التراث الأصيل والعولمة الدخيلة...تفكيرنا المنحرف حوّل التكنولوجيا إلى سلبيات

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
أيُّ تراثٍ عظيم ذاك الذي جنينا عليه فخسرناه بأيدينا، وأية حضارة ماجنة تلك التي وفدت إلينا ؛ فأتت علينا...

أيُّ خيرات وفيرة كان التراث يحملها... وأيُّ شرور أثيمة؛ الحضاراتُ تجلبها.
شتَّانَ شتّان... شتَّانَ شتانَ؛ مابين ثقافة نظيفة راقية تحيي الأذهان وتفتق الإلهام، وبين ثقافة مشوبة بالية تنيم الرؤوس وتقتل النفوس...
بين فكرٍ مفيدٍ يدفع إلى العمل ويمنح الأمل، وبين فكرٍ يوحي بالخمول ويحض على الكسل.
بالأمس كان الجلوس على كرسي خشبي أمام مدفأة الحطب، والاستماع إلى أسطوانة من صندوق السمع (الفونوغراف)، أمتع بكثير من الجلوس اليوم على المقاعد الاسفنجية أمام المدفأة الكهربائية، والاستماع لصخب الكلام...
بالأمس كان طعام المنزل ذو الرائحة الذكية ألذ بكثير من الوجبات السريعة.
بالأمس، بالأمس، بالأمس...
لقد سلبت منا عولمة هذا العصر الكثير من الفوائد، وأعطتنا الكثير من الثمار؛ لكنها لم تهبنا ذلك مجاناً...
إن التكنولوجيا الحديثة- رغم كل فوائدها- إذا أسأنا استخدامها، وأفرطنا في ذلك الاستخدام المسيء، فإنها تُمرِّض الجميع، ولا بد من أن يتنبه الناس إلى مساوئها.
صحيحٌ أنك في الشابكة مثلاً يمكن أن تجد طلبك بيسر وسهولة، تجد آلاف الكتب أمامك وتتصفحها، لكن هذا يفقدك متعة البحث، وقد يوقعك في بعض الأخطاء... ولعمري إن الكتاب هو الصديق الأوفى لمن يبحث عن الأصالة والوفاء.
وصحيح أن التلفاز ينقل لنا أخبار العالم ويجعل العالم كله قرية واحدة، لكنه يحمل أضراراً بالغة لنا ولأولادنا.
فلقد غزت بيوتنا برامج تعرض في التلفاز تأتي إلينا من محطات فضائية قريبة أو بعيدة تشاركنا في تربية أولادنا، وأدت هذه البرامج إلى اختلال الموازين عند أطفالنا بسبب ما يُعرض عليهم على الشاشة، إذ يرى الطفل رجلاً يطير في الهواء، وينسف الجبال نسفًا، ويشق القمر بيده، ليس هذا فحسب بل هو يطلق أشعة من عينيه تفعل المعجزات، كما أن معظم أحداث قصص الأطفال تدور حول المغامرات والعنف وشخصيات خرافية وهمية، مثل شخصيات الحيوانات، ورجال الفضاء، وترى الطفل قد غرق في خيالات بعيدة عن الواقع مع قصص غريبة لا تتضمن معاني تربوية رفيعة موجهة، ولا تهدف إلى غرس الأخلاق والقيم الصحيحة... علماً بأن تراثنا مملوء بقصص عظيمة ومفيدة.
ولو عدنا إلى القصص التي كان يقدمها للأطفال (صندوق العجايب) ذاك الذي كان تلفزيون الأمس... التلفزيون التراثي القديم، لوجدنا أن قصصه كانت تحلِّق في عالم من الخيال الراقي البديع، لا كما هو الحال في خيالات اليوم، فضلاً عن كونها تعلم الأطفال التاريخ وتنمي فكرهم ؛ إذ يحمل في كل يوم قصصاً جديدة مصوغة من التاريخ العريق.
هذا على صعيد التلفزيون، وأما الكمبيوتر فقد أثبتت الدراسات التربوية أن استخدام البرمجيات بصورتها الحالية لها تأثيرها السلبي والإيجابي على ثقافة الطفل، فهي من ناحية إيجابية تؤدي إلى رفع قدرة الطفل على القراءة والكتابة والتعبير الشفوي، والقدرة على الاستماع والتركيز وتعلم الثقافة العامة والعلوم واللغات الأجنبية، والتربية الفنية والرياضيات، كما أنها تقوي المقدرة على حل المشكلات التي تواجهه وتساعده على التوافق الاجتماعي، وتطوير هواياته ومواهبه واستغلال وقت فراغه، ولكنها في ذات الوقت تؤدي إلى تدني مستوى القدرة على ممارسة الأنشطة الاجتماعية والقدرة على أداء الواجبات والانصراف عن ممارسة الرياضة البدنية، فضلاً عن كونه يصيب الطفل بالكسل والخمول والسمنة بسبب قلة الحركة.
وأما الألعاب الألكترونية التي تعتمد على سرعة الانتباه، والتفكير، والتركيز، فإن معظمها يعتمد اعتماداً مباشراً على فكرة الجريمة والقتل والدماء، لذلك فإنها تربي الأطفال على الوحشية والعنف، فضلاً عن كونها تؤدي إلى إدمان اللعب وإهمال الواجبات المدرسية.
فهل نشيح اليوم بوجوهنا عن هذا الخطر لنتعجب غداً ونتساءل من أين جاءنا هذا البلاء، وهل ندري أننا من حيث لا نشعر ضالعون في صياغة وصناعة هذا الشر الذي يُدَبَّر لنا.
هذه هي الحرب الحقيقية... وإلا فإن الضياع القادم هو الضياع الأكبر...
ولكن... أرجو ألا يُفهم من كلامي السابق أنني أذم العولمة أو أنتقدها هي... وأرجو ألا يُظن أنني أعتبر أن الحل لهذه المشكلة هو منع العولمة وحظرها... لا بل على العكس أنني أدعو إلى التمسك بالعولمة، بل أدعو إلى التعمق بها ؛ فالحل ليس بهجرها، بل بالإفادة من خيراتها.
العولمة سنة الكون ؛ وهي ليست جديدة، وكل من يدعي أنها طارئة فهو مخطئ...
يظن بعض المثقفين الكبار ممن هم بعمر الأربعين فما فوق أن العولمة بما تحمله من أدوات التواصل اï»»جتماعي الجديدة بحر جارف ومدمر للثقافات والقيم، وإلى هؤلاء أقول هل كنتم تفضلون أن نتمسك بالوراقين بدلاً من إدخال المطابع الحديثه بحجة الحفاظ على التراث... لقد نشرت المطابع الحديثة ملايين الكتب التي أعلت شأن التراث والثقافة... وبما يفوق أضعاف ما أنتجه الوراقون على مدى القرون كافة كمَّاً ونوعاً وتنوعاً.
إن الإلكترون ووسائله للتواصل المكتوب والمسموع والمرئي هو مجرد أدوات كما المطبعة وï»» دخل له بدمار التراث والثقافة ؛ بل إن بعض ما يكتب وينشر من كتب وأفكار ومحتوى ساقط بأقلام وكميرات الكتاب والمنتجين هو الدمار.
الوسائل الحديثة ليست هي النقمة؛ هي نعمة كبيرة؛ لكن ما تنشره أحياناً هو النقمة.
العولمة والتكنولوجيا أداة تضاعف اï»»هتمام بالثقافة، وتساهم بشكل كبير في نشر وحفظ التراث مئات الأضعاف عما كان الأمر عليه سابقاً... إنها توفر جهداً ووقتاً وتمويلاً لأنها الكترونية، وليست مطبوعة، ولأنها كذلك تسرِّع النشر كماً ونوعا وعدداً آï»»ف الأضعاف حول العالم.
إن التقنيات العولمية الحديثة مكَّنت من نشر كل محتويات مكتبة اï»»سكندرية مجاناً لمئات وملايين مستخدمي الشابكة... كما أن الفيس بوك يحتوي مئات الصفحات الثقافية والعلمية، ولها آلاف المشتركين والمعجبين.
إذاً النقد هو للمستخدِم وليس للتقنية.
فمن ينشر صور الدعارة إلكترونيا كان سابقا يطبعها مجلات ويبيعها، إذاً الشر هو في تفكير بعض الأشخاص، وليس الذنب ذنبَ النت أو المطبعة.
هناك الكثير من شعر المجون المكتوب عن ديك الجن نسخه الوراقون، وأصبح تراثاً... فالعيب في البشر وليس في الأدوات...
العولمة والتكنولوجيا نعمة ؛ لكن تفكيرنا المنحرف أحياناً هو الذي يحولها إلى نقمة..
بالعولمة نحمي تراثنا العريق بوسائل أنجح وأنجع.
بالعولمة نكتشف مواطن الذكاء لدى أطفالنا لنعلمهم بأساليب أكثر إفهاماً وأشد تلقيناً.
بالعولمة أتابع الصور التراثية القديمة وأبدي إعجابي بها، وأنقلها إلى العشرات والمئات من محبيها بسرعة كبيرة.
بالعولمة نقي أنفسنا من شرور كثيرة عندما تتكشف لنا مواطن الخطر.
أما عندما تتيه أرواحنا وأرواح أولادنا لاهثة خلف أخاديع الفيسبوك؛ وتضيع نفوسنا ونفوسهم سعيا وراء تسالي الديجيتال... وتتعب عقولهم بأحاجي تضيع الفكر، وتتحطم أدمغتهم شوقا وتوقا لألعاب إلكترونية ضارة؛ تذهب بالفكر، وتقضي على العقل وتسيء إلى الأخلاق... فإن العولمة تكون ضارة... عندما نوافق بل نرحِّب بأن يكون غذاؤنا وغذاء أطفالنا مضلالات عقلية، ومضيعات نفسية، ومشتتات روحية، ومحطمات فكرية... تكون العولمة ضارة... عندما نخترع من خلال العولمة قوانين جديدة لأولادنا تناسبهم وتريحنا، وعندما لا نجرؤ على استثمار النافع منها ظناً منا أنه لا يناسبنا فإنها تكون ضارة...
من ذا الذي يبحث في النت عن المواقع الثقافية، ومن ذا الذي يستخدم الفيسبوك لأغراض علمية، ومن ذا الذي يبحث في الديجيتال عن الفائدة قبل المتعة.
هناك أطراف كثيرة نافعة للعولمة، لكننا بجهلنا حولناها إلى أداة لهو وفساد وطيش.
العولمة سلاح ذو حدين، والذين أرسلوا لنا العولمة لم يحجبوا عنا الطرف النافع منها، لأنهم يتيقنون من أننا ربينا أولادنا بطريقة خاطئة، وأنهم معظمهم سوف يتجهون نحو الطرف الضار، إلا إذا تم توجيه الطفل منذ الصغر نحو ما هو مفيد ونافع.
نحن العربَ عولمنا العالم عندما وصلنا إلى الصين والأندلس، ونشرنا حرفنا ولغتنا وديننا وقيمنا وثقافتنا.
إن المهزوم هو الذي يتعامل مع الفيروس، وإن العولمة هي أداة المنتصر حينما يُجد استخدامها، والمنتصر هو من يتعلم ويجيد استخدامها وينافس الآخر في كيفية الوصول إلى المطلوب بأقل جهد وأسرع وقت، ذلك أن الوسائل الإكترونية أداة متاحة بلا حدود لطرفي النزاع الحضاري.
إن انتشار العولمة حالياً يماثل مرحلة اختراع الورق وآلة الطباعة على حساب مرحلة الكتابة على الرقاع... فهل من أحد اليوم يقبل بالعودة إلى الكتابة على الرقاع مثلاً لمنع انتشار صور الفساد.
وأما من يظن أن العولمة هي مجال لانتشار الفساد، فإن صور الفساد لا يمكن منع انتشارها إلا إذا ربينا جيلاً يملأ النت بالبديل الممتع، والمنافس والجيد... هكذا نحمي أنفسنا ونحمي أولادنا ونستفيد من التطور.
فعلاً... نحن نحتاج إلى تربية جيل يملأ الشابكة بالبديل الممتع والمنافس الجيد والمفيد.
إن من يشتكي من العولمة والإنترنت اليوم هو إنسان غير قادر على حمل أمانة تراثه بين العصور والتأقلم مع سنة الكون دائم التطور... وسيحصل له ما حصل لديناصورات الانقراض.
اهجموا على الشابكة والعولمة وسيطروا عليها بتعلمها وإتقان ذلك... ثم حاربوا من يريد بكم شراً بفكر وعلم وعقل منير.