العدو....
مقالي الجديد في الحل السوري
د. محمد حبش
العدو .. مصطلح ثوري عربي مقاوم، تم تكريسه في غمار الحرب التي شنتها الأنظمة العربية القومية الثورية المقاومة الممانعة على الاستعمار والامبريالية وأذنابها من العملاء… هكذا على الأقل هو شكل التوجيه المستمر للخطاب الذي تلقيناه على مدى عقود على مقاعد الدرس الكئيبة، حيث يتم حشد كل الطاقات للمعركة ويتم تكريس ثقافة المؤامرة على كل المستويات.
ومع أن العدو يبدأ عادة بمصطلح الصهيونية، ويتصل مباشرة بحليفتها أمريكا والدول الدائرة في فلكها مثل كندا واستراليا، ثم فرنسا الاستعمارية وبريطانيا الاستكبارية، وأعوانهم في الاتحاد_الأوروبي الذين يتعين شطبهم جميعاً من الخارطة وفق وزير الخارجية المعلم، ويمتد العدو بالطبع إلى تركيا العثمانية الإخوانية، وجامعة الدول العربية بدولها الاثنتين والعشرين التي أصبحت أداة استعمارية بمخالب قومية، لتجد نفسك محاطاً في وطنك من الجهات الأربع بالأعداء الذين لا ينفع معهم إلا المواجهة الماحقة.
ولكن أسوأ ما في مشهد العدو أنه امتد في الداخل، وانتشر بشكل مريع في المحافظات السورية الأربعة عشر، وامتد في صحراء سوريا وغاباتها وجبالها وسهولها وبراريها، ومساجدها وكنائسها، وجامعاتها ومدارسها وأفرانها وأسواقها ومشافيها الميدانية، وصارت سوريا من القنيطرة إلى عين ديوار تحتشد بالعدو الذي يجب قتاله حتى آخر قطرة، ويصرح الرئيس نفسه بأننا خسرنا معارك في إدلب و جسر_الشغور وبصرى ونصيب وطول البلاد وعرضها، ولكننا مستمرون في الحرب حتى النهاية ضد العدو المنتشر في كل مدينة وبلدة وقرية ومزرعة سورية!!!..
لم يستخدم النظام أبداً أي مصطلح آخر في تعامله مع شعبه، ولم يسأل أحد لماذا أصبح هذا الشعب عدواً، ولم يتساءل أحد في فريق القيادة أن من المحتمل أننا نستعدي شعبنا، وأن هناك أخطاء نمارسها تجعل الآخرين يتحولون إلى عداوتنا، لقد ظل الخطاب الاتهامي دوماً جاهزاً في حق كل مخالف، حتى صار الأصل في الشعب أنه عدو إلا من قدم صكوك البراءة!!
ويعيش الإنسان السوري رعاب الخوف من العدو، وهو رعاب سمح لمكتب الأمن القومي بالتغول في حياة الناس وضبط حركاتهم وأنفاسهم، فالعدو في كل اتجاه والمؤامرة تسري في الجسم العربي مسرى الدم، حتى أولئك الذين يعملون في النظام والدولة وبمناصب قيادية رفيعة فإنهم ما إن يتخذون موقفاً أخلاقياً معارضاً حتى يتحولوا في الإعلام الثوري المقاوم إلى أداة مؤامراتية عميقة قام العدو بالتخطيط لها منذ الخمسينات، وفق فلاسفة الصمود والممانعة وبشكل خاص ذوي اللكنة اللبنانية.
مارس تعليم البعث لعقود طويلة تكريس مواجهة العدو، هناك ثقافة العدو، وبالطبع فقد شاركنا جميعاً في دعم سياسات مواجهة هذا العدو، وهنا المقصود بالطبع العدو الإسرائيلي، وكان المطلوب أن يتخلى المواطن عن كثير من حقوقه وواجباته وأن يتم تبرير كثير من خسارات الدولة وفشلها في التنمية على أساس أننا دولة مواجهة، وأن المؤامرات لا تفتأ تحاك ضدنا في الليل والنهار، ولا صوت يعلو صوت المعركة.
وربما كان مشهد السلام النووي العام الماضي أبشع صورة لهذا الاستنزاف الأعمى لمقدرات الوطن، فقد ظلت القيادة (الحكيمة) لسنوات طويلة تقوم بإعداد السلاح الكيماوي المحرم دولياً وتم تبرير ذلك بأنه قنبلة الفقراء، وأنه سلاح فعال لمواجهة العدو الإسرائيلي وأنه طريقتنا الوحيدة في المواجهة مع العدو الذي لا نستطيع أن نتفوق عليه استراتيجيا، ولكننا نملك سلاحا نوعياُ رادعاً في المشهد اللامتوازن مع القوى الدولية المتآمرة، يمكنه أن يغير مشهد المواجهة.
لا يعلم أحد في سوريا لا حكومة ولا برلمان ولا حزب ولا جبهة وطنية تقدمية ولا حتى وزارة الدفاع كم أنفق على إعداد هذا السلاح النوعي الفتاك الخطير المقاوم، والمحرم دولياً وأخلاقياً ودينياً، ولم يملك أي سوري حق السؤال عن نفقات هذا السلاح الهائلة، وكم هو الحجم المقتطع من الموازنة لتمويل صناعة هذا السلاح ولكن الشيء الوحيد الذي عرفه الشعب أن نفقات تدميره تبلغ مليار دولار وفق ما ورد على لسان الرئيس العجيب نفسه!!
كان أمراً مؤلماً أن هذا النظام ومع أول كف، تخلى عن كل دعاويه في المقاومة، وقام بحماس وشطارة بتسليم كل سلاحه الكيماوي، وبحماس منقطع النظير أدهش الأمريكيين أنفسهم وراحوا يكيلون الثناء عليه على الرغم من مواقفهم المعلنة في وجوب رحيله وأنه فاقد بالمطلق لأي شرعية، ليتم دفن هذا السلاح في البحر عبر بارجة أمريكية لا نملك عليها أدنى سلطان، ولا نملك حتى تذاكر الفرجة على تدمير هذا السلاح الكيماوي الذي تم تسويقه على أنه سلاح المعركة وسلاح المقاومة والممانعة والسلاح الشريف والسلاح النبيل والسلاح العادل والسلاح المتوازن وسلاح الردع…. وهكذا تم تسليم السلاح بالكامل إلى العدو التاريخي للسوريين أو الشيطان الأكبر بالتعبير الإيراني، ليقوم منفرداً بمهمة نبيلة وهي تدمير السلاح الكيماوي في البحر، وإغراق مليارات الدولارات التي اقتطعت من دماء السوريين وعرقهم وفقرهم على مدى عقود، من دون أن تعود على أي سوري بأدنى فائدة.
والكيماوي لم يستخدم أبداً ضد أي عدو في الخارج، لقد استخدم وبكل لؤم ولا يزال يستخدم ضد الشعب المسكين الذي يتم التعبير عنه عسكرياً بأنه المجتمع الحاضن للإرهاب!!!
بكل بساطة يدرك السوريون أن العدو الاستراتيجي للأمة العربية لم يكن في الواقع إلا الاستبداد المتوحش الذي مارس بمكر تكريس ثقافة العدو التاريخي ليبرر سياساته في تغييب الحرية والكرامة والمساواة في الوطن الجريح.
فكرة العدو الذي يتربص بنا لم تعد فكرة واقعية في البلاد المتحضرة، ومنذ قيام الأمم المتحدة فإن العالم المتحضر اختار أن يحل مشاكله بالدبلوماسية، ومنذ ماستريخت فإن الدول الأوروبية لا تستخدم على الإطلاق مصطلح العدو، على الرغم من سنوات الحروب الطويلة التي طبعت القارة العجوز، حرب الثلاثين عاماً وحرب المائة عام والحرب العالمية الأولى والثانية، ودمار أوروبا المريع خلالها، ولكنها اليوم تتجاور وتتحاور وتتفاوض وتتصالح وتتخاصم، ولا تستخدم في خصامها أو صلحها ثقافة العدو المتربص الذي يجب أن تحشد له الجيوش.
وليست هذه الثقافة شأن الدول المتقدمة، بل إن العالم برمته يدخل في واحة السلام الإنساني، متجاوزاً ثقافة الحروب والدماء والمؤامرة، باستثناء الأنظمة الشمولية التي تتحالف تلقائياً مع نظامنا التعيس.
مع أن الأيام المريرة التي نعيشها توقد جذوة الحرب كل يوم، وتقدم نماذج ضارية من العدو في بغيه وعدوانه، ولكنني أعتقد أن واجب الخطاب التربوي في المقام الأول أن يتخلص من ثقافة الكراهية ومن تصنيف الآخر على أنه العدو، وأن ندرك حكمة قول الأول: قد يكون أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك.