في ليَلةِ الهِجرة ..


يَشُم ُّالنَّبي ﷺ رائحة خَديجة في حَنايا المَكان .. يَسمعُ صَوتها وَرْدياً يفوحُ مثل اليَاسَمين : ( لنْ يخذُلك اللهُ أبداً ) !


كانت امرأةً من خارِج الزَّمان ..
كان الّليل مَعها يُشرق بالنَّهار .. مثل ظَبية بَهيّة ؛ تَحنو عليه وتُدثّره ، وتَلمُّ شَعثَه بالمَال والبَنين !


تحرُسه بأسرابٍ مّن حَمام رُوحها .. وكُلَّما تمادَت قُريش في عَتمتها ؛ كانَ يلقَاها ، فَيرى الشّمس تَجري في ضَحكتها .. فاستحَقّت من الله بيتاً في الجنّة { لا نَصب فيه ولا تَعب } !


يجمع النّبي ﷺ الذّكريات الأخيرة ..
يَفيضُ البيتُ بِروحانية عُلويّة ويبَكي .. !
فَفي ليلةِ الهِجرة .. تَدنو خَديجة من قلب النبي ﷺ ثُمّ تَنأى .. ويظمأُ النَّبي ﷺ شوقاً لغيمة ؛ ظَلّت تَهْطل طوال العَهد المَكيّ !


تَرتبكُ النِّساء في وَفرة يَنابيعك يا خَديجة ..
أيا رحيقَ الجَمال
ونَبضُ النّبي في حُبّه
يا من انت البداية وأنت أنت الخِتام !


فلا ( واللهِ ما أبْدَلني اللهُ خيراً منها ) .. فَمَعكِ كَتبَ النَّبي ﷺ أبجديات حُبٍّ عُلويّ فوقَ معاني الدّهر ، وفوق ما تُطيقه أفهام الحَياة !

ترى ..
أكانَ هذا بيتٌ بشري ؛ أمْ مدارِج رُوحين التَقيَا على عِشق الهرولة لله !


يُهرولان رغم العَتمة ؛ كيْ يَصنعا للعالم مَزيداً مِن النُّجوم !

خَديجة يا سيّدة نِساء الجنّة ..
ها أنا الّليلة أُغادر عُشّاً ؛ تنزّلَت فيه المَلائكة !


ينْتَحب البيت للخَطوة الرّاحلة ..
وتهتَزُّ الأشواق على صوتِ النّجوى لوداعٍ أخير ..
ويُلمْلِم النّبي ﷺ ما أبقَت له قريشُ بعدَ الحِصار !


كيفَ غادَرت عين مُحمّد شُطآن خَديجة ؟!
ربّما لو كَشَف لنا الغَيب تلك الّلحظة ؛ لرأينا الحكاية في المآقي تَفورُ بالوَجد ، حتّى تتَزلزل لها الجُدران !

يا للهِ ..
كيفَ يَكتبون الأنبياء مِن جراحهم تواريخَ مِيلادنا !


يا للهِ ..
كيفَ يُغادرون سِلال الذِّكريات ، ويُسافرون غُرباءَ في الطّريق !


نختصَر نحنُ الحكاية في سَطرين .. وفي ضَمير مُحَمّد ﷺ ؛ ظلّت مكة حنيناً يموجُ بالشّوق كلّما هبَّ النّسيم من نواحيها !


يقفُ مُوَدِّعا للوطن بِعبرةٍ مَستورة : ( واللهِ إنّك لأحَبّ البِقاع إليَّ ، ولولا أن أهلَك أخرَجوني منكِ ما خَرجت ) !


الوَطن هو سِترنا ..
لكنَّ قُريش جَعلته قَميصاً لا عُروة فيه .. فكانت الهِجرة لأجلِ أن يَطوي عنّا النَّبي ﷺ العري ..


لأجلِ أن يَطوي عنّا جاهلية ؛ تَضعنا على الهامِش ، وتُبقينا في قائمةِ العَبيد !

فيا للتَّضحياتِ ..
كيفَ تصنعُ أقدار الله مِن بعض الأرواح ؛ بناَناً شاهداً على الرِّهان ، بأنَّ وعدَ الغَيب آتٍ !


يُهَيءُّ النّبيّ ﷺ سَريرهُ للشَّاب الفَتيّ في مَشهد تَوحُّدٍ عَجيب ؛ بين رُوح عَليٍّ ورُوح النّبي ﷺ ..


حيثُ لا مسافةَ في الحُبّ .. ففي حُبِّ مُحَمّد ﷺ تَلاشت الذّات .. حتّى مَسّت رُوح علي رُوح النَّبي ﷺ ، و تلاشَى فيه حتّى اكتمل !


يتوَهّج عَلِيّ ؛ كنَجمٍ يدورُ في فُلك النّبوة ..
يَسند عَليّ النَّبي ﷺ ؛ فيَستندُ عَلِيّ بهِ إلى الأبد !


لا عَجب إذن ؛ أنْ يتّصل عَلِيّ بالنَّسَب ، ويتَزوّج بِضعةً مِن مُحَمّد ﷺ .. يتزوجُ فاطمة شَبيهةَ أبيها ! ..


كلّ شَيءٍ في بيتِ خَديجة يَأوي إلى الصَّمت ..
يَتكثّف الأسى في سُويعاتِ الرَّحيل ..
يَنسَكبُ في روحِ المَكان ، وتَلتقط السّماء صوت الوَجع في القُربان !


واهِمٌ ..
من يَظنُّ أنَّ خُطى الأنبياء لمْ تزاحِمها العَذابات !


واهِمٌ ..
َمن يَظنُّ أنّ طَريق الهِجرة لمْ تَعصِف فيه غُبار الذِّكريات !


يقْفلُ مُحمَّد ﷺ سِنين قريش .. ويَرحل في بدء الخَمسين من عُمره !


قلبٌ تَجاوز عُمْر الشّباب ؛ يُزهِر بالأملِ ، ويَحمل الغَيم لِطَيبة ، ويهدي البَشرية أسرار المَواسم الخَضراء !


لا وقتَ للأحزان ..
ها هُو النَّبي ﷺ يُمدُّ بصره ؛ فيَرى سُراقة بِعين النَّبي ﷺ ما لا يرى ..
يرى سُفن الإسلام على مَرافىء الفُرس ..
ويَرى { المُوريات قَدْحاً } على بِساط كِسرى !


يَرى سُراقة خَيله تَغور في الرِّمال ؛ فيَنتبه إلى الإشارةِ ، ويَفهم :
أنَّ أقفال َمَكّة على موعدٍ مع مَفاتيح مُحَمّد ﷺ !


تَبدو خطوات الهِجرة بلا صَدى على الرِّمال ..
تَبدو عُبوراً عابراً ..
ويظَنُّ بعضُ الرُّعاة ؛ أنَّ خطوة الرَّكب عاثِرة !


فقَد كان طريقُ الهجرة فارغاٍ الا مِن مُحَمَّد ﷺ وأبي بكر ..
وكان النَّبي ﷺ حينها ذاهبا ؛ كيْ يَصنع زِحام العَودة !


كانَ طَريق الهِجرة مسكون بالحَذر .. وكان النَّبي ﷺ ذاهباً كيْ يصنع في أصواتِ العائِدين ؛ ( جاءَ الحَقُّ وزَهَق الباطِل ) نشيداً يَشُدّ نَشيداً !


ذاهبٌ ..
كيْ يشدَّ الصَّحب أقواساً لبدر وفَتْح مكّة !


ذاهبٌ ..
وقد أَسرج خيله بِنطَاقيْ أسماء ؛ كيْ يَصنع جَيشاً تمهرهُ تضْحياتُ النِّساء !


حيثُ تُنذر المَرأة وهْجهها ، وقِلادتها ، ونِطاق خصْرها ؛ لصهيلِ الخيل !


[ المرأة في زمنِ مُحمّد ﷺ ؛ تُدلّل الخيل ، وتَهبه بَريقها ] !


كانت أسماء .. تَكتب نصّ الأُنوثة الحَقيقية ، وتُخبرنا أنّ زينةَ النِّساء هَشّة ؛ الا إذا تَوَشّحت بها أعناق الفَاتحين !


مِن بَعدِ أسماء قَصّت النّساء شُعورهنّ لِخَيلِ الفَتح ..
وارتَفعت أسماء بِزينة المَرأة الى خلودِ الجِنان ( نِطاقَين في الجَنّة ) !


يَعْبرُ النَّبي ﷺ عبرَ الغار تَحوطه ثِقة ( إنَّ اللهَ مَعنا ) ..
تلوكُ الجاهِلية بقَاياها ، فالهِجرة توقيتُ البِداية لانتهاءِ الجُروح !

تَسقُط قَطرة عَرقٍ مِن جَبين مُحَمّد ﷺ ، وتَغرق في الرِّمال المُلتهبة ..
تلك القَطرة هي أول نُقطة في طُوفانٍ مُحتَدم ؛ سَيجمعه مُحَمّد ﷺ من عَرق الصَّحابة !


سَتمضي مَلايين الّلحظات .. قَبل أن تكَتشِف قُريش ؛ أنَّ مُحَمّد ﷺ كان ذاهباً كيْ يَكتُب بصمتٍ عميق مَرثيّة قُريش الأخيرة !


ذاهبٌ ..
كيْ يَصنع رجالاً ؛ يتَّكىءُ الإسلام عليهم ، فلا تأكلُ الجَاهلية مَنْسَأتهُ أبداً !


ذاهبٌ ..
في سنواتٍ عَشر .. لنْ يَشيخ فيها ، لأنَّ الذين يَبذرون في صَمت حكيم ؛ تُزهر حُقولهم على حَينِ غَفلة من الجاهِلية ، ولا يَبقى في أعمارِهم مَوطىء حُزن !


الهِجرة ..
هي درسُ السَّماء ؛ أنَّ العِطر لا يفوحُ إلا إذا كان مَكنوناً ..
لذا .. هاجرَ النَّبي ﷺ كيْ يزرعُ الجنَائن بِعرَق الصَّمت ؛ حتّى تتَنفَّس عِطراً أبَديّاً في مآذنِ الأرض !


عليكَ الصَّلاةُ والسّلام ..
يا من مسَحْتَ بِسَعيٍ لا يَكِلّ عن قلوبِ الأمّة الجاهِلية ؛ فارتَدَّ بِتَعبك القلبُ بَصيراً !


نحنُ يا رسولَ الله .. مَن نَقصمُ ظُهورنا بالعَجزِ .. ولو فَقِهنا فِكرة الهِجرة ؛ لَمَا نبَت لنا في الطَّريق الطُّغاة !

عامٌ هِجريٌّ على خُطى النَّبيّ ﷺ .. مليءٌ بالسَعيِ يا أُمَّتي !