علم من بلادي نفخر به
-----

وجيه البارودي

الطبيب الشاعر الذي حمل هموم أمته-وشاعر الغزل بلا منازع----
هذا البحث نشر في مجلة الموقف الأدبي منذ سنوات-----
دروس من شعره
محمد عيد الخربوطلي
مقدمة:
ضم مجلس لفيفاً من المثقفين وجرى حوار طويل، ومما تحاورنا به موضوع الشعر بشكل عام والشعر الغزلي بشكل خاص، فإذا ببعض مثقفينا الكبار وله عشرات المؤلفات، ونحن في خضم الحديث عن غزل الطبيب الشاعر وجيه البارودي، إذا بصاحبنا يحلل شخصية فخري البارودي الوطني المعروف بمجالسه السياسية والأدبية والفنية، وعندما صوبت له إننا نتحدث عن وجيه البارودي وليس فخري البارودي قال: "لعل أحداً لم يسمع به" قلت له: "إنه شاعر حماة وعاشقها لا تسمع به؟"، وهو الذي مضى على وفاته أكثر من عشر سنوات وسمع به من بالمشرق والمغرب وظهر المرات العديدة في وسائل الإعلام، وكتبت عنه الصحف والمجلات العربية الكثير، خاصة ما كتبه النقاد حول شعره الغزلي والسياسي والاجتماعي.
هذه الحادثة ذكرتني ببعض أهل العلم الذين يتصدرون المجالس، وذكر في أحد مجالسه أن القصيدة العمرية نظمها الخديوي إسماعيل، وصححت له ذلك بأن صاحبها هو الشاعر الخالد الذكر حافظ إبراهيم، لكنه أصرّ على قوله، فقلت له: "إن الخديوي إسماعيل لم ينظم الشعر وأشك في أنه يتقن العربية".
أسوق هاتين الحادثتين لأدخل في حديثي عن الشاعر الكبير الطبيب وجيه البارودي، ابن حماة الذي لم ينفصل عنها طوال حياته.


الدكتور الشاعر وجيه البارودي:---------------------------------

ولد الدكتور وجيه البارودي في آذار 1906م في حماة، وهو الولد الأول لعبد الحسيب البارودي وبهيجة العلواني.
درس في الكُتَّاب ثم دخل مدرسة ترقي الوطن، وتوقف عن متابعة الدراسة بسبب الحرب العالمية الأولى.
في نهاية الحرب أوفدته عائلته مع عشرة من أولاد عمومته إلى الكلية السورية الإنجيلية في بيروت عام 1918، وأمضى فيها 14 عاماً، درس خلالها المرحلة الابتدائية والثانوية والجامعية، إلى أن تخرج منها طبيباً عام 1932.
تعرف خلال دراسته هناك بالشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان والشاعر العراقي حافظ جميل والأديب اللبناني عمر فروخ، فشكلوا سوية دار الندوة، وباشروا في نظم القصائد المشتركة، فبرع إبراهيم طوقان في الوطنيات، وحافظ جميل في الاجتماعيات، أما شاعرنا البارودي فاختص في نظمه لشعر الغزل.

عاد إلى حماة في عام تخرجه وافتتح عيادته الطبية ليعمل فيها ليل نهار لمدة 63 سنة، ضارباً الرقم القياسي عالمياً في استمرارية العمل، لذلك كرمته وزارة الصحة ومدينة حماة عام 1975 عند بلوغه السبعين من عمره.
أصدر ديوانه الأول (بيني وبين الغواني) عام 1950 وأعاد طباعته ثانية عام 1971.

أصدر ديوانه الثاني (كذا أنا) في عام 1971.
أصدر ديوانه الثالث (سيد العشاق) في عام 1994.
ديوانه الأخير (حصاد التسعين) كان محفوظاً في مكتبة راويته وليد قنباز لغاية عام 1996، ولا ندري ما فعل الدهر به بعد وفاة قنباز.
أدى فريضة الحج في عام 1995، مما جعل قريحته تشدو بالأشعار الروحانية وقد ضمنها ديوانه الأخير حصاد التسعين.
توفي في الساعة الثانية من صباح يوم الأحد في الحادي عشر من شباط لعام 1996م.
كان الشاعر الطبيب وجيه البارودي صاحب رسالة علوية أوصلها إلى الناس عبر طريقين اثنين، طريق الطب وطريق الشعر.
وفي ذلك يقول:
أتيتُ إلى الدنيا طبيباً وشاعراً
أداوي بطبي الجسم والروح بالشعر
أروح على المحموم، أشفي أوامه
بأجمع ما أوتيت من قوة الفكر
فأسقيه من روحي رحيقاً، ومن يدي
مريراً، فيشفى بالرحيق أو المرِّ
ومنذ بدايته عاش مع الفقراء وللفقراء فلقب بأبي الفقراء، ومن شعره في ذلك:
وبيني وبين المال قامت عداوةٌ
فأصبحت أرضى باليسير من اليسر
وأنشأت بين الطب والفقر إلفةً
مشيت بها في ظلِّ ألوية النصر
الشعر عند البارودي عشق ورسالة:
كان شعر وجيه البارودي يدعو إلى عدة أمور، فهو لم يقف عند الغزل فقط وإن اشتهر به، بل تعداه إلى هموم قومه والناس جميعاً، وسنتحدث عن بعض ما يدعو إليه بشعره.
نبذ التقاليد السيئة:
انتبه الشاعر إلى العادات والتقاليد السيئة فنبذها وحاربها، ووقف منها موقف المهاجم العنيد ولم يستسلم لها أبداً، مع أن ذلك كلفه الكثير من تشهير وهجوم، فقد قال في ذلك عام 1934م:
يا أيها القوم مهلاً
وأنصتوا لي قليلاً
اليوم صار قبيحاً
ما كان أمس جميلا
هذي التقاليدُ أضحت
في عصرنا تدجيلا
الغرب يبني صروحاً
والشرق يبكي الطلولا
في الغرب طاروا نسوراً
وسخروا المستحيلا
والشرقُ ظلَّ يناجي
أهل القرون الأولى
فهو يحارب التواكل والكسل والجهل الذي أصاب أمته العربية والإسلامية، ويبين لهم أمراضهم التي ابتلوا بها، ويدعوهم إلى نبذ الجهل والتعصب الأعمى، وإلى اللحاق بركب الحضارة، فالدين ليس مسكنة وتواكلاً وكسلاً، إنما الدين علم وعملٌ، فهو لاحظ أن الغرب قد غزا الفضاء ومازال الشرق يتمسح بالقبور، فكيف لأمة هكذا حالها أن تنهض وتسبق الغرب، مع أنهم يتغنون دائماً بحضارتهم السابقة، لكن ما الذي قدمناه نحن؟ ومع ذلك بقي الكثير يحارب فنون العلم والتقدم وركائز الحضارة، بل الأكثر من ذلك فعلوا! إنهم مازالوا يقيدون العقول فقال في ذلك في عام 1995 قبل رحيله بأربعة أشهر فقط:
المعشر الجهلاء أعداء الفنون الراقيه
كانوا ومازالوا قيوداً للعقول الواعيه
المقبل الموبوء بالأزمات يطرق بابيه
وأنا الغني فكيف أحوال العفاة القاسية
لا منقذ مما نعاني والجهالة طاغية

البؤساء والمترفون في شعر وجيه البارودي:---------------
كان فقر الفقراء في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين فقراً أسود، والفقراء هم الأغلبية الساحقة في الأرياف، وفي مدينة تشبه الأرياف حيث اعتمادها يومئذ على الزراعة والرعي مع قليل من الحرف.
شاهد شاعرنا مناظر البؤس هذه وطرقت أذنيه مما أدمى فؤاده، فأعلن أن مجتمعه بعيد جداً عن العالم المنشود مادام عمل الفقير الجائع وسيلة لترف الغني المتخم.
لقد حزّ في نفسه أن يتضور الآلاف جوعاً بسبب عدم توافر الدخل الكافي لهم على الرغم من جهدهم المنتج، لأن إنتاجهم تلتهمه حفنة من المستغلين الذين ينالون ما يشاؤون من ضروب المتعة ووسائل الرفاهية، أكثرية لا تحصّل القوت الضروري والماء الصحي الكافي، وقلة قليلة متسلطة منفتحة على الاستهلاك الواسع ومعاملة الكماليات كالضروريات باعتبارها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياته.. لذلك نرى شاعرنا قد عالج هذه الظاهرة في عدد من قصائده أهمها (الحمراء) التي يقول فيها:
مررتَُ أمسي على العافين أسألهم
ما تبتغون أجابوا الخبز والماء
ومر بي مترف يشكو فقلت له
مم اشتكيت فقال: العيش أعباء
سيارتي فقدت في اللون جدتها
أريد أخرى لها شكل ولألاءُ
وقال فيها:
قوم تضور بالآلاف من سغب وحفنة
لهم في العيش ما شاؤوا
ووصف حال الفقراء الذين آثروا به فقال:
هذي الدنانير صيغت من تعاستكم
في ومضها الفقير النفس إغراء
لا أرهب المترف الزاهي بثروته
لولاكم يده الملساء شلاء
أولاكم سيفه البتار منثلم
وقصره خرب والأرض جرداء
وقد صور الحجج التي يتشبث بها المستغلون لإضفاء الشرعية على امتيازاتهم، فتارة يعلنون أنهم يأتون إلى الدنيا متفوقين بحكم الوراثة، فيرد عليهم شاعرنا بقول يرجعهم به إلى أصلهم فكل البشر ينحدرون من أصل واحد وخلقوا من طينة واحدة:
قالوا أتينا إلى الدنيا أكاسرة
ألستم إخوة والأم حواء
من تربة الأرض أجساد العفاة فهل
من جور النار أنتم يا أعزاء
ويعود ثانية إلى المتسلطين المستغلين سذاجة الفقراء وجهلهم ويسكتونهم باسم الدين عن حقوقهم، فهؤلاء المستغلون يحتمون بتعليمات الدين فهم يطوعون هذه التعليمات لخدمة ذاتهم ولظهورهم وكيف لا وهم المتاجرون بالدين، فيقتنع الفقير لجهله بالدين بما يقولونه لهم، وكذلك لعب رجال الدين والمتظاهرون بالدين دور السجان الفكري، إذ يمنعون الشعب من التفكير السليم والتوصل إلى حقيقة الوضع الاجتماعي الاقتصادي، يقول شاعرنا في هذا الأمر:
رأى الغني حقوقاً لا حدود لها
وفي الشريعة تبرير وإفتاء
وقال في قصيدته (الطبيب الشاعر):
وفي بؤرة الأوباء عشتم سلاحكم
دعاء وتعويذ وزيف من السحر
أما في قصيدته (الإرث) فيقول:
وقالوا الإله قضى بالذي
اتبعنا وأفتى جميع القضاة
فيا رب باسمك كم توجوا
جناة وكم أهلوا من ثقاة
وكم حللوا ثم كم حرموا
فصول مآس من المضحكات
ويعود الشاعر لمحاربة المستغلين الذين يرفعون الشعارات البراقة التي لا تحقق، وهم بذلك يقصدون التلاعب باسم حرية الفكر فيقول فيهم:
حرية الفكر وهم يسحرون به
المرضى وكيف بوهمٍ يُقْمَعُ الداءُ
حرية الفكر أحلام إذا صدقت
لم يبق في الأرض للشيطان أبناءُ
ويستمر المتسلطون بوعودهم للفقراء المساكين، وفي الواقع ما هي إلاَّ وعود جوفاء، ويستمرون بجبروتهم وظلمهم فيقول:
وجاء العفاة بآلامهم
وقالوا على بابكم ساهرون
صبرتم طويلاً فلا تقنطوا
هنيئاً لكم أيها الصابرون
سنبني قصوراً مثالية
وجنات عدن بها تنعمون
وعود من المطل معسولة
ينام على لحنها الموجعون
ولم يكتف هؤلاء بوعودهم الكاذبة، بل استخدموا أموالهم لتمزيق الأمة الفقيرة، فقال شاعرنا في هذه الحالة:
غدت تفرقكم أمواله شيعا
فبعضكم طمعاً للبعض أعداء
موقفه من المتسلطين:-----------------------------
وكان وجيه البارودي ممن فقد الثقة في القيادات التي تصدرت الصفوف أيام عهد الانتداب الفرنسي، فقد رأى فيها امتداداً للمتسلطين والتسلط، فما كان من هذه القيادات إلاَّ أن استخدمت الفقراء الذين يعتبر نفسه أقوى نصير لهم في ردعه وأمثاله مما أثر في نفسه على المدى البعيد، فيقول في ذلك:
نادوا بالاستقلال واحتجوا
على كيد العداة
فإذا بحثنا لم نجده
وإن سألنا قيل آت
لما فضحنا الأمر قالوا
تلك شرذمة العصاة
بعثوا لنا السفهاء بالعشرات
لا بل بالمئات
هذا الأمير على الحفاة
ذاك سلطان العراة
وفي تلك الأيام كان شاعرنا يذهب إلى أن الثورة هي الطريق الوحيد الذي يحصل به الفقراء على حقوقهم ويحققون ذاتيتهم، كما كان يرى نفسه قائداً لهذه الثورة أو مفكرها الرائد فيقول:
يا معدمون أفيقوا من جهالتكم
يا من حياتكم نتن وأوباء
ويا أرقاء عهد الرق طال بكم
أما أتاكم عن التحرير أنباء
لا بد للأرض من يوم تثور به
والشمس من خنق في الأفق حمراء
ويا أيها العافون بيني وبينكم
من الحب ما بيني وبين أخ بر
أرى فيكم الحب الأكيد ولا أرى
لدى مترف حبا سوى المكر والغدر
صبرتم على جور الزمان جهالة
وجاء زمان العلم يطغى على الصبر
فيا أيها الموتى أفيقوا ابن مريم
أتاكم ينادي بالقيامة والحشر
أفيقوا فإني من سحيق ترابكم
أبدع ألواناً تشع من التبر
ويستمر شاعرنا متحمساً يبني النضال والعلم، ويرشح نفسه للانتخابات واثقاً أن له رصيد كبير عند الفقراء، طالما عالجهم وشاركهم همومهم ودافع عنهم، وكيف لا يثق بهم وهو طبيبهم المجاني، لكنه سقط في انتخابات 1949 سقوطاً مشرفاً، فثار على الفقراء الذين انتخبوا الدجالين والمشعوذين والمتاجرين بضمير الأمة وعرق الفقراء، فقال في ذلك:
إذا جحد الذوات يدي فإني
لأعجب كيف يجحدني العفاة
أيخفق عالم والعلم نور
وتظفر بالنيابة شعوذات
وحق له أن ينزعج من الفقراء، وكيف لا وهو دائماً بصفهم، ينزل إلى مستواهم، ويعالجهم مجاناً، وكان دائماً يأخذ بأيديهم للخير والصواب والعلم والمعرفة، ومع كل ذلك خذلوه. وقال له بعضهم ارحل واترك الفقراء، فلست تستفيد منهم لا مالاً ولا جاهاً ولا حتى صوتاً ينتخبك. أجابهم بقوله:
ويقول لي صحبي ارتحل فالأرض
واسعة وصفو العيش للرواد
أخشى على الفقراء يفتقرون لي
فطبابة الأغرار كيد أعاد
وأكثر من ذلك، إنه تصور مجتمعه خالياً من الفقر، فقد صار مجتمعاً مثالياً، فالغني يعطف على الفقير، والقوي يساعد الضعيف، وتُركت الخلافات والمطامع، فقال:
تعالوا نعش في روضة الحب إخوة
كما يرتعي السرب الوديع من الطير
فلا حاسد يرنو إلى رزق جاره
ولا وارث يبكي على إرثه الذري
ويسعى جميع الناس شرقاً ومغرباً
لإسعاد كل الناس في المذهب الحر
وقد زال عنا البغض والسخط والأذى
وعم الهنا واستؤصلت شأفة الفقر
4- الحياة عند البارودي:---------------------------------
كان شاعرنا من المقبلين على الحياة الداعين إليها وإلى الاستمتاع بمباهجها وطبيعتها ومحاسنها، فهو يزرع التفاؤل في جدب النفس وقحط الأرواح، فيقول في ذلك:
فلا أقول ليومٍ ولّى عساك تعود
الروض روضني، ودأبي الهيام والتغريد
وينادي البارودي في شعره المسنين للإقبال على الحياة وعدم النكوث عن اللهو، ويأمرهم بالحب فالحب يعيد الشباب، ويدعو على المرض بالهروب، فالحياة جديرة بالحياة، فيقول:
ألا أيها القوم المسنونُ أقبلوا
إلى اللهو، لا تُصغوا لنُصح طبيب
أحِبُّوا، أحبوا، فالهوى يبعثُ الصّبا
أحبوا فإن الحب غير معيب
إلى الرقص والألحان في ركن حانةٍ
إلى شحذ أبصارٍ وحثِّ قلوب
وبين ندامى من مغنٍّ، وعازفٍ
مجيد، وصبِّ شاعرٍ وأديب
إذا كان هذا، فالحياة جديرة
بعيش، وإلاَّ يا نوائب نوبي
ولكثرة ما دعى للتعلق بالحياة ولكثرة شعره الغزلي وهو يقارب التسعين من عمره، سئل هل يبقى لدى ابن التسعين شيء من الحرارة، فأجاب وهو في هذا العمر مستمتعاً بالجسم القوي والقلب الصارم والحواس المتوفرة:
فأجبتها التسعون شوطٌ أول
لي بعدها في الحبّ شوط ثانِ
ولربما الثاني أشدُّ ضراوةً
فاستقبلي بحرارةٍ عصياني
أنا للمئين مراهقٌ، لا تعجبي
من شرَّتي، سأظل في ريعاني
أنا لا أغالي، صدّقي، أو كذّبي
فلدى امتحاني ينجلي برهاني
بحق هو سيد العشاق قولاً وفعلاً، وإن تراجع جسده وتقهقرت أعضاؤه وشعر بقرب نهايته، إلاَّ أنه بقي شاعراً عاشقاً فيقول:
يعجب الناس كيف يهوى مُسنٌ
في الثمانين قوَّس الدهر ظهره
خبرَ الحبَّ يافعاً، ثم كهلاً
ثم شيخاً، فازداد عزماً وخبره
وهو أصبى فتوَّةً في الثمانين
وأدهى من المراهق شِرَّه
وقال أيضاً:
على سنينِ الحياة يشيخُ غيري
ويدهمه الفناء فلا يقاوم
ولكنّي سأبقى في شبابٍ
طريفٍ، مفعمٍ بالحب دائم
ومع كل ما قاله إلاَّ أنه اعترف بأن شبابه قد ولّى، فقد بدأ يشعر بالرجوع إلى الخلف، وإن بقي قلبه عاشقاً والنفس تتحسر ألماً وحسرة أمام هذه الحقيقة المرّة، ولا بد أن يأتي الشتاء بعد صيف وربيع مزهر، فيقول:
رغم اعتقادي بالشباب وبعثه
مازت أشعر أنني أتقهقر
قلبي يحلّق في الهوى مترنماً
وأنا بعجزي قاعدٌ أتحسّر
لا تغفليني، فالخريف مودّعٌ
تلوي بمجد صباه ريح صرصر
مهما نُجمِّل بالرجاء نفوسَنا
يأتِ الشتاء، وسوف لا يتأخر
وبعد أن تعبت عيناه وضعف سمعه وصار جسمه ضعيفاً يوصف حاله فيقول:
أحبتي إلى غايتي في منتهى التّعب
كأن ساقيَّ قضبانٌ من الحطب
فإن أكلت فأكلي جدُّ مختصرٍ
من الخضار وحبّاتٍ من العنب
وقد عميتُ فلا قبيحٌ يمجُّ ولا
حسنٌ له رعشةٌ للحب في عصبي
كذاك وقرٌ بسمعي ازداد في كبري
فلا غناءٌ، ولا عزفٌ يؤثر بي
ومع كل ما حل به لم يستسلم للأمراض التي حاقت به، فقد بقي عاشقاً بحواسه التي بقيت شابة من شم وذوق ولمس وعبر عنها بقوله:
شمي وذوقي ولمسي جلُّ ما بقيت
من الشعور، فلم أقلع عن اللعب
روحانيات البارودي:-------------------------
عندما أدى فريضة الحج قبل وفاته، تقرحت عاطفته بشعر مليء بالإيمان، فإذا روحه تحلق في السماء متعلقة بعرش الرحمن، وعبر عن حاله هذا بقوله:
وقد حججتُ وطفتُ البيتَ محتسباً
وذي صلاتي توالى دونما تعب
وفي فؤادي إيمانٌ يزينه
سمو روح عن الدنيا وصبرُ نبي
لكن ضوئي يخبو والمنى انطفأت
وبات عمري في داجٍ من الحجب
زنزانة العيش في قضبانها امتنعت
فلا تمكن من فيها من الهرب
ما غير معجزة تشفى مواجعنا
وقد دعونا وحتى الآن لم يجب
6- معايير الرجال عند البارودي:---------------------------
وقر في نفس البارودي أن الأعمال الجليلة للرجال هي المعايير الصحيحة التي بها يقوّمون، وقيمة كل امرئٍ كامنةٌ فيما يُحسن، وما عدا ذلك من كنوز
وأموال وأملاك مقاييسُ زائفة لا يُحتفل لها ولا يهتم بها، وهذا ما عناه وقصده حينما قال:

لقد ضلّ قومي فقاسوا الرجال
بما يملكون وما يكنزون
وخالفت قومي فقست الرجال
بما يعلمون وما يعملون
بهذا النهج عاش البارودي شاعراً أصيلاً وطبيباً أصيلاً في وقت واحد، هذه الأصالة هي التي حملت في نفسها عناصر الديمومة والاستمرار، لأنها اتكأت على التراث ونبعت من أعماق نفسه، وبذلك تجاوزت حدود الزمن وحلقت في سماء الخلود، وأول مظاهر أصالته جمعه للطب والشعر لا على وجه الحرفة ومجرد الممارسة، إنما على وجه التبحر والصدق والتعمق، فكان شاعر الأطباء وطبيب الشعراء، لا يجور أحدهما على الآخر، بل أعطى كلاً حقه فقال:
هواية الطب ما كانت لتشغلني
عن القوافي بل إن الطب أرهقي
فلي جناحان من طب ومن أدب
حلقت ما أحد في الكون يدركني
الخاتمة:
============================

صباح يوم الأحد في الحادي عشر من شباط لعام 1996، خسر العالم العربي بموته طبيباً شاعراً، طبيباً إنساناً كان سيد العشاق وسيد الأطباء، بعد أن ملأ دنيانا بالرحيق السلسل والعبق الزاكي والشعر العذب الندي، وطبه المتفوق، وكيف لا وهو القائل:
أنا حيٌّ بمنجزات نضالي
وبشعري الذي يظلُّ طريّاً
وبطبي وخبرتي وبحبي
سوف أبقى مخلداً أبدياً
وقد قيل في رثائه الكثير، فمما قاله فيه ابن عمه محمود البارودي:
عشتَ بالحب ساحراً مسحورا
أترى كنت للهوى منذورا
ملك الحب رافع بيديه
علم الحب خافقاً منشورا
شاعراً يرسل الكلام نظيماً
فتراه من لينه منشورا
حلبي هواك أم فارسي
حسبك اليوم في الهوى تزويرا
شاعراً يملأ المسامع شدواً
ومشيراً يحاول التطويرا
وقال فيه عبد اللطيف محرز:
رأيتُه ضاحك العينين مبتهجاً
وقد تألق حسناً ناضراً وصبا
والحور من حوله تختال عاشقةً
تهتز من فرحة اللقيا به طربا
يا صاحبي عشتَ مجد الله معرفةً
ما غاب إشراقُه عني وغَرُبا
عبدتَه عملاً بالعلم مقترناً
وما اكتفيتَ به سمعاً ولا كُتبا
عبدته واحةً للحب وارفةً
في كل ما خطّه قلبي وما كتبا
أما محمد منذر لطفي فقد قال فيه:
أسفي على نجم القريض يغورُ
فيغيب عن دنيا القريض أميرُ
أسفي على زين الرجال وقد مضى
والذكر منه على الزمان عطور
أوجيه يا بوح الكنار وعزفه
الحبُّ عندك غامرُ وأثير
الخالدات وهل أتاك حديثها؟
شعرٌ كأعراس الصباح منير
أوجيه يا ورداً ذوى في روضه
هذه حماة مدامع وزفير
ستظل تحيا في النفوس خمائلاً
فالروض يحفظه شذا وعطور
-------------------------------------------------------------------------
رحم الله الشاعر الطبيب الإنسان، هذا الرجل الذي أخذ بأيدي الفقراء، كما أخذ بيد الجهلاء، رحم الله وجيه البارودي صاحب الآراء الاجتماعية التي تشهد له بأنه عاشق لقومه، ويتمنى لكل فرد الحياة الحسنة والعيش الرغيد، كما كان يتمنى لأمته أن تسبق كل الأمم كما كانت ولهذا بحث خاص.
المراجع:
1- مجلة الثقافة – عدد خاص عن وجيه البارودي – آب 1996.
2- آخر شياطين الشعر – سهيل العثمان – ط 1 اتحاد الكتاب العرب – دمشق 1989.
3- مئوية وجيه البارودي – د. راتب سكر – البعث العدد 12831.
4- في عالم الطبيب الشاعر – وليد قنباز – الثقافة – آب 1996.
5- أصالة البارودي – محمود فاخوري – الثقافة – آب 1996.
6- مقابلة تلفزيونية أجريت معه عام 1983.
7- مقابلة مع وجيه البارودي مجلة صوت العرب العدد 5 – 6 ، 1987.
8- مقابلة مع وجيه البارودي – صحيفة البعث العدد 8360.