في مقدمة كتابه «الاقتصاد السفلي» ذكر الكاتب الصحفي الأمريكي «إيريك شلوسر» «أن الجنس وغيره من مصادر الاقتصاد السري، يمثل جزءًا حيويًا من أمريكا، دوره لا يقل أهمية عن الدور الذي تلعبه شركات أمريكية عملاقة أخرى، مثل (مايكروسوفت) و(جنرال موتورز)، للتحكم في اقتصاديات العالم، فقد صار (البورنو) أكثر نفوذًا منها مجتمعة».
في الأسطر القادمة سوف نحاول إلقاء الضوء على صناعة الإباحية من منظور اقتصادي بحت، بعيدًا عن الخوض في الإشكالية الأخلاقية، أو الدينية، لهذه الصناعة، وباعتبارها سلعة يسعى القائمون عليها لتطويرها، وتحقيق المزيد والمزيد من الربح.


فحينما تصل أرباح هذه الصناعة إلى مليارات الدولارات، وعندما يتوغل نفوذها داخل الكيانات والمؤسسات والدول، وعندما تكون موردًا أساسيًا من موارد الضرائب لدى الدول التي تعمل فيها، كان ينبغي لنا الوقوف على هذا الأمر، في محاولة للتعرف على حجم هذه الصناعة، وكيف تعمل، وكيف تطورت عبر السنوات الماضية لتصل إلى هذا الحجم، ومن أبرز القائمين عليها، وما الصعوبات والتحديات التي تواجهها، وكيف يبدو مستقبلها؛ إذ الإباحية الآن لم تعد مجرد دقائق يسرقها الناس خلف الشاشات، بل هي أكبر بكثير، أكبر مما نتصور.


البداية


منذ إصدار مجلتي «بلاي بوي» playboy و«هستلر» hustler في منتصف القرن العشرين، وتحديدًا في العام 1953م، اتجهت الإباحية لتأخذ منحنى آخر في شكل عمل مؤسسي تنظيمي، كالشركات، ومن ثم ازدهرت الصناعة لدرجة يصعب معها تحديد حجمها «المخيف» بشكل دقيق.




1وادي «سان فرناندو» (San Fernando Valle)
يقع هذا الوادي في «لوس أنجلوس»، «كاليفورنيا». ويقطنه 1,8 مليون نسمة. يقوم اقتصاد المنطقة برمتها على صناعة الأفلام الإباحية، ومن ثم اعتبر الوادي معقِل وموطن صناعة الأفلام الإباحية. وتشير تقديرات إلى أن هذا الوادي يشغل أكثر من 20 ألف شخص في هذه الصناعة وحدها.


وهو موطن للعديد من الشركات المعروفة التي تعمل في الأفلام السينمائية، وتسجيل الموسيقى، والإنتاج التليفزيوني. وأصبح الوادي منطقة رائدة لصناعة أفلام الكبار في عام 1970م، ومنذ ذلك الحين نمت الصناعة فيه بمليارات الدولارات. وله العديد من الألقاب مثل «وادي الإباحية» (Porn Vally)، و«وادي سان بورناندو» «San Pornando Valley».




2شركة MindGeek .. عملاق الصناعة!
في عام 2004 أنشأ شاب ألماني يدعى «فابيان ثيلمان» صاحب الـ 26 عامًا آنذاك شركة «Manwin»؛ لتشغيل وإدارة الأفلام الإباحية عبر الإنترنت، والتي أصبحت ـ فيما بعد ـ عملاقًا منشئًا للمواد الإباحية، مدفوعًا بخبرة كبيرة في البرمجة، وطموح جامح. بحلول عام 2012 استحوذت «مان وين» Manwin على معظم مواقع الإنترنت الأكبر على الشبكة، وكان هدف «فابيان» هو السيطرة على العالم، من خلال الهيمنة، واحتكار صناعة الإباحية على المستوى العالمي؛ إذ صرح بأنه لو استطاع شراء كلٍّ من موقعي «إكس فيديو» Xvideos و«إكس هامستر» XHamster، فإنه في هذه اللحظة يكون قد أتم بناء إمبراطورية إباحية عبر الإنترنت، مع نيته شراء أية شركة منافسة تخرج للنور. ولكن المالك الفرنسي لموقع إكس فيديو قد رفض عروضًا وصلت إلى أكثر من 120 مليون دولار لشراء الموقع.


في ديسمبر (كانون الأول) 2012 بدأت السلطات الضريبية في ألمانيا وبلجيكا سلسلة من الملاحقات الضريبية مع «فابيان». في أكتوبر (تشرين الأول) 2013 باع «فابيان» حصته في شركة مان وين Manwin بـ 73 مليون يورو، والتي أصبحت في ذلك الوقت أكبر شركة للمواد الإباحية في العالم. بعدها تغير اسم الشركة إلى «مايند جيك» MindGeek وبدأ عهد جديد لهذه الشركة.
كيف حولت شركة «مايند جيك» (MindGeek) اقتصاديات الإباحية في العالم!


تمتلك الشركة الآن 8 من أصل أكبر 10 مواقع للإباحية على الإنترنت، مما جعلها المحتكر الأكبر لهذه الصناعة في العالم. ومنذ أن أصبحت MindGeek، ما يعرف في علم الاقتصاد بـ «الموزع المهيمن»، فقد كان لها آثار عميقة على الطريقة التي تعمل بها صناعة الجنس برمتها، وهو ما يمكن أن نسميه قلب لاقتصاديات الإباحية المعهودة سابقًا.


فالشركة ترسخ احتكارها عميقًا، وما دونها من اللاعبين في السوق تُعد خياراتهم محدودة جدًا في مقابل «الموزع المهيمن». الأمر يشبه إلى حدٍ بعيد شركة «أمازون» في عالم نشر الكتب، عندما كان هناك العديد من المكتبات، وعدد قليل من دور النشر الكبرى، كان للناشرين معظم السلطة بينهم وبين المكتبات، ولكن عندما يكون هناك مكتبة ضخمة واحدة، تتغير موازين القوى، وتبدأ أمازون في إملاء الشروط على الناشرين.


وبالمثل، عندما سيطرت مايد جيك على عدد كبير من الاستوديوهات الإباحية كبيرة التوزيع عبر الإنترنت من خلال المواقع الخاصة بها، والمواقع التي رخصت محتوياتها، وتعاقدها مع «مبدعي الصناعة»، فهي التي تحدد شكل العلاقة بينها وبين الكيانات الأخرى. هذا المحتكر الكبير الآن هو أكبر مخترق لحقوق التأليف والنشر للكيانات الأخرى، وبالطبع لا يمكن للأخيرة المطالبة بسحب محتواها المتاح بشكل مجاني على مواقع مايند جيك، مثل صعوبة أي من الناشرين في عدم السماح لأمازون ببيع كتبهم، ومن ثم تضطر هذه الكيانات إلى الرضوخ لشروط شركة مايند جيك في النهاية.


تستخدم مايند جيك خوارزمية لا تختلف عن الخوارزميات التي تستخدمها شركات مثل أمازون، أو الإعلانات على «فيس بوك»، على أساس تاريخ التصفح لمرتادي هذه المواقع في أي مكان آخر، وعلى أساس موقعهم الجغرافي. وبالتالي يمكننا القول إن أنماط استخدام الإباحية الخاصة بالأفراد تتشكل إلى حد كبير من قبل شركة مايند جيك، فهم يسيرون وفقًا للمبدأ الاقتصادي بأن السوق يمثل مجموع الرغبات والاحتياجات البشرية، وبالتالي مهمتهم الأساسية هي توجيه هذه الرغبات والاحتياجات والتحكم فيها.




مجلة «بلاي بوي» playboy.. تطوير وتحديث في نموذج الأعمال!


وفي شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي قررت المجلة التخلي عن الصور العارية بشكل كامل، بعد أكثر من 62 عامًا من الإباحية الصريحة؛ لتكتفي بعرض الصور المثيرة شبه العارية؛ وذلك كاستراتيجية منها تستهدف مواكبة التطورات الحالية، وزيادة أعداد المتابعين، والاندماج مع شبكات التواصل الاجتماعي، مثل «فيس بوك»، و«تويتر»، و«إنستجرام». وهو ما انعكس على شعبية المجلة مؤخرًا من خلال زيادة حركة المرور على شبكتها إلى أربعة أضعاف، من 4 ملايين إلى 16 مليون زائر شهريًا.


حجم الصناعة وأرباحها الخيالية!


الإيرادات الإباحية أصبحت أكبر من إيرادات «كرة السلة، والبيسبول، وكرة القدم» مجتمعين، عام 2012.
تواجه صناعة الإباحية ـ في الوقت الحالي ـ إعادة هيكلة كبيرة؛ فقد اختفت معظم الوسائل التي كانت تستخدم من قبل كالمسارح الإباحية، والمطاعم الإباحية، وصناعة الـ« DVD»، وانخفضت الأفلام الإباحية التقليدية، وأصبح الاعتماد الأساسي على الفيديو الرقمي. على الصعيد العالمي، فإنه وفقًا لـ «كاسيا وايسك» الأستاذ المساعد في علم الاجتماع في جامعة «نيومكسيكو»، فإن حجم صناعة الإباحية بلغت 97 مليار دولار، وما بين 10 مليار إلى 12 مليار دولار تأتي من الولايات المتحدة.


وتشير تقديرات «هافينجتون» إلى أن الأعمال الإباحية حققت 10 مليار دولار في 2012، وذكرت CNBC أن الشركات الإباحية بقيادة «مان وين» و«فيفيد إنترتاينمنت» (Vivid Entertainment) و«ديجيتال بلاي جراوند » Digital Playground قد حققت في 2012 إيرادات وصلت إلى 14 مليار دولار. وبالتالي فالإيرادات الإباحية أصبحت أكبر من إيرادات كرة السلة، والبيسبول، وكرة القدم مجتمعين.


تشير التقديرات إلى أن هناك من 700 مليون إلى 800 مليون صفحة إباحية على الإنترنت، ثلاث أخماسها في الولايات المتحدة. وهناك تقديرات تمت في 2013 تقول إن هناك 25 مليون موقع إباحي في جميع أنحاء العالم، تشكل 12% من جميع المواقع. أكبر موقع لشركة مايند جيك وهو «بورن هب» (PornHub) يقول إن لديه حوالي 80 مليار مشاهدة فيديو العام الماضي، وأكثر من 18 مليار زيارة. وتقول شركة مايند جيك بأن مواقعها تخدم أكثر من 100 مليون زائر يوميًا، وتستهلك 1,5 تيرابايت من البيانات في الثانية الواحدة، بما يكفي لتحميل 150 فيلم روائي.


يقول «سيباستيان أنتوني»، الذي يكتب إلى «إكستريم تك» Extrem Tech، «إن موقع (إكس فيديو) Xvideos هو من أكبر مواقع الإباحية على الإنترنت، ويتلقى 4.4 مليار مشاهدة للصفحات و350 مليون زيارة كل شهر». واستنادًا إلى بيانات «جوجل» فإنّ أربعة أخرى من أكبر خمسة مواقع أباحية قد بلغ عدد مشاهداتها كالتالي:


pornHub


2,5 مليار مشاهدة شهرية.


Youporn


2,1مليار مشاهدة شهرية.


Tube8


970 مليون مشاهدة شهرية.


LiveJasmin


710 مليون مشاهدة شهرية.


النهج الجديد الذي تتبعه هذه الصناعة هو محاولة ربط العالمين الحقيقي والافتراضي، من خلال تقديم العروض الحية عبر «كاميرات الويب»؛ إذ يدفع العميل 4 دولار في الدقيقة لتقديم عرض شخصي له. وتتميز مواقع الكاميرا Cam بأنها من أكبر المعلنين على صفحاتها لمقاطع الفيديو للمواقع الأخرى. فمثلًا موقع LiveJasmin واحد من أكبر هذه المواقع، ولديه 40 مليون زائر يوميًا، مؤسسه هو «جورجي جاتيان» أغنى رجل في المجر.


«مشكلات» تواجه الصناعة!


القرصنة الموسعة للمحتوى وخرق حقوق الطبع والنشر، والبيع غير القانوني، والنشر من قبل المواقع الانتهازية. فهناك إحصائية تشير إلى أن سرقة المواد الإباحية تؤثر على هذه الصناعة بحوالي 2 مليار دولار سنويًا، بالإضافة إلى الزيادة الهائلة في المواقع الإباحية المجانية، وسهولة إنتاج الهواة للفيديوهات.


تواجه الصناعة مخاطر تنظيمية؛ إذ تسعى الحكومات لتعزيز فرض القيود على المشاهدين. فقد اختارت شركة «جوجل» أن تفرض رقابة على الكلمات الإباحية الأساسية، وبالفعل تتقهقر المواقع الإباحية في أسفل النتائج في محرك البحث. شركات «فيزا وماستركارد وأمريكان إكسبريس» ترفض معالجة المدفوعات من خلالها إلى المواقع الإباحية.


وكنتيجة لإعادة الهيكلة التي تحدث في هذه الصناعة، ونظرًا لهذه الصعوبات أيضًا، تم إغلاق العديد من الشركات الإباحية التجارية، وانخفضت الوظائف والأجور للعاملين في هذا المجال، وتحاول المجلات والصحف الانتقال إلى النشر الرقمي عبر الإنترنت.


يقول «أليك حلمي»، مؤسس «إكس بيز» XBiz، وهي دار نشر أمريكية ترصد الأخبار والأعمال والمعلومات التجارية في صناعة الجنس، وتستضيف معارض، وتقيم مؤتمرات، وتسهل التواصل بين محترفي «الأعمال الكبار» على الإنترنت. يقول «إن عدد الاستوديوهات الإباحية في الولايات المتحدة قد انخفض من 200 إلى 20 تقريبًا، وانخفضت رواتب العاملين في هذه الصناعة؛ إذ كانوا يتقاضون 1500 دولار في الساعة، أما الآن فقد قلت هذه الأجور إلى 500 دولار».




مستقبل الصناعة


هناك مفارقة اقتصادية غريبة في قلب صناعة الإباحية وهي كالتالي:


1- إن كمية الإباحية التي تم إنتاجها أكثر من أن يستطيع أي شخص أن يشاهدها.
2- تكلفة مشاهدة الإباحية على المستهلكين وصلت الآن إلى صفر؛ إذ تمكث كميات مهولة منها في مساحات تخزينية سحابية، وتُبث بشكل مجاني.


وبالتالي كنتيجة طبيعية لما سبق، مع صعوبة قدرة المواد الإباحية الجديدة على الحصول على الأموال مقابل جهودها؛ فالنتيجة واضحة إذن، وهي: أن هذه الصناعة يجب أن تموت قريبًا.


ولكن على عكس ذلك، فالصناعة تزدهر بشكل غير طبيعي، ويتم إنتاج المزيد من المواد الإباحية الجديدة كل يوم، وبتقنيات لم يسبق لها مثيل من قبل، فهناك إحصائية تفيد أن فيديو إباحي جديدًا يتم إنتاجه في الولايات المتحدة كل 39 دقيقة.


ما الذي يحدث؟


أحد التفسيرات تستند إلى حقيقة أن نجوم الإباحية يجنون معظم أموالهم، ليس من الإباحية بشكل مباشر، وإنما يعرضون الفيديوهات مجانًا، على أمل بيع الخدمات الجنسية الأكثر حميمية لمعجبيهم. أما الشيء المؤكد، فهو أنه إذا كانت شركة مثل مايند تخدم مواقعها 100 مليون شخص يوميًا، ومجموعة كبيرة من هؤلاء المشاهدين ينفقون وقتًا يزيد عن 10 دقائق في كل مرة يدخلون فيها، فإن معدل الوصول هذا يمكنه أن ينتج أرباحًا هائلة من عائدات الإعلانات وحدها.


لذا فالصناعة في تطور مستمر، مع زيادة مطردة في معدلات الوصول، وبالتالي تحقيق المزيد والمزيد من الأرباح!
منقول عن موقع ساسة بوست