الصرماية ومشكلة النخب
حول جدل لؤي حسين
.......................................
ليس من عادتي أن أكتب في جدل المهاترات، وأعتقد ان الفيس بوك فيه مساحة كافية لتداول قضية التسريبات التي تضمنت تحقيراً لئيماً للثوار تورط به المعارض لؤي حسين وعجز عن نفيه حتى لحظة كتابة هذه السطور.
ولكنني اكتب هنا في إطار المأزوم الثقافي الذي يدفع بالنخب إلى هذا اللون من الغطرسة والتحقير ضد الآخر الإنساني أو السياسي.لؤي حسين يعتبر واحداً من النخب السورية، ويقدم تحليله السياسي عبر الصحف ذات الانتشار الواسع، ويقدم قراءات متقدمة في حقل الديمقراطيات والحريات وأدبيات حقوق الإنسان، وحين كنا أعضاء في مجس الشعب كان لؤي حسين يعاني في سجنه الذي استمر نحو خمسة عشر عاماً، وبذلك فإن ظروفاً متعددة حول الرجل وفرت له فرصة القيام بدور وطني إيجابي في وقف الكارثة السورية، وهذا ما عول عليه كثير من السوريين خاصة بعد اعتقاله في المرحلة الأخيرة ونجاحه في الهرب من قبضة النظام.إنها ليست أزمة لؤي حسين .. إنها أزمة النخبة عندما تنفصل عن ثقافة الناس ووعيهم وظروفهم، وتتحنط في إطار مفاهيمها المفارقة، وتمارس الغطرسة الثقافية والنخبوية، وتندفع بإرادتها مباشرة إلى أشد مستويات التخلف والجهل والانفعالية وتكرس القطيعة الكاملة بين الإنسان وبين المجتمع الذي يعمل لأجله.لم يصدق هؤلاء النخب أن شعبنا السوري يستحق الاحترام والحرية ولو كان لا يؤمن بأفكار الحداثة والديمقراطية والتنوير.لم يصدق هؤلاء أن السوري الذي يرتدي الغترة والعقال والجلابية، ويطلق لحيته ويحمل سواكه ويحافظ على صلاته في العمل والحقل والبستان، هو أيضاً سوري كامل، وهو ممثل الأغلبية المنكوبة في هذا الوطن الذبيح، يفكر تماماً مثل ما كان يفكر آباؤه وأعمامه وأخواله ومخاتيره وشعراؤه وفقهاؤه، ويحترم القيم التي احترمها الآباء ويجل التاريخ الذي كتب على هذه الأرض عبر القرون بالدموع والدماء.الثوار الذين خرجوا من المساجد في الريف الفقير وفي الأحياء العشوائية في المدن، وعجزت الجامعات أن تقدم لهم تعليماً أكاديمياً، ليسوا بالضرورة جهالاً أو أغبياء، إنهم أيضاً تعلموا في مدرسة الحياة، وأخدوا من تنهدات الآباء ومواعظ الشيوخ ووصايا الفقهاء وأمثال الحكماء قدراً نبيلاً من معاني البطولة والوفاء والكرامة والحرية.إنهم لا يحسنون قراءة ديالكتيك هيجل ولا مادية فيورباخ ولا شأن لهم بثورة نيتشة على الأيقونات ولا صراع سبينوزا مع الكهنوت… ولا يفهمون أيضاً صرخاتنا في التنوير الديني، ولا يدركون جدالنا المستمر حول النص والاجتهاد، والناسخ والمنسوخ، والظاهرية والمؤولة، وليس لديهم فكرة عن أي تناقض في تراثنا وتاريخنا، ولا يزالون يعتقدون أننا خير أمة أخرجت للناس، ولا يعنيهم في شيء هذه الأرقام التي توزعها الأمم المتحدة وتحشرنا فيها دوماً في قائمة الذيل في كل المعايير الأكاديمية والإنسانية والحضارية.إنهم في النهاية سوريون بسطاء، يعيشون كما يعيش أي سوري ويفكرون بالطريقة التي يفكر بها السوري الريفي القديم الذي أسس حضارة إيبلا وآشور وآرام، وحضارة الفتح الإسلامي الذي جعل من سوريا عاصمة الدنيا، ولا يزال أسيراً لتلك اللحظة المجيدة من تاريخه، ولا يزال شديد الإخلاص لها.هو هكذا السوري البسيط الذي تزعم كل أجهزة الدولة وفصائل المعارضة أنها تعمل لأجل عينيه ولتوفير سعادته وحريته وأمانه بين أحبابه وأهله.قد لا تكون للثائر شهادات علمية أو مناصب رفيعة يتقدم بها إلى لجان الترقيات، ولكن لديه في الواقع كثير مما يمكن أن يحترمه العالم لأجله، لديه حبه لاسرته وأطفاله، واحترامه لتاريخه وتراثه، واستعداده للتضحية من أجل ما يؤمن به، وهذه في الثقافة قيم حقيقية، على الرغم من أن قدرة البسطاء على التعبير عنها كليلة وضعيفة، وأحياناً مضحكة، ولكن الفكرة من حيث ذاتها لا تسقط عند المثقف لضعف حاملها في تقديم برهانه، ويفترض أن يشعر بقيمتها ونبلها على الرغم من عجز صاحبها أن يقدم تقريراً مقنعاً حولها.لا تفقد الجوهرة قيمتها عند العارفين ولو عرضت في مكان رديء، ولا يجوز للمثقف أن ينكر قيمة التراث الشفاهي واللامادي، وعليه بحكم العلم والمعرفة أن يتتبع ذلك التراث الإنساني القيم على ألسنة الرعاة والصيادين، وتمنح الجامعات المحترمة درجات الدكتوراه لدراسات تقوم حول تدوين ثقافات في غاية البدائية والجهل والانعزال، ولا يبدو بحسب الظاهر أنها تقدم أي قيمة حقيقية للمعرفة والعلم.ويبذل العالم ملايين طائلة على حماية نوع من الحيوان أن ينقرض على الرغم من أن الفائدة الاقتصادية لبقائه ووجوده لا قيمة لها على الإطلاق في سوق المال، ولكنها مسؤولية العلم والثفافة والوعي في حماية كل أشكال الحياة والثقافة على الأرض.هؤلاء السوريون البسطاء الذين قاموا في وجه قوة غاشمة متوحشة يملكون ألف سبب للاحترام، وسواء اتفقنا أم اختلفنا مع رؤيتهم في الحل، ولكنهم يحملون سلسلة من القيم الكريمة التي ترتبط بتاريخ هذه الأرض أكثر مما يرتبط بها تنظيمات النخب التي ترفع شعارات الحداثة والتنوير والعقلانية.تكريم المرأة واحترامها الذي يفهمه المثقف عن طريق دعوة المرأة للترشح للمناصب والمشاركة في الحياة السياسية، يفهمه الثائر بلغة أخرى، وهو يرى أن الدفاع عن العرض هو جهاد حقيقي ترخص من أجله الأرواح، وحين يتقدم إلى تحدي الأهوال من أجل حماية امرأة ضد ظالم حاقد فإنه بدون شك أكثر منا نحن المثقفين والشعراء والفقهاء والخطباء إخلاصاً للمرأة ووفاء لأنوثتها وعيونها الجميلة.والحريات التي نفهمها نحن مطالعات في ما كتبه جان جاك روسو وفولتير وفريريك نيتشه وما تم تحقيقه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يفهمه الثائر بطريقة أكثر صدقاً وعفوية وبساطة نقرؤها في لوحات كفرنبل وبنش وخربة غزالة وغيرها من عواصم الهتاف للحرية التي تستحق بأمانة أن تترجم إلى الأدب العالمي تماماً كما نطقت بها ألسنة الثوار العفوية.ولو كنت أستاذاً في العلوم السياسية لكلفت طلابي بالبحث لاأكاديمي في الروح الثورية التي تضمنتها شعارات الثوار، وأجريت مقارنات فكرية وموضوعية في المشترك الثوري والإنساني بين هذه اللوحات الورقية والقماسية التي رفعها الثوار بعفوية وصدق وبين شعارات الحرية في العالم التي اطلقها نلسون مانديلا وتشي جيفارا ومارتن لوثر كنغ، ولا أشك أبداً أن روح الإنسان، وفطرة الحرية البيضاء التي أودعها الله فيه هي وحدها التي توقد جذوة هذه الشعارات سواء انطلقت من جامعة هارفارد أو من مدرسة إنخل أو الرستن أو حندرات.لدي مائة سبب للاختلاف مع الثوار، ولكن لدي ألف سبب لاحترامهم، وتقدير عنائهم وعذاباتهم، ولولا هؤلاء الثائرين لكنا اليوم نمارس دورنا البائس الذي مارسناه عشر سنين في مجاملة المستبد حتى يمن بالعفو عن الأبرياء، وحين يتخلى عن واحد من مظالمه الألف على سبيل (المكرمة والعطاء) وليس أبداً على سبيل الاستجابة للحق والعدل والناس، فإن علينا (حتى لا يتوقف عن تنفيذ منته) أن نمارس بين يديه لعبة الكذب القميئة: ما أحسنه وما أبره وما أوصله وما أرحمه وما أكرمه!!!!!النظام الذي قرر أنهم جاهلون متخلفون وقام بمواجهتهم بالرصاص وأهان أحباءهم أمام عيونهم وأذل كرامتهم هو الجانب الأشد جهلاً وغباء، ولو كانت قراراته تصدر عن أكبر مثقفي الدولة وخبرائها الأكاديميين.حين نعجز عن احترام الناس ونعجز عن فهم أوجاعهم وعذاباتهم، ونحتقر عقولهم وإخلاصهم لما يؤمنون به، فهناك لا يمكننا أن ندعي أننا مثقفون، أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس، وأعلم الناس أكثرهم فهماً للناس، وأجهل الناس أكثرهم اختقاراً للناس.هل كانت مشكلة النظام مع الثائرين عليه إلا هذا؟حين يقارن المثقف الصرماية بالإنسان فإنه لا يعود مثقفاً، ولا يمكنه أن يتحدث باسم العلم والتنوير، وتصبح دراساته في الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان أكبر شاهد على بؤس المعرفة.لعل أكثر التعابير واقعية هي تلك التي وجهها نزار قباني باسم المثقفين والشعراء والأدباء والبلغاء والفصحاء والنخب والعلمانيين والحداثيين والتنويريين إلى جيل البراءة والنخوة والبساطة والثورة…نحن آباؤكم … فلا تشبهونا…نحن أصنامكم فلا تعبدونا…..لا تعودوا لكتاباتنا ولا تقرؤونا…..لا تبالوا بأذاعاتنا ولا تسمعونا……حررونا من عقدة الخوف فينا…..واطردوا من رؤوسنا الافيونا…..واحزموا أمركم ولا تسألونا……قد صغرنا أمامكم ألف قرن…..وكبرتم خلال شهر قرونا…….