم مسيرتي الفنية الماضية .
قال الطبيب متأملاً اللوحات :
- بالفعل ، إن أرى في لوحاتك الكثير من الإبداع ، وكأنك صرت أكثر خبرة من صورك السابقة .
- نعم ، لأنني الآن ، أتأمل كثيرًا ما اختزنته في أعماقي من مشاهد ، ورحت أسترجعه كلما خلوت بنفسي .
شد الطبيب على يد بوريس وهو يقول :
- دعني أقول لك : إنك دخلت التاريخ من أوسع أبوابه ، لقد صنعت معجزة حقيقية