الانتفاضة الثالثة ومعوقات تصعيدها
د.غازي حسين
فقدت القضية الفلسطينية مكانتها كقضية مركزية فلسطينياً لدى القيادة الفلسطينية ، وعربيّاً لدى الحكّام العرب ، ويعتبر المسؤول الأول عن إضاعة مكانتها كقضية مركزية قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل المنضوية تحت لوائها ، حيث حوّلوا منظمة التحرير من حركة تحرر وطني تؤمن بالكفاح المسلّح إلى منظمة سياسية تخلّت عن المقاومة المسلحة واعترفت بالعدو الصهيوني وكنظام كبقية الأنظمة العربية تعتمد في وجودها واستمرارها على دولارات النفط والدول المانحة ، لذلك لم تتعرض السلطة إلى هبة شعبية بسبب أجهزة المخابرات والقمع الفلسطينية والإسرائيلية والأمريكية والأردنية والخليجية .
تخلّت القيادة الفلسطينية في منظمة التحرير الفلسطينية عن المقاومة المسلحة ، وتلاحق رجالها وتنسق مع إسرائيل ضدها ، واعتمدت المفاوضات الكارثية لتمرير الحل الصهيوني للقضية بتنفيذ رؤية الدولتين وتبادل الأراضي لضم كتل المستعمرات الكبيرة أي حوالي ( 85 ــــ 90 % ) من المستعمرات في القدس وبقية الضفة الغربية للكيان الصهيوني .
ويرى الشباب الفلسطيني والمناضلون والنخب الثقافية أنّ الخروج من الطريق المسدود يتطلب استعادة مركزية القضية لدى الشعب والأمة ، وتتطلب استعادة مركزية القضية العودة إلى خندق المقاومة والميثاق الوطني ، واستعادة الوحدة الوطنية وحل السلطة وإلغاء اتفاقات الإذعان والتخلّص من تبعية النظام الفلسطيني للنظام العربي الرسمي وللولايات المتحدة الأمريكية والمحتل الإسرائيلي ، هذا النظام الفاشل والمشلول والعاجز عن مواجهة التهويد والاستيطان والاحتلال وحماية الشعب الفلسطيني .
فشلت جميع المحاولات لإعادة بناء وتفعيل ودمقراطة وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية وتحقيق المصالحة والوحدة الوطنية بسبب هيمنة اللون الواحد والتمسك بالسلطة التي خلقتها إسرائيل وأموالها ومناصبها وامتيازاتها وغياب البرنامج الوطني المقاوم والقيادة الجماعية وفقدان الشرعية الدستورية والوطنية ، وانفراد الرئيس بالقرارات واعتماده على المفاوضات الكارثية ، والتنسيق الأمني مع العدو ومعارضته العودة إلى المقاومة المسلحة واندلاع الانتفاضة الثالثة .
وتمارس السلطة الكذب والخداع والتضليل لتمرير تنازلاتها المذّلة والمهينة ، وهنا يبرز لسؤال التالي : هل تقوم الانتفاضة الثالثة في ظل الأوضاع الفلسطينية المأساوية وفي ظل تحوّل بعض قوات الأمن العربية إلى شرطة لحماية احتلال إسرائيل للقدس وبقية فلسطين ؟
تتجمع حالياً عدة عوامل تشير إلى اندلاع الانتفاضة الثالثة الكامنة في أعماق شعبنا الفلسطيني وعقله وضميره ، حيث ستقضي على أوهام المفاوضات الكارثية والتسوية بالرعاية الأمريكية ، وذلك بسبب استمرار الإبادة الجماعية والترحيل والتهويد والاستيطان والتطهير العرقي والتدمير والعقوبات الجماعية، واستمرار القمع والبطش والاعتقالات والاغتيالات والإعدامات والحصار الجائر وإغلاق المعابر والحروب العدوانية .
ويزيد من وجوب تصعيدها غضب الشباب الفلسطيني من عجز قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها والسلطة عن القيام بمسؤولياتهم وواجباتهم وفشلهم في قيادة الشعب الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها وصيانة حقوقه الوطنية وأراضيه وممتلكاته في وطنه فلسطين وطن آبائه وأجداده .
وعلى الرغم من كل هذه المعوقات أعلن رئيس منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية أنّه يرفض قيام انتفاضة ثالثة ، وأكّد الناطق باسمه نمر حمّاد ( أن القيادة الفلسطينية لا تريد إشعال انتفاضة ثالثة ) .
ويعني هذا أن من يريد القيام بالانتفاضة عليه مواجهة الأجهزة الأمنية التي بناها الجنرال الأمريكي (كيت دايتون) وأجهزة المخابرات الإسرائيلية والمخابرات المركزية ومخابرات الرباعية العربية (دول الخليج ) وأجهزتهم الإعلامية .
لقد تأخر اندلاع الانتفاضة الثالثة بسبب ضعف الحركة الوطنية والمقاومة المسلحة في الضفة الغربية ، وانقسام الساحة الفلسطينية منذ إخراج شارون لمنظمة التحرير وقواتها من بيروت عام 1982 بتوقيع اتفاقيات الخروج مع فيليب حبيب مبعوث الرئيس رونالد ريغن ، وتخلّي قيادة المنظمة عن دورها التحرري المقاوم وإصابتها بالتكلّس والفشل والعجز ، وبسبب ترعرع المصالح الخاصة والفئوية والعشائرية ولجان المجتمع المدني التي تُموّل من الاتحاد الأوروبي لتقوية ما يُسمى بثقافة السلام والتطبيع والتعايش مع العدو الصهيوني .
ونشأت فئات لها مصالح وامتيازات تعمل على المحافظة عليها وعلى مناصبها في السلطة ومؤسساتها المختلفة ، واستنزف الاحتلال والانقسام والصراع على سلطة أوسلو وفساد رموزها وأدواتها طاقات المجتمع الفلسطيني النضالية في الضفة الغربية .
إن انقسام الساحة الفلسطينية إلى نهجين متعارضين : نهج المقاومة ونهج التسوية الذي يعتبر أن الانتفاضة الأولى والثانية دمرت المجتمع الفلسطيني ويرفض اندلاع الانتفاضة الثالثة ، وغياب الوحدة الوطنية والبرنامج الوطني الموحّد وعدم الإجماع على الهدف الاستراتيجي وهو تحرير القدس وفلسطين وزوال الكيان الصهيوني خدم كله المشروع الصهيوني ، وألحق أفدح الأضرار بالنضال الفلسطيني ومركزية قضية فلسطين .
لقد وضعت شبكات العملاء والجواسيس والاتصالات والحواجز ومواقع المراقبة وعوامل اقتصادية وإدارية وملفات الإفراد ، الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة تحت مراقبة دولة الاحتلال .
وأثّرت ملاحقة أجهزة الأمن الإسرائيلية و الفلسطينية والأمريكية والأردنية والخليجية على العمل المقاوم ، وأصبح فعله من الأعمال القليلة ، وإن وقع فهو على أيدي شبّان من خارج الفصائل ، ويعتبر وجود دولة الاحتلال والسلطة من أهم عوامل عرقلة العمل المقاوم في الضفة الغربية .
تبنّى الرئيس الفلسطيني خيار المفاوضات برعاية الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الاستراتيجي للعدو الصهيوني وشريكه في الحروب الإسرائيلية على فلسطين وسورية ولبنان ومصر والعراق ، وتبنّي أن البديل لفشل المفاوضات هو العودة إليها والاستمرار فيها ، وطرح المقاومة الشعبية والتوجّه إلى الأمم المتحدة وتحقيق المصالحة الشكلية لكسب الوقت ، لاستئناف المفاوضات وتحسين موقعه التفاوضي فيها ، مما أدى إلى ضياع فلسطين وحقوق شعبها العربي.
ويمكن القول أن غياب المشروع الوطني والقيادة الفلسطينية الموحدة والتمسك باتفاقات الإذعان في أوسلو والخليل وواي ريفر أخّر اندلاع الانتفاضة الثالثة ، حيث كان المشهد الفلسطيني أشبه باندلاع الانتفاضة في كل فلسطين التاريخية .
وجاءت الحرب السادسة على شعبنا العربي الفلسطيني في قطاع غزة في صيف 2014 لاستباق الانتفاضة الثالثة ، وتأخير انفجارها ومحاولة كسر إرادة المقاومة ، وإعادة المفاوض الفلسطيني إلى طاولة المفاوضات ، ولكن استمرار تهويد المقدّسات والأراضي الفلسطينية المحتلة والاستيطان والاحتلال

والقمع والقتل والتدمير والعنصرية والإرهاب الإسرائيلي وغياب مبادئ الحق والعدالة قاد إلى إشعال الانتفاضة الثالثة .
ناشد نتنياهو أصدقاء إسرائيل من الحكام العرب بالضغط على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية للعمل على منع اندلاعها ، مارست الولايات المتحدة ومن خلال الزيارة التي قام بها جون كيري إلى إسرائيل والسلطة الفلسطينية في تشرين الثاني 2015 الضغوط للحيلولة دون اندلاعها .
إنّ استمرار الانتفاضة الثالثة ضرورة إستراتيجية ملحّة وهامة وتتويج لنضال شعبنا الفلسطيني البطل في مسيرته النضالية عبر أكثر من قرن من الزمن في النضال ضد الاستعمار البريطاني والصهيونية العالمية والهجرة اليهودية والكيان الصهيوني .
إنّ الانتفاضة الثالثة ستستمر لأن إسرائيل متمسّكة بالاستعمار الاستيطاني وتهويد فلسطين والقدس والمسجد الأقصى ، ولأنّ الانتفاضة تتفاعل في أعماق الشعب الفلسطيني ، وسوف تستمر ويجب أن تستمر لأنها الطريق الصحيح والسليم لاجتثاث كيان الاستعمار الاستيطاني والاحتلال والعنصرية والإرهاب ، فالوضع الفلسطيني في الأراضي المحتلة على أبواب انتفاضة ثالثة ذات بُعد عربي إسلامي وعالمي ، تُعيد تصويب البوصلة نحو فلسطين وتحريرها ، وتُغيّر انحراف الصراع عن بُعده الحقيقي كصراع وجود وليس نزاعاً على الحدود ، واعتماد خيار المقاومة وتسليح الضفة الغربية لقلع الاحتلال الصهيوني البغيض ولتحرير كل فلسطين وزوال الكيان الصهيوني أسوة بزوال النازية من ألمانيا والأبارتايد من جنوب إفريقيا.